رواية لاجئ في سمائها الفصل الاول 1 بقلم الحان الربيع
رواية لاجئ في سمائها الفصل الاول 1 هى رواية من اجمل الروايات الرومانسية السعودية رواية لاجئ في سمائها الفصل الاول 1 صدر لاول مرة على موقع التواصل الاجتماعى فيسبوك رواية لاجئ في سمائها الفصل الاول 1 حقق تفاعل كبير على الفيسبوك لذلك سنعرض لكم رواية لاجئ في سمائها الفصل الاول 1
رواية لاجئ في سمائها الفصل الاول 1
في ليلة من ليالي الشتاء الباردة ومع سماع دويّ الانفجارات القادمة من كل الاتجاهات التي تفرضها الحرب اللعينة , يصدح صوت القران من بيتنا الجبليّ الكبير الدافئ الذي يملأه الحب والأمان , وفي غرفتها الواسعة بزرابيّ خمريّة تغطي أرضها الرخامية تستلقي على فراشها الوثير متململة ....تحرك رأسها بقوةٍ على جانبيها متألمة, تتأوه, تستغيث أمي (عائشة) وهي منتظرة قدوم مولودها....
تمسك بيدها خالتي ( مريم ) وبالأخرى جدتي والدة أبي لتهدئتها من أوجاعها وصرخاتها....
ومن خلف الباب الخشبيّ الضخم المرصّع بنقوشاتٍ نحاسية الذي كان بمثابة درعٌ واهنٌ لم يمنع أسهم الصرخات من اختراق آذاننا أنا وشقيقتي المدللة ( دنيا) إبنة الثماني سنوات....نرتقب الحدث بقلق, احتضنها وأمسّد على شعرها الترابيّ الناعم لأخفف من بكائها وخوفها على والدتنا ...أمسك كتيّب للأدعية اقرأ منه راجيّاً من الله السلامة لها وللصغير....
وكذلك الخدم , جميعنا في حالة بلبلة...
مضت ساعات شاقّة وأمي لم تُنجب بعد....
~~~~~~~~~~~~~~
على الجهة المقابلة بعيداً عنّا قرب الحدود...غيوم سوداء كثيفة اثرَ الدخان المتصاعد الذي يتخلله زخات من الرصاص ...يتواجد مجموعة من الثوار الأحرار الذين تعاهدوا أمام الله أن يكونوا حماة للوطن والدين حتى آخر قطرة دم في أجسادهم ...اجتمعوا لنصرة الحق بقيادة والدي (محيي الدين الشامي) فإما النصر أو الموت في سبيله....
{ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ ۖ }
اسمهُ لمعَ في عالم الثوار , فارسٌ زعزعَ الأعداء وفضّ مضاجعهم بدهائه الحربيّ....حيثُ يمرُ يقف له الناس إحتراماً من هيبته التي لم يسمح قط للغرور بالمرور جانبها, انما زيّنها بتواضعه وأخلاقه والتزامه في دينه....
يعطي تعليماته لأصدقائه في كتيبته بدقةٍ واحترافية.....
-" احترِس يا صديقي...
استعِد....
هيا اطلق الان...."
طلقة من هنا قابلتها طلقات من هناك لتصيبَ صديقه (زياد) في بطنه...
"آاااه...آااه..."
اندفع أبي نحوه بأنفاس لاهثةٍ وجبينٍ يتصبب عرقاً...يسحب جسده الغارق بالدماء على التراب حتى وصل الى العشب الكثيف يواريه من انظارهم ...يخبئه بحذر وينتظر وقف إطلاق النار ثم همس له:
" تمالك يا صديقي أرجوك.."
" آااه...يؤلمني..."
مرّت دقائق قليلة حتى اختفى ضجيج الأسلحة فحمله على ظهره ودماؤه تسيل , يحاول الركض علّه يسعفه قبل فوات الأوان....
قطع مسافة لا بأس بها وهو يتجه صوْب المشفى الميداني خاصتهم....
حاول اختصار الطريق قدر الإمكان ....
رَغم برودة الطقس والهواء الذي يلفحهم إلا أن حبيبات العرق لزمته من شدة قلقه عليه وهو يسمع انّاته التي تعتصر قلبه....
إعتاد على هذه المناظر والمواقف خلال خوض معاركه...لكن عندما نرى الموت يقترب ليختطف المقربين منا تنهار حصوننا ...فها هو أحد أصدقائه المخلصين الداعمين لمسيرته يشارف على فقد حياته....
أسرع في خطاه عندما لمح دنوهِ من مقرهم العسكري....
دقات قلبه تزداد ...رئتيه تنتفخ تضغط على صدره...لكن لا مناص وهو مصمم على إنقاذه حتى لو لفظ بِنَفْسِهِ أنفاسه الأخيرة...كيف سيترك رفيق دربه وهو من آزره بأصعب أيامه ؟؟!!...
" آااه لا أتحمل سوف أموت...."
زاد بخطواته يصارع الدقائق التي تفصل صديقه عن موت محقق ...وقع جهاز اتصالاته غير مكترث له ...يجري ويجري ليتعثر بعدها بحفرةٍ صغيرةٍ غادرةٍ لم يبصرها والظلام دامس فالقمر تحجبه السحب المدججة بالأمطار المدمجة بالدخان ليقعا معاً وتعلو صرخات (زياد) تخترق فؤاد أبي قبل أذنيه....
دنا منه زاحفاً مع أن طاقته نفذت...وأنفاسه قُطِعت ...حلقه جف...يشعر بالإعياء الشديد بعد استنزاف قوته...ليبثّ السكينة له :
" بقِيَ القليل ونصل المقر...ستعيش بإذن الله..."
شخص بصره للسماء المظلمة وابتلع ريقه بصعوبةٍ ...وضع يده على صدره الذي خفّت حركته تدريجيّا ...
فمدّ له ذراعه يفكّ الوشاح المُلَثِّم وجهه يكشفه ليتفقده...وجاهد لكتم عبراته أمامه لئلا يضعفه ويجعله يستسلم لحتفه...
فاضت الدماء بعد أن وجدت طريقها للخروج من فمه ليلفظ كلماته بشقِّ الأنفس:
" إذهب ...أنت ...يا...يا صديقي...واتركني ...فـ فـ فـالوطن يحتاجك...آاه"
ضغط على شفتيه يوقف ارتجافها وابتلع ريقه هامسا بنبرة مخنوقة:
"مستحيل لن أتركك..."
" آااه...أشـ هدُ أن لا إله إلا ...إلا الله..."
هي آخر آه حملتها روحه عبرت حلقومه يستقبل بها الموت....
~~~~~~~~~~~~~~~~
أمّا في بيتنا بين آهات أمي يظهر القلق والارتباك على خالتي وجدتي التي تدعو بخفوت:
" يارب هوّن على عائشة وأعِد إلينا محيي الدين سالماً.."
تحمل خالتي (مريم) منديلاً تمسح به جبهة أمي الغارقة بقطرات الماء وتهمس لها تدعمها :
" تحملي يا أختي وقولي يا رب..."
تشدّ بقبضتها على يد أختها ...تقلصات بطنها كطعنات تغرز بها...لا تستطيع السيطرة على حركتها ...تحاول كتمان صرخاتها...من يخفف عنها ويريحها ؟! تستمع لتوجيهاتها دون ان تقدر على تطبيقها ليخرج من رحمها ...تغمض عينيها وتعض شفتها السفلى ...داخل صدرها بالون ينتفخ يضغط على أنفاسها...جدتي تتمتم بآيات تسكنها ...لا أحد يشعر بما تواجه في معركتها ...تحاول وتحاول ولكن لا ألم يوازي آلام المخاض....
القابلة من تحت الغطاء تتفقد وضعها ...توجهها وتطلب منها بعناء:
" ادفعي بقوةٍ أكبر...لم يتبقى إلا القليل..."
" آااه يااا رب...."
خرجت هذه الآه وجاءت روح إلى الحياة ...
تبسمت القابلة تزفر أنفاسها وتمسح جبينها بظهر كفّ يدها بعد الجهد الذي بذلته وتنهدت قائلة وهي تحمله تلفه بالقماش القطني الأبيض وتنظفه:
" ها قد أتى وليّ عهدٍ آخر ...الحمد لله على سلامتكما"
" هل هو بخير؟!"
سألتها أمي بصوتٍ متعبٍ لتطمئن على صغيرها غير آبهة بوضعها...
" نعم بخير وإنه كالبدرِ في ليلته الرابعة عشر"
هتفت بعدها جدتي والسعادة تغمرها متناسية تعب اليوم والليلة:
" حمداً لله...جعله الله من الصالحين"
كنتُ في الخارج أحملُ شقيقتي (دنيا) وأدور بها مبتهجاً بعد سماعي بكاء الصغير وتمتمات الفرح المنتشرة في الداخل...
دلفتُ إلى الغرفة أهنئ أمي بسلامتها ثم طلبتُ منها تسميته.
ومع أن تقاسيم وجهها شاحبة، مرهقة، يغزوها التعب إلا انها رسمت بسمتها بحنوٍّ لطلبي هامسة:
"سَمِّهِ يا (هادي) وأذّن في أذنهِ...."
لم أصدق نفسي...دنوتُ من القابلة أحملُ أخي بحذر بين ذراعيّ أتأمله واستنشق رائحته ...كم حجمه ضئيل هذا المخلوق ويا لها من سعادة هذه أول مسؤولية أتولّاها بمفردي...أحسستُ وكأنني رجلٌ بالغٌ كبيرٌ وأنا لم أتجاوز الخمسة عشر عاماً....
أحنيتُ رأسي بقرب أذنه وبدأت بترديد الآذان سائلاً الله تعالى أن يقرّ أعين والديّ به...
بعد عَوْمي في شعور الرجولة هتفت متحمساً:
"شادي...سأسميه(شادي) لأنه يشدو ببكائهِ في أنحاء البيت..."
صمتُّ برهةٍ وأردفتُ باعتزاز مازحاً:
"هادي وشادي ...ثنائي عظيم"
ضحكت أمي وتَبعنها جدتي وخالتي وكذلك القابلة التي أطرأتني بكلماتها:
" حماك الله يا سيد هادي...إنك تمتلك صوتٌ شجيٌّ جميل"
أضافت خالتي:
"إنه حافظ لكتاب الله مع إتقان تجويده...لقد ورث عن والده حُسنَ الصوت والشكل"
تحفّزت جدتي وقالت:
" وكذلك شجاعته وذكاءه ودماثة أخلاقه...ليحفظهما الله"
إكتسى وجهي بالحمرةِ خجلاً من هذا المديح رَغم معرفتي بذلك...فأنا نسخة مصغرة عنه في الشكل ...طويل وعريض المنكبين ببشرةٍ قمحيةٍ...أملك شعراً أسوداً ناعماً وعيناي بلون الأرض الترابية المضاءة بأشعة الشمس... واسعة , تكحّلها رموشي السوداء الكثيفة...وبالطبع ما زلت في مرحلةِ نموٍ ونضوج....
علمني أبي على الشجاعة والثقة بالنفس ودائما كان يحاول غرز مكارم الاخلاق بي وأدخلني حلقات القرآن....
ساعات عشناها كانت خليط من التوتر والسعادة بقدومِ صغيرنا(شادي)...
مع دقات الساعة الواحدة بعد منتصف الليل عمَّ الهدوء في الخارج لِيُسمع فقط صوت قطرات متفرقة من المطر تلامس الأشجار والأسطح....
" الحمد لله ...اللهم اجعله صيباً نافعاً وهدوء خير للجميع "
هذا ما نطقت به أمي.
كنتُ أقف بهذا الوقت على شرفةٍ مغلقةٍ بالزجاج... أغوص متأملاً تلألؤ حبات الماء من انعكاس نور المصابيح الخارجية بمنظرٍ أعشقه....
فجأةً انقبض قلبي لينطق لساني:
"يارب لطفك ورحمتك التي وسعت كل شيء"
توجهتُ بعدها إلى غرفة المعيشة الخاصة بالعائلة وأشعلتُ التلفاز لأتابع آخر أخبار الحرب على الحدود...الحمد لله لقد توقف تبادل إطلاق النار...أغلقته مطمئناً وذهبت إلى غرفتي لأخلدَ للنوم بعد يومٍ وليلةٍ مُرهقتين...
~~~~~~~~~~~~~
في مدينة أخرى جانبية تبعد عن الحدود كيلومترات قليلة...
وتحديداً في مرآب شركته الفخمة حيث غرفة التجمع السرية، يلقي هاتفه عاصفا بمن امامه دون تصديق صارخاً:
"كيف؟! كيف؟!...هلّا أخبرتماني؟!"
ابتلع أحدهما ريقه يتحاشى نظرات الثائر مقابلاً له وأجاب بصوتٍ أجش:
" لا نعلم سيد (سليم)...هذا ما وَصَلَنا حاليّاً"
وثبَ من مكانه كأسدٍ هائجٍ وأشار بسبابتهِ هاتفاً بصرامة:
" لا اريد رؤية وجهيكما قبل أن تأتياني بخبرٍ مؤكد!!"
ألقيا التحية وانصرفا بعجلةٍ تفاديّاً من إعصاره....
~~~~~~~~~~~~~
قصرٌ كبيرٌ بطلائه الأبيض ونوافذه المأخوذة من الطراز المغربي في العاصمة التي لا تفرّق ليلها عن نهارها بأنوارها الصاخبة وحركة شوارعها الحيّة...يجلس على كرسيه الجلديّ الفاخر في مكتبه المؤثّث بأفخم المتاع الذي سلب ثمنه من خزائن الدولة...يسند رأسه للخلف ..يمسك هاتفه مقهقهاً يجري مكالمة لبلادٍ خارجيّة يبشّره بآخر المستجدات:
"لقد تمّ الأمر بنجاح صهري...نريد الحلوان"
أنهى محادثته بعد دقائق زافراً أنفاس ألنصر هامساً لنفسه بصوته الغليظ:
"وأخيراً سننعَم بالاستقرار..."
~~~~~~~~~~~~~
خارج الوطن في بلادٍ يفصلها عنا أميال وأميال من مياه البحر، مدينة كبيرة تجمع أناس من شتّى بقاع الأرض ...لوهلةٍ تظنّها العاصمة من كثرة الإقبال عليها وأهميتها الاقتصادية الحيوية لهذه الدولة لوقوعها على البحر...يتطرفها مخيمات للاجئين من مختلف الجنسيات ...منهم من طُرِد ومنهم من هرَبَ للنجاة من الاعتداءات الغاشمة على بلدانهم ومساكنهم...
يتوسط هذه المدينة أحياء خاصة للأغنياء مكتظة بالقصور والبيوت الحديثة...ومن بينهم قصرٌ ضخمٌ بطابعه الهندي، محاط بالأسوار الشاهقة المزروعة بآلات المراقبة الأمنية.
أَسواره الغرور...أساسه الخيانة....جدرانه النفاق.. طلاؤه دماء الأبرياء....
يقطنه وزير سابق لبلادنا يدعى (عاصي رضا) الذي استقرّ به منذ ثمانية أعوام بعد أن رحل من موطنه...
قصره أشبه ببيتِ العنكبوت...هشّ، ضعيف، برباطٍ غير متين
{وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ}
يعيش معه ابنته الوحيدة المدللة (ألمى) ذات الثمانية أعوام وزوجته الثانية (سوزي) معها ابنها (كرم) ذو العشرة أعوام من زوجها الأول، والسيدة(فاتن)شقيقة زوجته الأولى المتوفاة منذ خمس سنوات.
تتفتل في القصر بخفةٍ كالفراشة... تتدلل على خالتها تارةً والمربيّة تارةً أخرى...فغداً عطلة نهاية الأسبوع ويمكنها فعل ما تشاء...
" خالتي...خالتي...ألن تشاهدي معي كرتون(سالي)؟!"
هتفت (ألمى) بصوتها العذب الطفولي...
فردت عليها خالتها (فاتن)بنبرة استياء مصطنعة:
"اوه صغيرتي...لو علمت أنك ستلتصقين بي كالعلقة لأشاهده معك يومياً لما أخبرتك بذلك."
عبست بدلال لتستعطف خالتها وهمست بمكر:
" يكفي أن أبي لم يوافق على تسميتي باسمها مثلما أرادت أمي...على الأقل لأستمتع بمشاهدته...لا أدري من أين حصل على اسمي هذا؟!"
ضحكت المربية وقالت بحنان:
"اسمك جميل بنيتي ومعناه رائع...فأنتِ فعلاً أتيتِ كالروح لهذا البيت"
قطبت حاجبيها وزمّت شفتيها بامتعاض وقالت:
" ما فائدته إذا كان معناه (الروح) وهو ليس باسمٍ عربيٍّ؟!...نحن لسنا إسبان ليسميني به."
تبسمت خالتها وأردفت:
" توعّك والدك يوماً وهو في إسبانيا ورقد أياماً بالمشفى وأشرفت على علاجه طبيبة تدعى ألمى وكانت والدتك حاملاً بكِ فوعدها بتسمية ابنته باسمها امتناناً لها."
تأففت ثم سرعان ما تحوّلت ملامحها للمرح...فهي هكذا لا تستطيع العبوس أكثر ...هذا ليس من طبعها ...قلبها نقيّ مسامح ...رغم ما عانته وتعانيه....
اقتربت من خالتها تمسك يدها تهمس برجاء:
"هيا خالتي أرجوك لنشاهده معاً"
هزّت رأسها محوقلة بهمسات دافئة مبتسمة وقامت من مكانها تضع القرص المدمج في الجهاز، منصاعة لصغيرتها لتشاهد مسلسلها المفضل للمرة المئة بعد الألف من وقت معرفتها أنّ أمها كانت ستسميها بـ (سالي) لشدة الشبه بينهما...
أطفأن النور في غرفة الجلسات العائلية ثلاثتهن ليبدأ العرض على الشاشة بعد أن شرّطت عليها لتكون حلقة واحدة فقط لأن الوقت قاربَ على منتصف الليل....
×
×
×
تململت في فراشها وفتحت عيناها النجلاء تتمطّى بنعومةٍ في صباح عطلتها وفجأة تذكرت وعد أبيها لها باصطحابها إلى مدينة الألعاب في هذا اليوم....
فزّت بسرعةٍ تدخل الحمام تغسّل وجهها وتنظف أسنانها ثمّ بدّلت منامتها لملابس الخروج...اعتادت على الاهتمام بنفسها وكأنّها فتاة بالغة رغمَ براءتها وصغر سنّها...حملت مشطها وركضت متجهة لغرفة خالتها لتسرّح لها شعرها الذي لا تستطيع هي جمعهُ بنفسها من طوله وكثافته.... وما إن انتهت من تسريحه اندفعت خارجة على صوت من تركتها خلفها مبتسمة لتصرفاتها:
" هيــه ألمى خذي مشطك..."
"لاحقاً خالتي لاحقاً"
نظرت للمشط بيدها وتمتمت بقلقٍ على ابنة شقيقتها:
" آه إلى أين ستصلين باندفاعك هذا عزيزتي؟!"
هبطت درجات السلّم برشاقتها متجهة إلى مكتبه في الأسفل وفتحت الباب تطلّ برأسها إلى الداخل تهتف بدلال:
"صباح الخير يا أجمل...."
اخفضت عينيها دون أن تكمل جملتها عندما رأت كرسيه فارغاً ولا أثر لحقيبته...عادت أدراجها تنكس رأسها بحزنٍ بعد أن اختفى حماسها... تخطو ببطء...تنظر إلى نقشات الأرض الرخاميّة الذهبيّة شاردة ...تريد إجابات لأسئلتها المبعثرة في دماغها...لِمَ دائماً العمل في سلّم أولوياته؟! لِمَ يعتقد أن الهدايا تسدّ عن غيابه؟! لِمَ هي كالغصن المقطوع من شجرة لا أقارب لها ولا أصدقاء ولا أخوة؟!...حتى زميلاتها لا يسمح بتبادل الزيارات بينهن...لِمَ ولِمَ ولا إجابات!!!
رفعت رأسها تسترق السمع بعد أن قطع تساؤلاتها صوت يأتي من الخارج في حديقة القصر...
خرجت بحذر تمسك فستانها كي لا يلامس الأرض ...وقع نظرها على ابنتيّ احدى العاملات في القصر تلهوان سويّاً...تفتحت أساريرها مبتهجة وانطلقت نحوهما كأنهما سقطتا من السماء هذه اللحظة لتجد من تلعب معه!!
جحظت أعينهما وهي تقترب منهما من فخامة لباسها مثل أميرة من أميرات ديزني الخاصة بأفلام الكرتون، فهمست برقةٍ تليق بجمالها وأناقتها:
" هل تسمحان لي باللعب معكما؟"
حدّجتا بها باستغراب...يا الله كيف لهذه الأميرة أن تكون بهذا التواضع ؟ لا وبل تستأذن منهما وهي سيدة القصر...لم تُمهلانها طويلاً فردّتا معاً:
"بالتأكيد"
تبادلن الأسماء وأخذن باللعبِ بسرور ومضى وقت لا بأس به حتى قتلت هذه اللحظات السعيدة من تقف تضع يدها على خصرها كالساحرة الشريرة في الحكايات ترميها بنظرات شزراً صارخة:
"ألمـــــــى...ماذا تفعلين هنا مع الخادمات؟!"
ابتلعت ريقها وأجابت بصوتٍ مرتبك هادئ:
"ألعب معهما خالة سوزي"
↚
"من سمح لك بذلك؟! أنسيتِ أنك ابنة عاصي رضا ؟!"
صُهِرَ قلبيهما بعد أن رمتهما بحممٍ بركانية بتنمرٍ وعنصرية وولّتا مدبرتان إلى والدتهما، أمّا (ألمى) التي اشتعلت غيظاً من زوجة أبيها هتفت بقوةٍ لا تدرك من أين أتتها او ربما كرهها للظلم واحتياجها للأصدقاء ألهمها على ذلك:
" غنى وجنى صديقتاي في القصر وسألعب معهما"
" لا أصدقاء لكِ...أدخلي العبي في غرفتك"
صرخت بعناد:
"كلا...أريد أن العب معهما"
انقضّت عليها كالثور المصاب بصرع ...تمسكها من ذراعها وتسحبها بفظاظة إلى الداخل مستغلّة اعتصام خالتها هذه الأوقات في غرفتها وصرخت بها:
"أيتها الوقحة تعاندينني أنا؟!...سأخبر والدك بذلك"
" لا...لا...أنا آسفة...أرجوكِ لا تخبريه."
قالت جملتها تعلن استسلامها لظلم (سوزي) زوجة أبيها الامرأة الخبيثة الحقودة ...فهي متوسطة الجمال الذي معظمه من المساحيق وعمليات التجميل...تغار من (ألمى) لجمالها الذي ورثته عن أمها ولاهتمام (عاصي رضا) بها فإنها خط أحمر لا يسمح لأحد بتجاوزه...تتربع على عرش قلبه...يفعل المستحيل لحمايتها....
كانت تلك تستغل انشغاله بأعماله ...تهددها وتخوّفها مدّعية بأن والدها سيطرد خالتها (فاتن) إذا علم بتصرفاتها هذه معها...
خالتها(فاتن) هي الحضن الدافئ والنور لظلامها هي نقطة ضعفها...كرّست حياتها للاهتمام بشقيقتها ومن ثمّ بابنتها...ليست جميلة الشكل لكن صفاء روحها وتواضعها وحكمتها تترك اثراً جميلاً لكل من خالطها....
لم تخبر ولا تحدّث أحداً بمعاملة زوجة أبيها لها خوفاً من فقدان خالتها...فهي لا تستطيع المجازفة بها لو كلّفها حياتها لأنها هي الأمل بحياتها مع أنها فتاة شفافة صادقة لا تكتم شيئاً في داخلها....
لقد تزوج (عاصي رضا) بعد وفاة زوجته مباشرةً حيث كان يرسم لذلك سابقاً رغم حبه وعشقه للأولى...لكن الجشع فاق كل المعايير، فـ(سوزي) هي ابنة أحد أبرز أصحاب المناصب الكبيرة الذين يخدمون مصالِحه...
دخلت (ألمى) غرفتها مكسورة الخاطر بعد شجارها مع زوجة أبيها وحرمانها من اللحظات التي أسعدتها...تنقمُ على حياتها...تشعرُ أنها انسانة مبرمجة لتعليمات الآخرين...تفكرُ بقريناتها في المدرسة كيف ينعمن بكامل الحرية...لو كان الأمر بيدها لبدّلت ثروتها بصديقةٍ تحبها....
تراكمت الهموم عليها فأجهشت بالبكاء...
طرقات متتالية على الباب حاولت اخفاءها بصمّ أذنيها تحت مخدتها لا تريد رؤية أحد هذه الساعة...فليتركوها وشأنها...ألا يحق لها حتى في غرفتها أخذ حريتها من دون برمجتهم اللعينة؟!...هل تذهب الى المريخ ليرتاحوا منها ؟! ...لكن يبدو من على الباب يصرّ... ولمّا لم يسمع ردّها دفعه مصمماً لإغاظتها وهذا أكثر ما يغذي أنانيته كوالدته الأفعى...
اقترب منها يلوح بيده التي تحمل اللعبة وهتف باستفزاز:
"انظري ماذا جلبت لي أمي"
رفعت عينيها المحتقنة بالدموع تنظر بألمٍ وحزنٍ ليس لأنها تريد لعبة فغرفتها مرصوصة بالألعاب ...بل لشدة احتياجها لحضن يحميها دون تردد لأم تقاتل العالم من أجلها... أشاحت وجهها عنه بكبرياء ...لا تريد أن ينال مبتغاه...امّا هو كان مصرّاً فأردف ساخراً:
" أمي تحبني وتفعل لي ما أريد وترافقني حيثُ أشاء..."
أطلق ضحكاته يحرك حاجبيه باستفزاز وأضاف:
" أما أنتِ والدك مشغول دائماً ولا يهتم بكِ...كنتِ بالأمس تتبجحين علينا بذهابك إلى مدينة الملاهي...مسكينة ألمى..."
حسناً هي لا تستطيع مواجهة والدته الأفعى لكن هذا الغليظ لن يمنعها عنه أحد...حسمت قرارها بعد أن لم تعد تتمالك نفسها وانقضّت على لعبته المتباهي بها وألقتها بعرض الحائط تكسرها...نظر لأشلاء لعبته مصدوماً ونفخ أوداجه ومد ذراعيه يشدّها من شعرها بغلٍّ وهي تحاول عضّه بأسنانها وتغرز أظافرها بيديه صارخة:
" اتركــــني...اتركـــني"
"كـــــــرم!!"
صرخت خالتها به بعد أن دخلت تتفحص مصدر الأصوات بالقرب من غرفتها...حاولت فضّ نزاعهما وأردفت بنبرة حادة:
"ماذا تفعل في غرفتها ؟!...أخرج ولا أريد رؤيتك هنا مرةً أخرى"
تقف بخبثٍ على الباب تشاهد بصمت حتى تختار اللحظة المناسبة لتتدخل ثم صاحت بحقد:
"ابني يدخل أينما يشاء...هذا قصر والدته وأنتِ دخيلة هنا"
"سأترك لك القصر الكئيب لتشبعي به...لقد سئمت منكم"
"خذيني خالتي أرجوكِ...لا أريد البقاء من دونك"
هتفت (ألمى) بتوسل بعد أن سمعت قرار خالتها(فاتن)
خطَت ببطء اتجاهها وابتسامتها لا تفارق مُحيَّاها ...جثت أمامها القرفصاء تضم كفيها الصغيران بقبضتيها وهمست بصوتٍ حنون:
" عزيزتي ألمى هذا بيتك ...أنت تبقين أينما يتواجد والدك"
لمعت عيناها وقالت بعتاب:
"أين هو أبي؟ أنا لا أراه!! يأتي متأخراً ويذهب باكراً...أرجوكِ خذيني"
" أعدك سآتي لزيارتك والمربية (سهيلة) ستهتم بكِ...اطمئني"
اخفضت رأسها الى الأسفل خضوعاً واستسلاماً ورفعت كفها الصغير تمسح دمعة انزلقت من عينها ثم اولتهم ظهرها وارتمت بجسدها النحيل على فراشها تدثر نفسها به وتتمتم بحسرةٍ مخنوقة:
"اذهبي خالتي...أنا اعلم لا أحد يحبني"
"لا يا صغيرتي...أنا احبك ووالدك يحبك وكذلك الخالة سهيلة تحبك ...ألا نكفي؟!"
همست لها برقةٍ ودنت منها تقبّلها وقالت بحماس لتغير مزاجها:
"هيا الحقي بي الى غرفتي سأعطيك شيئاً كنتُ أخبئه لكِ ريثما تكبرين...لكنني قررت اعطاءه لك الآن..."
قفزت (ألمى) متناسية آلامها كعادتها ,خاصة بعد أن غلبها فضولها وهتفت متحمسة:
"ماذا ستعطيني؟"
ابتسمت لبراءتها وأجابت:
" قلت الحقي بي وستعرفين"
ثم سبقتها تمرّ من جانب (سوزي) تخرج من الباب ترمقها باشمئزاز...
~~~~~~~~~~~~~~~
بعد أن أنهى عمله في شركته توجّه مجدداً الى الغرفة السرية بمرآبها ...ينتظر دحض الخبر من رجليّه اللذين لم يعودا منذ البارحة....
رفع هاتفه يجري اتصالاً سريعاً للمقر على الحدود لكن لا إشارة بسبب تشويشات بالخطوط الأرضية بعد ان تعرضت تلك المنطقة لعدة غارات أدت الى تلفها...
زفرَ أنفاسه المحبوسة طوال اليوم ماسكاً صدغيّه بكفيْه متمتماً بصوته الجهوري:
" يا رب ألّا يكون هذا صحيحاً يا صديقي..."
كان في هذه الغرفة أريكة جانبية قصَدَ الاستلقاء عليها ينتظر مجيء رسوليّه بالخبر اليقين...
غطّ بنومٍ عميقٍ دون إدراك لساعتين بعد أن جافاه ليومين كاملين...
استيقظ على حركة مقبض الباب ففزّ من مكانه بجسده الضخم واتجّه لفتحه بلهفةٍ...
ارتخت اطرافه عنوةً وجرّ قدميه يرتمي مجدداً على اريكته هروباً مما سيسمع بعد أن رأى ثلاثة وجوه شاحبه لا تبشّر في الخير...القى الرجل الثالث الذي رافقهما ليعطيه الحقيقة الصادمة بنفسه وهو من أصدقاء الثوار ومساعدهم على الصعيد الإعلامي والمعنوي دون الخوض بالمعارك:
" البقاء لله اخي (سليم)...إنا لله وإنا إليه راجعون"
امتقع وجهه وابتلع ريقه وبالكاد أخرج صوته بتحشرج يردّ:
"نسأل الله أن يخلفنا خيراً منه"
~~~~~~~~~~~~
غزلت لنا الأيام اسبوعاً كاملاً بعد ولادة شقيقي(شادي) منتظرين قدوم والدي من الحدود بفارغ الصبر...
كان آخر ما وصلنا منذ يومين أن الوضع مستقر في تلك الجهة الغربية على الحدود ولا مناوشات من الخصميْن مما جعلنا نطمئن عليه خصوصاً بعد اعلامنا من السيد (سليم الأسمر) ان انقطاع مكالماته معنا سببه تدمير شبكة الاتصالات الأرضية...
توقُّف إطلاق النار جاء بالتزامن مع توقُّف الامطار الغزيرة التي اغرقت البلاد ...امطار كانون اول...وكأنّهما اتفقا معاً ليعيدا لنا الحياة في مدينتنا الجبلية الخضراء بأشجارها معلنان عن افتتاح مدارسنا بعد اغلاق دام اسبوعين كاملين بفعل الحرب والطقس...
في هذا اليوم بالذات لم يزرني النوم بعد صلاة الفجر من شدة حماسي...ليس فقط لاشتياقي لمقاعد الدراسة ولقاء أصدقائي...إنما لخروجي للحريّة بعد ان كنتُ حبيس البيت وضقت ذرعاً بين حكايات النساء وبكاء شقيقي ودلال شقيقتي المفرط ودون ممارسة أيّ من هواياتي في الخارج...
استعددت مرتديّاً زيّ المدرسة الرسمي الخاص بالثانوية , أمّا الكسولة (دنيا) كانت خالتي تسّرح لها شعرها الترابي المموج وهي مسترسلة بنومها...
حملتُ لها حقيبتها وسحبتها من يدها لأوصلها لمدرستها في طريقي بعد أن تعذّر على سائقنا الخاص الحضور لظرف صحي...
"هيـــه هادي..."
التفتُّ إلى يساري بعد خروجي من البوابة الحديدية الضخمة الخاصة ببيتنا شبيه القلعة عند سماعي صفير ومناداة لاسمي...فكانا (سامي وأحمد) ينتظراني ليرافقاني للمدرسة...
"صباح الخير...ما هذا النشاط؟!"
القيتُ تحيّة الصباح متفاجئاً لوجودهما في هذا الوقت المبكر لأنهما آخر من يدخلان المدرسة بسبب كسلهما ولا مبالاتهما...
ضحك سامي وأشار نحوي هاتفاً:
"انتبه ستقع شقيقتك وهي تغفو متكئة على يدك"
احنيتُ رأسي فوجدتها متشبثة بكفي وتركنُ وجنتها عليه مستمرة بنومها...
ابتسمت ومسّدت وجنتها هامساً:
"دنيا أفيقي..."
اقترب (سامي) بمكرٍ يجثو أمامها ويهزّها على غفلةٍ لتجفل شاهقة وكأنّ دلو ماء بارد أريق عليها وسط قهقهاتهما فزجرت به مؤنباً:
" ماذا فعلت أيها الغليظ؟!...كدت توقف قلبها؟؟"
قال مستنكراً بتهكم ضاحكاً:
"تلك المدللـه يتوقف قلبها؟؟؟!!"
تشبثت أكثر بساقي ترمقه بنظراتٍ ناريةٍ من عينيها العسليّتين وتخرج لسانها بحقدٍ طفوليٍّ فاستقام بوقفته يمطّ ذراعيه للأعلى مضيفاً على تهكمه:
"هيه أنتما الاثنان ألا تتحملان مزاحاً؟!"
ونظر إلى (أحمد) مشيراً بسخريةٍ مصطنعة يتابع عرضه:
"أعان الله من سيتزوج بشقيقته فلسانها طويل ستنغّص عليه عيشته, هذا إن لم يغَلّفها بعبوةٍ من شدة حرصه عليها ويحتفظ بها كالخيار المخلل في أحد أرفف مطبخهم العريق..."
تفحّصت ساعة يدي وضربته بقبضتي على كتفه آمراً بجديّة:
"كفاك ثرثرة...هيا سنتأخر بسببكما"
(سامي) هو أعزّ صديق وتوأمي الروحي رغمَ اختلاف شخصياتنا الظاهر للعيان...
أنا أتّسمُ بالجدّ أسير على خطٍ ثابتٍ وهو بشخصية متقلبة حسب الظروف المحيطة به, أوقات يخيّل لنا أنه يعمل مهرّجاً على مسرح وتارةً يكون بمئة رجل وكأنه ضابطاً بالشرطة...
في اليوم الثاني من المدرسة دقّت عـ قا رب الساعة السابعة صباحاً ودقَّ معها باب البيت بقوةٍ لِتدقّ قلوبنا أملاً بقدوم الغائب أبي وعودته سالماً لنا...
كنتُ أنا الأسرع بينهم من شدة شوقي ولهفتي له, أريد معانقته واخباره عن كل شيء حصل معنا منذ غيابه...
فالعلاقة التي تجمعنا ليست مجرد أب وابنه...نحن كالأشقاء والأصدقاء وأكثر...
فتحتُ الباب وقبضت به جيداً من قوة اهتزازه وجميعهم خلفي...رياح عاتيّة تصطدم بأجسادنا...تلفح وجوهنا...ترفرف ملابسنا...تحاول اقتلاع جذورنا...
وقفنا مذهولين كأنّ على رؤوسنا الطير...أصنام بلا روح...قلب بلا نبضات لرؤية من يقف أمامنا...
فأدركت أنني أصبحتُ رجلاً...
↚
"أبي..."
"أبــي!!!"
ضاعت الكلمات بين ثلاثة حروف...لرؤية من يقف أمامنا...
نعم أنها هي حبيبته...هل يمكن أن أخطِئُها ؟!.... مستحيــــل.......هي بذاتها بالحروف المطرّزة عليها.... مشتقّه من أسماءنا (عائشة وهادي ودنيا)....بعد أن وُلدت شقيقتي جعل أمي تطرّز حروفنا تجمعها بكلمة (عهد)..
ابتلعت ريقي أحاول استيعاب المشهد...حدّقت بالواقف أمامي....رجل غريب في ريعان شبابه....ماذا تفعل بندقية أبي معه؟؟!!....وقع نظري على يده الأخرى....إنه مصحفه!!.....المصحف الذي لا يفارقه بمعاركه!!.....كان يضعه بالجيب الداخلي لسترته قرب قلبه , غلافه من المخمل الأخضر....
جحظت عيناي بعد أن لمحتُ لوناً أحمراً يدمغ على زاويته....
تعاقبت أنفاسي....أصابني الوجوم....اختلج شيئاً في صدري......
مـ مـ ما هذا ؟" "
كان صوت جدتي المخنوق الذي دفعني من الخلف بقوةٍ لأجتثّ السلاح والمصحف منه صارخاً:
"أين أبـــــي؟!....أجبنـــي!....هل هو آتي؟"
لم انتظر ردّه وانطلقت متخبطاً بخطواتي للخارج كغزالٍ صغيرٍ تائهٍ عن أمه...أبحث في حدقتيّ علّني أقتنص إشارة ترشدني إليه أو أشتم عطره الذي يسبقه ليطمئنَني على قدومه.....
هدأت الرياح التي اصطحبها معه مخلّفة فراغاً قاتلاً....
عدت أجرّ أقدامي...مسكت تلابيبه بقبضةٍ واحدةٍ...أكاد أنهار متوسلاً:
"أرجوك...أخبرنا أين أبي؟"
أسدل جفنيه يحاول إخفاء نظراته ثم أجابني بانكسار متلعثماً:
"السيد...السيد محيي الدين...استشهد....البقاء لله"
هل هو زلزال من تحتنا؟ أم انفجار بركاني يحرقنا؟! أم أطبقت
السماء على الأرض؟!
هي صرخات من خلفي اخترقت جدران البيت أحدثت اهتزازاً في المكان ....
ذهب عامود بيتنا ...رحلَ مصدر أماننا...كيف السبيل الى السعادة من بعده ؟.... آخر ليلة معنا قبل اسبوعين شدّد من احتضاننا...كان يمسّد على بطن أمي ويداعب أخي في جوف رحمها يسأله متى سينير حياتنا ....كم كان متحمساً للقائه !!...أما المدللة (دنيا) خرج ليشتري لها الحلويات والوقت متأخر والأمطار غزيرة ولم يبالي فتلك هي دنياه..... لا يناديها الا دنيانا ....أذكر مررت عنه في غرفة المعيشة كان يجهز بندقيته ويلمعها وكأنّها عروساً يوم زفافها ...ناداني وأجلسني جانبه....وضعها في حضني وقال
// هذه البندقية هي شرفنا فحافظ عليها من بعدي , قيمتها ترتفع عند استعمالها ضد الظلم... ولنصرة الحق, الدين, الوطن.. ولا قيمة لها اذا رفعتها بوجه ضعيف، أعزل، مظلوم، امرأة، عجوز وكل من يحمل في قلبه شرع الله \\
كانت عيناه تلمعان تحكيا حكاية بطل ,حكاية حب الوطن ,حكاية تسطّر الطريق لنصرة الحق والدين....هل يا ترى كان يشعر بدنوّ أجله؟؟!!....آااه يا أبي ...لو كنت أعلم بفراقنا الأبدي لقضيت تلك الليلة أنعم بأحضانك واتنفس أنفاسك ...لأخبرتك في كل ثانية كم أحبك وسأبقى احبك الى آخر نبضة في فؤادي...
~~~~~~~~~~~~~~
في بلاد الخارج تجلس بأريحية على الأريكة تضع ساقاً فوق الآخر ...تحتسي قهوتها مستمتعة...فهي بأقرب مكان لقلبها.... ببيت صديقتها (ايمان) التي تعرّفت عليها قبل أربع سنوات في مؤتمر يختص بشؤون المهاجرين واللاجئين ونشأت بينهما علاقة وطيدة...كانت من المهاجرين المقيمين في كندا وانتقلت الى تلك الدولة منذ عشر سنوات....لقد عوضها الله بشقيقة لم تلدها أمها بعد ان فقدت اختها (كريمة) والدة (ألمى)....
"كيف استطعتِ ترك ألمى؟"
سألت (ايمان) بتعجب فهي أكثر من تعلم ماذا تعني ابنة شقيقتها لها...ولن تتركها ولو على قطع رأسها!!
وضعت فنجانها الفارغ على الطاولة برقةٍ وأسندت ظهرها للوراء...تنهدت وقالت بثقة مستنكرة:
"أتظنين أنني اتركها بالفعل؟؟"
نظرت إليها بتساؤل تنتظر أن تفسر لها....فمدّت يدها تربّت على ساقها وتابعت:
"أريد أن أعاقب تلك الشمطاء عن طريق زوجها...فرغم بغضي له إلا أنني أدرك انه لن يتخلى عني"
تبسمت بسخرية وأضافت:
"ليس محبة لي طبعاً إنما للاهتمام بابنته فهو يرى مدى تعلّقها بي وهذا يخفف من حمله ...وأيضا لا يسمح لتلك بالاعتناء بها"
"كيف سيعاقبها ؟"
سألت بفضول...
"عندما يفتقدني ويعرف عن رحيلي بسببها وبالطبع سيرى أميرته منهارة سيخرج شياطينه عليها"
اجابت بمكر وضحكت تتخيّل انفجاره عليها فكم من مواقف شاهدته يعنّفها إذا مسّت أحد خطوطه الحمراء وكيف ان كانت مدللته (ألمى)...
تابعت (ايمان) بتحقيقها تظن أنها بمقابلة لكتابة مقال مع احدى الشخصيات الشهيرة:
“والآن ما هي خطتك؟؟"
ردت ببرود وثبات:
"انتظري ...قبل حلول المساء سيكون هنا معتذراً لعودتي من اجل ابنته"
"ويحــك"
هتفت باستنكار وأردفت:
"لا اظن انه سيأتي بنفسه فنحن نتكلم بالنهاية عن عاصي رضا المغرور المتعجرف"
صمتت لبرهة ثم أكملت:
"بالتأكيد سيرسل السائق"
"لننتظر ونرى"
قالت(فاتن)باختصار...
"اذاً لنرى"
أكّدت (ايمان) بتحدّي...
~~~~~~~~~~~~~
تناثرت الملفات أمامه بعد أن عصف بها غضباً....لا يصدق!!
قبل أيام قليلة أخبره عن إتمام الأمر بنجاح ويريد الحلوان!! ....ماذا تغير؟؟
هل كل مخططاتهم أصبحت هباءً منثورا؟!!....لقد سعى جاهدا ليزيل العقبات من طريقه حتى يصل لهدفه....شعرة واحده تفصله لتحقيق حلمه ...نهض عن كرسيه الضخم يضع يديه على خصريه ....صفع جبينه بقهر ...آخر مهماته كانت الأصعب!!....جازف وخاطر بها ....أنفق أموالاً طائلة لإنجازها......ليتلقى في النهاية اتصالاً آخراً من والد زوجته في عاصمة الوطن وهو رئيس الوزراء يخبره عن انفكاك الحكومة بعد انقلاب جنود الدولة عليها لتشتعل الحرب مجددا في مثلث زواياه ,الثوار ,الجنود وحلفاء الحكومة الحالية..!
مرّت ساعتان دون أن يبرح مكتبه....يحاول جمع شتاته...عليه العمل على ما تبقى من أمل....يهاتف هذا وذاك...يبحث ويخطط....
وبينما هو بمعركته الفكرية علا رنين هاتفه الأرضي...استَلّه دون تردد ليجيب:
" من معي.؟؟ "
"............"
كان هذا والد زوجته الذي عاود الاتصال به لحاجة....
لوّى فمه باشمئزاز فهذه المرة الأولى التي ينعته ببنيّ وتوقع أن يسمع طلباً ثقيلاً بعد هذه المقدمة الزائفة فردّ بنبرة زاجرة:
" نعم!!....ماذا تريد؟؟"
"........."
تعالت ضحكاته غيظاً وأجاب متهكماً:
" هل جننت؟!....بالطبع مستحيل"
"........."
"لا شأن لي بذلك!!......سوف اغلق الآن لديّ مشاكل أهم لأحلّها"
اغلق بوجهه قاطعا اخر رابط هاتفيّ به....
~~~~~~~~~~~
في قصر العنكبوت عاد ( عاصي رضا) بتثاقل عيناه تضيء بالأحمر تنذر وتحذّر من الاقتراب منه ....حتى انه لم ينتبه لعدم وجود أميرته التي تسارع لاستقباله والقاء نفسها في احضانه....صعد الى غرفته ينفث لهباً.....انتبهت زوجته للاشعارات الصادرة منه ....ازدردت ريقها رهبةً ...تسللت بهدوء تنزل تسبقه الى غرفة الطعام تجنّباً منه واستعداداً لتناول العشاء....لحق بها بعد وقت قصير وبدا على وجهه الاسترخاء بعد أن اخذ حماماً دافئاً......تجلس على يمينه زوجته وبجانبها ابنها (كرم) ومقابلاً لهما المربيّة السيدة (سهيلة)....بدأت الخادمة بتقديم اطباق الطعام....كان يتكئ بمرفقيه على الطاولة ويشبك كفيّه ببعضهما....رفع احد حاجبيه باستغراب بعد ان مرّ وقت قليل لوجوده وسأل موجهاً كلامه للخادمة:
"أين ألمى وفاتن؟؟"
ابتلعت ريقها ونظرت للجالسة أمامها والتي كانت تعطيها إشارات للصمت تنهاها عن الكلام.....ولما لم تجب وهمّت بالانصراف لفّ وجهه بتوجس لزوجته يكرر السؤال...حاولت التملّص بإشغال نفسها بسكب الطعام لابنها فصرخ بها :
" أظن أنني أتكلم معك....اجيبيني أين هما ؟؟"
تنحنحت المربيّة وشاركت الحديث مجيبة بهدوء:
"عذراً سيد عاصي.... السيدة الصغيرة ترفض الطعام لحزنها على ترك خالتها للمنزل"
"ماذا؟؟...فاتن تركت المنزل ؟؟....لمَ؟؟"
سأل بنبرة مرتفعة متعجباً وهو يوّزع نظراته بينهم يحاول سلب الإجابات من افواههم...
" نعم سيدي...بعد صراعها هي وألمى مع السيدة سوزي"
أجابت بتردد...
"صراع ؟!...ما السبب؟!"
قالها ولم ينتظر الإجابة من كليهما بعد أن فزّ متوجهاً للأعلى الى غرفة ابنته....
"عزيزتي."
" حلوتي..."
"حبيبتي لوما..."
نادى بها بحنان وهو يطرق الباب بلطف ثم ولج الى الداخل بعد أن سمع صوتها تأذن له بالدخول وجلس على طرف السرير بجانبها أحاط كتفيها بذراعه ...يمسّد على شعرها ويهمس لها:
" ما بك أميرتي حزينة؟؟...أخبريني وسأعاقب من كان السبب"
تربّعت على فراشها تواجهه وكتّفت ذراعيها قاطبة حاجبيها تسأل باستنكار:
"حقا؟....هل ستعاقبها؟؟"
"من هي؟"
أجابت بعبوس منفعلة:
"زوجتك أم كرم "
ضحك لانفعالاتها البريئة ولم يعلّق على اجابتها فهو لم يجبرها يوماً على الارتباط بها وبناء علاقة بينهما لأنها لم تهمه كزوجة ...وان كانت تتعامل معها برقيّ واحترام فذلك يعود الى شخصيتها الطيبة وتربية وتوجيهات خالتها والمربية لها....
سحبها الى حضنه يدفن وجهها بصدره عندما رأى احتقان عينيها بدموع القهر ,همس لها :
" حسنا صغيرتي اهدئي....اخبريني ماذا فعلت لكِ؟"
قصّت عليه الموقف بأكمله في الحديقة....قاطعها ناهراَ بلطف :
" حبيبتي لا يجوز أن تلعبي مع أولئك الخدم....من الممكن أن يضروكِ فبالتأكيد يغارون منك ..."
تنهد وأضاف بتجبّر :
"لا يؤتمن لأي شخص ليس من مستواكِ أميرتي....فجميعهم يسعون لأذيتنا من حقدهم وحسدهم على ما نملك.."
رفعت رأسها تنظر له دون أن تهتم لما قاله وتابعت:
"كانت تهددني دائماً بطردك لخالتي.....والآن فقدتها فيمكنني اخبارك كل شيء"
أخبرته بمعاملتها معها ومنعها من اللعب بغير غرفتها ونعتها بألفاظ بذيئة....كانت تسرد له روايتها ....تشدّ من احتضانه تستغل هذه الدقائق التي يتكرّم بها عليها يختصها وحدها دون ازعاجات خارجية فكم تحتاج لحضن يسندها ,يحتويها يشعرها بأنها ليست وحيدة ...حضن الأب أو الأخ الذي لا يقارن بآخر لأنه يعني القوة والأمان لكن لانشغاله بأموره يبقى احتياجها معلّق في الهواء....هي تتحدث وهو يصكّ على فكيّه ...دماؤه تغلي في عروقه...حاول السيطرة بدايةّ وفي النهاية خرج مسرعاً يهبط السلالم بخطوات كبيرة ...يتجه صوْب طاولة الطعام ...يمسك بذراع(سوزي) غير مكترث لمن حولها ...يضغط عليها بقوةٍ صارخاً:
"كيف تسمحين لنفسك بفعل ذلك لابنتي وأنا حذرتك بعدم التدخل في شؤونها ثم منذ متى يحق لك قرار من يبقى ومن يذهب ؟؟"
أجابت وهي تحافظ على برودها ..ترفع رأسها بغرور:
"أنا سيدة القصر والجميع هنا في غيابك تحت أمري...يبدو أنك نسيت ابنة من أكون.."
سحبت المربية (كرم) معها وتركتهما على انفراد.......
أفلت يدها يصفق كفاً بالآخر ..مطلقاً قهقهات ساخرة ثم استقام في وقفته وقال متهكماً:
"كنتِ.."
توسعت عيناها بفضول فتابع:
"كنتِ سابقاً ابنة رئيس الوزراء...أما الآن والدك بلا منصب بسبب انفكاك الحكومة وبما انه متورط ببعض الأعمال سيفر هاربا للخارج ويصبح مشرداً بعد الحجز على ممتلكاته"
سعل من شدة الضحك يضع يده عصدره وأضاف بغرور:
"مشغول حاليا يبحث عن مأوى يهاجر اليه.....تصوري ظنّ أنني سأستقبله في قصري ؟!"
سألت بصدمة:
"ماذا تقول؟..ألم توافق على ذلك؟!"
"بالطبع لا....هل مكتوب على بوابة قصري مأوى للمشردين؟!...يكفيني احتواء ابنته وحفيده من غير فائدة تُرجى "
"لم أكن أعلم أنكَ بتلك الدناءة والقذارة"
ردت عليه بازدراء...
"الطيور على اشكالها تقع ايتها القذرة"
ألقى جملته الأخيرة وتركها مدبراً لابنته ....وبعد لحظات نزل يمسك بيدها قاصداً الخارج...
~~~~~~~~~~~~~~
قرع جرس الشقة بإصرار بينما كانتا تتناولان وجبة العشاء بجوٍ أليف، دافئ، لا يخلو من مرح صديقتها (ايمان)....
"نعم نعم لقد جئت....لحظة"
هتفت (ايمان) وهي تمسك منديلاً تزيل عن فمها بقايا الطعام متوجهة لتفتح الباب....
نظرت بذهول للواقفين أمامها وحدثت نفسها "اذاً فاتن معها حق!!" .
دخل (عاصي رضا) مع صغيرته للاعتذار الجاف الذي كان مضطر له من اجل ابنته فقط وهذا يعد اذلالاً بحقه والّا لم يكن ليسأل عنها البتّة ...بعد انصرافهم أغلقت الباب واتكأت عليه بظهرها ...تكتّف ذراعيها وتحرّك اصبعيها على ذقنها شاردة بأفكارها تهمس بخفوت :
"هكذا اذاً يا سيد عاصي رضا....كنت اعتقد أن لا شخص يعنيك في الحياة ولا حتى ابنتك!!....فقط منصب ومال!!...ربما تكون هي السلاح الذي سنضربك به يوماً ما...من يعلم؟!......الأيام بيننا اذا أراد الله لنا ذلك..."
~~~~~~~~~~~
يومان ونحن في حالة توقف عن الحياة...كأنّ عـقـارب الساعة بقيت مكانها وأبقتنا معها....ننتظر وصول جثمانه الطاهر لنواريه الثرى في مدينته ومسقط رأسه ليحتضنه ترابها الذي أفنى عمره لأجله ...ليضاف شهيداً آخراً فخرا لبلدته....
جدتي دخلت في صدمة تركتها طريحة الفراش.....نبض الحياة أمي تأخذ المهدئات بعد الانهيار الذي أصابها....أخي الرضيع حُرِمَ من حليب امه بعد أن جفّ من حزنها وحدادها على زوجها, بطلها, سندها, أبيها وأخيها بل عائلتها بأكملها التي فقدتهم في الصغر...
ربما كنت أنا الأكثر تحملاً رغم حزني الدفين في كل شعيراتي الدموية.....
استجمعت قوايَ راضيا بقضاء الله لأتولى رعاية أختي , فخالتي (مريم) توّزع اهتمامها بين أمي و(شادي) الذي أجبر على تناول حليبه المصنّع من الزجاجة.....
جاء اليوم التالي المتفق عليه لاستلام الجثة....
جميع أهل البلدة والأصدقاء ومن يُكِنُّ لأبي المحبة والولاء ساروا في جنازة مهيبة تليق بانسان عاش ومات شريفاً خادماً للدين والوطن...
[[ أبــي...
مشيتُ خلفك شامخاً والبلبل يشدو بالغناء
فداءً للوطن حارساً لتُفتح أبواب السماء
بين النجوم وجهك متلألئاً كبدرٍ ساطع في بهاء
سيبقى اسمك خالداً شهيداً بصحبة الأنبياء ]]
~~~~~~~~~~~~
" لا اصدق انك تتعمد اهانتي!!...كيف تعيدها الى البيت؟!"
هتفت(سوزي) باستياء وهي تمشي خلفه تتبعه الى مكتبه بعد عودة (فاتن) الى القصر...
رد دون ان يلتفت لها:
"هذا بيتي أنا....اياك الاقتراب منها او من ابنتي...هما في حالهما وأنت وابنك في حالكما...لا أريد مشاكل....هذا ليس وقت الانشغال في تفاهاتكم جميعاً"
اخذت الجزء الأخير من كلامه وقالت بضيق:
"بالطبع فماذا تعني لك العائلة؟!...المهم هو الحصول على الأموال ونَيْل أعلى المناصب"
استدار خلف مكتبه يجلس على كرسيه..يقول ببرود متهكماً:
" اوه سيدة سوزي منذ متى تغيرت ميولك ولم تعد الأموال أكبر اهتماماتك؟!"
احمّر وجهها حرجا ..فتابع ببروده:
"ثم لا شأن لك بذلك.."
كان قد طفح الكيل معها وصلت ذروتها من الاهانات....فمن جهة كسر كلمتها امام(فاتن) ومن جهة أخرى رفض استقبال والدها في بيته حتى يصلح اموره....لقد تكلمت معه فور خروج زوجها وأمطرها الآخر بوابل من الاهانات ...يتبرأ منها... فبنظره لا نفع منها كابنة مادام لم تستطع اقناع زوجها بشأنه... قرر الرحيل الى ابنيه في هولندا مرغماً فهو لا يطيق زوجتيهما فإحداهما أجنبية والأخرى من عامة الشعب الذي رفض نسبها ولكن ابنه عصاه وتزوجها ورحل وها هو يتلقى نتائج افعاله وتربيته الفاشلة وسعيه وراء المظاهر الكاذبة ومال الحرام ...
" هل تعتقد أنك ستحصل على ما تسمو إليه؟!...انه حلم ابليس في دخول الجنة"
ألقت قذيفتها بغباء ففزّ من مكانه متجها نحوها.. يرمقها باحتقار.. يهدر بفظاظة:
"اصمتي يا وجه النحس!!...سأحصل على ما اريد وعندها ستكونين ملقاة مع والدك في الشارع"
" لا تثق بنفسك كثيرا وتنغر....لا بد من ظهور شخص ما يرسلك الى قعر الأرض لتعود في حال أسوأ مما كنت عليه قبل زواجك من (كريمة)...أوَتظن أن لا علم لي بماضيك؟؟"
دوت صفعة على خدها هزت الأرجاء من شدتها بعد أن أنهت كلامها بحماقة ...أيعقل انها لا تدري مع من تلعب؟!...فنقاط ضعفه المال , ابنته , وماضيه الغير مشرّف....تركها وخرج ينفث لهيباً من احشائه ...تعرّق جبينه قلقاً...سيتحدى الجميع ولن يسمح لأي شيء بالوقوف في طريقه والتأثير على أحلامه التي فعل المستحيل لأجلها....
هوَت (سوزي) بجسدها على أريكة موجودة في مكتبه... تتحسس مكان الصفعة....عيناها غارقتان بالدموع....تفكر بنفسها وابنها...أعادت شريط حياتها السابقة....ابتداءً من والد باعها وهي بعمر الزهور لرجل يكبرها بعشرين سنة من اجل المال لم تذق معه طعم السعادة ...كانت كمومس له يفرغ بها رغباته ثم يلقيها يذلها بابيها ويضربها وبالكاد استطاعت الانفصال عنه....
عادت مع ابنها لأهلها الذين اجبروا على استقبالها متثاقلين, مع أنهم من الأغنياء ولا ينقصهم شيئاً...طلب يدها(عاصي رضا) وكان بنظرها المنقذ من بطش والدها....تعترف بداخلها انها هنا على الأقل تعيش برفاهية وكامل الحرية مع ابنها بغض النظر انها مجرد كرسي في البيت بعين زوجها...لا تشعر بأنوثتها...لا كيان ولا وجود لها في صفحات حياته.....هي صفقة اعتقدها رابحة لغايته ولكنه خرج منها بخفيّ حُنيْن بعد طردِ والدها من منصبه....
كانت الصفعة بمثابة منبه لاستيقاظها من تهورها...عليها اصلاح ما افسدته قبل أن تصبح متسولة تجول الشوارع....
الآن ليس وقت البكاء على الاطلال...يجب أن تتحرك الى الامام...يجب ان تكون اقوى من اجل ابنها....بحثت في عقلها عن طرف خيط لضمان مستقبله....هي تعلم أن أكثر ما يعلّي شأنها بنظر زوجها هو احضار ولائم غنية بالصفقات الدسمة التي تغذي مشاريعه ومسار حياته....هكذا تكسب صفّه وتحافظ على مكانتها في بيته....
لمعت عينيها وأمالت زاوية فمها بمكر بعد أن وجدت ضالتها...
زفرت أنفاسها تستجمع قواها وصعدت الى حمام غرفتها تغسل وجهها بالماء البارد لتنتعش وتبدأ بتنفيذ مخططاتها بدايةً من رفع الهاتف لتدقّ لصديقتها:
↚
" مرحبا...كيف حالك عزيزتي اسراء؟"
" أهلا بالغالية سوزي أنا بخير واشتاق لك كثيرا ما هي اخبارك؟"
استرسلت بالحديث مع (اسراء) صديقتها من الوطن التي لم تنقطع علاقتهما ابدا مع ان كل واحدة بدولة...هي زوجة رجل أعمال شهير يدعى (رائد السيد) ...يقيمون في استراليا حاليّاً...فهم دائمو التنقل بين البلدان ولهم ولدٌ وحيد اسمه (صلاح) البالغ من العمر اثني عشر عاماً.... قررت محاولة اقناعها للإقامة معها في تلك البلاد بعد ان اخبرتها سابقا باستيائها من وضعها فابنها يتعلم لغة يتقنها ثم ينتقلون الى دولة أخرى ولغة أخرى... وانهم يريدون اختيار بلد يستقرون بها....
"لم لا تأتون هنا ؟! بلد جميلة، متطورة، شعبها راقي والأهم تناسب أعمال زوجك.... يستطيع فتح مشاريع كما يحلو له...وربما يتشاركان هو وزوجي...وهكذا نلتقي انا وانت كالسابق وابنينا يصبحان صديقين"
أدلت بصنارتها لعلّ وعسى تُخرج السمكة الذهبية، فتحمست الأخرى هاتفة:
"لم تخطر في بالي سابقاً...من حسن الحظ أنك اتصلتِ بي فنحن كنا على وشك اتخاذ القرار.... سأخبره حين يعود وأعلمك بقرارنا..."
أغلقت الهاتف بعد ان ودعتا بعضهما ....انجزت مهمتها وفقط عليها الدعاء لتصيب صنارتها....
~~~~~~~~~~~~~~
جلس مقابلا له في شركته بعد أن دعاه لأمر عاجل....تبادلا أطراف الحديث العام....نهض السيد(سليم) يضع يديه على خصريه واقترب ينظر للخارج من نافذة مكتبه ثم تنحنح هاتفاً بصوته الجهوري:
" كما أخبرتك سابقاً....حان موعد سفرك"
"متى؟؟"
سأل السيد(ماجد) وهو صديق الثوار ومساعدهم إعلاميا ومعنويا والمرسال بين القادة السريين والمعسكر...
استدار نحوه ثم خطا ليجلس على الكرسي المحاذي له وقال:
"خلال يومين....."
"حسنا...أعطني وقتاً لأرتب أموري.."
"ألم تخبر عائلتك؟؟"
"بلى وهم مستعدون لذلك ,لكن تبّقى بعض الإجراءات الرسمية في المصرف وإخبار أهلي....فإرضاء والدتي واقناعها سيأخذ بعض الوقت لأنني لم افترق عنها من قبل."
~~~~~~~~~~~~~~~~
بعد أسبوع من وفاة أبي عادت أصوات الانفجارات تدوي في كل مكان...ليلة تلو ليلة والحرب تشتد.... قصفٌ هنا وضربٌ هناك!!...بيوت تهدم, أرواح تزهق , أطفال في حالة رعب, عائلات تتشتت, نساء تترمل , أمهات ثواكل...دُمرت بلدان كاملة!!...من سيعمّرها؟! من سيعيد الأزواج لنسائهم؟! من سيواسي الأمهات؟! من سيعوض الأطفال؟!
كان القصف مازال بعيداً عن منطقة سكننا , ولأن أمي لم تفِقْ من صدمتها بعد ...اضطرت عمتي(لبنى) وهي زوجة السيد(سليم الأسمر) صديق أبي ورفيق دربه ومخزن أسراره لأخذ جدتي التي تفاقم عليها المرض والانهيار الى بيتهم في مدينتهم الأقرب للحدود الجنوبية الغربية بعيداً عنا....
×
×
×
تلى الأسبوع أياماً قليلة ووصل الى مسامعنا اقتراب الجنود الى بلدتنا لأنها رحم ولادة الثوار ...بدأوا بالزحف الى مركزها لتدمير المقرات السرية وتهديد عائلاتهم.....
" خُذ شادي لتطعمه....والدتك مشغولة على الهاتف وعليّ الاهتمام في الطبيخ"
طلبت مني خالتي (مريم) الاهتمام به بعد أن رأتني متفرغاً لتتابع عملها في المطبخ ...ما لفت انتباهي هو انشغال امي على الهاتف!!....كانت قد بدأت بالتحسن منذ يومان....الغريب في الأمر انها ليس من عادتها الإطالة بالحديث عبر الهاتف!!....
أطعمتُ الصغير ورفعته على كتفي أربّت على ظهره بخفة ليتجشأ في حركة بتّ أعرفها...فمكوثي في البيت جعل مني حاضنة له ولشقيقتي....
التفتُّ الى يميني حيث الباب الواسع لغرفة المعيشة عند سماعي خطوات أمي وخالتي تقتربان منا.....كان وجه أمي شاحب ونظراتها تتكلم!!... ويبدو أيضا على خالتي أنها مثلي لم تفهم سبب سحبها معها الى هنا!!.....اقتربت مني تحمل أخي وجلست بجانبي وأنا اتأمل تقاسيمها أحاول قراءة ما يدور في رأسها....أومأت بعينيها لخالتي لتجلس فردت:
"لا يمكنني ترك الطبخة على النار....ستحترق"
"اذهب ياهادي واطفئ الموْقد وعد فوراً"
امرتني والدتي بصوت مرتجف...
اطفأته وعدتُ لمكاني ...فهتفت خالتي بتوجس:
" ما بكِ عائشة وجهك اصفرَّ بعد مكالمتك مع لبنى.."
" لم أكن أكلم لبنى بل زوجها السيد سليم"
ردت امي في الحال توضّح سبب شحوبها...
"السيد سليم؟؟!!....ليس من عادته الكلام معك مباشرة!!"
قالت خالتي باستغراب...فهو رجل ملتزم غيّور وبغياب والدي وبعد وفاته كانت عمتي(لبنى) همزة الوصل بينهما عندما يكون امراً طارئاً ليخبرنا به.....
"ماذا يريد عمي سليم؟!"
سألتُ بفضول.....
أخفضت أمي عينيها للأسفل وابتلعت لعابها وهمست بتلعثم:
"علينا..أن...أن نهاجر"
"ماذا؟!"
صرخت خالتي أما أنا كنت أترجم كلمتها في عقلي فتابعت بنبرة يائسة:
"أخبرني أن لا وقت لدينا...فالعساكر سيحاصرون الجبل خلال أيام قليلة وعلينا الاختيار بين الاستسلام لهم من غير مقاومة او النزوح الى مكان آمن حفاظاً على ارواحنا وشرفنا..."
تنهدت وأضافت:
"أنتم تعلمون الاستسلام يعني الاستسلام لبطشهم والله وحده يعلم ماذا سنواجه تحت أيدي أولئك الطغاة..."
رفعت وجهها اليّ نظرت بعيون دامعة ازدردت ريقها وأكملت:
" أنت شاب ومن الممكن أن يأخذوك الى التحقيق لتقر عن أشياء تعلمها ولا تعلمها ....ونحن نعرف ماهي اساليبهم لسحب الكلام او الاجبار على قول ما يريدون لصالحهم "
سكت الكلام...لم أجد أي تعليق يعبّر عن مشاعري....هل هذه حقيقة التي أسمعها؟!....من قرر ذلك؟!..أيمكنني أن أتنفس هواء غير هوائي الجبليّ؟!...ألا يدركون انني انا سمكة في بحر وبإخراجها سأنتهي؟!!...هل سأترك خمسة عشر سنة عشتها في بيتي وحارتي تذهب أدراج الرياح وكأنها لم تكن يوماً؟؟!....بل أصدقائي أيعقل أن افترق عنهم بعد أن اتفقنا لنكون معاً لآخر العمر , حتى أننا بنينا أحلاماً وصلت حدّ السماء !!.....بالله عليهم ماذا يهذون؟؟!!...هذه ترّهات لن أقبل بها !!!!
" كلا وألف كلا"
صرخت بعد عودتي لواقعي أحمل تلك الكلمات....
نظرت لي أمي نظرات رجاء , ضعف , وكأنّها تستنجد بي!!...اغرورقت عينيها بالدموع..ضمّت الصغير الى صدرها بقوةٍ وهمست بصوت مختنق:
"ارشدوني ماذا افعل ؟؟.....هل نجلس هنا ننتظر حتفنا؟!....إن متنا جميعاً فلا بأس, ذلك لا يهمني...أما....أما...."
بترت كلماتها وسط عبراتها وبدأت ترتعش توشك على الانهيار ثم رفعت صوتها تخفي ضعفها وراءه وتابعت :
"أما ان فقدت أحدكم سأموت في الحياة ...أنا لا أقوى على هذا...فلتشعروا بي ......ذهب حبيبي تاج رأسي وتركني اواجه هذه الصعاب لوحدي!!....يكفيني ما عانيت من رحيل الأحبة "
دفنت وجهها بأخي وعلا نحيبها ....كانت كل دمعة تقطر منها تغرز كخنجر في فؤادي وصوت بكائها يمزق روحي.....اقتربتُ منها أضمُ كتفيها بذراعي مقبّلاً رأسها هامساً باستسلام :
" كما تريدين يا نبض الحياة...فلترضي عنا... أرجوكِ لا تبكي"
خالتي تضمُ(دنيا) في حضنها بعد أن رأت الوجوم يعتريها من بكاء امي....
تظاهرتُ بالقوة وسألت:
"متى سنرحل ؟!! وهل يوجد حديث عن عودة أم أن علينا نسيان شيء اسمه وطن ومدينتنا الجبلية وقصرنا العريق؟!"
مسحت امي دموعها بأطراف اناملها وأجابت بين شهقاتها:
"بعد غدٍ ان شاء الله وبإذن الله سنعود عندما تهدأ الأوضاع ..هكذا وعدني السيد سليم.."
أملتُ فمي ببسمة ساخرة وقلت في سرّي "وهل من أملٍ لتهدأ الحرب مادام يتنفس على هذه الأرض الجبناء والأوغاد"
×
×
×
أشعلتُ النار بعد أن جمعتُ بعض الأغصان اليابسة الصغيرة أضعها بين الحجارة لأتدفأ, أنتظر وصول صديقاي (سامي وأحمد)...
كان الوقت هو العصر من اليوم التالي لقرار الهجرة في بيتنا....قمتُ بالاتصال بهما لنلتقي بأعزّ مكان على قلوبنا...جمَعَنا دوْماً لسنوات....كان عبارة عن مرتفع يطلّ على القسم الأسفل من مدينتنا , فتضاريسها تبدأ بالارتفاع تدريجياً حتى تصل حيّنا الموجود في أعلى نقطة منها المحاط بأشجار السرو الكثيفة وكأننا في غابة....
أما مكاننا هذا فهو بطريقٍ ترابيٍّ جانبيٍّ كأنه تلة صغيرة تزيّن رأس الجبل ونبتت فيه شجرة من أشجار الخروب دائمة الخضرة التي نستظل بها ...نجلس على صخور تحتها...نشاهد منظر الغروب منها ونتسابق في القاء الحجارة من يحصّل على أبعد نقطة....كانت هذه أفضل العابنا التحدّي....
كنتُ جالساً بسكون ..تارةً أحرّك النار بعودٍ رفيعٍ وتارةً أخرى أسرح بمنظر مدينتي الحبيبة.....
"السلام عليكم..."
ألقى (أحمد) التحية وتبعه (سامي)الغليظ بـ:
" ما بك تبدو كالأرملة التي فقدت زوجها لتوّها؟! ...بقي عليك أن تولوِل"
" وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.....هيا اجلسا"
قلتُ وأنا أخفي نظراتي المحترقة عنهما....أتمالك نفسي.....
جلس كل منهما على جانبيّ ننظر بنفس الاتجاه الى الأمام....فتنحنحتُ لأحافظ على اتزان حبالي الصوتية قائلاً بدون مقدمات:
"سنهاجر.."
رمقني (احمد) بنظراتٍ مصدومة قاطعها (سامي) باستهزاء وهو يلوّح بيديه أمام وجهه :
"هِيـه هل صدقت هذا الأحمق أيها المغفل؟!...هو لا يمكن أن يتنفس غير هواء جبلنا"
"بلى...أنا لا أمزح"
قلت بصوت ضعيف.....
"لماذا؟!"
سأل (أحمد) بعتاب...
كان (سامي) يحدّق بجانب وجهي الأيمن حيث يتواجد فأجبتُ بقهرٍ ظهر بنبرتي:
"هذا قدرنا لنحمي أنفسنا.."
وعند آخر حرف غدرتني دمعة ظلّت عالقة محاصَرة في زاوية عيني اليمنى ...لمحها من كان بهذا الجانب فأدرك صدقَ قولي وأنقضّ يحاوطني بذراعيه وكأنه يحميني من الهروب ...انضمّ معنا (احمد) يحاوطنا نشبك أيدينا على أكتاف بعضنا ...نلصق جبهاتنا في بعضها ....نبكي بصمت دون أن ننبس ببنتِ شفة.....
دقائق ونحن نشد من احتضان بعضنا قطعتُها أنا ...أضربهما على كتفيهما ..أمسح دموعي مبتسماً بتصنع أجاهد لإخفاء احتضار روحي هاتفاً:
"ما بنا نبكي كالنساء؟؟....هيا امسحا دموعكما قبل أن يرانا احد ويشيع الخبر بالحيّ!!....لا تفرحا كثيراً سأعود قريباً ان شاء الله لأنكد عليكما عيشتكما"
ضحكا وعدّلا جلستهما وبدأت اسرد لهما تفاصيل رحلتنا ثم وصيتهما على بيتنا.....بقينا حتى الغروب وتفرّقنا عند بوابة منزلي بعد أن تعانقنا نودّع ونوصي أحدنا الآخر بالاعتناء بنفسه حتى نلتقي مجدداً....
دخلتُ بيتنا وارتميت على الأريكة في غرفة العائلة شارداً بالهجرة....
الهجرة؟!!
الهجرة هي كلمة ربطتها دائماً بالطيور المهاجرة بين الفصول...!!...كنت أشرحها لشقيقتي(دنيا) ونحن نراقب هجرتها في الخريف واستقبالها في الربيع....
أما هجرة بني البشر كنت أسمع عنها في وسائل الاعلام لأخوة لنا تهجّروا....بيننا وبينهم مسافات كبيرة.....أدعو لهم بصلاح الحال وأقلب المحطة من بعدها على برامج مسلية....فأنا أنعم بكامل الرفاهية في بيتي...احصل على كل ما أتمنى...بيت بارد في الحر ودافئ في البرد.....لا أكترث لشيء ....أصحابي حولي....أزور أقاربي...مطبخنا مليء بأشهى أنواع الطعام....لدينا مركبة فخمة...أدرس بأفضل المدارس....لم أشعر يوماً أو حتى أفكر ماذا عاشوا من تذوّقوها....
نعم الهجرة هي الآن مـ ـلاذّنا الوحيد لننجو اذا قدّر لنا ذلك....بعد أن اقنَعَنا زوج عمتي السيد(سليم الأسمر) بخطورة البقاء لانتمائنا لاسم القائد المجاهد (محيي الدين)....
كيف أصبح إسم أبي يشكّل خطراً علينا بعد أن كان مصدر الأمان الذي نفتخر به؟!.....أين كنا وأين وصلنا؟؟!!
آهات حبيسة تختلج صدري ..تضغط على أنفاسي...وددت لو أطلقتها لأرتاح!!....لكني خشيت على عائلتي فيكفيها ما فيها....
لا أريد لأمي أن تذبل مجدداً بعد عودتها للحياة رويداً رويداً بفضل الله ومن ثم دعم الأحباب...
خالتي العزيزة(مريم) لم تشأ تركنا بعد أن فقدت زوجها قبل سنوات عدة...كانت تلازم امي وتساندها رغم أنّها تصغرها بسنواتٍ...
" رتبتُ حقائبنا ووضعتها عند المدخل كي لا نتأخر في الصباح"
وجّهت أمي كلامها لخالتي التي نهضت من مكانها قائلة:
"حسناً وأنا سافرغ الخزنة من المال والمجوهرات..."
عند سماعي كلمة مجوهرات عدتُ في ذاكرتي لأيام ليست ببعيدة أسمع بها أمي تطلب المال من ابي لاقتنائها لتذخرها بحجة [قرشك الأبيض ليومك الأسود]....يبدو أنه جاء هذا اليوم الأسود لتَخْرُج هذه المجوهرات....
"أنا اريد أخذ بندقية أبي "
هتفت بها عند مروري من جانبها وهي معلّقة مكانها على الحائط فشهقت أمي بفزع ..تضع يدها على صدرها... عيناها تلمعان قائلة :
"مستحيل لن أسمح لك ....يكفي ما خسرنا"
"لكن يا امي هذه رائحة أبي وأوصاني بالمحافظة عليها..أرجوكِ"
قاطعتني بحزم:
" لا استطيع المجازفة بك وبأخوتك....ثم من قال لك أنهم سيسمحون لك بنقلها؟!....تحتاج لتصاريح!!....اقفل الموضوع"
زفرتُ بضيقٍ واستسلمت لقرارها ....دنوت منها أقبّل جبينها وقررت ايداعها بمكان آمن...
بعد منتصف الليل الجميع في سبات باستثنائي !!..أتململ في فراشي...أفكر بالغد والمستقبل المجهول....قبل أيام كنت أطير فرحاً لتحمّلي مسؤولية تافهة ...والآن بعشيةٍ وضحاها أصبحت رجل البيت لأرعى عائلة كاملة رغم صغر سني....
أثقلني التفكير وغلبني النوم في النهاية....
تعالت مآذن البلد بكلمة الله اكبر...
نعم الله اكبر على كل ظالم ..الله اكبر على من طغى وتجبّر...حي على الفلاح والصلاة خير من النوم....إنه موعد صلاة الفجر...
كانت امي في هذه الاثناء تطعم أخي (شادي) ...توجّهت الى المطبخ بعد أن نام الصغير لتغسل زجاجته ثم أقبلت لتوقظنا أنا وخالتي للصلاة وللاستعداد للانطلاق....
أشرقت شمس يومنا الأخير في وطننا لا نعلم ماذا يحمل في طيّاته!!
خرجتُ الى الحديقة قاصداً تلك الشجرة المباركة...شجرة زيتون كبيره معمّرة...حفرتُ تحتها واضعاً البندقية ناثراً التراب عليها بإحكام ومع نثراته تناثرت في قلبي غصّات...فهذا الموقف أعادني الى لحظة مواراة أبي الثرى...دفنتُ أبي ودفنتُ العهد معه...
لم أسمح لدمعي بالنزول...رفعت بصري ناظراً للسماء متذللاً لخالقها:
" ياا رب أنت العالم بحالي...ياا رب إني استودعك مِن أغلى ما أملك...ياارب أحيّني لليوم الذي سنطّهر به الوطن كما رغب أبي"
مسحتُ دمعة خانتني وتوكلت على الله داعيّاً:
" اللهم إنا نسألك خير ما في هذا اليوم ونعوذ بك من شره"
دلفتُ بيتي رافعاً رأسي بثقةٍ وقوةٍ لم أعهدهما من قبل....فاليوم يوم مصيريّ....يجب أن ابثّ الآمان لعائلتي وأُشعرهم أنهم بإمكانهم الاعتماد عليّ لأتولى رعايتهم من بعد الله....
وصلت مركبة تابعة للسيد(سليم الأسمر) كما اتفقنا لتقلّنا الى مرفأ السفن بعد أن رتّب أمورنا مع معارفه وقاموا بكافة إجراءات النقل الرسمية ودفع مبلغ طائل من المال لحجز مقاعد لنا بسفينةٍ على مستوى رفيع فيها شتّى وسائل الرفاهية....
وضعنا الحقائب في صندوق السيارة وركبتُ أنا المقعد الأمامي جانب السائق وبقية عائلتي في الخلف....لنسير على دربِ الهجرة!!
[[سلامٌ على مدينة تنفست هواءها , شربت ماءها ,سجدت على ترابها , أكلت من خيراتها , هاجرتُ منها ووعدي ألّا أنساها, فعمري ودمي كله فداؤها]]
↚
أن نجد أشخاصاً يدعموننا...يسعون لراحتنا...يهتمون بنا دون مقابل او مصالح خبيثة ....تلك من النِعَم الكبيرة التي نشكر الله عليها...فنحن رغم انزعاجنا من هذه الظروف الراهنة وما آلت اليه أوضاعنا إلّا أننا فخورون ونشعر بالامتنان للسيد (سليم الأسمر) الذي قام بتحضير كل شيء مسبقاً , من سائقٍ إلى سفينة رفيعة المستوى , حتى أنه بعث رجلاً من طرفه ليستقبلنا هناك في تلك الدولة المجاورة ليقوم بكافة الإجراءات الرسمية الخاصة بالإقامة واستئجار شقة ...بل حرص أيضا على إيجاد مدارس لي ولأختي لنتابع تعليمنا دون أن نخسر يوما واحداً...
لا أخفي أنني شعرت برهبةٍ في الطريق!!...فماذا سيكون أصعب من ان أسير على درب لا أعلم ان كنت سأعود لأرى أثر خطواتي مجدداً أو انها ستتلاشى مع الزمن وستذهب على هامش التاريخ بصفحة مملة نتخطاها لا نرغب بقراءتها لا قيمة لها لا تُقدّم ولا تُأخّر... بل عبء على الكتاب لا مانع من تمزيقها ...وحتى المؤلف بنفسه لن ينتبه لاختفائها!!
تساءلت ...هل سأعود قبل أن يجف التراب من أمطار خير هذه السنة؟
أم سيجفّ عمري وأنا أتشوق لأطهّر أقدامي في تراب بلادي ؟؟
هذه التخوفات التي راودتني في رحلة الهجرة وأشعرتني بانقباض خافقي ...جعلتني أُخْرِج من حقيبتي الصغيرة ,المصحف الشريف مصحف والدي...أضمه لصدري علّني أشعر بالطمأنينة!!
كيف لا وهو كلام الله جلّ في علاه؟؟!!
مضينا بطريقٍ خُطِّطَ له آنفاً لنصل باكراً ولا نفوّت سفينتنا...فتلك الشركة الخاصة بها عُرِف عنها الدقة والالتزام في المواعيد احتراماً لزبائنها مما أوصلها ذلك الى تلك النجاحات لتصبح علامة كبرى في المواصلات البحرية بعد كسبها أرقى فئات المجتمع وأغناهم....
بعد مرور ساعتين من الزمن...تفاجأنا بازدحامات سير خانقة لوقوع حادث بين شاحنة ومركبة خصوصية...يظهر انه من الانزلاقات بفعل مياه الأمطار على الشارع وبلا شك السرعة الزائدة...وعلى ما يبدو لا اصابات خطيرة حمدا لله...
وتجري الرياح بما لا تشتهي السفن!!!
أدرت وجهي الى يساري نحو الذي قال من وراء المقود بارتباك:
"لطفك يا الله!!...الوقت يداهمنا ويجب أن نصل خلال ساعة !!"
"ألا يوجد طريق آخر؟؟!"
سألت خالتي...
"بلى...ولكنه ترابي على طرف المدينة والسيد سليم أوصاني بسلك هذا"
دقائق تُحذف من حاضرنا ..تُدفن بالزمن الماضي ونحن متسمّرون مكاننا....فزفرت بملل هاتفاً:
" هيا يا عمي...لا يهم ترابي او غيره...المهم أن نتحرك!!"
تبعتني خالتي وتلتها أمي مؤكدتين على رأيي...اضطر السائق للانصياع لنا ودلف بصعوبةٍ من بين المركبات متخذاً مساراً آخراً...
سارَ في ثباتٍ بطريقه فاستأذنته بفتح المذياع لشعوري بالضجر فأذن لي بذلك:
[ الساعة الآن العاشرة!!...سيداتي وسادتي أهلاً بكم في موجز الأخبار...وصلنا قبل قليل أن قوات الجيش استطاعت السيطرة على مقر كبير للثوار في طرف مدينة(...) على الحدود الغربية وحسب ما نقل مراسلنا ان الطائرات الحربية التابعة لقوات التحالف الخارجية المساندة للدولة ما زالت تحلّق في الأجواء وتستعد لتلقي قذائفها وحتى الآن لم يبلغ عن أي قتلى...الى هنا انتهى الموجز]
" استر يارب!"
نطقتها أمي بفزع..
سادَ صمت لثواني كدت أسمع من خلاله ضربات قلب السائق...نظرت اليه فوجدت جبينه يتصبب عرقاً رغم برودة الطقس....همست له بقلق:
"هل أنت بخير يا عمي؟"
لم يجبني!!..علا وجهه التوتر ..تبعه ارتجاف بيده اثناء محاولته فتح أزرار قميصه العلوية ليحرر أنفاسه...يبلع ريقه بصعوبةٍ!!...فأردفت بقلق أكبر:
"ما بك عمي؟! هل هنالك شيء؟؟!"
تابع بصمته وكأن قطة ابتلعت لسانه ...امسكتُ نفسي لكي ألزم أدبي فأنا اكره تجاهُلي!!..هل يظنني طفلاً ولم املأ عينيه؟؟!!...أخذ يزيد من سرعته بارتباك كاد يقفل ساعة السرعة الخاصة بالمركبة....صاحت خالتي بانزعاج:
" على مهلك يا أخي...معنا أطفال!!"
أجاب مضطراً يدفع صوته المخنوق للخروج:
"اعذروني!!...نحن الآن بمنطقة الخطر!!..و..وفي أي لحظة ممكن أن تسقط علينا قذيفة"
"ماذااا؟؟!!"
صرخنا جميعنا بصوتٍ واحدٍ مرعوب....
يبدو أن صوت الأمطار مع صوت الرعد من حين لآخر إضافة للمذياع أخفى عنا ضجيج محرك الطائرات فلم نتخيل ولو للحظة أننا دخلنا منطقة تستعد لاستقبال القصف...
بدأ التوتر يعترينا...وجوهنا مكفهرّة لا تتفسر نغرق في العرق بعزّ البرد وأصبح حالنا كحال السائق.....نرجو من الله السلامة!!
"انتـــــــــــبه!!"
صرختُ بشدة...
فما كان منه الا الانحراف عن حفرة في الوسط ليرتطم بشجرة على قارعة الطريق أدت لتوقف المركبة..!!
"آاه ...الحمد لله أنك كنت قد خففت السرعة وإلا لانقلبت فينا وأصبحنا كالعجينة"
هتفت بها بعد لحظات من استيعابي الموقف....استدرتُ للخلف أتفقد عائلتي...كانوا يحتضنون بعضهم البعض في حركة لحماية أنفسهم و(شادي) الصغير....
عدلتُ جلستي وأسندتُ رأسي للكرسي ألتقط أنفاسي المتبقية من هوْل الصدمة...ثم وجهتُ كلامي للسائق مُشجعاً:
" نجونا الشكر لله ....هيا تابع من فضلك!!"
ركزتُ سمعي جاحظ العينين بعد أن وصلني صوته المخنوق المتقطع:
"لـ لا استطيع ...دَ...دخل غصن حاد في خاصرتي!!"
"ماذا تقول؟!"
هتفتُ بهلع وأنا أتفقده بردة فعلٍ سريعة ...كان الغصن قد اجتاز الباب بقوة واخترق جسده...الدماء تنزف بغزارة وكأنها نافورة...اصطبغ قميصه تحول من بحر ازرق الى أحمر...هرعتُ الى الخارج ولحقتني خالتي...نحاول مساعدته بسحب الغصن من الخارج!!. ...عاد نزول المطر تدريجياً ...بدأ يشتد!!....أصوات مروحيات تجول في السماء!!...الباب موصد بإحكام ,لم يسهّل علينا مهمتنا...خالتي بدأ حجابها يمتص الماء...حاولتْ الاحتماء بالشجرة ...الرعد يندمج مع هدير المحركات اللعينة ...عـقـارب الساعة تجري ....الرجل يئن , يقاوم ..حاول تحريك جسده ليساعدني...لكن....أبى هذا الغصن أن يتركه بعد عبوره أعضاءه الداخلية ..متمسكاً به متشبثاً كتوأم ملتصق يحتاج لعملية لفصله....كان يتأوه بشدة وصارع ليقول بخفوت:
"اذهبوا انتم...اتركوني انا ونصيبي...لا أمل مني...هيا لا تتأخروا عن سفينتكم...آاه...اهـ...اهربوا قبل أن تـ تحولوا الى أشـ لاء في هذا المكان"
ثم أسبلَ عينيه فاقداً للوعي بعد أن أوصل رسالته..!!
~~~~~~~~~~~~~
لم تتأخر السيدة (اسراء) بتبشير صديقتها عن قرار زوجها السريع بالموافقة للانتقال والاستقرار في تلك البلاد....
كانت هي ورقة ربحها وطوق نجاتها من براثن الطرد المشؤوم الذي هددها به بعد أن يصل لهدفه المنشود......فتخطيطاتها هي للمستقبل البعيد.....(عاصي رضا) لن يقبل ارتباط ابنته مستقبلاً بشخص أقل منه مستوى!!...ولن يجد أفضل من ابن السيد (رائد السيد) ليكون صهره الوحيد الذي يليق بسموّ الاميرة.....صحيح أن ابنته مازالت طفلة إلا أن الأيام تجري بسرعة فلا مانع لأن تضع أساساً متيناً من الان لتنضج الطبخة على نار هادئة وتتبلها بالنكهة التي ترغبها ليتناولوها في الوقت المناسب....
يجب عليها أيضاً أن تكسب ود ابنته ليرضى عنها ولو بالقليل.....فقررت ان تغير تكتيكها ....كانت سابقاً تهاجمها بشكل مكشوف بحماقة ..أما الان ستجذبها لها بلسانها الأملس وقلبها النجس.... والأفعى تبقى أفعى حين تردي ضحيتها قتلاً.. سواء باللدغ او الابتلاع!!
هي تحب صديقتها لكنها تقول في نفسها "سامحيني يا صديقتي فمصلحة ابني أولاً"
خرجت من غرفتها لتنفيذ الخطوة التالية....طرقت الباب برقة لتسمع :
"أدخلي خالتي.."
فتحت الباب وأطلت برأسها ترسم ابتسامة خبيثة!!....انكمشت تقاسيم وجه الصغيرة لرؤية من تقف خلفه وهمست بارتباك:
"ماذا تـ تـ ريدين مني!؟"
دخلت تدنو منها بحنان مصطنع ...والأخرى تزحف على سريرها للخلف...تلتصق بظهره..تحاول إخفاء وجهها بذراعها...هامسة بخفوت:
" ارجوك ابتعدي عني"
"عزيزتي ألمى..لا تخافي لن اؤذيك"
رفعت رأسها تنظر مندهشة لها....فاقتربت اكثر وجلست على طرف الفراش ....تقول بفحيح لطيف لتكمل مشهدها التمثيلي:
" أنا اسفة على كل ما حصل سابقاً.....أنا احبك ألمى وأريد فتح صفحة جديدة معك"
نفثت كلماتها المُبَطّنة بالسم تداري وجهها بكفيّ يديها تدّعي البكاء....رق قلب الصغيرة لحالها ودنت منها بهدوء ...تضع يدها الرقيقة النقية على كتف الافعى تربّت وتهمس ببراءتها:
" لا تبكي يا خالة..سامحتك"
استدارت بمكر تفتح ذراعيها لها تحتضنها وتعانقها كما لم تفعل من قبل وعينيها تلمع بخبث شيطاني...
في هذه اللحظة ولجت (فاتن) للغرفة للاطمئنان على صغيرتها فذهلت مما تراه!!..أيعقل؟!...(سوزي وألمى) تتعانقان؟!! هل اقتربت الساعة؟! ماذا يحصل هنا؟!....ثم قطعت المشهد متنحنحة قائلة:
" جئت لأرى ان كنتِ تحتاجين شيئاً ألمى"
قفزت بخفة من مكانها نحوها تمسكها من يدها وتخبرها عن عقد راية الصلح بينهما ثم هتفت :
"هيا الآن دوركما"
نهضت (سوزي) من الفراش تقترب منها تهمس بلطف كاذب وهي تمد يدها للمصافحة :
" أنا اسفة على كل ما بدر مني...أرجو ان تسامحيني"
مدت لها يدها تقبل المصافحة ثم دنت أكثر برأسها تهمس بأذنها:
"كادت عيني تدمع من شدة اتقانك للدور...هذه المسرحية تنطلي على الصغيرة البريئة لا على فاتن...أنا احذرك من اللعب بمشاعرها..!!"
تبسمت بمكر وهمست :
"سامحك الله..انا فعلت واجبي وانت حرة تصدقين او لا "
ثم اطلقت ضحكة مزيفة لـ (ألمى) وغادرت الغرفة....
لم تتسرع (فاتن) بتحذير ابنة شقيقتها منها فهي تريد التأكد لأنها تخاف سوء الظن وأيضا لا تريد أن تشركها بأمور الكبار والضغينة التي بينهم لتبقى بقلبها النقي المُحب للجميع.....
~~~~~~~~~~~~~
"رباه الطف في حالنا واخرجنا من حولنا وقوتنا الى حولك وقوتك...رباه اننا نشكو اليك ضعف قوتنا وقلة حيلتنا وهواننا على الناس...اللهم انت رب المستضعفين"
رددها لساني ثم قبّلت جبين السائق الذي فقد وعيه طالباً منه مسامحتنا...توجهت الى صندوق السيارة لسحب حقائبنا الكبيرة...بدأنا نسير مسرعين نبحث عمّن يوصلنا الى المرفأ....دقائق عديدة بعد ابتعادنا حيث كنا وإذ بصوت انفجار يدوي يهز المنطقة بأكملها بعد سقوط غارة لعينة....التفتّ الى الخلف حيث مصدرها والتي لم يكن هدفها سوى المركبة التي تركناها ...يا الله كدنا نتحول الى أشلاء مثلما قال!!.....انها تحترق ...دخان اسود متصاعد منها مع اللهيب البرتقالي ليُقتل الرجل مرتين بشكل أليم دون ذمة او ضمير.....
تركت احدى الحقائب الكبيرة مجبراً لأتولّى أمر واحدة... فبالكاد ننجو بأنفسنا ...امي تحمل حقيبتها الصغيرة على كتفها ....تضم اخي بذراعٍ على صدرها....تتعثر في ثوبها....لا تعلم ! تمسك الثوب , الحقيبة أم شادي ؟!!....
خالتي تحمل حقيبة متوسطة الحجم وحقيبة أخرى لشقيقتي ...تجرّ (دنيا) لتسرع في خطاها التي انطفأت من شدة التعب والنعاس..!!
طريق وعرة تملؤها الحفر المغمورة بمياه الامطار....ترسم من طينها لتبدع بأبهى اللوحات على ملابسنا وأغراضنا...
وقفنا بانحناء نلتقط أنفاسنا....ارتمت (دنيا) على الأرض وهي تتشبث بدميتيها التوأم اللتين اهداهما اياهما أبي في يوم ميلادها الماضي.....
رأفْت لحالها ....فجسدي أقوى من جسدها ويتحمل الصعاب الى حدٍ ما...أما هي صغيرة , رقيقة , لم تجري في حياتها...كنا نحملها على كفوف الراحة انها مدللتنا الغالية انها دنيانا....
أجلستها على الحقيبة الكبيرة لأسحبها ...أنفاس أمي وخالتي تخترق طبلتي أذنيّ من قوته...
" توقــــــــــــــــــف"
صرخت بعدما لمحتُ جرار زراعي كاد أن يختفي من أمامنا..!!
تركت كل شيء في يدي ودخلت سباق مع الزمن...أجري وأجري لألحق به بكل ما اوتيت من قوة...اركض وأقول في نفسي " آه يا أبي مهما شكرتك لا أوفيك حقك من فضلك عليّ بعد الله"
لقد كان ابي يهتم بإدخالي كافة أنواع الرياضة...ركض , سباحة , ركوب الخيل , التسلق وحتى علمني الرماية بأنواعها !! ..كان دوماً يقول لي ربما تحتاجها يوماً يا بنيّ..
" ها قد صدق أبي"
أردفت في نفسي بعد أن نجحت بإيقاف الجرار..!!
صعدتُ وعائلتي على عربة الجرار وتنفسنا الصعداء حامدين الله على كل شيء....وصلنا المرفأ بعد نصف ساعة...همّت خالتي لتخرج قطعة ذهب تعطيها للفلاح مثلما اتفقنا ووعدناه ليقبل بتوصيلنا.....تبحث خالتي في الحقيبة الكبيرة لتكتشف أن المجوهرات بقيت في الأخرى!!! وهنا بدأت حفلة البكاء بين أمي وخالتي....
كنتُ ارتدي في يدي ساعة ثمينة أهداني إياها أبي لتفوقي الدراسي...خلعتها بألم وكأنني أخلع نابضي من بين ضلوع صدري...!!...قبّلتها وتمتمت بخفوت :
"سامحني يا أبي...عسى الله أن يعوضني خيراً منها!!.."
ثم شكرتُ الرجل بامتنان وناولته الساعة.
اقتربت من أمي وخالتي اللتين ما زالتا تبكيان مجوهراتهما...ضممتهما الى صدري اشدد من احتضانهما وهمست بحنان:
"سأكبر باذن الله وسأعمل واشتري لكما الأجمل....أما تلك المجوهرات لم تكن من نصيبنا وهذا أمر الله...انا اؤمن ان في كل شر يأتي بعده خير..!..فقط توكلا على الله"
رفعت امي بصرها إليّ لأنني افوقها طولاً...مدت كفّها تمسّد على خدّي هامسة باعتزاز وحياء :
" يا الهي...كم كبرت يا هادي من غير أن أشعر!!..من واجبي انا مواساتك ونصحك!!...انا افتخر بك يا بنيّ...حفظك الله ورضي عنك "
كلمات أمي تثلج صدري...تطرد قهري...هي كوقود يملأ خزّاني لأجابه وأواجه أي شيء سنعيشه في رحلتنا أو الأصح أن أقول هجرتنا....فشتّان ما بينهما!!!
الرحلة هي للمتعة...تكون باختيارنا وارادتنا...اما الهجرة !!..هي شيء اجباري ينزعنا من جذورنا ...يزعزع مضجعنا...ثم يحذفنا الى التيار الذي بدوره يقذفنا بشكل عشوائي حيثما نرسو...
بقي معنا القليل من الأموال لنتدبر به أمورنا , هنا عدت مجدداً لكلام امي ان قرشها الأبيض ليومها الأسود وتبسمت وجعاً للعبة القدر!!...آاه يا أمي أيّ سواد انغمسنا فيه ؟!
أنت تريد وأنا اريد والله يفعل ما يريد.
عندما اقتربنا من مرْسى السفن ..لفت انتباهي منظر مزّق قلبي!!...التفرقة بين الطبقات.....هل ما زلنا هكذا؟ الغني يستقل السفن الجديدة وينعمُ بالراحة اثناء هجرته أما الفقير كُتبَ عليه الشقاء وبالكاد يحصل على قارب أكل الدهر عليه وشرب!!
ان هذه أوضاع طارئة للهجرة وليست برحلة ننتظر الرفاهية منها !! ...كلنا بشر ولنا أرواح نحتاج حمايتها!! ألا يستطيعون التنازل قليلاً لمساعدة الفقراء!!؟؟
كنا نحن من ضمن فئة الأغنياء بما أننا ميسورو الحال بفضل الله وتم الحجز لنا بتلك السفن الفخمة.
دنوتُ بأوراقي من رجل يجلس على حافة منصة تربط بين السفن واليابسة.....رمقني بنظرات ازدراء قبل ان انطق بكلمة وأشار لي بالذهاب الى الطرف الآخر !!...اعتقد انه ظنني من الطبقة البسيطة بفضل اللوحات المرسومة على ملابسي في مغامرتنا الأخيرة!!
لم استجب له واقتربت اكثر أسأله عن رقم سفينتنا...حملق في وجهي مستنكراً وأجاب من رأس أنفه:
"هذه السفينة انطلقت قبل نصف ساعة"
ثم أشاح بوجهه عني....
تجمدت مكاني لوهلةٍ أحاول تقبّل كلامه!!..
" أرجوك يا أخي ألا يوجد غيرها!؟..لقد حجزنا ودفعنا"
طلبت منه وانا الصق الأوراق بوجهه لأثبت له ذلك....
" لا... السفن ممتلئة ...يمكنكم الذهاب بالقوارب"
ردّ بجفاء وأشار الى الجهة الأخرى...!!
عدتُ الى عائلتي مطأطئ رأسي أسفاً على حالنا...أخبرتهم بما دار بيننا...ربتت خالتي على ظهري وقالت:
" لا تهتم المهم أن نصل بالسلامة"
أثناء سيرنا متجهين الى الطرف الآخر الخاص بالقوارب...أخذت خالتي (شادي) من أمي لتريحها قليلاً...قلت بتعجب :
"أمي ..مضى على خروجنا بضع ساعات , لماذا أخي ما زال نائماً؟! ألم يشعر بالجوع!؟"
ردت ضاحكة:
"أخيك يمضي نهاره نائماً ويقضي ليله ساهراً...ميعاد صحوته للطعام عادةً يكون ظهراً"
تبسمتُ لهذا الصغير الذي لم يشاركنا بمغامراتنا اليوم وهو يغطّ بنومه وتابعت طريقي..
" ها هي الغنائم تزداد"
قالها الرجل الخمسيني بمكر, المسؤول عن ختم الأوراق واستلام النقود عند إقبالي عليه...
ففي هذا المرفأ خاصة تتم اكبر عمليات لتهريب البشر, السلاح والمخدرات!!
الإنسانية معدومة...المهم جني الأموال ولو كانت بالحرام على حساب الأرواح !!
أخذ نصف المال الذي بحوزتنا جوراً وأشار للقارب المنشود!!
تأملته!! أكاد أجزم أنه استخدم في الحرب العالمية الأولى ولربما كان في عهد السلاجقة من الوضع القائم عليه !!
بدأ الناس في الصعود الى القارب الكبير الرث ..هممت بمساعدة أمي فشعرت بقبضة يدها تضغط على ذراعي بقوة وأسنانها تخبط ببعضها ارتجافاً....حبيبات عرق تلمع على جبينها!!...رباه!....تذكرت عند خروجنا للساحل كيف كان ابي يحاول اقناعها للنزول للبحر وهي تأبى لأنها تعاني من رِهاب البحار سببه غرق شقيقها امامها في الماضي البعيد!!..اما انا لم اكن اهتم حينها وأواصل سباحتي كأنني اريد ابتلاع البحر الى جوفي من شدة تولعي به.
حبيبتي يا أمي!...ليتني طائرة تحلّق بك في السماء ..تبعدك عن غدر المياه..!!
الجميع الآن في القارب...أمي ما زالت تتشبث بذراعي...أشعر بحرارة جسدها....تغمض عينيها...تصك على فكّيها ...أحاول أن اهدئ من روعها ...بدأت بترتيل ما تيسر من القرآن الكريم هامساً باذنها:
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
↚
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ(8)}
آيات أشعرتني بارتخاء أعصابها وسكون ملامحها....
التفتّ حولي علّني أرى وجوهاً اعرفها....لكن لا محال!!
فادركتُ أننا نحن الآن ننشئ عائلة جديدة واحدة...لا بيت لنا ولا مكان ..يجمعنا فقط ربنا الرحمن...
كنتُ القي في نظري بين العيون وأرى من بحور الآهات ما لا يتّسع الكون....
" بسم الله مجراها ومرساها...سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا الى ربنا لمنقلبون"
كلمات أطلقتها مع انطلاق القارب الساعة الحادية عشر والنصف قبل الظهر....
رفعت رأسي محدّقاً بعينيّ أكحلها بنظرات ربما الأخيرة التي أرى بها الوطن.....بدأت أصوات الضجيج في الميناء تنخفض.......نحن نبتعد........الناس يختفون من الساحل..........الأشجار تنحجب عن الرؤيا.........البنايات تنصهر.........وآخر ما رأت عيني مآذن بيوت الله .......ومن ثم كل شيء أصبح فضاء........نحن محاطون في المياه.......الجو ساكن......الناس نيام من شدة الإرهاق!!........وبين الفينة والأخرى أسمع فقط اصطدام الأمواج في القارب...
أمي تحتضن أختي وكلتاهما نائمتان...خالتي تحمل أخي ومعركة تدور في عينيها بين النوم واليقظة.....عجوز تتكئ على كتفِ زوجها...زوج يسند رأسه على ساق زوجته...أطفال يغطون في سبات....لكل منا غصّة تؤلف منها قصة...
ألآن نحن في وسط البحر...أرضنا الماء وسقفنا السماء.....أصبحنا في نقطة
لا مكان لا وطن..!!!
لا نعلم أي الاتجاه هو الاقرب لليابسة...
شعرت بالملل قليلاً وليتني ما شعرت...!!
بدأ يتململ (شادي) في حضن خالتي....تدفعه معدته ..تصرخ من الداخل حان وقت الطعام....مترجمة صرخاتها برناتٍ تخرج من حنجرته!!...واخذ يشدو لنا من ألحانه...فذهب الملل الذي راودني قبل قليل.....
أيقظتْ خالتي أمي من نومها قائلة:
"عائشة هيا حضّري وجبة شادي"
فتحت أمي الحقيبة وقالت بحيرةٍ:
"أين الزجاجة؟!َ..أنا وضعتها هنا!!"
ردت خالتي:
"انظري جيداً وتفقدي الحقيبة الكبيرة لعلّها هناك"
"مستحيل انا أغلقت الحقيبة مساءً ووضعتها جانباً"
قلت أنا:
"سأنظر يا امي لا عليك"
فتشتُ جيداً وبكل اسف لم اجدها!!...ازداد بكاء (شادي)...خالتي تهزّه علّه يهدأ....قاومَ واستمر بعزف الحانه..!!
تفقدتُ باقي حقائبنا..حتى حقيبتي التي لا تكاد تتسع لبعض الأوراق آملاً أن اعثر عليها فيها...لربما تحولت الزجاجة لورقةٍ يمكن طيّها!!؟؟
انتهى اخر امل لنا بعد ان صفعت امي جبهتها تُخرج بعض التمتمات:
" يا الله ساعدني...لقد نسيتها في المطبخ بعد غسلها !! ماذا سأفعل؟؟"
وانتقل الشتاء الى عيونها يغرقها بأمطاره!!
صرخت خالتي تؤنبها:
"ماذا فعلتِ؟؟ أين الزجاجة؟؟ أنت تعلمين أنها أهم ما نحتاجه!! هي مصدر الحياة لشادي!!...ماذا سنفعل الآن ونحن في وسط البحر والله وحده يعلم متى سنصل الجهة المقابلة"
أنهت خطابها وانفجرت بالبكاء حسرةً على الحال الذي وصلنا اليه...
انهارت امي مكانها...تركت جسدها يهوي في قاع القارب...تشرد في عالم آخر تنظر الى اللا وجود....
أما انا ضممتُ اختي الى صدري... احدّق بالصغير القابع في حضن خالتي من غير حول ولا قوة مني....أكابر لحصر الدموع في عينيّ....
استجمعت خالتي قواها وتوجهت لأمي وسلّمتها اخي....وصُعقنا بقولها:
"هيا يا عائشة ضميه الى صدرك لتشتمي أنفاسه الأخيرة"
وشرعت بالبكاء....
~~~~~~~~~~~~~
"ولا الضالين ....آمين"
مسحت على وجهها بعد أن انتهت من قراءة سورة الفاتحه لروح والدتها...انها السورة الوحيدة التي حفظتها من اجل قراءتها لها!!... ..قلبت كفّيها البيضاوين الرقيقين ....تتأملهما ...تدقق بهما ..تقارنهما ببعضهما....وهما يرتجفان ...كأنه البارحة ...كأنه لم يمر خمس سنوات عليهما وهي تشعر بلهيبها ....سافرت بها الذكريات المضنية الى ذلك اليوم....بدأت طبول قلبها تتصارع ....يعلو ضجيجها ..يعلو ....يعلو.....لم تعد تحتمل ....اغلقت اذنيها بقبضتيها....تشد عليهما ....تحاول اقتلاعهما...ليذهب ذلك الصوت الذي يتكرر صداه....لا ينفك عنها... شفتاها ترتعشان وكأنهما في مستنقع جليدي بأحد القطبين ....غامت عيناها...والطبول ما زالت تقرع ....دقاتها تلازمها وتستمر بالارتفاع...
"أمــــــــــــــي"
لحظات قليلة ودفعت الباب تفتحه بقوة بعد سماعها صرخة ابنة شقيقتها ...هجمت لاحتضانها ...تضم رأسها لصدرها ...تمسد على شعرها وتهمس بِشَجا :
"بسم الله عليكِ حبيبتي ...بسم الله ...أنا هنا معك ...لا تخافي"
تمسّكت أكثر بخالتها وهي تشهق رعبا وشلال عيناها ينهمر دون توقف تهمس بحروف متقطعة:
"أ أريد أمـ ـي ...خـ ـذيني اليها"
تقبّلها من رأسها بحنان ...تضمها اكثر وتقول :
"حسنا حبيبتي ..سنذهب اليوم لزيارة قبرها مثل كل سنة "
أزاحت رأسها عن صدرها ...تضع اطراف اناملها تحت ذقنها...ترفعه لها ...تنظر لعينيها بعطف ومحبة مبتسمة وتضيف:
" ماذا تريد الجميلة اليوم لنوّزع عن روح والدتها؟؟"
برقت البراءة في حدقتيها وشقت ثغرها ابتسامة بعد ان استكانت بأحضانها وأجابت:
" أريد أن نشتري ملابس الشتاء للأولاد المحتاجين "
" مممم ...حسناً اختيار موفق صغيرتي....اذا نذهب قبل العصر للتسوق وبعدها نبعثها لجمعية (بصمات خيرية)"
"وذاك المكان خالتي ؟!"
" لا هذه المرة سيكون لتلك الجمعية فهي تختص بأولاد المدارس المحتاجين ..من ملابس... مونة ...ولوازم مدرسية "
"لكنك وعدتني خالتي!!"
" الخير بما هو آت صغيرتي لا تتعجلي "
اطمأنت على صغيرتها وتركتها في غرفتها ثم خرجت بِعزم تقصد مكتبه بعد أن قطبت حاجبيها تترجم ضيق صدرها قهراً من تصلّب رأيه بجهالة بحجة المحافظة على سمعتهم لئلا يقول الناس ابنة ( عاصي رضا) مجنونة ومختلّة عقلياً....
" ادخل.."
صرّح بدخول الطارق والتي لم تكن غيرها...السيدة (فاتن)
" صباح الخير.."
" صباح النور....خيراً؟...أم جئتِ لتذكريني بهذا اليوم المشؤوم ؟"
ردت باقتضاب :
" لأذكرك بعواقب اليوم المشؤوم"
ترك القلم من يده وأعاد ظهره للخلف...يرفع يديه للأعلى يريحهما....يميل زاوية فمه بسخرية ويهتف:
" ألا تملّين من تكرار هذا ؟؟....أنا قلت كلمتي ...لا داعي لطبيب نفسي ...غداً تكبر وتنسى "
طرقت طاولة المكتب امامه بطرقات متتالية بقبضة يدها ,حانقة ,تقول بخفوت من بين اسنانها:
"أنا لا افهم كيف تحبها ولا تراعي حالها...انت تؤذيها....هذا لمصلحتها ...كل ذكرى تعود لنفس الحالة ناهيك عن الأيام العادية التي تسمع بها أصوات مشابهة "
أجاب بصرامة منزعجا من اتهامها له:
" أنا أدرى بمصلحة ابنتي...أتودين أن ينعتوها بالمجنونة والمختلة ؟؟....لن أسمح بهذا ابداً....كلنا نتعرض لصدمات ونخرج منها دون داعي لأطبائك الذين أجزم انهم هم المصابون وينقلون عدواهم لزبائنهم"
استقامت بوقفتها تزفر أنفاسها بيأس تنظر للسقف تهز رأسها مستغفره:
" يا الله نفس الأسطوانة ...أين التحضّر والثقافة التي تدّعيها ؟؟...أَكُلّ هذه الكتب التي خلفك لم تستطع تغيير فكرك المحصور بجهل الماضي الذي بسببه تتدمر المجتمعات ...ماذا تركت للأميين ...كيف سنبني مجتمعاً مزهراً ومتعاوناً ونحن نبخس هذه الأمور التي لها دور بإصلاحه ؟؟"
استدار بكرسيه الفخم المتحرك واقترب من درج المكتب الجانبي يخرج غليونه يشعله يقول ببرود متهكماً :
"أأنهيتِ محاضرتك أستاذة التنمية البشرية ؟؟....فأنا لدي أعمال تفوق طموحك ومجتمعك المزهر هذا !!"
ولته ظهرها مدبرة ...مستاءة من تفكيره المتحجر ...فكم حاولت إقناعه لمصلحة المسكينة لكنه لا يتنازل عن مبادئه وأفكاره بجهل وعنجهية وجميعها كي لا يُخدش اسم (عاصي رضا ) ....فهذه العقول التي تقود المجتمع للهاوية بادراك وغير ادراك...عندما لا يعطون قيمة لكل ذي علم علمه ليقوم بدوره وينهض بالأمة ولو بشيء يسير حتى يلحقه بالأكبر!!...
صعدت تجهز نفسها و(ألمى) استعداداً لهذا اليوم الحافل...
~~~~~~~~~~~~
" أخبرني كيف تجري الأمور معك ؟؟"
" ها أنا استعد للانطلاق"
" أنا اثق بك اخي ماجد ...ضعهم في عينيك ولا تخذلني"
شدد السيد (سليم) بطلبه يؤكد عليه بالاهتمام بنا عند استقباله لنا في المرفأ...
" لا توصِ حريصاً اخي سليم"
ردّ يعطيه الاطمئنان...
~~~~~~~~~~~~~
عيناي خرجت من بين جفوني ....قلبي انهار على قدمي....تبخّرت الدماء في عروقي....هل أنا وسط كابوس؟!..أم أنني أقدّم لامتحان بلغةٍ لا افهمها ومواد لم أدرسها!!...يكون النجاح فيه الحياة والسقوط فيه الموت!!...هل نحن مُجبرون على عيش ذلك ؟!....كانت تساؤلات بائسة بعد صدمتي بكلام خالتي...نفضت وساوسي مستغفراً ثم تذكرت قوله تعالى :
{{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ }}
"انا لله وانا اليه راجعون"
هذا قدرنا ونصيبنا...ما باليد شيء نفعله...واجب علينا أن نرضى بقضائه....
لن أجزَع ولن استسلم ...تحدّيت نفسي قائلاً كما قال (علي بن ابي طالب رضي الله عنه):
[سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبري .. سأصبر حتى ينظر الرحمن في أمري... سأصبر حتى يعلم الصبر أني صبرت على شيء أمر من الصبر...]
اقتربت من أمي وجثوت أمامها...كانت تضم أخي لصدرها...تحاول ادخاله الى جوفها...تُخَزّن أريج أنفاسه البريئة بفؤادها!!...تضمه ضمة حب ..ضمة أم مقهورة ...وضمة وداع ....
في هذه الأثناء كان قد دخل في نومٍ عميق بعد أن أنهكه البكاء فترة من الزمن...حاوطت رأس أمي بذراعي أدفنه بصدري ...أمسّد عليه ...أقبّله ..هامساً لها بأمل:
" لا تحزني ان الله معنا...ما خاب عبداً قال يارب...فقط قولي يارب"
حررتْ رأسها من حضني ..ترمقني بنظرة استسلام ورجاء...وتنهدت تطرد وجعها الذي يحتل صدرها وهمست بصوت يخرج من أعماقها:
"يااا رب"
مضت نصف ساعة على هذا الحال....قرأتُ على وجه (دنيا) الملل, الذي تجمّع عليه التراب الأسود مختلطاً بالدموع ليخُطّ لنا خارطة ربما ترشدنا الى ضالتنا..!!!
أشرتُ لها أن تتجه الى مقدمة القارب الطويل لعلّها تجد من تؤنسها في سنها...استجابت لي متجهة حيث أمرتها وهي تضم دميتيها تحت إبطيْها وتمسك بيدها شطيرة تأكل منها من اللاتي في حوزتنا زاداً للطريق...!!
تتبعتها أختلس النظر اليها...اراقب حركاتها ...فأنا متفرغ وليس خلفي شيئاً أفعله ...تبسمتُ مرتاحاً بعد أن رأيتها تقترب من فتاة في عمرها ... يبدو عليها الفقر والبؤس!!...(دنيا) هي طفله مرحه في طباعها , شجاعة لا تهاب أحدًا, جريئة واجتماعيه....ورثت جمال عمتي وشخصيتها كذلك....تمتلك بشرة حنطية مثلي شعرها بني مموج بملمس ناعم وعيناها واسعتان بلون الشهد...
" ما اسمك؟"
سألتها بثقة وهي تقضم من شطيرتها...
"سلمى"
"أنا دنيا...هل تلعبين معي في الدمى خاصتي؟؟"
أكثر ما يجذب الأطفال في هذا السن هو الألعاب!!...أما تلك الطفلة لم تنزل عينها عن الشطيرة في يد شقيقتي...تبتلع لعابها...ثم اومأت رفضاً لطلب (دنيا)..
أيها الجوع البغيض كيف سوّلت لك نفسك لاقتحام هذه الروح البريئة ؟؟ أتتقاوى عليها ؟؟ ألا تعلم انها ضحية تشرد ؟؟...لمَ لا ترأف في حالها ؟؟
" اذا اردتما ان تصبحا صديقتين فيجب أن تفعلا كما فعلنا أنا وصديقي سامي"
هتفت بعد ان جالت في بالي فكرة كي لا اجرحها او احرجها عند اقترابي منهما.....
قاطعتني (دنيا) متلهفة:
"ماذا فعلت أنت وسامي؟"
" تقاسمنا طعامنا في يومٍ ليصبح بيننا خبز وملح...وانت تعلمين كم هو قريب مني "
تبسمت وتابعت:
" لذلك هيا تقاسما الشطيرة لتصبحان مثلنا"
قفزت هاتفة تمد يدها نحوي تعطيني الشطيرة لأقسمها :
"اذاً ستصبح سلمى صديقتي وستلعب معي"
ارتسمت ابتسامة نقية على وجه الطفلة وأنا أناولها نصيبها بعد ان قطعتها نصفين...وقالت:
"اشكرك يا اخي "
اعدت لها البسمة هامساً:
" صحه وعافية ..انا اخوك هادي"
اقتربت من (دنيا) وقبّلتها على خدها تشكرها وبدأتا باللهو واللعب بكل بهجة وسعادة....
دقائق أخرى سُحقت مع الزمن فعاد الصغير للبكاء....قصدتُ مؤخرة القارب لأخذه من أمي أتناوب في حمله وعدتُ حيث تلهو الصديقتان....أشارت (دنيا) الى أخي تُعرّف (سلمى) عليه...فقالت الأخيرة:
"وأنا لديّ أخت صغيرة...لكنها اكبر منه بقليل"
صمتت قليلاً وتابعت بعدها بحماس:
" هيا تعالي معي لأعرّفك عليها وعلى امي"
لحقتُ بهما بعدما توجهتا الى والدة (سلمى)....كانت امرأة تبدو بالثلاثينات من العمر ...في حضنها رضيعة ابنة شهور....رغم حالتها الرثّة الا ان عينيها فيهما القوة والصمود والكبرياء!!....فقدت زوجها في السنه الماضية وهي حامل بصغيرتها عندما كان يحرث أرضهم الزراعية قرب الحدود بعد ان انفجرت فيه عبوة ناسفة متروكة بالقرب من ارضه.....
صاحت (سلمى):
" امي امي هذه دنيا صديقتي الجديدة ...تقاسمت معي شطيرتها"
اومأت بإصبعها نحوي مضيفة:
" وهذا شقيقها اخي هادي والصغير شادي"
رحبت بنا ( ام سلمى) ممتنة لنا لإطعامنا ابنتها ثم قالت بعطف بعد ان شد انتباهها بكاء اخي المتواصل:
"يبدو ان اخيك يتألم وان لم يكن كذلك فبالتأكيد جائع.....خذه لوالدتك لتطعمه...مسكين"
احمرَّ وجهي قهراً...ابتلعت لعابي محاولاً ان اخرج أي كلمة!!...لكن لساني بقي أسير الفكين!!
براءة ونقاء الأطفال تُجبرهم على عدم إخفاء شيء او وزن الأمور بشكل صحيح....
ففي هذه اللحظة قفزت (دنيا) وكأنها تتسابق لنشر سبْق صحفي وحدث تاريخي يغير مجرى الكون..!!....هتفت موجهة كلامها للمرأة:
"امي تركت زجاجة أخي في البيت وهي لا تستطيع ارضاعه"
أصابها الجمود!!...لم تحرك ساكناً...وجهها يعبّر عن صدمة مختلطة بشعور الاحراج لتسرعها دون ان تفقه شيئاً...شعرت انها سكبت الملح على الجرح...لكنها سرعان ما تفادت الموقف مبدلة ملامحها من العبوس الى المرح هاتفة:
" انا لديّ الحل!!"
عطايا الله لا حدود لها....تشتد وتشتد لتفرج بواسع كرمه...فلا تقنطوا من رحمة الله!!
لم اصدق!! كنت كأنني دخلت حلم احلق فيه بالسماء الصافية ومن تحتي انهار ومروج خضراء بعد ان تبرعت بكل حنان وإنسانية لترضع اخي بقلبٍ خالص ينبض بروح العطاء ....يا الله ما اكرمك....
أخذته مني واعطتني صغيرتها (سلوى) ريثما تنتهي.....مرت عشرون دقيقة قضيتها بمداعبة الجميلة ابنتها ....
"انظر الى اخيك كيف اصبح بشوشاً ووجهه يشع نضارة....ليحفظه الله كان يتضور جوعاً المسكين"
قلت لها بامتنان كبير:
" جزاك الله خيراً يا خالة....لا اعلم كيف سأرد لك جميلك هذا"
" لا تقل هكذا يا ولدي فخيركم سابق....انا بالخدمة متى احتجتموني"
ابتسمت لها حياءً رامشاً بعيني معبرا عن جزيل شكري وقصدت مجدداً مؤخرة القارب حيث تمكث امي وخالتي.....
"انظرا الى شادي "
هتفت لهما وهما تحتضنان بعضهما مستسلمتان لأمر الله.....
نظرتا سويا للصغير في حضني ترمقاني بنظرات ما بين الذهول والاستنكار لسكونه رغم استيقاظه!!...وبعد ان اخبرتهما بما جرى قفزتا تسحبانني لأخذهما للمرأة الشهمة لتشكراها ...خطفت امي صغيرها من حضني بعد ان عاد وجهها للحياة...تضمه تقبّل كل خلية فيه حامدة الله على عطاياه....
×
×
×
ما زلنا في منتصف البحر....بدأت الرياح تشتد....تحمل معها غيومًا سوداء!!....من شدة سوادها تظن ان الليل قد حلّ وقت الظهيرة!!...تعصفُ بنا ذات اليمين وذات الشمال!!...ترمينا بضوء البرق الذي يشقّ السماء ثم تنهيهِ بصوت الرعد الذي يخترق الآذان...تخبرنا أن الأسوأ قادم!!..غير مكترثة لحالي وحال أولئك البؤساء.....
امتزجت أصوات الرعد بأصوات صرخات الركاب!!...يندفعون تارةً الى الأمام وتارةً الى الخلف...وجوههم مكفهرّة...كانوا مثل بقايا لبن في قعر زجاجة ترجّها يدٍ قوية بعنف....علا الضجيج وأنا لا أميز من اين مصدره؟!!؟...هل هو من السماء ام هو من المياه؟! هل كنّا في هدوء ما قبل العاصفة؟! هل حقاً انتهى الأمل واقترب الأجل؟؟!!
~~~~~~~~~~~~~
في بلادنا الأم ما زالت الحرب في أوجها ...يحاول الجنود السيطرة على الحكم ...والثوار يجاهدون للتصدي لجبهتي الجنود وحلفاء الحكومة المنفكة....حرب شعواء تضحي بابناء وطنها ...فوضى دون أي رقابة ...تحول الوطن الى غابة للوحوش ...البقاء للاقوى بعضلاته وعتاده وليس للأحق ....ما زالت الدول صامته ولم تحاول التدخل ....لم يضع احدٌ حدًا ويوجههم لطاولة المفاوضات لإيجاد حلًا يرضي الجميع!!!
بعد ان اجتاح الجنود مدينتنا الجبلية اعتقلوا بعض الشبان لاشتباههم بانتمائهم للثوار ....مبادئ محكمتهم عكس العالم...فأولاً العقاب والعذاب وبعدها اذا لزم الأمر يباشرون بالتحقق من تهمهم ان كانوا بُرئاء ام لا....محظوظ من وجد سندًا كبيرًا له كأهل لهم مكانتهم ومال... وتعيس من افتقر لذلك.....لا نعلم لأين سيصل الحال بوطننا المطعون!!!....اللهم الفرج....
~~~~~~~~~~~~~~~
تستلقي على فراشها في غرفتها حزينة ...تضمُ دبّها الكبير الأبيض لحضنها....تتكئ برأسها عليه....تلتمس دفء احضانه باردة المشاعر بعد ان عادت هي وخالتها من مشاويرهما....مع أن هذا يوم مشؤوم يكون فيه البيت بحالة حداد الا انها عادة تشعر ببعض الدفء فيه لالتزام والدها على مدار الاربع سنوات السابقة حيث يقوم بتفريغ نفسه من اجلها, يصطحبها لزيارة قبر والدتها ومن ثم ينزهها ويختم يومها في غرفتها يداعب شلالها الأسود... يقصّ عليها قصة حتى تستسلم للنوم!!...أما هذه السنة بالذات يبدو انه نسي او تناسى تلك الذكرى وفضّل مرافقة ملفاته الكئيبة عليها!!....فحتى هذا اليوم الخاص باتت تفقده ليختفي بين أيام السنه المتشابهة بنظرها لتتخذ بديلاً عن والدها ذلك الدب الذي تثق بأنه لن يتركها ويرحل , ويبقى صقيع حضنه اقرب لقلبها من حرارة مشاعره المحرومة منها....
في مكتبه بالأسفل دخلت زوجته تخبره بآخر المستجدات بشأن انتقال عائلة صديقتها لتلك البلاد حيث يقيمون, بعد ان اطلعته سابقا عن سيرة حياتهم وأعمال (رائد السيد) الوفيرة وانجازاته في عالم رجال الأعمال في تلك القارة....كان يسمع به لكنه لم يكن يهتم لأنه بعيد المنال....اما الآن الكنوز تقترب ويجب اقتناصها....
" غدا وقت الظهيرة سيكونون في المطار "
قالت (سوزي)....
" جيد سأبعث السائق كما اتفقنا لينقلهم للفندق لكن عليك تأكيد ذلك عليهم"
"بالتأكيد....وماذا بشأن البيت؟؟...لقد سألتني ان وجدنا ما يرضي طلبهم "
" سأخبرهم كل شيء بعد لقائنا بهم"
اومأت برضى ودقات قلبها تتراقص فرحا ثم انصرفت لتهاتف صديقتها....
~~~~~~~~~~~~
بلبلة عارمة على ظهر القارب!!...المطر يهطل بغزارة ...وصرخات الركاب المرعوبة تجلجل المكان... نحاول حصر النساء والأطفال والكهلة بشبه سقف متواجد وسطه لنبقى نحن الشبان تحت الفضاء نتلقى الامطار...
أيها القارب المسكين ..هل صمدت من الحرب العالمية لتعيش حروباً أخرى؟؟
"يكــــفي ..اصمتــــــوا!!"
وساد الصمت فجأة بعد أن صرخ بها رجل في الاربعينات من عمره.....
جميعنا ننظر اتجاهه بعد أن نجح بإخراج صوته رغم الضوضاء التي عشناها...فتابع بأعلى صوته :
"نحن الان في منتصف البحر لا نعلم أي اتجاه ذاهبون...يجب علينا ان نتكاتف ونتعاضد ونفكر كيف سنخرج من هذا المأزق؟!...لا وقت للذعر والاستسلام !!.....فكروا وادعو الله ان ينشلنا من مصيبتنا وتفاءلوا..!!"
انقشعت الغيوم بعد عدة دقائق ليتوقف المطر , تاركة وراءها مياه تغرق أرضيته...
" الان وقت صلاة الظهر...من كان على وضوء فليشاركنا بصلاة الجماعة جمع قصر ونتبعها ركعتان بنية رفع البلاء عنا وإزالة الغمة "
هتفت بها بعد ان تقدمت جانبه وبعدها اتجهت الى المقدمة لأؤُمّ بالمصلين....
بعد انتهائنا منها بدأنا بالتفكير بحلول ....فصرخ السائق:
"أمامنا ساعة ونصف للوصول....امتلأ القارب بالمياه وازداد حِملاً فوق حمله!!...."
ابتلع ريقه وأكمل:
"من الممكن أن يبدأ بالغرق بعد نصف ساعة!!"
عاد الهلع والذعر للركاب...علينا إيجاد حلول فورية وسريعة....
كان ما لمع في عقلي وأدليْت به:
" نحن على شفا جرفٍ للغوص في أعماق البحر...لذا لو سمحتم وكلي ثقة بكم ان تساعدوني لإلقاء ما بحوزتنا من حقائب كبيرة واغراض ثقيلة يمكنكم الاستغناء عنها"
جثوتُ أحمل حقيبتنا الكبيرة التي تحوي داخلها أغراضاً لأخي وأحذية لنا وبعض الأغراض الأخرى فسحبتها امي رافضة قراري....نظرت لها برجاء وهمست :
" ارجوكِ يا امي لنفعلها اولاً ليقتدوا بنا...أو سنموت جميعاً"
وافقت على مضض تدعمني مجبرة.....مسّدتُ وجنتها هامسا بهدوء :
" رضاكِ يا أمي "
ثم القيت الحقيبة بالبحر ليتبعني الجميع بإلقاء ما في حوزتهم من حقائب كبيرة واغراض ثقيلة ولم يتبقى معنا الا شيئاً يسيراً...
" من منكم يستطيع السباحة؟؟"
سأل الرجل الأربعيني يقصد الرجال والشبان...
أجبته باندفاع من غير تروّي:
"أنــا"
ولحق بي أربعة شبان آخرون....أضاف متفائلاً:
" ممتاز وأنا كذلك !!...اذاً سنقفز ثلاثة في البحر نعومُ لعشرة دقائق نلحق القارب ومن ثم نتبادل مع الثلاثة الآخرون....علّنا نساعد في تخفيف الوزن...."
رغم البرد الا ان هوسي للسباحة أنساني هذا وبالطبع النية في المساعدة.....لكن صوت أعرفه اخترق اذنيّ بفزع:
"أنا لا اسمح لابني فعل ذلك!!....البحر هائج والجو بارد وهذه مخاطرة كبيرة"
إنها أمـي...!!
جدالٌ قصير بين الرجاء والرفض أبطاله انا وامي والرجل الأربعيني سيكتب نهايته شيء ما.....
على طرف القارب في زاوية جانبية رجلٌ عجوزٌ وزوجته يشبكون أيديهم ببعض ويفترشون الأرض...وجوههم ترسم الحزن والهمّ...عيونهم تصرخ وألسنتهم صامتة...تحدّوا الامراض ليعيشوا يوماً هنيئاً بصحبة أبنائهم واحفادهم....لكن القدر سطّر لهما حكاية أخرى...
فقدوا جميع افراد الأسرة إثر سقوط صاروخ غادر على بنايتهم السكنية التي تجمعهم أثناء تواجد هذين العجوزين في المشفى لإجراءات روتينية....
رفع العجوز راسه وسلّط انظاره الى وسط القارب حيث نقوم بمسرحيتنا أنا وأمي وهمس شيئاً في اذن زوجته مما جعلها ترسم بسمة وتومئ برأسها القبول...
ما هي الا لحظات قليلة نسمع بعدها ارتطام قوي يأتي من ذاك الطرف يصحبه رذاذ الماء الذي يتطاير بالهواء بكثافة..
هنا توقف الجدال...توقفت افئدتنا عن النبض ....وقفنا جميعنا مذهولين...مصدومين...لا نعي شيئاً مما رأينا....وشهقنا بصوت واحد :
" لااا ماذا فعل هاذان ؟؟"
كان مشهدًا موجعًا يدمي القلوب لدرجة انني شعرت بالاختناق ....تأملت مكان جلوسهم اعاتبهم بيني وبين نفسي كأنهم يسمعانني!! لم فعلتم هكذا؟؟ لم استسلمتم لليأس؟!
لمحتُ على طرف القارب قرب موضعهم شيئًا مكتوبًا بالاحمر ولم يخفَ عني انها دماء...اقتربت لأرى وإذ به اسمان والأكيد اسميهما [ سامحونا...سليمان وأمل]
لربما كانت دماء من جرح اصابهم لم ننتبه له...
" انا لله وانا اليه راجعون....رحمهما الله وغفر لهما"
هذا ما دعونا به....
مهما بلغ بنا الحال ومهما اشتدت المصائب علينا وضقنا ذرعاً...ممنوع الاستسلام لشياطين اليأس!!.....لا اعلم كيف يستطيع الانسان وضع حد لحياته مهما كانت؟!
الله وهبنا إياها ووحده يقبض ارواحنا متى شاء....
أرجو من الله أن يتجاوز عن فعلتهم هذه ويرزقهم الجنة .....
هذه الحادثة جمّدت عقولنا عن التفكير في الحلول مدة من الزمن.....كنتُ شاردًا بنظري الى الماء....فجأة وجدت نفسي محاطًا بأغراض عديدة!!
حقائب....ملابس....زجاجة رضيع تطفو....أطواق نجاة؟َ!!...ومن ثم قارب مطاطي يكُبّ على وجهه من جهة وفي الأخرى يبدو انه بقايا قارب آخر...
وماذا بعد؟؟!!
جثة..
فأخرى...
فأخرى...
نقترب أكثر والجثث تزداد....
قوّست فمي ساخراً لفطنتي....
لا بدّ أننا داخل مشهد تمثيلي لفيلم صُنع هوليود!!
بحثت عن المُخرج ...لم أجده...نظرت يمنة فيسرة علّني التقط آلات التصوير ولم اجدها.....تساءلت عن الأبطال والمنتج!؟...لم يرشدني أحد...
خجلتُ من فطنتي هذه وقوّست فمي للأسفل حزناً بعد ان تلقيت اجاباتي..!!
نعم نحن في مشهد....!!
انما مشهد حقيقي لمأساة من صُنع الحرب....مخرجها الخونة...آلات تصويرها عيوننا وعقولنا.....أبطالها أناس أبرياء اقصى نجوميتهم أن ينعموا بالسلام والأمان....منتجها قوارب ضعيفة غير آهلة للتنقل....
الى جنات الخلد يا شهداء الوطن...اذهبوا بسلام الى رحمة الله....أنتم السابقون ونحن اللاحقون.
صعاب واجهتنا وتخطيناها بفضل الله...البعض أخذ غفوة والبعض أصيب بالزكام وآخرون اشغلوا أنفسهم بالدعاء وترتيل ما تيسر من الذكر الحكيم...رحلت دقائق أخرى وتركت لنا ما تبقّى للوصول....
" الحمد لله على سلامتكم"
أجمل عبارة سمعتها في رحلتي العصيبة نطق بها السائق...
أحقاً وصلنا اليابسة بالسلامة من غير خسائر إضافية بأرواحنا؟؟!!
قفزت من القارب ساجداً على الأرض شاكرا لله....وبعدها ساعدت عائلتي بالنزول واخرين....
كل عائلة ذهبت تشقّ طريقها ...تسجل أولى خطواتها نحو اللجوء....تعانقنا...تسامحنا... شكرنا بعضنا بعد رحلة عناء دامت ما يقارب الأربع ساعات....
كان من المفروض حسب اتفاقنا ان يستقبلنا الرجل التابع للسيد (سليم) لينقلنا الى المكان الذي سنقيم فيه .....بحثنا هنا وهناك لنعثر على إشارة ترشدنا اليه !!...ولا اثر لشخص ينتظرنا.....الآن لحظة الوداع بيننا وبين عائلة ( ام سلمى).....عناق شديد...عبارات امتنان...من بعدها خلعت امي إسواره كانت ترتديها لتهديها لها شكر وعرفان على ما قدمته لنا بحق أخي فلقد كررت معروفها عدة مرات اثناء الرحلة ولم تقتصر على الاولى فقط.....بدا على وجهها الاستياء ورفضت رفضاً قاطعاً قائلة لها:
"أنا اطعمت لله ولا اريد جزاءً او شكورا...اولادك احقّ بها"
" بارك الله بكِ وأتمنى ان نلتقي في ظروفٍ اسعد...اعتني بنفسك وبالصغيرات"
" وانتم كذلك اعتنوا بأنفسكم...حفظكم الله أينما كنتم"
اما الصديقتان كانتا تنظران الواحدة للأخرى نظرات حزينة , بائسة, يائسة....انهما امضيتا ساعات معا من غير كلل ولا ملل اسستا فيها صداقة جميلة وبريئة....لم تنطق أي منهما بكلمة لكني اعرف ان قلبيهما يتحدثان .....ترغبان بشدة الّا تفترقان...احنيت ظهري الى ( سلمى) اقبّلها من جبينها وقلت:
"استودعك الله يا اختي الثانية"
ودنوت من ( ام سلمى)لأقبّل صغيرتها (سلوى) وهمست للأم:
" لن ننسى معروفك معنا ما حيينا وأتمنى ان نلتقي والوطن يجمعنا"
تلك العائلة الصغيرة دخلت قلبي من غير استئذان بعد أن اسدت لنا فضلاً دون ادنى مقابل...
اوليتهم ظهري بعد سماعي احد الرجال ينادي:
" اختي ام سلمى هيا وصلت مركبتنا"
سرت في خطواتي متجهاً الى احد المقاعد القريبة واختي تمسك يدي...ومن خلفنا (ام سلمى) وابنتيها متجهات الى المركبة.....
افلتت (دنيا) يدها مني وركضت صارخة :
" سلمـــــــى"
فقابلتها الأخرى:
"دنيـــــــا"
ثم اقبلتا على بعض تتعانقان بشوقٍ مع بكاء تودعان بعضيهما ....
تفاجأت بعدها من شقيقتي تمد احدى دميتيها تعطيها لها قائلة بألم:
" خذي هذه لك وسمّها دنيا والأخرى ستبقى معي وأسمّيها سلمى...لكيلا ننسى بعضنا ابداً"
اشرقت بسمة تنير وجه (سلمى) البائس وقالت:
"سأذكرك دوماً يا اجمل صديقة"
ثم عادت الى المركبة تختفي عن انظارنا.....
جلسنا على المقعد ننتظر مصيرنا المجهول!!....لا أي علامة تدل على وجود شخص يبحث عنا !!!....يبدو انه بسبب ضياع تلك السفينة منا وعدم تواجدنا فيها ...فقد الأمل ورحل.....كان المرفأ يعجّ بالمهاجرين ومعظمهم يعرفون وجهتهم ....اما نحن لا نعلم اين نذهب واي جهة نقصد...لكن لا مناص مضطرون ان نفعل كما يفعل الاخرون والّا بتنا في هذا المكان وبرودة الطقس تقتلنا.....تقاسمنا بيننا اخر شطيرتين بحوزتنا....من الجيد ان خالتي قامت بتحضيرهم وكأن حدسها الهمها على ذلك.....فتلك السفينة الفاخرة تقدم وجبتين لزبائنها...لكن خالتي قررت ذلك خافت ان تطول الطريق على اليابسة حتى نصل السفينة وايضا كي لا تفاجئنا (دنيا) بطلبها ونحن في رحلتنا ,لان لا وقت محدد لطلباتها التي لا تنتهي من فرط دلالها ولا تصمت الا بنيل مرادها فهكذا عودّها والدي رحمه الله.....
نامت في حضن أمي ,والصغير في حضن خالتي.....ضجرتُ من جلستنا بلا هدف ....نهضت من مكاني أتجول في الارجاء ذهاباً واياباً....لمحت كشكًا صغيرًا يجلس داخله رجل كبير وبدا لي من ملامحه انه ليس من هذه البلد...اظنه لاجئ متجذر من سنوات ...دنوت منه ملقياً السلام فردّ:
" وعليكم السلام يا ولدي تفضل"
" هل لك ان ترشدني كيف أوصل الى مخيمات اللاجئين؟! لقد ضللنا العنوان ولا نستطيع الانتظار اكثر.."
نظر الى ساعة يده وقال:
" بعد نصف ساعة ستاتي الحافلات لتقلّ أفواج اللاجئين و وهي تأتي كل اربع ساعات.....انت وحظك فاحياناً تجد مكانًا لك واغلب الأحيان تكون ممتلئة لدرجة صعود البعض على ظهرها"
التفتّ بوجهي الى الخلف انظر الى الكتل البشرية الهائلة..فقال الرجل:
" كما ترى اليوم مزدحم"
" هل نحتاج تذاكر للحافلة؟"
" لا....ادفع بضع قروش عند صعودك لها"
شكرته وعدت الى مقعدنا واخبرت عائلتي بذلك....
وصلت الحافلات وايّ حافلات؟؟!!
↚
عند نظرك اليها تعتقد انها تختص بنقل الدواب والمواشي....الصدأ يأكلها.....نوافذ بلا زجاج!! أشبه بهيكل او قضبان السجن....لا تستطيع تمييز لونها فطلائها باهت من كثرة مكوثها بين المطر واشعة الشمس....اطاراتها تستغيث......خردة.!!....اطلقوا عليها اسم حافلات.....
قلت في نفسي " لا يهم المهم ان نصل ولو على حمار"
بدأ الجميع بالتوافد اليها ونحن فعلنا بالمثل....هذا يدعس على قدمك... وهذا يمسك بذراعك يدفعك للخلف...هذه تصرخ وهذا يلكُم...اصبع يدخل في عينك ويد تشد شعرك...طفل أضاع والدته وآخر يبكي...عجوز وقع عكازها....وامرأة انزلق حجابها......لا بد انه صراع البقاء.....
جلس من جلس ووقف من وقف ...بصعوبة حصلنا لأمي على كرسي ممزق مهترئ اسلاكه تطلّ من الجوانب ....وضعتْ (شادي) في حضنها .... خالتي و(دنيا) وقفتا على سلم الحافلة من الداخل....أما أنا وبعض الشبان تسلقنا على ظهرها...نتمسك بقضبانها بين الحقائب....الهواء يلفحنا ودخان الحافلة يخنقنا....اربعون دقيقة الى ان وصلنا الى المخيم القريب لازدحام الطريق بقافلة اللاجئين......
على اعتاب المخيم وقفنا...سمعت عن مخيمات لكن آن الأوان لأكون احد سكانها...الزمن دوّار...اليوم انا وربما غداً انت...لا ندري ماذا يساق لنا؟!
خِيَم بعضها ممزق وبعضها مرقع...تتنوع بين النايلون والقماش....لا تدري اين بدايته وأين نهايته....الطين في كل مكان!!....تختلط مياه الامطار بالمجاري القذرة....ذباب يغطي المكان....قوارض تسرح وتمرح......حشرات تحتفل بالغنائم البشرية....يا الهي لم استطع تحمل هذه الرائحة النتنة!!....تطرفت قليلا ابعد عنهم واخرجت ما في جوفي من غير ارادتي.....أمي تبكي حالنا...خالتي وجهها صُبغ بحمرة الغضب....اختي تبكي مشمئزة...فهي مثلي وُلدنا على ريش النعام وبافواهنا ملاعق ذهب....لم نعتد على هكذا مناظر....احتضنّا بعضنا بشدة لنستمد القوة ...كنا على وشك الانهيار من هوْل ما رأينا....وضع مزري جداً....
لفتَ انتباهي ساحة في وسطه محاطة بسلسلة حجارة بشكل مرتب....هذه أنظف بقعه فيه!!
اقتربت منها فعرفت انها مكان مخصص للصلاة....مصلّى صغير بديل للمسجد في المخيم.....رأيت بئرًا محفورًا بجانبه....لا بدّ انه من أهل الخير صدقات جارية عن أرواح موتاهم....خُصصَ للوضوء...توضأت لأستعد لصلاة المغرب لأن العصر كنا قد جمعناه مع الظهر في القارب....
[[ قُلبت الموازين وتحوّل قصري تراب
راودتني فكرة ..نهايتها كانت سراب
نزحتُ الى الشتات ..احتميتُ بالأغراب
تضرّعت لربي داعياً...تساءلت عن الأسباب
ارشدني يا الله واحفظ ليَ الأحباب
توضأت مقبلاً أصلي في المحراب
أثنيتُ جسدي ساجداً وقلبي طاف فوق السحاب
في الصلاة راحةً يهديها البارئ لمن أناب]]
عدت لأهلي بعد انتهائي من صلاة المغرب مستعيداً رباطة جأشي....كانت (دنيا) تنظر هنا وهناك بانزعاج وتبكي بحرقةٍ هاتفة:
" ما هذا المكان؟ اين سنعيش يا أمي؟! اريد بيتنا وسريري...."
أمي كان يبدو عليها الصدمة ...ملامحها باهتة وتدمع عيناها بصمت...رفعت بصرها لي هامسة بوَهن:
"سامحني يا بني...سامحوني يا اولادي...لا اعلم ماذا افعل وأين نذهب!!...لا استطيع فعل شيء..لا أستطيـــــــــــع"
صرخت باخر كلمة وازدادت بكاءً....أمسكتُ يدها وقبّلتها بحنان هامساً:
" لا تهتمي يا امي..ما كتب لنا سوف نعيشه..نحن لسنا افضل من غيرنا.....سنحاول النهوض معاً ويكفينا رائحة أنفاسك لنشعر بالأمان....فقط تحملي من أجلنا!!"
" نعم يا اختي....البكاء لا يفيد...يجب أن نتقدم ونسأل الله ان يفرجها علينا...أنت الان قدوة لأبنائك في تحمل المشقة.."
قالتها خالتي مواساةً لها فردت :
" انا اقلق عليهم...هم لم يعتادوا عيشةٍ كهذه...سقطوا فجأة من نعيم السماء الى جحيم الأرض..."
قلت:
" اذا حان الوقت الذي يجب ان نعيش الحياة بمرّها بعد ان تذوقنا حلوها.."
تنهدتُ مبتسماً مكملاً:
"لعلنا في امتحان اذا اجتزناه سنعيش افضل من السابق...لا احد يعلم"
ثم اردفت بجدية:
" ابي زرع فينا التواضع والتقشف بالحياة...يجب الّا يكون مجرد كلام ونظريات على ورق....بل جاء وقت تطبيقه على ارض الواقع ليجني فينا ثمار تربيته عسى الله ان يرفعه بها درجات.."
سُرّت من كلامي وارتسمت الطمأنينه في قسمات وجهها وهتفت مشجعة:
" لنبدأ رحلتنا نستعين بالله.."
توجهتُ الى طابور استلام اللاجئين الجدد خيمهم وتوابعها, وبعد طول انتظار حصلت على خيمة مرقمة بـ 86...نصبناها بمكان متطرف وجدته بصعوبة....وضعنا داخلها الأغراض وافرشة واغطية ونايلون سميك خاص كالحصيرة يغطي الأرض....رميتُ بجسدي للفراش الأرضي ...امدّ ذراعيّ وساقيّ وتنهدت قائلاً:
"اوف...وأخيرا سأرتاح بعد ساعات وساعات من الوقوف والسير المتواصل"
دخلت في النوم دون ان اشعر...غير مبالٍ ببكاء شقيقيّ ولا لاحاديث امي وخالتي....استيقظت بعد نصف ساعة على صوت يخرج من مكبر الصوت:
" هيا حان وقت وجبة العشاء...الرجاء الالتزام بالطابور والنظام....لا تنسوا جلب رقم الخيمة"
جاءت في وقتها..نحن نتضور جوعاً...فقفزت من مكاني وقلت لأختي :
"ما رأيك أن تساعديني في جلب الطعام؟!"
نظرت لي ..فكرت قليلا واجابت:
"نعم سآتي معك"
لا اعلم هل هي استسلمت للأمر الواقع ام وافقت للهروب من حالتها ....أم انها تدابير القدر؟!
ذكّرتني خالتي بإحضار زجاجة حليب ل(شادي)..فالجمعيات وظيفتها تلبية احتياجات اللاجئين بكافة أعمارهم.....انطلقنا انا و(دنيا) نحو ذلك الطابور الذي له اول وليس له اخر...وبجهدٍ ومشقةٍ حتى حجزت مكاناً لنا....
بدأتْ تتأفف بضيق وملل ..أنا اعرفها لا تطيق المكوث في مكان واحد ..حركتها زائدة...أخذت تجول في نظرها لتقضي وقت الانتظار بشيء يسليها.....كان على مقربة منا مجموعة أولاد يشكّلون حلقة...حفاة...ملطخون بالوحل...يقهقهون بصوتٍ عالٍ بسخرية ويشيرون الى وسط حلقتهم على شيء لا يظهر لي ما هو.....
اما (دنيا) غلبها فضولها وتوجهت اليهم تنظر للوسط .....وقع نظرُها على طفلة تجلس على الأرض...تضم ركبتيها لصدرها ...متشبثة بشيء في حضنها وتحاول إخفاء وجهها....مغطاة بالوحل من رأسها الى اخمص قدميها...تبكي ...تستنجد وهم يسخرون منها ويلقون الطين اتجاهها صارخين بنغمة:
"هاتي اللعبة....هاتي اللعبة....هاتي اللعبة"
زمجرت (دنيا) بحدةٍ ...رغم الرفاهية والدلال الذي عاشتهما الا انها تتمتع بالتواضع وتمتلك روحًا تحب الغير ولا تزكّي نفسها على أحد....اقتربت اكثر تطرد أولئك المشاكسون...شخصيتها قوية وعندها ثقة بالنفس مثلما ربانا أبي...لا تكترث لمن امامها...صاحت بهم وهي تمسك حجر بيدها:
"انصرفوا...اتركوها أيها السيئون والا رميتكم بالحجر"
فجأة توقفت البنت عن البكاء محدثة نفسها" هذا الصوت ليس بغريب!! هذا الصوت اعرفه..إنـ نـ نها....".ورفعت راسها صارخة:
"دنيــــا"
القت الحجر من يدها ووقفت مكانها من غير حراك....لا تصدق..أحقاً هي؟!...وهتفت:
" غير معقول!!...سلمـــــــــــــى"
وانقضّت عليها تعانقها بشدة تتدحرجان سوياً على الأرض غير مباليتان للوحل....سررتُ للقائهما بعد ان اقبلتا نحوي وعانقتهما معاً فقالت اختي :
" هادي انا الان سعيدة...اريد البقاء مع سلمى"
ارتحتُ بداخلي لان اعتيادها على الحياة الجديدة كان من اكثر ما يؤرقني...فها هو باباً اخراً للفرج يفتح من كرم الله علينا.....
بعد ان استلمنا وجباتنا عدنا الى خيمتنا واصطحبنا (سلمى) معنا لنفاجئ من تركنا خلفنا....ومن ثم توجهنا جميعنا الى خيمة( ام سلمى) في الجهة المقابلة في المخيم....كان لقاءً حافلًا , دافئًا, ليصبح بعده بيننا رباطًا وطيدًا, متينًا, لتكون اول وافضل علاقة اكتسبناها اثناء اللجوء...
~~~~~~~~~~~~~
[عائلة محيي الدين الشامي]
قام بطيّ الورقة التي كتب عليها هذا ووضعها في درج مكتبه في شقته الجديدة في تلك البلاد بعد ان أُنْهِك اليوم وهو ينتظر امانته دون جدوى متذكرا الحديث الذي دار بينه وبين السيد(سليم الأسمر)...فبعد ان طبّق التعليمات على أكمل وجه حاملا ورقة كتب عليها اسم والدي وأخذ يجول وينادي في ذلك القسم الراقي من المرفأ وحتى انتظر ما يقارب الثلاث ساعات ولم يتعثر بطرف خيط يرشده هاتَفَه يطلعه على الأمر ...فانفعل الاخر ذعراً علينا ,مستنكراً اختفائنا وأمره بعدها بالتريث والصبر حتى يعود ويكلمه بعد ان قرر التأكد من المرفأين وجود أسمائنا ...وبعد طول انتظار عاد باتصال يخبره انه تم دمغ تصاريح خروجنا لكن عليه العودة الى المرفأ غداً ليبدأ بالبحث من جديد حتى لو لزم التفتيش بالمخيمات مع انه ابعد فكرة تواجدنا فيها ولولا الضرورة لما اجبره على تَتَبُع كل اسم حتى يعثر علينا...
~~~~~~~~~~~~~
رحبّا بهم بعد ان حجز لهم جناحاً فخماً بأحد الفنادق وارسل سيارة خاصة لنقلهم من غير عناء .....فلنيلِ رضا (عاصي رضا)..... البند الأول والأخير في سجّل مبادئه ان تكون ضمن لائحة الأكثر ثراءً .... السيد (رائد السيد) ممن استوفوا شروطه ليتفرغ له ولعائلته مستقبِلاً إياهم بحرارة كأنهما امضيا طفولتهما يلهوان بأزقة الحارات معاً وانتسبا لنفس الجامعة من شدة تعلقهما ببعض....لم يكن أحد أكثر براعة بإلقاء شباكه لغَرفِ اكثر كمية من الأسماك مثله...انه رجلٌ محنّك ...خسارة ؛ لو أنه استغل دهائه لصالح وطنه, لكن للأسف الكلب يبقى نجساً مهما اغرقناه بالمياه الطاهرة .....
ودّعاهم على امل اللقاء مساءً على مائدة العشاء في قصره لإكرامهم مداهنة.....
×
×
×
في قصر العنكبوت اعتذرت السيدة (فاتن) عن هذا اللقاء لانها كانت على موعد مع صديقتها(ايمان).....
(سوزي) كانت منهمكة تشرف على الطباخين والخدم لينتجوا أفضل ما لديهم من خدمات لضيوفهم....طلبت صنع أشهى أصناف الطعام لتليق بهم....ليس جوداً منها بالتأكيد !! انما هذه فرصتها لتتنمّق بأبهى حلة لحياتها الزائفة ...تدّعي الوفق ...لتريهم المستوى الرفيع لارستقراطيتهم العنكبوتية الزائلة...
قبل حلول المساء توجهت تحمل فحيحها لأميرة ابيها ...تخبرها بقدوم صديق جديد لها فهي تعلم افتقادها لهذا غير مهتمة بذكر او انثى مع ان الأولوية للأخيرة....اختارت لها فستاناً من المخمل الكحلي , حوافه مطرزة بالأبيض وشريطاً ابيضاً من الستان يزيّن شعرها الحريريّ وحذاءً بلون الفستان....ازدادت جمالاً على جمالها...
قرع جرس القصر في السادسة مساءً معلناً عن وصولهم....
تجمّعوا حول الطاولة البيضاوية الضخمة ...أطباق زجاجية بإحجام مختلفة بلونيها الأسود والذهبي مرصوفة جانب بعضها, تُملأ بما لذّ وطاب من المأكولات لترضي جميع الأذواق...توّزع بعناية واتقان !....
" ما هذا الجمال؟!...تبدو ابنتك مثل اللعبة "
وجهت السيده(اسراء) اطراءها لصاحب القصر بعد أن لفتت انتباهها سموّ الأميرة..
" هذا من لطفك...هي نسخة عن والدتها"
قالها بحب دون ان يكترث للتي اشتعلت جانبه وكاد لهيبها يحرق وجه الصغيرة آمله بمحو هذا الجمال الذي يصدعها ويكرهها حالها...لكنها حافظت على ثبات جلدها المرقط تنفث سمّها على هيئة ابتسامة ,تحاول ابعاد الضوء عن غريمتها لتسلطه على ضيف الشرف تقول بفحيح:
" أصبح ابنكما صلاح رجلاً...أين وصل في دراسته؟"
" هو في الأول اعدادي ودائماً متفوق في دراسته.."
اجابت بتفاخر وأضافت مبتسمة بغرور:
" عقله يكبُر اقرانه...كنا نستطيع رفعه لسنة ...لكننا نريد أن يعيش سنّه"
" اوه جيد, هكذا سأضمن من يساعد كرم وألمى في دروسهما"
ربطت الصغيرة بابنها لتظهر امومتها الكاذبة امامهم والتفتت الى (ألمى) تضيف:
"ما رأيكِ...صلاح ولد مجتهد وسيساعد كليكما في الدراسة؟"
بدا على وجهها الاستياء فهي لا تحتاج لمعلم لأنها أيضا متفوقة وتلك أكثر من تعلم وعلى العكس هذا من ضمن الأشياء التي تجعلها تحنق عليها ...أجابت بعفويّة تشع براءة:
" أنا لا احتاج لمساعدة يا خالة...ربما كرم يحتاج لأنه ينجح بصعوبة"
ثار صاحب الأمر غضبا وخصوصاً بعد ان لمح شبح ابتسامة على وجه ضيفهم الصغير وقال دون السيطرة على نفسه:
" من قال أني احتاج؟! من اين تأتين بهذا الكلام؟!"
ردت تؤكد على كلامها :
" لقد سمعت زملاءك يتهامسون ويقولون إنك تحتاج لدروس خصوصية وحتى يشكّون ان كانت تنفعك بشيء عندما جئت الى صفك الأسبوع الماضي لأُعْلمك بوصول سائقنا"
صرخ يداري فضائحه:
"هذا كذب كذب"
قاطعته مصرّة:
" لا ليس كذباً فالبارحة في حصة التربية كانت مربيتي ياسمين التي تدرّسك الرياضيات تقوم بتصحيح اختباركم...ورأت ورقتك زميلتي لين وقالت ساخرة ...كرم أخ ألمى حصل على 7 من 50 "
كانا كمن يلقيا الزجل الشعبي والذي انتهى بسحقها له عندما دفع كرسيه الى الخلف بقوة تاركاً الجلسة بمن فيها بعد ان وضعت له لطخة أمامهم ليتذكروه بها....
رأى(عاصي) الجمرات في حدقتيّ زوجته فعاتبها بلطف:
" حبيبتي ألمى من الخطأ البوح بمسائل تخص الاخرين أمام الجميع"
تدخّل السيد(رائد) قائلا بابتسامة بعد ان دخلت قلبه هذه الدمية البريئة :
" اتركها يا سيد عاصي ما زالت صغيرة لا تفقه شيئاً بعد"
بعد انتقالهم لغرفة الضيوف ليقدموا لهم باقي التضييفات قالت السيدة (اسراء) لـ(ألمى) تحاول اصلاح الوضع المكهرب :
" ما رأيك بالصعود انت وصلاح لمصالحة كرم ؟"
ثم تابعت تقول لابنها:
" هيا يا صلاح انا اعتمد عليك بذلك "
نظرت الى والدها ومن ثم نقلت نظرها لزوجته تنتظر إشارة منهما بالموافقة فأومآ كلاهما ايجاباً.....
نجح ذلك الـ ( صلاح) بإصلاح العلاقة بينهما الى حدٍ ما وشرع من بعدها ثلاثتهم باللعب بألعاب تناسب أعمارهم .....في البداية لم تنجذب هي اليه لكنها قررت بنفسها انه افضل من لا صديق....وانتهت ليلتهم بإرشاد ( عاصي رضا) لضيفه لشراء قصر في حي قريب منهم.....
~~~~~~~~~~~~
توجه السيد(ماجد) في اليوم التالي الى مكتب المرفأ يطلب قائمة الأسماء واستغرق بحثه ما يقارب الأربع ساعات من كثرة المهاجرين...
" واخيراً الحمد لله وجدتهم ..كانوا ضمن الرحلات البسيطة الحافلة بالمخاطر للهجرة"
قالها على الهاتف يبشّر السيد ( سليم الأسمر)...
" الحمد لله كنت اشعر انهم بخير ولن يفلتوا منا....هيا ابدأ بالبحث بين المخيمات"
" أتعلم كم مخيمًا موجودًا في هذه المدينة وحدها وكم لاجئًا يقطن المخيمات؟!....اصبر قليلاً لا استطيع فعل ذلك بيومٍ وليلة....المهم اطمأنّا انهم يتنفسون في هذه البلد"
" حسناً ارح نفسك ليومين وباشر عملية البحث مستخدماً نفوذك دون القلق بأي مصروف....سأحول لك كل قرش تحتاجه.."
كانت مهمة السيد(ماجد) صعبة لأن المرفأ فقط يتكفل بإدراج اسامي الوافدين وليس من واجبه تسجيل اين سيقطن كل واحد منهم....فعليه التوجه الى المخيمات جميعها مستعيناً بالمسؤولين عنها علّه يجدنا بإحداها لانهم وحدهم من يقومون بتوثيق أسماء افراده من أجل الجمعيات التي تقوم بالتبرعات والاعتناء بهم...
~~~~~~~~~~~~~~~~
بدأنا نتأقلم في المخيم رويداً رويداً .....نعتاش على تبرعات أهل الخير والجمعيات المسؤولة....كان اكثر ما يزعجني هو الناس الذين يتبرعون ببقايا اغراضهم الأشبه بالفضلات!!
كيف سمحوا لأنفسهم بإخراج هذه من بيوتهم تحت مسمّى صدقة لله؟!
ألم يقتدوا بأمنا (عائشة رضي الله عنها)؟؟
ألم يسمعوا بقصص سيدنا ( عمر بن الخطاب رضي الله عنه ) مع الصدقات؟!
كنتُ أخجل من أجلهم!!....
أحياناً كنّا نجبر على ارتداء تلك الملابس لأننا فقدنا معظم متاعنا اثناء الهجرة وبقي معنا أقل القليل نتدبر به أمورنا....!!......
لقد مرّ شهران بالتمام والكمال ونحن على هذا الحال ولم يصلنا أي خبر عن أقربائنا في الوطن ولا حتى عمّن وُكلوا للاهتمام بنا في غربتنا اليتيمة....
~~~~~~~~~~
يمشي في أروقة بيته على غير هدى ....تلفت أعصابه ...لا يعقل مرور أيام وشهران ولا أثر !!....يزفر أنفاسه بغضب ...يحاول كبح جماح نفسه.....يتجه الى الشرفة ....ينظر بعيداً للسهول المقابلة له حيث تشققت براعم النباتات بعد أن ارتوت ألأرض بخيرات الشتاء وانتعشت بشمس آذار ...يرفع هاتفه المحمول ...يلقي السلام على من أجاب في الطرف الآخر ويقول بصوته الجهوري بعد ان وصل حدّه بالصبر:
" أنا انتظر ....الى اين وصلت ؟!....هل انشقت الأرض وابتلعتهم؟؟!"
ردّ يحاول مداراة يأسه:
"اخي سليم.. انت تعلم أني فعلت ُ ما بوسعي ومنذ ما يقارب الثلاثة شهور وانا اقف على رجليّ دون ان ارتاح لأعثر عليهم ...."
قاطعه بنبرة مرتفعة:
"ماذا اذاً؟؟؟...هل نستسلم وكأننا اضعنا فاتورة مطعم لا أهمية لها؟؟"
قال ببصيص أمل:
"لم اقل نستسلم ....بقي ثلاثة مخيمات الأكبر في تلك المنطقة....احدهم في مدينة قريبه لمدينتي والآخران في المدينة الساحلية ...الأبعد بينهم يقع وسط الشاطئ والجبال والأقرب في مركزها.... سأبدأ بالقريب مني وبعدها الآخرين..."
" متى هذا ؟"
" احتاج بعض الوقت لا تظنه سهلاً كشرب الماء ....نهاية هذا الأسبوع باذن الله سأتابع مهمتي!!
" حسناً من صبر أسابيع كثيرة , يصبر غيرها....المهم ان نجدهم في النهاية....هم امانة الغالي واذا لزم الأمر سأسافر بنفسي لأقلب تراب تلك البلاد حتى اعثر عليهم "
أنهى مكالمته مع السيد (ماجد) ودخل يتابع آخر اخبار الحرب في البلاد....
~~~~~~~~~~~~~
يأتي لزيارة المخيم من وقت لآخر بعض التجار لتشغيل الأولاد ببيع أغراض بسيطة, صغيرة, يكتسبون منها بضع قروش , كالمسابح والعاب خفيفة وغيرها....
بعد جهدٍ اقنعت امي لتسمح لي بذلك....فنحن نحتاج الى كل فلس في بلاد الشتات....لا نستطيع الاعتماد على التبرعات فقط!!
بدأت العمل من اليوم التالي....اخرج من المخيم الى مركز المدينة في الصباح الباكر....اتجول هنا وهناك....اقابل أناس كرماء وآخرون فظّون لا يمتّون للإنسانية بصلة....أعود في المساء الى المخيم وفي جعبتي قرشان...لا اتناول أي لقمة في يومي ...احيانا اشفق على نفسي وادللها بقارورة ماء ...ريقي يكون هو غدائي وعشائي.... حالتي يرثى لها ....أقدامي متورمة....أنظر الى حذائي الصامد معي من بداية هجرتنا , الشاهد على كل المغامرات...يتمزق شيئاً فشيئاً...تُخيطه أمي ثم يتمزق مجدداً ...نتنافس من منا سينتصر على الثاني....لو أن لسانه يتكلم لألّف موسوعات عن معاناته معي....لو أنه يستطيع الصراخ لصاح في وجهي قف أيها القاسي!!...لو أنه يعرف عنوان المحكمة لرفع قضية ضدي......
أنا آسف يا حذائي فطريقنا واحد...!!!
×
×
×
في صباح احد الأيام أصرّت ( دنيا) بعنادها المعهود على مرافقتي عند سماعها حديثي لأمي وخالتي , ادّعي السرور في عملي لأخفف من همومهما ...فالحقيقة أنا اتعذب نفسياً من معاملة الناس...منهم من يتحدث بتعالي ومنهم من يظهر عنصريته ومنهم من يراوغ حتى اقتنائها بأقل ثمن , مثل هؤلاء لو ذهبوا لشبكات الماركات العالمية ..يدفعون بأسعار باهظة قرش وراء الآخر.. بفمٍ مغلق...لكن عندما يصل الحال للبسطاء يحاولون عرض مواهبهم في فن إدارة الاعمال والمقايضة.....وكذلك أتألم جسدياً من كثرة التنقل على الأقدام لعدة أماكن بينها مسافات!!!
حاولتُ ردعها عن إصرارها هذا فقاطعتني خالتي :
" خذها يا هادي , انها تشعر بالضجر وتصدع رؤوسنا ولعلّها تساعدك اليوم"
وافقت مكرهاً ...وخرجنا من المخيم لبدء ورديتنا في الشوارع لنخوض مغامرة جديدة...!!!
أعطيتها قسماً من الأغراض الخفيفة....كانت مستمتعة تظن نفسها في مدينة الملاهي....ولحُسنِ حظي بوجهها البشوش الجميل , براءتها وخفة دمها ...أقبل الكثير لشراء الأغراض منا....لا يهم احتياجا ام تعاطفا ...المهم ان تسير امورنا على اكمل وجه ....
في ساعات العصر بدأنا نتضور جوعاً كلانا....انا كنت معتاداً لأسبوعين على هذا الحال واصبح لدي قدرة تحمل!!...اما هي ....مسكت بطنها الذي يتقطع بخناجر الجوع...تذرف دموعاً متوسلّة:
" ارجوك هادي ..انا جائعة لا اتحمل"
"اصبري يا دنيا نصف ساعة فقط وبعدها نتوجه الى المخيم وتكون وجبة العشاء في انتظارنا "
ضغطت بيديها على بطنها... تحني جسدها ...زادت عيناها احتقاناً ....تئن ألماً صارخة:
" لا أستطيع.....بطني يؤلمني....آه....أي"
دنوت جاثياً احتضنها هامسا بقلة حيلة:
" تمالكي نفسك حبيبتي "
" اشتري لي شيئاً , معنا الكثير من المال"
" لا يا اختي هذه للتاجر وهو يعطيني نصيبي عند استلامه مني...فإذا علم باستعمالي له سيسبب مشكلة ويطردني ....ونحن نحتاج لهذا العمل"
مسدت على وجنتيها امسح دموعها المختلطة بغبار الطريق هاتفا بحنوٍ:
"بالله عليك اصبري..."
كنّا نتحاور بالقرب من مطعم لبيع ساندويشات الهمبرجر ...الرائحة تخترق انوفنا ...وتُشعل معدَنا ....شردت لوهلة مفكراً ...ثم قلتُ في نفسي "سامحيني عزيزتي" وهمست لها:
" انتظريني هنا....سأعود حالاً"
توجهتُ الى الباب الخلفي الخاص بالمطبخ...تسمّرت مكاني للحظات....عليّ ان افعلها....ما باليد حيلة ...المسكينة لا تتحمل!!...اقنع نفسي انه لا يؤثر اذا اخترت بعناية او انتظرت حتى جلب غيرها امام عيناي.....فالمطعم يرتاده الكثير من الزبائن وحركة نشطة داخله والعمال في حالة تأهب ....يقدمون الطعام وينظفون مخلّفاته في الحال ...يلقونها في هذه الحاوية الخضراء الكبيرة....!!
سمحتُ لنفسي بأخذ بقايا من الوجبات الطازجة بعد ان احضرها العامل ورممتها قدر استطاعتي ...ثم عدت الى اختي ...
تهللت أساريرها عند رؤيتها ما بقبضتي وأقبلت لملاقاتي بلهفة ....تسحبها مني ...وقرّبَتْها لفمها لتقضم أول لقمة......
↚
"لااا...انتظــري"
دفعتُ يدها بقوة قبل أن تصل فمها صارخاً بندم ...لتسقط ساندويشة الهمبرجر ارضاً....ثم سحبتها من كتفيها ادثرها بأحضاني ...أضغط على جسدها الضئيل ...أحاول حمايتها من غدر الزمان ...من القهر والخذلان ...من شياطين الانسان ...يا ألله ماذا كنتُ فاعلاً؟!...منذ متى أجد أدنى الحلول؟!...كيف أصبحت هكذا ؟!....ليخسأ هذا الجوع البغيض الذي أراد اذلالنا ...!!! ....سنقهره ...سنقاوم ولن نسقط أمامه...سنصبر وسننول جزاء صبرنا بإذن الله......كنت جاثيا على ركبتيّ أمامها ...ادفن رأسها في صدري وأواري وجهي بين كتفها البريء وشعرها الطاهر...أبكي قلة حيلتي...أبكي مرارة عيشتي...أبكي خجلاً منها ومن قبلها نفسي!!...بكيتُ كما لم أبكِ سابقاً...
" سامحيني يا أختي...سامحيني...لا أعرف كيف سمحت لنفسي بفعل ذلك؟!"
كنتُ أهمس متوسلاً...لكنها كانت أقوى مني ....رَفعتْ رأسها عن صدري...مدتْ يُسراها تمسح دموعها وسبقتها يُمناها تمسح دموعي...تحدّق بي بشهد عينيها المحتقنة بمائها العذب هامسة بأصالتها :
" لا تبكِ يا هادي أرجوك....لا أحب أن أراك حزيناً....بل أنت سامحني لأني ضغطت عليك....أعدك سأصبر حتى نعود الى المخيم.."
أنظر لها بِتيه...شارداً بجريمتي...آسفاً لفعلتي النكراء....رسمتْ ابتسامة نقية ترائي نقاء روحها ...تدفعني بها لنمضي في سبيلنا وندفن ما حدث في هذه البقعة دون العودة لها....
حملتها على كتفيّ وسرتُ بها قاصداً البحر ...حيث يتواجد على ساحله الكثير من السيّاح آملين بنفاذ مخزوننا من أغراض لهذا اليوم....
بينما كنا نخطو خطواتنا على مهل أميل بها تارة يمنة وتارة يسرة ..أحاول بيع بضائعي....اقترب رجلاً منّا كان برفقة زوجته للسياحة...يبدو عليه الكرم والشهامة...تبسّم لنا هامساً:
" من أين أنتم؟"
رفعتُ حاجبي بتوجس من سؤاله الغريب ,مجيباً:
" نحن لاجئون"
"أعرف....لكن من أي بلد؟"
" ما يهم ذلك ان بتنا بلا وطن ؟!...ما نفع هويتنا ان لم تحمنا من اللجوء؟؟"
تابعت كلامي وهو مصغياً دون مقاطعة:
"هل ستعيدني الى بيتي اذا علمت بذلك؟!.....اعذرني يا عمّ....فبلدي الوحيد هو حضن أمي...ضحكة اختي...رائحة اخي وحنان خالتي"
ختمتُ كلامي مولّياً له ظهري لأتابع سيري ..فصاح بنا:
" توقفواا...رجاءً"
التفتّ برأسي الى الخلف...فتقدم بخطواته نحونا ليقابلنا قائلاً:
"أنا أسف يا بني لم أقصد ازعاجك...لكني أكتب عن معاناة اللاجئين.."
صمت برهةً وتابع:
" إنسَ الموضوع......أريد أن اشتري منكم"
بدأ يفتش بين الأغراض يوزع ابتساماته الصادقة وبعد أن وقع اختياره على بضع أشياء وأخرج محفظته ليدفع الثمن , قرعت طبول النصر من معركة الجوع في معدة أختي...قطب حاجبيه كأنه يريد التركيز للتأكد مما سمع...احتقنت دماء وجهي وكذلك اختي حرجاً...فقال لنا :
" أرجو الّا تردوني......أريد اعطائكم بعض المال عن روح أبي رحمه الله لتشتروا شيئاً تأكلوه "
أجبتُ بإباء شامخاً برأسي ...ناصباً ظهري:
" رحمه الله...تصدّق بذلك لغيرنا"
تحولت ملامحه للجد وقال:
" يبدو على شقيقتك الجوع...أنا لا اعلم لِمَ تعاند!!....انا احتاج حسنات لأبي ولست انت من تحتاج.....لربما في يومٍ تقف موقفي وتفهمني في حينها "
شعرتُ بالارتياح في صدري من لباقة وصدق كلامه ...اعتذرت منه على أسلوبي الفظّ وقلت:
" انا موافق...لكن بشرط"
" ما هو؟"
" لا تعطنا المال , بل اشتري لأختي ساندويشة شاورما"
قلت بحزم مشيراً لمطعم الشاورما على يميني...
اومأ برضى متبسماً ودلف الى المطعم......بعد دقائق عاد يحمل بيده كيساً فيه عدة لفائف من الشاورما وعصائر...فقلت:
" هذا كثير!!..انا طلبت واحدة "
أجاب بثقة متواضعاً يفتح الكيس يشير لما بداخله:
" انا أُطعمُ عن روح أبي ولا أقبل بواحدة....لذلك هذه لأختك وهذه لك..والباقي لأمك وخالتك وأخيك "
اتسعت عيناي متعجباً وقلت:
" كيف عرفت؟!"
غمزني مبتسما مجيباً على الفور:
" حضن امك , ضحكة اختك , رائحة اخيك وحنان خالتك...الا يكفي لمعرفة عددكم"
تبسمت لنباهته وشهامته وقلت بامتنان:
" لكن اخي رضيع لا يأكل الشاورما"
وقبل ان ينطق بكلمة هتفت (دنيا):
"اذاً لسلمى"
ضحك الرجل وقال:
" اذاً لتكن من نصيب سلمى"
وولانا ظهره مدبراً باتجاه زوجته... فهتفت بصوت مرتفع:
" شكرا يا عمي ورحم الله أباك "
أدار وجهه متبسماً ورفع يده يلوّح بها هاتفاً:
" صحة وعافية....وداعاً"
~~~~~~~~~~~~~~~~
لم يتوانَ السيد (ماجد) عن متابعة ما وُكّل به.....فمنذ أن كلّم السيد (سليم الأسمر) وهو يضع برنامجاً يمشي وفقاً له....كانت وجهته الأولى قبل أسبوع , المخيم الموجود قرب المدينة التي يقطن فيها وعاد مثلما ذهب خالي الوفاض دون أن يجد حرفا يقترب لأسمائنا ....وبدأ يخطط من جديد ليرسم وجهاته الأخرى!!
~~~~~~~~~~~~~~~~
تقف خلفها أمام طاولة الزينة لتسرّح لها شلالها الأسود الذي يصل الى منتصف ظهرها الصغير ...هامسة بحنان :
" لقد ازداد طولاً شعرك ...متى سنقصّ أطرافه ؟!"
عبست بدلال تكتّف ذراعيها تزمّ شفتيها دون ان تنطق بكلمة.....رأت انعكاس وجهها بالمرآه فتبسمت لها وهي تضم شعرها بقبضتيها قائلة:
" حسناً حسناً لا تعبسي أعلم أنك تريدين أن يصل الى تحت ظهرك كوالدتك رحمها الله "
فَرَدَت ملامح وجهها وقالت بدلال تدّعي انزعاجها :
" خالتي سهيلة بما أنكِ تعلمين هذا لمَ تصرّين على اغضابي ؟!"
ضحكت وأجابت :
" لقد شُلت يدي من طوله وكثافته بسم الله ما شاء الله ...كنت أجرب حظي ان غيرتِ رايك .....يجب ان اجد حلاً فمعظم اكسسواراتك ومشابكك الخاصة بالشعر اما تنكسر او لا تطوق لجمعه كاملاً"
" لكني أحبه منسدل على ظهري لأبدو مثل سالي في كرتوني المفضل "
" ما رأيك لأقص لك غرّة تصل حافة حاجبيك ؟؟...ستكونين مذهلة ...فهي تناسب شعرك ووجهك الجميل "
" رائع ...لأُحدِث بعض التغيير في مظهري في حفل اليوم ...كي أبهرَ زميلاتي وزملائي والمدرّسين خاصتي ..."
كان اليوم هو الواحد والعشرون من آذار الخاص في يوم الأم....الأم هي أم في كل يوم وكل ثانية ...لا ان نختصّها بيومٍ واحدٍ, نظهر اهتمامنا ونغدق عليها بالهدايا وعبارات الغزل الفارغة من غير تطبيق ..ثم في اليوم التالي ننسى كل هذا ونعود لحياتنا لا نعلم هل هي بحاجة لنا ؟! هل تشعر بالوحدة من دوننا ولا تجد من يؤنسها ؟! ...فبرّها واجب علينا في حياتها ومماتها لا بيوم خاص ابتدعه الآخرون... ....أما تلك الحفلات بالمظاهر الكاذبة هي لم تكن سوى فتح جروح لم تندمل أساساً لأيتام فقدوا نبع الحنان بتدابير القدر فيأتوا هؤلاء ليضغطوا على موضع الإصابة غير مكترثين لحالهم ليزدادوا آلاماً على آلامهم......
من يوم ِانتسابها للمدرسة لم تشارك بتاتاً بأي حفل يخص الأم ....كان والدها يحاول حمايتها بإخفائها عن الأنظار في هذا التاريخ حرصاً على مشاعرها بدلاً من المواجهة وتشجيعها لتتقبل نصيبها والايمان بالقضاء والقدر.....لكن السيدة (فاتن) وبمساعدة المربية (سهيلة) قررتا أن تكونا القوة الدافعة لها لتخرجاها من ضعفها ....كانت خالتها في الخفية تواصل طبيب نفسي ليرشدها كيف تتصرف معها ....وأخيرا مع التشجيع نجحت بإقناعها بالمشاركة لأول مرة لهذا اليوم في حفل المدرسة الخاص بالأم لترافقها هي والسيدة (سهيلة) لحضوره سوياً كما ترافق الأفعى (سوزي) ابنها (كرم).....وكذلك والدها تقبّلَ مشاركتها في النهاية بعد رؤيته حماسها....
" يا للروعة انها مذهلة "
هتفت بدلال معجبة بمظهرها الجديد في الغرّة التي تنسدل برقة تغطي جبينها لتصل حواف حاجبيها بإتقان...فالسيدة (سهيلة) معتادة على تسريح الشعر لبنات أشقائها وأصبحت ذات خبرة في هذا المجال....
" هيا يا أميرة حان الآن دور ارتداء الفستان "
هتفت خالتها (فاتن) وهي تدخل الغرفة تحمل الفستان بعد أن قامت بِكَيّه الخادمة.....
×
×
×
تتوسط خالتها والمربية في المقعد الخلفي للسيارة ومن خلف المقود السائق وجانبه حارسها الشخصي الذي الصقه والدها بها عند خروجها لأماكن عامة او تكتظ بالناس...فهكذا الظالم لا يأمن ولو كان في عقر بيته .....
وهم في طريقهم الى قاعة المدرسة .....كانت ملامحها حزينة...بالعادة تثرثر في سفرها حتى لو لم يكن الا السائق لوحده....اما الان ساكنة , صامتة.....ليس لأنها ذاهبة لاحتفال خاص بالأم ...انما تشعر بالقلق خوفاً من الّا يأتي لمشاركتها يومها الخاص مثلما وعدها....
ترجلن من السيارة ودخلن بوابة القاعة الكبيرة..... الحارس كانت مهمته الانتظار على المدخل ...كانت تنتسب لمدرسة خاصة فيها وسائل الرفاهية والفخامة بدعم من رجال الأعمال وعلى رأسهم ( عاصي رضا), ويحاوط المدرسة أمن خاص لحماية أبناء الأغنياء والطبقة الراقية...لكن(عاصي) لا يثق بهم فقط ,لذلك يرسل أفضل حرّاسه معها أينما ذهبت.....جلست كل واحدة منهن على مقعدها بعشوائية. ..فرغم نظام هذه المدرسة الا انه بهذا اليوم لا يفرّقوا الطلاب عن أهاليهم ليخلقوا جواً من الألفة الاسرية ....بعد ان امتلأت القاعة بالحضور ....صعدت المسرح عريفة الاحتفال فتاة بالصف السادس لتحيّي الضيوف ومن ثم تستدعي مديرة المدرسة لإلقاء كلمتها وبعدها تقديم البرنامج تباعاً حسب ما نظمته المدرسة .....مضت ساعة ونصف أمضتها (ألمى) بوجهٍ مستدير الى الخلف ...تراقب الحركة الساكنة عند الباب علّها تلمح طيف والدها ...لم تنصت لأي شيء مما قُدّم ...كان تحدّيها لتثبت لوالدها انها قوية ولن تتأثر ولا داعي للخوف عليها لدرجة خنقها بحمايته لها....كانت الفقرة المعروضة الآن القاء قصيدة من طالب يصغرها سنة انتبهت لها صدفةً....نهضت من مكانها فسألتها خالتها بفضول :
" أين تذهبين صغيرتي ؟"
" سأعود بعد قليل ..سأرى بنات صفي "
تبسمت لها بحنان وقالت :
" حسناً لا تتأخري "
بعد انصرافها استدارت السيدة (فاتن) للسيدة (سهيلة) هامسة بضيق :
" كانت في قمة السعادة تنتظر هذا اليوم ....لكن لا يهنأ له عيش من غير أن يفسد عليها مزاجها ....ما هو الشيء الأهم من فرحة ابنته لا اعلم....من يراه يظن انه على حافة الإفلاس وفي هذه الساعة سينقذ ثروته !!"
ردّت السيدة ( سهيلة) بهدوء مع ان داخلها تشتعل غيظاً ...فهو سيدها لا تستطيع ذمه والسيدة ( فاتن) تبقى سيدتها مهما كانت علاقتها بها قريبة وقوية:
" أتمنى أن يأتي حتى لو لحق بآخر الاحتفال فقط... ليسجل حضور على الأقل في نظر ابنته "
" لن يأ.."
قطعت جملتها بعد أن وصلها الصوت العذب.....
[[....أنتِ الأمان
أنتِ الحنان...
كانت المفاجأة التي خبأتها (ألمى) عن عائلتها ......لقد قررت المشاركة بإحدى الفقرات لتري والدها قوتها ولتكون هدية لمن تعبتا عليها ....اختارت خصيصا اغنية (أنت الأمان الخاصة بالأم من المسلسل الكرتوني دروب ريمي ) لتنشدها بصوتها العذب الموسيقي ...لم يكن داعي لأي آلة عزف...فصوتها لوحده بعذوبته هو كسمفونية هادئة تعزف وقت الغروب على شط بحرٍ ساكن دون أي نفسٍ لبشر مع نسمات لطيفة تداعب الأجواء.....كانت تحلّق على المسرح بفستانها الوردي المصنوع من الساتان اللامع بتنورة نافشة تصل الأرض وقسمه العلوي يغطيه قطعة بيضاء من الدانتيل تصل أكمامه الطويلة ليتجانس مع الخلفية الوردية.....شعرها منسدل على جانبيها وغرّتها تحف حاجبيها ليندمج سوادها مع رموش عينيها ..يزيّن رأسها اكليل من الورد يتناسق مع لون لباسها.... بدت مثل أميرة هاربة من احد الأساطير برُقيّها وسحر جمالها .....
غردّت بكلمتين وتوقفت تنظر الى الباب ..تحاول تأخير فقرتها ربما يأتي ويسمعها ...هي تعلم كم يحب صوتها ويتغزل به...بعد ثلاث دقائق اقتربت مربيتها في المدرسة ,تشجعها على الاستمرار لا تفقه شيئاً من الصراع الناشب داخلها...
تنحنحت وانتصبت في وقفتها تمسك مكبر الصوت المنصوب امامها بأنامل يمينها الرقيقة وأسدلت أهدابها لتطوف في عالمها الذي سترسمه في عقلها رغماً عن الجميع لتخلق الحياة التي تتمناها....
ساد القاعة هدوء بعد ان حدث بعض الضجيج لتوقفها عن الغناء قبل قليل...فمنهم من كان مندهشاَ ومنهم من كان شامتاً تعددت النوايا والضجة واحدة....لكن بطلب من المربية اختفى هذا احتراما لها.....أُطفئت الأنوار القوية وبقيت الخافتة بين الحضور...وعلى المسرح ضوء أصفر يُسلّط كالشمس على تلك الزهرة الوردية لتزهر بحضورها وصوتها ....
[[...أنتِ الأمان
أنتِ الحنان
من تحت قدميك لنا الجنان
عندما تضحكين
تضحك الحياة
تزهر الآمال في طريقنا
نحس بالأمان
أمي أمي أمـــي
نبض قلبي
نبع الحنــان
...........
..........
أنتِ الأمان
أنتِ الحنان
من تحت قدميك لنا الجنان
من عطائك تخجلي
أبداً لم تتململي
يا شمعة دربي
يا بلسم الزمــان
أمي أمي أمــي
نبض قلبي
نبع الحنـــــــــــان...]]
ختمت أغنيتها تترك المسرح......تمسك فستانها ......ترفعه لتجري نحو الباب بلهفةٍ بعد أن رأت والدها يقف معتزاً بها... مبتسماً برضا ومن خلفه ترى وجه أمها يشع في نوره محبةً وحناناً وعيناها تلمع اشتياقاً لمهجة قلبها ...كانت تجري بخفة لترتمي بأحضانه الذي لم يكن سوى سراب من الحلم الذي رسمته بمخيلتها. !!!!!
عادت تنكس رأسها ...أما من في القاعة كانوا ما زالوا تحت تأثير صوتها الشجي العذب ....حتى ان معظم الأمهات لم يتمالكن انفسهن عن البكاء من كلمات الأغنية المدمجة بصوتها الرنان بالإضافة عطفاً على تلك يتيمة الأم....كانت السيدة (فاتن) منهارة تبكي لدرجة خرج صوتها بنحيب ....تبكي متأثرة من الأغنية ...وعلى حال صغيرتها وعلى تذكّرها شقيقتها (كريمة) صاحبة القلب الطيب ونبع الحنان...السيدة (سهيلة) تبكي بصمت وتحاول التخفيف عنها وهي تربت على ظهرها بعد ان دفنت وجهها على كتفها... رفعت رأسها بعد ان وصلتها رائحة صغيرتها مع صوتها الهامس الحزين :
" هيا خالتي ..انتهى الاحتفال"
مسحت دموعها تخفي الآمها كي لا تزيد ناراً على نار العيون المشتعلة امامها خيبةً وقهراً وهمست متنحنحة تحاول إعادة صوتها وهي تمسك ذراعيها وتضمها لصدرها تقبل جبينها من فوق غرتها:
" أبدعتِ صغيرتي... لم أنَل في حياتي مفاجأة كهذه ....أنا فخورة بكِ حد السماء .... "
تبعتها السيدة(سهيلة) بوصلة مديح واعتزاز وعناق ثم عدنَ ادراجهن الى المركبة في الخارج....
~~~~~~~~~~~~~
دارت الأيام بنا......وفي ليلة كنتُ افترش الأرض بالخلاء قرب المخيم...أتأمل بريق النجوم...أحلق بنظري في السماء...أفكر كيف نتقدم ؟!.....لقد سئمت من عملي كبائع متجول , تتفطّر قدماي لأجني قروش قليلة لا تكفي لقوت يومنا....
يا الله ساعدنا....
أريد إكمال دراستي ...لقد توقفتْ نهاية الفصل الأول من سنتي الأولى بالثانوية , عندما هاجرنا الى هنا....أخشى ضياع مستقبلي!!....وأختي؟!...يجب أن تدرس فهي بالمرحلة الابتدائية, ألمرحلة الأساسية بالتعليم......يا الله ارشدني....
في صباح اليوم التالي ....قررت أن اعتذر عن عملي وشرحت لأمي وخالتي أسبابي...تفهّمتا ذلك ولم تضغطا عليّ.....
أخذت أتمشى في أرجاء المخيم...اداعب من أواجه من أطفال مرةً...أقذف الحصى بحذائي الممزق مرةً أخرى....إنه الفراغ والملل!!....وبينما انا أجول بين الخِيَم...لفت انتباهي رجل في العقد الخامس...يجلس أرضا ومن حوله أولاد بمختلف الأحجام والأعمار من كلا الجنسين....هذا المشهد ذكّرني بمسلسلات كنت اشاهدها للزمن الجميل عندما كان التعليم على طريقة الكُتّاب....اقتربت منهم أبلّ شوقي من الدراسة التي طالما تفوقتُ بها....فكم أشتاق لرائحة كتبي , قرطاسيتي ولأصوات المعلمين وهم يشرحون لنا بتفاني وإخلاص.....
تقدّم احد الطلاب للأستاذ مستفسراً عن سؤال ما , صعُب عليه حلّه....لكن لسوء حظه كان تمريناً معقداً بالرياضيات وهو اختصاصه لغة عربية وتاريخ!! ويَعلم شيئاً يسيراً عن الرياضيات.....حمحمَ محاولاً التملّص من الإجابة قائلاً بصوت مرتفع:
" يا مؤيد نحن الآن في حصة التاريخ....سنجيب لاحقاً على سؤالك"
واكمل في شرحه ليحيدَ عن الموضوع!!
دقائق قليلة وأعلن عن انتهاء الدرس....
" أستاذ.. أستاذ ...ألآن أجبني"
هتف (مؤيد)...
" أنا مشغول....أعطني الدفتر وسأجيبك لاحقاً:
قالها بارتباك ينظر لساعة يده ومن ثم مدّها ليأخذ الدفتر منه....
" من فضلك يا أستاذ حسني ..لا استطيع الانتظار...فأنت تعلم أننا ندرس الرياضيات باجتهاد ذاتي لنقدّم لامتحاناتنا الصيفية وفصل كامل يعتمد على هذا النمط من الأسئلة!!"
قالها (مؤيد) برجاء....
" قلت لك أنا مشغول وسأجيبك لاحقاً"
قالها بصلابة , يتحاشى النظر اليه...
" سهّل الله عملك يا أستاذ "
لحقتُ به على الفور هاتفاً بها....
التفت نحوي ,,,يحمل كتبه بين ذراعه وإبطه ...عدّل نظارته الطبية الدائرية الكبيرة...رمقني بنظرات تساؤل دون ان ينبس ببنت شفة....فأردفت بكلامي:
"أعتذر عن تدخلي ولكني سمعت حواركما من غير قصد!!...هل تسمح لي بالإجابة عن السؤال؟!"
أمال زاوية فمه بابتسامة ساخرة وقال:
" يا ولدي هذا سؤال صعبٌ لمستوى جامعي...لا أعلم من أين أتى به وهو ما زال في منتصف الاعدادية!!"
صمت لثواني قليلة ينظر إليّ يتفحصني من الأسفل للأعلى ثم أضاف:
" وأنت توحي بأنك طالب ثانوي!!"
↚
تبسمت مثبتاً بصري عليه في ثقة وقلت :
" اذا فعلتها ما جزائي؟؟"
أجاب ضاحكاً:
" سأعيّنك مساعداً لي....وربما مدرّساً للرياضيات حتى جيل اعدادي الى أن نحصل على معلم مختص بشكل رسمي , فنحن نفتقر لمدرّسي هذا الموضوع في المخيم"
مددتُ يدي مصافحاً له وقلت بتحدي:
" اتفقنا"
قبل مصافحتي وقال واثقاً بانهزامي وبشيء من السخرية:
" طبعاً طبعاً...لكن ايّاك أن تيأس او تحبط اذا فشلت...فالمستقبل ما زال امامك ويكفيك شرف المحاولة"
أخذت الدفتر من (مؤيد) وجلستُ جانباً على حجر من الطين المعد للبناء....الأستاذ ينظر لي منتظراً....وقبل مرور خمس دقائق , نهضت من مكاني متجهاً صوْبه...فتنحنح وخلع نظارته يضعها في جيب قميصه قائلاً:
" لم تستطع حل السؤال أليس كذلك؟"
دنوتُ منه أكثر رافعاً الدفتر أمام عينيه.... تفاجأ من رؤيته ارقام واشارات تملأ الورقة....شهق متسائلاً وهو يسحب نظارته مجدداً ليرتديها:
" متى استطعت تعبئة هذه الصفحة؟!...غير معقول!!..ما هذه السرعة؟"
استقام بوقفته يدفع وسط نظارته بسبابته لتثبت على انفه بعد انزلاقها مردفاً بجدية:
" على كل حال أريد التأكد من اجابتك!!...سأتصل بصديق لي مدرس للرياضيات في الوطن..."
وضع قبضته أمام فمه يسعل وأكمل:
" عفواً.....انتظرني عصراً في هذا المكان"
وراح كل منا في سبيله......
×
×
×
قُبيْل آذان العصر بدقائق كنت جالساً على كرسي خشبي أمام خيمتنا ,فأقبل نحوي شاباً مهرولاً , في عجلة من أمره متسائلاً:
" هل هذه خيمة هادي ؟"
" وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته"
ردّ محرجاً:
" آه أنا آسف ...السلام عليكم.......لا تؤاخذني...أنا في عجلةٍ من أمري!!...شيخنا وإمامنا أصيب بوعكة صحيّة مفاجئة ولا يستطيع إقامة الصلاة بنا"
"عافاه الله"
قلت أنا... فأردف الشاب:
"لنا جارة تدعى أم سلمى أرشدتني لهذه الخيمة بعد أن اخبرتني بوجود شاب يدعى هادي يستطيع أن يسدّ مكانه لأنه حافظ لكتاب الله مع اتقان تجويده ,لينشلنا من المأزق, فالناس يتوافدون للمصلّى"
"لقد وصلت يا أخي بإذن الله...أنا هادي هيا نذهب"
رمقني بنظرات استغراب ربما لصغر سني!!...ثم توجهنا الى المصلى معاً....
" نعمَ التربية ونعمَ الرجولة"
"ليسلم البطن الذي حملك"
" جعل الله اولادي مثلك"
"بوركت ونفع الله بك الأمة"
عبارات أطلقها المصلون لي فور انتهائنا من الصلاة.....
الكلمة الطيبة لها أثر على النفس....لا تبخلوا بها ولا تبالغوا منها....فخير الأمور اوسطها..
شعرتُ بنشوةٍ داخلية دفعتني الى الأمام ولكني حيّيتهم بتواضع شاكراً ثناءهم ثم توجهتُ حيث اتفقنا انا والأستاذ....
وصلت المكان قبله ...التفتّ خلفي بعد سماعي خطوات تتبعها أنفاس لاهثة تقترب نحوي بحماس:
" ما شاء الله...ما هذا يا ولدي؟!...أخلاق , تدّين , وفوقها ذكاء!!؟؟...حماك الله ورعاك"
كانت اطراءات من الأستاذ هتف بها ...شكرته بخجل متواضعاً وسألت:
" هل اجابتي صحيحة؟"
ضحك بفخر وقال:
" صحيحة؟! ....بل صحيحة ومميزة ومنطقية حتى قال لي صديقي ماذا تنتظر؟! اجعله مدرّس للرياضيات في المخيم ولو كان صغيراً في السن...إجابته توحي لعقل جامعي وأكبر فهذا سؤال معقد !!"
قفزتُ فرحاً وكأنني نلت شهادة التخرج من الجامعة ...عانقت الأستاذ ممتناً له واتفقنا على موعد اللقاء المقبل لأبدأ عملي الجديد.....التزمتُ مؤقتاً بالإمامة ريثما يشفى شيخنا ولكني جعلت ذلك خالصاً لوجه الله عن روح أبي ولم أقبل قرشاً واحداً.....
بدأت أعطي الدروس للطلاب دون الإعدادي بالرياضيات.... أضفنا لاحقاً حصص جانبية باللغة الإنجليزية لمعرفتي الجيدة بها.... صرتُ أربح من عملي هذا قروش لا بأس بها بفضل الله عن طريق جمعيات أدخلتني اولاً لاختبارين شاملين لهذين الموضوعين.....أول معاش رمزي قبضته ,اشترينا به أحذية ولباس لكل منا من السوق الشعبي....
أرشدني الأستاذ حفظه الله لكيفية الحصول على كتب للمرحلة الثانوية لأدرس بنفسي باجتهاد ذاتي للتقدم للامتحانات.....كان بين الحين والآخر يأتي مدرسون متطوعون عن طريق الجمعية ليقيّمونا كطلاب ,يساعدونا بما صعب علينا ويدخلوننا الامتحانات بشكل رسمي....حاولت التوفيق بين عملي ودراستي قدر المستطاع....الحقنا شقيقتي وصديقتها لمجموعة من أبناء جيلهما , تقوم بتدريسهم معلمة نازحة معنا....
أسابيع أخرى عشناها في مخيمنا ولا جديد....
في بادئ الأمر منذ مجيئنا هنا كنتُ أقضي ليلتي على فراشي...أقارن حياتي السابقة بالحاضرة....أتحسّر عليها....أشتاق لها....لم أشعر بِنِعَم الله علينا الّا من بعد افتقادي تلك الحياة....
ألم يكن يكفي استيقاظي من فراشي الدافئ بعدما ردّ الله اليّ روحي نعمة كبيرة يجب ان احمد الله عليها؟؟ ألم يكن وجودي بين أهلي وأصدقائي جميعنا بخير... نعمة تستحق الثناء؟؟؟ ألم يكن امتلاكنا ما لذّ وطاب من الطعام وحصولنا على أغلى اللباس فضلٌ عظيم وكرم من الله يجب ان نسجد شاكرين له؟؟
{{ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لَا تُحْصُوهَآ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}}
الحمد لله دائماً وأبداً...
ها أنا من جديد أنعَم بعطايا الله.....فرزقنا السلامة انا وعائلتي...رزقنا الصحبة الصالحة... رزقنا عملاً نعتاش منه والكثير....لا نهاية لعطاء الكريم....
×
×
×
الجو شديد الحرارة.... أتصببُ عرقاً ....يبدو ان حزيران هذه السنة من بدايته يخبرنا بلهيبه القادم ..يحمل الأجواء الصحراوية الجافة....عدتُ الى خيمتي بعد ان كنت أراجع دروسي بعيدا عنها في الوادي القريب هروباً من بكاء (شادي) وقفزات (دنيا) البهلوانية....كنت أحيانا أطلب منهم الخروج ليتسنّى لي الدراسة...يجب ان يتحملوني فالامتحانات على الأبواب في نهاية هذا الشهر ويستحيل عليّ التركيز مع أي حركة أو صوت....لكن مع هذه الدرجات الحارقة لا يمكنني طردهم وكان عليّ إيجاد مكان أدبر أموري به....
دخلتُ الخيمة وكان الوقت بعد العصر...والشمس ترسم ظلاً خارجها لتجتمع أمي وخالتي و(ام سلمى) وجارتنا في المخيم الخالة (فاطمة) لاحتساء القهوة كعادتهن....
كنت اتسطح على فراشي الأرضي لأجدد طاقة قبل عودتي للدراسة.....وصدى صوتهن يرن في الداخل...فأخبرتهن جارتنا باقتراب موعد ما...
لم ألقِ له بالاً.....
~~~~~~~~~~~~~~~~
حجز في فندق لأسبوع كامل في المدينة الساحلية بعد أن تبقى له أكبر مخيمان يتواجدان بها......قرر البدء بإحداهما وهو الواقع بين البحروالجبل....
" آه يا إلهي ..أخيراً وصلت"
تنهد السيد(ماجد) هامساً بخفوت.....
ترجل من مركبته فانغرس حذاءه بالوحل الذي يفيح منه رائحة كريهة....دنا أكثر من المخيم المكتظ....جالَ سابقاً بين المخيمات ورأى ما رأى....لكن هذا كان أسوأها وضعاً على الاطلاق....حالته مزرية بشكل لا يحتمل...فهو بلا حدود...ارضه غير مستوية....في الشتاء مياه الامطار التي تنحدر من الجبال باتجاه البحر... تمرّ منه تغرقه....تجرف معها الأخضر واليابس بما فيها خيمهم ويبقى تأثيرها للصيف......هذه المدينة الى الان لم تنشئ خطوطاً للمجاري خاصة بالمخيم.....فمن يقطنه معظمهم هاجر بالتهريب من غير تصاريح واستقروا به بعد وصولهم تلك البلاد....كانت المدينة تحتاج لميزانية مرتفعة جدا للعمل به ...وبما انه ليس بمنطقة حيوية بسبب تضاريسه الصعبة تجاهلوه لصب مالهم للمناطق ذات الأولوية......
أين أنتم يا عرب ؟؟ أين انتم يا مسلمين ؟؟ أين أصحاب المال والنفوذ؟!
تعالوا انظروا كيف يعيش أبناء أمّتكم....
تهدرون المال على التفاهات والحفلات الماجنة وهنا أرواح تفتقر لأدنى أنواع المعيشة!!
أناس رحلوا من بيوتهم الآمنة , النظيفة , مجبرون ....أناس تحولت مساكنهم الى ردم...هربوا من سيئ لأسوأ !! تفرّقوا عن احبابهم....فقدوا لذة لمة العائلة في رمضان والأعياد والمناسبات....نزحوا الى الشتات لعلّهم يجدون حياة خالية من صوت الرصاص.....جاؤوا يلتمسون الأمان...
ليتهم مكثوا فوق مخلّفات بيوتهم النظيفة ولم تلامس أجسادهم البريئة الطاهرة تلك القاذورات التي تحمل اوبئة لا علاج لها....
بعد ان سبح السيد (ماجد) في هذه المشاهد التي تحمل الفقر , البؤس والذل ....عاد بهمومٍ أكبر دون أن يجد طرف خيط يوصله الينا.....
~~~~~~~~~~~~~~~~
يرتدي نظارته الطبية.....يجلس بأريحية في مكتبه على كرسيه الهزاز المصنوع من خشب البلوط الذي يحتل الزاوية القريبة من النافذة الزجاجية المطلة على حديقة القصر, وخيوط شمس بعد العصر تتسلل منها لتضيء صفحات الجريدة التي يقلّبها بين يديه....يتنقل من خبر لآخر ....بين الأخبار السياسية وأوضاع بلاده الأم وبين الأخبار الاقتصادية والبورصا....رفع رأسه ملتفتاً نحو الباب حيث طرقات متطفلة تزعج خلوته.....
" ادخل.."
دلفت السيدة (فاتن) قائلة:
" عمت مساءً.....جئت لأذكرك بموعد زيارتي"
تنحنحت وأضافت:
"أرجو تجهيز المركبات وإعطائي بطاقة المصرف الخاصة بشقيقتي رحمها الله "
رفع يده يمسك طرف النظارة بسبابته وابهامه ....يخفضها قليلا ...يحدّج بها بنظرات تشوبها السخرية...ثم أعاد نظره للصحيفة قائلا بهدوء ساخر:
" أما زلتِ تريدين الاستمرار؟"
" بالطبع...لا يوقفني الا موتي"
" لا أعلم ماذا تجنينَ من ذلك غير العودة بأحذية ملوثة"
كتفت ذراعيها على صدرها ...تنتصب بوقفتها هاتفه بتهكّم:
" لا أعتقد أنك ستفهم هذا يوماً....يكفيني السير على درب كريمة التي عاشت عليه أجمل ثلاث سنوات من عمرها"
اقتربت أكثر نحوه ...تحرر يديها ...تومئ بإحداها ..مردفه باستنكار:
" أتستكثر عليها هذا بعد وفاتها ؟؟"
اغلق جريدته ...خلع نظارته يمسكها بقبضته ملوحا بها بلا مبالاة هاتفاً:
" لو كانت بيننا لوضعت ثروتي تحت قدميها...لكن هذا طريق لا يسمن ولا يغني من جوع"
" أنت تعلم أن الكلام بهذا الموضوع يصل دائما لطريق مسدود دون الإتيان بأي نتيجة....فلتبقَ على معتقداتك ونحن على معتقداتنا"
رسم بسمة جانبية على زاوية فمه ونهض يتجه لخزانة مكتبه ليخرج من الخزنة بطاقة الاعتماد الخاصة بالمرحومة زوجته.....لم ييأس ابدا من محاولة تنحيتها عن مشروعها الذي أكملت به بعد اختها والى الان لم ينجح بردعها.....مد يده نحوها يناولها إياها قائلاً:
"خذي ...عسى أن تعقلي يوما ما وتتركي هذه التفاهات"
أعادت له الابتسامة بتصنع....ابتلعت ريقها ثم جازفت هامسة بتردد :
" أتسمح لألمى بمرافقتي ؟؟"
تبدلت ملامح وجهه كمن صعق بالكهرباء ...طرق بكفيّ يديه على طاولة مكتبه....زفر أنفاسه المصعوقة ...زمجر قائلا:
" هل جننتِ؟؟!!"
انسحب من خلف المكتب يسحب غليونه معه ...اتجه الى الاريكة الطويلة ...جلس يرفع كتفيه بِخيلاء ..يضع ساقا فوق الاخر...أشعل ما بيده وقال بتعجرف :
"أتريدين من ابنة عاصي رضا أن تسير على القاذورات لتمرض ؟؟...هل تظنين أن أسمح لعينيها الجميلتان أن ترى المناظر المقرفة ؟؟ او لأنفها الصغير أن يشتم الروائح النتنة؟!...بالطبع مستحيـــل "
نهض من مكانه يقترب منها منفعلاً....يرفع سبابته أمام وجهها هاتفاً بحزم :
"انا لا شأن لي بكِ...أما ابنتي ايّاك ثم ايّاك غسل دماغها بمعتقداتكم اللعينة "
أدارا وجهيهما بنفس اللحظة الى الباب الذي فُتح على مصراعيه بعد ان دفعته حانقة بسبب تراكم الغصات في صدرها و تبكي بعد سماعها رفض أبيها لذهابها معها..وصرخت قائلة:
" أنتَ لا تحبني...لمَ لا تسمح لي؟...يكفي انك دائما مشغول ....لا تصطحبني الى أي مكان!! ذكرى وفاة أمي لم تهتم بها ....حفلتي المدرسية لم تحضر لها....دائماً تسجنني في البيت "
اختنقت بحلقها أخر كلمتين وانهارت بركبتيها على الأرض تغطي عينيها بيديها وتبكي بصوت مرتفع.....انفطر قلبه لمنظرها...اقترب منها يجلس القرفصاء ...يمد يديه ليزيح كفيها عن وجهها هامسا بحنان:
" لأني احبك يا اميرتي لا اريد لك الذهاب الى تلك الأماكن "
زمَّل رأسها بصدره ..يرمق الواقفة بغيظ ...يتهمها بأنها السبب بهذا وهو لا يدري أن الصغيرة بدأت تكبر وتحاول فرض رأيها بشيء من التمرد وكيف بشيء يخص والدتها؟؟!!
" ارجوك ابي...ان كنت تحبني فعلا, اسمح لي بالذهاب لمكان كانت امي تحبه "
حاول اقناعها وردعها وحتى اغرائها بأماكن أخرى تحبها لكنها صممت على طلبها...فاستسلم بالنهاية مجبراً , خائفاً من عدم تنفيذ وعوده الأخرى ....تنهد بعمق....وقال آمراً:
"حسناً...لكن بمرافقة الحرّاس فقط"
انفرجت أساريرها وقفزت الى حضنه ..تحاوط عنقه وتقبّله من خديه بلهفة جنونية بريئة , ثم هتفت مبتهجة :
" أنت أحسن أب...أحبك...أحبك "
~~~~~~~~~~~~~~~~~~
" اوف...ما هذا الضجيج؟؟"
تقلبتُ في فراشي ...أحاول دفن رأسي تحت المخدة ...لأطرد الأصوات المزعجة التي تخترق اذنيّ...ألا يكفي حر الطقس الذي ينغص عليّ نومتي!!.....تململت كثيرا دون جدوى....تأففت ورفعت جسدي جالساً على الأرض ملقياً المخدة باستياء!!....نهضت من مكاني بشعري الأشعث من اثر النوم وملابسي الفوضوية ...ازحت باب الخيمة القماشي لأطلّ برأسي للخارج افتح عين واغمض الأخرى من اشعة شمس الصباح...ابحث عن مصدر الازعاج.....وقع نظري على أمي التي تفترش الأرض ..تحيكُ شيئا ما....همست لها متثائباً بنعاس:
" صباح الخير... "
استدارت برأسها للخلف صوبي مبتسمة ...ترد بحماس :
" صباح النور حبيبي "
" ما هذه الجلبة يا أماه؟؟ أجاء العيد ؟؟"
اطلقت ضحكات حنونة وأشارت لي لأجلس بجانبها لتشرح سبب البلبلة وحملة التنظيفات المفاجئة......
كانت تضع (شادي) في سلة خاصة له...حصلنا عليها من أحد المتبرعين ...بدأ يشدو ببكائه ...فقالت:
" احمله ريثما انتهي "
قلت متسائلاً:
" اين خالتي ودنيا ؟"
اجابت وهي تمسح بكُمّها عرق جبينها من حرارة الجو :
" ذهبتا الى خيمة ام سلمى "
" هيا أيها الرجل الصغير لندخل نلعب معاً"
همست مداعباً اخي وانا احمله بين يدي ارفعه للأعلى وأهزّه ....
" يــع, ماذا فعلت ؟"
قلت مشمئزاً بعد أن استفرغ بقايا حليبه على جبيني ...من الجيد انه لم يلقها بفمي!!
ضحكت امي وقالت :
" لم هززته ؟..قبل قليل تناول زجاجة الحليب "
اجبتها بلا مبالاة وانا اعيده لها لأمسح جبيني :
" لم اظن انه مثل المشروب الغازي, سيفور بعد خضه !!"
وليتها ظهري لأعود للداخل فهتفت:
" اين تذهب؟... وشادي؟"
رفعتُ يدي رافضا هاتفاً:
" اريد ان ادرس ..سأستغل غياب المشاغبة "
×
×
×
في اليوم التالي...المخيم يرتدي أبهى حلة....نظيف...مرتب ...ومزيّن ببالونات من كافة الاحجام والألوان.....يعطي أجواء العيد ....حركة كبيرة...ضحكات أطفال...ثرثرات نسائية .....كنتُ في خيمتي فهي اليوم فارغة لانشغال عائلتي بمناسبتهم هذه....وكعادتي بالأيام الأخيرة , الدراسة تأخذ اكبر حيّز من وقتي ... ولا اكترث لشيء آخر.....لأنه معي أسبوع فقط لتهلّ علينا الاختبارات الصيفية...
وسط المخيم بالقرب من المصلّى يتجمع معظم سكانه....ينتظرون ببهجة وسرور ....من يراهم يعتقد أن تأشيرات العودة للوطن جاءت...ومن بين المحتفلين ..أمي , خالتي , الخالة (ام سلمى) وكذلك جارتنا (فاطمة)....
" هل ستعجبها حياكتي وتصميماتي للإكسسوارات ؟؟"
سألت أمي بارتباك....
" بالتأكيد...لا تقلقي إنها جميلة حقاً ..سلمت يداك"
أجابت( فاطمة)....وتبعتها خالتي(مريم) تقول :
"نأمل ان يعجبها ما صنعنا انا وام سلمى من معجنات "
↚
" بالطبع ستعجبها ..إنها متواضعة وطيبة ...انتظرن وشاهدن بأنفسكن "
أردفت( فاطمه) تحاول طمأنتهن.....فهتفت (ام سلمى) بسخرية :
" اوه تنتسب لعائلة راقية وتكون متواضعة !!...لا اصدق"
هزت رأسها ضاحكة من سخريتها وقالت مؤكدة :
" بل صدقي..."
~~~~~~~~~~~~~
تقف أمام مرآتها ....تعدّل حجابها الوردي الذي يعكس بشاشة وجهها ببشرته السمراء بعد أن تأنقت مرتدية قميصاً أبيضاً كبياض قلبها مع تنورة طويله تماثل حجابها...حملت حقيبتها الصغيرة البيضاء ....وقبل أن تمد يدها لمقبض الباب ...فاجأتها (ألمى) تدفعه بحماس هاتفة :
" صباح الخير خالتي ...أنا مستعدة"
" أهلاً بالأميرة الجميلة...صباح الفل والياسمين"
ردت عليها ثم انحنت تقبل وجنتها ...وأضافت :
" اخبريني ما هو شعورك حبيبتي ؟!"
" أتسألين عن شعوري؟! أنا متحمسة جداً..."
قالت تطبق كفيها على بعضهما امام صدرها , تغمض عينيها باسترخاء وأكملت حالمة:
"لا أصدق أني سأذهب أخيراً الى أكثر مكان كانت تحبه أمي"
مدت يدها تزيح خصلات عن وجه صغيرتها متبسمّة بحنان ثم نزلتا سوياً للإفطار وبعدها للتوجه الى المركبات....
~~~~~~~~~~~~~
يبدو أن هناك شخصاً أخراً لا يريد تفويت احتفالهم هذا باليوم السعيد كما يزعمون...انه (شادي)...هل هذا وقته ؟!..لا اعلم لم استيقظ ...أيظن انني متفرغاً له ؟؟
" أرجوك يا عزيزي نَم .....لن يعتب احداً عليك "
حملته أربّت على ظهره بلطف علّه ينام...لكنه مصممًا على الاحتفال....
" لم تمضي نصف ساعة على طعامك ...غير معقول انك تريد المزيد!! "
زاد ببكائه....تمشيتُ به بأرجاء الخيمة ...اعتقد أنه يتألم من تراكم الغازات في بطنه !!....يا صبر ....متى سينتهي هذا اليوم؟!..لأرى ماذا سنجني منه ؟!
عدتُ الى فراشي...تربعتُ صانعا سريراً مجوّفاً بساقاي ...وضعت المخدة في حضني ومن ثم الصغير فوقها على بطنه وبدأت اهز رجليّ لربما يرتاح قليلاً.....
من حسن حظي , انه أكرمني بسكوته لأبحر في دروسي...فمراقبتي لوالدتي بطرق اسكاته أتتني بنتيجة.......بعد لحظات همست متنهدا :
" آه الحمد لله لقد نام اخيراً"
لو لم يفعلها لأرسلته لأمي لتهتم به...دراستي أولى من احتفالهم!!
دقّت الساعة تعلن انها الحادية عشر ظهراً....وصل صرير عجلات المركبات الفخمة الى مخيمنا السعيد.....لا بد انها شرّفتنا سيدة هذا اليوم ..
لم يغلبني فضولي وعدت بتركيزي مجدداً اعارك صفحات كتابي......
كان موكباً كبيراً من المركبات السوداء اصطفت خلف بعضها تباعاً في أطراف المخيم.....تجمّد سكانه في مكانهم بعد رؤيتهم رجالاً يترجلون منها بخفة رغم ضخامة أبدانهم ...يرتدون بدلات سوداء ونظارات شمسية....يقفون بثقة مرفوعين الهامة وبانتظام بكامل الأناقة...أسلحتهم في ظهورهم على أُهبة الاستعداد....التفتت خالتي (مريم) مذهولة للجارة (فاطمة) متسائلة :
" ما الأمر؟..أشعر انني في فيلم للعصابات ...أهذا هو التواضع الذي أمْطَرتنا به ؟!"
أجابت مترددة دون أن تزيح نظرها عن المشهد أمامها :
" انتظري!!....معقول أن...لا لا مستحيل!"
تعجبت امي من ردها فقالت:
" ما هو المعقول والمستحيل ؟؟"
همست بخفوت مجيبة:
"أظن أن شخصاً مهماً بصحبتهم!!...لأن السيدة تأتي منذ سنوات من دون حرس"
هتفت ( ام سلمى ) بتعجب :
" مثل من ؟!....لا تقولي لي رئيس الدولة "
" السيدة الصغيرة مثلاً!!"
أجابت على الفور...ثم أكملت نافية :
"لكني على يقين أن السيد الوزير لن يسمح بذلك....فهي لم تأتي بتاتاً في السابق حتى مع والدتها!!"
نزلت السيدة(فاتن)...وتبعتها سيدة خمسينية تبدو أنها احدى العاملات وذات شأن عندهم.....
حاولت (أم سلمى) كبت ضحكتها بكف يدها وهمست بسخرية:
" هل هذه السيدة الصغيرة؟"
ردت فاطمة وحدقتيها ما زالتا تراقبان أبطال الفيلم أمامهن:
" لا...هذه المربية خاصتهم...تدعى السيدة سهيلة...كانت تأتي سابقا مع السيدة كريمة رحمها الله"
لحظات وتدّلت قدمان صغيرتان تنتعلان حذاءً احمراً لامعاً....نزلت بحذر حتى لامست الأرض من تحتها...ترتدي فستاناً من الأحمر القاني بأكتاف عريضة ...يتوسطه حزاماً جلدياً اسودا ً.....تنورته كلوش تصل الى تحت ركبتيها بقليل وتزينها دوائر صغيرة سوداء....تضع مشبكاً بنفس اللون فوق أذنها اليمنى لتبعد عن وجهها جزء من شعرها المنسدل....سارت بحذر تلتفت يمنة ويسرة....ترمق من حولها بنظرات اندهاش....
تلك من أضجّت مخيمنا ومن فيه بحرّاسها وكأنها سمو الملكة.....ربما جاءت من كوكب اخر ولا علم لنا!!؟؟
جلست السيدة (فاتن) في المكان المُعد لها في وسط الساحة....حيث يفرشون الأرض بقطعة من الحصير وفوقها طاولة تغطى بشرشف من الساتان باللون السكري وفوقه مزهرية زجاجيه شفافة بها باقة ملوّنه من زهر التوليب...والبالونات موزعة في كل زاوية....كانت على جانبيها المربية وسمو الملكة الصغيرة....بدأ الناس بالتهافت بحرارة وحماس ..ليس فقط من اجل مناسبتهم المنتظرة...انما اليوم له رونق خاص...فابنة سيدتهم الكريمة (كريمة) تكرّمت عليهم بزيارة ليس لها سابقة....دفعهم الفضول ليتجمعوا في هذه البقعة بعد ان انتشر الخبر كالنار بالهشيم ...فمن كان له دور ومن لم يكن ...ترك كل شيء وجاء ليرى ابنة وزير بلادهم السابق الذي عُرف عنه بحرصه الدائم لإخفائها عن عامة الناس ... !!....كان هذا يرحب بالصغيرة وهذا يصافح الكبيرة.....بدأوا بعدها بعرض وتقديم ما صنعوا من منتوجات ...فعلى مدار سنوات أسست السيدة (كريمة) من مالها الخاص جمعية أطلقت عليها اسم (جبر الخواطر) هدفها مساعدة المحتاجين...ولم تجد أولى بالاهتمام, من أبناء وطنها النازحين...كانت دائما تخصص السادس من حزيران وهو يوم ميلادها ...لزيارة المخيم الأقرب لمسكنها...تقضي يوماً كاملاً به...تشجعهم على صنع أغراض مما تجود به سواعدهم لتسوّقه لهم ليربحوا بعض القروش ....بالإضافة لذلك تقوم بجلب هدايا للأطفال وتفقد من يحتاج لعلاج او دواء لتتكفل به عن طريق جمعيتها...ومن بعد وفاتها خطت على خطاها شقيقتها ليكون مشروعها هذا صدقة جارية عن روحها....
" ما شاء الله على هذا الجمال .."
همست بصوت منبهر جارتنا الخالة ( فاطمة) وأضافت توجه كلامها للسيدة (فاتن) :
" نسخة مصغرة عن السيدة كريمة رحمها الله"
اومأت لها شاكرة لطفها ...تقدمت بعدها أمي صاحبة اليد الذهبية بالحياكة وشك الخرز لتريها ابداعاتها .... ولحقتها خالتي و(ام سلمى) البارعتان بصنع المعجنات والمأكولات....
بينما ضيفة الشرف السيدة (فاتن) منشغلة بالعروض امامها , كانت أمي تراقب ابنة شقيقتها , تحدّق بها , لا ادري ان كان شعور الأمومة او عطفاً على اليتيمة , فهكذا هي نبض الحياة ,دائما تفيض بالمشاعر الجياشة من حنانها ....ولربما كان سبباً اخراً!!
انتبهت الى نظرات الجالسة ,المعلّقة بتلك الزاوية على يمينها حيث تلهو( دنيا و سلمى)...كانت نظرات بين الضجر والملل فمسائل الكبار لا تهمها!!..وبين الحسرة والألم لحرمانها من اللعب كيف تشاء ومع من تشاء ؟!
تقدمت ..تنحني قليلا بظهرها ليصلها صوتها بين ضجيج الناس وطلبت بلطف :
" هل تسمحين للسيدة الصغيرة بمرافقتي للعب مع ابنتي ؟!"
التفتت السيدة (فاتن) الى يمينها تستشف الإجابة من نظرات (ألمى) فقرأت بها الرجاء بالموافقة....أعادت عينيها مرة أخرى لأمي وقالت برقة :
" نعم لا يوجد مشكلة...لكن أرجو ان لا تبتعد كثيراً"
أخذت امي بيدها تتوجه حيث تتواجد الصغيرتان...لحقها على الفور احد الحراس الذي زجرته السيدة (فاتن) تمنعه عن ذلك فهي لا ترى ان هناك حاجة وهي في مكان آمن بين قلوب طيبة لا تحمل أي ضغينة....قدّمتها لهما بعد ان وصلت ....اوصتهما عليها وتركتهن ليلعبن بحريّة ...
" هيا لنغير اللعبة إذاً بعد ان اصبحنا ثلاثة "
هتفت (سلمى) بحماس...
شرعنَ باللعب وكأنهن صديقات منذ زمن....لكن ما لفت انتباه (دنيا)هو اهتمام ضيفتهما ( ألمى) بنظافتها....فكانت بين الفينة والأخرى...تقف تنفض فستانها ليزول عنه ما علق به من غبار...ثم تنحني تمسح حذائها بيدها بعد ان أطفأ تراب المخيم لمعانه....فقالت لها:
" هل هنالك شيء يضايقك؟؟"
ردت بملامح عابسة :
" ملابسي تتسخ...سيغضب أبي مني!!"
" لمَ؟!..ألا تملكين غيرها ؟!"
سألت (سلمى)ببراءة...
" بلى ..لكنه يخشى عليّ من كل شيء"
صمتت قليلاً وأردفت :
" هل يمكننا اللعب في غرفة احداكما ؟!"
حدّجتا الصغيرتان ببعضهما باندهاش من سؤالها لتقطع هذه النظرات (دنيا) هاتفة باستنكار :
" أي غرفة؟؟...أتظنين أنك بأحد أحياء الأغنياء ؟!.."
فردت يداها على اتساعهما تحرك رأسها في كل الاتجاهات وأكملت :
" هنا المخيمات...انظري جيداً الى بيوتنا....عائلة كاملة تعيش في خيمة!!"
رفعت (ألمى) رأسها تطوف في بصرها حيث اشارت لها ثم أخفضته تنظر لقدميها بخجل...استدارت وخطت خطواتها لتعود الى خالتها ظناً انهما غضبتا منها ولا تريدان الاستمرار باللعب معها بعد سؤالها...
" ألمــى ..توقفي..أين تذهبين ؟"
صاحت (دنيا) ولحقتها ( سلمى):
" الا تريدين اللعب معنا ؟!"
انفرجت تقاسيم وجهها وركضت نحوهما هاتفة :
" بلى بلى ..ظننت أنكما انزعجتما من سؤالي "
قالت (دنيا) بعقلها الذي متى تريد تجعله ناضجًا ..تتحكم به حسب مواقفها وما يخدم مصالحها:
" لا ذنب لكِ..لا تهتمي....هيا تعالي معنا لتتعرفي على مخيمنا ونريك اين نسكن "
أخذنَ يتجولن ثلاثتهن بين الخِيَم...يتبادلن الاحاديث البريئة ..فقالت (دنيا):
" في بيتنا في الوطن أملكُ غرفة جميلة , واسعة , مليئة بالالعاب...أنا اشتاق لها كثيراً"
صمتت برهةً تكبت دموع عينيها بعد شعورها بالحنين..تنهدت بعمق ثم استرسلت بكلامها ترسم ابتسامة صادقة...تضع يدها الصغيرة على كتفِ(سلمى):
" أما الان يكفيني وجودها بجانبي ...ربما سآخذها الى غرفتي في يومٍ ما "
" أنتما محظوظتان بصداقتكما... انا لا صديقة لي"
لمحت (دنيا) لمعة الحزن في عينيها فهمست لتطيب خاطرها:
" نحن الان صديقاتك "
كنتُ جالساً في خيمتي...بالي مشغول ...انه سؤال معقد جداً لم اصادف مثله!!...لكني انا ضد الانسحاب فإما انا او هو ....سأستغل هذا الهدوء وأفككه حتى احصل على اجابتي...
بينما انا في خضم هدوئي هذا.....وصلني صوتها :
" هااادي ...لقد جئنا "
لم اهتم لمناداتها ..انا اخوض معركتي الفكرية وأكره مقاطعتي ...هتفت مرةً أخرى:
" هاادي نحن هنا"
لم يتحرك بي شيئاً ..جلّ اهتمامي اصبّه بالمأزق الذي بين يديّ....احتقن وجهها ...هتفت بنبرة اكثر حدة وهي تسحب الكتاب مني بخفة:
" هاااادي"
" دنيااا...أعيدي لي الكتاب حالاً وإلّا قسمًا...."
رفعت رأسي حانقاً...صارخاً بها لأردعها بعد ان اضنت أعصابي ...بُتِرت آخر كلمة....
اختفى صوتي ...عيناي أطلقت صاروخاً مشتعلاً ليصطدم بالسماء وأيّ سماء ؟!
تسمّرت في مكاني ...صمتٌ رهيبٌ عمّ المكان....نظراتي مبهمة....لو أنني في الجنة لعلمت انها حورية !!.....لكني أعي انني ما زلت على الأرض....هل هذه دمية متحركة ؟!!
عينان واسعتان أسرتا السماء الزرقاء في يومٍ ربيعيٍّ لا تخدشه الغيوم....شعرٌ منسدلٌ أشبه بذيلِ حصانٍ اسودٍ أصيل...يتموج بلمعانه كليلةٍ طفت على سطح الماء....بشرة بيضاء نقية مثل الثلوج على قمم الجبال لم يدنسها بشر ولا حجر....تبارك الله احسن الخالقين....
كانت شقيقتي تلوح بيديها أمامي, دون جدوى لأني ما زلت أحلق في هذه السماء ....
" هادي ...هادي ....أين ذهبت؟ "
نفضتُ رأسي عائداً الى الأرض...تنحنحت وقلت :
" نعم دنيا انا هنا......مممم....من هذه الصغيرة ؟!"
ردت (سلمى):
" انها صديقتنا الجديدة ألمى "
" هل هي من مخيمنا ؟!"
سألت باستنكار وأنا انظر الى نظافة وأناقة ثيابها...
" لا انا أتيت مع خالتي فاتن "
يا الهي ما هذا الصوت وهذه الرقة؟!!...لم أسمع نغمات صوتية ناعمة لهذه الدرجة من قبل ...فشقيقتي تتحفنا دائما بصراخها المزعج وحتى عند قراءتها القرآن ما زالت لا تسيطر عليه لتفرض هيمنتها .....
تبسّمتُ مُرحِّباً بها وقلت :
" تفضلي الى الداخل لتلعبوا سوياً...سآخذ استراحة من مذاكرتي "
لم أرِد أن احرج اختي امام ضيفتها فقررت ترك الدراسة لأفتح المجال لهن للعب براحة وحرية.....
جلستُ متكئاً بمرفقي على وسادة بجانب الصغير النائم....اراقبهن بصمت...كانت تسألهن عن أشياء كثيرة أشعرتني انها من عالم آخر.....بعد مرور عدة دقائق , حملتُ كتابي مجدداً عسى الله ان يفتح عليّ ويلهمني الإجابة....كانت مولية ظهرها لي...ضاق صدري من تعقيده , تأففتُ فاستدارت تنظر بفضول....اقتربت ببطء ببراءتها...جلست جانبي ...تدسّ وجهها بكتابي...تحجب الرؤيا من امامي...تحملق بالصفحات....اخترقت أنفي رائحة شعرها الأناناسي....رفعتْ وجهها ...كادت تصطدم بوجهي ..عدتُ بظهري للوراء لأضع مسافة بيننا...كانت تسأل عن فحوى الكتاب بهمسات عذبة تصهر القلب برقتها...وأنا أسايرها ..اجيبها بصبر أتكبده... فتلك العينان بهما سحر خاص ...من ينظر لهما لا يستطيع النظر لشيء آخر وانا اريد ان اركّز!!...تنحنحت وقلت :
" هيا يا ألمى عودي الى اللعب...هذه مادة للمرحلة الثانوية....ستدرسينها لاحقاً"
حاولتُ إقصائها بلطف ... لكن المشاغبة (دنيا) قفزت نحوي تمسك يدي تشدّها لأنهض هاتفة :
" تعال العب معنا "
وتبعتها حليفتها (سلمى) تفعل بالمثل...
كانت تنظر مبتسمه لنا.....نهضت مجبراً وبدأت الاعبهن العاباً شعبية مختلفة....وبالطبع كله جديد بالنسبة لها لا تفقه منه شيئاً لكنها انسجمت وتعالت ضحكاتها التي تعكس بهجة روحها....لا انكر انني ايضاً شعرت بالسعادة لرؤيتي لهن في هذا الحال...
" هادي هيا لنتنافس في القران ولتحكم بيننا "
اقترحت (دنيا) هذا التحدّي...كنت دائما اعطيها بعض الآيات من *جزء عم* لتكمل... او انقص كلمه لاختبر حفظها....وانضمت لنا صديقتها في الآونة الأخيرة لتحفظ معها..!!...بدأنا بالتحدي..اما ضيفتنا اكتفت بالصمت...سألتها بهدوء :
" ألن تشاركينا؟!"
توهجت وجنتاها حرجاً...اخفضت عيناها تنظر لأناملها في حضنها وهمست بخجل :
" أنا لا أحفظ غير سورة الفاتحة "
يبدو أن أهلها لا يعلموها القران....مشغولون بالدنيا الفانية.....
" ممم ...ما رأيك لأعلمك أنا ما تيسر من قصار السور ؟! "
عزمتُ على تعليمها ولو آية لأكسب الأجر ...كان شيخي رحمه الله يحثنا على نشر القران ويذكرنا بـ *خيركم من تعلم القرآن وعلمه*.......تهللت اساريرها من اقتراحي وكأنها كانت بضيق وجاء الفرج لأنها كانت كالأطرش في الزفة لا تفهم ما يدور حولها...
↚
" عَلِّمها سورة النصر لينصرنا الله ونعود للوطن"
هتفت (دنيا) تعطي قرارها....
كنا في حلقات القرآن نحفظ عن طريق التلقين في البداية في سنٍ صغير وبمساعدة ايماءات دلالية لكلمات الآية....كانت هذه احدى الأساليب الناجعة للأطفال....لذلك لقنتها السورة كما تعلمت .....انها ذكية لدرجة اتقانها لها بوقت قصير بالإضافة للإرادة التي تصنع المستحيل....اما في بيتهم لم تحفظ سوى الفاتحة وسببها لتوهبها لامها....حاولت خالتها جاهدة تلقينها ما تيسر من السور القصيرة لكن محاولاتها باءت بالفشل لأنها لم تجد المفتاح الذي يفتح قفل عقلها...
بعد أن أتمت قراءتها امامي لوحدها...نظرتُ الى احدى زوايا خيمتنا ..حيث نضع رف من الخشب على الأرض وجانبه صندوق نرتب كتبنا واغراضنا ..كان على الرف حجران ملونان ..احداهما كتب عليه اسمي والأخر اسم اختي...لقد لونتهما بنفسي فتلك من احدى هواياتي النقش والرسم على الحجارة .....فكرتُ لو كان معي متسعًا من الوقت لصنعت لها واحدا كجائزة تشجيعية لحفظها....لكن يبدو ان لا نصيب لها اليوم .....وقع نظري على مقلمتي ...تناولتها أخرجت قلماً رصاصيا جديداً ...وقلت :
" سأحفر اسمك عليه ليكون جائزتك لليوم ...."
صمتّ ثواني وأضفت بتردد :
" ما رأيك ان تأتي مجدداً في العطلة الصيفية لنكمل حفظ ؟؟..."
أشرت للحجرين أمامنا وأكملت :
"سأحضّر لكِ مثلهما المرة المقبلة باسمك.."
برقت عيناها فرحاً وهمست بامتنان :
" رائع ....كم هما جميلان!!....سأخبر خالتي لتقنع أبي"
مدت يدها تسحب القلم من يدي....نظرت اليه وقالت :
" أكتب مع إسمي ,أسمائكم .."
" لا يمكنني ...لا يتسع لذلك!!.....ممكن فقط أحرف أسمائنا "
اومأت برأسها هامسة بخفوت :
" حسناً ..أفضل من لا شيء "
بعد أن انهيت عملي بالنقش على القلم بدقائق...وصلنا صوت احد الأولاد من زملاء (دنيا وسلمى) ينادي عليهما بعد ان بعثته امي ...خرجتا له فقال :
" كنتُ ابحث عنكما لتعيدا السيدة الصغيرة للسيدة فاتن "
نادت (سلمى) على ضيفتنا ..فتبعتهما للخارج ..جثوت أمامها لأوازي طولها ...مددتُ يدي مبتسماً مصافحاً لها...فلمست شيئاً من الخشونة على ظهر يدها...رفعتُ احدى حاجباي متسائلاً وانا ما زلت متمسكًا بها :
" ما هذا ألمى ؟! "
" أرني ماذا يوجد ؟"
اقتربت (سلمى) هاتفة....وتبعتها (دنيا) بفضولها....
سحبت كفها من يدي...تشد على قبضة يدها ...تعيدها للوراء.... تغرز اظافرها بباطنها ...وتجمعت الغيوم في سماء عينيها لتسمح بقطرتين بالنزول.....رفعت يدها الأخرى الممسكة بالقلم , لتمسحها ...تنهدت وقالت بصوت مخنوق :
" إنـ .....إنه حادث قديم "
شتمتُ نفسي في سري نادما...ما كان عليّ التدخل بما لا يعنيني!!..منذ متى أصبحت فضوليا ؟!...ام اصابتني العدوى من شقيقتي؟؟!!....يبدو أنني قلّبتُ عليها المواجع....تعاطفتُ معها وكذلك الصغيرتان...حاولتُ تدارك الموقف قبل ان تفتحا تحقيقًا معها لمعرفة السبب , فأنا اكثر من يفهم عقولهما وخاصةً الفضولية (دنيا)...تبسمت هامساً بلطف :
" سررنا بمعرفتك يا ألمى ....هيا في امان الله اذهبي مع دنيا وسلمى الى خالتك....ولا تنسي العودة لنتابع حفظكِ.....نتمنى أن نراكِ مجدداً "
شقت ثغرها بسمة تليق ببراءتها لتضيف نوراً فوق نورها...لوّحت بيدها الرقيقة مودّعة...اولتني ظهرها تتوسط الصغيرتان لتذهب في سبيلها....
خطوات قليلة بحجم اقدامهن الصغيرة تلاها صوت انفجار بالونات الزينة من مجموعة أطفال يلهون بالقرب منا.....لتصاب (ألمى) بالذعر ....كانت كمن مسّها الشيطان.....تتخبط مكانها .....تغلق اذنيها بأناملها ....تحني رأسها لصدرها تارةً .....وترفعه تارةً... تلتفت يمنة ويسرة......تبحث عن مكان لتختبئ.....ثبتت بحدقتيها اللتانِ أصبحتا برؤيا ضبابية نحوي ...بدأت تجري من غير ادراك لتلتمس الآمان....فما كان مني إلّا أن أجثو أمامها...أتكئ بإحدى ركبتيّ على الأرض وناصب الأخرى...فاتحاً ذراعيّ لتخترق أحضاني ...حوطتها بهما وهي تدفن وجهها في صدري ..تتشبث بقميصي بقبضتيها من الخلف... رجفات متتالية تسيطر على جسدها النحيل...تعاقبت أنفاسها ....تستصرخ بشهقاتها الطمأنينة...عصرتها بين ضلوعي لأمدها بالسكينة وهمست بحنوٍ:
" لا تخافي ألمى...إنه مجرد بالون!!....لمَ كل هذا الذعر انا لا افهم ؟!"
مع سماعها كلماتي ازدادت تعلقاً وعلا صوت بكائها ...رفعتُ يمناي أمسد على شعرها الليليّ...قربت شفتاي لأذنها وبدأت أرتل بها ما تيسر من الآيات بصوت خفيض ...دقائق وهدأت أنفاسها تبعها فتور اعصابها ...
لحظات ونحن على هذه الوضعية ولم نبتعد إلّا....
~~~~~~~~~~~~~~~
شدّ انتباه السيد(ماجد) وجود مركبات بكامل الفخامة عند دخوله المخيم الثاني ...وقف يتأملها بفضول!!....بينما هو شاردٌ بها , مرّ من امامه أحد الباعة فطلب منه ان يرشده الى مسؤول المخيم ....
" مخيمكم نظيف ومرتب....ليس كالبقية "
وجّهَ كلماته للذي يسير بجانبه وهما في طريقهما لخيمة المسؤول....
اطلق البائع ضحكات خفيفة وقال :
" يكون في كامل نظافته في هذا اليوم بالتحديد من كل سنة "
" لمَ هذا اليوم بالذات؟ "
سأل بتعجب خصوصا بعد أن رأى اصطفاف تلك المركبات بشكل مشبوه....
" كانت زوجة الوزير السابق عاصي رضا تخصص هذا اليوم لزيارة المخيم لمساعدة اللاجئين ...وبعد وفاتها استمرت شقيقتها بذلك "
كاد يبتلع لسانه....وقع الاسم في اذنيه كصبّ الرصاص داخلهما....لم يفكر ولو واحد بالمئة انه سيسمع بهذا وهو يجول بين المخيمات خاصةً...ازدرد ريقه وتنحنح يعيد صفاء صوته وهتف :
" ماذا؟!....اذاً تلك المركبات الفخمة لهم !!"
أجاب البائع :
" نعم ...ولكن اليوم بالذات كان مميزًا !! "
رفع حاجبه متسائلا :
" مميزًا؟!...لماذا؟! "
" لأن السيدة الصغيرة ابنة عاصي رضا هذه المرة الأولى التي تزورنا بها "
هتف بافتخار وكأن البركات هلّت عليهم بزيارتها .....
ضاع السيد(ماجد) في أفكاره...لا يصدق !!..الهذه الدرجة الدنيا صغيرة وضاقت بهم ليجده في هذا القرب!!....هو يعلم انه يقطن هنا وتحديداً بهذه المدينة الساحلية....لكنه على يقين ان من سابع المستحيلات ان يذكر اسمه بهذه الأماكن البسيطة الذي يشعر بالخزيّ منها من غروره وأنانيته....
" تفضل أيها السيد..لقد وصلنا"
همس بها البائع مشيرا لخيمة المسؤول الرسمي عن ما يخص المخيم وساكنيه....
~~~~~~~~~~~~~~~~~
" ابتعد يا فتى !!....لا تلمسها....سأكسر يداك ان كررتها "
حررتها من بين يداي مبتعداً عنها بعد صرخات أحد حراسها ...استقمتُ في وقفتي...قطبتُ حاجباي وقلت بجفاء :
" ما شانك يا هذا ؟ "
اندفع نحوي بغلّ وأزاح بهمجيّة من كانت تقف في طريقه ...اوقعها لترتطم بقضيب حديديّ من أعمدة الخيمة...
الى هنا جنّ جنوني ....شقيقتي ,مدللتي, دنيانا ..يدفعها هذا الهمجيّ أمامي من غير رحمة !!!
فما كان مني الا ان استلّ الكرسي الخشبيّ عن يساري بحركة واحدة ضاربا به رأسه بقوة صارخاً :
" إياك أيها اللعين أن تلمس أحداً يخصني "
دوت الصرخات من حولنا...أناس تجمعوا في المكان بعد الجلبة التي احدثناها......(سلمى) تبكي مذعورة وتحاول مساعدة (دنيا) على النهوض...(ألمى) ترتجف تبحث عن مُنْجِد....
عدتُ لاهثاً لشقيقتي...صدري يهبط ويرتفع انفعالاً....حوطت وجنتيها بكفيّ...رفعت رأسها أتفقدها بلهفة وخوفأ عليها...همست لها بارتباك :
" هل انت بخير حبيبتي؟؟ "
أومأت براسها بـ نعم ....أكملتُ غير مطمئن وانا أتحسس بلين الخدش الذي أصاب جبينها :
" هل يؤلمك؟"
حركت رأسها تجيب بـ لا وعيناها محتقنة بالدموع...ادرتُ وجهي الى يميني للجالسة بجانبنا تشهق خوفاً...سحبتها لأضمها مع اختي في حضني وهمست لها :
" لا تخافي سلمى انها بخير..."
في هذه اللحظة كان بعض رجال المخيم مشغولون بمساعدة ذلك الحقير...أما ضيفتنا الصغيرة مسكت بيدها مربيتها التي لحقت بالحارس ...تسحبها...لتعودان ادراجهما ...لكنها بدأت تقاوم باكية تحاول العودة لنا صارخة:
" اريد ان أطمئن على صديقتي دنيا..اتركيني .."
انتصبتُ بجسدي ...سرتُ خطوات قليلة نحوها وهي تبتعد رغماً عنها...توقفت مكاني بعد ان لمحت شيئاً يلمع , مُلقى على التراب....التقطته ومسحتُ ما علق به من غبار...هرولتُ بخطواتي هاتفاً:
" ألمــــــى...انتظري...ألمـــ ــى"
ولم أشعر الا بضربات تنهال على جسمي ..توقعني أرضاً وسط صرخات حاقدة :
" أيها القذر...كيف تتجرأ وتنادي سيدتك من غير احترام لا وبل تسمح لقذارتك ان تلمسها ؟؟!!"
ومن بين هذه الأصوات وصلني صوتها العذب تصرخ بهم من بعيد باكية...مكبّلة بيد مربيتها :
" اتركوه...اتركوه يا وحوش "
ثم نبض الحياة , أمي...تندفع...تحاول ابعادهم :
" اتركوا ابني يا أوغاد"
لا حياة لمن تنادي ..صُمَّت آذانهم ليستمتعوا بعملهم وينالوا رضى سيدهم......وفجأة توقفوا بعد آخر صوت نهرهم بحزم :
" توقفـــــــوا"
كانت هذه أوامر السيدة(فاتن) بعد أن أرسلتها المربية الى المكان لتفض الشجار المحتدم ....جمعت رجالها وانسحبت على الفور مُحرجة من افعالهم...لم
يكن الظرف يسمح لها بالاعتذار من والدتي هذه الساعة لأنها كانت كاللبؤة الهائجة على أشبالها لا يمكن الاقتراب منها ولا تُحاكى ....
~~~~~~~~~~~
" هل آذاك ذاك الفتى؟"
سألتها خالتها وهم يخرجون بمركباتهم من حدود المخيم....
كانت عابسة ...عاقدة حاجبيها بين الغضب والألم...تكتّف ذراعيها تنظر للأمام ...تخاصم من معها.....لم ترد بكلمة....فتابعت خالتها :
" اذاً آذاكِ.."
حررت يداها ...تستدير بجسدها ليسارها وعيناها دامعتان وأجابت بضيق:
" لا بل كان لطيفاً معي...أنا احببتهم...انهم أناس طيبون "
رفعت يدها التي بها القلم واردفت :
" حتى انظري...لقد علمني سورة النصر ولأني حفظتها أعطاني إياه وحفر اسمي عليه "
صمتت تبتلع ريقها...ضمت كفيّها الى حضنها تحتضن القلم...أسبلت جفنيها بقهر وهمست بصوت حزين :
" هل هذا جزاؤه ؟؟...لم بعث أبي هؤلاء الوحوش معنا ؟؟"
أسندت ظهرها لمقعد السيارة...شردت بالشارع من الزجاج الأمامي...تحبس دموعها واكملت هامسة تشعر بالغبطة :
" تمنيت ان أكون مثل دنيا وسلمى...لماذا لا أصدقاء لي ولا أخ يحبني ويخاف عليّ كما فعل هادي من اجل شقيقته؟؟"
التفتت نحو خالتها وتابعت بهمسها الحزين :
" لم تري خالتي كيف ضرب الحارس ووبخّه لأنه لمس اخته....لم تري لهفته وخوفه عليها !!.....هل كثير عليّ ليكون لي أحد يفعل هذا من اجلي ؟؟"
قاطعتها المربية تواسيها بحنية :
" والدك يفعل الكثير من اجلك ...."
لاذت بالصمت شاردة بعقلها ...هي لا تريد الأفعال التي ترتبط بالمال والهدايا...لا تريد ان يضع حارسا لحمايتها وهو اولى ان يكون بجانبها ويحميها بأبوته....اضافت السيدة ( سهيلة) تحاول تخفيف حنقها :
" أيضا كرم يعتبر اخوك...انتما الان لا تتفقان ..لكن غدا ستصبحان مقربان فعلا..."
صرخت رافضة مشمئزة :
" هو ليس أخي....لا احبه ولا يحبني.....انا اريد اخًا يحبني ويرعاني...اجده في أي وقت "
رفعت يمناها تحيط كتفيها.. تشدها لها بحنان ...متألمة من أجلها...هامسة :
" ليعوضك الله خير ويحبب خلقه فيكِ يا ابنة اختي الغالية "
~~~~~~~~~~~~~~
" أنا السبب !! لمَ اشفقتُ عليها ؟!..ما شأني بها "
كانت امي تجلس بجانبي تتكئ بمرفقها على ركبتها المنتصبة وتركن جبينها بكفها...تبكي...تؤنب نفسها ...بعد أن سحبتني الى فراشي بمساعدة خالتي والخالة ( ام سلمى) لأني كنت منهكاً من اثر الضرب بالكاد استطيع الحراك....
هتفت خالتي بصرامة :
" أيها السيد!! كيف تسمح لنفسك بالدخول هنا ومن انت ؟؟!!"
التفتنا جميعا للرجل الذي دخل خيمتنا من غير استئذان بوجهٍ مكفهر...يحدّق بي...يصكّ على اسنانه ....
" آه انا اسف ...عذراً منكم....لم أتحكم بردود فعلي بعد معرفتي بما أصاب ابن السيد محيي الدين "
" السيد محيي الدين؟؟!!"
سألت امي بتعجب بعد ان أوقفت بكائها, تتأمل الواقف بيننا فور سماعها اسم حبيبها.....اردفت خالتي بعدها:
" من انت ؟..ماذا تريد منا ؟ وما مدى معرفتك بالقائد محيي الدين "
زفر السيد أنفاسه ...رسم ابتسامة وأجاب بلطف رجولي :
" انا ماجد جئت من طرف صديقي سليم الأسمر"
استأذن منا للجلوس ليسرد حكايته....اقترب صوبي يتفحصني بنظراته وبدأ بقصّ ما حدث معه بداية من المرفأ حتى وصوله اليوم الينا......
بعد حديث طويل وطمأنته لنا عن اقربائنا في الوطن ...طلب منا تجهيز امتعتنا لننتقل الى الشقة في اليوم التالي....وانصرف في سبيله....
~~~~~~~~~~~~~~~~
" لن تصدق لعبة القدر "
اتصل بالسيد(سليم) فور خروجه من المخيم ليخبره عن عثوره علينا بسلام....
رد بفضول :
" اخبرني بالتفصيل ماذا حصل "
بعد ان أخبره بكل الاحداث ..نهايةً بمشكلتي....ثار غاضباً... متمنياً لوكان الوغد(عاصي رضا) بين يديه لينهي له حياته....وهتف باستهجان :
" الوغد .. الجبان...الى متى ظلمه سيستمر...هل ضاقت به الأرض ليصلهم حتى بالمخيمات النائية؟!"
" على العكس علاقته بالمخيم ستخدم خطتنا بشكل أفضل "
قالها السيد(ماجد) بثقة ليتبعه الاخر بصوته الجهوري:
" لا اعلم بما تفكر ...لكني اثق بدماغك "
ثم اكمل :
" متى سينتقلون الى شقتهم ؟؟"
تنحنح وأجاب بتردد :
" هنا المشكلة!!....في البداية رفضوا الانتقال الى أي مكان اخر بعد ان اعتادوا على سكان المخيم وكوّنوا صداقات وبصراحة انا استغليت الوضع ولم أصمم على ذلك وأيضاً هادي كان حانقاً وقال انه لن يخرج منه الّا لبيته في الوطن مدّعياً انهم ليسوا بقطط ليقضوا حياتهم بالتنقل هنا وهناك....حتى انه قال انه يريد العودة بأقرب وقت حتى لو اخذه جنود الدولة "
" يبدو انه يحمل أيضا عناد والده رحمه الله....وأنت لمَ لم تصمم؟!....حاول مرة أخرى .... لا بد ان تجد طريقة لإقناعهم "
تنحنح وقال:
"لن أحاول ولن أقنعهم"
ثم اكمل :
" اعتقد ان مكوثهم هناك هو خير "
رد على الفور باستنكار:
" ماذا تهذي ؟؟ كيف يكون خير لأناس اعتادوا على الرفاهية "
" الهدف الذي تسمو اليه , افضل تطبيق حيّ له هو عيش هادي هذه الحياة ليتعلم مواجهة الصعاب...هكذا سيُنْتَج لنا رجلا لو وضعته في صحراء بين الأسود لن يهابهم وسيخرج منتصراً....ثم ان وجودهم هناك بمثابة حماية لهم...لا احد سيفكر يوماً ان عائلة محيي الدين الشامي , تقطن بالمخيمات.....وكذلك علاقة شقيقة زوجة عاصي رضا بسكان المخيم ربما سيسهل علينا الكثير من الأشياء , خصوصاً اني سمعت تربطها علاقة جيده بنسائه"
ضحك السيد(سليم) مُعلّقاً:
" يا لك من ماكر..."
ثم أضاف بتوجس :
"ربما انك محق.....لكن أنت تعي ما هي حياة المخيمات لذا لا أرتاح لهذا "
" وأنت تعلم أيضاً انه لوقت مؤقت ولن يضرهم شيء...سيأتي ذلك اليوم بلمح البصر ان شاء الله ....فقط القليل من الصبر!!"
."أنا اثق بكَ واعتمد عليك بالاهتمام بهم ...وبتوجيه هادي الى الطريق التي رسمناها.."
~~~~~~~~~~~~~~~~~
" تفضل قهوتك "
دخلت تتغندر بفحيحها ...تحمل فنجانين من القهوة لتشرب مع زوجها....هذا الاهتمام المفاجئ جاء بعد عودة ضيوف المخيم الى قصر العنكبوت ...لقد رأت تجهم الوجوه وملابس الصغيرة مبعثرة , متسخة فشعرت بوجود خطب ما ...وبينما كانت السيدة(فاتن) والمربية تتناقشان بما جرى هناك , لم تمنع فضولها وقلة اصلها باستراق السمع وكانت كمن نالت جائزة من غير جهد ....لذلك نزلت الى مكتبه تبثُ سمومها.....
" شكرا..رغم اني لم اطلبها لكنها جاءت بوقتها "
رد عليها (عاصي)...
كان يحتاج لاستراحة بعد انكباب طويل بين ملفاته ....
" صحه وعافية....اردت احتساء القهوة ولا ارغب بشربها وحدي"
اسند ظهره الى كرسيه يتمطى قائلا:
" إذا سآخذ استراحة وأكمل لاحقاً "
حملت فنجانها تضع ساقا فوق الاخر وهمست بفحيحها :
" هل اخبرك السيد رائد السيد أنه سيبعث ابنه صلاح الى كندا لإكمال دراسته بمدرسة داخلية ؟؟"
حدّج بها بفضول وقال:
" نعم اخبرني...الى اين ستصلين؟"
عدّلت جلستها ..رشفت رشفة من فنجانها ثم قالت بهدوء:
" راقت لي الفكرة بعد تحدثي مع اسراء وفكرت ان ابعث كرم ليلتزم بدروسه فهناك تعليم صارم...ما قولك؟"
أجاب ساخراً:
" اعتقد انه قرار سليم ليصبح رجلا له فائدة "
هاجت غضبا في الداخل لكنها حاولت السيطرة على ملامحها وقالت :
" وألمى؟؟!"
جلس بتأهّب رافعاً احد حاجبيه سائلا بتعجب :
" ما بها ألمى وما شأنها بالموضوع ؟"
اردفت بفحيحها :
" لم لا تبعثها معهما ؟؟...هذه فرصة لها لتقوي شخصيتها وأيضا.."
صمتت بخبث.. فسال بفضول :
" وأيضا ماذا؟"
" أيضا لتبعدها عن أجواء البسطاء وتعلقها بهم...ارى وجودها هنا سيجعلها تتأثر من نمط خالتها وتسير على دربها في مخالطة عامة الشعب...."
تنهدت واكملت ترضي غروره :
" فهذه بالنهاية ابنة عاصي رضا رجل الاعمال المعروف والوزير السابق.."
هتف بصوت أجش :
" ماذا تقصدين من كل هذا ؟"
" لقد عادت غاضبة وملابسها متسخة...اظن انه حدث معها امرا ما "
" ماذاا؟؟"
صرخ ناهضاً..دافعاً كرسيه بعنف ...قاصداً غرفة السيدة (فاتن)....فتح الباب من غير استئذان والدخان يخرج من اذنيه ...عروقه على وشك الانفجار وقال بصوت جهوري :
" الان اخبريني ماذا جرى بالمخيم اللعين؟؟...ما بها ألمى؟؟"
اجابت السيدة(فاتن) بهدوء :
" على مهلك...لا داعي لتلك الجلبة والعصبية...رجالك هم المذنبون...كادوا ان يقتلوا فتى قام بحماية ابنتك "
رد(عاصي) بغضب :
" من هذا القذر الذي يحمي ابنتي ؟؟...انا ادفع ملايين للحراس لحمايتها وتقولي لي متشرد يحماها....يا لك من ساذجة...لا بد ان له نوايا أخرى .."
تجهّم وجهها واجابت بجدية :
" ماذا تهذي ؟...ابنتك جاءتها الحالة بعد انفجار بالونات فاندفعت نحوه تحتمي به...انت اكثر من يعلم بوجود تلك العقدة وعدم السيطرة على ردود افعالها "
رد بحنق مشمئزاً:
" انت سمحتِ لتلك القاذورات بلمس اميرتي ...لو كنتِ برفقتها لما احتاجت لتعانق الاوغاد...لكن الذنب ذنبي على موافقتي لذهابها من البداية.."
كان بالنسبة له ان كل فقير او مشرد من أبناء وطنه هو وباء او مرض يجب استئصاله....يعتبرهم عالة على الدولة والمجتمع ويقنع نفسه انهم السبب بتأخر الدولة وفقرها...
استقام بوقفته رافعا ذقنه بتعجرف وهتف بنبرة حادة :
" سأمسح هذا المخيم عن وجه الأرض وكل من سمح لنفسه بالاقتراب من ابنتي"
" ارجوك ابي لا تفعل لهم شيئاً ان كنت تحبني وتحب امي...ارجوك...اعدك لن اذهب هناك مرةً أخرى"
همست برجاء متوسلة والدها بعد ان كانت تقف خلف الباب تراقب نقاشهما ....
حاول كبح غضبه ..تنهد واستدار نحوها يجثو ليعانقها ولما وقع نظره عليها ..هالَهُ مظهرها فهمس لها بحنان :
" هيا عزيزتي...اذهبي للاستحمام والقي ملابسك هذه في القمامة...سأشتري لكِ غيرها"
ثم قبّلها من جبينها وعاد الى مكتبه....
×
×
×
بعد مرور يومان اتخذ قراره النهائي ليضع حداً لكل هذه الفوضى في حياة ابنته...أجرى اتصالاً مع صديق له يستفسر عن بعض الأشياء ...فور انتهائه قام باستدعاء السيدة(فاتن) الى مكتبه ليخبرها بقراراته....
~~~~~~~~~~~~
مع رفضنا لطلب السيد(ماجد) الا اننا شعرنا ببعض الطمأنينة لوجود شخص نعتمد عليه وخاصةً بما يتعلق بأخبار بلادنا وأقاربنا هناك...
خلال هذين اليومين اشتدّ عليّ الألم بذراعي ...اجبرني السيد(ماجد) بعد زيارته لنا في المرة التالية ورؤيته حالتي , للذهاب الى طبيب يكشف عني.....اعطاني دهون للكدمات في انحاء جسمي ...ودواءً مسكنًا للآلام ثم قام بوضع جبيرة لذراعي لاكتشافه كسر عند مفصل المرفق الذي احدث اعوجاجاً صغيرًا في عظمته ليرافقني مدى الحياة....
×
×
×
كنا نجلس داخل الخيمة بعد ثلاثة أيام من الحادثة...نحتسي كأس شاي ...فوجئنا بقدوم السيدة(فاتن) ووجهها يبدو عليه الإرهاق , ممتقعًا , شاحبًا ....جاءت تسأل عن احوالي وتعتذر لأمي وخالتي عن التصرف الهمجي للحراس....دنت مني لكني صددتها بعزة نفس وخرجت اتجول في ارجاء المخيم....كنتُ حانقاً ..لا اريد ان أرى هذه الوجوه التي آذتني ....
أُحرجتْ امي من تصرفي واعتذرت لها قائلة :
" ارجو ان تتفهميه... هو شاب عزيز النفس...تربى على الشجاعة وعدم الذل ...ضرب رجالكم له امام الناس أشعره بالإهانة وترك أثرًا في نفسه ولا يسامح بسهولة.."
شقت ثغرها ابتسامة رغم وجود الحزن في عينيها وهمست :
" هو محق في تصرفه....وسيفهم يوماً ما انني لست مثلهم "
أنهت جملتها شاردة ...تقاسيم وجهها بائسة...انتبهت خالتي للمعة الحزن في عينيها وقالت :
" أراك مهمومة سيدة فاتن...هل هنالك ما يزعجك؟؟..."
عدلت جلستها متنحنحة واردفت :
" بالطبع ان كنتِ تودين اخبارنا..."
لامست بهما الطيبة والوقار ..ارتاح قلبها لهما بعد شعورها بالطمأنينة بينهما...همست بحزن :
" ألمى...تشغل تفكيري .."
" ما بها ؟ هل حصل لها شيء؟"
سألت خالتي...فردت على الفور :
" والدها سيبعثها الى كندا لتستقر هناك حتى تنهي الجامعة.....انا اقلق عليها وسأشتاق لها....لم تفترق عني يوماً"
سألت امي بتعجب:
" كيف يستطيع ابعادها عنه كل هذه المدة ؟"
اجابت بصوت مخنوق :
" هو يفعل كل شيء لأجلها.....يريد ان تنخرط بالمجتمع الراقي فقط وتدرس بأكبر المدارس والجامعات"
ردت امي بازدراء:
" وهل المجتمع هنا لا يعجبه وليس من مقامه؟"
شعرت انها تفوهت بكلمات جارحة...فأجابت محرجة :
" عذرا منكم .. لم اقصد...لكن هذا تفكيره العقيم وليس بيدي أي شيء"
همست خالتي بلطف :
" لا تهتمي فنحن لا يؤثر فينا عقول كهذه "
وضعت يدها فوق يد خالتي مبتسمة بامتنان وقالت :
" شكرا لاستماعكم لي وآسفة على ازعاجكم"
" اطمئني سيدة فاتن ... لا بد انها ستاتي كثيرا لزيارتك....وبيتنا مفتوح لك متى شئتِ.."
هتفت امي مرحّبة بها ..ضحكت واكملت بمرح لترطب الأجواء :
" اقصد خيمتنا المتواضعة "
" خيمة بسيطة بين عائلتك وتنعمين بهداة البال , خير من قصر فارغ من أنفاس الأحباب"
مكثت السيدة(فاتن) نحو ساعتين في ضيافتنا ثم انصرفت الى بيتها...
×
×
×
عدتُ الى خيمتي بعد ان تأكدت من رحيلها ....صنعت لي امي كأسا اخرا من الشاي الذي تركته دون ان اكمله ...جلست جانبي تربّت على كف يدي ..تطلب مني التصرف بشكل لائق مع السيدة( فاتن) لأن لا ذنب لها وعلى العكس هي من اوقفتهم عن فعلتهم....
انضمت خالتي لنا بعد ان انهت بعض اعمالها....تبادلنا الاحاديث فجاءت جارتنا السيدة( فاطمة) لزيارتنا....انه يوم استقبال الزوار!!..لا اعلم من سيأتي بعدها!؟؟
لم ابرح مكاني مع انه ليس من عادتي البقاء في جلساتهن النسائية هذه....سألت السيدة(فاطمة)بفضول:
" لقد رأيت السيدة فاتن!!..هل أتت للاطمئنان على هادي؟"
" نعم...وكانت حزينة بسبب قرار السيد عاصي رضا "
ردت امي عليها ثم أكملت تقصّ لها الحكاية....
" آه مسكينة السيدة فاتن...فهي لم تترك ابنة شقيقتها منذ الحادث المشؤوم "
علّقت الجارة (فاطمه) بتعاطف....
لا ادري ماذا اصابني من ذكر ابنة شقيقتها....فنطقت متسائلاً:
" حادث مشؤوم!!..ايّ حادث؟"
اجابت:
" نعم منذ خمس سنوات عندما توفت السيدة كريمة والدة ألمى "
" حقاً اخبرينا كيف توفت وكيف كانت"
تساءلت خالتي بفضول...
شردت برهةً تتذكرها ...تنهدت وقالت :
" رحمها الله كانت مثال للإنسانية والكرم...تحب فعل الخير..ساعدتنا كثيرا "
احتقنت عينيها بالدموع ..فالإحسان لا ينسى حتى الممات....ثم اردفت:
" شتان ما بينها وبين زوجها!!...هي كل الخير والتواضع...وهو متكبر , اناني, قاسي"
" كيف إذاً كان يسمح لها بمساعدة المحتاجين وزيارة المخيم؟"
سألت خالتي...لتجيبها :
" كان يحبّها ويكره رؤيتها حزينة....حاول ابعادها بالحسنى لكنها اصرّت على ذلك.."
صمتت ثم تابعت :
" هكذا اخبرتنا السيدة فاتن"
" كيف ماتت؟؟ "
سالت بعد ان انتصر عليّ الفضول ...
اخفضت عينيها بألم تنظر ليديها ...لا تنسى ذلك اليوم عندما وصلهم الخبر وزلزل المخيم بمن فيه ,ثم اجابت بصوت حزين :
" في أحد الأيام كانت تطعم صغيرتها بمطبخ القصر ...نشب حريق مفاجئ سببه تماس كهربائي لم تنتبه له في البداية لان المطبخ واسع ...ولأنه مصمم كاملٌ من الاخشاب و حتى حيطانه ...اشتدت الهبة النيران تلتهم كل شيء وكأن احدهم سكب البنزين ...همت بالخروج تحمل صغيرتها ....فسقط لوحا خشبيا من السقف يحجب الطريق ويغلق فتحة الباب...بدأ الخدم يتهافتون يحاولون اخماد النيران من خارج الباب بما لديهم من أدوات ولكن دون جدوى ....بدأت تسعل ..تشعر بالاختناق ....لمحت ضوء النهار وسط الدخان من نافذه جانبيه فاندفعت نحوها بحرارة....اصطدمت بطاولة المطبخ ...فالرؤية أصبحت ضعيفة من كثافة الدخان الذي يغطي المكان...تجاهد للصمود من اجل صغيرتها...كانت تبكي وانفاسها بدأت تنقطع ... ....وصلها صوت المربية سهيلة...وهي تشجعها على محاولة الخروج من تلك النافذة....وطفلتها تبكي ..تصرخ ..بين يديها بعد ان لمست يدها قطعة مشتعلة من غير قصد....استجمعت قواها صارخة تنادي على السيدة سهيلة لتلقي لها ألمى ونجحت بجهد....كانت النافذة صغيرة بالكاد اتسعت للطفلة ....احتضنتها سهيلة وبدأت تهرول بخطوات سريعة نحو الحديقة...وما هي الا لحظات لينفجر بالون الغاز من حرارة النيران ....لتسقط السيدة كريمة جثة هامدة في هذا القصر العريق .."
" يا الله رحمتك.."
شهقت امي ..تضع يدها على فمها ..اغرورقت عيناها بالدموع ..اما خالتي همست بحزن وشفقة :
" انا لله وانا اليه راجعون...مسكينة ألمى"
انقبض قلبي ألماً مما سمعت...تنحنحت وسالت بصوت ثابت :
" هل الآثار التي على يد ألمى هي حروق من هذا الحادث؟؟"
" نعم...خرجت من الحادثة باقل الخسائر...حروق في ظهر كف يدها...اما سهيلة عند انفجار البالون , غطتها بجسدها تحميها ...لتتلقى عنها الشظايا الحارقة بظهرها...."
قالت امي بعد استنتاجها :
" اذا لهذا يعتبر السيدة سهيلة من العائلة ولا يتكبر عليها ...فهي فعلت الكثير لابنته."
" نعم هي الوحيدة بين الخدم لها معاملة خاصة..."
وجهّت نظرها نحوي واكملت:
" وبسبب هذه الحادثة أصبحت أصوات الانفجارات عقدة لديها مهما كانت صغيرة"
"يا لها من مسكينة تلك الألمى ..لم أتوقع ان واحدة بجمالها واناقتها وغناها الفاحش ان تكون عاشت مآسي!!...ظننت انها مدللة وتعيش بسعادة..." قلت في سرّي ثم نفضت راسي وهمست بجدية قاطبا حاجباي :
" لكن بالنهاية لها اب وبيت يأويها ....لم تتشرد مثلنا....نحن أيضا عشنا انفجارات اصعب من هذه ...يلقونها علينا متعمّدين....ولم نفعل مثلها...."
صمتّ برهةً وتابعت بحنق:
" هذا دلال زائد.."
لا اعلم لمَ نطقت بهذا!! أو ان قهري من وضعي ويدي المكسورة بسببها..!!
ردت السيدة(فاطمة) تدافع عنها :
" لا تقسَ عليها يا هادي ...لا تظن من مظهرها الخارجي انها تعيش في ترف....فيكفيها فقدان والدتها بصورة اليمة....وتعيش مع زوجة اب حقودة....ومع قيود شديدة من والدها لدرجة خنقها....انها طفلة هشة , رقيقة, طيبة كوالدتها وخالتها "
اجبت بضيق:
" لن اقابلها ثانية لأقسو عليها...هي ستكون في كندا تتابع تعليمها العالي ...وانا هنا بالمخيم بيدٍ مكسورة أصيبت بشبه عاهة مستديمة "
~~~~~~~~~~~~~
في بيت (عاصي رضا) ..كانت الافعى زوجته هي الأسعد لنجاحها بإقناع زوجها بإرسال ابنته الى كندا برفقة (كرم و صلاح)....أخبرها والدها بقراره بمساعدة خالتها والمربية.....نزل عليها الخبر كالصاعقة....فهي لم تفترق قط عن خالتها وبيتها..!!..عصفت..غضبت...بكت...ا ضربت عن الطعام...حطمت العابها....لكن في النهاية حكم القوّي على الضعيف....لا اعتراض على أوامر السيد( عاصي)...
×
×
×
اسبوعان وحان موعد السفر...(ألمى ) ما زالت حانقة على والدها...لا تريد ان تكلمه...قررت مخاصمته...تعاتب خالتها بنظرات صامته لأنها لم تستطع منع سفرها....كانت السيدة(سهيلة) هي من سترافقهما في رحلتهما لتعتني بهما ريثما يعتادا على الحياة هناك وبعد الاطمئنان على مربيتهما الجديدة في الغربة...
[المسافرون الكرام الى رحلة كندا....الرجاء التوجه الى البوابة رقم 712..]
انها لحظة التوجه الى الطائرة...عانقت فاتن ابنة اختها بشدة...تعتصرها...لم تمسك دموعها...توصيها بالاعتناء بنفسها وان تسامحها على ضعفها وقلة حيلتها...ووعدتها بزيارتها كلما سنحت لها الفرصة......
قبّلتها (ألمى) من خدّها ودموع عينيها تجري على وجنتيها كوادٍ يخترق الثلوج...ثم نطقت بكلمات اخرجتها بصوتٍ متحشرج:
" منذ ايام أضعت العقد الذي اعطيتني إياه ."
تجمدت مكانها مصدومة...فهذا العقد الذي كانت تخبئه لها حتى تكبر ولكنها اعطتها إياه في النهاية لتراضيها يوم تركها للبيت بعد شجارها مع (سوزي)...
كان هذا العقد من الذهب الخالص...بسلسلة سميكة ...يتوسطه مجسم على شكل قلب...يفتح لثلاثة اقسام...في كل قسم وضعت به صورة...لألمى , خالتها , ووالدتها ....لقد قامت السيدة (كريمة) بتصميمه لتلبسها إياه في عيد ميلادها...لكن كان للقدر رأيًا آخرًا......
" ان وجدته سأبعثه لكِ في البريد "
اعادت صوتها بثبات لكي لا تؤنب الصغيرة نفسها واعطتها بعض الامل....
اقترب والدها ليودعها...كانت ترمقه بنظرات لومٍ ممزوجة بالاحتياج الشديد...أحنى جسده امامها ...وضع يده على شعرها يمسده بحنان وهمس لها :
" سامحيني يا ابنتي....هذا لصالحك "
ثم قبّلها من جبينها ودفنها بأحضانه يبلّ شوقه اليها قبل ان تغادر....وكذلك زوجة ابيها ودّعتها بتمثيل متقن بعد ان ودّعت ابنها (كرم)...
وقفوا جميعاً مكانهم يراقبون المغادرين...حتى اختفوا عن الأنظار لاستقبال حياة جديدة......
↚
" انا لا أعلم كيف تتحملين العيش مع ذلك الخائن تحت سقفٍ واحد؟؟"
سألت السيدة (ايمان) بامتعاض صديقتها التي زارتها بعد أيام من رحيل ابنة شقيقتها الى كندا....فهي الآن منزعجة , تختنق , ولا ترغب بالبقاء في قصر العنكبوت لتقابل قاطنيه ,وزهرة فؤادها ليست موجودة....
" تحملتُ من أجل ألمى فقط كل تلك المدة وها هو أبعدها في النهاية عني !!....كم اشتاق لصغيرتي!!....كانت هي الأوكسجين في ذلك القصر اللعين , اما الآن اختنق من دونها "
ردت عليها بضيقٍ شديدٍ يظهر على ملامح وجهها الذي اختفت بشاشته مع اختفاء (ألمى)...
" وكيف تقضين وقتك الآن ؟ فأنت تعلمين لم استطع الاطمئنان عليك الفترة السابقة بسبب سفري "
قالت السيدة (ايمان) بقلق على حال صديقتها التي تعلم عنها كم هي مرتبطة بابنة اختها وتعلم انها الان تمر بفراغ كبير ....
" أقضيه في غرفتي بين قراءة القران وذكرياتي مع الصور .....اتسوّق قليلا ثم اعود الى ذلك القبر المسمّى بقصر "
انهت اجابتها لتسارع الأخرى باقتراحها تحاول اقناعها بهدوء :
" ما رأيك بالانتقال لشقتي لنسكن سوياً ؟ّ! ..لا حاجة لبقائك هناك حالياً!"
" لا ..انا انتظر الوقت المناسب , وانت تفهمين ما اقصد !!"
ردت رافضة , واثقة باختيارها....فتابعت صديقتها بتحقيقها كالعادة :
" ما هي خطواتك القادمة اذاً ؟"
شردت السيدة(فاتن) قليلاً قبل ان تجيب بحيرةٍ:
" لم افكر بعد!!...اترك كل شيء للزمن فهو كفيل بأخذ حقي "
صمتت... ثم أضافت :
" لكن ما انا متأكدة منه انه عليّ زيارة المخيم الذي بتّ اشعر بالراحة والسكينة به عندما أكون بين هؤلاء الناس البسطاء , أبناء بلادي الذين يعيدوني بكرمهم واخلاقهم وأصالتهم الى عبق الماضي وحياتي في الوطن.."
تحمست السيدة(ايمان) وقالت :
" متى سنزوره سوياً ؟! ..لديّ مقال جديد وربما زيارتي له ستساعدني بإيصال الفكرة التي اريدها بشكل واقعي اكثر.."
نظرت لها صامتة, فتلك هي صديقتها التي لا تفوّت شيئا دون ان تستغله في عملها ....ليس طمعاً ونيل نقاط وترقيات ...انما هكذا هي الصحفية الثائرة , الغيورة على وضع بلادها الأم وأبناء شعبها ... تبسمت وهمست مجيبة:
" حسناً.....سأخبرك عند ذهابي "
~~~~~~~~~~~~~~~~
بفضل الله لقد اجتزتُ امتحاناتي بيدٍ مكسورة وحصلت على علامات مرتفعة.....كانت تمر الأيام في المخيم بنفس الوتيرة... , اتابع عملي وأحضّر لدراستي للسنة المقبلة خلال العطلة الصيفية ...والسيد (ماجد) يزورنا من حين لآخر وحتى جلب لنا هاتفاً ليتواصل معنا ولنتواصل مع اقربائنا في الوطن للاطمئنان عليهم...اما السيدة(فاتن) وصديقتها الصحفية(ايمان) أصبحت زيارتهما للمخيم بشكل اسبوعي بعد أن أنشأتا علاقة مع أمي وخالتي و(ام سلمى)...
أزلتُ الجبيرة بعد شهر من وضعها ....توالت الأيام ومرّ ما يقارب الشهران...
في احدى الليالي الحارة , أصبتُ بالأرق!! الحشرات تزعجني ولا نسمة هواء تكرّمت علينا بزيارة .... الا يكفي اننا ننام داخل خيمة , حالنا كحال خضروات مزروعة في دفيئة !؟..تململتُ مكاني ....عدلتُ جلستي ...تأملتُ النائمين , أشعر بالغبطة اتجاههم ...يا الله هل الناموس التصق بي أنا فقط ليفض مضجعي وحرارة الجو لازمتني !؟...نظرتُ للمشاغبة التي تشخر وتفتح فمها كالقتيلة , تنام تفرد أطرافها الأربعة , تريحهما لتستمر بقفزاتها في اليوم التالي ...وضعتُ يدي على فمي اكبت ضحكتي , انها لا تشعر بشيء من شدة التعب وكأن احداً يجبرها على حركاتها البهلوانية وثرثرتها التي لا تنتهي ...دنوت منها بهدوء وعدّلت مخدتها ...اقتربت للذي كان يتململ مكانه يبتسم ببراءة وهو مغمض العينين...يبدو انه يشاهد حلماً جميلاً ...انه محظوظ أكبر طموحاته رشفات من الحليب!! ...انحنيت أقبّل جبينه واستنشق رائحته التي أعشقها ...فللرُضع رائحة تميزهم عن باقي البشر!!
انتصبتُ واقفاً ...خارجاً لأتمشى في الخلاء , أُسامر النجوم وأكلّم القمر... كانت الساعة الثانية بعد منتصف الليل....بعد ان زفرت انفاسي السلبية وابدلتها بالإيجابية , عدتُ أدراجي الى خيمتي واخرجتُ من صندوقي الصغير الأمانة..!!
لا أعلم لمَ ما زلت محتفظاً بها رغم مرور ثلاثة اشهر ؟!...كان بإمكاني إعطائها للسيدة (فاتن)..لكني احتكرتها لنفسي الى ان اعيدها بيدي لصاحبتها اذا شاء الله لنا اللقاء....
في كل ليلة بعد خلود عائلتي للنوم أُخرجها..... أصبح هذا روتيني الجديد...امسكها بيدي أتأملها من الخارج...يغلي الدم في عروقي لأنها تعيدني لضربات الحراس لي...أشد بقبضتي عليها وانا استشعر مكان الألم...أصكّ على اسناني وتبرز عروقي...أنظر الى ذراعي وأحبس الدموع في عينيّ.....وفجأة يختفي كل هذا بعد أن افتحها محدقاً في سماء عينيها اللتين تحلّقان بي إلى عالمٍ جميلٍ , هادئٍ كسحابة في الربيع , لطيفٍ مثل نسمة الصباح , دافئٍ كحضن الأم , عذبٍ كقطعة حلوى ....عالم صافي خالي من المتاعب.....
ما هو هذا الشعور ؟! ...لم أجربه من قبل....لكنه لذيذ بنكهة الأناناس , بريء , نقي لا يتخلله أي شائبة , كصحيفة لمولود جديد!!.....العالم يدّعي الانتقال من بلدٍ الى آخر لجوء!!..وأنا ايقنت ان النظر لعينيها الزرقاوين , النجلاءين هو اللجوء !!......وأخيراً غفلتُ ....وأنا لاجئ في سمائها....
" هادي...هادي ...الله يرضى عليك...استيقظ يا بنيّ "
همسات نبض الحياة لتيقظني لصلاة الفجر.....
نهضت اشعر بالدوار من قلة النوم ...قررت الصلاة في خيمتنا ...لم أقوَ على الوصول للمصلّى ...كان قد عاد منذ شهر الشيخ للإمامة بعد أن تعافى .....لا اعرف كيف انهيت صلاتي وارتميت على فراشي كالمخبول ...ثم اتسعت عيناي بعد ان تذكرت أنني لم أعِد الأمانة , العقد الذهبي ذا القلب الى مكانه !!...فزَزْتُ من مكاني مرتبكاً وبدأت بالتفتيش عنه ...قلبت فراشي ..رفعت وسادتي...يا الله انا متأكد أني نمت وهو بيدي!!....اين اختفى؟...بينما انا منهمكاً في بحثي جاثياً على ركبتيّ , رأيته يتأرجح أمامي...رفعتُ نظري وإذ به بيد أمي!!..هممتُ لإلتقاطه فأخفته خلف ظهرها ...قلت وأنا اداري خجلي :
" اوه امي انني ابحث عنه !!"
سألتني بتعجب , فهي رأته في عنقها يوم زيارتها لمخيمنا :
" ماذا يفعل عقد ابنة عاصي بحوزتك ؟"
أجبتها بهدوء :
" لقد وقع منها في ذلك اليوم واحتفظت به لأعيده لها "
قالت بجدية:
" دعني اعطيه لخالتها ولا شأن لك بهذا "
قلت بحزم :
" أنا وجدته وأنا اعيده لصاحبته فقط...اذا أراد الله "
ردت مستنكرة :
" أين ستراها بنيّ؟؟...رسم لها والدها طريقاً طويلاً ولا اظن انها ستأتي الى هنا مرةً أخرى "
قلت مصمماً على أخذه:
" ربما تأتي!!...وان لم تفعلها سأفكر حينها كيف أتصرف به "
أخذته منها بصعوبة...خبأته مكانه واستودعته الله.....
×
×
×
أسابيع أخرى تحسب من أعمارنا ولا تغيير او اضافات....أقبل علينا الخريف يحمل شذى التراب بعد هطول اول قطرات المطر عليه....رائحة لا ابدّلها حتى بأفخم عطور باريس!!...تنعشني , تشعرني بالخفة كأني ولدتُ من جديد من غير هموم.....هذه فرصة لا أفوتها ابداً , فتوجهتُ الى الوادي القريب من المخيم لأجمع أريج الخريف في أنفاسي ......كنتُ سابحاً في عالمي , هائماً في هذا العبير فوصلني صوت يناديني ولم يكن إلّا السيد(ماجد) بعد ان ارشدته امي الى مكاني....
تصافحنا , تبادلنا التحيات وتجولنا معاً....شعرتُ ان بداخله كلاماً لا يعلم كيف يبدأ به, فقلت فاتحاً المجال:
" تفضل سيد ماجد..قل ما عندك "
ارتسمت بسمة تظهر ثناياه البيضاء وسط سمرة بشرته وقال :
" انت كما قال عنك اخي سليم ...نسخة عن والدك رحمه الله "
سالت بتعجب :
" كيف؟..ماذا تقصد؟"
أجاب:
" اخذت شكله , شجاعته , عزة نفسه وزد على ذلك فراستك ونباهتك ...حفظك الله لأهلك ولوطنك "
قلت بسخرية:
" وطني؟؟...اين وطني؟؟"
ضربني بخفة أعلى ظهري معتزاً هاتفاً :
" وطنك ينتظرك أيها البطل"
صمت برهةً وتابع:
" جئتُ لأخبرك بوصية والدك عنك لعمك سليم "
توقفت مكاني مندهشاً وقلت :
" وصية والدي؟؟...ماهي؟؟"
يا الله كم اشتاق لكلماته , توجيهاته لي , صوته الحنون , لمساته الدافئة ...هل ابي اختصني بوصية؟؟...حبيبي أبا هادي ..تكفيني الان وصيّة بلا روح تعود اليك لأشعر بك بيننا....
" وصّاه للاهتمام بك , ان يدعمك , يوجهك للسير على خطاه بالنضال والكفاح والثورة من اجل الوطن ..."
رفعتُ نظري للسماء مبتسماً , عائداً لأمنياتي ...ثم تنحنحت مجمداً تقاسيم وجهي محدقا به :
" لطالما تمنيتُ أن امشي على نهج والدي وكنتُ مستعداً لذلك.."
ابتلعت غصة في حلقي واردفت:
" لكن كُتب لنا طريقاً اخراً لا نعلم نهايته "
قال بجدية قاطبا حاجبيه:
" أي طريق اخر يا هادي ؟...ماذا تقول ؟"
أجبت بقنوط :
"انت ترى الحال الذي وصلنا اليه , ماذا كنا وكيف أصبحنا !!...نحن في ارض غير ارضنا وسماء غير سمائنا ...كيف سنكافح وأميال كثيرة تفصلنا عن وطننا ؟"
تبسّم في ثقة وربّت على كتفي بقوةٍ قائلاً:
" لا عليك...كل شيء مخطط له , حتى قبل وفاة والدك ولكن بتعديل بسيط وهو الأهم لتواجدكم هنا...لذلك عندما تتم الثامنة عشر ستبدأ بالتدريب العسكري لتتقدم وتصبح لاحقاً قائداً للثورة كما كان والدك "
كوّر قبضته امام فمه يسعل ليستجمع صوته الذي كاد يهرب...تردد قليلا ثم أضاف :
" ستبدأ اول خطاك من هذا المكان لتنتقم من بائعي الوطن.... وقتلة والدك "
" ماذا تقول؟!...أبي مات شهيداً بمواجهات الحرب , مثله مثل أي جندي او ثائر !"
" مات مقتولاً غدراً ولا علاقة لأرض المعركة"
اتسعت عيناي على آخرها...تعرّق جبيني...ارتجفت أوصالي.....تعثرت أنفاسي... ألقاها لتصل كسهام تخترق فؤادي...... لقد أصابني في مقتل...
حاولت أن استجمع بقايا روحي ....نفثت لهيباً من احشائي وقلت بصوت غاضب:
" هل هم موجودون في هذه البلد؟؟"
أجاب بصوت ثابت :
"نعم وسننتظر الوقت المناسب لضرب الهدف.....المهم ان تتحلّى في الصبر وتتبع تعليماتنا"
سألت بتشكك ودمائي تغلي:
" الهذا السبب نزحنا الى هذه البلدة تحديداً؟؟"
قال:
" بالطبع...هكذا سيكون اسهل علينا "
تنهد وأضاف:
" اريد منك انهاء ثانويتك بتفوق ليتسنّى لك الالتحاق بأكبر جامعة لإدارة الأعمال في هذه البلد.."
قلت رافضاً باستياء:
" لم جامعة إدارة الاعمال؟...لا احبها ...اريد دراسة الهندسة!!"
" لأن الهدف الرئيسي هو رجل أعمال مخضرم , وهكذا تدخل بينهم بسهولة !!...ولا يحصل ذلك الّا بلفت انتباههم بنجاحاتك وتفوقك لينجذبوا اليك"
شردت قليلاً ثم سألت بنبرة احتقار :
" اذاً أخبرني من هم اولئك الاوغاد؟!"
أجاب ببرود:
" لا استطيع اخبارك بأي معلومة عنهم قبل اتمامك الثامنة عشر عاماً اذا أراد الله.....اما الان عليك ان تكون حكيماً , متحكماً في ردود افعالك من غير تهوّر مهما واجهت من إساءة..."
صمت وأشار بعينيه الى ذراعي واردف:
" انت رأيت نتيجة انفعالاتك أين اوصلتك....التريث احد أسباب النجاح للوصول الى هدفنا من غير زلة......اريدك أيضا الانتباه لطعامك , صحتك ...الابتعاد عمّا يؤذي جسدك وابدأ بممارسة الرياضة من جديد...."
تبسم وأضاف:
" اخبرني السيد سليم عن الكؤوس التي حزتها في مجالات مختلفة من الرياضة مثل السباحة , ركوب الخيل وغيرها..."
لقد اعادني الى أحب الأوقات عندي في حياتي الماضية....اخذني الحنين الى هناك فقلت مبتسماً بنشوة :
" كنت ارغب ايضاً بدخول نادي الرماية بأنواعها ... وبحكم سني رفضوني...لكن لا يهم ففي النهاية ابي رحمه الله علمني ذلك "
×
×
×
تلاحقت الأيام لتكتب لنا سنة وشهور من بعد الهجرة....دراستي على قدمٍ وساق ...وعملي كمدرس لمن تحت جيلي ما زال على حاله ....قمتُ بإنشاء جمعية صغيرة بمساعدة السيد ( ماجد) وبدعم مادي من السيد ( سليم الأسمر ) لإعمار المخيم رويداً رويداً......رممنا عن طريقها خط المجاري , فتحنا خطاً للمياه يستعمل بأوقات معينة , اقتنينا غرفة حديدية مجهزة بتكييف ومعدات طبية مع ممرضة وطبيب بنصف وظيفة لتكون بمثابة عيادة عاجلة لسكان المخيم ....الفضل من بعد الله يعود للسيد (سليم)....
قُبيْل شهر حزيران , زارتنا السيدة (فاتن) لتعتذر عن موعدها لهذه السنة بسبب اضطرارها للسفر لزيارة ابنة شقيقتها في كندا ...
~~~~~~~~~~~~~~~~
" لا اصدق لا اصدق ...هذه أجمل مفاجأة "
هتفت بها ( ألمى) مندفعة لحضن التي تنتظرها جالسة على احدى الارائك , بعد عودتها من مدرستها...لم تخبرها السيدة(فاتن) بزيارتها وارادت مفاجأتها والاستمتاع بفرحتها صوتاً وصورة لتعيد الحياة لقلبها.....
أجلستها في حضنها وكأنها ما زالت ابنة سنتان ..تحاوط خصرها .....تمسد على شعرها وتقربه لأنفها , تستنشق رائحتها التي اشتاقتها ...مسكت يدها اليمنى ..نظرت لآثار الحرق...قربتها لشفتيها تقبّلها وهمست لها بحنان :
" كيف حالك صغيرتي؟ وكيف تسير امورك ؟ "
استدارت تعانق عنقها ..زمت شفتيها بدلال وهمست مجيبة :
" طبعا اشتاق لكم ولغرفتي ولخالتي سهيلة ....لكني بدأت اعتاد على هنا ...لولا وجود صلاح لضجرت ....يهتم بي كثيرا ...نحل الواجبات معاً واغلب المرات نتناول طعامنا سويا....يا الهي , افكر لو كنا لوحدنا انا وكرم ماذا كان سيحصل ..؟"
نهضت من حضنها ...انحنت تخرج دفترا من حقيبتها وقالت بحماس :
" انظري خالتي ماذا كتبت لي المعلمة ....دائماً تملأ دفاتري بعبارات تعزيز وتطلب من زملائي ان يقتدوا بي "
تبسمت لها ورفعت كفها تتحسس وجنتها البيضاء وقالت بفخر :
" انت تستحقين هذا واكثر , أنا اثق بتفوقك عزيزتي "
بعد تناول الغداء سوياً ....جلستا في غرفة المعيشة ....فقالت السيدة(فاتن):
" الن تقومي بحل واجباتك ؟"
كانت تجلس على الاريكة تحني ساقاً تحتها وتلوح بالآخر ...تمسك بضع خصلات تلفها على سبابتها بدلال وقالت بثقة:
" سأذهب الى مكتبتي بعد قليل لأحلها ...اريد ان اجلس معك قبل ان تدخلي لترتاحي "
" احضريها الى هنا"
ردت بثقة اكبر :
" لا خالتي سأحلها على مكتبتي لا استطيع فعلها هنا "
قالت ترفع احد حاجبيها باستغراب :
" منذ متى ؟؟....طوال عمرك تتركين مكتبتك وتستلقين حتى على الأرض لتقومي بحلها , ماذا تغير ؟"
عدلت جلستها وهتفت بشموخ :
" منذ ان اتيت الى هنا ...هكذا يعلمونا لنليق بمكانتنا ومجتمعنا الراقي وان لا نتشبه بعامة الشعب الفوضويين ....لكل شيء قوانين وحدود ويجب الانضباط بها...."
كانت قد فرحت السيدة (فاتن) لو كان هذا النظام نابع من ارادتها ...لكنها بدت مستاءة لأنه بدأ ينجح بغرس مبادئه العنصرية كما أراد , المكونة من غرور وتكبّر على الاخرين ...
في المساء اجتمعتا مجدداً على مائدة العشاء ....تنحنحت (ألمى) وهي تلعب بشوكتها داخل طبقها المفضل المعكرونة الإيطالية ,دون ان تنظر لخالتها وهمست بتردد :
" خالتي..."
" نعم حبيبتي..."
" ما هي اخبار المخيم ومن فيه ؟"
تبسمت وردت :
" بخير ..كل شيء كما تركتيه ..."
" وهادي؟؟...هل يتذكرني ؟! "
اجابت بهدوء :
" هو بأفضل حال يستمر في حياته ....ما بك مهتمة ؟"
توهجت وجنتيها باللون الوردي واجابت :
" اشعر انني اشتاق لهم ....صحيح انه كان يوماً واحداً لكنه اغناني عن شهور من الوحدة.....لم أرَ بطيبتهم ولطافتهم ...حياتهم جميلة..."
" أتحسدينهم صغيرتي على حياتهم وهم متشردون في خيم وانت تنعمين بكافة وسائل الراحة ؟؟"
" أنفاسهم دافئة ...تعطي السكينة...تنبض بالحياة....اما انا جدران بيتي باردة , كئيبة بلا روح .."
" لا تفكري كثيراً صغيرتي ...انسي الماضي والتفتي الى حياتك.."
زفرت أنفاسها...رفعت رأسها محدقة بها وقالت :
" خالتي الم تجدي عقدي الذهبي ؟؟....اكاد اجن لا اعلم اين اضعته ؟"
ردت بحزن :
" لا صغيرتي...ليعوضك الله بغيره...يبدو ان لا نصيب لك به "
×
×
×
كانت تستلقي على الأريكة تتوسد فخد خالتها التي تداعب شعرها وتشاهدان فيلماً أجنبياً ....انتبهت ان الساعة أوشكت على التاسعة ...عدلت جلستها ..نفضت رأسها تبعد الخصلات العالقة على وجهها ...دنت تقبّل وجنة خالتها وقالت:
" حان وقت النوم خالتي ...تصبحين على خير "
أعادت لها القبلة مبتسمة هامسة بحنان :
" وأنت من أهل الخير صغيرتي "
دخلت غرفتها ...خلعت خفيها ثم جلست على السرير ..مدت يدها تشعل المصباح الكهربائي الثابت على المنضدة بجانبه وفتحت الدرج تخرج قلم الرصاص برقة الذي لم تستعمله حفاظاً عليه.....استلقت وهي تتأمله مبتسمة وكأنه قطة لطيفة ...اطفأت النور واحتضنته بقرب صدرها حتى نامت ...لقد أصبح هذا احدى شعائرها قبل النوم من يوم زيارتها للمخيم..!!
~~~~~~~~~~~~~~
دقات قلبي تتسارع وكأنها في سباق !! لا أعلم ان كانت بسبب الذكرى المؤلمة مع الحراس ام لسبب آخر !!...لم استطع التحديد ......
انها سنة أخرى مرت علينا على أرض الشتات ...أصبحت في السابعة عشر وأربعة شهور ....المخيم يضج في التحضيرات السنوية لاستقبال سيدة هذا اليوم , السادس من حزيران.....كانت امي خارج الخيمة تجمعُ منتوجاتها , ترتبها في صندوق وأخي الشقي (شادي ) الذي بدأ يتحفنا بإبداعاته في فن التخريب والمشاكسة , ها هو يمارس هواياته ويبعثر لها الأغراض...دنوت منهما , قبلت راسها وحملت الصغير على اكتافي هامساً بتفاؤل :
" صباح الخير يا أجمل ام "
ردت بابتسامتها التي لا تفارق محيّاها :
" صباح السعادة عزيزي هادي.....ما سر استيقاظك باكراً؟؟"
اكتفيت راداً بابتسامة ثم قلت :
" امي!....هل ستأتي السيدة فاتن وحدها ؟!"
سألت بمكر:
" منذ متى تهتم بالسيدة فاتن وزياراتها ؟!"
أجبت منفعلاً كاشفاً دواخلي :
" لا اهتم بها ولا بغيرها , اريد فقط إعادة الأمانة التي اثقلتني "
غمزتني ضاحكة وقالت ساخرة :
" مممم.....الأمانة اذاً!!"
تلون وجهي بالحمرة رغماً عني ...تركتها عائداً الى الداخل اشتم نفسي " أيها الغبي لمَ تفضح نفسك ؟!"
هل بالفعل انا مثقل من الأمانة وهي التي تحملني فوق السحاب في سمائها أم انني كنتُ اريد التأكد من عدم قدومها لتكون حجّة لاحتفاظي بها مجدداً بعد ان اعتدت عليها وأصبحت احد طقوسي قبل النوم ..؟!!
~~~~~~~~~~~~~
تتأفف ..تنظر لساعة يدها...لقد تأخرت السيدة (سهيلة)....كانت تنتظرها للاهتمام بـ(ألمى) التي جاءت قبل يومين لأول مرة بعد سنتين من سفرها .....
دلفت الى غرفة خالتها , تحوم حولها كالفراشة فوق ازهار الربيع بخفتها وجمالها , ولما رأتها تستعد للخروج من مظهر لباسها, سألت بحماس :
" الى اين سنذهب خالتي؟"
أدارت وجهها نحوها مبتسمة وهي تضبط حجابها الرماديّ , تثبته بمشابك خاصة وهمست برقة :
" انا سأذهب ...انت ستبقين برفقة خالتك سهيلة "
بدلت ملامحها للاستياء بعد ان انطفأ حماسها وقالت بصوت حزين تصطنعه متعمدة لتلعب بمشاعرها :
" هل اهون عليكِ وأنا مسجونة بين الجدران ....أبي وزوجته وكرم سافروا بالأمس...ماذا سافعل وحدي مع خالتي سهيلة؟!...سأشعر بالملل"
ردت بعدم اهتمام لما قالت لأنها تحفظ حركاتها :
" هيا معي لنتناول الفطار من غير دلال"
بينما هما منسجمتان بالمائدة الملوكية مما تشتهي الأنفس ...رن هاتف السيدة(فاتن) وكان اتصال من السيدة(سهيلة) لتعتذر عن قدومها للقصر بسبب مرضها المفاجئ....
أغلقت الهاتف تتنهد شاردة في حيرة...تمتمت تنظر لصغيرتها :
" يا الله.. ماذا سأفعل بك ألمى؟...لن تأتي سهيلة "
أعاد وجهها نضارته بسبب حماسها هاتفة :
" خذيني معك أينما تذهبين!"
حدّقت بها بصمت لثواني...نهضت بهدوء هامسة :
" سأجري اتصالاً وأعود حالاً.."
بعد دقائق عادت الى غرفة الطعام تطلب منها مضطرة :
" هيا اصعدي وبدّلي ملابسك قبل ان نتأخر عن المخيم "
" ماذاا؟؟! المخيم ؟؟!...وأبي؟؟"
تساءلت مصدومة, كالبلهاء لا تعلم هل تضحك فرحاً ام تقلق خوفاً من ردة فعل والدها.....فأجابتها على الفور بجدية:
" أنا مضطرة لاصطحابك ووافق والدك على مضض لأنه لا يملك الوقت ليناقشني...لكن كعادته شرطه بمرافقة الحراس!!"
قفزت تهتف من غير وعي , دون ان تخجل :
" هيـــه هيـــه ...أنا متشوقة لرؤية هادي .."
خبُتَ حماسها وتمتمت قائلة :
" لو كنت أعلم لحاولت حفظ احدى السور لأفاجئه "
قالت لها خالتها بحزم :
" لا صغيرتي....لا نريد مشاكل!!...ابقي بجانبي فقط...انت الآن كبرتِ وأصبحت بالعاشرة واكثر وهو فتى غريبٌ عنكِ"
نكست رأسها للأسفل مستاءة , هامسة بنبرة حزينة جريئة :
" لمَ خالتي؟!...تمنيتُ ان يكون أخي او صديقي...لم أرتح لأحدٍ كما شعرت بجواره وبين أحضانه....به شيءٌ مميز , مختلف عن الجميع "
ردت عليها بإصرار آمرة :
" يكفي ...هذا عيب ألمى...انسي الماضي واستمعي لكلامي.....هيا بدلي ملابسك لننطلق "
~~~~~~~~~~~~~
كانوا جميعهم متأكدين ان تلك السنة هي المرة الأولى والأخيرة التي تأتي بها السيدة الصغيرة الى المخيم ...أما انا قدماي أخذاني الى هذا المكان.....شعرت اني مُسيّر دون معرفة السبب ...راودتني تساؤلات كثيرة...هل يا ترى ستأتي مجدداً؟؟ هل تغيرت ؟؟ هل تبدلت السماء في عينيها من النهار الى الليل ؟؟ هل تذكرنا ام كنا كغبار عابر في طريقها؟؟....في البداية كنتُ أحسبها كشقيقتي او كـ(سلمى)...لكني كل يوم اكتشف أنني أغرق في سحر عينيها ...لا نوايا خبيثة او مشبوهة ...حاشى لله...انما بهما سر يزيد من وجيب قلبي !! والى الآن لم استطع أن احدد مكانتها عندي..!!...
انتهت حملة التحقيقات في عقلي عند سماعي أبواب المركبات تطرق.....
السيدة (فاتن) تترجل من سيارتها بكامل اناقتها وبشاشة وجهها!!...تبعتاها قدمان صغيرتان , تنتعلان حذاءً ناصع البياض , وما ان وطأتا الأرض لتظهر (ألمى) بطلتها البهية وعينيها السماوية...ترتدي فستاناً من الحرير مرآة لسماءيها , وعلى خصرها النحيل شريط ابيض ...شعرها ازداد طولاً وغرتها تحفّ حاجبيها كما هي ...وبدا لي جليّاً ان ساقيها ازدادا طولا ايضا بضع سنتمترات ....
أفواه فاغرة ....عيون جاحظة ...هي الحالة التي انتابت سكان المخيم بعد رؤيتهم تلك السيدة الصغيرة.....
(دنيا وسلمى ) قفزتا فرحاً فما زالتا تذكرانها حتى بعد عامين على لقائهما ....أسرعتا نحوها لاستقبالها بعفوية وبراءة ولحقت بهما (سلوى) شقيقة (سلمى) التي أصبحت في السنة الثالثة من العمر....كنتُ أقف ممسكاً بالعقد الذهبي ,اراقب الاحداث عن قرب لكني احجب نفسي عنهم.....ملامح وجهها كانت اكثر براءة وتواضع , أما الآن تقف بعنفوان ,ترفع ذقنها بعلياء ولم تهتم للواتي وقفن امامها...كانت تنصب أنامل قدميها لترتفع اكثر ....تبحث عن شيء ابعد منها.....
اقتربت منها الصغيرة (سلوى) لتلمس فستانها الناعم.....فهكذا الفتيات بمختلف الأعمار....الفساتين , الاكسسوارات , زينة الوجه هي اكثر ما تجذب انظارهن....مسكت الفستان ببراءتها تتحسسه , ومن غير قصد وطئت قدمها الملطخة بأوساخ المخيم حذاء ابنة الوزير وعلِقَ ما علق به...وبدون سابق انذار وبكل غرور وقسوة دفعتها الى الخلف لتسقط...ثم زفرت بتأفف واشمئزاز شاتمة بلغتها الجديدة :
" idiot"(حمقاء)
" insect"(حشرة)
" ماذا فعلتِ يا هذه؟...هيا نظفيه فوراً "
يبدو ان هذا التعليم العالي الذي تدرسه في الغرب!!...
لسماعي بما تفوهت بحماقة ...اتقدت النيران في عروقي ...تحولت من هادئ الى ثائر....تبدلت نظراتي لها في الحال من اشتياق ولهفة الى احتقار ونفور..
وضعتُ العقد في جيبي ومشيتُ مسرعاً في خطواتي ممسكاً بالصغيرة قبل ان تنحني أمام سمو الملكة المغرورة ...رفعتْ رأسها عند ظهوري شامخاً امامها ...توسعت حدقتيها بهجةً وكأنها وجدت ضالتها وما كانت تبحث عنه قبل قليل...همست بخجل تتغنّج :
" هااادي ..كنتُ ابحثُ عنك...أنا لم أنساك "
ثم مدت يدها لتصافحني ....لكني تَرَكتُها معلّقة في حبال الهواء بعد ان أوليتها ظهري ساحباً الصغيرات معي دون أن أعيرها أي اهتمام لأشعرها بدناءة فعلتها ....
هل ظنت أني سأسمح لها بإهانة صغيراتي تلك المدللة المغرورة؟؟!!
اختفت ثلوج وجهها مع تحولها لجبل بركاني مشتعل بالحمرة ...جزّت اسنانها بكيد وشدت قبضتيها حتى كادت تتقطع اوتارها ....ضربت قدمها بالأرض وعادت أدراجها مُحرجة تتمنى ان تنشق الأرض وتبتلعها لتنتظر خالتها في السيارة حتى تنتهي من لقائها....
رافقتني الصغيرات الى طرف الساحة بالقرب من مركبات ضيوف المخيم.....جلستُ على حافة جدار وأجلست (سلوى) في حضني أطبطب عليها بحنان...اعطيتها هاتفي لتلعب به حتى تهدأ .....اوصيتهن بعدم الذل والخضوع لأي شخص مهما كان , فكلنا سواسية ولا فرق لعربيّ على أعجميّ الا بالتقوى....
وعدتهن بشراء فساتين جميلة لهن على العيد القريب....ثم اصطحبتهن للبقالة القريبة في جانب المخيم .....
كانت ( ألمى) تراقبنا وتنظر لنا ومُقلَتيها محتقنه بالدموع من خلف الزجاج الأسود لسيارتها ...الغيرة تنهش أحشائها بسبب اهتمامي بهن وتجاهلي لها....
انتهى لقاء السيدة(فاتن) وانصرفت بقافلتها دون أن أعيد الأمانة (العقد الذهبي) لصاحبتها, سمو الملكة...نكايةً بها !!
~~~~~~~~~~~~~~~
بعد دخولها القصر , ارتمت على الأريكة القريبة , تحدّق بالسقف , محبطة , حزينة ..لم تتخيل ان يكون اللقاء الذي توقعت ان تعود منه محلّقة بالسماء هو نفسه الذي أرداها الى قعر الأرض , حتى انها لم يؤنبها ضميرها على فعلتها المهينة وأظن انها ممتنة من تصرفها فهي تطبّق ما يعلمونها إياه من عنصرية وتفرقة بين الطبقات ...
" لمَ عاملني هكذا ولم يهتم بي ؟"
↚
سألت خالتها الواقفة جانبها وهي تضع يدها على ياقة فستانها تعبث بها بتوتر دون ان تبعد نظرها عن السقف....
ردت عليها باستياء من تصرفاتها :
" أنسيتِ تصرفك ألمى ؟...منذ متى تعاملين الناس بعنجهية وغرور ؟! أم ان والدك نجح بزرع مبادئه في شخصيتك كما يرغب.....ثم هذا ما كان يجب حدوثه , فأنا حذرتك من الابتعاد عني او الاقتراب من أي شخص كان"
عدلت جلستها , تبعد غرتها عن جبينها بغلّ وقالت:
" لم أفعل شيئاً خاطئاً ....ومادام الأمر كذلك سأستمر كما يريد أبي ففي كل الحالات لا خيارات لديّ وسأعيش منبوذة ....أو محرومة مما انا ارغب به واتمناه...."
انتصبت بوقفتها وعيناها تقدح شرراً وهتفت بحقد طفولي :
" بدأت اكره تلك الفتيات اللواتي يحظيْنَ برفقة ذلك الهادي ...لِمَ ليكن لهن وحدهن ؟!"
تنهدت خالتها تهز رأسها رافضة كلماتها وهمست بضيق:
" هداكِ الله يا صغيرتي"
ثم تركتها قاصدة غرفتها.....
جلست (ألمى) على طرف الأريكة تنظر للفراغ أمامها تفكر وبعد لحظات نهضت متجهة الى حاسوبها في غرفتها لمحادثة(صلاح) الذي باتَ صديقها المقرب منذ سفرهم الى كندا , فهي تثق به وتشكي له همومها وتخبره بكل شيء متعلق بها....لقد اصبح ملاذها في غربتها , يستمع لها بكل حب من غير ملل ويهتم بها بإخلاص....
×
×
×
مكثت في قصر والدها اسبوعين فقط , رغم انها في إجازة لمدة شهرين ....لقد طلبت من والدها العودة الى كندا حيث هناك زملائها واصدقائها بعد ان شعرت انها سجينة القصر لا تفعل شيئاً يحمّسها للبقاء هنا....
~~~~~~~~~~~~~~~
أشرقت شمس يوم جديد بعد سنه مضت , أتممتُ بها من العمر ثمانية عشر عاماً.....أنهيت خلالها ثانويتي بتفوق وبدأت الاستعداد للجامعة.....
كنتُ جالساً على كرسي خارج الخيمة أعبث بهاتفي بعد ان انهيت محادثتي مع صديقي (سامي) الذي حصلتُ على رقمه في الآونة الأخيرة......فجأة وصلتني رسالة من السيد(ماجد) يطلب مني الالتقاء به بسرية عند الوادي القريب....
استأذنت والدتي مدّعياً التجول لشعوري بالضجر.....بعد ان وصلت حيث كان ينتظرني وتبادلنا التحيات....أخرج من سيارته صندوقا خشبياً صغيراً ومدّه نحوي قائلاً:
" تفضل هذه الأمانة....لقد حان وقت استلامها "
حدّقت بالصندوق ثم أعدت نظري اليه بتساؤل :
" ما هذا ؟"
جلس على صخرة طرف الوادي وبدأ يسرد لي حكايته ...كان قد استلمه من السيد(سليم الأسمر) بعد أسبوع من استشهاد والدي بعد التقائهم في الغرفة السرية في مرآب شركته والتي شهدت التقاء الثوار الأبطال لتخطيط عملياتهم الكبيرة والصغيرة ضد الخونة والأعداء على مرّ السنين.....
" هذا يخصّ والدك رحمه الله....وضع به وصيته لك ومذكرة تحتوي على أسماء الخونة برموز مشفرة حرصاً ان وقعت بيد احد عن طريق الخطأ وكذلك السيد سليم وضع بالصندوق مفتاح الغرفة السرية وخارطة برموز ايضا ترشدك لجميع المخابئ السرية للأسلحة وغيرها ..."
رمقته بنظرات فارغة مما سمعت فضحك وقال محركاً سبابته مازحاً بوَعيد:
" لا تنكر معرفتك بفك الرموز...لقد اخبرني ان والدك علّمك كل هذا وانك بعبقريتك ستستطيع حلها دون أي مجهود "
نهض من مكانه ينفض اثار الغبار عن بنطاله وقال :
" الان الصندوق في امانتك....حافظ عليه كعائلتك ولا تخبر أحداً حتى امك بما دار بيننا"
أخرج ورقة من جيبه وأردف :
" خذ هذه.. ورقة القبول لجامعة (...) الرائدة في تعليم إدارة الأعمال بأعلى مستوى"
اخذتها شاكرا اهتمامه وسألت:
" متى سأبدأ؟"
" في بداية أيار بإذن الله بالمجموعة الصيفية...سيكون فصلاً تمهيدياً....دعني اذهب الان لأرتب بعض الأمور..."
سار خطوتين ..توقف صافعاً جبينه واستدار نحوي قائلاً:
" اه تذكرت...في شهر آب ستذهب الى الحدود للمعسكر الخاص بنا لتتمرن مع جيش الثوار وايّاك ان تحدّث احداً بهذا.....وسيكون هذا نظامك على مدار اربع سنوات حتى تنهي جامعتك....سأخبرك لاحقاً بحجّة غيابك "
احتضنتُ الصندوق بعد انصرافه وشرعت في تقبيله واشتمامه لابتلع نفحات من رائحة الغالي....
بعد عودتي لخيمتي خبأت الصندوق فأقبلت امي نحوي تسالني :
" ماذا كان يريد السيد ماجد ؟..لقد رأيت سيارته على طرف المخيم "
ابتلعت ارتباكي من سؤالها لأني لم اعتد على إخفاء شيء عنها واجبت :
" لقد جلب لي ورقة القبول للجامعة "
تزيّن وجهي بتباشير الانشراح وتابعت :
" آه اماه ..انها ليست أي جامعة , انها جامعة(...) من اشهر جامعات إدارة الاعمال التي يرتادها وينتسب لها أناس مهمون ومن ارقى المجتمعات من شتّى بقاع الأرض"
اتسعت عيناها متفاجئة وقالت :
" إدارة الاعمال؟!......لطالما كان حلمك الهندسة !!"
أجبتها متهرباً من نظراتها :
" هذا المجال ناجح اكثر وقررت ان أكون مثل والدي رحمه الله.."
تلألأت دموع الفرح في مقلتيها وضمتني الى صدرها وهمست بحنوٍ:
" وفقك الله بني وسدد خطاك...انت كذلك مهم بل الأهم بينهم....لا تصغّر من شأنك...لا تنسَ انك ابن القائد محيي الدين الشامي مهما اختلف عليك الزمان والمكان.."
حوطت وجنتيها بيديّ وقبّلت جبينها قائلاً بصوت واثق :
" لا تخافي يا امي , مهما كبرت ومهما تبدّل حالي وحتى اذا وصلت الى قمم الجبال او لامست الشمس , سيبقى اسم والدي وساماً على صدري ينبض به قلبي ويجري به دمي..."
استلقيت على فراشي الأرضي بعد ان تركتني امي ... أخرجت ورقة القبول لأتفحصها وأقرأ تفاصيلها.....ثم جحظت عيناي مصدوماً بالمكتوب عليها .....
~~~~~~~~~~~~
" اخبريني حالاً ماذا قال ؟..كنتُ اودّ رؤية وجهه بعد قراءة مقالي "
كانت تجلس ترتدي منامتها ....تتربع على اريكتها في شقتها ..تضحك .....تسأل صديقتها التي زارتها بعد ان نشرت مقالاً ساخراً بأسماء مستعارة لرجال اعمال وشخصيات سياسية تقصدها ومن ضمنهم(عاصي رضا) .....لقد قررت السيدة(فاتن) زيارتها لتخبرها بردة فعله وبما يجول في فكرها....
أطلقت ضحكات تمسك بطنها على ما كتب بالمقال....تحني جسدها ..ترفع سبابتها امام السيدة(ايمان) بتهديد ساخرة :
" انت تلعبين بالنار فاحذري.....لن يصمت"
هزت رأسها تنفض شعرها القصير واخرجت الربطة من معصمها تجمعه للأعلى بعد ان شعرت بالحرارة تحرقها من شدة الضحك وقالت :
" لا اظن انه غبي لهذه الدرجة ...فان هاجمني سيكشف نفسه ويثبت صحة اقوالي "
أسندت ظهرها لظهر الأريكة ...رفعت قدميها تريحهما على الطاولة أمامها ...فهكذا عندما تكون في بيت صديقتها تأخذ راحتها اكثر من المكان الذي تسكن فيه وقالت ضاحكة:
" صحيح...لقد سمعته يهاتف المحامي الخاص به وطلب منه الّا يفعل شيئاً حيال الموضوع ويتجاهله..."
وضعت كفها امام فمها تسعل من الضحك وأضافت:
" لكنه يحترق من الداخل ووجهه يصدر الوان قوس الرحمن....لم يهنأ بطعامه ويلقي كل ما يعرقل طريقه....والافعى زوجته تتحايده خوفاً على نفسها "
بعد فقرة القهقهات....حضّرت السيدة (ايمان) كأسين من الشاي مع كعك صنعته بيدها فهي ماهرة بذلك خلافاً لضيفتها...جلست بهدوء وسألت بجدية :
" وانت ماذا ستفعلين ومتى ستتحركين؟؟"
سرحت بالفراغ للحظات تجمع افكارها وقالت ما أتى في بالها منذ أيام:
" أفكر بالاعتماد على الثوار في مسألتي....آن الأوان لنتصرف ونتقدم "
سألتها بتعجب:
" الثوار؟ كيف؟؟"
ردت بهدوء حائرة :
" خلال زياراتي المتعددة للمخيم , كنت التقي هناك برجل يدعى ماجد وعلمتُ لاحقا بطرقي الخاصة انه من الثوار!!...لكن ما يحيرني هو اهتمامه الشديد بعائلة ام هادي دون وجود صلة قرابة "
ضحكت السيدة (ايمان ) بمكر وقالت:
" ربما يهتم بالسيدة مريم "
" أبداً...يعاملهم بأخوة واحترام ...انه رجلٌ متزوجٌ ولديه ولدين وملتزماً في دينه "
أكملت ضاحكة:
" الشرع حلل أربعة "
اجابت بجدية:
" لا صدقيني....اعتقد يخفي شيئاً او يحمل رسالة...هو رجل جدي وصارم وعندما ترينه تعتقدين انه يحمل جبالاً من المسؤوليات والهموم..."
قالت السيدة(ايمان):
" ممم....لمَ اذاً لا تواجهيه وتسألينه مباشرةً او حتى تستفسري عنه من عائشة ومريم "
اجابت:
" هو رجل ذكي ..لمَ سيثق بي بسهولة؟...يجب ان يكون معي سند قوي اعتمد عليه ليثق بي....وكذلك عائشة ومريم اراهما متكتمتين عن ماضيهما "
هتفت السيدة(ايمان):
" صورة لوالدك!!"
تبسمت السيدة(فاتن)بارتياح وقالت :
" نعم لقد أصبتِ...اشكرك..."
مدت يدها تضعها على يد صديقتها تنظر لها بامتنان وأكملت:
" لولاكِ لما خطر في بالي هذا الشيء"
~~~~~~~~~~~~
(يامن إبراهيم الهاشمي)
لمن هذا الاسم ؟؟...تساءلت مستغرباً!!...يبدو ان السيد(ماجد) سلّمني ورقة ليست لي عن طريق الخطأ...تمتمت بهدوء محدثاً نفسي " آه سيد ماجد , لقد جلبت لي ورقة تابعة لشخص آخر...ستضطر للعودة هنا مجدداً"
رفعت هاتفي اتصل به وبعد السلام قال :
" خيرٌ ان شاء الله أيها الهادي ؟؟َ!!"
قلت:
" لقد اعطيتني ورقة لشخص اخر "
ضحك بمكر وقال:
" لا ..هذه لك ...فقط ابدلنا الاسم وتاريخ الميلاد "
قلت بضيق ونبرة حادة:
" لا اقبل بذلك ولن اتخلى عن اسمي واسم والدي"
" اهدأ يا هادي...هذا جزء من الخطة ....لا تستطيع التنقل والانخراط بمجتمعهم باسم والدك الحقيقي ...فهو اشهر من نار على علم وهكذا سيكشف كل شيء "
قلت مستنكراً:
" ووالدتي ؟؟ ماذا سأقول لها ؟؟"
أجاب:
" سأشرح لها هذا بطريقتي لا تقلق!! المهم ان لا تذكر شيئاً من اتفاقنا حتى نقرر ذلك"
قلت على مضض:
" حسنا...كما تريد"
انهيتُ المكالمة محدقا بالورقة من جديد بعد ان خمد حماسي بتغيير اسمي....
×
×
×
حلّ الليل علينا والهدوء سيد الموقف في المخيم....انهم أناس يشقون بالنهار...يجاهدون للحصول على لقيمات للعيش بعزة وكرامة....امهات تعاني من صعوبة التربية في هذه الأوضاع والتأقلم مع هكذا مستوى معيشة تفتقر الى ادنى مقومات الحياة العصرية...كأن الزمن تقدم مع الجميع لينعموا بوسائل الراحة , اما نحن توقف بنا وحتى اعادنا للخلف يمنع عنا أي تطور....!!
في خيمتنا الجميع نيام الّا انا جافاني!! كنت انتظر الوقت المناسب لفتح الصندوق ورؤية ما بداخله بكل لهفةٍ وشوق....
فتحته وسلّطت كاشف هاتفي على ورقة اخرجتها منه وإذ بها وصية والدي....
[[ بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...
ابني الغالي هادي, عندما تقرأ هذه الوصية اكون بإذن الله بين يديه...
اوصيك عزيزي بتقوى الله والالتزام بتعاليم ديننا الحنيف مهما زينت لك الدنيا من الشهوات والفتن ..ثم اوصيك بالحفاظ على عائلتنا لأنك رجل البيت من بعدي....
أنا اعلم انها مسؤولية كبيرة وثقيلة على عاتقك , لكني على ثقة أنك آهِلاً لها , فأنا ربيت فيك الشجاعة, النخوة , الصبر وتحمل الصعاب...
أما بعد....
الوطن ثم الوطن.....أنت تعلم نضالي وكفاحي من اجله لنظهر الحق فيه.....فتأتي أجيال وتذهب أخرى وشياطين الانس بيننا وعلينا محاربتها بالجهاد وإظهار الحق ونصرة المظلوم كما نحارب شياطين الجن بالقران والعبادات....
لذا اطلب منك اكمال طريقي باتّباع السيد (سليم الأسمر) اذا اكرمه الله بطول العمر ...ليرشدك الى هدفنا وهو الخائن الأكبر (عاصي رضا) بائع الوطن وشرفائه , مهما بلغ بك الحال ولو اضطررت لوضع يدك بيده.....سأترك لك مع وصيتي مذكرتي التي بها أسماء داعميه برموز مشفرة....
وأخيراً اسأل الله لك الخير وان يسدد خطاك ويوفقك لما يحبه ويرضاه....
احبكم ودمتم في رعاية الله....
(محيي الدين الشامي).......]]
قرأتها وانا غارق في دموعي...لم اتمالك نفسي ...كنت استشعر نبرة صوته في كل كلمة وحرف...أراه شامخاً أمامي مرفوع الهامة , يرتدي لباس الثوّار وعهده(البندقية) على كتفه ...بدأت قراءتها بلهفة حتى كاد يتوقف قلبي عن خفقانه عندما وصلت الى ذلك الاسم الدخيل الذي شوّهَ كل المعاني الجميلة...اسم زلزل كياني ....توقفت جميع حواسي وعدت للتدقيق بحروفه...اقرأ من جديد علّني مخطئ!! لكن تأبى الحروف ان تتبدل وبقيت كما هي تدمغ بـِاسم (عاصي رضا) وصدى تأثيرها يبعثر أفكاري....يارب....هل الدنيا صغيرة بالفعل ليكون والد مَن لجأت لسمائها محلّقاً ومَن غيرت نغمات قلبي هو اكبر خائن للوطن.....هذا ولم اكن أعلم بعد ما بانتظاري!!
أشرت لاسم السيد(ماجد) على الهاتف لاتصل به...اني اختنق واحترق... اشعر انني أتدلّى فوق فوهة بركان....اغلقته واعدته مجددا لجانبي فالوقت متأخر وسأنتظر للصباح بنفاذ صبري....
×
×
×
انقضى الليل حاملاً أسراره وأتى النهار يوزع أنواره.....أصبحنا واصبح الملك لله...
يوم جديد في مخيمنا الجميل....أصوات الباعة تصدح...ضحكات الصغار تنتشر في ارجائه تحمل معها آمالهم ليومهم هذا....
أما انا انظر الى عــقارب الساعة التي التصقت مكانها من غير حراك....اتأفف منزعجاً ...اريد ان اتصل والوقت مازال باكراً....كانت امي تحاول ايقاظ شقيقتي :
" هيا يا دنيا ستتأخرين عن دروسك "
تمتمت(دنيا)بكسل :
" اتركيني امي قليلا ارجوك....فقط خمس دقائق "
سحبت الغطاء عنها حانقة ,تقول لخالتي :
" لقد سئمت من هذه الكسولة...تستنزف طاقتي من بداية اليوم ..لا ادري ماذا سأفعل بها ؟"
قالت خالتي بمكر :
" ليتولّى هادي ايقاظها "
قفزت (دنيا) بفزع متوسلة وكأنها ليست هي من كانت مغمى عليها قبل قليل :
" لا خالتي ارجوك...انت ايقظيني...امي.....شادي.....خالت� � فاطمة....حتى عمي فتحي البقال....اي شخص ترغبين ولو من الشارع...الّا هادي "
ضحكت خالتي وامي تحدّق بها بدهشة متسائلة :
" ماذا يجري هنا ؟؟ انا لا افهم شيئاً"
اجابت خالتي وهي تلقط أنفاسها من شدة الضحك :
" الأسبوع الماضي عندما ذهبتِ باكراً لام سلمى..ارهقتني بإيقاظها وطلبت من هادي مساعدتي...فذهب الى الخارج ...احضر صرصوراً ووضعه على مخدتها وقال لها بهدوء ان تنظر لجانبها ففزعت وجهزت نفسها في لحظات..."
ضحكتا معاً والمشاغبة تنظر اليهما بغيظ ثم تركتنا تجهّز نفسها....
طلبت مني امي مرافقتها لمركز البلد لشراء أغراض تحتاجها وملابس جديدة لي مناسبة للجامعة من المال الذي إذخرته من اعمالها اليدوية.....
استأذنتها بتأجيل المشوار لبعد الظهيرة حتى انتهي من لقائي بالسيد(ماجد)..
~~~~~~~~~~~~~
" ما علاقة عاصي رضا بوالدي ؟"
سألت الجالس امامي في مقهى توجهنا له لنتكلم براحة بعيدا عن المخيم....
أجابني بهدوء :
" سأخبرك بكل ما حدث حتى استشهاد والدك....بشرط ان تتمالك نفسك ولا تثير شوشرة هنا ولا ان تتهور حتى لا تُؤثر على سير مخططنا"
توهّج وجهي رهبةً مما سأسمعه وقلت مجبراً:
" سأحاول ....لا اعدك"
قال ببرود:
" اذاً لا داعي لإخبارك"
زفرت انفاسي المتقدة ...نهضت من مكاني قاصداً الحمام لأُطفئ بالماء البارد الجمرات المشتعلة في احشائي ولهيبها يصل للخارج ...عدت مجدداً أحاول السيطرة على اعصابي ...
" اعدك....هيا اخبرني"
رشف رشفة من فنجانه القهوة...اسند ظهره للخلف وحدثني بهدوء :
"ذاك المدعو عاصي... من سنوات بعيدة.. ادخله مدير عمله عالم الثوار بسبب شجاعته وذكائه...التقى بوالدك وكوّنا كتيبة كبيرة تحت اشرافهما....بعد مدة قصيرة بدأ يظهر عليه الغنى مع ان عمله بسيط....ولم يعد يلتزم بالكتيبة مثلما كان متحمساً في البداية....مما جعل والدك يضعه بدائرة الاشتباه...راقبه بحذر ليكتشف انه يقبض مبالغ كبيرة مقابل تسريب معلومات عن الثوار ومخططاتهم......بدأت العداوة بينهما ولم يستطع احد الوصول اليه مباشرة لأنه كان تحت حماية الدولة...لا اعلم ان كان متزوجاً حينها ام لا , لكنه بفترة قصيرة اصبح وزير الخارجية.....والدك كان عنيداً ولم يستسلم واراد معرفة المزيد من الحقائق عنه....فاكتشف خلال بحثه بطرقه الخاصة انه قام بصفقات كبيرة خارجية ضد الثوار والدولة والوطن ولم يعد ينتمي لأيّ منها بعد ان وعده الطرف الآخر بتعيينه بمنصب اكبر مما يطمح فيه , على شرط الانتقال الى دولة أخرى حتى تهدأ أوضاع البلاد....استقال من منصبه ودخل عالم رجال الاعمال وهو ينتظر المنصب الكبير...وما لم يكن بالحسبان تهديد والدك له بكشف أوراقه امام كبار الدولة عندما يحصل على ادلة موثقة.....أعماه الجشع وأكله الرعب وقرر القضاء على والدك لأنه الوحيد الذي وقف امامه...هدده وحاول اغتياله مرات عديدة ولم ينجح....حتى جاء ذلك اليوم .....بعد ان أصيب زياد صديق والدك , ترك المجموعة وحمله ليعالجه في اقرب مستوصف ميداني....انهكه التعب وفقد صديقه وهما في طريقهما ...واذ بقناص محترف يتربص له متخفيّا بلباس الثوار ..ضربه ليصيب قلبه , ثم اقترب منه يخبره ان نهايته كانت على يد سيده عاصي رضا ....تركه ينزف واختفى....
مرّ عليه شاب وهو طباخ الثوار, صدفةً....الشاب الذي جاءكم بسلاحه ومصحفه....كان في أنفاسه الأخيرة واخبره والدك بصعوبة بأن عاصي من فعلها وطلب منه اعلام السيد سليم الأسمر بأي طريقة وايصال اغراضه لكم....ثم نطق الشهادتين وخرجت روحه الى بارئها.."
انقطعت انفاسي من هول ما سمعت ....شعرت بالصداع...ضغطت على صدغيّ بيديّ ...بدأت افقد توازني...لا بد اني داخل كابوس...ما هذا الذي يقوله؟!....كادت عروقي تنفجر ...عيناي تخرج من مكانهما ....هو يتكلم وصورة ابي الجريح تظهر امامي ...يستنجد ....من يكون الكلب الحقير الذي تقاوى على اسدٍ منهك؟....هذا في كفة واسم ذلك الوغد النجس في كفة أخرى....آااه لو كان بين يديّ هذه اللحظة...لتفننت في قتله....طرقت الطاولة امامي في قبضتي واوداجي منتفخة...واخرجت من بين اسناني بنبرة حاقدة:
" الوغد..اللعين....سأجعله يتمنى الموت ولا يجده "
وضع يده على يدي التي لا اتحكم بارتجافها من شدة غيظي وقال:
" كل شيء في اوانه يا هادي..سيأتي ذلك اليوم باذن الله وسننتقم منه اشد انتقام!!...ربما أسوأ من الموت.."
انتظرنا ساعة أخرى حتى اهدأ وترتخي اعصابي قبل العودة للمخيم...غيّر السيد (ماجد) مجرى الحديث هاتفاً:
" كيف هي استعداداتك للجامعة؟"
اجبت بصوت محبط :
" كنت متحمساً لولا ما اخبرتني به للتو.."
قال:
" إنسَ يا هادي انا اخبرتك لتتقدم لا للعودة الى الصفر.."
قلت بضيق ناظرا لساعة هاتفي:
" يجب ان اعود للمخيم....امي بانتظاري للذهاب لشراء ملابس تناسب الجامعة"
تبسم ..ربت على كتفي وقال بصوت هادئ:
" كل شيء جاهز وبانتظار انتقالك الى بيتك الجديد"
سالت بتعجب من غير رغبة:
" بيتي الجديد؟ والمخيم؟؟"
أجاب بنبرة جادّة:
" ستترك الماضي وراءك....سيبقى هادي في المخيم وتبدأ حياة جديدة باسم يامن إبراهيم الهاشمي للانتقام وبعدها العودة للوطن باسمك الحقيقي قائداً للثورة اذا أراد الله ذلك"
قلت :
"اين سيكون بيتي؟؟ وما وضع عائلتي ؟؟"
قال:
" عائلتك ستبقى مكانها وسنهتم بهم اكثر من السابق...لا تشغل بالك وفكر فقط بالمهمة...اما بيتك الجديد سأصطحبك عصراً لتتعرف عليه.."
قلت باستياء:
" لكن....لا استطيع ان أعيش في بيت مريح واهلي بالمخيم!!"
أجاب مبتسماً:
" لا تقلق ..لفترة مؤقته فقط وبعدها ننقلهم لمكان مريح وآمن"
×
×
×
عدت الى المخيم لأرافق امي للتسوق واخبرتها ان ملابسي جاهزة من السيد(ماجد)....
~~~~~~~~~~~~
مواجهة السيد (ماجد) كان جلّ ما يشغل تفكيرها.....
أخرجت من درج خزانتها البوم الصور الخاص بعائلتها.....انتقت صورتين لوالدها وهو في اول شبابه وأخرى في سن الستين....وضعتهما في حقيبتها وخرجت مع سائقها تقصد المخيم....التقت بخالتي (مريم) وطلبت منها رقمه بحجّة احتياجها لمساعدته بشؤون اللاجئين......
بعد عودتها الى القصر...دخلت غرفتها ودقّت رقمه متحدثة بخفوت:
" مرحبا سيد ماجد ..انا فاتن صديقة السيدة عائشة والسيدة مريم.."
ردّ باستغراب:
" اهلا....هل من خدمة؟"
اجابت بصراحة دون مقدمات:
" اود الالتقاء بك لأمر هام...ان كنت متفرغاً"
"خيرٌ ان شاء الله...ما هو هذا الامر يا ترى"...شرد قليلا محدثا نفسه قبل ان يجيب:
" لا مشكلة...اين ومتى؟"
قالت براحة بعد ان خافت من صدّه لها :
" غداً , العاشرة صباحاً في مقهى الشروق مركز البلد.."
قال باقتضاب:
" حسناً سأكون بانتظارك"
~~~~~~~~~~~~
كان فكره مشوشاً...راودته الكثير من التساؤلات....رفع هاتفه يطلب صديقه علّه يوسع من افاق توقعاته...وبعد التحيات قال بصوت مندهش:
" لو تعلم من هاتفتني!"
اجابه السيد(سليم) متهكماً:
" الملكة اليزابيث؟!"
قال بجدية:
" فاتن شقيقة زوجة عاصي رضا "
سأل باعتراض.. مصدوماً:
"مــــن؟؟....ماذا تريد ؟"
أجاب بتيه :
" لا علم لي...ارادت الالتقاء لأمر هام"
هتف محذراً:
" احذر...ربما شكّوا في شيء....اياك الوقوع في مصيدتهم!!"
قال بثقة:
" بالطبع ...ماذا تظنني؟!....سأذهب ان شاء الله وأرى بكل حذر"
~~~~~~~~~~~~
" هل سأسكن في بيت لوحدي ؟"
سألت سؤالي وانا اتكئ على نافذة سيارته في طريقنا الى ذاك البيت..فأجاب مازحاً:
" لم؟ هل تخاف من الوحدة ؟"
عدلت جلستي ونظرت اليه قائلا بحيرة :
" لم اقصد ذلك....لكني اشعر بالضياع وغير مرتاح بافتراقي عن اهلي "
قال بلطف :
" اخبرتك الّا تفكر بعائلتك واطمئن....وسترى عند وصولنا ان كنت لوحدك او لا "
اعدت رأسي الى النافذة شارداً بمستقبلي المجهول وما ينتظرني في حياتي....
" أخيراً وصلنا..."
استقمت بجلستي بعد كلماته ...أحرك رأسي بجميع الاتجاهات...استغرقت الطريق حوالي نصف ساعة من المخيم الى البيت الجديد...نزلت من السيارة ببطء اتأمل بانبهار الذي اراه امامي...همست مندهشاً:
" ما شاء الله ....ماهذا القصر؟؟ وما هذه الحديقة؟؟ انه يشبه القصور في عالم الخيال!!"
وقفتُ منتصباً متسائلاً بجدية:
" لمَ أتينا الى هنا وأين البيت الذي سأسكن فيه ؟!"
ارتسمت ابتسامة لطيفة على وجهه وقال :
" اتبعني الى الداخل وستعرف كل شيء "
ولجنا الى جوف القصر العريق...تصميماته منتهى الفخامة...جلسنا على أريكة في بهوه ..كانت ملوكية ربما من زمن السلاطين!!.....دقائق قليلة والتفتّ الى مصدر الصوت الذي كسر الهدوء وهي خبطات قدمين قادمتين نحونا وإذ بها لرجلٍ ضخم البنية في بداية العقد الخامس...يبدو عليه القوة والصلابة لكن عينيه غارقتين في الحزن.....تصافحنا وجلس مقابلاً لنا...كان يتأملني بصمت للحظات....خطّ بسمة خفيفة تخفي ألمه هامساً:
" واخيراً رايتك يا ابن محيي الدين "
التفتّ للسيد (ماجد)..رمقته بتعجب واستغراب فضحك الرجل وقال :
" لا تستغرب يا ابني...انا اعرفك جيداً منذ ان ولدت...لكن لم يشأ لنا القدر الالتقاء الى هذه اللحظة"
قلت بتردد:
"كـ....كيف تعرفني ومن انت؟"
امسك السيد(ماجد) يدي يشد بقبضته عليها ليطمئنني هامسا بلطف:
" اهدأ يا هادي...سيخبرك عمك إبراهيم بكل شيء!!"
تنهد السيد(إبراهيم)..ارخى ذراعيه على ساقيه واسند ظهره للأريكة ثم قال بحنان وحنين:
" انا صديق والدك من أيام الثانوية.....تفرقنا بعد ان قرر والدي الهجرة الى دولة مجاورة حيث يتواجد أخيه الكبير ووالدته لمساعدته بشركات العائلة.....افترقنا جسدياً لكنا استمرينا بالتواصل عن بعد عبر الهاتف والرسائل....اقنعته للقدوم عندنا لنلتحق بنفس الجامعة....عشنا معا اجمل أيام عمرنا....كنا نتشابه بنفس الميول والمبادئ...اسسنا انفسنا وفتحنا اول شركة لنا.... عاد والدك للبلاد والتحق بجيش الدولة لثلاث سنوات حتى حاز على ترقيات , بعدها تزوج والدتك وانا تزوجت ابنة عمي....زرنا بعضنا ونساءنا حوامل ...ترك والدك منصبه ثم انقطعنا عن الزيارات لانشغال كل منا بعمله وعائلته بعد ان اصبح لكل منا شركته الخاصة ..."
صمت للحظات يبتلع ريقه ويلقط أنفاسه ثم استأنف:
" عندما كان ابني في الخامسة من عمره ...اكتشفنا انه يعاني من فشل كلوي....كان يوما اسوداً في عمري...توقفت عن الحياة....أهملت صفقاتي...تألمت كثيرا حد الموت ...وقف والدك بجانبي وآزرني....اخرجني من حالتي ودفعني لأمضي قدماً بإعطائي امالا جميلة واننا سنجد له كلية تناسبه ويتعافى....حتى انه كان يترك اعماله ويقوم ببعض اعمالي من بعيد حماية لي من الإفلاس...مرت شهور ونحن نبحث من مشفى لآخر ولم نجد ما يناسبه , فخطف والدك نفسه لزيارتنا بعد ان أغلقت الأبواب في وجوهنا والوقت يداهمنا بسبب فصيلة دمه
والتي تستقبل فقط متبرع من نفس الفصيلة........(O)
.كان طبيب العائلة موكلاً بالبحث بالتفاصيل ولم نذكر يوماً نوع فصيلة دمه امام والدك....اقترح والدك ان نوسع نطاق بحثنا لبلاد مجاورة فأخذ معه نسخ من الملف الطبي وعاد ليستشير طبيباً في الوطن , تفاجأ انه نفس فصيلته وصمم على التبرع بكليته بعد ان اجرى عدة فحوصات ليتأكد من حالته الصحية.....نزلت كلماته بقراره هذا في اذني كالغريق الذي كان يلتقط اخر أنفاسه ليفارق الحياة وجاء من ينتشله ويسحبه الى بر الأمان في اللحظة الأخيرة..."
تبسّم ومع بسمته فرّت دمعة امتنان من عينه وقال بصوت مخنوق:
" كان والدك المنقذ لابني....لو فديته بحياتي لا اوفيه حقه "
تأثرت بداية من حكايته لكن موقف ابي حملني من عالم الآلام الى عالم الآمال الجميلة...تنحنحت وسألت:
" اين ابنك الان؟"
أسبل عينيه ورد بنبرة حزينة:
" كبر ابني امامي وهو بكامل الصحة حتى اتم الخامسة عشر عاماً...كنت وقتها في البلاد احارب مع والدك واصدقائنا الثوار..."
قاطعته سائلاً:
" هل كنت أيضا في صف الثوار؟؟"
اومأ براسه مؤكدا وقال:
" بعد ان نجحت عملية ابني انضممت لهم عندما رأيت شهامة والدك وانتصاراته في معاركه .....ويبقى الوطن وطني لو كنت بعيداً عنه.."
تنهد يزفر أنفاسه وتابع :
" اضطرت زوجتي للحاق بي مع ولديّ وقبل وصولهم المطار..."
ابتلع غصة في حلقه وأكمل بصوت متحشرج:
" تفجرت مركبتهم على يديّ جاسوس نذل يعمل لصالح الخونة....كان هذا بعد وفاة والدك بأسبوع.."
ازدردت ريقي وقلت بصدمة :
" كيف وصلوا لهم؟؟"
صكّ على اسنانه وقال بقهر:
" علموا انني ادعم الثوار ماديا وهددوني كثيرا لكني لم ابالي...وفي النهاية حققوا مرادهم الاوغاد.."
اخفض رأسه وساد صمت رهيب ...كبح جماح نفسه واخرج صوته بصعوبة :
"حتى اننا لم نستطع جمع اشلائهم"
مسكين هذا الرجل كم عانى في حياته!!...من يرى مصائب غيره تهون عليه مصائبه!!....تعاطفت معه بسبب قصته وشعرت بالقرب منه لربما بسبب علاقته بأبي...نهضت من مكاني مقبلاً نحوه....جلست بجانبه لمواساته بعد رؤية الدموع التي كابد على اخفائها...ربتّ على كتفه برقة هامساً :
" رحمهم الله يا عمي....شهداء بإذن الله...لا تحزن....هنيئاً لهم "
التفت نحوي ...جاهد على رسم ابتسامة في زاوية فمه يجاملني برقيّ...وضع يده على ساقي قائلاً بصوت خافت :
" اسأل الله ان يجمعني بهم "
بعد دقائق صمت أشبه بالحداد على مآسينا التي نتبارز بها...عدت الى مكاني وسألت موجها كلامي للذي بجانبي :
" ما دوري انا الآن؟"
قال السيد(ماجد):
" ستكون يامن إبراهيم الهاشمي..."
أشار للمقابل لنا وأكمل:
" أي السيد إبراهيم هو والدك من هذه اللحظة "
سكتّ للحظة ثم قلت بحيرة :
" لي الشرف بذلك لكن....لكن ما الفرق ان كان هو احد الثوار مع والدي واسمه معروف للأعداء ايضاً؟؟...لم لا احمل اسم والدي؟!"
تبسم السيد(إبراهيم) وأجابني:
" اسمي الحقيقي إبراهيم الهلالي أبا احمد...هذا ما كنت أُعرف به....الاعداء ظنوا انني دخلت مصحة نفسية بعد حزني على فقدان عائلتي فوثّقت ذلك لصالحي بعد ان وضعت اسمي بشكل رسمي في احدى مصحات البلد التي كنت بها...وبعد أربعة اشهر بعت كل املاكي هناك وجئت الى هنا لتنفيذ خطتنا مع صديقنا السيد سليم الأسمر..."
صمت وحرّك راسه بشكل دائري مضيفاً:
" اشتريت هذا القصر من حوالي ثلاث سنوات تقريباً...غيرت هيأتي ...كنت اقرب للسمنة فاتبعت نظام غذائي ورياضي...حلقت شعري على الصفر واطلقت ذقني ..ثم دخلت عالم رجال الأعمال باسم (إبراهيم الهاشمي أبا يامن ) جاهدت وبمساعدة السيد سليم حتى لمع اسمي في عالمهم ووصل البلاد المجاورة بفضل الله.."
أنهى كلامه ليكمل السيد(ماجد) في تعليماته لي :
" خلال فترة دراستك ستمكث معه بصفتك ابنه ومن هنا سنوجهك اولاً بأول , انا والسيد إبراهيم بمساعدة السيد سليم الأسمر عن بعد.."
قاطعته قائلاً:
" وأمي كيف ستتقبل بعدي عنها ؟"
قال:
" سنعلمها انك تمكث عند صديق اعطاك اسمه لحمايتك ليس اكثر.."
اتفقنا على بركة الله على العودة الى هذا القصر في الأول من أيار لأبدأ بدراستي التمهيدية ...
~~~~~~~~~~~
" اراكَ سبقتني وما زال الوقت باكراً...ام غلبك الفضول ؟؟"
هتفت مازحة بعد ان وصلت المقهى المتفق عليه صباح اليوم التالي... مستقلّة سيارة اجرة تمويهاً لزوج شقيقتها خوفاً من مراقبته لها....
حاول ان يخفي حرجه من جملتها الصريحة المباغتة له:
" كان لي مشوار قريب وانهيته باكراً....نعم تفضلي "
سحبت كرسياً تجلس محاذية له وهمست بضعف:
" انا احتاج مساعدتك وأتمنى ان تثق بي!!"
قال بتعجب:
" تفضلي ان كنت استطيع..."
قالت ناظرة لباب المقهى:
" اصبر قليلاً...انا انتظر شخصاً اخراً.."
ارتبك السيد(ماجد) ...لقد قلق من ان يكون هذا الشخص هو (عاصي) وهذا ما لم يحسب حسابه....صحيح انه هو مخفي عن الأنظار وغير مشهور شكلياً واسمياً ويعمل بسرية تامة ولن يستطع التعرف عليه ان واجهه ....الا ان مجرد تفكيره بان يرى الوغد امامه شعر باضطراب معدته...
بعد قليل وصل الشخص المنتظر....صوب نظره متفاجئاً وقال :
" سيده ايــــمان ...ماذا تفعلين هنا ؟"
شهقت السيدة (ايمان) بعينين متسعتين سائلة باندهاش:
" أبا لؤي!!...هل انت السيد ماجد المقصود؟!"
تبسم قائلا بمرح بعد ان زال حمل جبال من الارتباك الذي مر به قبل قليل:
" طبعاً وهل يوجد غيري؟!"
ثم حرّك لها الكرسي لتجلس....اما السيدة(فاتن) كانت تشاهد بصمت مستغربة , مصدومة...لقد طلبت من صديقتها مساندتها بهذه المسألة ولم يخطر في بالها ولو بقدر ذرة انهما متقاربان لدرجة وكأنهما تناولا عشاءهما معا بالأمس ...رمشت تطرد اندهاشها وسالت بتردد:
" انتما!!...منذ متى تعرفان بعضكما؟"
واكملت مازحة:
" يبدو ان لا حاجة لي بينكما.."
ضحكا معاً واجابت صديقتها:
" هذا أبا لؤي بشحمه ولحمه الذي يأتيني بالمعلومات السرية التي انشرها فيما يخص الوطن , ابطاله وخائنيه.."
وضعت يدها على كتف صديقتها ثم تابعت وهي تنظر للسيد(ماجد):
" فاتن صديقتي المقربة التي لها افضال كثيرة بدعم صحيفتنا مادياً وايضاً تسرب لي معلومات مهمة بسرية "
كانت صدمة السيد(ماجد) من احتلت هذا اللقاء...فلم يتوقع بتاتاً ان تكون الصحفية الثائرة صديقة لاحد افراد عائلة (عاصي رضا)....
بعد ان استجمع أفكاره خارجاً من صدمته سال بفضول السيدة(فاتن):
" ما هو الأمر الذي جلبتني له؟؟"
شدّت على فكيها وقالت بحقد يظهر بحدقتيها المرتجفتين :
" اريد الانتقام من عاصي رضا...."
شعر انه يبتلع كرة مع ريقه من ذهوله بعد ما سمع من تصريح مباشر....لكنه تظاهر بالهدوء قائلاً:
" وما شأني انا بذلك؟"
قالت بثقة:
" أنت من الثوار...وانا احتاج مساعدة الثوار لكرههم له وكرهه لهم "
أشهرت سبابتها بمرح مردفة:
" لا يمكنك الانكار بانك لست منهم.....انا جمعت بعض المعلومات عنك وتأكدت من علاقتك بهم..."
أشارت لصديقتها وتابعت بانتصار:
" وها هو دليلٌ آخر...صلتك بصديقتي الداعمة الكبرى إعلاميا للثوار وشؤون اللاجئين.."
عدّل جلسته...تنحنح وقال بصوت أجش:
" ما هو سبب الانتقام؟"
قالت:
" شيءٌ خاص...اتركه لي"
هبّ السيد(ماجد) من مكانه دافعاً كرسيه للخلف مغتاظاً قائلاً بنبرة قاطعة:
" انتهى اللقاء!!"
تدّخلت السيدة(ايمان) هامسة:
" ارجوك أبا لؤي...اصبر قليلاً.."
ثم التفتت الى السيدة(فاتن) تمسك يدها مضيفة:
" وأنت يا فاتن كوني على ثقة به ولا تخفي شيئاً ليتسنّى له مساعدتك.."
قاطعها بلباقة:
" عذراً سيدة ايمان , انا لا اساعد شخصاً لا اثق به , ولكسب ثقتي شرطي هو الصدق والوضوح من غير تعتيم!!"
أخرجت الصورتين من حقيبتها ووضعتهما امامه من غير أن تهمس حرفاً.....مسكهما وحدقّ بهما للحظات محاولا البحث في ثنايا ذاكرته لمن تكون!! ...استقام بجلسته متأهباً وهتف ضارباً ذراع الكرسي بقبضته:
" القائد ياسين النجار رحمه الله!!"
ثبّت نظره على السيدة(فاتن) سائلا باستغراب:
" من اين لك هذه؟؟ كيف وصلتِ اليها؟"
ضحكت السيدة (ايمان) واجابت عنها مشيرة اليها:
" هو والدها....فاتن ياسين صبحي النجار"
تناول كأس ماء كان امامه وشربه برشفةٍ واحدة وهمس باضطراب وتشوش:
" لحظة....لحظة....انا لم استوعب بعد!!...كيف ومتى؟.....آه يا الهي ..ضعت...هل هو الشخص الذي ساعد عاصي رضا وزوجّه ابنته؟!!....لكن!!....لا ..لان زوجته تحمل كنية أخرى؟َ!....كيف وهي من المفروض ان تكون شقيقتك؟"
رسمت ابتسامة مجيبة لتبدد ضياعه:
" اختي سجلت باسم خالي علي عبّاس , لأن اهلي عند ولادتها وهبوها له ولزوجته لتكون ابنتهما بسبب حرمانهما من الأطفال....لكن شاء القدر اعطائهم ابناً بعد سنتين وعند بلوغهما لحرمة بقائها مع ابن خالها , اضطر خالي لإعادتها لابي وبقيت بالأوراق الرسمية تحت اسمه اهمالاً.."
كان يصغي لها بملامح مبهمة.....هم يعلمون ان رجلاً شهماً زوّج (عاصي) من ابنته لكن ما خفي عنهم ان يكون احد قادة الثورات سابقاً وقدوتهم في الماضي ...بينما هو في حالته هذه , تنحنحت السيدة(ايمان) مبتسمة هامسة:
" خذ وقتك لتستوعب أبا لؤي...فالصدمة الحقيقية لم تأتي بعد!!"
تنهد بعمق ....حكّ عنقه وهو يتأمل الصورتين أمامه...أعاد ظهره للوراء يعدّل جلسته وقال بصوت جهوري بعد ان غلبه الفضول اكثر بمعرفة خبايا وأسرار انتقامها :
" اخبريني قصتك .."
↚
تنهد بعمق ....حكّ عنقه وهو يتأمل الصورتين أمامه...أعاد ظهره للوراء يعدّل جلسته وقال بصوت جهوري بعد ان غلبه الفضول اكثر بمعرفة خبايا وأسرار انتقامها :
" اخبريني قصتك .."
زفرت أنفاسها تطرد آهاتها حبيسة الماضي...اتكأت بمرفقيها على الطاولة....ابتلعت لعابها وهي تستحضر كل شيء أمامها ..ثم شرعت تقصّ حكايتها بنبرة متألمة :
" بعد ان ترك والدي قيادة الثورة خوفاً علينا انا وشقيقتي كريمة لتلقّيهِ تهديدات عديدة...فتح مصنعاً يسترزق منه البسطاء وكان من ضمنهم عاصي رضا...أُعجِبَ أبي بذكائه وفطنته وأدخله بيتنا ليصنع منه رجلاً من العدم , مع الأيام نشأت علاقة حب بينه وبين كريمة...طلبها من والدي فاشترط عليه الانضمام للثوار ...اولا لحاجتهم لمثل هذه العقول المدبرة وثانياً كان شجاعاً لا يهاب شيئاً ومغامراً وبدمٍ حامي ..رأى والدي به هذه الصفات وغفل عن الأخرى الأهم!!...انصاع لطلب ابي دون تردد ...تزوج شقيقتي وبدأ وضعه يتحسن بسرعة ثم مسك زمام الأمور في مصنع وشركات ابي وبفترة قصيرة فوجئنا انه أصبح وزيرا للخارجية.."
أمالَ زاوية فمه بضحكة ساخرة لأنه يعلم جيداً كيف وصل لهذا المنصب.....مدّت يدها تمسك كأس عصير الليمون , ترتشف منه رشفات تبرّد هيجان روحها المحترقة وجعاً وأكملت :
" تراكمت الأمراض على والدي وأصبح طريح الفراش ...دخل بعدها في غيبوبة وبقي في البيت مجهزاً بالمعدات الطبية التي ترافقه....كنتُ اشعرُ والاحظ انزعاجه من حالة أبي بسبب تكاليف العلاج والممرضة التي تلازمه والأهم تعلّق اختي به...فكانت دائماً ترفض السفر للبقاء بجانب والدي وهذا ما يؤجج نيران حقده....كان ممثلاً بارعاً يدّعي الاهتمام به , وفي مرة جاءه طلب نقل لهذه الدولة لا نعرف سببه وكانت زوجته حاملاً بابنتها بالشهر الأخير...حاول اقناعها لكنها أصرّت على رايها بالبقاء في الوطن لصعوبة نقل ابي في وضعه ذاك...."
ازدردت ريقها وتكدّست الدموع في عينيها تلوم نفسها وتسترجع المشهد :
" في ليلة اصابني الأرق ولم استطع النوم....توجهتُ الى المطبخ لأتناول حبة منوم...."
قاطع حديثها اتصالاً على هاتف السيد(ماجد) فاعتذر مجيباً:
" أهلاً بالهادي...عساه خيراً؟!"
قلت:
" انت اخبرتني بأن علينا الذهاب لإخراج بطاقة هوية باسمي الجديد وانا بالانتظار.."
ضرب جبينه هاتفاً:
" يا الهي.. لقد نسيت ...لا تؤاخذني...عد الى المخيم وسنتفق على موعدٍ آخر لأني مشغول.."
قلت :
" لا بأس...سأنتظرك مجدداً"
انهينا المكالمة...وضع هاتفه في جيبه وقال بلطف:
" اكملي من فضلك..."
شقت ثغرها ابتسامة ماكرة وقالت:
" سأكمل....لكن ما هي علاقتك بعائلة هادي؟"
رفع حاجبه باستغراب وقال بصوت مستنكر:
" لمَ ساخبرك؟..لست مجبراً.."
قالت بهدوء:
" بلى.... انت تحتاج قصتي!! وانا احتاج مساعدتك"
رد ببرود:
" أظن انك انت من طلبتِ المساعدة ولست انا"
قالت بثقة تسند ظهرها للخلف:
" بالطبع...لكن قصتي فيها انهيار لعاصي وهذا ما تحتاجونه "
نظر لها بفضول وقال :
" تربطني علاقة صداقة قديمة...وهم أناس يحتاجون المساعدة في الغربة"
تبسمت بمكر وقالت:
" جميع من بالمخيم يحتاجون المساعدة ثم ان علاقتك بهم رسمية وكأنك مكلّف بمهمة ولا تبدو كصداقة !!"
قال بارتياب:
" لم تشكّين بوجود امر ما ؟"
اجابت:
" لأن عائلة ام هادي مميزة عن باقي المخيم...لم يبدُ لي انهم من عامة الشعب....الرقيّ يظهر بكلامهم وحركاتهم...وابنهم هادي يدلّ انه خرج من بيت راعيه ليس أي رجل!! ..كما ان عند سؤالي السيدة عائشة عن زوجها تتهرّب وتغير الموضوع !!"
تنهد وقال :
" كيف سأثق بك؟"
مدّت له الصورتان مرةً أخرى ....خلعت خاتما من بنصرها يخص شقيقتها وهمست:
" ابقهم معك...اذا بَدَرَ مني أي شيء مشبوه , تستطيع ارسالهم لعاصي مع اخباره بما سأحدثك به وسيتأكد على الفور ولن يبقيني على قيد الحياة!!"
أعاد لها الخاتم بارتياح ومسك الصورتين وهتف بلطف رجولي :
" حسناً...فعلتك هذه تؤكد لي صدق نواياك!!...خذي الخاتم اما هاتين سآخذهما اذا سمحتِ لي للاحتفاظ بهما لإعجابي الشديد بقدوتنا السيد ياسين النجار رحمه الله..."
حركت رأسها بإيماءة خفيفة, ترمش بعينيها مبتسمة توافق على طلبه...صمتت قليلا ثم عبست مجدداً لتكمل كلامها دون ان يطلب منها هذا او يجيبها على استفسارها:
" بعد ان تناولت حبة منوم...مررتُ على غرفة ابي لأتفقده وصعقت مما رأيت...."
صكت على اسنانها تضرب بقبضتها الطاولة وقالت بقهر وندم:
" كنتُ جبانة ...لم استطع فعل شيء واكتفيت بالمشاهدة مصدومة !!...رأيت الحقير عاصي يمسك مخدة يخنقه بها وهو يخرج أنفاسه الأخيرة ولم يكن وقتاً لإنقاذه.."
شهق جاحظاً عينيه وقال بصوت مصعوق:
" يا للهول!!....جريمة قتل بيديه مع سبق الإصرار والترصد!!"...
احنى ظهره للطاولة...اتكأ بمرفقيه وقال بصوت خفيض بعد ان استوعب ما سمع:
" دائما هو وراء الدمار والقتل والنصب لكن دون تلطيخ يديه ولهذا يصعب علينا إيجاد الأدلة الموثقة ضده!!.."
صمت يحدّج بها وقال بتساؤل:
" وانت ماذا فعلتِ؟"
اخذت نفس واجابت:
" ارتبكت..اضطربت ...لا اعلم ماذا افعل!...هو لم يرني فعدت مسرعة الى غرفتي بعد ان تسارعت نبضات قلبي ..كنت ارتجف...ابكي...احاول التقاط انفاسي...أناشد ربي ان يساعدني....لوهلة هممت بالذهاب لأختي لأخبرها لكني توقفت لأنها كانت حاملاً بخطر ...منع الطبيب أي شيء يحزنها او حركة تؤدي الى اجهاضها مما يسبب بوفاة حتمية لها!...خفت عليها وكتمت هذا بداخلي ملتزمة الصمت .."
ابتلعت ريقها تضع يدها على كف صديقتها تنظر بوفاء مردفة:
" حتى قابلت ايمان وتقاربنا كثيرا واستطعت البوح لها بسري الدفين الذي ذبحني لشهور طويلة "
سألها السيد(ماجد):
" لم اخفيتم موت والدك ونشرتم الخبر بعد أسابيع من وفاته؟"
" لأن عاصي تولى امر دفنه , لا يريد الارتباط بأمور العزاء بسبب ميعاد سفره العاجل ..فتكتم عن الخبر حتى جئنا الى هنا واستقرينا وسمح بالنشر.."
قال حانقاً:
" الخبيث ...الماكر"
ثم سأل بدهاء:
" والدك توفي وكذلك شقيقتك!! لم ما زلتِ تتسترين عليه ولم تفضحيه؟؟ او ترفعي قضية ضده؟!"
اجابت بقلة حيلة:
" ألمى السبب...انا توليت رعايتها بعد وفاة اختي ....ولا استطيع مجابهته وحدي وسيمنعني عن صغيرتي وهي ستضيع بين اب مجرم وزوجة اب حقودة....لذلك قررت الصمت حتى يشاء الله ذلك"
قال:
" ما الذي تغير الان حتى بدأتِ بالتحرك؟"
اجابت:
" لأنه ابعدها عني بإرسالها الى كندا وبتّ لا اطيق رؤيته ولا اتحمل إبقاء هذا السر على كاهلي فاردت الانتقام منه دون ان يكون لي أي صلة بالموضوع حفاظاً على ألمى فقط....لذلك قررت اللجوء اليكم لندمره باي طريقة"
سأل بفضول:
" ما هي مخططاتك ؟"
رفعت زاوية فمها بابتسامة جانبية وقالت:
" اترك المخططات وأخبرني عن عائلة ام هادي...فانا أكملت لك قبل ان تجيبني!!"
ضحك وقال مازحاً:
" كدت افرح لتخطينا هذا الموضوع , لكن الفضول خاصتك جالس لي بالمرصاد"
ضحكت وتبعتها صديقتها السيدة(ايمان) لتقول:
" حاذر من وعودك امام النساء!!..دماغهن توثّق بالصوت والصورة....هيا اخبرنا قصتهم.."
نظر لهما بابتسامة بريئة وقال:
" محيي الدين الشامي!! ماذا يعني لكما؟؟"
اجابت السيدة (فاتن) بفخر:
" من ممكن ان ينسى بطولاته وخاصة نجاحه بالقضاء على مجموعات إرهابية كادت تسيطر على حدود دولتنا!!"
تبعتها السيدة(ايمان) بانبهار:
" هو بطلي الذي تمنيت لقائه...كنت في كندا اتابع اخبار الوطن عندما كان عميداً للجيش ونجح بفترة وجيزة بحماية الحدود من الإرهابيين والمحتلين......ليته أصبح رئيساً للدولة...لا أعلم لم استقال من منصبه حينها؟؟"
أجاب:
" هو استقال من منصبه لحماية الوطن!!...انتقل من الجيش الى الثوار بعد ان رأى الفساد يعشش بحاملي اسم حامي الدولة من أصغر جندي وصعوداً الى مناصب مرموقة!!...اكتشف ان الثوار أكثر اخلاصاً لوطنهم"
قالت السيدة(فاتن) وهي تمسك كأسها العصير بيدها تنظر اليه:
" نعم, اذكر ذلك.....والدي رحمه الله كان يحدثنا عنه ولكن لم يقدّر لنا الالتقاء به"
رفعت نظرها للجالس امامها سائلة باستغراب:
" ما خصّ القائد محيي الدين بموضوعنا؟"
اجاب مبتسماً:
" عائلة ام هادي هي عائلته التي نزحت بسبب الحرب حماية لهم من الخونة!"
وضعت يدها على فمها باندهاش اما صديقتها السيدة(ايمان) كادت عيناها تخرج من مكانهما وهي تعلّق مذهولة:
" كل هذا الوقت نذهب إليهم دون ان نعلم انهم من رائحة بطلي!؟"
ضحكا على كلامها وقال السيد (ماجد):
" الم تلحظا أن هادي شبيهه؟!"
نظرتا الى بعضيهما نظرات تفهمانها, تحاولان كتم ضحكاتهما...فتابع بجديّة :
" ما المضحك بالأمر؟"
فتحت فمها لتجيب لكن السيدة(ايمان) اغلقته لها بكف يدها....انزعج من حركاتهما الطفولية , فاستسلمت هامسة بحرج:
" هيا اخبريه...لا بد من فضحي"
ضحكت وقالت بعد ان اخذت التصريح بفضحها:
" عند لقائها اول مرة بعائلة ام هادي , لما رأته قالت..."
غيرت نبرتها تقلّد صوتها واكملت:
" كم يشبه العميد محيي الدين سبحان الله....لو انه كبير لتزوجت به وجعلته هو بالصورة على الأقل...انه بطلي ناصر المظلومين , قاهر الأعداء.."
كانت تسخر منها مازحة ووجه الأخرى يضيء بالأحمر خجلاً كالمصباح المعلق فوق باب غرفة العمليات......ولما انهت كلامها , انفجر ضاحكاً وقال :
" احذري ان تسمعك السيدة عائشة.."
قالت السيدة(ايمان) بضحك ممزوج بالحياء:
" ارجوك لا تخبرها ستمنعني من زيارتهم"
أسندت ظهرها للخلف... نظرت الى السقف تصنع جواً حالماً وهمست بدلع مصطنع مازحة:
" على الأقل غير مزيف واصلي فهو من دم محيي الدين ....اذاً سأنتظره ريثما يكبر!!...اكون انا وقتها قد أُحلت على المعاش"
ضحكت لكلام صديقتها ثم نظرت له وهو يضحك لتهريجها وهمست بثقة:
" أرأيت؟..حدسي لم يخب...فأنا لمست بتصرفات هادي انه لا يمكن ان ينشأ هكذا الّا على يد رجل حقيقي.."
تابعت سائلة:
" هل سيكمل مشوار والده؟"
تفاجأ بسؤالها وأجاب :
" ربما!!"
تبسمت وقالت:
" لننتظر والأيام بيننا ان شاء الله"
ثم اردفت:
" ما هي أولى خطواتنا؟"
أجاب متنهدا مبتسماً , ينظر لساعته:
" لا تتسرعي....كل شيء في اوانه...ربما سيستغرق بضع سنين ليكون الانهيار الأصعب اذا أطال الله بأعمارنا....سنتفق لاحقا على خططنا....عليّ الذهاب الآن"
~~~~~~~~~~~~~
أقبل علينا أيار مسرعاً ليضعني بين النقلة الكبيرة المهمة في حياتي وبين الفجوة والألم من فراقي لمخيمي الحبيب....ها انا اخطو خطواتي الأولى خارج المخيم الى مصير مجهول لا يعلمه الا عالم الغيب والشهادة.......كانت ثلاث سنوات من العمر شهدنَ مواقفاً محملة بالصعاب والأوجاع , تخللتها ضحكات بريئة لقلوب نقية تغدق بالكرم والعطاء لمن يقابلها ......سأرحل تاركاً قلبي لأهل الحب والوفاء لأنغمس فاتحاً عقلي لمجتمع يتغلغل فيه الحقد والرياء!!.....تركتُ خيمتي وفراشي الدافئ من أنفاس أمي وعائلتي متوجهاً لأودع أصدقائي وجيراني بعد أن اخبرناهم بذهابي للدراسة بمنحة من أصدقاء السيد (ماجد)......
تلاقت العيون بنظرات لامست القلوب....لكل وجهٍ منهم حكاية معي احفرها في خلاياي وأعظمها التي كانت مع خالتي (أم سلمى).....أصعب لحظة كانت هي لحظة وداعي لأغلى ما أملك ...أهلي....لأول مره سوف افترق عنهم....كيف لا استيقظ على صوت امي...من سيجلس على رأسي وانا نائم غير (شادي)....من سيقفز امامي طالباً الحلويات و(دنيا) ليست موجودة!!....طعام خالتي المطهو بأنفاسها الحنونة , أين سأجده؟!
آه يا احبائي...ليت الأمر بيدي لما تركتكم....ليتنا أكملنا حياتنا ببساطتها دون معرفة الحقيقة المرّة المقدّر لنا الخوض فيها!!....لكن سأفعل هذا من أجل أبي...من أجلكم....ومن أجل الوطن!!
" لا تتأخر عنا هادي ....تعال دائماً لزيارتنا....لا طعم للحياة من دونك"
أخرجت كلماتها وهي تتشبث بي باكية , رفيقتي دنيانا ....قبّلت جبينها وهمست بأذنها مبتسماً أُداري تمزقات قلبي:
" انا ذاهب لأبني مستقبلنا بإذن الله.....انتظريني وعديني انك ستهتمين بدروسك"
ابتعدت عني تومئ برأسها , تمسح دموعها ....مسدت على شعرها وجثوت أعانق صغيرنا....حملته ....قرصته من خدّه وقلت:
" الآن انت رجل البيت....سنلحقك بالروضة أيها الشقيّ"
حاول التملّص من حضني نازلاً وقال بجدية:
" ثح(صح) أنا رجل , لماذا تحملني؟...لا تنثَ(تنسَ) ان تحضر لي ثوكلاطة(شوكلاطة) والمثدث(المسدس) الذي يضيء"
ضحكت لرجلي الصغير المشاكس ..فكم احب سماع لدغته البريئة وقلت رافعاً يدي بتحية عسكرية:
" حاضر ..انت تأمر"
اقتربت مني خالتي تحمل علبتين فيها بسكويتي المفضل لتعطيني اياهما...فقلت لها بحنان ماسكاً يديها :
" آه خالتي..كيف سأصبر دون تذوق طعامك وحلوياتك؟!"
انزلقت الدموع من عينيها وهمست بصوت متحشرج:
" خذ هذه وسأحضّر لك دائماً ما تريد ونبعثه مع السيد ماجد"
عانقتها وقبّلت جبينها أمسك دموعي متوجهاً لنبض الحياة ....صاحبة القلب الرقيق, المرهف , نبع الحنان...كانت تضع يدها على فمها تحاول كبت شهقاتها ووجهها شاحب , احترق نوره....سحبتها بخفة أضمها الى صدري ..أشد على جسدها الضعيف الذي ضاع بين ذراعيّ بعد ان ازددت طولاً وعرضاً...أُقبّل جبينها ورأسها بقبلات متلاحقة ...أريد أن أشفي غليلي , تبعتهما بقبلات على يديها طالباً برجاء :
" ارجوكِ...كوني قوية من اجل نفسك والعائلة...لا تقلقي بشأني....اريدُ فقط رضاكِ يا أماه...لا تنسيني من صالح دعائك "
طوّقتْ خصري تشدد من احتضاني وهمست باكية:
" اهتم بنفسك...لا تهمل طعامك....تغطى جيدا بالليل..ولا تنسَ مهاتفتنا يومياً"
ضحكت لحنانها الذي لا يتضاءل منه شيئاً وقلت:
" حاضر أمي...من عيوني"
ربتت على ظهري وأردفت:
" اذهب يا غالي مع رضا من ربي وثم قلبي.....وفقك الله وحماك من كل شر"
مسكتُ حقيبتي التي وضعت بها كل اغراضي المهمة...مصحف والدي , صندوق الأمانة , والعقد الذهبي ......منذ ذلك اليوم بعد معرفة حقيقة الخائن ,أصبح شعوري متضارباً بين القلب والعقل!!...لقد اعتاد قلبي سابقاً كل ليلة على اللجوء في سماءيها ..أما عقلي الآن بات ينافسه , يحاول السيطرة على كل خلية بجسدي ان يكون هذا فقط الوسيلة لدفعي للانتقام منهم...ليذكرني بالواقع المرير...لا تحلم يا قلب هادي لا أسمح لك بإضعافي حتى لو لم يبقَ مكان للجوء الّا في هاتين العينين....ستبقى يا قلبي مشرّداً بلا مأوى الى ان ننجح بالانتقام منهم أشد انتقام...!!
وضعتُ الحقيبة في صندوق السيارة ثم ركبت بجانب السيد (ماجد) ألوّح بيدي لهم , سامحاً لدمعي السقوط من مقلتيّ بعيداً عنهم , متوكلاً على الله وأنا اقلب صفحة من حياتي القديمة وأبدلها بواحدة جديدة...
~~~~~~~~~~~~~~~~
وصلنا الى قصر الأحلام...الى بيت الانتقام...الى عالمي الجديد وأبي الروحي..الى بيت السيد(إبراهيم)...استقبلنا الخدم وبعدها هو مرحّبا بنا فاتحا ذراعيه , هاتفاً بمرح:
" اهلا بابني يامن...اهلا بمن سينير حياتي ويضيء قصري"
تبسمت وتوجهت اصافحه واعانقه غامزاً له , هامساً:
" القصر مضيء بوجودك أبي"
كان متفق بيننا ان نعتاد على علاقتنا والقابنا الجديدة امام الخدم لنتقن دورنا من دون ترك هفوة وليكن حقيقي ومقنع....
أرشدني لغرفتي في الطابق العلوي من القصر...كانت بجناح خاص...تبهر النظر بأثاثها الملوكي المدمج باللونين البني والذهبي وطلاء فيه نقوش تلائم الديكور داخلها...كان فيها زرابيّ من الحرير بلون سكري مخططة بالذهبي تغطي الأرض الرخامية.....وغرفة جانبية مخصصة للملابس , تضم اشهر الماركات وافخمها التي تليق بابن رجل اعمال ثري ....من هذه الغرفة ندخل لرواق قصير المدى يربط بحمام وكأنه منتجع في أحد الفنادق الفخمة...ارضه رخامية بيضاء لامعة وعلى زاويته حوض استحمام يطلّ على الحديقة من حائط زجاجي دون ان يُكشف من في الداخل لمن في الخارج.....كان سريرٌ ضخمٌ يتوسط حائطاً عريضاً في صدر الغرفة...له أعمدة وستائر ملوكية....تأملته لدقيقة, ثم خرجت قاصداً السيد(إبراهيم) وعند رؤيته لي قال بلطف:
" أتحتاج شيئا يا ولدي؟"
قلت بخجل:
" اريد فراشاً ارضياً لأنام عليه!!"
سألني باستغراب:
" لماذا ولديك سريرٌ بعرض الحائط صحي لجسدك؟"
تبسمت واجبت :
" اشكرك على كرمك لكن لا يمكنني النوم على سرير كهذا وأمي والبقية ينامون على الأرض!!...وعهداً علي ّطالما الوغد حرٌّ طليقٌ , لا اريد ان اتذوق طعم الراحة قبل الانتقام منه"
تفاجأ من كلامي ودنا مني يربت على كتفي باعتزاز قائلاً:
" نِعمَ من أنجبَ ونِعمَ من ربّى.....لك ذلك ان شاء الله"
ثم نادى على احدى الخادمات لتلبي طلبي.....
بعد حصولي على ما اردت ...ارتميت عليه ورحت في نوم عميق..!!
×
×
×
في الصباح الباكر استيقظتُ على رنة المنبه في الغرفة...توجهتُ الى الحمام لأستحم...ارتديت من الملابس المجهّزة لي , قميصاً كحليّاً بكميّن طويلين , طويتهما للمرفقين مع بنطلون جينز بنفس اللون وحذاءً رياضياً مدمجاً باللونين الأبيض والكحلي....تعطرت ونزلت السلالم متوجهاً الى غرفة الطعام لتناول فطوري مع ابي (إبراهيم) الذي كان في انتظاري....فهمست بهدوء :
" صباح الخير أبي.."
رد مبتسماً:
" صباح النور يا ولدي....هيا اجلس لتتناول فطارك ولندردش قليلا قبل خروجك"
بعد تبادلنا الأحاديث أعطاني بطاقة ائتمان لحساب خاص بي وكذلك بطاقة الهوية وطلب مني الاستعداد للبدء بدروس تعلم القيادة في مطلع الأسبوع القادم....
انطلقت الى جامعتي مع السائق الخاص.....وصلنا بعد نصف ساعة.....دخلتها متوكلاً على الله ليشرح صدري وييسر أمري , بخطى ثابتة ورأساً مرفوعاً , واثقاً بنفسي كأن لم يتغير عليّ شيءٌ وأنني معتادٌ على هذه الأماكن الراقية.....
انتهت محاضرتي الأولى فالثانية....جاء وقت الاستراحة....قررت التجوال بين أبنية هذه الجامعة العريقة, الأكثر شهرة في المنطقة لأتعرف عليها ...توجهت بعدها الى مقهاها بعد ان استعلمت عن مكانه لتناول شيئاً بارداً في هذا الجو الحار.....
جلستُ على طاولة بكرسيين تلتصق بنافذة زجاجية كبيرة تطلُّ على حديقة الجامعة وبينما انا شاردٌ بالنظر للهندسة المميزة والتنسيق الأكثر من رائع للأشجار والازهار ونافورة الماء الكبيرة التي تتوسط الحديقة....سمعتُ من خلفي شوشرة....التفتّ أرى مصدرها وإذ ببعض الشبّان مِن مَن يسمّون بأولاد الذوات , يسخرون من شاب نحيف الجسد ببشرة تميل للسمرة ويرتدي نظارة طبية بعدسات كبيرة تغطي خضرة عيناه ....كانت ملابسه تدلّ على ماديته البسيطة!! مما جعلني اتعجب كيف لهذا الالتحاق بمثل هذه الجامعة!!.....الظلم والتنمّر موجودان في كل مكان....القوي يحاول أكل الضعيف!!....مجتمع طمّاع لا يكفيه ما بين يديه ويلاحق من هم دون مستواه للنيْلِ منهم......
تحركتُ من مكاني لأمضي في طريقي لأتجول بين اروقتها, أتعرف على باقي الأقسام.....بدأت الضحكات الساخرة منه والقهقهات بالارتفاع وكذلك تجمع الطلاب من حولهم في ازدياد....لم التفت لهم متحكماً بنفسي مُحدّثها" لا تنظر يا هادي...لا تتدخل...لا يعنيك أي شيء...اكمل في طريقك.."
ما ان انتهيت من صراعي الداخلي ليصل لأذني صوت الفتى هاتفاً بصوت مرتفع مقهور:
" حسبي الله ونعم الوكيل.....لقد كسرتم نظارتي ولا استطيع الدراسة من دونها....نظري ضعيف !!"
شددت على قبضة يدي حتى ابيضت مفاصلي..جززتُ أسناني هامساً بصوت خافت:
" متى انا قبلت بالظلم؟...متى سمح لي ابي بذلك؟!...تباً لهم ولحقارتهم وتباً لصمتي!!"
توجهت اليهم واسع الخطى مزمجراً بصوت مرتفع:
" يكفي يا انذال ....اتركوه وشأنه"
دنوتُ من الفتى ...انحنيت ارضاً الملم أغراضه المبعثرة ونظارته المكسورة...سحبته من ذراعه بلطف قاصداً المقهى......ما ان دلفنا المقهى وإذ بلكمة تدوي على ظهري...استدرتُ للخلف بسرعة والشرر يتطاير من عينيّ لرؤيتي انها كانت من احد الشبان المشاكسين....لم أتمالك نفسي وارجعتُ له اللكمة لكمتان ليحتدّ الشجار بيننا دون التدخل من الآخرين ,حتى أتى رجل الأمن وفضّه ثم سحبنا الى غرفة مدير الجامعة الذي صرخ بنا موبخاً لنا على فعلتنا بصوت غليظ:
" ماذا تظنان انكما فاعلين؟؟ ما هذا التصرف الهمجي في حرم الجامعة؟"
قاطعته ببرود مشيراً للذي بجانبي سارداً له ما حصل ..حاول الأخير التدخل يلقي عليّ التهم ليتملّص....صاح بنا غاضباً:
" اصمتا وانصرفا من امامي...لا اريد تكرار ذلك والّا سيكون لي معكما تصرفاً اخراً"
وليته ظهري للخروج وتبعني الفتى ,فهتف المدير بفضول:
"انتظرا !!"
التفتنا له باستغراب فقال مشيراً له:
" انت رامي ابن المحامي ياسر حسين"
ثم أشار لي وتابع:
" لكن من انت؟..انا اراك للمرة الأولى"
اجبته بثقة:
" أنا يامن إبراهيم الهاشمي"
عدّل جلسته مبدلاً نبرة صوته:
" ماذا؟...اذاً انت ابن السيد إبراهيم!؟..متى اتيت؟..لمَ لمْ يخبروني بذلك؟"
قاطعته قائلاً ببسمة جانبية ساخرة:
" هل يخبرونك بكل من ينضم للجامعة؟"
تنحنح وهو يرتب ياقة قميصه مبتسما برياء مضيفاً:
" تشرفنا بانضمامك لجامعتنا..أوصل سلامي الحار لوالدك وأتمنى ان تكون هذه المرة الأخيرة التي تدخل بها غرفتي من أجل مشكلة"
" ان شاء الله"
خرجتُ شامخاً بمشيتي , غير آبه لمن حولي , متجهاً الى المقهى لعلّي أجد ذاك الفتى.....
في زاوية المقهى كانت فتاتان تقفان معه...اقتربتُ منهم ملقياً السلام وسحبته من بينهما الى طاولة قريبة دون أن اعيرهما أي اهتمام...فهمست احداهما:
" ما هذا الغرور؟"
ردت الأخرى ضاحكة:
" يحق له ذلك ..فإنه وسيمٌ ويبدو فاحش الثراء"
" ما شأن اولئك معك؟!..لماذا لم تدافع عن نفسك؟"
سألت الجالس مقابلٌ لي مواسياً له فأجاب بامتنان:
" أولا اشكرك على مساعدتك لي واعتذر عمّا تلقيت بسببي"
ربتُّ على يده هامساً بتواضع:
" لا عليك..انا لم افعل شيئاً"
أكمل بكلامه:
" اسمي بلال....نجحتُ بتفوق بالثانوية..لذلك حصلت على منحة من المنح الخاصة بطلاب العائلات المستورة"
تبسّم مشيراً الى نفسه ساخراً:
" أنت ترى مظهري...ومن المؤكد انك فهمت وضعي المادي....اتيت للدراسة في هذه الجامعة لأحقق حلم أمي التي تمنت دائما لي الالتحاق بأكبر الجامعات....دخلتُ قسم هندسة وعلوم الحاسوب لشغفي بذلك منذ الصغر.."
" رائع...لكن لم سمحت لهم بفعل ذلك بك دون ان تتحرك قيد أنملة؟"
أخفض نظره للأسفل بضعف وهمس بنبرة استسلام:
" انا اتحاشى الالتقاء بهم او صدّهم عني, لان لا سند لي وسيطردونني من اول مشكلة معتمدين على مكانة ابائهم الاجتماعية"
تنهد ينفث همومه ...اتكأ بمرفقه على الطاولة وبيده الأخرى يلعب بإطار نظارته المكسورة قائلا:
"أحيانا النعمة التي تمتلكها تكون نقمة وأنت لا تدري...فبفضل تفوقي وما توفيقي الا بالله , الكثير من الزميلات يتوجهن لي لأشرح لهن بعض المواد الصعبة !!...ويبدو ان ذلك يزعج الشبان الآخرين.."
تبسمتُ هامساً:
" نار الغيرة تأكلهم...أنت أفضل منهم بلا شك...حتى لو كنت فقير المال...فبتفوقك وارادتك سيرزقك الله مالاً وفيراً بإذنه , اما هم فقراء القلوب والعقول ...فمهما بلغ ثراؤهم لا يستطيعون امتلاك هذا.."
أسندت ظهري للخلف براحة وأضفت بمرح :
" ما رأيك أن نعقد اتفاقاً بيننا؟؟"
↚
حدّق بي ضاحكاً وهتف :
"كيف سنعقد اتفاقاً دون ان اعرف اسمك ؟"
مددت يدي اصافحه بابتسامة معرّفاً عن نفسي :
" أنا أخوك يامن "
صافحني هامساً:
" تشرفت بمعرفتك.....ما هو الاتفاق ؟"
" أنا احتاج لمساعدتك ببعض المواد وأنت ستقبل مني نظارة بالمقابل!!"
ضحكت وأضفت مازحاً:
" هذا اول يوم لي بدراسة إدارة الأعمال وسأطبق اول صفقة معك "
تبسم وأجاب بخجل ونفسٍ عزيزة :
" سأشرح لك ما تحتاج دون مقابل!"
قلت :
" هكذا لا يعد اتفاق وأنا لا أقبل بذلك.."
صمتُّ برهةً ثم أردفت :
" يبدو انك ستحرمني علمك وسأخسر من أول يوم.."
وافق (بلال) أخيراً بنيّة طيبة لمساعدتي وهو لا يعلم اني بفضل الله لا احتاج لهذا أبداً وانما هدفي اهداؤه نظارة تعويضاً عن التي خسرها دون احراج....اتفقنا ان نلتقي على مدخل الجامعة بعد انتهاء محاضراتنا لنذهب لمحل بيع النظارات ....استقلّينا سيارة أجرة ....ونحن في الطريق همس لي:
" يا لك من متواضع...تركب سيارات أجرة مع أنك ثري.."
تبسّم وأكمل :
" أنت كسرت قاعدة أثرياء ومغرورين"
بعد أن أتممنا صفقتنا , تجولنا قليلاً وبعدها عاد كل منا الى بيته ...كان يوماً مفعماً بالحركة , وُلد لي فيه أول صديق حقيقي في بلد اللجوء....
×
×
×
"نثق باختيارك لأصدقائك...لذا قربه منك اكثر لأننا سنحتاجه بتخصصه هذا بما انه متفوق"
سألت ناظراً له بتعجب:
" لمَ؟"
قال ببرود وهو يضع في فمه ملعقة من الحساء الذي أمامه:
"يمكننا الاعتماد عليه مستقبلا ان شاء الله بالقرصنة ضد الأعداء...فنحن سنُجنّد أجيالاً صاعدة في كافة المجالات.."
اومأت برأسي متفهماً وقلت :
" نعم , تقصد كما طلب السيد سليم من سامي وأحمد بشأن تخصصهما"
وضع الملعقة في الطبق ...تناول كأس الماء ليرتشف منه ...وقال:
" بالضبط ..."
تبسمت وقلت :
" سامي جاءه الفرج ...لطالما تمنى ان يلتحق بكلية الشرطة لشغفه بالمغامرة ....انه شجاع وعنيد ويعشق حل الالغاز وايقاع نفسه بالخطر اما والده كان يريد منه ان يصبح مدرب رياضة مثله ليمسك مكانه في النادي الذي يمتلكونه , لكن احتراما للسيد سليم لم يردّه خائباً وتنازل عن حلمه بشأن ابنه"
" اذاً ليثبت نفسه ونرى خيره..."
" ان شاء الله ..انا اثق بسامي وقدراته وكذلك احمد سينجح بالعلاقات العامة فهو شخص صبور, اجتماعي , لبق بالكلام وواثق من نفسه أيضا "
كان هذا حوارنا انا وأبي (إبراهيم) اثناء تناولنا وجبة الغداء بعد أن عدت من جامعتي وأخبرته عن يومي الأول بها وما حدث معي....
حككتُ عنقي ...تنحنحت وسألت:
" ما وضع شركات أبي وأمواله؟!..هل سطت الدولة عليهم ؟"
أجابني مبتسماً بحنان :
" لقد فتحت الموضوع قبل اوانه!....اطمئن , السيد سليم جمّد جميع املاككم حتى استلامكم لها لأنه يملك وكالة فيها من والدك وكنا سنخبرك بذلك عند اتمامك العشرين"
تنهدت بارتياح واضعاً كف يدي على صدري , رافعاً رأسي هامساً :
" الحمد لله...كنت أخشى من ضياع جهد أبي فيها وتصبح هباءً منثورا"
غمزني وهمس بخفوت:
" ماذا ستفعل بالأموال؟"
حدقت بالسقف برهةً أفكر ثم اجبت:
" اريد تطوير المخيم....فهو يحتاج الكثير من التعديلات وأريد انشاء مدرسة خاصة لهم"
اتكأ بساعديه على الطاولة شابكاً أصابعه ببعضها وقال بجدية :
" ما رأيك أن نتعاون في انشاء غرفة إسمنتية لكل عائلة؟؟"
هتفت بحماس :
" مدهش..."
ثم اردفت سائلاً بحيرة:
" لكن هل سننتظر حتى اتم العشرين؟"
" كلا....نبدأ مشروعنا في تموز المقبل علينا وسنتكفل بذلك من أموالي وعندما تأخذ اموالك يمكنك السداد لي كشريك بالنصف....ماذا قلت؟"
ضحكت ومددت يدي اصافحه قائلاً:
" حسناً اتفقنا..."
~~~~~~~~~~~~~~
بزغت شمس اليوم الأول من شهر آب....لقد انتظرته بفارغ الصبر...حزمت امتعتي لأنتقل الى حدود هذه البلاد شمالا ....الحدود التي تربطنا بالوطن , حيث يتواجد معسكر الثوار الاحرار...هذه البقعة والمقابلة لها في الوطن تُركت خالية ولا سلطة عليهما من قِبَل الدولتين بسبب الاختلاف برسم الحدود بدقة مما سهّل انشاء هذا المقر دون سائل او مسؤول....
وصلت المكان برفقة السيد(ماجد) بعد عدة ساعات ...وجهي يبدو عليه الهدوء لكني اواجه صراعا عنيفاً في داخلي ..أبطاله اللهفة والشغف لما انا مُقدم عليه ضد التوتر والرهبة من المجهول...
[[ جئتُ إليكم يا ثوّار....جئتُ بعزمٍ وإصرار
لا نركع لغير الله ....لا نرضى بالانكسار
ثابر..قاوم....اضرب..دافع....عُد ادراجك بانتصار
ارفع رأسك ..أشهِر سيفك ..أنت الفارس المغوار]]
استقبلني هناك القائد ( رافع جبري) مرحبّاً بي بحرارة , معرّفاً عن نفسه بأنه أحد تلامذة والدي...كم أنا محظوظ بانتسابي لأبي...أشعر بالفخر فأينما وليّت وجهي , أرى الإنجازات والبصمات التي وضعها في حياته....تبسّمت له بتواضع وبعدها وجهّني الى غرفة زملائي لأرتب أغراضي كوني سأستقر شهراً كاملاً هنا , أي مدة اجازتي من الجامعة...
عند دلوفي الى الداخل , لوهلة شعرت كأنني في السجن!!..فالأسرّة حديدية بطابقين والأفرشة بألوان باهتة وكذلك الجدران منقوشة بالرطوبة!!...لا أعلم ان كان ذلك لهدف أم انه مجرد اهمال!!
وهل ظننتُ أنني في زيارة لفندق بخمس نجوم لرحلة ترفيهية ؟؟!!
اقترب نحوي شابٌ..نحيف البدن , بشوش الوجه ...صافحني قائلاً:
" أنا اياد.. المسؤول عن احتياجات الغرفة...لا بد أنك هادي زميلنا الجديد؟"
أومأت برأسي متبسمًا فأردف مشيراً الى سرير جانبيّ بطابقٍ واحد:
" هذا سريرك...يمكنك استلامه من الآن , لقد بدّلت اغطيته....وفي الساعة الثانية سيكون موعد الغداء في الغرفة الخارجية"
همستُ له شاكرًا ثم دنوتُ الى سريري...كان بجانبه منضدة صغيرة لا اميز لونها من القشور والخدوش التي تغطيها!...وضعت بدرجها مصحف والدي وصورة عائلية قديمة في بيتنا الجبلي بالوطن وأخرى حديثة لصغاري..(دنيا, سلمى, سلوى) وبالطبع رجلي الصغير(شادي)...لقد اشتقت لمشاغبتهم......وكذلك وضعت الهاتف..
مهلا!!...ليس هذا فقط.....أيستطيع الانسان ان يتنفس من غير اوكسجين ؟!...هل تقبل الأرض أن تتواجد في هذا الكون من غير سماء ؟!..هل سأسمح لعيني أن تغمض من غير أن اكحلها في سمائها ؟!
أخرجت العقد الذهبي وضممته بكفيّ هامساً بخفوت مخاطباً له كالمجنون وكأنه يسمعني :
" لم استطع ابقائك بعيداً عني..فأنت الأمانة التي سأردها الى صاحبتها يوماً ما...اذا قدّر لنا ذلك "
ما هذا السحر الذي جعلني مدمناً لأتعلّق بقطعة معدنية تزينها صورة بلا روح؟!...كان قلبي من احتّل هذه اللحظة رغماً عني دون سيطرة....لكن فجأة انتفض عقلي يرسل اشعارات ليذكرني بمن تكون صاحبته!!..يخبرني الّا استسلم للمشاعر الخاطئة ...يجب أن ادعمه فأنا لا اريد كل هذا وما أمر به من صراع .....لقد أشعلتْ الفتنة بين أغلى اعضائي وذهبت وكأن شيئاً لم يكن...لمَ لا تعتقني تلك الصغيرة المغرورة!!؟؟..
أعدته في النهاية الى الحقيبة التي وضعتها كبقية زملائي على أحد الارفف المصفوفة على حائط...المُعدّة لهذا....
مرّ يومي الأول هكذا بين الغداء والعشاء ..اقامة الصلوات والتعرف على الزملاء.....ارتميت على سريري زافرًا انفاسي...فتذكرت انني لم اراسل اليوم والدتي لطمأنتها عليّ....اخرجت هاتفي من الدرج وقمت بتشغيله ليصدر صوتاً مرتفعا حتى أجفل من كان سريره قريبا مني وهو (اياد) الذي جلس على الفور بتأهّب , ملامحه مرتبكة , هاتفاً بحذر:
" هاتف!!...أيعلمون أنك تمتلك هاتف؟!"
نظرت له باستغراب وسألت بهدوء:
" لم؟...هل ممنوع ذلك ؟"
أجابني بصوت خفيض أقرب للوشوشة:
" بالطبع....هذا من اهم القوانين!! ألم تقرأ التعليمات بالورقة التي استلمتها عند دخولك ؟"
" لم أستلم أي ورقة!!"
قال مازحاً بنفس النبرة:
" يبدو ان واسطتك كبيرة!!....ورقة التعليمات هي بمثابة تذكرة دخول !!"
سألته بتعجب:
" هل تمتلك واحدة؟"
استدار الى درجه يخرجها ودنا مني يعطيني إياها ثم قال :
" ها هي اقرأها.."
اخذتها اتفحصها...كانت ورقة سميكة مغلّفة بمادة لا تتأثر بماء او حريق...وجهها الأول بالأحمر والآخر بالأخضر....تحمل اسفلها بصمة واسم ورقم هوية صاحبها...
الوجه الأخضر كان للمسموح في المعسكر...بدأت اقرأ بنوده بسرعة...كانت عديدة ومنها لا تعنيني ...قلت مشيراً على احداها بسخرية :
" هل سيجبرونني على النوم ان لم اكن اريد ذلك بغير ليلة الجمعة...أنا احب السهر !!"
قال ضاحكاً:
" من قال انك ستنتظر صلاة العشاء من شدة التعب والارهاق بسبب التدريبات الصعبة المكثفة ؟"
صمت برهةً وأشار بعينيه هامساً:
" هيا اقلب للوجه الأحمر واقرأ.."
كان الوجه الخاص بالممنوعات وما أكثرها..!!
اول ما وقع نظري عليه هو البند الأول والذي يمنع امتلاك الهاتف وان وجد يجب تسليمه في الحال....نظرت بعشوائية للوسط وكان بند يمنع الدخول بأي علاقة حب , ارتباط...وحتى الزواج في السنوات الأربع بالمعسكر!!...وكان بندٌ اخرٌ يمنع جلب الآت حادّة واي نوع من الاكسسوارات.....ها هم يصفعوني بأخرى من المحظورات ليأخذوا الاوكسجين خاصتي...!!
ضربت جبيني بكفي قائلا بضيق:
" يا الهي ..ما هذه القائمة ومن قال انني مجبر على تنفيذها !!؟؟"
وضع سبابته على فمه وهو يحرك حدقتيه يمنة ويسرة بقلق هامساً:
" ششش...من يخالف التعليمات يعاقب "
قلت قاطباً حاجبيّ باستياء:
" أي عقاب؟"
شرح لي أنواع العقاب وكان معظمها حرماننا من أشياء حيوية تخصنا....تأففت واعدت له ورقته....الصقت رؤوس اناملي اليمنى باليسرى , ناظرا الى الأرض للحظات لأحسم أمري!!.....فززتُ من مكاني حاملا الهاتف ثم توجهت لأخرج العقد من حقيبتي وهتفت باسمه طالبا منه مرافقتي لمكتب المسؤول عن كل هذا....
دخلنا غرفته بأدب والقينا التحية على رجل ضخم بشارب كثيف مرتب...يرتدي زي العسكر ..على صدره صورة مطرزة لفهد أسود وهو الرمز الخاص بإحدى كتائب الثوار...كان يجلس خلف مكتبه بملامح قاسية تنضح هيبة وقوة...لا اخفي انني ارتبكت بدايةً من مظهره !!....لكني استجمعت قواي وهمست بصوت رزين مسموع وأنا امدّ هاتفي لأضعه على الطاولة :
" تفضل سيدي...لم اكن اعلم ان الهاتف ممنوع ولم يعطني احد ورقة التعليمات.."
حدّق بي لثواني دون ان ينطق بكلمة !!...ثم قال بصوت غليظ:
" هل انت الشاب الجديد؟"
قلت:
" نعم...انا هادي الشامي"
قال:
" اعلم أنك لم تستلم ورقة التعليمات وكان بسبب ثمة اشكال بالاسم لكننا اصلحناه وفي الغد ان شاء الله ستضع بصمتك ليصدروا لك واحدة "
مدّ يده الى هاتفي واخرج كيسا بلاستيكيا من درجه كالذي يستخدمونه في السجن لأغراض القاتل او القتيل او أي دليل يخص الجريمة.....كتب اسمي عليه ووضع الهاتف به ثم رفع نظره اليّ سائلا:
" أيوجد شيءٌ آخر يجب تسليمه ؟"
ترددت في البداية ...بعدها أخرجت العقد بتأني من جيبي ...شددت قبضتي عليه قائلا بجدية:
" لا يوجد غرض اريد تسليمه...لكني سأريك شيئا سيبقى معي ولو انه من الممنوعات"
شهق الواقف بجانبي واضعا يده على فمه من جرأتي..اما الجالس امامي رفع حاجبيه باندهاش هامساً بسخرية:
" أتعي ما تقول أيها الفتى ؟"
اجبت بشجاعة:
" طبعا.....انا لم اخطئ ولا أرى من داعي لتسليمه لكم وهو لا يؤذي حتى نملة "
ضربني (اياد) من طرفي لأصمت وانتفضَ من صوت الذي قال :
" لا أعلم ان كانت جرأة او وقاحة ؟"
ثم نهض يدنو مني ..يمد يده قائلا بحزم:
" ارني إياه وأريد ان اعلم لمَ التمسك به ؟"
اجبته بثبات وهدوء :
" سأريك إياه ,وأحد أسباب تمسكي به انه امانة معي "
قال آمراً:
" ارني إياه أولا وبعدها نتحدث"
قلت:
" ستعيده لي كما اخذته وسأثق بك كما انت ستثق بي"
سأل متعجباً:
" لم سأثق بك؟"
اجبته ببرود:
" يكفيك أني جئتك بنفسي وكان يمكنني إخفاء عنك كل هذا."
رمقني بنظرة مريحة مع بسمة مُطَمْئِنة ...ارتحت له فسلمته إياه.....فتحه...تمعن بالصور وقال:
" من هؤلاء؟"
قلت:
" واحدة فقط تهمني ولا اكترث للباقي!"
" من؟"
اجبت مشيراً بسبابتي:
" هذه الصغيرة."
نظر بفضول وسأل:
" ما علاقتك بها وماذا تعني لك؟"
وددتُ ان أقول ...حبيبتي العدوّة او عدوتي الحبيبة او المغرورة ...بل ابنة قاتل ابي ...لكني قلت بإيجاز جريء:
" حبيبتي..!!"
شهقة أخرى من حنجرة الواقف على يميني .....اما الاخر استقام بوقفته ثم سار باتجاه كرسيه يقف خلفها واضعا يديه على راسها هامساً ببرود :
" يا لوقاحتك وجرأتك !!...ممنوع ثالث ترتكبه في يومك الأول وتعترف به!!...وما خفي ربما اعظم "
قلت بثقة:
" هل الحبُ وقاحة يجب ان نخجل منه ونخفيه اما الكره والحقد أدب لا مانع بالجهر به ؟؟...وهل يستأذنك قلبك عندما يحب ؟؟....أتستطيع أن تختار من ومتى تشاء ليسكن فؤادك ؟؟"
صمتّ قليلا ثم اردفت محدّقا بعينيه بتحدّي :
" لا تستطيع ان تسمّي كل ذلك أخطاء لأنني انا اتيت اليك فور معرفتي بالتعليمات ..اما الحب موجود قبل ان التحق بمعسكركم."
قال بقسوة آمراً:
" ستقطع علاقتك بها على الفور هذه الفتاة "
املت زاوية فمي ببسمة جانبية هامساً:
" لا تخف ..هي صغيرة وفي الجانب الاخر من العالم ولا يربطنا الا هذه الأمانة"
ناولني العقد قائلا:
" أرجعته لك بسبب شجاعتك وصدقك ...لكن المرة المقبلة ان شاء الله.. لا تجلبه معك.. والان لا تخرجه من الحقيبة بتاتا والّا يتغير كلامي.."
عدنا انا وزميلي(اياد) الى الغرفة بعد ان شكرته ممتنا له لثقته بي ...استلقيت على سريري اتوسد ذراعي فاقترب مني هامساً:
" ما هذا يا رجل؟ من اين لك الشجاعة للتحدث هكذا مع السيد ماهر؟..كاد يغمى عليّ وانت تكلمه "
حركت راسي باتجاهه مجيبا بهدوء:
" عندما تكون على حق وغير مخطئ لا تخشَ أي انسان كان من يكون....كذلك الصدق هو دوما النجاة مهما كانت صعوبته...سيمدك الله بالقوة دون أن تشعر ما دامك تسير على طريق صحيح...فقط توكل عليه واحسن الظن به.."
اجابني بضعف ضاحكا على نفسه :
" نعم المولى ونعم النصير ...لكنني لو كنت على حق، انا مستعد ان اعترف بأشياء لم افعلها خوفا منهم "
شعرت بقلة حيلته وضعفه فجلست مقابلا له وسألت بفضول:
"اذاً ماذا تفعل بالمعسكر وهو يحتاج للشجاعة والإرادة ونصرة الحق؟؟"
اخفض رأسه بخجل مجيباً:
" لهذا انا وظيفتي مسؤول عن الغرفة واحتياجاتكم ولأتواجد مستقبلا ان شاء الله في ساحات المعارك لخدمة الثوار ليس اكثر.."
وقفت ودنوت منه اربت على كتفه محفزاً له :
" انت تستطيع فعل الكثير وستصبح بطلا بلا شك ...لا تحصر نفسك في هذه الدائرة فقط.....ثق بي....فكل منا بطلٌ بطريقته وبالهدف الذي يسمو اليه ويحققه بإذن الله "
استأذنته وعدت الى سريري لأنام لأنني مرهق من هذا اليوم الطويل...
×
×
×
تمرُّ علينا ساعات طويلة شاقة جداً اثناء التدريبات...نبدأها من بعد صلاة الفجر بكأس ماء وحبة تمر ...نستريح دقائق قليلة للصلوات وتناول وجبات خفيفة ...كنتُ مثلما قال ( اياد) , اجاهد لانتظار صلاة العشاء من شدة التعب!!
كانت التمارين مختلفة توزع على مدار الأسبوع ومن ثم نعود لتطبيقها باقي الأسابيع خلال شهر مكوثنا , فمثلا في اليوم الأول يكون التركيز على عضلات الارجل , الذراعين والصدر وفي اليوم التالي نذهب لساحة تتوسطها بركة مائية ..ليست كبرك المنتجعات!! بل ارضها وحوافها طينية ...ماؤها ممزوج بالتراب واوراق الشجر !! الهدف منها الثبات تحت مائها لمدة معينة وحتى يجعلوا التمرن من غير ملل , حولوه لمنافسة بيننا من يستطيع الثبات اكثر ...هذا جعل بها شيئاً من المتعة !!.....كانت تدريباتنا تشق لها الأنفس من صعوبتها او حتى ما يثير الاشمئزاز من قباحتها ولكننا كنا مجبرين على تحمل كل هذا للانتقال الى مراحل أخرى أكبر وأخطر فداءً للوطن...
انتهى الشهر بالسلامة على امل العودة في السنه القادمة لمدة أطول وتدريبات أقسى وأصعب....كذلك اجبرونا على الالتحاق بنوادي اللياقة البدنية خلال السنة لبناء جسد صحي وقوي ....تعرفت على أصدقاء جدد في معسكري وأهم ما جمعنا معاً هو حب الأرض ونصرة الحق.....
تركتُ (هادي) على الحدود في المعسكر لأستمر بالتمثيلية لأجلٍ غير مسمّى بِاسم
( يامن)...
عدتُ الى بيتي ولم يتبقَ الا أسبوعٌ لتفتح الجامعات أبوابها لاستقبال السنة الدراسية الجديدة ..!!
رحّب بي ابي (إبراهيم) بمشاعر صادقة و نابعة من قلبه كنا كمن أكملنا بعضنا البعض , نحاول سد احتياجه لابنه بي واحتياجي لأبي به....همس لي بحنوٍ:
" كان القصر من دونك كئيباً وبعودتك لنا سالماً عادت له الحياة...حمدا لله على سلامتك "
عانقته بقوة وهمست له :
" وانا اشتقت لك واشتقت لأهلي كثيراً....اريد الذهاب لزيارتهم"
ربّت على ظهري مبتسما وقال:
" بالطبع كما تريد....اذهب متى شئت ......هيا استحم وانزل لتناول العشاء , لا بد انك جائع ومشتاق لطعام البيت.."
رسمت ابتسامه خفيفة وقلت بوهن :
" اعذرني ابي ..اريد ان اصلي وأنام ..لا رغبة لي بتناول أي شيء... "
اومأ برأسه برضا وهمس :
" حسنا بني....تصبح على خير "
صعدتُ الى غرفتي .... استحممت , صليت المغرب والعشاء ثم حملتُ حقيبتي أفرغها لأعيد الأغراض الى مكانها وقلبي يهفو مشتاقاً للسماء التي حُرمتُ من اللجوء فيها شهراً كاملاً لأول مرة منذ ثلاثة أعوام...!!
~~~~~~~~~~~~~~~
تقف من خلف النافذة الكبيرة...تكتّف ذراعيها على صدرها...تشرد بمنظر اندماج زرقة السماء مع زرقة المياه , التي ينتج منها لوحة فنية من ابداع الخالق لا يضاهيها الّا سحر عينيها ليقطع متعة شرودها هذا طرقات خفيفة على باب شقتها في البناية الشاهقة المطلة على البحر من مدينة تورونتو الكندية.....دلف الى الداخل بعد ان فتحت له الباب الخادمة الأجنبية.....استدارت نحوه تسأله بضيق واستعلاء:
" لمَ تأخرت ؟! وأين صديقك المسمّى كرم ؟"
غمزها قائلا :
" لا تنسي انه اخوك.."
مع أنه يعلم رفضها ونكرانها لهذا الا انه أراد اغاظتها لأنه يحب رؤية تلألؤ بريق الغضب في عينيها لتزدادا سحراً....
توجهت الى الاريكة تضع ساقها تحتها ...تحتضن المخدة الصغيرة وهي تتأفف هامسة بحنق:
" لو كان أخي لأهتم في شؤوني...لكنه لا يأتي لزيارتي الا اذا انت اجبرته .."
ألقت المخدة الى جانبها ..عدلت جلستها ثم تابعت تحرّك سبابتها بتهديد منفعلة :
" لو كنت اريد لأخبرت أبي ليعيده الى هناك لكني ما زلت أشفق عليه....أخبره بذلك فأنت صديقه المقرّب"
اقترب منها مبتسماً ...جلس بجانبها وقال:
" لا تهتمي له...ألا أكفيك أنا ؟!....طعامي أتناوله معك , حتى واجباتي المدرسية أقوم بحلها هنا ولا نفترق الا للنوم.."
ردت عليه عابسة بدلع :
" لأنك مجبر بوصايا والدَيك وأبي...فأنت لا تحبني كالبقية!"
" هيا يا ألمى اتركي الدلال ..أنت تعلمين مكانتك عندي ولا احد يجبرني على شيء لا اريده..."
صمت قليلاً ثم تابع بتردد:
" لدي خبر جيد وآخر سيء ...بأيهما أبدأ؟؟"
اجابت بهمس خافت وهي تنظر للأرض:
" السيء انهم رفضوا ذهابنا لزيارة البلاد...لقد اخبرتني خالتي "
قال :
" لا تحزني ...الم تخبرك انهم سيزوروننا خلال السنة مرتين او اكثر ؟؟"
لم ترد عليه وهي شاردة بوجوم ...وضع يده على كتفها يهزها وهمس :
" هيه ألمى ...هل سمعتِ ما قلت؟"
غزت نبرة صوتها نغمة حزينة :
" سمعت!!..انا الخاسرة الوحيدة"
نظر لها بتيه سائلا:
" لم تقولي هكذا؟؟...يجب ان تفرحي ..سنراهم اكثر من السابق"
اجابت بتذمر :
" لأنني لن اذهب الى المخيم ..."
اخفضت صوتها واردفت:
" ولن أرى هادي لاعتذر منه .."
استشاط غضباً في داخله ...اكثر ما يكره هو ذكرها لهذا الاسم ...حاول تمالك اعصابه ..لا يريد ان يصل معها لنتائج وخيمة....لكنها لا تنفك عن ذكر هذا حتى أصدعت رأسه ...قال بصوت جاف :
" ألمى ...أنا لا أفهم الى متى ستشغلين بالك بذاك المتشرد ؟؟!!"
ترقرقت الدموع في عينيها ...لا ذنب لها ...لا تعلم لمَ مشاعرها تنجرف الى تلك البقعة...كأن قوة الجاذبية التي تمتلكها الأرض , تجمعت في ذاك الحضن الدافئ.....وبنطقه كلمة متشرد , أثار حفيظتها فقالت حانقة:
" صلاااح لا اسمح لك ....لا تنعته بالمتشرد !! "
استقام واقفاً كأن تياراً صعقه....لقد بلغ السيل الزبى من تحمله...هتف بحنق :
" اذاً فلتشبعي به....سلام"
ولّاها ظهره عازماً على الخروج عاصفاً بمشيته....فزّت من مكانها تلحقه ...ملامحها منهزمة...تشعر انها ستفقد صديقها الوحيد...وصلته قبل ان يفتح الباب , تمسك يده ...تسمّر مكانه ناظراً ليديهما ...فهمست بدلال ونبرة رقيقة ,متوسلة:
" صلاح ارجوك لا تذهب ..."
رق قلبه لها ...لا يقاوم توسلاتها ...تنحنح وقال :
" إذاً عديني انك لن تذكري اسمه امامي ... "
أسبلت اهدابها هروباً من عينيه...ابتلعت غصة في حلقها وهمست مجبرة:
" حسنا...لن اذكر اسمه امامك.."
استجمعت قواها...رفعت رأسها تنظر اليه قائلة:
" ساعدني على نسيانه ..."
استدار مقابلاً لها ..انحنى قليلا بظهره..قبض جانبيّ كتفيها وقال مثبتاً عينيه بعينيها :
" ألمى ....صدقيني , مثل هؤلاء لا يستحقون اهتمامنا ...نواياهم خبيثة بالتقرب لنا ....يغارون منا لأننا افضل منهم ....اساسا انا متأكد انه لا يذكرك ولا تأتي في باله اطلاقاً.....لذا عليك الخروج من اوهامك والالتفات لدروسك فقط , انت ما زلت صغيرة وترهقين عقلك بأمور اكبر منكِ..."
اومأت برأسها موافقه , ترمش بعينيها ....استعاد هو رباطة جأشه ...رسم ابتسامة على وجهه ...قرر ان يبدد فكرها ويحوله الى اكثر شيء يتفقان على حبه هما الاثنين ...فهمس بمرح بعد ان انتصب بوقفته :
" خمّني ماذا يوجد الليلة ؟!!"
حدّجته بفضول تحاول اختراق دماغه ...
تبسّم وقال:
" شيئاً نحبه كلانا.."
توسعت عيناها ...تهللت أساريرها ...نصبت ظهرها باستعداد وهتفت :
" عرض لسباق السيارات !!"
رفع كفه لتضرب كفها به بعد أن اصابت بتوقعها . هامساً بحماس:
" صح....في السابعة مساءً"
" هل سيشارك بطلنا آيدين فيه ؟؟"
رد بنفس الحماس غامزاً:
" ليس هذا فقط...انما سيكون ندّاً له جاكسون "
قفزت تصفق كفيّها ببعضهما هاتفة:
" يا للروعة....سيكون تحدّياً كله إثارة"
ضحك وقال:
" اذاً انتظريني لنشاهده معاً...سأجلب معي المسلّيات..."
تنهدت بارتياح وهتفت:
" من حُسنِ حظنا ان غداً إجازة لكي نستمتع دون التفكير بالمدرسة..."
مدت يدها تمسك ذراعه وهمست بنعومة:
" سأنتظرك ...لا تتأخر"
كان أكبر امنيات (صلاح) امتلاك سيارة رياضية عندما يكبر وان يشارك بهذه النوعية من التحدّيات والعروض...وبسبب مكوثهما معاً يبدو ان الشغف بهذا انتقل لها وأصبحت افضل هواياتها ومتعتها هي مشاهدة عرض سباق السيارات..!!
~~~~~~~~~~~
تنتظره مهمة صعبة!!....عقله مشوش ..يفكر في نفسه , يقول.."لقد وضعني اخي سليم تحت الأمر الواقع....كيف يوكّلني لهكذا أمر؟!....ألم نتفق الّا ندخل النساء من جانبهم بتلك الخطة؟....ما الذي تغيّر الان؟؟ ...لا بل والمصيبة انه أدخل السيدة (فاتن) بالموضوع لمساعدتي!!....هل ستتقبلان هذا , خاصة عند معرفتهما بعلاقة عاصي بمقتل محيي الدين؟!...حسناً هو أكّد لي انها ستوافق من أجل هادي ....لكن الى ايّ مدى هو واثق من ذلك ؟!...ماذا اذا أتى هذا القرار بنتائج عكسية؟!...انا اعلم كما هو يعلم ان الشقيقتين مستحيل ان ترتبطا بزواج آخر من بعد زوجيهما!!....كيف سأفتح هذا الموضوع معهما ؟؟!!"
تلك التخوّفات اجتاحت عقل السيد (ماجد) وهو متوّجه الى المخيم بمركبته الخاصة مع لحاق السيدة (فاتن) له بسيارة اجرة بعد ان اخبرها الموضوع!!....استقبلتاهما بتشكك ونظرات غريبة لرؤيتهما معاً....قطع هذه النظرات السيد (ماجد) طالباً برقيّ:
" من فضلكما , نريد التحدث بأمر هام!!...لذلك علينا الابتعاد عن ازدحام المخيم.....ممم....مثلا لنذهب الى الوادي القريب!!"
وضعت امي يدها على صدرها شاهقة بذعر:
" هل حصل شيءٌ لهادي؟"
تبسم مجيباً بهدوء :
" اطمئني سيدة عائشة , هو بخير وسيزورك غداً او بعد غد"
تنهدت قائلة:
" آه الحمد لله , خشيت ان مكروهاً قد أصابه لا قدّر الله "
تابعت بكلامها:
" ما هو الأمر الهام من بعد هادي؟"
اجابت السيدة(فاتن) بابتسامة لطيفة هادئة , تعاكس ما يدور بداخلها من ارتباك استعداداً لردود الفعل:
" لنذهب الى الوادي ونتحدث هناك.....ان شاء الله كل خير اطمئنا "
وصّت امي شقيقتي(دنيا) للاعتناء بـ (شادي) ريثما تعود ثم رافقت هي وخالتي من أتيا لزيارتهما...
كانت تتسارع دقات قلبيهما وهما بانتظار القاء السيد (ماجد) لقنبلته الموقوتة....
رفع قبضته أمام فمه....يسعل ليعيد صوته بثبات....وقال موجهّاً كلامه لخالتي بنبرة آمرة وهو يتحاشى النظر لها:
" سيدة مريم....عليكِ الزواج من احدهم .."
رمقتاهُ بنظرات مبهمة...لم تستوعبا ماذا نطق للتو!!....بعد ان وصل عقليهما كلامه , ردت خالتي بجدية ونفور:
" ما هذا الهراء سيد ماجد؟!....الم تلاحظ أنك تأمر أمراً ولا تطلب بلباقة واحترام!!"
أكملت امي بحزم:
" لم أتوقع هذا الأسلوب منك سيد ماجد"
ثم التفتت بحدقتيها الى السيدة (فاتن) متسائلة :
" ولا نعلم بعد ما علاقتكما ببعض!!....هل تريدان اخبارنا ام تتركاننا نصارع دماغنا ؟!"
أجابت السيدة (فاتن) بلطف :
" اهدئي يا عائشة....سنخبركما بكل شيء....لكن على مريم الموافقة على الزواج"
ردت خالتي (مريم) بغضب:
" لا اريد معرفة علاقتكما...لا اهتم...ومن فضلكما اقفلا هذا الموضوع"
" ولا حتى من أجل هادي؟؟!!"
ألقاها السيد (ماجد) ليسمع بعدها كلمات صاروخية من أمي المنفعلة :
" ما علاقة هادي؟...ماذا جرى له ؟؟...هل هو في خطر ؟؟ اخبرنا الحقيقة!!"
اقتربت منها السيدة(فاتن) ..تضع يدها على كتفها وهمست :
" لا تخافي هو ليس بخطر!!...لكن تنتظره مهمة عظيمة ستفتخرين بها ان شاء الله "
سألت خالتي بتعجب:
" مهمه؟!..ما هذه المهمة؟...وما شأني بها ؟!"
رد السيد (ماجد):
" الا تريدان الانتقام من قاتل القائد محيي الدين !؟"
صرخت امي :
"ماذااا؟؟"
ابتلعت ريقها واردفت :
" هو استشهد بالحرب...هل سننتقم من جميع مَن كان هناك ؟!"
" لا....هو اغتيل غدراً من غير عراك على يد خائن , خسيس..بائع للوطن"
قالها ببرود لتنهار على ركبتيها , مشتتة, ضائعة ...تضع يدها على صدرها تحاول السيطرة على خفقان قلبها الذي ينبض بعنف...دون تصديق!!...ثم همست بأنفاس لاهثة وكأنها خارجة من سباق للجري:
" غـ..غـ...غدر !! ..قتل غدر؟!...من هذا النذل , اللعين , الذي فعلها ؟!"
↚
كانت خالتي تقف مصدومة..تنظر لأمي ....بعدها حرّكت رأسها باتجاههما سائلة بفضول:
" أي نذل فعلها ؟؟...وماذا يخدم زواجي بالانتقام !! ..ومن يكون هذا الرجل الذي تتوهمون بزواجي منه؟!"
قاطعتها أمي منتفضة من مكانها صارخة :
" أخبرنا من هذا الوغد.!!"
دنت منها السيدة(فاتن) من الخلف بحذر..رفعت يدها تمسّد على رأسها من فوق الحجاب , تحاول تهدئتها!!....نظر السيد ( ماجد) لها ...رمشت بعينيها مع ايماءة خفيفة برأسها , تخبره باستعدادها لذلك...أعاد نظره لأمي وقال :
" الوزير السابق عاصي رضا"
خرج صوت واحد من كليهما بصدمة ...بعد ان تلقتا هذه الطعنة :
" مـــــن؟؟!!"
فقدت أمي السيطرة على أعصابها...قطبت حاجبيها...زفرت أنفاسها المشتعلة....استدارت بجسدها لتقابل التي كانت خلفها ...رمتها بنظرة حارقة وهتفت بنبرة جارحة :
" وهل جئتِ انت لتكملي على بقية عائلتي ؟!"
صوبت نظرها للسيد (ماجد) وتابعت بنفس النبرة:
" ما علاقتك بها ؟؟ وكيف تتكلم عن مهمة تخص ابني امام احدى افراد عائلة اللعين ؟؟...هل انت معنا ام علينا ؟!"
ازدردت ريقها وأضافت آمرة:
" أين ابني؟...لا اريد الانتقام من احد وأعيدوه لي فوراً "
اقتربت منها هذه المرة خالتي هامسة بقوة:
" انتظري اختاه...سنصغي لهما للنهاية وسنقرر سويّا انا وانت فقط , ماذا نريد رغما عن الجميع "
تبسّم السيد (ماجد) بأمل...على الأقل ستستمعان له ولم تطردانهما ...نظر للواقفة بوجهٍ محمرّ , تشعر بالإحراج من موقفها وصلتها القبيحة بـ ( عاصي رضا)....بدأ يسرد عليهما الحكاية من البداية....ساعدته السيدة( فاتن) بالقسم الخاص بمقتل والدها حتى اتصال السيد سليم الأخير وتوكيلهما بالمهمة...
تعاطفتا معها من هول ما سمعتا .....اعتذرتا منها على تسرعهما وفظاظتهما....تابع السيد ( ماجد):
" وللانتقام منه يجب ان يتزوج هادي من ابنته لدخول بيتهم براحة للبحث عن الأدلة وإتمام المهمة!!"
قاطعته امي بغيظ مشمئزة :
" مستحيــل أن اقبل بزواج ابني من ابنة النجس !!"
نزلت دمعة قهر وهوان من السيدة (فاتن) على صغيرتها التي تأخذ ذنب والدها....رأتها فهمست بهدوء :
" لا تؤاخذيني فاتن ..انا أعلم مكانتها عندك!!....صحيح لا ذنب لها ...لكن في النهاية تحمل اسم قاتل والده.."
تدخّلت خالتي سائلة باستغراب:
" فاتن كيف تجازفين بابنة اختك بهذه المهمة وهي أغلى ما لديك !! ألا تخافين عليها ؟"
جاهدت لرسم ابتسامة يتيمة, متألمة وأجابت :
" لا أخاف عليها ما دام ستكون زوجة إذا أذن الله بذلك , للشهم ابن الشهم ..أنا متأكدة أنه لن يقسَ عليها ولن يشركها بانتقامه.....وافقت لتكون تذكرة عبور للوصول للحقير دون ان تتأذى بعد ان اخذت كلمة وعد من السيد سليم والسيد ماجد والّا على جثتي لن اسمح بلمس شعرة منها ...وأعلم انكم ستحافظون عليها كابنتكم!.......على كل حال الحديث سابق لأوانه فهما ما زالا صغيرين ولا نعلم ماذا يخبئ لنا المستقبل!!"
كررت خالتي سؤالها بفضول :
" ماذا يخدم زواجي بالانتقام وما علاقة هادي ومن هذا الرجل اصلاً؟"
أجاب السيد(ماجد) على الفور :
" عاصي رضا شخص ماكر وذكي....نريد رسم لوحة عائلية سعيدة للسيد إبراهيم وابنه يامن ..أي هادي , لنصوّر له انهم يعيشون حياة عائلية مستقرّة , فعدم زواج السيد إبراهيم وهو بمكانته هذه , سيثير الشبهات حوله ولن يصدق أحد انه وفاءً لزوجته , وأنسب شخص يشاركه حياته هي أنت سيدة مريم لرابطك العائلي بهادي...فلا يكون قيود وانتم معاً....ستكونين زوجة الاب الحنونة التي لم ترزق بولد ومن ربت ابنه يامن بمشاعر صادقة.....وبهذا تحمين هادي من أي زلة من الممكن ان تودي بحياته "
أنهى كلامه وأمعن النظر والسمع , ينتظر اجابتها بفارغ الصبر....فقالت بصوت منخفض مستسلمة :
" مـ... موافقة "
تنهد بعد جهدٍ بارتياح ناظرا للسيدة (فاتن) مبتسما بعد إتمام مهمتهما بسلام من غير ضحايا.....
~~~~~~~~~~~~~~~
مضت فصولنا الأربعة وتبعتها بأربعة أخرى لأصبح في العشرين من عمري .....سنتان كاملتان حملتا بين طيّات ايامهما الكثير من الأحداث !!...لقد تم خلالهما زواج خالتي بالسيد (إبراهيم)....نقلنا عائلتي الى شقة كبيرة , قريبة من حيّنا !!...كم تمنيتُ المكوث معهم , لكن ظروفنا تتطلب غير ذلك!....لا أنسَ خالتي (أم سلمى) الأم ألثانية لشقيقي , عند استلامنا املاكنا بشكل رسمي, قمنا بشراء بيت صغير لها ولابنتيها بعد اصرارنا عليها ففي البداية رفضت بقوة...انها امرأة عزيزة النفس ! ... كنتُ انا ووالدتي أكثر عناداً منها ولم نستسلم لتعنتها.... يبعد بيتها عن شقة أهلي مسافة خمسة عشر دقيقة .....لهذه العائلة مكانة مميزة في قلبي ...أشعر أنني مسؤول عنهن وواجبي حمايتهن...هي رحمة بعثها الله اللطيف بعباده في طريقنا لتكون المنجية لشقيقي وأتمنى أن أكون انا سنداً وابناً لها على أرض الشتات.....كما لم تبرح من ذاكرتي صورة أهل المخيم وهم يرقصون ويهتفون ويسجدون الشكر لله عندما قررنا انشاء غرف اسمنتية لهم تحميهم من برد الشتاء وحر الصيف !!...لقد وُفقنا في مشروعنا هذا بمشيئة الوهّاب الرزاق, حتى اننا امددناهم بالكهرباء وتشاركنا بدفع فواتيرها للنساء الارامل اللواتي لا سند لهن... أحطنا المخيم بجدار للحفاظ عليه في بقعة مرتبة آمنة تحتوي على ما يقارب التسعين بيت لأرواح تهجّرت من ضمائر تحجّرت!!.... كان جميعه بدعم أهل النخوة والخير من أصدقاء ابي من رجال الأعمال في الوطن وخارجه...بدأنا بإنشاء مدرسة صغيرة داخله... وعلى مدخله بوابة تزيّنها صورة لوجهٍ يشع بالنور , خُطّ تحته (مخيم الشهيد القائد محيي الدين الشامي )..... كل شيء تغير فيه الّا تلك الخيمة التي تحمل رقم 86 !!...ظلّت صامدة مكانها ...أنا من أبقيتها على حالها ....نعم لن أتخلى عنها وهي من آوتني في أصعب وأحلك أيامي...هل سأنكر فضلها عليّ بعد أن لامستُ النجوم؟!...كلا...ستبقى شامخة لتُذَكرني أن لا شيء يبقى كما هو إلا هو ....لا الغني يبقى على حاله ولا الفقير !!....أبقيتها كي أصفع نفسي بها اذا حاولت التكبر والغرور ....أبقيتها لأحافظ على نار الانتقام داخلي ممن كان السبب في تشردنا !!...سأزورها لتكون ملاذي من قهر الأيام والعبء الذي وضعوه على كاهلي ....يكفيني ما تذوقت من الغربة ....تغربت من بلادي ثم غربوني من اسمي ....لتكون هي العنوان الذي أجد فيه نفسي بعيداً عن المسرحية الحمقاء!!....لأكون فقط فيها, أنا هادي....
×
×
×
بعد انقضاء معسكري الثالث في شهر آب وعند عودتي الى قصري , زال كل تعب الطريق لرؤيتي من كانوا في استقبالي لتناول وجبة العشاء معنا !!....القيتُ حقيبتي وفتحت ذراعيّ ليقفز في حضني شقيقي المشاكس الذي اصبح في عامه الخامس...قبّلته وهمست له وانا استنشق رائحته :
" كم اشتاق لك أيها الرجل الصغير!!"
أخرج لسانه ليغيظ (دنيا) وقال لي:
" دنيا تقول انك تسخر مني بقولك عني رجل وتقول انني ما زلت صغيراً لا أفقه شيئاً"
مسدت على شعره وحككت انفي بأنفه مداعباً له ...وهمست قرب اذنه :
" لا تهتم لها...هي تغار منك فقط "
" هيا انزل يا صغير ...الآن دوري لأعانق شقيقي ..هو ليس لك وحدك "
قالتها التي اقتربت مني ترتدي حجاباً أضاء وجهها الجميل...فتحتُ لها ذراعي الأيمن وعصرتها به اقبّل جبينها و(شادي) متشبثاً بي رافضا النزول...
" ما هذه المفاجأة يا دنيا؟! متى تحجبتِ؟!..."
أجابت بخجل وهي تحت ذراعي وتحاوط بيدها خصري:
" وعدت والدتي بارتداء الحجاب عند بلوغي الثالثة عشر وانتظرت الى حين عودتك لأفاجئك....أي هذا اول يوم لي "
شددت اكثر بعناقها بحب واعتزاز هامساً بحنان :
"مبارك لك عزيزتي ...لا تتصوري فرحتي برؤيتي لك هكذا...انا فخور بكِ....جعلك الله من الصالحات !!"
حررتها من ذراعي وأنزلت (شادي) على الأرض ....توجهت لنبض الحياة , أمي ...جثوتُ أمامها حيث كانت تجلس على الأريكة...ضممت كفيْها بقبضتيّ أقبلهما.....حرَرتهما مني ومدت احداهما تمسّد على شعري....عيناها محتقنة بالدموع هامسة بحنوٍ:
" رضي الله عنك يا ولدي ...مرّت الأيام بسرعة وأصبحت رجلاً حقيقياً يُشدّ بك الظهر....حماك الله "
كانت عيناي تلمع وانا ما زلت جاثياً امامها اتكئ بيدي على ساقيها وهي تحاوط وجهي بيديها ...ثبتُّ حدقتيّ أتأملها لأبلّ شوقي منها ..
" من بعد فضل الله هو بفضل دعائك أماه...أطال الله بعمرك وأراح قلبك "
مسحت دمعة نزلت من عينها وقالت بصوت متحشرج:
" متى ستعود لنا؟؟...نشتاق لك دائما يا ولدي!"
" ارجوك تحمّلي ...ما زال مشواري طويل ...انا اشتاق لكم اكثر...صبرٌ جميل والله المستعان"
" صبرتُ كثيراً ...لا اريد الحصول على شيء غيرك "
سمعتها خالتي وقالت بحزم :
" لا تثبّطي من عزيمته يا اختي....لا تجعلي مشاعرك تتغلب عليكِ...يجب ان نعود للوطن ونعيش بسلام ,فقط ادعميه بدعائك ...ثم ها هو هادي امامك ومتى تطلبينه يكون عندك"
رفعت امي نبرة صوتها هاتفة:
" لم أعد اتحمل وحدي , شقيقته في سن حسّاس وتحتاج لرجل لحمايتها وشادي يتعبني بدلاله"
قلت وأنا أعلم ما تمرّ به من حِمل واحتياج :
" امي دعي أمر شادي لي أما دنيا فهي كبيرة وخلوقة لم تحيد لحظة عن كلمتنا وكذلك انا لم أغفل عنها يوماً...لمَ تصعبين الأمر عليّ؟!"
صمتّ برهةً وأضفت:
" أعدك انني في نهاية كل أسبوع سأتواجد معكم في بيتنا...هل هذا يرضيك؟"
انفرجت تقاسيم وجهها ...وضعت يدها على كتفي وقالت برضا:
" حلٌ مناسب وجميل...يرضيني بالطبع "
~~~~~~~~~~~~~
" ادخلي صغيرتي .."
دخلت مندفعة تزمّ شفتيها عابسة بتصنع قائلة :
" خالتي ...لم ما زلتِ تقولين عني صغيرة !؟"
دارت حول نفسها بحركة سريعة تشير لجسدها هاتفة بافتخار :
" انظري جيداً كيف أصبحتُ كبيرة...حتى أنني قاربت لطولك "
ضحكت التي كانت تجلس على سريرها ...ربتت بيدها على السرير هامسة:
" تعالي اجلسي جانبي...أشتاق لرائحة شعرك الجميل "
قفزت بخفة لجانبها تعانق خصرها بذراعيها الصغيرين وسألت بملامة ونبرة خافتة:
" لمَ لم تأتي خالتي في العامين السابقين ؟"
أجابت برقة وهي تداعب شعرها :
" اعذريني صغيرتي....انشغلت مع خالتك ايمان وشؤون اللاجئين ..لم اجد وقتاً للسفر .....لا تتذمري ولا تكوني طماعة , كنا نتحدث يومياً"
رفعت رأسها تنظر لها ...تتكئ بذقنها الصغير على صدر خالتها هامسة وهي ما زالت تحاصر خصرها :
" الهاتف ليس كاللقاء ....الآن أستطيع ان أنام في حضنك وأنت تلعبين في شعري "
قبّلت لها أنفها وقالت :
" بقي القليل حبيبتي وستعودين الى البلاد ولن نفترق إذا شاء الله "
حررت ذراعيها عنها , تجلس بتأهّب ..تنظر لها في حيرة مما سمعت .....فهمتْ الاخرى من نظراتها المبهمة فتابعت مبتسمة لتريح بالها :
" سيعيدك والدك بعد انهاء الثانوية أي بعد أربع سنوات ان شاء الله...."
جحظت عيناها وقالت بتشكك:
" كيف؟..والجامعة؟"
تبسّمت وأجابت :
" ستفتح الجامعة فرعاً ضخماً لها قريباً في بلدنا تلك وسيلحقك والدك بها ان شاء الله ..."
لم تتمالك نفسها من فرحتها بهذا الخبر ...لا تسعها الدنيا... وقفت على السرير تقفز وشلالها الأسود يتناثر حولها وخالتها تتأملها بصدرٍ منشرح بعد أن كان هذا الخبر بلسماً على فؤاد صغيرتها....
بعد مهرجان الاحتفالات الذي أقامته ...جلست تلقط أنفاسها بجانب خالتها والابتسامة لا تفارق محيّاها ...قالت لاهثة :
" هذا أجمل خبر سمعته في كندا .."
استلقت خالتها على السرير تاركة لها المجال لتستلقي بجانبها ...غدا هو يوم عطلتها ولا مانع بإخلال النظام هذه الليلة فخالتها لن تزورها كل يوم وستستغل دفء احضانها ...تبادلتا الثرثرة...دارت بين الشرق والغرب تستفسر عن كل ما خطر في بالها من أسئلة حتى وصلت للسؤال الأهم ....فهذه خالتها وليس (صلاح) الذي سيغضب منها ان تفوهّت به ...
" خالتي هل ما زلتِ تتواصلين مع أهل المخيم....و..هادي ؟"
لمعت عيناها بفائض من الحنية للتي لم تترك يوماً السؤال نفسه , فهي تفهمها جيداً , إذ ان ما يهمها من وراء السؤال هو فقط شخص واحد لا غير لكنها تحاول مداراة ذلك ببراءة ظناً انها لن تلحظ ...
أجابتها بهدوء :
" كنت اتواصل مع هادي بشأن الجمعية أما الآن هو مشغول في دراسته ونادراً ما نتحدث.."
مسّدت على وجنتها وأكملت هامسة :
" كفاكِ صغيرتي أوهام....اخرجيهم من دماغك ...كلٌّ ذهب في طريقه وعليك الاهتمام فقط بدراستك لتصبحي مهندسة كبيرة كما تحبين "
ابتلعت ريقها تسدل جفنيها باستسلام ,هاربة بنظراتها , فيبدو ان الجميع لا تروق له هذه العلاقة المستحيلة وبعيدة المنال ....شردت بعدها بالفراغ تفكر بمستقبلها حتى نامت ...
~~~~~~~~~~~~
في بلادنا الأم ..بدأ الشعب يثور ضد حكومته التي تشكّلت منذ حوالي الأربعة أعوام بشكل مستعجل وكانت أسوأ من ما قبلها ,أي بعد سنة من هجرتنا!!....أثيرت ضجة بين المؤيد والمعارض والمحايد....كثّف السيد ( سليم الأسمر) جهوده لثبات الثوّار لأنها كانت نقطة انتقالية, فخشي الفتنة لاعتماد داعمي هذه الحكومة على شراء ضمائر الناس واغراء الشباب بمبالغ كبيرة للانضمام لحزبهم ....عادت تشتعل الحرب فاضطر القادة من جانبنا في هذه البلاد لبعث نخبة من الثوّار المتخرجين لمساندة البقية في الوطن...أما (عاصي رضا) طعنته هذه الحكومة بعد ان انفق الكثير من الأموال عليها ليحقق ما يسمو اليه وهو منصب رئيس الوزراء وربما أعلى من ذلك!!...فقرر انشاء حزب خاص به لمحاربتهم ونجح بسبب نفوذه المادي ومكانته الاجتماعية المزيّفة وداعميه من بلادنا في الداخل فغدا يمتلك حزباً ضخماً ينافس الحكومة الموجودة وعيّن مندوبِين عنه لترأس هذا الحزب حتى يأتي الوقت المناسب لعودته لهناك.....كذلك السيد (سليم) لم يجلس ساكناً , بل دأبَ لتشكيل حزباً كبيراً للثوار بجهودٍ جبّارة , تضم كباراً من رجال الأعمال الشرفاء , المخلصين للوطن .....أعلنت الهدنة بعد شهور قليلة بتدخل وسطاء أجانب الى حين الانتخابات القادمة في العام المقبل ليثبت كل حزب مكانته ومن أحق بكسبها....
~~~~~~~~~~~~~
تمرّ السنه كالشهر والشهر كالأسبوع ..هكذا هي الأيام تنقضي مسرعةً وما ان تضع كل شخص في مكانه إلا وتحمله على جناح سرعتها لتنقله الى مكانٍ آخر ....أشعر أني ما زلت بالأمس !! ...ولكن التاريخ يُقرُّ بيومٍ مختلف!!...نعم .. أنا الآن استعد لحفل تخرجي من السنة الرابعة لأستلم شهادة تفوقي في إدارة الأعمال من أكبر جامعات هذا التخصص.....مكتبي في شركة أبي (إبراهيم) ينتظرني لأخوض معركتي بين أكبر رجال الأعمال...لا استسلام !....فقط تحدي !!...صفقات وصفقات يجب كسبها ...إما أكون او لا أكون ....اكتساب المال هو شيء يريده الجميع ولكنه ما هو الّا وسيلة وليس غاية...يجب أن تكون أهدافنا أسمى من هذا ولا تقدّر بثمن !!.....كان أصدقائي وزملائي يمطروني بأهدافهم المستقبليّة في الصباح , ومع حلول المساء يتغير مسارهم إلى هدف آخر , التحقوا بهذه الجامعة وبدأوا بالبحث عن هدفهم ..إلّا أنا هدفي واحد ووحيد , هو من بحث عني ووضعني فيها!! ...يتربع في قرص الشمس ووسط القمر لأراه أمامي ليلاً ونهاراً ....هدف ترعرتُ عليه ..لا يغادر عقلي وينبض حقداً بين غُرف قلبي...هدف لا تراجع عنه , اسمه الانتقام من (عاصي رضا ومعاونيه) فداءً للوطن وأبي....
انتهت مراسم توزيع الشهادات الذي حضره ابي (إبراهيم) وخالتي (مريم) لنوثق لوحة عائلية مزيفة بمشاعر حقيقية بيننا ...لوحة حُرمت منها أمي الغالية ....لكن لا بأس يا ( ام هادي) ,هذه خاصة بـ (يامن) وبإذن الله سنوثق لاحقا واحدة أرقى وأصدق من هذه ...لوحة حقيقية قلباً وقالباً نلتقطها في حفل انتصارنا على الخونة وتخرجنا من جامعة اللجوء الى ارض الوطن , تكون في عُقر بيتنا الجبليّ ونحن نحمل صورة قائدنا الغالي رحمه الله...
نعم...أتممتُ اثنان وعشرون عاماً ممسكاً بيميني شهادة الجامعة وأخرى بيساري خاصة بالمعسكر بعد أربع سنوات علمتني الصمود , القوة , التحدي , الشجاعة , الأمانة , حب الوطن ومواجهة الموت من أجله....كنتُ أتميز دائما في تدريباتي وأسمع المديح من خلفي, ولا يطربني منه سوى ...
هكذا يكون (ابن محيي الدين ).....
↚
استيقظتُ في العاشرة صباحاً أتمطى....اللـــه على الاسترخاء!....من مدة طويلة لم افعلها وابقى لهذا الوقت بسبب دراستي وتدريباتي !! ...سأستغل هذا الأسبوع لأنام وأنام قبل البدء بالعمل في الشركة....كان هذا أول يوم لي بعد التخرج....مسكت هاتفي اتفقده ...وجدت عدة مكالمات فائتة ..تمتمت متسائلا بارتياب :
" أربعة عشر اتصال ؟!...يا رب استر ..ممن يا ترى !!"
دخلت اتفحصها ولما رأيت اسمه , القيت هاتفي على جانبي زافراً انفاسي بارتياح .....هكذا هو الغليظ يظن أن الجميع مثله مستيقظون في الثالثة فجراً وهو يلعب لعبة الحرب الالكترونية ....نهضت من فراشي الأرضي , رتبته وتوجهت الى الحمام لأغسل وجهي ...عدت مجدداً لهاتفي واتصلت به أجرب حظي فلا بد انه غارق في أحلامه ...
" غير معقول !!...تجيب على الهاتف في الحال وانا ظننتك في غيبوبة الآن "
نفث انفاس حانقة وهتف بتذمر :
" هل يتركون لأحد أن يهنأ بنومه في ذاك البيت ؟!....لقد طردتني أمي ...يوجد حملة تنظيفات لاستقبال أهل عريس شقيقتي ...الناس تخطب وأنا اتعذب "
ضحكت فغيّرَ نبرة صوته متفاخراً :
" أأستطيع الآن قول مبارك التخرج ؟"
اجبته بتهكم :
" بالتأكيد..ماذا ظننت؟!.....بفضل الله طبعا "
تابع مازحاً :
" اوه..أنا الآن اكلم رجل الأعمال الكبير السيد ها ..يامن ..يا حظي !!.....هل كنت غليظاً كعادتك بحفل مليء بالغزلان ؟! "
تأففت مجيباً :
" لم أرَ سوى قِرَدة فارّة من غابات استراليا !!...تمنيتُ لو كنت معي لتتشبث بك احداهن وتخلّصني منك "
رد شاهقاً بتصنع :
" وهل يهون عليك فراقي ؟!"
قلت بحزم :
" دعك من هذا سامي وأخبرني ماذا جرى معكم بشؤون شركة والدي ؟!"
رد بجدية:
" كما تعلم غيرنا اسمها , اعدنا فتحها وأنزلنا إعلانات لطلب موظفين بكافة المجالات...وها نحن ننتظر لقاء المتقدمين "
قلت ممتناً:
" جيد....أنا أثق بك وبأحمد.....وما بشأن زوج شقيقتك ؟"
قال:
" وافق مراد على استلام إدارة الشركة ....بل وضع تحديّا امامه لينهض بها بأقل من أربعة شهور ان شاء الله "
قلت مبتهجاً :
" أرجو ان يوفق بذلك ...لا أعلم كيف سأرد لكم كل هذا !! "
رد ساخراً:
" اطمئن !!...سأخرجه من عينيك , وهل تظن انني افعل هذا عن أرواح امواتي ؟!"
ضحكت ثم قلت بفضول :
" متى ستستلم مكانك في مركز الشرطة ؟! "
هتف بثقة يكسوها المرح:
" قريباً جداً ان شاء الله ...أنا متحمس متى سأبدأ بصفع المجرمين , اللهم زد وبارك "
" لم اقابل شخصاً يتمنى ازدياد المجرمين والجرائم...هل انت معتوه ؟! "
أجاب بحزن مصطنع :
" لا تترك لي مجالاً لأفرح !!....أرجوك عند عودتك للوطن , لا تجلب معك نكدك هذا وعقلك الصوّان!!"
رفع نبرة صوته بتحذير مسرحي وتابع :
" وإلّا سألقي لك تهمة لأزجك بالسجن وأتخلّص منك "
أفلت ضحكاته ينهي عرضه...تنحنح وسال بأدب :
" ماذا فعلت بموضوع عودة عائلتك الى الوطن؟!...هل جدّ شيءٌ ما ؟؟......أنت تعلم أنا جاهز لأي خدمة "
شردت قليلاً واجبت :
" بارك الله بك , لكن ما زال الوقت مبكراً...أريد ان تنهي شقيقتي الثانوية هنا لكي لا تختلف عليها الأجواء وسأحاول الحاقها بإحدى جامعات الوطن ..ثم انني سأرى أولا الى أين يمكنهم السيطرة على الحكومة المشتركة دون فتح باب المناوشات من جديد"
×
×
×
تعادل أكبر حزبين في الانتخابات الأخيرة من العام الماضي وهما لصاحبيهما السيد (سليم الأسمر) والمدعو ( عاصي رضا) بإشراف المندوبين عنه , فاضطروا لتشكيل حكومة مؤقتة , مشتركة , تضم أعضاء من الجهتين برعاية جهات أجنبية لإبقاء الوضع مستتباً حتى الانتخابات القادمة ...وأنا لا اريد المجازفة بعائلتي والقائهم الى مستقبل غامض , مجهول المعالم... لذا علينا التروّي , متابعة الأحداث والتفكير بحكمة لفرض قرارات صائبة وخصوصا أنني لا استطيع العودة للوطن في الوقت الحالي وبهذا لا يمكنني الاطمئنان عليهم متى شئت....
~~~~~~~~~~~~
أنهت شقيقتي (دنيا) وصديقتها (سلمى) الثانوية بنجاح...وعليهما التسجيل للجامعة خلال شهر من الآن ...كانتا قد اختارتا التخصص الذي تريدان معاً...ظننتُ انه بإمكاني اعادتهم للوطن لاستقرار الأوضاع نسبياً هناك لاتفاقهم على خوض انتخابات بنزاهة دون تلاعب بعد ثلاث سنوات تقريباً....يبدو أن التدخلات الأجنبية أثمرت هذه المرة أو أننا نحن هكذا ننتظر الغريب ليحكم بيننا ؟!!...لمست صدغيّ أضغط عليهما برؤوس أناملي , فهما يضغطان على عقلي ولم يجعلاني أن أُرجح كفتي بعد!!...أأُعيدهم أم ابقيهم هنا ؟!...إعادتهم هي استقرار لهم لكني لا يمكنني السفر بسهولة كلما رغبت لرؤيتهم , حفاظاً على مهمتي والدور الذي أقوم به ...وإبقاؤهم معي سيوترني خوفاً وقلقاً عليهم إذا كشفت لا قدّر الله مِن أن الحق بهم الأذى !!....أنا احترق بين نارين والاختيار صعب ....عليّ فعل ذلك قبل الشهر القادم....كنتُ جالساً في مكتبي بالشركة أخوض معركتي هذه وانتظر مكالمة من (سامي) ليُعْلمني بوضع شركة والدي في بلاد الأم....فهكذا منذ سنتين أي من يوم افتتاحها ونحن نتكلم بشكل اسبوعي إما هو وإما أحمد ليعطياني تقريرا عن الشركة ويشركانني بكافة التفاصيل التي تجري هناك...
" ها أبشر يا صديقي ....ما هي آخر التطورات ؟؟"
أجابني بثقة بعد انجازاتهم :
" الحمد لله...كل شيء على ما يرام....يكفي أن اسمها تلألأ في أرجاء الوطن وستخترق حدوده بعد فترة وجيزة بفضل الله ومن ثم جهود مراد زوج شقيقتي و أحمد بالإضافة للسيد سليم .....والمفاجأة ان فرع العاصمة سنقوم بتدشينه قريباً والتحضيرات له على قدمٍ وساق ان شاء الله "
سحبتُ أنفاسي وزفرتها براحة وقلت :
" الحمد والشكر لله ....مذهل يا صاحبي...وأنت أين وصلت الأمور معك بشأن وظيفتك الثابتة؟؟"
تابع بجدية:
" خلال أسبوع سأستلم منصبي كضابط شرطة في منطقة الجبل وبالذات في حي تل الصقور "
قلت متفاجئاً:
" ماذا؟..تل الصقور؟!...أي الحيّ خاصتنا ....كيف حصل هذا بسهولة وأنا الذي ظننت سيضعونك في آخر البلاد!!؟؟"
ضحك وقال :
" بفضل االله ومن ثم الحاحي على والدي لطلب مساعدة صديقه اللواء المتقاعد ( فتحي جلال) "
أضاف ساخراً باعتزاز:
" وبالطبع قدراتي واثباتي لذاتي في مكان عملي السابق"
قاطعته هاتفاً بسعادة:
"يا للروعة... مبارك لك ولنا صديقي "
ساد صمت لبرهة ثم هتف:
" الآن يمكنك ارسال عائلتك دون انتظار.."
قلت بتردد:
" لم أقرر بعد ...وعلى الاغلب أنني سألحق شقيقتي بالجامعة هنا ...فأنا حالياً لا أستطيع زيارتهم ولا يمكنني تركهم هناك لوحدهم والسيد (سليم) يقطن في مدينة بعيدة عنهم وإلّا لما ترددت..."
قال بضيق:
" أوف يا اخي...نحن هنا سنقوم بحمايتهم بإذن الله....على العكس الأفضل لك ولهم هو ابعادهم عنك لإتمام المهمة.....ثم حاول مع السيد سليم علّه يعود لبيته في مدينتنا وهكذا تجمع شملهم وتطمئن عليهم.."
اعترضت قائلا:
" لا يا سامي ...مستحيل , لأنه ترك مدينتنا قبل وفاة ابي بخمس سنوات واستقر في مدينته الحالية ونقل جميع أعماله الى هناك , وكذلك جدتي ملف علاجها الكامل في مشفى مدينتهم وأيضاً لا تتحمل كثرة التنقل.."
صرخ بحزم :
" إذاً ؟!!....ما العمل ؟؟!"
قلت :
" لا شيء مؤقتاً ...سأنتظر حتى اتأكد أنه بإمكاني الدخول والخروج من الوطن بسهولة وبعدها لكل حادثٍ حديث!!"
زفر مغتاظاً:
" هل ستنقل شقيقيك في منتصف دراستهما الى بيئة جديدة كي تشتتهما ؟!...كما أنه أنت أيضا عليك صب تركيزك بشيء واحد !"
قلت بيأس :
" لا حل لديّ....سنعيش ما كُتب لنا "
لم أسمع سوى أنفاسه ليلحقها من غير تردد قائلاً:
" زوجني شقيقتك..."
" ماذاا ؟! "
صرخت مصدوماً , فتابع بجرأة:
" نعم , زوجني إياها لأكون من عائلتكم واستطيع حمايتهم .."
قلت بنبرة حادة بعد أن صعقني بطلبه المباغت :
" ماذا تقول ؟ هل جننت ؟!...دنيا ما زالت صغيرة لم تتم الثامنة عشر بعد ؟! "
رد مستهزئاً :
" وكذلك ألمى خاصتك ابنة الوغد في سنها وأنت تخطط للزواج منها "
هنا سرت رعشة في أنحاء جسدي عند ذكره لها ولا أدري ما نوعها ..أهي رعشة حقد أم شيءٌ آخر...!؟ ..لكني أجبت غاضباً :
" هذا موضوع غير قابل للمقارنة !! "
تنهد وهمس بنغمة بين الرجاء والأمر :
" زوجني بها...أنا مصرّ...صدقني هذا الأصح ....ثق بي !!"
زمجرت وقلت بعد إلحاحه :
" كيف تخطبها دون أن تراها ؟!....أتظن أنني سأسمح لك بالتلاعب بها ؟! "
تأفف بملل وقال بمكر ساخراً :
" لا حاجة لي في رؤياها...فإذا كنت انت تمتلك كل هذه الوسامة وشقيقك شادي له مستقبل باهر ما شاء الله حسب اخر صورة بعثتها لي...ها انا أقول لك , سيسحب البساط من تحتك ويخطف الأنظار وبالطبع لا ننسَ والدك رحمه الله وأذكر خالتي عائشة وجمالها البريء وخالتك مريم ايضاً....هل على حظي ستكون شقيقتك البجعة السوداء مثلاً..؟؟"
هتفت موبخاً مازحاً:
" أصمت يا وقح...هل تتغزل بنساء عائلتي؟"
ضحك وقال ليغيظني:
" ربما عما قريب سيصبحن نساء عائلتي أيضاً!!"
لم أرد أن أشرك أي فرد من عائلتي في مهمتي!! لكني لا أنكر أن الفكرة راقت لي فـ (سامي)لن أجد مَن أفضل منه شخصاً , مقاماً , نسباً وشهامة....
هتف بعد صمت :
" ها ماذا قلت ؟!..موافق؟!"
قلت ببرود مستسلماً:
" سأفاتح أمي بالموضوع وإذا وعدتني بإقناعها بالارتباط بك دون ضغوطات وبرضا تام منها ....لا اعتراض لديّ...سأخبرك لاحقاً.."
أردف مستغرباً:
" ظننت أنك ستقنع والدتك بالأول !!؟"
أجبت ضاحكاً:
" لا حاجة لإقناعها , فلك عندها نصيب الجمل , تحبك منذ طفولتنا ولا تسأم من سؤالها عنك وعن اخبارك ....غير أنك فرصة لاستقرارها في الوطن وعودتها الى بيتها.."
هتف بسخرية:
" رائع ..هكذا ضمنت الحلقة الأقوى وأنت....بقي الحلقة الأضعف شقيقتك....ادعو لي يا صاحبي !!"
قلت بجدية:
" اشكرك على مساندتك لي دوماً , لكن لا اريدك أن تنكسر اذا رفضت , غير ألّا تحلم بإتمام الزواج في الوقت الحالي اذا وافقت.....أي سيكون عقد قران لا اكثر!!"
رد باستياء:
" لا داعي لقول ذلك ...أنا أعلم ...مهمتي الأولى هي حمايتهم بمشيئة الله اما الزواج الرسمي فأنا لا افكر به حالياً لأني اريد أن اكوّن نفسي وبعدها استقرّ.."
أكمل بخبث:
" مهمتي الأخرى هي ايقاعها في حبي .."
ضحكت رغماً عني وقلت:
" لك ذلك إذا وافقت.."
~~~~~~~~~~~~
تجلس على أرجوحتها المصنوعة من القصب في شرفتها المطلّة على حديقة البناية ...تمسك بيدها أحد أضلعها وتتكئ عليها برأسها...تتأرجح ببطء ...تنظر النظرات الأخيرة لهذا المكان بعد سنوات قضتها مبعدة عن أحضان عائلتها ...مع كل حركة للأرجوحة , تعيد شريط حياتها ...تنتقل من مشهدٍ لآخر ..كيف كانت وماذا أصبحت ؟! ماذا ربحت وماذا فقدت ؟!..ضغطت على زر الإعادة في ذاكرتها لتقف في تلك البقعة تحديداً ..عند مشهد لحضن بريء جعلها في المنفى كمن عوقب على جريمة نكراء !!...تسأل نفسها...
" أوليس الحضن مشتركاً ؟ لماذا عوقبت وحدي ؟! لمَ لم يعاقب مثلي ؟! "....
شردت في خيالها ورسمت ابتسامة مائلة على طرف شفتيها بعد أن ظهرت غيمة فوق راسها وهي تعيش اللحظة تكمل في عقلها حالمة ...
" ماذا لو!!...ماذا لو كان معي في المنفى ...يسكن في نفس بنايتي , أمرّ صباحاً ومساءً من امام شقته لأراه...كيف كان سيكون طعم الغربة يا ترى؟ !! "...
لكنها سرعان ما انتبهت لشرودها ونفضت رأسها لتتلاشى تلك الغيمة الجافة !!...
همست بخفوت تُلجم نفسها :
" عودي الى واقعك ألمى...كفاكِ ترّهات واحلام طفولة فارغة ...لقد كبرتِ ...ستكونين قوية...أنتِ ابنة عاصي رضا ولن تسمحي لشيء بكسرك ...امضي في حياتك كملكة وعيشي أوقاتها الحلوة !...فكري فقط بمستقبلك الزاهر.."
قطع لحظاتها تلك , رنين هاتفها من الداخل...توجهت له حيث تضعه على رأس الأريكة...حملته واقتربت من النافذة الكبيرة...تتأمل البحر مبتسمة لاسمه المضيء على الشاشة...فتحته بحماس لتجيب:
" صلاااح ...لا اصدق أنني سأكون في البلاد!!...هذه أجمل هدية أتلقاها في يوم مولدي غداً "
ضحك وقال مازحاً:
" لا داعي لتذكيري في يوم مولدك!!..فهديتك جاهزة من أسبوع "
تابعت بدلال:
" اوه صلاح ..تعلم كم أحب هداياك الجميلة فخشيت أن تنساني وأنت غارق في دراستك "
أردف ساخراً:
" غداً ستتمين السابعة عشر وتبدئين بالثامنة عشر وما زلتِ تتوسلين الهدايا !!...يا للعيب "
أجابته بحزن مصطنع ودلع :
" يا لقسوتك ..وأنا التي أعتبرك صديقي المفضل ...بل أكثر..."
شعر بدغدغة تسري على جسده لقولها انه اكثر من صديق فهمس :
"تابعي يا ألمى .."
تابعت ببرود:
" لطالما شعرتك أخي , أكثر من المغفل كرم ...أنت تعرف هذا "
قُصِفت جبهته وفرّت الدغدغة التي زارته قبل قليل لوضعها له بمنزلة الشقيق وهذا ما لا يتمناه !!....لقد تعرّف عليها وهو بمرحلة المراهقة ونشآ سوياً سنوات ليست بقليلة وهما متقاربان ..يبثا همومهما وسعادتهما ببراءة لبعضهما ...حتى نزاعاتهما معاً , ولم يكن يمر يوم عليه في كندا وهو يهاتف والدته إلّا وتوصيه بها وتذكره فيها وتوهمه أنها ستكون من نصيبه !!...وبالطبع لم تكن لتتفوه بهذا من غير دعم الأفعى (سوزي) التي جهدت للقائهم لحياكة علاقة زوجية مستقبليّة علّها تشفع لها ولابنها عند ( عاصي رضا) بجلبها عريس الهناء الذي بلا شك يتمناه كل أب ليكون زوجاً لابنته , ليس لوسامته ولا لعلمه فحسب ..بل الأهم ...لأنه الابن والوريث الوحيد لـ ( رائد السيد ) رجل الأعمال المخضرم الذي لم تصبه شائبة في مكانته ونفوذه وثرائه !!...
هتفت ( ألمى) بتعجب لصمته للحظات :
" صلاح هل أنت معي ؟!"
ارتدى قناع التجاهل مما سمع منها وقال بمكر:
" نعم يا ألمى ...وربما نكون أكثر من ذلك !!...من يدري؟!"
سحبت ستار النافذة لتسدل الشارة على المشهد الأخير لهذا المكان ....استدارت بكامل جسدها ليقع نظرها على الحقائب المصفوفة قرب باب الشقة وهمست بتأكيد :
" إذاً سنلتقي غداً.....يسعدني انتظارك لي في المطار لتقلّني لبيتي.."
~~~~~~~~~~~~~~~-
لا...ليس هنالك من مات !!...بل هذه لحظات موجعة خُتمت بالفراق!!....كان صوت بكائهما أقرب للنحيب...يثير عطف من يسمعهما !!
" أهكذا اتفقنا يا دنيا ؟! ألم نتفق أننا سنبقى معاً الى آخر العمر؟!"
ضربت كتف الواقفة أمامها بظهر كف يدها ...استجمعت قواها لترطب الجو المرطب أساساً بل الغارق بدموعهما وهمست وهي تكتم شهقاتها بين الحرف والكلمة :
" كيف سنبقى معاً إلى آخر العمر ايتها الغبية ؟!..الن يكون مصيرنا الزواج في النهاية ؟!"
أغمضت عينيها تشدّ عليهما ..مطت شفتيها وهي تشيح برأسها جانباً...حررت ملامحها زافرة بحنق :
" لا...حتى الزواج اتفقنا الّا يفرقنا ...اما نتزوج من اخوة او أصدقاء وإما نظلّ هكذا عزباوات باقي الدهر...وتعاهدنا على دخول نفس الجامعة ونفس التخصص...اين ذهب هذا كله ؟!"
أضافت تعاتبها بألم :
" لكنك وافقتِ على صديق أخي هادي وستدرسين هناك ...وبقيت انا وحيدة.."
اختلست بسمة من بين شفتيها مع أنها تخوض معركة ضارية في احشائها وهمست مازحة لتحاول اضحاكها :
" أنا لا أريد أن أبقى عزباء يا سلمى...لكن لا تخافي , عند زواجي سأضع شرطاً باصطحابك معي الى بيتنا رغماً عنه.."
حدّجتها بعينيّ محتقنة بالدموع دون أن ترمش ...لديها الكثير من الكلام ...لكنها أبقته عالقاً في حنجرتها لأنها لمحت الطعنات التي تشعر بها صديقتها وتحاول مداراتها بضحكتها المكلومة ...
رفعت الأخرى ذراعيها , تضغط بقبضتيها على كتفيّ الواقفة أمامها بانحناءة خفيفة أقرب للانكسار وكدّت لتخرج صوتها هامسة :
" سامحيني سلمى...الأمر ليس بيدي ..لكني أدعو ربي أن يجمعنا مجدداً كما جمعنا سابقاً من غير عناء .....سامحيني عزيزتي فالظروف أقوى منا جميعاً ...ومع هذا أُحسن ظني بربي أنه لن يخذلنا ابداً !! "
استقامت مجدداً ...تنصب ظهرها لتخرج من جيب معطفها الخفيف , علبة حمراء , صغيرة , دائرية .....كان بها سلسلتان ذهبيتان , معلّق في وسط كل منهما نصف قلب مكمل للآخر...رفعت المنحوت عليه اسم دنيا وزلفت من صديقتها اكثر لتعقده حول رقبتها هامسة بغصة مبحوحة :
" لكي لا تنسيني..."
رفعت (سلمى) بصرها لها وارتسمت بسمة أمل على شفاه كلتيهما بعد أن عادت بهما الذكرى لما قبل ما يقارب التسع سنوات في الموقف الشبيه لهذا ...
نظرات قليلة قطعها عناق شديد , قوي , يفيض بمشاعر مختلطة بين الم الفراق على أمل اللقاء , لا يخلو من البكاء الذي يصدح تحت تلك الشجرة في الحديقة العامة القريبة من بيت (أم سلمى) وبناتها....
[[ هل حان وقت الفراق؟!!
أيا قلب للوطن سبّاق؟!
اعذريني صديقتي...لتراب بلادي اشتاق !!
إذا هوت دمعة من عيونك , فعيوني في حالة احتراق !!
لو فرّقوا أجسادنا...أرواحنا تلوح في الآفاق !! ]]
×
×
×
حزمت أمي حقائبهم وجلست على الأريكة الكبيرة وسط الصالون في شقتها , تنتظر وصولنا أنا والسيد (ماجد) اليهم....وصلت قبلنا من كانت تودّع صديقتها ...دخلت خافضة رأسها بانهزام , وجهها باهت كأن جريان الدم اختفى من عروقه ...يبدو عليها الوهن بعد خوضها صراع الوداع...ألقت بجسدها بجوار الجالسة وهي تتأفف بكدر , ساخطة :
" هل ارتاح الآن ابنك الغالي؟! أكان يسعى لتفريقنا ؟! "
رمقتها بحدّة وتحدثت بنبرة صارمة :
" انتبهي لأسلوب حديثك...أنت تتحدثين عن شقيقك الكبير والذي أفنى طفولته وصباه ليكون أباً لكما .."
قالت مستاءة بملامة :
" أنا وافقت على الارتباط بذاك صديقه الغليظ الأشقر لتيقني اننا سنعود للبلاد مع الخالة أم سلمى .."
نهرتها قائلة :
" تأدبي يا بنت ...سيكون زوجك... لا تفضحينا بلسانك هذا .."
اخفضت صوتها وهمست بألم تبعد نظرها عنها بانزعاج واستأنفت بحديثها :
" لا أعلم كيف تتحملين مخاصمته شهراً كاملاً ....ألا تشتاقين لمكالمته ورميّ نفسك في أحضانه وأنت من كنتِ الأقرب له ولم تغضبيه يوماً !!"
برقت عينا المصغية لها ...ارتجفت شفتاها ...لم تعد تتحمل فأجهشت بالبكاء وهي تلحف وجهها بكفيْها....لحظات لتكشف عنه بعد أن لقطت أنفاسها وكافحت لدفع صوتها المبحوح بين عبراتها بعد أن عَبَرَ الكثير من المطبات المؤلمة في هذا اليوم :
" أتظنين أنني مرتاحة أمي ؟!....أنت أكثر من تعلمين ماذا يعني هادي لدنيا ...هو دنيتي وجنتي , هو أبي وسندي , هو فرحتي وعزوتي ....لكنه خذلني ....خذلني بشدة بعد أن اوهمني أننا سنكون معاً انا وسلمى.....وها هو أول من سعى لتفريقنا .."
مدّت يدها بحنوٍ لتمسد على رأسها من فوق حجابها هامسة:
" أعلم بنيتي ما تشعرين به....لكني على يقين أن لديه حجّته لأنه دائما يسعى لما في مصلحة الجميع ولم يفرّق عائلة خالتك ام سلمى عنا إلّا لسبب وستثبت لنا الأيام ذلك ان شاء الله ....وهو يستحق منا مساندته لا مخاصمته .."
نهضت من مكانها تجرّ أوجاعها لتتوجه الى الحمام تغسل وجهها المحتقن بصفعات انشقاقها عن توأم روحها وسألت بِلوعة:
" متى سيأتي السيد ماجد ؟...ولمَ لم يأتِ إبنـ....شقيقي لوداعنا على الأقل ؟...فلقد وكّل من يوصلنا الى المطار.."
" سيأتي لوداعنا بنيتي ..."
نظرت للساعة على الحائط وأضافت:
" حان وقت وصوله..."
اشرأب عنقها بحماس هاتفة دون السيطرة على مشاعرها الجارفة:
" حقاً....حقاً أمي سيأتي ؟!."
رمتها بنظرة ماكرة وقالت :
" يبدو أن هنالك من لم تطق صبرا..."
أرخت ملامحها العابسة وبرقت عيناها بِتوق واشتياق:
" يبدو كذلك...."
انتصبت أمي واقفة...دنت منها برقة ...مسكت كف يدها بقبضتيها ..تشدّ عليها هامسة بحنان:
" رضي الله عنكم يا ابنتي ....هكذا اريدكم ..لا تسمحوا للضغينة والبغضاء للدخول بينكم .."
تابعت تتلو عليها بصوتها المُرهف:
{ قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا ۚ بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ }
عانقتا بعضهما ..احنت (دنيا) ظهرها لتقبّل يد أمي هامسة بأسف :
" سامحيني أمي أرجوك ...أنا نادمة...أعطيت الشيطان مُراده....سأعتذر من شقيقي حين يأتي "
ربتت على كتفها برضا وهمست :
" اذهبي لتغسلي وجهك وأنا ذاهبة لإيقاظ ذاك الكسول شادي...لقد عاد للنوم بعد أن جهّز نفسه.."
×
×
×
خاصمتني صغيرتي دنيانا شهراً كاملاً بسبب قراري المفاجئ عندما علمت انهم سيعودون لوحدهم دون عائلة ( أم سلمى)....لم أُوفّق بضبط اوراقهم مع عائلتي في مدة قصيرة ...فكل جهودنا انصبّت لهم ولأمانهم ونجحنا بمشقة خصوصاً اننا احتجنا لإخراج جواز سفر لشقيقي (شادي) وكذلك لتجديد جوازيّ امي واختي ...فأنا لم أنساهم أو اتغافل عنهم قصداً ..!!..بل أجّلت موضوعهم لوقت آخر دون البوح بوعود لا أستطيع تنفيذها فأخذل شقيقتي وصديقتها مرةً أخرى....
×
×
×
بقيَ نصف ساعة ونصل المطار , فبعد اجتماعي بهم تفاجأوا انني سأرافقهم حتى الدقائق الأخيرة ...كان متفقاً توديعهم في البيت حرصاً على عدم ظهوري وإياهم في أماكن عامة....لكني لم استطع إلّا وأن أكون معهم حتى آخر لحظاتهم في بلاد اللجوء...حاولتُ ابدال مظهري بارتداء ملابس بسيطة وقبعة ونظارات ....كان لقائي بهم مزيجاً بين السعادة والقهر !!...أما شقيقتي فور رؤيتها لي ارتمت في أحضاني تعتذر عن جفائها معي...اعتصرتها وكدت أكسر ضلوعها لكي أعوضها مما فاتها وربما أكذب على نفسي وأنا الذي اريد أن أسرق منها ما فاتني! ....أمي لم ترسو على بر في مشاعرها ...كانت تارةً تريد التحليق في السماء لهفةً وشوقاً للوطن وتارةً يخبو حماسها بتذكرها بُعدي عنهم أنا وخالتي .....تغيّرت نبض الحياة وباتت تساندني في مهمتي بكل رضا وقبول...لم تعد تضغط عليّ كالسابق ووكّلت امرها لله في حمايتي.....(شادي) كان حزيناً على فراق شقيقته (سلوى) لكنه تظاهر بالقوة كرجل صغير وكذلك توقهُ وشغفه للتعرف على الوطن وبيته الحقيقي جعله صامداً....ألمنا وقهرنا هو البعد والفراق لكن لا سعادة أكبر من احتضان الوطن الذي خرجنا منه عنوةً , جوراً وظلماً....خالتي (مريم) لم تشأ القدوم لأنها لا تحتمل تلك اللحظات التي تختم في الوداع...منذ قرارنا وهي تلازم القصر حزناً ...تشعر أننا سننزع روحها عن جسدها , ففؤادها معلّق بعائلتي والوطن , لكنها الآن على ذمة رجل....
لحظة نزولنا من مركبة السيد (ماجد) كنتُ جامد الملامح لأظهِر لهم القوّة وكأن ما نمر به هو شيء طبيعي.. وداخلي مغاير لما أنا عليه ....لوّحت لهم بيدي مستودعهم الله وارتميت بجسدي للخلف على السيارة أسند ما بقي بي من حصانة , نزعت نظارتي السوداء لأسكب دموعاً لذعتني بعد اختفائهم عن مدّ بصري ...لن أنطق وداعاً احبائي إنما سأقول بإذن الله لنا لقاء ..على أرض الشهداء.. دون همٍ او عناء.. لنتذوق في وطننا أعذب ماء ...وطن البطولة والشرفاء ...وطن العزّ والإباء...لا...لن نبيعه لا بسرّاء ولا بضرّاء ... لنخبر العالم كيف يكون عشق التراب والولاء... كيف التضحية والوفاء.... ليعلموا أننا صبرنا من بعد بلاء... وأننا نلنا منزلة السعداء... ونحن من نمتلك أنقى هواء... وأن بلادنا تحتضنها أجمل سماء... فهل يوجد أعظم من هكذا الآء..؟؟!!
↚
عدتُ أدراجي لبيتي ...أجهز نفسي لأنطلق الى الشركة بعد ان أصبحت مديرها العام تحت رئاسة أبي (إبراهيم) لتجهيز الصفقة التي ستجمعنا بالوغد (عاصي رضا) لتبدأ رحلة الانتقام......
~~~~~~~~~~~~
في شقتها المتواضعة...تسكبُ كل تركيزها على الأوراق المبعزقة أمامها...تدوّنُ رؤوس أقلام مما تمليه عليها صديقتها الجالسة بجانبها...عليها صياغة تقرير ناري قريباً , يخصّ الصفقة العظمى ,الغير قانونية , الجديدة, للمسمّى ( عاصي رضا )...
رفعت رأسها تحرّكه على جانبيها بعد أن أحست بتشنج عضلات عنقها ...التفتت ليمينها حيث تسترخي على الأريكة السيدة (فاتن) ثم سألت بتوجس:
" هل أنت واثقة أنك لن تتأذي بنقل هذه المعلومات الخطيرة؟!"
أحنت ظهرها لتمدّ يدها , تكمش بقبضتها من طبق المكسرات الموجود أمامها ...أعادت ظهرها للخلف بأريحية وأجابت بهدوء واثقة:
" بإذن الله لن يصبني شيءٌ , لأن هذه الصفقة تتم مع شركائه الثلاثة الآخرين ولكل واحد منهم , مجموعة من الرجال يقومون بأعمالهم لتبقى أيدي أولئك نظيفة ...فهل لكِ أن تتخيلي سيشك بمن ومن عند فشل الصفقة ؟!"
ردت متنهدة بطمأنينة :
" جـيد....لكن كيف وصلتك المعلومات عنها ؟!"
أمالت زاوية فمها ببسمة ماكرة وقالت:
" اكتشفت انه يوجد فائدة للأفعى سوزي......كانت صديقتها اسراء بضيافتنا وزوجها شريك بهذه الصفقة وكان كلامهما عنها بحماس لمعرفتهما بالمبلغ الضخم الذي سيحصل عليه كل من زوجيهما ولم تلحظا وجودي بالقرب منهما .."
رفعت حاجبها بغرور مصطنع , تفتخر بالخطوة التي أقدمت عليها واستأنفت :
" في المساء بعد خروجهما مع زوجيهما لحفل يخص احد اصدقائهم , جازفتُ ودخلتُ الى مكتبه خلسةً علّني أجد طرف خيط مما سمعت ومن حُسنِ حظي ورداءة حظهم , كان الملف ما يزال على الطاولة ولم يضعه في خزنته الخاصة!!"
وضعت كفها على صدرها جهة القلب شاهقة تعاتبها بعد الهواجس التي اجتاحتها مما نطقت به صديقتها للتو :
" هل أنتِ مجنونة ؟!...كيف تخاطرين بذلك ؟!...ألا يوجد أجهزة مراقبة في مكتبه ؟!"
ضحكت بثقة ساخرة:
" لا....لا يضع أي جهاز داخل مكتبه لكي لا يصل له أي جهة سواء من امن الدولة او قراصنة الاختراق فينقلب السحر على الساحر ....هو مُؤَمّن على القصر من الخارج ولا تستطيع ذبابة الدخول ...أما الداخل تركه بكامل الخصوصية لأنه يعلم أن لا احد يجرؤ على طعنه من عائلته ....هو حذر في هذا الموضوع ...حتى حاسوبه يعمل عليه في غرفة أخرى خارج مكتبه الملغم بالأسرار.."
نفثت أنفاسها وألقت بجسدها لظهر الأريكة ترخي أطرافها ناظرة للسقف بارتياح هاتفة:
" آه ..الحمد لله...كدت اموت خوفاً عليك لو اكتشف ذلك لا قدّر الله "
×
×
×
كانت الصفقة عبارة عن تهريب أسلحة كبيرة , ثقيلة , باهظة الثمن من دولة عظمى دون تصاريح قانونية عن طريق البحر , هي أشبه بصفقة العمر لهم لما ستدُرُّ عليهم من أموال.....لم نكن نريد إلّا معرفة التاريخ والوقت لإخبار شرطة مكافحة الجرائم في هذه البلاد ونحن نعلم أنهم لن يتضرروا إلّا ماديّاً فقط ...فلا اثباتات وأدلّة تُظهر أن لهم أضلع بها ....مثل هذه العمليات يشترون أولئك من يتبنّى التهمة مقابل مبالغ وفيرة لتسليمها لعوائلهم في حال تمّ القبض عليهم ....هذه الصفقة كفيلة بانهيار الخائن ( عاصي رضا) لأنه يقامر عليها ..أيّ يضع أموال هائلة لتغطية إجراءاتها بدقة لدرجة أنه يرهن أملاكه لأنه كفلَ عودتها له بأضعاف مضاعفة ولا يضع الفشل والخسارة نصب عينيه لأن الطمع والجشع يغلّف بصيرته...يفعلها بمنتهى الثقة ويجازف لأنه يضمن الربح....
هنا كان لترتيبات القدر النصيب الأكبر بالإضافة ليقظتنا على تحركاته وهذا ما انتظرناه ليأتي دورنا...أما السيدة (ايمان) وظيفتها فضحه اعلاميّاً بتلميحات مقصودة وأسماء مستعارة للضغط عليه ليرضخ لأي مساعدة مهما كانت لتعيد له أمجاده....!!
~~~~~~~~~~~~
موسيقى صاخبة ...حفلات مجون....دخّان السجائر يغطي المكان في الملهى الليلي وتحديداً من مركز العاصمة لهذه البلاد...يجلس على طاولة بكرسيين وسيجارة تفصلُ بين اصبعيه الوسطى والسبابة ويده الأخرى تحتضن كاساً من الخمر....ينتظر صديقه (صلاح) الذي قَدِمَ من المدينة الساحلية ليبيت الليلة معه في شقّته ليستقبل (ألمى) مع شقشقة النهار في الغد ليقلّها من مطار العاصمة...
أزاح كرسيه باشمئزاز بعد أن وصل إليه...جلس محاذيّاً له وقال بتأفف وهو يهفّ بيده الدخان يبعده عن مجال أنفاسه :
" ما هذا كرم ؟؟...لو علم السيد عاصي أنك تتسكع في النوادي بدل التزامك في الشقة للدراسة لمسحك عن الوجود أو اعادك الى البيت مع إعادة تأهيل.."
زمّ شفتيه تاركاً فرجة ينفث السموم الخارجة من فمه بخبرة صانعاً غيوماً , ضاحكاً بلا مبالاة لإنجازاته العظيمة وردّ ساخراً:
" ان لم تخبره لن يعلم....هو لا يفكر بي أساساً ولديه ما يشغله.."
أجابه بتهكّم:
" نتائجك الجامعية ستكون خير دليل.."
صمت برهةً ثم أكمل بتحذير:
" الآن انت مقبل على العشرين , ما زلت صغيراً لمثل هذه الأشياء التي تضرّ صحتك "
قتل بقايا سيجارته بالمطفأة أمامه ولوى جانب فمه مستمرّاً بسخريته هاتفاً:
" لست صغيراً ...لا تشعرني انك تكبرني بعشر سنوات ولم يفصلنا إلّا عامان فقط!!...أما نتائج الجامعة...اطمئن...المال يفعل الكثير , فانا أدفع لهذا وذاك ليدخلوا الامتحانات عني !..وإذا لَزِم الأمر أشتري أيضاً المحاضرين المتعطشين للمال !! "
أنهى تبجحه ومدّ يده الممسكة بالكأس أمام صديقه وقال :
" خذ...تذوّق...ستنسى الهموم....لن تندم "
ردّ عليه بثقة أقرب للتعالي :
" لا هموم لديّ ولن تكن لأنني استخدم عقلي ولست مثلك طائشاً بلا هدف....أعدك ان احتجت يوماً أن أنسى سأجربه حينها !!.."
فزّ عن كرسيه بعد أن شعر بالاختناق من روائح المكان المخلوطة بين الدخان والنـبيذ بأنواعه بالإضافة للمأكولات....اقترب منه يسحبه وهو يترنّح في مشيته , يريد من يدعمه لئلّا يسقط!!...غادرا الملهى متجهان الى شقة (كرم) للمبيت فيها...
~~~~~~~~~~~~~~
اضاءة خافتة ...نغمات كلاسيكية هادئة مع رائحة الفانيليا المنتشرة بالأجواء لتريح الأعصاب في أكبر مطاعم هذه المدينة الساحلية شهرة لإطلالته الساحرة على البحر ....يجلس بكل فخامة , تغطرس وأُبّهة السيد (عاصي رضا) وبجانبه حرمه المصون السيدة (سوزي) بكامل أناقتها المفتعلة وبالمقابل لهما السيد (رائد السيد) وزوجته السيدة (اسراء) اللذان لا يقلّان عن مرافقيهما تملّقاً وغروراً ....يتناولون العشاء الفاخر الذي لا نهاية لأصنافه العالمية من المطبخين الشرقي والغربي ...يجتمعون للاحتفال بتوقيع صفقتهم الجديدة التي ستغدق عليهم بالكنوز الظمآنين لها وينتظرونها باللحظة بل بالثانية بفارغ الصبر وكأنهم مسلوبو المال والعزّ ينامون على أزقة الشوارع في البرد , جياع لم يتذّوقوا لقمة وستهلّ عليهم النِعَم الآن أولئك المساكين !!!؟؟؟...يتبادلون الأحاديث العامة , لا يهكلون همّ دنيا أو آخرة , ينتقلون لأحاديث العمل التي لها النصيب الأكبر من وقتهم ...مزاحات وضحكات بمداهنة وتزلُّف ليخرج من بينها بصوته الجهوري الخشن , السيد (رائد) يبدّل الأجواء ويقلب دفّة الحديث, يحوّلها لخاصة بثقة تليق بمكانته الرفيعة فهو نشأ على الّا يرفض له طلب :
" أخي عاصي ... لم أجد وقتاً مناسباً وجميلاً أكثر من الآن لأفاتحك بالموضوع عسى ألّا تردني خائباً بعد سنواتٍ ليست بقليلة من العشرة والصداقة "
نصب قرون استشعاراته...سرت دغدغة في عروقه ...قوة حدسه تخبره بأن الموضوع الذي يتمناه آت ...تنحنح وردّ بتصنع وتغابي :
" تفضل اخي رائد ..انا في الخدمة.."
وضع السكين والشوكة من يديه...أمسك بالمنديل الموجود بداخل الكأس الزجاجي الفارغ...مسح أطراف فمه بحركة الطبقة المخمليّة وقال بصوت جدّي متزن :
" يشرفني طلب يد ابنتك ألمى لابني صلاح .."
عدّل جلسته وأضاف على الفور :
" أنا أعلم انها ما زالت صغيرة وينتظرها مشوار طويل لذا ان وافقت ستكون فقط خطوبة الآن دون زواج رسمي حتى بلوغها العشرين ..."
تنحنح وأكمل:
" صراحة لا اريد أن تضيع من بين أيدينا تلك الأميرة الجميلة...ما رأيك ؟"
ارتسمت بسمة على ثغره , حاول السيطرة عليها ومسك نفسه عن الاندفاع بلهفة وأجاب كاذباً على نفسه :
" هي ابنتك ولا تغلى عليك...فقط امهلنا بعض الوقت لتهيئتها واستشارتها بالموضوع...فأنا لا اريد اجبارها على شيء لا تريده "
همست (سوزي) بفحيحها:
" لا أظنها سترفض !!...فصلاح هو أفضل صديق عندها وألف واحدة تتمناه...لا ينقصه شيء !"
تبسّمت (اسراء) بمجاملة وردت بغرور:
" بالطبع ابني كذلك...لكن ألمى ليست بأقل منه ...وكأنهما خُلقا لبعضهما ....كم أتمنى ارتباطهما اليوم قبل الغد !"
كان (عاصي) يستمع لهم وفكره شارد , يعيد حساباته ...من المحتمل أن ابنته المدللة ترفض!!..اذا رفضت سيخسر أكبر حليف له , وشخص بمكانته لا يكرر كلامه مرتين ,انه متكبّر وذا كبرياء لدرجة كبيرة!!..وها هي زوجته تتبجح بتبختُر وعجرفة وكأن لم يخلق في الكون مثله !!...فلمجرد المماطلة حتى اقناع العنيدة والتي مع قربها لـ (صلاح) إلّا انها لن تقبل لسبب وحيد وهو دراستها !!...وهذا ما هو بصدد عن مواجهته .....هو أدرى بمصلحتها فعندما يجتمع مالهما معا ستصبح اموال لا تأكلها النيران وهكذا سيضمن مستقبل ابنته وأحفاده للنسل السابع !!...ولن يضطروا للعيش مثله سابقاً بفقر مضني... فهو ورث عن أبيه الشقاء والإفلاس حتى كبر ونهض بنفسه .... صراع بين الاقناع والرفض....اذاَ كيف سيتصرف غير أن...
" موافق...أتشرّف بكم"
نطق بها على مسمع الموجودين ليعطي كلمته بالنهاية....
~~~~~~~~~~~
استقبل السيد ( سليم الأسمر) أهلي في مطار عاصمة الوطن ليستضيفهم في بيته بالمدينة القريبة منها والتي تقع على الحدود الغربية ليسلّموا على جدتي وعمتي ولتناول وجبة العشاء معهم .....
بعد وصولهم بالسلامة , رحّبت بهم عمتي (لبنى) واحتضنتهم بدموع الفرح والاشتياق ثم وجّهتهم الى غرفة جدتي التي باتت مقعدة لا تتحرّك من سريرها إلّا بمساعدات وذلك من حزنها يوم فقدانها لأبي ولم يتبقَّ من صحتها الّا العقل الذي يخونها أكثر الأحيان لدرجة تنسى من هي!!....لحسنِ حظها وحظهم كانت في حالتها الطبيعية هذه الليلة فطلبت من شقيقيّ الجلوس على جنبيها , تمسك يديهما , ترفع يد ذاك تارةً لتقبلّها مع نظرات حنونه وعينين تلمع بلهفة وحنين ثم تنقل وجهتها للجانب الآخر لترفع يد تلك وتقبّلها وهما تغمرهما السعادة برائحتها و خاصةً (شادي) الذي لم يذق يوماً نعمة وحلاوة وجود الجدّة في الحياة.....
بعد لقاء دام ساعتين مليئتين بحكايات الماضي والحاضر والذي لم يخلُ من سيرتي لجدتي وعمتي اللتينِ تتوقان لرؤيتي لانهما تران بي والدي شكلاً وروحاً.....غادروا معه وبرفقة عمتي متوجهين الى أجمل بقعة في الوجود الى مدينتنا الجبلية ....عند اقترابهم منها وعندما أصبحوا على مشارفها , رفعت أمي رأسها تستنشق هواءَها وهي تسبل جفنيها تستشعر نسماتها وكذلك شقيقتي أطلّت برأسها من النافذة تتأمل أشجارها المرتفعة الخضراء المضاءة بنور القمر وطرقاتها التي جعلت قلبيهما يتراقصان على نغمات صرير احتكاك العجلات مع الحصى من تحتهم لتُعزف ألحان العودة بكل إصرار وتحدي شاء من شاء وأبى من أبى ....أما شادي ينظر مندهشاً من طبيعة بلادنا وكأنها قطعة من السماء اختصّها بنا الله... ففي بلاد اللجوء كانت المدينة مزدحمة بالبنيان المرصوص بين الحديث والقديم ولم يكن سوى البحر بطبيعته...
أخرج نصف جسده منتصباً من النافذة , مغمض العينين وبسط يديه رافعهما كطائر يرفرف بجناحيه عائداً من الهجرة والهواء يلفح وجهه ويداعب شعره الناعم وصرخ بحماس بدمه الذي عرف بلاده :
" ما أجمل بلادنا يا أمي "
شقت ثغرها ابتسامة صاحبتها لمعة بعينيها ...لمعة حب وحنين , وهي تقبض بقميصه من خلفه حرصاً عليه هامسة :
" نعم ..هي كذلك بنيّ...لن ترَ أجمل منها في كل بقاع الأرض "
×
×
×
وصلوا القصر المُنار بمصابيحه الخارجية التي تعتلي جدرانه وفُتحت لهم البوابة الضخمة لتدخل المركبة الى ساحته ...فنظرت أمي بتوجس بعد أن توقفت و قبل ان تترجل منها ,سائلة :
" كأنه لم يتغير به شيء قط !!...كيف ذلك ؟؟ "
ضحك ضحكة خفيفة السيد (سليم) وأجاب بهدوء مفتخراً :
" سامي.....سامي صديق هادي كان في البداية يأتي ليعتني بالنباتات وينظّف الحديقة من أوراق الشجر...بعدها حصل على هاتفي وطلب مني اعطاءهُ مفتاح القصر ليهتم به من الداخل , لكني رفضت وأخبرته أن يطلب ذلك من هادي عندما نجده ونتواصل معه....وبالفعل هذا ما حصل حتى يومنا هذا لتجدونه كما تركتموه !! "
مسحت دمعه سقطت من عينها رغماً عنها , حامدة الله على الصحبة الصالحة التي أنعم الله بها علينا ....
بعد أن ترجلّوا من المركبة , اقترب من كان واقفاً جانباً ومن فتح لهم البوابة هاتفاً بأدب ونظره للأرض :
" حمداً لله على سلامتكم خالتي أم هادي "
تبسمت قائلة برضا وخجل من معروفه :
" سلّمك الله ورضي عنك بنيّ...لقد أتعبت نفسك ...ما كان داعي لكل هذا "
" لم أفعل شيئاً خالتي ...لو طلب هادي عينيّ لوهبتهما له "
قال جملته لتلوي شفتيها بازدراء الواقفة بجانب المركبة تحمل حقيبتها الصغيرة , تشيح وجهها عنهم , شاتمة في سرّها " أشقر وغليظ ".....التفتت نحوهم على صوت الهاتفة :
" هيا يا دنيا اقتربي لتشكري سامي خطيبك..."
تأففت بحنق ضاربة قدمها بالأرض قبل أن تتقدم مجبرة فهي لا تستطيع قول شيء أو العناد خاصةً أن السيد ( سليم) موجود بهيبته .... فانتبه لحركتها من كان يحاول السيطرة على الّا ينظر لها لكن الفضول سحقه فقال في نفسه متوعداً بابتسامة مائلة ماكرة " اذاً سنبدأ بترويضك يا صاحبة اللسان الطويل وعينيّ الشهد "...
×
×
×
انتهت الليلة باتفاق سريع بين السيد (سليم ) و (سامي) بتحديد يوم لطلب يدها رسمياً مع عقد القران على بركة الله ليتولّى مسؤوليتهم في غيابي....
~~~~~~~~~~~~~
ينظر مرةً الى ساعته الفخمة بعــقاربها التي لم تشأ أن تتزحزح عن الثامنة والنصف صباحاً ...ثم يرفعه مرةً أخرى نحو الباب الواسع تحت اللافتة المكتوب عليها * القادمون من كندا *....يرتدي بنطالاً من الجينز الأسود مع بلوزة نص كم شبابيه بلونها الرمادي وحذاءً رياضياً مماثلاً للبنطال...يتكئ بذراعيه مع انحناءة خفيفة بظهره على الجدار الحديدي الذي يفصل الوافدين عن المغادرين , يثبت قدماً على الأرض والآخر يدخله بين قضبان الجدار ....دقائق قليلة ولم يكن من الصعب تمييزها بين الجموع وهي تتقدم مطلّة بسحر جمالها ووجهها المشع كالبدر وشعرها المنسدل على ظهرها وقسم منه يحتل كتفها لينزل براحة على صدرها حتى يصل خاصرتها بسواده الليليّ كشلالٍ منساب من قمة الجبل الى الوادي بصفائه ...غرّتها تفرّ من تحت نظارتها السوداء , المثبتة على رأسها لتتدلّى على جبينها , تعلن تمرّدها على صاحبتها ...ترتدي بنطالاً ضيقاً من الجينز الأزرق الباهت مع بلوزة بيضاء ترسم تفاصيل جسدها الانثويّ ..تنتعل حذاءً أبيضاً, رياضياً بأرضية مرتفعة وتعلّق على ذراعها حقيبتها الصغيرة ..تخطو باتجاهه ملوّحة له بيدها التي تمسك الهاتف....انشرح صدره لملقاها ..ابتسامته تصل من أذنه الى الأخرى ...قلبه ينبض بحب متلهفاً ...
هتفت على بُعد امتار بحماس:
" صلاااح ...أنا هنا "
ما من داعي لترشده !!...فحدقتيه اجتازت الفاصل الحديدي والناس والأبواب وكادت تخترق الجدران والأجهزة الأمنية لتركب الطائرة وتعبر القارات من أجل عينيها اللتين لا يرى غيرهما وسط الحشد الكبير ..!!...لكنها ساذجة !!....لا تستطيع ترجمة نظراته لها واهتمامه بها .....دنت أكثر منه ولا يفصلهما الّا قطعة الحديد المتطفلة...صافحا بعضهما وهمس لها بلطف:
" أنيرت البلاد بالقمر القادم لنا "
ضربت كتفه وألقت شعرها للخلف وهمست بِدلال :
" ما كل هذا الغزل ؟"
تابع ينثر كلماته :
" لم يكن على أمك أن تنجبك بكل هذا الجمال "
اطلقت ضحكة خفيفة وتوجهت وهو يتبعها لإكمال باقي إجراءات الخروج....
×
×
×
استقلّا سيارته الرياضية الحمراء وانطلق بها مسرعاً الى مدينتهما الساحلية البعيدة ....مدّت يدها للمسجل تشغله فوجدت اغنية اجنبية يحبانها كلاهما ...ضغطت على زر قرب المقود ليفتح السقف من فوقها ...بدأت تتمايل مع الالحان وشعرها يتمايل مع الهواء لتتلامس أطرافه مع الجانب الأيمن من وجهه وهو يحاول أن يلتقط بأنفه ,عبيره المشبّع بنكهة الأناناس...يسترق النظر لها بين الفينة والأخرى وقلبه يتراقص بين ضلوعه فرحاً وهو يتذكر لحظة اخبار والديه له بموافقة (عاصي رضا)....
عند اقترابهم من المدينة ...بدأ يخفض سرعته ولمّا وصلا مركزها...رفّ فؤادها في نقطة معينة لا تجهلها ولن تنساها ...قانون الجاذبية بدأ يدق أبوابها ...قشعريرة جسدها ستفضحها...الفضول يقف لها بالمرصاد , يحجب عقلها عن أي تفكير منطقي ...انشطرت الى نصفين ...احدهم يقول لها " هيا ألمى ..اطلبي...لن يحصل شيء...فقط ستمرّين مر الكرام"..والآخر ينهرها " ايّاك...احذري...ستجلبين لنفسك الشبهات وتندمين.."...واحد اثنان ثلاثـ..
" صـــلاح "
نظر لها يرفع احد حاجبيه بتأهب من نبرة صوتها المرتبكة ثم قال :
" ما بكِ...ماذا تريدين ؟"
ابتلعت ريقها وهمست بتلعثم :
" خـذ....خذني ...إلى .."
قاطعها بنظرة خاطفه ليعيد تركيزه الى الشارع وقال بتوجس:
" أين اخذك ؟"
استجمعت قواها لاقطة أنفاسها هامسة :
" الى المخيم...مخيم أمي.."
تيبست ملامحه وشد قبضتيه على المقود صارخاً بصوت حاول التحكّم بنبرته :
" لـمَ ؟...ما المناسبة ؟"
احتضنت حقيبتها ناظره للأمام لتهرب بعينيها وردت كاذبة تثير عطفه بنغمة حزينة:
" هذا المخيم الخاص بوالدتي ...لو طلبت من أبي لن يقبل...اريد أن القي نظرة.."
استدارت بجسدها نحوه, تضع يدها على ذراعه وتابعت بنفس النغمة :
" ارجوك صلاح...ارجوك"
هو كان يعلم سبب طلبها !!...دمه ثائر في منابعه لكنه يحاول رسم ملامح هادئة ...حاول اقناع نفسه بنفسه "ربما تكون الأخيرة ....ربما اقابله واضع حداً له ذاك المتشرد ".....
هذا على حسب ظنه !!....فكر بدهاء ...إذا منعها سيخلق فجوة بينهما وستحقد عليه وهذا سيبعد إمكانية تقبّلها خطبته لها !...قرر الانصياع مجازفاً مظهراً لا مبالاته....
عندما وصلا المخيم ...اتسعت عيناها , تنظر للمكان باندهاش...فتحت الباب , تنزل ببطء...تتقدم خطوة خطوة...تتأمل التغييرات التي طرأت عليه...تقول في نفسها "يا الله..هل غبت عمراً طويلاً ليحصل كل هذا؟"....اجتازت بوابته وهو من خلفها يتبعها باشمئزاز وتعالي على المكان....حاولت أن تمر بين البيوت وهي تستعيد طريق الخيمة في مخيلتها وحدسها يساعدها على ذلك...لحظات وظهرت لها , مكانها شامخة من بين الغرف الاسمنتية ..جحظت عيناها وشعرت بلسعة في قلبها ...اقتربت علّها تسمع صوتاً من الماضي يستقبلها ...دنت اكثر لتجدها فاقدة الحياة لا أنفاس ولا نبضات بها...استدارت تسحب خيبتها , خافضة رأسها فاصطدمت بصبي لترفع رأسها وقبل أن تسأل او حتى تشتم , لحقت به امرأة وحدّجتها بنظرات غريبة تقيّمها لمعرفتها بانها زائرة وليست من قاطنيه ...فهتفت بفضول:
" تفضلي يا ابنتي...هل استطيع مساعدتك؟؟"
حرّكت حدقتيها تبحث عن (صلاح) ...لتقدّر المسافة التي بينهما ان امكنه سماعها وعليها المراوغة ام تستطيع سؤالها مباشرة دون ان يفهم...!!...لمّا رأته منشغلاً بهاتفه جانبا سألت على الفور:
" اين أصحاب هذه الخيمة ؟!...اقصد السيدة ام هادي وعائلتها؟؟.."
شردت لوهلة بحزن والتي لم تكن سوى جارتنا السيدة(فاطمة) وأجابت بألم الحنين تخفض عينيها:
" آه يا ابنتي كم نشتاق لهم....تركونا من سنوات ...ليسعدهم الله أينما كانوا ...لكن ابنهم هادي يزورنا بفترات متباعدة من حينٍ لآخر وحتى انه هذه المرّة أطال الغيبة ...أتمنى ان يكون بخير !!"
أعادت نظرها تحملق بها وتابعت بفضول:
" من انتِ؟...ملامحك لا تخفى عليّ وكأنني رأيتك سابقاً ؟"
امالت زاوية فمها ببسمة منكسرة وقالت:
" انا ابنة شقيقة فاتن .."
شهقت متفاجئة وردت بسرور:
" نعم ...صحيح...تذكرتك ..ابنة الوزير السابق...نعم انت تشبهين والدتك رحمها الله"
أومأت برأسها ايجاباً وعادت بجعبة فارغة كما جاءت للواقف منتظراً ليكملا في سبيلهما الى قصر العنكبوت....
×
×
×
جَلَبة في قصرهم...فرحة عارمة...تجهيزات آخر فخامة من زينة وغيرها ...ازهار نادرة وثمينة وشموع من بداية الحديقة الى مدخل القصر... احتفالاً بعودتها وكأنها تخرجت من الجامعة بتفوق...كانت هذه التحضيرات مشتركة من قلبين يحبانها بصدق وما هما الّا خالتها ووالدها....دخلت بانبهار وارتمت بأول حضن قابلها ...حضن خالتها المتلهفة لرؤياها...ضحكات تصاحبها دموع الفرح ليقترب والدها يفتح ذراعيه ليضمها لصدره يقبّل رأسها ويسيرا معاً وهي تحاوط خصره ملتصقة حتى وصلت للجالسة تنتظرها ولم تقوَ للسير نحوها بسبب مرض عظام أصابها أدى لضعف بساقيها...فهي تأخذ إبر بالكاد تساعدها على السير خطوات قليلة واهنة....اندفعت تجلس القرفصاء أمامها ...تمسك يديها ..فحررت الجالسة احداها ووضعتها على شعرها تمسّد عليه بحنان وعيناها اغرورقت بالدموع هامسة لها :
" اشتقت لك صغيرتنا واميرتنا ....كم اصبحتِ شابة جميلة....وكأن والدتك رحمها الله عادت الينا.."
انهمرت الدموع من سماء عينيها المحمّلة بمشاعر مكبوتة من سنين بين التوق والشوق لهم والألم على فقد والدتها...اتكأت برأسها جانبا على ساقيّ مربيتها وهمست بأسى :
" آه خالتي سهيلة لو تعلمين مدى اشتياقي لكِ واحتياجي لحضنك وكلماتك الحنونة..."
رفعت رأسها وتابعت تسال بقلق:
" كيف انت الان؟؟...هل تشعرين بالألم؟"
أجابت مبتسمة بحنوٍ:
" الحمد لله على كل حال بنيتي....هذا قضاء الله...علينا الصبر على ما اعطانا ليبشرنا بالخيرات بإذنه.."
بعد قليل تركت الجميع لتصعد لغرفتها التي اشتاقت لكل زاوية بها منذ غيابها عنها لتستريح وتنتظر احتفال المساء...
~~~~~~~~~~~~~~~
ضربتُ المنبه الصغير بجانبي ..لأنه صدع رأسي ...استمريت بالنوم لأسرق دقائق أخرى دون وعي ما الوقت الآن.....انقضت ساعة أخرى على هذا الحال وانا ما زلت اشعر باحتياج اكبر للنوم...اريد ان اشبع منه ...لقد سهرت كثيراً الليلة الفائتة...ليس بسبب دراستي فلقد انتهيت منها منذ سنتين ولا بسبب صفقة عملت عليها طوال الليل .....انما سهرتُ حاملاً سمائي بين يديّ أتوعد لها بعد معرفتنا بموعد قدومها اليوم الى هذه البلاد ...مشاعر مختلطة داهمتني ...بين انقباض القلب وانبساطه وبين رجاحة العقل وغبائه...اتساءل ما الخطوة القادمة وماذا ينتظرنا من المجهول ..!!
دخلتْ من استغربت تأخري في النزول للإفطار...دنت من فراشي بحنان تجلس القرفصاء , تمسد على شعري القصير هامسة برقة:
" انهض عزيزي هادي...الساعة اوشكت على العاشرة.."
فززت جالسا دافعاً الغطاء عني .. لا أعي شيئاً ودوار يلازمني ...التفت من حولي افرك عيني لاستوعب اين انا وبعد برهة من الزمن , همست بصوت اجش:
" اشعر بالدوار خالتي...لم انم جيداً"
قالت بنبرتها الحنونة:
" حسنا بنيّ ...يمكنك الاستمرار بالنوم ...ساتركك ترتاح قليلاً فباقي ساعتان لصلاة الجمعة .."
" لا خالتي....سأستحم واخرج ...لديّ مشوار وبعدها اذهب للصلاة.."
لوت فمها غامزة بمكر هاتفة:
" هل المشوار يخص صاحبة العقد الملقى على فراشك ام شيئاً اخراً؟"
حككت عنقي بتملص مغمضاً عيناً وفاتحاً الأخرى ببسمه مائلة محرجاً:
" لا ابداً....مشوار اخر..سأخبرك به عند عودتي....اما هذا اخرجته لأتذكر مهمتي..!!"
ثم نهضت موليها ظهري مدبراً للحمام أجهز نفسي....
×
×
×
بعد خروجي من البيت اتجهت الى شقته , أقف خلف الباب , انتظر فتحه...
" يامن..؟"
نطق اسمي متفاجئاً من وجودي وتسمّر فارغاً فاه ..جاحظ العينين للحظة وهو يرتدي بنطالاً قصيراً وقميصاً داخلياً بشعر اشعث..
هتفت ساخراً منه:
" هل ترى شبحاً امامك ا؟؟....ام انني امسكتك متلبساً يا هذا ؟....الن تدعوني الى الداخل..؟"
أرخى ملامحه عائداً الى الواقع وقال متثائباً بكسل متهكماً:
" ادخل ...ادخل....هذه لحظات تسجل بالتاريخ...السيد يامن الهاشمي بفخامته يزور بنايتنا..."
ضربته على كتفه بقبضة يدي وقلت ببرود:
" أولا نحن لوحدنا ...قل هادي....ثانياً انت من كنت تمنعني من زيارتك بحجة انها شقة اعزب وحالها يرثى له.."
ولجت الى الداخل أجلس على اريكة في وسطها وفوضى عارمة تحيط بي...بقايا اطعمة وملابسه العمل ..كل قطعة في جهة ...بيت بسيط جداً...
أقبل اتجاهي بعد ان بدّل ملابس النوم وضحك ساخراً من نفسه :
" لا تهتم للزلزال من حولك ..ستأتي غداً عاملة النظافة "
احنيت ظهري متكئاً بمرفقيّ على ساقيّ شابكاً اصابعي وقلت:
" لمَ لم تنتقل الى شقة أخرى؟...لقد قبضت مبلغاً محترماً فور التحاقك بشركتنا وتأخذ معاشاً يمكّنك الإقامة بأحد الاحياء الراقية..والقادم اكثر بإذن الله.."
أجاب :
" اريد ان اشتري الشقة في بلادنا بعد ارتباطي بابنة الحلال لنختارها معاً وندخلها سوياً...اما هذه فتليق بأعزب فوضوي مثلي.."
تنهد ناظراً للسقف فاقدا الأمل مردفاً:
" آااه ....لكن اين هي ابنة الحلال تلك ؟"
قلت مهتماً بجدية:
" الم تجد لك والدتك واحدة الى الان ؟"
أجاب محبطا:
" يبدو ان ارتداء النظارة لا يناسب ذوق الفتيات في هذه الأيام.."
قاطعته بحدة:
" ثق بنفسك بلال...اصبحت بالخامسة والعشرين وما زلت لا ترى نفسك ونجاحاتك...لربما هن الخاسرات ولربما سيرزقك الله بالأفضل لك...لا تيأس من روح الله "
أسندت ظهري الى الخلف واضعاً ساقاً على الاخر وقلت مبتسماً:
" سأعرّفك على عروس جميلة , خلوقة , ترتدي نظارة تزيدها جمالاً وبراءة .."
قفز متلهفاً لم يصدق ما سمعه وكأنه طفل صغير وعده والده باصطحابه لأكل المثلجات وهتف بسعادة وفضول :
" من ؟..اين؟...ماذا تنتظر ؟...هيا خذني اليها "
ضحكت لظرافته واردفت قائلا:
" مهلا يا هذا....اثبت مكانك...أتريد ان تفضحنا بلهفتك هذه؟......على كل حال انتظرني مساءً حتى اخذك للتعرف عليها وعلى عائلتها.."
نهضتُ من مكاني بكل ثقة ,هيبة ووقار وأشرت له بسبابتي من اعلى الى اسفل آمراً:
" تأنّق جيداً واشترِ باقة ورد تليق بها .."
اخذتُ طريقي خارجاً من الباب , تاركاً صديقي بلال ليعيش فرحته سائلاً الله ان تكتمل لانهما يستحقان الأفضل كلاهما...
×
×
×
في المساء مررت اليه مجدداً لاصطحابه الى منزل الفتاة ..كان يرتدي بنطالاً من القماش الأسود مع قميص ابيض لاق بجسده الذي تحسّن بعد اشتراكه بنادي اللياقة البدنية ...شعره الأسود مصفف بأناقة ونظارته التي لا تفارقه بزجاجها الشفاف من غير اطار التي ابرزت الخضرة في عينيه , ممسكاً بباقة كبيرة ,جميلة من الورد الملوّن وتوجهنا الى عنواننا ..
دقيقتان وفتحت لنا الباب ...فقفزت بلهفة صارخة :
" أخـــي هاادي عندنا .."
التفتت الى الداخل تنادي على القريبة منها :
" تعالي سلمى ..جاء لزيارتنا اخي هادي "
والقت بجسدها الصغير بين احضاني تسألني عن شقيقها بالرضاعة (شادي)....لحقتها الأخرى لتطلّ من الباب وهي ترتدي أسدال الصلاة الموردة بالأحمر بخلفية سوداء ونظارتها مثبتة على عينيها السوداويتين الكبيرتين الجميلتين اللتين تحفهما رموش كثيفة , فرمقها الواقف بجانبي بنظرة اعجاب بكل جسارة ...وماذا كنت أتوقع من شخص متلهف للارتباط؟؟!!....وددت لو ضربته على عنقه ليتصرف برزانة وهيبة لكني مسكت نفسي محافظاً على كرامته امامها ...اما هي نظرت لي ومن ثم له بلا مبالاة دون ان تنبس ببنت شفة...طال الصمت والانتظار على الباب فتنحنحت مستأذناً:
" هل سننتظر هنا كثيراً يا سلمى ؟"
رمشت بعينيها هامسة بحياء:
" تفضل اخي هادي انت والسيد...البيت بيتك"
بعد ان دلفنا الى الصالون رحّبت بنا الخالة (ام سلمى) ترمقنا بنظرات استغراب وفضول...قدّم لها (بلال) باقة الورد باتزان وابتسامة نقية كنقاء قلبه ...تبادلنا الاحاديث وبدا في عينيها الحزن من وحدتهم بعد عودة اهلي للوطن وكذلك انشغال خالتي بزوجها....تركتنا لتقدم القهوة فأحنى ظهره نحوي مبتسماً , هامساً بتوتر :
" ما هذه الفتاة يا اخي...وجهها كالبدر ما شاء الله.....يارب اكتب لنا النصيب..فانا اثق باختيارك "
قاطعتنا بقدومها تحمل القهوة لتضيفنا ......بعد انتهائنا من شربها , فتحت الموضوع مباشرة من غير لف ودوران , معرفاً على صديقي ...فهو عيّن المسؤول عن كل ما يخص الالكترونيات والبرامج المحوسبة والشبكة العنكبوتية بكاملها في شركتنا بالإضافة بما يخص عالم الحاسوب في المعسكر خاصتنا لتفوقه بهذا المجال الذي ابدع به بحق لشغفه له...وهو يعيل والديه البسيطين واخته الصغرى ابنة العشر سنوات وتمنى الزواج لأجلهم , لتكون له زوجة تساعده بالاعتناء والاهتمام بهم ويفكر في العودة لبلاد الأم للاستقرار بها وسيعمل في شركاتنا وهناك يملكون أراضي زراعية , تركوها ونزحوا قبلنا الى هذه البلدة هروباً من دمار الحرب وأهله يقطنون في بناية تتواجد بها عمته المقيمة هنا في مدينة مجاورة ...شرحت لها كل هذا وبعدها أدليت بطلبي بكل احترام بما في ذلك ان بارتباطهما سيعدن للوطن وتركت لهن المجال ليقررن على راحتهن وان تعلماني بذلك في اليوم التالي....
×
×
×
تحدّثتْ مع ابنتها ولم تعارض مبدئياً لربما لأن صديقتها فعلتها من قبلها وأيضا سيكون فرصة ليجتمعن بعائلتي , لكنها لم تتسرع بالإجابة ايضا وارادت الاستخارة وحسبها ستقرر...!!
~~~~~~~~~~~~~
بسط الليل رداءه وأُشعلت الأضواء في قصر العنكبوت ليستقبلوا المقربين منهم ليشاركوهم فرحتهم بعودة اميرة القصر وفي حفلة يوم ميلادها خاصة...
ارتدت (ألمى) فستاناً باللون الكموني , بسيط التصميم , ثمين السعر , طويل الهيأة بأكمام ضيقة تصل المرفقين , يلف خصرها النحيل حزام جلديّ بلون التراب مع حذاء بكعب عريض يتناسق مع لون الحزام ....شعرها مطلق على ظهرها ويطوّق رأسها اكليل ورد ناعم صغير باللونين الأبيض والاصفر تحتار مَن الورد بينهما !...
حضر الحفل الشركاء الثلاثة في صفقة العمر مع زوجاتهم الّا عائلة السيد (رائد السيد) يتقدمهما ابنهما أمير الحفل ليتوّج بجانب أميرته....كان (صلاح) يرتدي حلّة شبابية فاخرة من اشهر الماركات العالمية بلونها الكحلي ....جلسة على آخر طراز لأناس اشتركوا بسفك الدماء وتشريد أبرياء دون أن يهتز لهم جفن!!....
تقلّصت الجلسة في نهاية السهرة لتقتصر على العائلتين ....كانوا يتواجدون في غرفة الضيوف يتسامرون مع قهقهات ....يجلس السيد(رائد) على اريكة زوجية , يضع ساقاً فوق الاخر , يسند ظهره ناصباً كتفيه بتباهي فأشار الى (ألمى) بدلال أبوي هامساً :
" تعالي الى جانبي عزيزتي ألمى.."
تهافت قلبها من طلبه الذي بدا اكثر قرباً وتعمّقاً وكأنهما معتادين عليه من الماضي !!...فمنذ معرفتها بهم كان (صلاح) هو الأقرب لها... أما والديه لا يعنيان شيئاً لها وما بينهما مجرد كلام عابر برسمية .....
نهضت من مكانها بتوجس , تنظر الى (صلاح) , ترمقه بنظرات تساؤل علّه يوضح لها شيئاً لتتصرف وفقه لكن لا تلميحات تصدر منه .....دنت من الذي ناداها وجلست بحياء راسمة ابتسامة مجاملة ثم همست :
" تفضل عمي..."
مدّ يده للجيب الداخلي لجاكيته وأخرج علبة من المخمل الكحلي بكل أناقة وتفاخر...فتحها ليمسك بحذر بأنامله العريضة عقد ألماسي بثلاث سلاسل تتدلى فوق بعضها والوسطى بينهن تحمل قلب ذهبي مرصّع بالألماس ...مسك أطرافه ليقربه من عنقها فابتعدت بعفوية بظهرها شاهقة , معترضة لمعرفتها بقيمته وقالت :
" ما هذا يا عمي ؟؟...أنا لا أقبل....هذا ثمين جدا لا داعي له ..أشكرك "
فأجابها على الفور بهدوء :
" لا يغلى شيء على عروس ابني "
تسمّرت مكانها وكأن أحدهم ضغط على جهاز التحكم ليوقف صورة العرض للحظات...بدأ وجهها يكسوه الأحمر القاتم كميزان الحرارة الذي يصعد تدريجياً حتى يصل الحد الأقصى من الاشتعال وحدقتاها تهتز بمقلتيّها دون تحكّم.....بعد أن قام عقلها بترجمة ما سمعت...أعيد تشغيل الصورة لتتحرك منفعلة صارخة بصدمة:
" مـاذا؟؟ "
وانصرفت بخطى سريعة , تصعد السلالم بقفزات للأعلى لغرفة خالتها(فاتن) حيث تتواجد بها والتي لم تكن تعلم بما يدور في الأسفل من مفاجآت الّا بعد ان صدمتها ابنة شقيقتها بذلك ..!!
القت لها القنبلة وهي تجول ذهابا وإيابا في غرفتها , تحرّك قبضتيها على بعضهما بتوتر , تقترب من النافذة , تضع يدها على خصرها ومن ثم تنزلها , تدنو من الباب تتأفف حائرة , ولم يكن هذا الّا لشوقها واحتياجها لكلمة امل من الجالسة تراقبها ولم تنبس باي حرف من صدمتها!!....تنتظر بصيص رجاء صغير من بين شفتيّها لتنهاها عن الموافقة ولتخبرها بانتظار من طال الشوق إليه وغلّفته بقلبها...لكن ابداً , ما هذا الّا خيال وهمي لا يمت بصلة لواقعها... !!
ثبتت بوقفتها أخيراً مقابلة لها , استجمعت قواها , تمد يدها , هاتفة بجرأة :
" اعطيني هاتفك.."
رمقتها بملامح مبهمة وقالت :
" لم تحتاجينه ؟؟!!"
اجابت :
" أنت ما زلتِ تتواصلين باهل المخيّم وهادي ..أليس كذلك؟"
ردت:
" ما دخل هذا بموضوعنا ؟؟"
قالت في الحال :
" اريد أن اسمع صوته لمرة ..لأستطيع أخذ قراري!!"
هبّت واقفة باستهجان ترميها بكلام لاذع :
" أأنت مجنونة ؟؟...ما هذا الذي تهذيه ؟..الا تخجلين ... هل ما زلتِ عالقة هناك بعقلك الصغير هذا ؟؟....غير معقول ما تفعلينه ....ثم انك لا تحتاجين لسبب للرفض سوى دراستك الجامعية ويكفي!!.."
كانت تشعر نفسها كالدائرة المعلّقة على الحائط بلعبة الأسهم الحادة وخالتها تلقيها عليها بعشوائية لتصيب ما تصيب...بدأت تنزف من الداخل قهراً.... لا احد يفهمها... لا احد يشعر بها ... لا تريد شيئا من الحياة الّا الحضن الآمن والاحتواء ...لمَ يستكثرون عليها هذا ؟!...لكنها قررت قبل عودتها الى هنا ان تكون قوية لا تسمح لاحد بكسرها ولا ان يشمت بضعفها واوجاعها ...فاستعادت رباطة جأشها باحترافية وسمائها تغطيها السُحب التي لم تستطع طردها , كتّفت ذراعيها على صدرها مرفوعة الهامة , تشيح وجهها جانبا بارتفاع رأسها بعنفوان :
" دراستي لا تعيق ارتباطي بأي شخصٍ كان ...أعلم عن فتيات في سني ومَن اصغر مني وهن مرتبطات دون زواج حتى انهاء دراستهن .."
اطلقت ضحكة خذلان مبتورة وقالت :
" اذاً انت موافقة..؟"
اجابت بثقة:
" لم أقرر بعد ...سأذهب لغرفتي واتخذ قراري "
ولّتها ظهرها وخرجت بثبات حتى اجتازت بابها في غرفتها تغلقه وتلقي نفسها على فراشها لترخي عضلاتها وتطلق العنان لكل خلية في جسدها ان تنهار بعيداً عنهم..!!
بعد دقائق عدّلت جلستها وشردت بالأرض!!...بدأت الأفكار المبعثرة تطرق عقلها ...لا تعلم ماذا تقرر!!...كيف ترفض؟..لا تريد خسارة صديقها المقرّب ولكنها لا تشعر اتجاهه سوى بالأخوة والصداقة...تقول في سرها " برفضي أخسره والأكيد انني لن أفوز بالآخر وسيبقى ذكرى جميلة من اعجاب الطفولة البريئة ...لكن!!..لمَ ما البث ان ازيحه من بالي الّا ويعود ليسيطر بقوة على مشاعري ؟!! "....
هي لا تعلم ان كان هذا اعجاب لتعطّش طفلة لأحضان واهتمام وشعور بالأمان من روح ذكورية التي افتقدتها من والدها أم انه شيء أكبر يخفيه لها المستقبل ...كان حواراً , طويلاً وسريعاً في داخلها ....
كانوا في الأسفل كمن سكب عليهم الماء البارد بعد ان تفوّه بهذا من غير مقدمات فقاطع صدمتهم مستغرباً بسؤال:
" ألم تخبروها بالموضوع ؟"
رمقه (عاصي) بنظرات فارغة وتمتم محرجاً من تصرف ابنته :
" لم يكن وقت لإخبارها ...انت ترى التحضيرات التي انشغلنا بها....لكن لا تهتم هي تفاجأت فقط. .."
قاطعهم من كان يجلس يراقب الوضع بصمت ..هاتفاً:
" اسمح لي يا عمي بمحادثتها لوحدنا في هذا الموضوع.."
قال:
" حاول واذا لم تفلح ..لا تضغط عليها واترك الامر لي .."
في الأعلى بعد ان انتهت من حوارها ...اتجهت لتبدّل ملابسها فالتفتت فجأة الى الباب بعد سماعها طرقات خفيفة ..أذِنت لمن خلفه بالدخول وابتسمت مجبرة فهمس لها بصوت متماسك:
" اسمحي لي بالحديث معك .."
اومأت له ايجاباً وخطت نحو سريرها , تجلس على طرفه ثم أشارت له بيدها ليجلس على الأريكة القريبة من النافذة...استجاب لها في الحال ثم تنحنح قائلاً:
" لم اشأ ان تكون معرفتك بهذا بتلك الطريقة من أبي...لكني التمس له العذر بسبب حماسه الكبير...وكذلك.."
رفعت كفها تقاطعه في منتصف حديثه مغمضة العينين وقالت ببرود:
" ليست مشكلتي بأسلوب والدك وحماسه.."
علا صوتها ليصبح اكثر حدّة وتابعت:
" مشكلتي هي انت...كيف اخفيت ذلك ونحن في طريقنا الى هنا معاً وانا اجزم بمعرفتك السابقة لهذا!!...ثم...ثم ماهي المشاعر التي تشعر بها اتجاهي؟...ألسنا أصدقاء وأخــ...."
زفرَ صارخاً بصوت معتدل :
" يكفي.... لا تقولي اخوة...انت من اقنعتِ نفسك بهذا وأنا غير مضطر لأبادلك نفس المشاعر...أفيقي من سباتك...ألم يدلك اهتمامي المفرط بكِ على شيء أقوى وأسمى ؟؟"
أجفلت من صوته وردت بتوتر:
" أ..أنت ....أنت تعلم كم احبك وماذا تعني لي...لكني لم افكر يوماً ان نكون زوجين.."
تابع صارخاً:
" وهل تفكرين في آخر ليكون زوجاً لك؟؟...انت لم تخالطي شاباً غيري لأعلم أين تميلين ...الّا ....الّا اذا ما زلتِ بعقلك الصغير..."
جحظت عيناها واضطربت أنفاسها وسألت بتوجس:
" ما زلت ماذا؟"
حدّق بنظرة نارية بعينيها وقال :
" انت تعلمين جيداً ماذا اقصد ...كفاكِ تلاعب!!..وهل ظننتني مغفلاً بطلبك للذهاب الى تلك البقعة النجسة ؟؟"
لم تتمالك نفسها وأجهشت بالبكاء وهي تحجب وجهها بيديها فاعتصر الألم قلبه لكنه لم يشأ تهدئتها فوراً لعلّها تفوق من سباتها الوهمي وتعيش الواقع بحلوه ومرّه ...نهض بعزم من مكانه ودنا منها آسفاً وقال بنبرة جدّية:
" سأنزل إليهم وأخبرهم ان ينسـ..."
رفعت رأسها بذعر وامسكت كف يده قبل ان يكمل وقالت برجاء:
" انتظر ارجوك....انا تائهة لا اعرف ماذا اقرر...انا اريد ان اعيش حياة جميلة وأريد ان انسى الماضي بآلامه ....لو كنت شخصا اخرا لما ترددت لأنني اعلم اذا ارتبطت يمكنني الانفصال بسهولة ان لم نتفق...اما انت فلا...علاقتنا اكبر من ذلك...نحن متفقون كأصدقاء...وأخشى الّا يدوم هذا بارتباطنا كزوجين ونخسر بعضنا البعض للأبد.."
شقت ثغره بسمة أمل وجلس القرفصاء محاذياً لها , يمسك يدها وهمس بِوله ضائعاً في عينيها :
" اعدك انني سأحاول اسعادك قدر استطاعتي...وان لم نتفق واردتِ الانفصال فسيكون لكِ هذا من غير خسارة لصداقتنا....فقط اعطني فرصة..!!
كفكفت دموعها التي كانت تملأ محجريها وقالت بابتسامة واهنة:
" لكن لن يكون زواج قبل وصولي سن العشرين ..!!"
اومأ بابتسامة محب , عاشق وربّت على كتفها قائلا:
" طبعاً.....انا أيضا هذه اخر سنة لي في الجامعة ومشوار طويل امامي لأثبت نفسي.."
نزلوا يزفّون الخبر لمن كان ينتظرهم على أحر من الجمر تاركين خلفهم التي تعتكف في غرفتها شاردة , مشتتة , مكسورة , لا تعلم اطلاقاً كيف ومتى ستخبر حلفائها بإحباط وفشل مخططهم بالتقرب للمدعو (عاصي رضا).....؟؟!!
~~~~~~~~~~~~~~
هي راحة وطمأنينة يضعها الله في قلب من التجأ إليه في حاجة احتار بأمرها وكانت خيرٌ له....
نهضت من فراشها بخفة لم تعهدها وكأنها تريد ان تحلق بعيداً الى أرض السعادة ...أتاها هذا الشعور بعد ان صلّت ركعتيّ الاستخارة ونامت ....لم تمهل والدتها فرصة لتسالها... بل كانت أول من بادرت في فتح الموضوع من نهايته هاتفة بحماس:
" أمـــي أنا موافقة .."
ابتهجت (ام سلمى) وانشرح صدرها من ردّ ابنتها ..انقضّت عليها تلحفها بجسدها من فرط سعادتها بها...انضمت (سلوى) اليهما تقفز وتحتضنهما دون ان تفهم سر الاحتفال وبعد ان فرّغت طاقتها , هتفت ببلاهة:
" بماذا نحتفل يا ترى؟؟"
نظرتا الى بعضهما وتعالت ضحكاتهما على الصغيرة...ردّت (سلمى) وهي تقرصها من خدّيها الشبيهتين بحبتيّ التفاح :
" سوف تجتمعين مجدداً بأخيك شادي....سنستقر اخيراً بارض الوطن ان شاء الله .."
عادت الصغيرة للقفز مجدداً بنكهة أخرى وحماس أكبر ...وجاء رنين الهاتف ليقطع عليهم احتفالهم هذا...كان الوقت مبكراً للسؤال عن القرار ..حتى كنت انا انتظر اتصالهم ...لكن ما ذنبي وصديقي الأبله يتصل بي من السابعة صباحاً , يلّح عليّ مصمماً لمعرفة ردّهم ؟!...لم ينفك عني الّا بعد وعدي له بالاتصال بهم في العاشرة ....وبعد مكالمتي لهم لم أتوانَ عن مكالمته لأريح باله واخبره بجلب عائلته لطلب يدها وعقد القران....
~~~~~~~~~~~~~~
تتقلّب في فراشها ...بدأت تعود الى واقعها رويداً رويداً لتتأكد انها فعلاً في قصرهم وتحديداً بغرفتها , تحتضن مخدتها في بلادها ....رفعت القسم العلوي من جسدها , اخذت تتحسس غطاءَها , تنظر هنا وهناك بعينين ناعستين ...تنهدت ورفعت يديها تتمطى , ازاحت شعرها المبسوط على كتفيها الى الوراء ....مدت يمناها لتغلق المنبه الموجود على المنضدة جانب سريرها قبل ان يصدح برنينه المزعج !!...وفي هذه اللحظة كأن شخصاً غير مرئي صفعها بقوة بعد انتباهها للخاتم ببنصرها متذكرة ما حدث بالأمس....!!
ألقت الغطاء عنها جانباً...اندفعت خارجة من غرفتها وهي ترتدي فستاناً بيتياً , قطنياً , قصيراً باللون الرمادي الفاتح عليه رسومات كرتونية ...اسرعت بخطاها حافية القدمين ..طرقت طرقتان على باب غرفة خالتها ثم دفعته لتجدها جالسة على كرسيها الخشبيّ جانب النافذة , ترتدي نظارة القراءة والصحيفة بيديها ...دلفت للداخل وتوقفت فجأة فور التفافها نحوها ترمقها بنظرات لا تفهمها ولم ترها سابقا في عينيها !! لتهمس بنبرة منفرة :
" هل هنالك شيء ؟؟"
زلفت ببطء تخفي يدها اليمنى خلف ظهرها وهمست ببراءة :
" صباح الخير خالتي...هل يمكنـ..؟؟"
بترت سؤالها عند رؤيتها النظرات الحانقة , الحارقة اتجاهها ....استدارت بجسدها تخطو الى الخارج منهزمة , فنادتها خالتها بجمود:
" ألمى.."
وقفت ناكسه رأسها تستمع لها دون ان تستدير للوراء...فأردفت:
" اكيد لم تأتي مندفعة لتلقي التحية الصباحية فقط.!!"
التفتت اليها محطمة وهمست متألمة بصوت متحشرج:
" لمَ لم تفرحي لخطبتي خالتي ؟؟"
أجابتها بجفاء :
" وهل يهمك فرحتي كثيراً؟؟...قررتِ ونفذتِ وأنا أتمنى لك السعادة أينما كنتِ وبما اخترتِ...نقطة وانتهى "
خطت اتجاهها تجثو على ركبتيها امامها تمسك يديها وترجوها بضعف:
" انا احتاجك خالتي....ارجوك لا تعامليني بجفاء...لم اعتد على ذلك منكِ."
لم تصبر ولم تتحمل الاستمرار بقسوتها ..رقّ فؤادها لها ...هي صغيرتها التي تحملت الكثير من اجلها ..انسابت دموعها رغماً عنها ألماً على حالها وعلى مصيرها في حياتها البائسة التي تسحبها من مكان وتقذفها بمكان آخر , دون هدف , طائشة , خاوية بمستقبل مكنون المعالم !! فهمست بخفوت بعد تنهيدة هربت من اعماقها :
" آااه صغيرتي...ليرزقك الله راحة البال والسعادة.."
صامتة ودموعها تتكلم عنها , غصّات تختلج صدرها ...لا تعلم ماذا تقول وبمَ تعبّر او ماذا تفعل وكيف تتصرف ...تحدّق وسماءيها غائمتين حزناً عليها وهي لا تعرف الطريق الى الخلاص....
رأفت لرؤية الانكسار بوجه صغيرتها فمدت يدها لتخفض لها رأسها في حضنها وبدأت تمسّد على شعرها , تداعبه بحنان فنطقت الصامتة بكلمات بالكاد تُسمع:
" هذا ما احتاجه خالتي...كأنك تفهمينني من غير كلام!!....كنتُ احتاج لهذه اللحظة بالفعل.."
بعد دقائق قليلة , استقامت واقفة وخطت الى الوراء لتصل فراش خالتها القريب منها ....جلست مقابلة لها وقبل ان تنطق حرفاً , علا رنين الهاتف الموجود خلفها مباشرةً فأجفلت من صوته والتفتت لتتشنج يدها قبل ان تلتقطه بعد رؤيتها اسم يسطع على الشاشة لم يكن في البال ولا في الخاطر هذه اللحظة فسألتها خالتها :
" من ألمى..؟"
نظرت لها ومن ثم الى الهاتف ثم مرةً أخرى لها واجابت متلعثمة وملامحها مندهشة :
" هـ..ها.....هادي يـ.. يتصل بكِ "
نهضت من كرسيها بهدوء مع توقف رنينه وقالت ببرود:
" لم تستغربين؟...انت تعلمين فيما بيننا ....لا بد انه سيخبرني بالجمعية الجديدة الخاصة بالمخيم !!..."
التقطت الهاتف من خلفها لتعيد الاتصال..
" أُسعدت صباحاً هادي......نعم ..هل سوّيت الأمر؟؟
قلت:
" صباح النور...كل شيء جاهز , فقط تواصلي مع السيد ماجد وهو سيعلمك بباقي التفاصيل..."
ظلّت جالسة مكانها دون حراك اثناء مكالمتنا , تحاول الثبات على ملامحها المنبسطة وكأن لا شيء يهزّها...تمد ذراعها أمامها تتأمل خاتمها الملتف ببنصرها لتظهر لخالتها عدم اهتمامها وانها راضية باختيارها ...لكن...داخلها براكين تفور تكاد تنفجر , لتصهر العالم من حولها ... نيران تتأجج لا يمكن السيطرة عليها تحرق الأخضر واليابس...لو ألقت نفسها بالبحر ..لا بل بالمحيط الهادي والهندي والاطلسي والذي لم يكتشفوه بعد لما انطفأت هذه الحرائق المشتعلة في احشائها !!...ترغب بشدة لو تحصل معجزة الآن وتسمع خالتها تقول لها " هادي يسأل عنك...يريد ان يكلمك ويراكِ "...لكن هيهات هيهات ..الحلم شيء والواقع شيء آخر...!!
بعد انتهاء مكالمتنا التي لم تتعدّى الثلاث دقائق , خانها لسانها دون ذنب لها فهذا بفعل الدخان المتصاعد داخلها فقالت بحماقة وبثبات مصطنع وعيناها ما زالتا على خاتمها الثمين:
" صحيح خالتي...لم تجيبيني في الماضي...ماذا يعمل ذلك الهادي...؟"
اجابتها ببرود ولا مبالاة :
" يعمل محاسب...ويلتفت لحياته التي اختارها مثلك تماماً "
اخذت نصف الكلام الأخير ولم تستوعب النصف الذي اهتمت بمعرفته...ولم تعد تتحكم بثباتها المزيّف كاشفة دواخلها هاتفة بصدمة:
" ماذا؟؟...يعني هل خطب ؟؟....لا مستحيل...غير ممكن !.."
ردت بمكر ناظرة لعينيها:
" لا يوجد شيء مستحيل ...ربما سيفعلها قريباً ان شاء الله "
جرّت أقدامها خارجة من غير تعليق مستسلمة رغماً عنها لنصيبها.....
×
×
×
خلال هذا اليوم , اتفقت مع (صلاح) ليرافقها الى احد المجمعات الكبيرة لتشتري ما يلزمها من ملابس وغيرها استعداداً للجامعة ....
~~~~~~~~~~~~~
تم عقد قرانهما وحزموا امتعتهم وما يحتاجون للرحيل دون تضييع للوقت ...قمت انا و(بلال) بكافة الإجراءات الرسمية بما يخص العائلتين وجاءت اللحظة التي يغلقون بها شققهم ويضعون حداً لشتاتهم ولجوئهم بعد عشر سنوات مضت بلمح البصر وكأن الهجرة كانت في الخريف الفائت وأقبل الربيع علينا لتعود الطيور المهاجرة إلى أعشاشها....!!
~~~~~~~~~~~~~~
دخلتُ مكتبه بتوجس ورهبة , وجهي بملامح مبهمة وداخلي تجول الهواجس بعد أن اتصل بي بنبرة مقلقة تضني الاعصاب , يطلب مني العودة الى المنزل في الحال لأمرٍ هام بينما انا كنت في عشاء عمل مع مدراء الأقسام في الشركة....اقتربت من مكتبه حيث يجلس على كرسيه الوثير الضخم , يسحب من سيجارته بنهم ثم ينفث الدخان بغيظ في حالة بتّ اعرفها ..فهو لا يستخدم السجائر الّا اذا كان في حالة توتر شديد..!!....همست بخفوت رجولي بعد السلام :
" خيرٌ ان شاء الله يا ابي ؟!..لقد اقلقتني.."
ألقى ما بيده في مطفأة السجائر الموجودة امامه..يضغط عليها بشدة علّه يحرر من ضغطه الداخلي ثم رفع رأسه متحدثاً بصوت أجش :
" متى موعد صفقة الوغد عاصي رضا بالضبط ؟؟"
رمقته بنظرات استغراب وانا جالساً ناصباً ظهري واثقاً باجابتي:
" بعد اسبوعين...!! لمَ تسأل؟!,,,,هل هنالك خطب ما ؟"
نهض بتثاقل من مكانه بجسده الضخم الذي لم يتأثر من تقدم العمر واتجه للنافذة , يبعد طرف الستار لينظر الى الخارج ثم نطق بصوت جهوري:
" ها هو أتى..."
↚
" من ؟"
" السيد ماجد.."
دلف الينا بوجه شاحب يعتريه الوجوم , معتذراً عن لقائه المفاجئ من غير ميعاد وبعد التحية جلس مقابلاً لي بريبة , نظراته وجلة ليقطعها من كان شديد التوتر هاتفاً:
" نعم ...اخبرنا ما عندك....لمْ تقل لي الّا *يبدو ان مخططنا لا داعي له وسنجد مخططاً آخراً*.....ماذا حصل ؟"
فززتُ منتصباً ,عاصفاً , زافراً انفاسي بسخط , احدّجه بنظرة قاتلة صارخاً:
" مســتحيل...ما هذا الهراء الذي تقوله ؟.....ننتظر أسابيع واشهر دون فعل شيء لتأتوا بهذه البساطة وتقولوا لا داعي له وسنجد مخططاً اخراً لا اعلم كم سيستمر تنفيذه ! ...هل هو ايام او ربما سنوات وسنموت وسيموت الكلب دون اخذ حقنا منه .؟؟!!"
كان يستمع لي بهدوء تام لدرجة انني ظننت انه بارد المشاعر او لم يصغِ لي من الأساس !!.وبعد انتهاء كلامي نفخ اوداجه ضارباً بقوة ذراعيّ الاريكة الجالس عليها بقبضتيه ووجهه محمراً رغم سمرة بشرته وصرخ غاضباً :
" ما بوسعنا ان نفعل وابنته ألمى ستتزوج !! ؟"
نسختنان متشابهتان في ردة الفعل بعد ان اتسعت عيوننا وسكنت حركتنا بأفواه فاغرة من هول ما سمعنا انا وابي (ابراهيم) مما نطق به للتو...لكن تمهّلوا !!....هذه الصورة الظاهرة لكلينا ...أما باطني دقت طبول الحرب لتبدأ معركة عنيفة , دامية , لا قوانين لها , لا ترحم بشراً ولا حجراً بعد قصف قلبي بقنبلة نووية شلّت نبضاته ومشاعره ...أبهذه السرعة سيزوجها؟!...هل سيسلمها لغيري بكل بساطة؟!...لا يمكنه الانتصار علينا!!!...كان هذا تساؤل قلبي المحتضر ليطرق بعدها عقلي بمطرقة المحكمة معلناً..." إياك والاستسلام لمشاعرك الخائنة...هي لا تعني لك شيئا غير صفقة انتقام ..ما بالك انتفضت هكذا كمن صعق بالكهرباء ؟..فلتتزوج وتذهب للجحيم ..يمكننا وضع خططاً أخرى ..تريّث واهدأ أيها الهادي ".....
انتشلني من معركتي صوت الذي قال بصدمة:
" كيف ومتى ومِن مَن ؟..لم يمر أسبوع على قدومها للبلاد !!.....والسيدة فاتن....هل وقفت صامتة , تتفرج او ربما تصفق لها وتهنئها !!؟؟"
أجاب بضيق:
" خطبها ابن رائد السيد فور عودتها والسيدة فاتن لم تكن تعلم بهذا ...حتى ابنته تفاجأت رغم قربها منه وقضائها معظم الأوقات معه "
القيتُ مفاتيح سيارتي بعنف على الأرض وخانني لساني بعد سماعي ما قال وصرخت منفعلاً:
" مســـتحيل ...لن يتم الزواج...سأفعل ما بوسعي ....كلبة ...كلاب.."
نظرا لي ثم لبعضهما دون ان يفهما شيئا من ردود فعلي الغبية فاستأنف بكلامه :
" سيعقدون القران بعد أسبوع ونصف ولن يكون زواج رسمي الا بعد بلوغها العشرين ..اي ستبقى في بيت والدها حالياً.."
ها هو الأمل يزورني مرةً أخرى ولا يتركني.....جيد ....ما زال لدينا متسع من الوقت وفي هذه الأيام القليلة تُبنى بلاد وتُهدم بلاد !!....يجب ان اتصرف بأسرع ما يمكن قبل ان يداهمني الحظ السيء...
رسمت ابتسامة ماكرة وقلت لهما :
" الأمل موجود...هوّنوا عليكما "
سحب السيد(ماجد) نفساً عميقاً وقال:
" الى اين ستصل يا هادي ...ماذا تخطط ؟!"
اخبرتهما بفكرتي التي لاقت استحساناً وتأييداً من كلاهما , سائلين الله النجاح بمهمتنا.....
×
×
×
كان علينا توقيف عقد القران ومنع الارتباط الرسمي قبل الصفقة التي ستقلب لهم الموازين بإذن الله.....
↚
" غداً اجازة ...أخبري خالتي لتأتوا لزيارتنا ونقضي اليوم سوياً "
قالت (دنيا) لـ (سلمى) بينما هما متجهتان من مبنى الجامعة لبوابتها الواسعة في المدينة الجبلية....لترد عليها الأخيرة:
"لا اعتقد ذلك لأن بلال سيصطحبنا وعائلته لتناول وجبة الغداء في أحد المطاعم خارج المدينة ولا اعلم بالضبط متى نعود "
تأففت قائلة بملل:
" يوم الجمعة بعد الغداء يكون ممل ولا ينتهي ...وددت ان تأتي لنتسلى "
ردت باستغراب:
"الن يأتي خطيبك ؟؟......ما ان تجهزي نفسك لاستقباله في المساء حتى تنتهي الليلة بأكملها دون ان تشعرين.."
اشاحت وجهها بحنق متمتمة:
".. ومن قال لك انني استقبله ؟"
شهقت (سلمى) بعينين متسعتين سائلة باستنكار:
" ماذا تقولين؟"
ردت بمكر:
" اترك امي لتقوم باستقباله ....فهما منسجمان بشكل رائع لا يوصف.. وانا اعتكف في غرفتي اتابع مسلسلي براحة "
" ايتها المجنونة!!!....الا تخجلين؟؟....لو فعلتها ببلال لفقدته من اول يوم فهو عزيز نفس ولن يسمح لي "
" بالضبط ...هذا ما اقوله ....من اول يوم احاول ان اوصل له اني لا اريده لكنه يأتي يوميا ويبقى ملتصقاً لا يتزحزح الاشقر الغليظ ....ولا يأبه لعزة نفس وغيرها ذاك العنيد "
صمتت برهةً ثم تابعت ترفع عينيها حائرة:
"قولكِ.. هل يا ترى وضع له اخي هادي غراءً مخفياً ليلتصق بنا؟؟"
ضحكت وقالت لها:
" أخشى ان ينقلب الشيء ضدك.......لقد رزقنا الله كما تمنينا... فهما أصبحا صديقين وهما رجلان صالحان، يكفي شهادة اخي هادي بهما ...وعلى العكس هذا اهتمام كبير منه اتجاهكم فهو يشعر بالمسؤولية نحوكم ويجب عليك ان تقدّريه وتشكريه.....لكنك ترفسين النعمة برجلك دون ان تدركي.....ولا افهم السبب..! "
قالت بعبوس:
" يعتقد انني نسيت ما كان يفعل بي بالماضي كلما جاء لزيارة هادي.....كان دائماً يستفزني ويعمل مقالباً غليظة تشبهه وينعتني بأم لسان طويل... "
اطلقت ضحكات مع صوت , انتبهت لنفسها فوضعت يدها على فمها تكتمها قبل ان يمسك بها (بلال) ويؤنبها من غيرته عليها والذي كان ينتظرها في الخارج ليقلّها للبيت ثم قالت ساخرة بخفوت:
ويحك !....تعنين حقد من زمن الطفولة!!؟....وربما لا يذكر شيئاً من افعاله تلك " "
تنهدت وأضافت:
" مسكين سامي بدل ان يمر بفترة خطوبة يمر بفترة عقوبة من حيث لا يدري "
امالت زاوية فمها مبتسمة مع لمعة شيطانية بريئة بعينيها قائلة:
" يستحق ذلك ...سأريه النجوم في عز الظهر ...لكي لا يظنني سهلة !!.......آه نسيت اخبارك.....لقد كان في الأمس عندنا ...."
تابعت ببلاهة :
"كان في الأمس؟!!....انه اربع وعشرون ساعة عندنا!!!.......وسألني متى ينتهي دوامي ليقلّني واخبرته في الثالثة عصراً "
قطبت حاجبيها باستياء:
" لمَ كذبتِ ونحن ننهي دوامنا اليوم في الواحدة ظهراً"
اجابت بدهاء:
" ليأتي وينتظر وينتظر ويتحول لمومياء وهو ينتظر .....يعني اليوم سأكون متطفلة عليكما لتوصلاني لبيتي أنت وخطيبك المؤدب "
حرّكت رأسها بابتسامة , رافضة حركات صديقتها ثم رفعت بصرها عند وصولهما البوابة وأشارت هاتفة:
" ها هو بلال ...هيا بنا "
ما ان خطتا عتبة الجامعة ليقفز (سامي) امامهما قائلا:
" حمدا لله ....جئت بالوقت المناسب ولم اتأخر..."
كبتت (سلمى) ضحكتها شامتة بصديقتها ثم استأذنت منصرفة لخطيبها , أما (دنيا) تسمرت مكانها من غير حراك بعد ان صُدمت بوجوده ...فأكمل بمكر:
“مفاجأة اليس كذلك ...؟؟"
" كـ... كيف ..عرفت ؟"
سألت بتلعثم ليجيب ساخرا , غامزاً لها وهو ينحني يقترب من اذنها:
" الّا تعلمين عروسي الجميلة ان امامك ضابط شرطة يعرف الكاذب من الصادق من نظرة عيونهما ؟؟.......وانت لم تفلحي بالكذب فاتصلت ببلال لأعلم موعد انتهاء الدوام لليوم...."
استقام بوقفته متنهداً هاتفاً بجدّية مصطنعة:
" يبدو عليّ اعطاءك بعض الدروس بفنون الكذب لربما تحتاجينها اذا وقعتِ في مصيبةٍ ما , ضحية لسانك الطويل.."
أشار بسبابته لرأسها مردفاً :
" وبعقلك الصغير هذا يا عينيّ الشهد "
اكتسى وجهها بالحمرة حرجاً ومشت خلفه تطرق رأسها كالطفلة المطيعة تشتمه ونفسها في سرها....
~~~~~~~~~~~
تفرك يديها بتوتر وتمشي ذهاباً ومجيئاً من غير هدف مرصود .....فتلك حالتها منذ أيام , بعدما حددوا موعد عقد القران !!....تكلم نفسها " هل يا ترى تسرعت في قراري ؟....لا لا.. انا فعلت ما هو صحيح ....لكن لمَ انقبض قلبي من قرار جدّي كهذا ؟...انه امر محتوم سيكون بعد يومين او بعد سنة "....
اقتربت من نافذة غرفتها العالية في قصرهم وأزاحت ستارته , تنظر الى البعيد ..تتمتم بحنق :
" هل هذا وقت ذهابك خالتي الى صديقتك ايمان ؟..الا تعلمين انني احتاجك اكثر من أي وقت !!"...
حفّزت نفسها للاتصال بها لتسألها متى عودتها فلقد تركتها منذ يومين...ألم تشتاق لها كما هي تشعر اتجاهها؟....
ردت السيدة (فاتن) من أول نغمة اطلقها هاتفها :
" نعم يا صغيرتي...هل رأيتني في حلمك؟....ما زال الوقت مبكراً على الاتصال ومنذ ساعات قليلة انهينا مكالمتنا الأخيرة..."
اجابت بنبرة اشتياق ماكرة:
" سامحك الله خالتي...أهذا جزائي لأنني اشتاق لكِ؟"
ضحكت برقة وقالت:
" وأنا كذلك عزيزتي لكني ظننتُ من الأسبوع الماضي منذ دخولك الجامعة بات لديك ما يشغلك ويملأ وقت فراغك كما أن لديك خطيباً الآن تحبينه وتمضين معظم وقتك معه .."
ساد صمت لوهلة من طرفها وهي تعيد برمجة سريعة لعقلها وقبله قلبها " هل تسخر خالتي مني بقولها تحبينه؟...لا بل انا اضحك على نفسي !..كيف أوافق دون ان أشعر اتجاهه بحب كحب أي فتاة لرجل ولم يكن سوى صديق او اخ احتاجه.."
طردت أفكارها بعد قرارها انه يستحق الفرصة لأنها لم تحصل على اهتمام احد بها مثلما يفعل هو وهتفت تبعثر كلام خالتها :
" خالتي عقد قراني بعد ثلاثة أيام واريدك ان تكوني بجانبي عند اختياري لفستاني واكسسواراتي !!....هل هذا وقت الذهاب للسيدة ايمان وأنا بحاجتك ؟"
" كنت اريد الابتعاد قليلاً وكذلك عليّ انهاء موضوع ما مع ايمان يخص العمل ...لكن سآتي بالتأكيد ان شاء الله قبل عقد القران .."
همست بشجن :
" ألهذه الدرجة خالتي موضوع خطبتي أزعجك لتقرري الابتعاد ؟؟.."
تنهدت وأضافت:
" عموماً أراكِ على خير .."
اجابتها بجدية :
" في البداية نعم....لكني مضطرة لتقبل الأمر الواقع ما دام يخدم سعادتك .."
أغلقت الهاتف بعد انتهاء مكالمتهما والقته على السرير ثم توجهت الى دولابها لتخرج ملابس الجامعة وبعد ان جهزت نفسها , سمعت صوت رنين هاتفها المخنوق بين طيّات اللحاف فاقتربت تتفحصه ولما وجدت اسمه تبسمت وفتحت الخط مجيبة:
" صباح الخير.....ما بالك مستيقظاً باكراً ؟"
رد بصوت صباحي نشط :
" صباح النور يا جميلة الجميلات.....لديّ محاضرة مبكرة واردت ان اوصلك في طريقي الى جامعتك اذا لم تمانعي...."
صمتت مفكرة ثم قالت بدلع :
" مممم....وهل لديّ اجمل من هذا العرض يا صلاح ...يكفي انقاذك لي من سائقي الممل الذي يسير على بيض "
ضحك بنضوج وهمس بثقة:
" حسناً سأنتظرك في السيارة ...اوشكتُ على الوصول "
×
×
×
بعد صعودها سيارته الحمراء ضغطت على الزر ليفتح السقف , تستنشق الهواء العليل لتستفتح صباحها , تجمع شعرها الليليّ بملقط شعر للأعلى كذيل الحصان....كان يسير في سرعة معتدلة ويختطف النظر لها بسعادة فلمحته وهتفت آمرة بمرح :
" ادعس على السرعة وانظر امامك رجاءً ...لا اريد ان اتحول الى أشلاء.."
تبسّم بحب متحمساً ومدّ يده ليسحب الملقط ليستمتع بتناثر شعرها ويتنسّم شذاه ...وقبل ان يلمسه ,ارتدّت لبابها مبتعدة , قاطبة حاجبيها بانزعاج هامسة :
" لا ....اتركه صلاح....بالكاد حتى سرّحته "
أعاد يده يشد قبضته مغلوباً محاولاً السيطرة على ملامح هادئة.....بدأ يقلل سرعته عند دنوهم من الجامعة فسألت بلهفة وكأنها لم تفشله قبل قليل :
" انت وعدتني ستأخذني الى سباق السيارات عند عودتي الى البلاد ...متى سيكون هذا ؟؟ "
زفر بضيق :
" أحرقتِ المفاجأة !! "
ردت باستغراب:
" مفاجأة ؟؟ "
قال بمكر وهو يحني ظهره ليصل درج السيارة امامها ويخرج منه ورقة يناولها اياها:
" نعم....ها هي التذكرة....بعد غد سيكون السباق "
صرخت مبتهجة وهي تقبض عليها بين يديها هاتفة :
" يا للروعـــة...أخيراً سأشاهد سباقاً حياً "
×
×
×
دخلت جامعتها بعد ان ودّعت (صلاح) ...جلست على احد المقاعد لتستظل بشجرة من فوقه , تنتظر صديقتها الجديدة التي تعرّفت عليها من اول يوم لدخولها الجامعة وسرعان ما انسجمتا معاً ويبدو أن علاقة قوية بينهما تلوح في الآفاق....
" صباح الخير ألمى...هل انتظرتني كثيراً ؟ "
اقتربت صديقتها منها تلقي التحية فور رؤيتها لها...لترد الأخرى وهي تنظر لساعتها :
" صباح النور ميار ...كدتِ تتأخرين.....هيا بسرعة الى المحاضرة "
بعد انتهاء اول محاضرتين وهما تجمعان كتبهما في حقيبتيهما تمتمت (ميار) باستياء قائلة:
" ما دهاني لأدخل تخصص الهندسة وأنا قضيتُ عمري أكره الرياضيات في المدرسة "
ضحكت (ألمى) وقالت:
" لا تعقّدي الأمور.....موضوع جميل وسنجتازه بسهولة "
ردّت (ميار) ساخرة من نفسها :
" انتِ ستجتازينه فما شاء الله دائماً مستعدة للإجابة ..أما أنا اراقب بصمت "
قالت:
" لا تقللين من شأنك وانتِ ايضاً يمكنك ذلك...فقط ركزي اكثر "
اتجهتا الى مقصف الجامعة لتناول شيئا تأكلانه وبدأتا بالدردشة بمواضيع خارج نطاق الدراسة فما زال لديهن نصف ساعة للمحاضرة التالية فأخرجت (ألمى) التذكرة من حقيبتها بحماس كالطفل الذي قبض نصيبه من القروش في صباح يوم العيد وهتفت تلوح بها :
" انظري ميار ...لا اصدق ..سأذهب بعد غد لمشاهدة سباق السيارات "
اتسعت عيناها تشعر بالغبطة هامسة ببراءة :
" يا لحظك ألمى....وأنا كذلك تستهويني هذه العروض وهذا النوع من التحدّيات ....من اين حصلتِ على التذكرة ؟ "
أجابت بحماس :
" صلاح...."
أكملت بنبرة خافتة :
"خطيبي.."
سألت (ميار):
" هل ستذهبان لمشاهدة السباق سوياً ؟"
ردت بصوت هادئ :
" بل صلاح سيشارك في السباق "
حملقت بوجهها وسألت بفضول من غير مقدمات :
" هل تحبين خطيبك ؟ "
بهتت ملامحها وردت بضيق مستنكرة , تنظر للطاولة :
" ما هذا السؤال؟ ..انه خطيبي "
لم تتراجع وأكملت بنفس النبرة:
" لو كنت مكانك وأحب خطيبي لهتفت سأذهب لمشاهدة خطيبي في سباق السيارات "
اشاحت عينيها بانزعاج تتأفف متهربة بعد ان لذعتها في الحقيقة وقالت :
" ما الفرق؟!.... في النهاية مشاهدة سباق او خطيبي يعود الجواب الى نفس الاتجاه "
لم تشأ احراجها اكثر , فهي شبه متأكدة ان لا مشاعر حب تكنّها لخطيبها فلا تتكلم عنه بشغف وحب كما تسمع المخطوبات من فتيات عائلتها وهن يقرعن رأسها بعرسانهن وحتى عند ذكرها موضوع اخر كتخصص الهندسة او عندما تأتي بسيرة خالتها ومربيتها السابقة تكون اكثر حماساً وحرارة في كلامها ...وهذا ما استطاعت تمييزه من أسبوع فقط...فيبدو لها ان خطيبها يسد فراغاً فقط لا اكثر.....
" لو كنتُ اعلم سابقا لاشتريت تذكرة لمرافقتك ....فبالتأكيد سيسمح لي والدي ما دام يوجد مرافق "
قالت( ميار ) بصوت محبط ....لكن الفكرة راقت لـ ( ألمى) فهتفت مندفعة بابتسامة واسعة تعلو ثغرها :
" انتظري ...سأبعث رسالة لصلاح ان امكنه توفير واحدة ...فأنا ايضاً لا احب الجلوس وحدي في المدرجات كالبلهاء وسط أناس لا اعرفهم لان السباق له مراحل وسيأخذ وقتاً..."
~~~~~~~~~~~~~
لم يتوقف رنين الهاتف وكأن هناك من يريد اخباري بأن القيامة قامت ....ما زال الوقت باكراً....تأففت مغتاظاً ومسكت هاتفي وانا مستلقياً على بطني ناظراً لشاشته بعينٍ واحدة لأرى من هذا المتطفل , المزعج الذي يتصل في السابعة صباحاً !..فتحته بكسل على مكبر الصوت والقيته على مخدتي جانب وجهي لأجيب بتذمر :
" نعم سيد ماجد ...بماذا اخدمك ؟"
رد بصوت متحمس وكأننا وقت الظهيرة:
" انهض أيها الكسول ...أنسيت ان لديك سباقاً بعد ساعتين ؟! "
تابعت بانزعاج من شدة النعاس :
" لم أنسَ ولم اقتنع بهذا....أكان ضرورياً مشاركتي في السباق ؟"
أجاب متأففاً:
" هل تخشى الخسارة أمامه؟َ!....بصعوبة حصلنا على تسجيل لاسمك فورَ معرفتنا بمشاركته !! "
حسناً هو يريد استفزازي بذاك المسمى (صلاح) لكني أظهرت عدم اهتمام وقلت ساخراً وانا امسك الهاتف واقلب على ظهري , اعدل نومتي :
" نعم, يجب ان أكون ممتناً منكم !..... لا داعي لأمرٍ تافهٍ كهذا.....لو تعذروني أكون بالفعل شاكراً لكم "
تابع بضيق:
" لم اعهدك احمقاً أيها الهادي....نريدك ان تهزمه شرّ انهزام فبنات اليوم ينجذبن الى الابطال الخارقين بعقلهن الصغير التافه واخبرتنا السيدة فاتن كم أن ابنة الوغد متعلّقة ومولعة بهذه الرياضة ومعجبة بعدة شخصيات اجنبية ممن يمارسون هذه العروض ...فهكذا تنزع نظرتها له وتلفت انتباهها لتتقبلك بسهولة عند التقدم لها ...."
زفرت بكبرياء وقلت بلا مبالاة:
" ومن هي لانتظر تقبلها لي ؟!.....لم تكن سوى ابنة الخسيس عاصي رضا "
تمتم بكلمات غير مفهومة واظنه يشتمني ثم قال بصوت مسموع:
" لا نريد ثقتك بنفسك توصلك للغرور فهذا وحده كافياً لإسقاطك وفشلك "
سألت بفضول:
" ماذا اذا لم انجح في السباق ؟!..."
رد بغيظ:
" اما ان تعلو بغرور واما ان تنزل بتواضعٍ احمقٍ .....هل تظننا نضعك في مكان اكبر من حجمك وانت الذي تمرنت على السرعة وقيادة السيارة بكافة الظروف في المعسكر واشتركت بنوادي للسباقات منذ استلامك الرخصة وأقرب فوز كان لك قبل سنتين على مستوى الدولة ؟"
اجبت متأففاً:
" حسناً حسناً ....اكتفيت من المحاضرة ...لقد طار نعاسي , كنت أحاول التملّص لأنااام "
×
×
×
استحممتُ بماءٍ باردٍ لأنعش دماغي وجوارحي ...ارتديت بنطالاً من الجينز الأسود وبلوزة قطنية ضيقة بيضاء نصف كم, تعطرت وأخذت قبعتي السوداء ونظارتي الشمسية وهاتفي بعد ان انتعلت حذائي الرياضي الأبيض ثم نزلت لأتناول الفطور مع عائلتي المتمثلة بأبي(إبراهيم) وخالتي(مريم) ...عندما هممتُ للخروج , دنت مني خالتي , تضع كفيّ يديها على وجنتيّ اللتين تغطيهما ذقني الكثيفة , القصيرة المهذبة ... تحاوط وجهي برقة , تنظر للأعلى لتصل عينيّ هامسة بحنان :
" وفقك الله يا بنيّ وأنار دربك بكل خير...."
قبّلت جبينها بحُبٍ شاكراً لها دعوتها الطيبة فهمس أبي الجالس على رأس الطاولة بلطف رجولي :
" اسأل الله ان ينجحك ويبعد عنك شر الأعداء..."
تبسّمتُ وقذفته بقبلة في الهواء ممتناً له ...كم اعتدت على وجوده في حياتي بعد ان ظهر لي بفضل الله عندما كنتُ بأمس الحاجة لسند أبوي اتكئ عليه !!!...
خرجتُ متجهاً الى سيارتي السوداء ذات الدفع الرباعي الضخمة ...مسكت الهاتف ولمست اسمها بإصبعي منتظراً ردها لتجيب بحنان :
" اسعد الله صباحك يا ولدي الغالي "
قلت بلهفةٍ وشوقٍ لها :
" وصباحك يا نبض الحياة يا غالية "
تابعت برقة:
" خيرٌ يا ولدي ؟!"
قلت وانا اشعر ببعض الارتباك في داخلي :
" انتِ تعلمين ان لديّ اليوم ..."
وقبل أن اكمل قاطعتني بنفس الصوت الذي يلامس خلايا قلبي يربّت على نبضاته التي تنبض توقاً لها ويشعرني انني ما زلت طفلاً صغيراً امام نبع حنانها الذي لا يجف ولا ينتهي ..
" أعلم يا ولدي ..لديك سباقاً مهماً ....يسر الله أمرك يا قرة عينيّ "
تنهدتُ لأطرد التوتر الذي فاجأني بزيارته وكأنني لم أشارك قط بمثل هذا السباق بحياتي وهمست برجاء :
" رضاكِ يا أمي "
فأجابت بنغمتها المعهودة التي تعزف بها على أوتار خافقي :
" رضا ربي ثم قلبي يكون رفيقك في حياتك واينما وليّت وجهك .....وفقك الله وأعادك لي سالماً منتصراً .."
وانطلقتُ براحة وسكينة متوكلاً على خالقي.....
~~~~~~~~~~~~~~~
" لا اصدق يا ألمى انني دخلت نادي السباق اخيراً....شكراً لكِ ولخطيبك الظريف "
قالت (ميار) بامتنان لـ (ألمى) ...فردت عليها :
" العفو حبيبتي...لم نفعل شيئاً وعلى العكس انا من واجبي شكرك لمرافقتك لي لتسليني.."
كانتا تسيران بأروقة النادي وتنظر (ألمى) بجميع الاتجاهات , تبحث عن قسم تبديل الملابس لتسلّم على (صلاح) قبل بدء السباق فصرخت صرخة طفولية مشيرة بإصبعها الى يمينها :
" لقد وصلنا...انتظريني قليلاً سأدخل لأراه "
سحبتها (ميار) من ذراعها شاهقة وقالت بذهول:
" هـيه... ايتها الحمقاء!!...هنا قسم تبديل الملابس ...كيف ستدخلين وهناك الكثير من الرجال ويعلم الله في أي حالة سترينهم!!؟"
تجمدت مكانها مصدومة من نفسها وهمست :
" صحيح لم افكر بهذا ......كدتُ أتهور وانفضح......اذاً سأتصل به ليخرج لنا "
خرج بلهفةٍ لها فور اتصالها وألقى التحية عليهما مصافحاً صديقتها ....دردشوا قليلاً قبل ان يستأذن منهما عائداً للداخل استعداداً للتحدّي وهو اكثر ما يعشق منذ صغره والحلم الذي كَبُر عليه لدرجة أن شغفه به انعكس عليها لتشاركه نفس الولع حتى أنها صارت تتابع أخبار نجوم هذه التحديّات المعجبة بهم دون ان يفوتها شيء......
ادبرتا للخارج حيث المدرجات المليئة بالجمهور المتابعين لهذا النوع من الرياضة بعد ان تمنتا له التوفيق .....استقرتا على مقعديهما الذين يحملان رقميّ تذكرتيهما في المدرج , تضع كل منهما قبعتها ونظارتها الشمسية وتمسك كأس العصير مع كيس المسلّيات.....
لحظات وأعلن عبر مكبر الصوت دخول المتسابقين الى الساحة ....خلعت (ألمى) نظارتها لتتضح لها الرؤية اكثر وهي تجول بنظرها بإمعان باحثة عن سيارته ثم هتفت بحماس مشيرة بسبابتها :
" انظري ميار ...تلك السيارة الحمراء التي تحمل رقم واحد وعشرون هي لصلاح....يا الهي كم هي رائعة !! "
خلعت الأخرى نظارتها تتفحصها وقالت :
" نعم انها جميلة وفاخرة ....يبدو ان خطيبك يحب الأحمر لأنها تشبه سيارته التي يقلّك بها الى الجامعة .."
صمتت برهةً لتتسع عيناها , تشير بانبهار مردفة :
" انظري انظري....يا للهول !!....ما هذا الشبح الأسود القادم الى الساحة ؟!"
ثبتت (ألمى)حدقتيها حيث اشارت صديقتها...ابتلعت لعابها هامسة بخفوت:
" يا الهي....ما هذه الفخامة السوداء؟!"
كنا اثنان وعشرون متسابقاً بسيارات مختلفة لشركات مشهورة وهذا العرض يكون بمثابة اعلان تجاري لكل شركة !!...لذا يضعون أفضل مركباتهم الرياضية لتسويقها في الساحة وتسمح الشركة للمتسابق خاصتها باختيار لون السيارة المفضل لديه ايماناً بأن هذا يزيده شغفاً وتحدّياً بسبب قيادته لشيء يحبه...!!
دخلنا ساحة السباق أو بالأصح ارض المعركة , نصطف بشكل منظم مستقيم , مركبة بجانب الأخرى....وكان ما يميز سيارتي انها باللون الأسود الحالك دون دمج أي لون آخر معه !..أما بقية المركبات فهي مدمجة بلونين أو اكثر حسب ذوق كل واحد منهم....
بدايةً يقومون بتعريف سريع لاسم ورقم كل مشترك والشركة التي يمثلها ...!!
والمرحلة الأولى ستكون سباقاً للسرعة وأول عشر سيارات تجتاز الخط المحدد , تنتقل للمرحلة التالية.....ظهر العد الآلي بشكل تنازلي حتى وصل للصفر قارعاً جرس الانطلاق لنقلع في مهب الريح بأقصى سرعة ونحن نجتاز احدنا الاخر بروح التحدي والمنافسة واثبات الذات لمسافة تمتد لحوالي ألفي وخمسمئة متراً بشكل بيضوي مغلق معد خصيصاً لهذه الرياضة....
كان جلّ تركيزي وهدفي هو اجتياز صاحب المركبة الحمراء المدمجة بخطوط بيضاء رفيعة....إما أنا وإما أنا ...لا تنازل لا استسلام لا خسارة او انهزام !!.....لم تكن المهمة هذه تروق لي وأنا مقتنع بأن لا داعي لها !!...لكن ماذا عساي أن أفعل بأفكار السيد(ماجد) وأبي (إبراهيم) اللذان اصرّا على مشاركتي؟؟!!.......
في بادئ الأمر كنت رافضاً بقناعة الّا انني مجرد وضع قدمي في النادي عادَ الشغف وروح التحدي داخلي ...!!...هذه المرحلة في التصفيات تعتبر كشربة كأس الماء عندي لذلك اجتزت بفضل الله الخط لأكون ضمن العشر الأوائل لننتقل الى ما بعدها ...كما كان بيننا المسمى (صلاح) مما جعلها تقفز, تلك المدللة هاتفة بتشجيع بحركات طفولية معتزة بإنجازاته العظيمة.....أما أنا لا اعلم ماذا انتابني بعد انتهائنا من هذه المحطة عندما ترجّلت من السيارة في الساحة وكنت قريباً من المدرجات !!...كنتُ أشعر بسريان لذيذ في عروقي ويصل قلبي ليجعله ينبض بحماقة ويحاول دفعي لقيام بشيء أقرب للتهور !!..هل هذا بسبب معرفتي بوجودها بين الحضور ؟؟!!....كنت أتساءل , يا ترى كيف أصبح شكلها ؟!....لوهلة تملكني الفضول لأبحث بين هذا الكم الهائل من الناس عن السماء الساطعة في عينيها ...لكن ما انقذني من غبائي هو احد أصدقائي المرافق لي هاتفاً باسمي للتجهيز للمرحلة الأخرى التي تكون عبارة عن عرض جنوني بقيادة السيارة بطريقة سريعة هوجاء مع انزلاقات ومحاولة التحكم بها باحترافية وهي تعد متعة لعشاق السيارات وتكون اشبه بعرض الديوك امام الدجاجات لفرد العضلات!!, وهنا يحصل كل متسابق على نقاط لأجمل عرض لينتقل اول خمسة للمرحلة الثالثة!!...ها هو دخل المتسابق الأول ليجود بأفضل ما لديه وسط هتافات الجماهير المشجعة , المتمتعة بهذا الهوَس ليليه الآخر فالآخر والآن المتسابق الثامن صاحب السيارة الحمراء يتقدم بتباهي وثقة كبيرة في سيارته ليبدأ بالحركات الجنونية والصرخات تعلو اعجاباً مع الصفير بعرضه المميز ...انهى عرضه ليتبعه التالي من المشتركين ثم الأخير الذي لم يكن سواي لأدخل بهدوء كالفهد المترصد لفريسته حتى وصلت نقطة العرض بعد التوكل على الله وبدأت عرضي تدريجياً من حركة لأخرى اقوى تجلب الأنظار وتسلب القلوب المولعة بهذا واثقاً بما أُقدّمه , إذ ان سنين تواجدي بالمعسكر علمتني تحدي الصعاب حتى بالقيادة , فكان لنا تمرينات على ايدي أمهر المدربين المختصين في هذا المجال ليعلمونا حماية انفسنا بالهروب من العدو او مطاردتهم بحركات كثيرة مختلفة في كافة الظروف والتضاريس !!...انهيتُ عرضي بحركة كبيرة مميزة حتى توقفتْ عن الدوران وشاهدت من حولي قفزات الجماهير المعجبة والهتافات المرتفعة مما جعلني اشعر بسعادة حقيقية وكأنني شاركتُ من اجل هذه الصورة...!!
بفضل الله انتقلت للمحطة الثالثة لأكون ضمن الخمسة مشتركين وكذلك (صلاح) حتى انهيناها بفوز كلينا للانتقال الى المرحلة النهائية التي تسمح باصطحاب مرافق واحد في السيارة للاستمتاع .....
دلفنا الى النادي لاستراحة قليلة لتناول شيء نشربه او قضاء الحاجة قبل خوض المنافسة الأخيرة وهي مثل الأولى... النصر للأسرع ...وكذلك لاختيار مرافقينا.....
توجهت الى الحمام لأغسل وجهي بالماء البارد لأنتعش واتنشط من جديد ثم قصدتُ المقهى لتناول زجاجة شيء بارد ...وليتني ما ولجت!!....فلحظة دخولي لمحتُ من لم تكن في الحسبان والتي تحولت من طفلة صغيرة لفتاة هيفاء تنضح انوثة , تقف موليّة ظهرها للباب تسرّح شعرها في ظفيره تصل الى خاصرتها وترتدي بنطالاً من الجينز الكحلي وبلوزة نصف كم ,حمراء ضيقة تنحت خصرها بإتقان لتبرز الجسد الجذّاب بحذافيره المرسوم في لوحة اشعلت النيران داخلي وجعلت دمي يغلي في تفاعل غريب وخاصةً وأنا اراها, تتحدث مع خطيبها منافسي بهذا القرب ولا تفصلهما عن بعضهما سوى سنتمترات ضئيلة ليستمتع بما ليس من حقه ولن يكون ابدا له ذاك البغيض....رغبت في اقتلاع عينيه وان لزم الأمر احراقه وحتى احراقها معه ليتحولا الى رماد امامي واسحقهما تحت قدمي ولا يحلما ابد الدهر بأن يكونا لبعضهما ما دام تخرج انفاسي من رئتي وقلبي الخائن ينبض بغباء وروحي تهفو لها وعيناي لا ترى سواها وأنا الهادي لاجئ في سمائها....
كانت تقف بجانبها وابعد قليلاً منهما صديقتها التي حاصرتني بنظراتها عند ظهوري على باب المقهى....كنتُ ارتدي اللباس الخاص بالسباق وهو من قطعة واحدة كاملة مع حذاء مرتفع يخترق الساق وكلاهما بالأسود كسيارتي....استدرت خارجاً من حيث أتيت بل هارباً من التقاء أرضي بسمائها ...ابتعد (صلاح) عنها ليتحدث بالهاتف فالتفتت بوجهها لصديقتها التي ظلّت على وقفتها دون أي حركة وكأن شبحاً ظهر لها فلوحت بيدها امام عينيها ثم فرقعت بإصبعيها ونظرت حيث تنظر وهزتها اخيراً من كتفها هامسة باستغراب:
" هيـه ميار....ما بالك تنظرين ببلاهة كأنك رأيتِ شبحاً؟! "
ردت وعيناها عالقتان في نفس المكان :
" لو رأيت الحلة والفخامة السوداوية !!...يا ويلي!!...ما هذه الوسامة ؟"
رفعت احد حاجبيها باستغراب ترنو نحو الباب هامسة:
" من؟...ماذا تهذين ؟"
تنهدت (ميار) بحسرة وهي تضع كفيها على صدرها وترفع بصرها للسقف قائلة:
" آه يا قلبي....لو يختارني لأكون المرافقة خاصته..."
اعادت بصرها للواقفة امامها وأكملت:
" انه المنافس لخطيبك.....يامن الهاشمي "
ضربتها بقبضة يدها مازحة ثم قالت:
" يا ليت....لكي نسحقكما انا وصلاح بجدارة ونشمت بكما "
ردت بامتعاض مصطنع:
" أرى ان تستسلما وتعودا ادراجكما بكرامة.....انت بنفسك رأيت قدراته واعترفتِ بها.."
قالت بتلعثم وكلمات مشتتة:
" ها....نعم....اقصد لا ....لا يهم تلك العروض , المهم النهاية !"
تابعت بفضول:
" كيف يبدو هذا المدعو يامن ؟"
مسكت بيدها تسحبها للخروج من المكان واجابت :
" انه كالإعصار بملابسه السوداء وجسده الرياضي والذقن المهذب والعيون المكحلة "
هتفت ساخرة:
" هل استطعتِ رؤية كل ذلك بلحظة؟....أرى انني ارافق قناصة "
عادت(ميار) الى مقعدها و (ألمى) توجهت الى خطيبها الذي ينتظرها لترافقه بالمرحلة النهائية ....
قرع الجرس يعلن عن استئناف المعركة لننطلق كلانا بتحدي وإصرار يعتبر الأصعب بسبب قدراتنا المتقاربة بهذا المجال ....يجتازني مرة واجتازه مرة والبقاء للأقوى....بدأت حبيبات عرق تنساب من جبيني رغم وجود التكييف , ربما من الوساوس التي اكتسحتني بأفكاري ..ماذا لو خسرت؟!...استعذت بالله لطرد احباطات الشيطان ومسحت جبيني بظهر كف يدي ثم زفرت انفاسي بقوة مع التوكل على الله وضغطت بعنف على السرعة لدرجة بدا لي انها ستتعطل تحت قدمي لتمر ثواني قليلة حتى تسقط البالونات والمفرقعات الورقية الملونة تهطل كالمطر على مركبتي وتنساب على الأرض بعد اجتيازي خط النهاية بفارق خمس ثواني.....
دخلنا الى النادي مجدداً ننتظر تحضير المنصة الخاصة بتسليم الكؤوس والميداليات أما رفيقانا توجها فوراً من ساحة السباق الى المدرجات......بعد خمسة عشر دقيقة رجعنا الى الساحة حيث المنصة الخشبية الصغيرة مع رئيس النادي الملياردير ( حسن عرابي) لنستلم منه جوائزنا.....
كانت هي تجلس صامتة , صاغرة بالمدرج ووجهها بلون حبة البندورة الناضجة وسماءاها غائمتان ...شدت نظر صديقتها بصورتها العابسة تلك والتي كانت تراقبها بعطف ظناً منها ان هذا سببه خسارة خطيبها ...مدت يدها تربت على كفها لتواسيها هامسة بخفوت :
" لا تحزني ألمى...انها مجرد لعبة وسيفوز بالمرات القادمة.."
↚
أفلتت دمعة من احدى عينيها كانت تحتجزها بصعوبة وعضت شفتيها ثم قالت بصوت مهتز ,مبخوع:
" لقد وبخني!!....ويدّعي أنني السبب بخسارته..."
جحظت عينيها متفاجئة من ردة فعله وسألت بتعجب:
" كيف انت السبب؟!"
أخفضت رأسها الى الأسفل تنظر الى اصابعها المتوترة وهمست بحزن:
" أردت ان نستمع الى الموسيقى أثناء السباق وصممت على ذلك رغم اعتراضه مدّعياً ان هذا يشتت تركيزه ولكي لا يحزنني وافق مكرهاً.."
ازدردت ريقها وأكملت:
" وبعد خسارته تحول الى شخص آخر لا اعرفه ولم اره سابقاً .."
مسكت ذراعها من الأعلى قرب الكتف وأضافت بأسى:
" حتى انه شد بقبضته على ذراعي وهزني بقوة صارخاً بي * أنتِ السبب ..هذه المرة الأولى التي اخسر بها *...."
رفعت يدها تربت على كتفها تحاول تهدئتها هامسة برفق:
" لا عليكِ ألمى....يجب ان تعذريه....جميعنا لا نحب الخسارة ولكل منا ردة فعل خاصة به.....وعلى العكس يجب ان تقفي بجانبه وتعوضيه بشيء لينسى هزيمته ...مممم...........مثلا بعزومة لطيفة على الغداء لتخرجيه من مزاجه الغاضب "
رفعت رأسها وعينيها دامعتين ...فكرّت برهة وهمست بغصة:
" سأرى.."
أعادت (ميار) وجهها الى ساحة العرض وشهقت هاتفة :
" الاعصار الأسود يصعد على المنصة....انظري"
استعادت أنفاسها مكفكفة دموعها وحدّقت بتركيز بنظرة تقصّي ثم تمتمت متسائلة:
" هل هذا هو يامن الهاشمي؟....لم اسمع به من قبل !!....ويبدو لي انه مغرور من وقفته..."
أجابت (ميار) بانزعاج وكأنها تحدثت عن شخص يخصها :
" هذه الثقة بالنفس.....انه ابن رجل الأعمال الشهير إبراهيم الهاشمي والمدير العام لشركتهم رغم صغر سنه الذي لا يتعدّى الخامسة وعشرين !!.."
حدّجتها بإمعان متعجبة وقالت:
" هل ارافق ايضاً محرك البحث في الشبكة العنكبوتية؟!....من اين لكِ كل هذا ؟."
أجابت بتفاخر عن انجازاتها:
" كنت اسمع عن إبراهيم الهاشمي ...وبعد ان رأيت هذا الاعصار الأسود في مقهى النادي ....اهتممتُ بالبحث عن سيرته الذاتية في الشبكة العنكبوتية خلال انتظاري لبدء المرحلة النهائية..."
صمتت برهةً وأردفت باستسلام :
" لكن مع الأسف لا يوجد أي صورة له ولا حساب على مواقع التواصل....يبدو انه حريص على إخفاء نفسه ولا اعلم ان كان تواضعاً ام من اجل امانه.."
×
×
×
استلمنا جوائزنا وسط التصفيقات والهتافات....بدلتُ ملابسي الخاصة بالسباق للتي حضرت بها ..وضعت قبعتي على رأسي و نظارتي السوداء على عينيّ...خرجتُ بكل ثقة الى موقف السيارات لأعود الى بيتي وهناك لمحت (صلاح) يتكئ على سيارته وملامحه ناقمة وبعد ان ركبتُ سيارتي, أطلّت على الشاشة برفقة صديقتها وهي تضع نظارتها تخفي عينيها وتمنيتُ من كل قلبي الّا تخلعها لأنني بغنى عن اللجوء في سمائها هذه اللحظة...فاستجاب الله لي.... وذهب كل منا في حال سبيله....
~~~~~~~~~~~~~
" شكرا لكما على ايصالي "
نطقت بها (ميار) ونزلت تغلق باب السيارة خلفها ليضغط مجدداً على الوقود وينطلق كالعاصفة بوجهٍ مكفهرٍ لدرجة شعورها بأن العجلات لم تعد تلامس الأرض من تحتها وصمت قاتل يخيم في الأجواء ....استجمعت قواها لتكسر هذا الهدوء المثقل بالشحنات السالبة وقالت:
" لمَ أنت صامت ؟"
نظر اليها شزرا وشد قبضتيه على المقود دون الرد عليها وكانت نظرته تلك كفيلة بإخراسها لكنها جازفت مجدداً وهتفت آمرة بصوتٍ ثابت :
" انزلني هنا....سأتصل بسائقي "
" ألمــــى ...اكرميني بصمتك حتى نصل "
صرخ بها بصوت جهوري لدرجة أجفلتها وحطمت دروعها وشرعت بالبكاء مثل طفلة وبخها والدها على تصرفٍ خاطئٍ ...بدأ يخفف من انفعاله محاولاً السيطرة على اعصابه بعد أن استوعب انه تمادى ...زفر أنفاسه وسحب منديلاً ورقياً من جانبه ...ناولها إياه وهمس بصوت خفيض:
" آسف حبيبتي....لم اقصد ابكائك "
تطلّع اليها برقةٍ بينما ضميره يؤنبه على فعلته ...مدّ يده اليمنى ليمسك يدها بحنوٍ فسحبتها واعرضت وجهها عنه تنظر الى الخارج من نافذتها ...أدار المقود بحركة سريعة مغيراً وجهته الى الساحل ليرضيها وعند رؤيتها انهما اقتربا من البحر سألت بضيق:
" الى اين انت ذاهب ؟....اريد العودة الى البيت "
تبسّم لها يرمقها بنظرات رجاء هامساً بندم :
" سأعتذر لأميرتي أولاً...لا يصح ذهابها الى البيت وهي غاضبة مني "
صمتت تسرط ريقها بعد ان تكدست الدموع في عينيها وهمست بصوت متحشرج :
" لم اعهدك قاسي هكذا "
ردّ عليها وهو يجول في بصره باحثاً عن مكان ليصفّ سيارته في الموقف بعد ان وصلا الشاطئ:
" لا أحب الخسارة ابداً وكيف وانتِ بجانبي ولم احقق لكِ لهفتك بالفوز ؟!"
نزلا من السيارة وهي صامتة ثم توجها الى مطعم صغير مطل على البحر يقدم الوجبات الخفيفة...جلسا في شرفته , سارحان بالمنظر امامهما وهو يحاول مصالحتها يقدم الاعذار حتى قبلت اعتذاره....تابعا باحاديثٍ شتّى مختلفة ...أما هي عادت الى البداية لانشغالها بنجمٍ جديد يضاف الى قائمتها وسألت بفضول حاولت تظهره انه مجرد سؤال عابر:
" هل تعرف يامن الهاشمي ؟"
أجابها وعيناه تعوم في البحر :
" اعرفه بالاسم فقط واعترف انه منافساً قوياً...لقد نال جوائز عديدة بمسابقات رياضية مختلفة .."
قالت مستمرة بنفس السيرة :
" انا اول مرة اسمع به...."
أجاب :
" لم يمضِ اسبوعان على عودتك من الخارج بعد ان قضيتِ سنوات كثيرة!!...من اين ستسمعين به وهو حريص بالابتعاد عن الاعلام وعدسة التصوير ؟"
قالت وهي ترتشف من كأسها العصير :
" معك حق.....ما هي الجوائز التي حصل عليها ؟"
تنهد بعد شعوره بالملل من هذه السيرة وقال:
" هل سنقضي فسحتنا القصيرة بالسيرة الذاتية الخاصة به ؟"
طأطأت رأسها محرجة وحاولت تغيير الموضوع بأشياء أخرى وهكذا أمضيا بعض الوقت ثم اعادها الى بيتها لترتاح قليلاً قبل حلول المساء ليأخذها لشراء ما يلزمها لعقد القران في الغد.....
×
×
×
نظرت الى الساعة المعلّقة على الحائط امام سريرها تشرد بعــقاربها فلقد اوشكت على الخامسة بعد العصر وهي لم تستطع ان تقيّل بسبب انشغالها ....نعم غداً يوم عقد قرانها وفي المساء ستباشر التحضيرات لهذا....لكن مع الأسف كان انشغالها بأمرٍ آخر !!...من هو هذا يامن الهاشمي ولمَ شعرت بوميض خفيف في قلبها بعد رؤيتها له من بعيد ؟!...تتساءل محتارة علّها تجد إجابة شافية!!...تقول في سرها " ليتني شاهدته من قرب كصديقتي ...ليس لشيء ..انما فقط لمعرفة كيف يبدو يامن الهاشمي ؟! "....زجرت نفسها لشعورها بالذنب لتفكيرها بما ليس من حقها وهي مرتبطة بشخصٍ آخر بعد ان اهتز هاتفها الموجود على المنضدة بجانب سريرها دون اصدار رنين ....ولما حملته ورأت اسم خالتها فتحته مبتهجة , متلهفة هاتفة :
" خالتــــي ...كنتُ سأتصل بكِ "
" مرحبا ألمى...كيف حالك ؟"
أبعدت الهاتف عن أذنها تحملق بشاشته لتتأكد من هوية المتصل ثم اعادته ثانيةً وسألت بارتباك :
" سيدة ايمان ؟!....لمَ انتِ تتصلين من هاتف خالتي ؟..اين هي ؟!"
أجابت بلطف:
" اتصلتُ لأخبرك بأن خالتك متعبة قليلاً وتعتذر عن مرافقتك للتسوق من اجل الغد "
صرخت بانفعال:
" ما بها خالتي؟...كيف هي ؟!!....بماذا تشعر ؟!! "
تابعت بنفس اللطف تحاول طمأنتها :
" لا تخافي يا ألمى....يبدو انها أصيبت بنزلة برد وستتحسن ان شاء الله........انتظري...ها هي أفاقت ...كانت نائمة "
طلبت برجاء:
" ارجوكِ اعطني إياها ..اريد سماع صوتها "
" صـ...صغيرتي....لا تشغلي بالك ..أنا بصحة جيدة "
قالت بذعر وصوتها مرتجف:
" ما بكِ خالتي ؟!...صوتك لا يعجبني!"
ردت بوهن:
" نزلة برد بسيطة وستختفي ان شاء الله....اذهبي وتمتعي بتسوقك ولا تفكري بشيء فغداً يوم فرحتك "
أجابتها بعدم اهتمام لما تقول :
" أي تمتع وأي تسوق وانتِ لست معي ؟!....سآتي حالاً اليكِ.."
قاطعتها رافضة:
" لا...لا يجوز صغيرتي.....لا داعي لقدومك....انهي امورك واذا شعرت بتحسن سآتي في الغد...وان لم استطع القدوم...اعذريني "
صرخت تبكي :
" مســتحيل...لن أُقْدِم على أي خطوة من غير وجودك بجانبي وهذا شرطي !!....عقد القران ينتظر...المهم سلامتك "
أغلقت الهاتف نزلت الى مكتب والدها بقفزات سريعة وطلبت منه بإلحاح للسماح لها بزيارة خالتها بعد ان اخبرته بحالتها ..وافق على مضض وأمرها بالاتفاق مع (صلاح) لاصطحابها للتسوق من هناك...
جهّزت نفسها بسرعة وأوصلها سائقها الى شقة السيدة(ايمان) ....اندفعت بلهفة وارتمت على حضن خالتها فورَ دخولها الغرفة وهي تبكي وتشد باحتضانها بشوق وقلق عليها ....بعد أن هدأت وسكن توترها , ضيّفتها صاحبة البيت بكرم وجود وثلاثتهن يتبادلن الاحاديث حتى مرّت ساعتان من الزمن دون ادراك للوقت ليقطع انسجامهن رنين هاتفها فأجابت بحُرقة :
" صلاح.....هل يمكنني الاعتذار عن التسوق ؟!"
شرحت له أسبابها فردّ بضيق :
" لا يصح يا ألمى...عليكِ الاختيار حسب ذوقك "
قالت بتهرّب:
" انا اعتمد عليك وعلى خالتي اسراء....اذهبا واجلبا ما تريدان....لا استطيع ترك خالتي وهي مريضة وتحتاجني بجانبها "
وافق مستسلماً لينهي مكالمته هامساً بفتور :
" زال البأس عنها....أوصلي سلامي لها "
انقضت ساعة أخرى برفقة السيدة (فاتن) وصديقتها وقالت بحزن بعد ان علمت بقدوم السائق:
" كنت اود البقاء لوقت أطول....لكني بغنى عن محاضرات أبي وتقريعاته....."
سكتت لوهلة ثم اضافت :
" ما رايك خالتي بالعودة معي ؟....لقد اوشك السائق على الوصول.. "
سعلت وقالت بصوت ضعيف:
" اذهبي صغيرتي في امان الله....ايمان ترعاني جيداً....سأحاول ان آتي غدا ان امكنني ...المهم ان لا تعاندي وابقي كل شيء كما خطط له "
تنهدت بخنوع واحنت ظهرها لتقبّل جبينها وهمست مشفقة :
" أتمنى لك الشفاء العاجل خالتي...كوني بخير....اراك غداً "
عادت السيدة(ايمان) الى صديقتها بعد ان أوصلت ضيفتها للباب وقالت تعاتبها من قلقها عليها وتعاطفها بسبب حالتها :
" لم يكن من داعي لمبيت ليلة كاملة على الشرفة وأنتِ مبتلة والهواء يلفحك !!....لقد أمرضتِ نفسك حقاً....كان كلّ ما طُلب منك هو اتقان مشهد تمثيلي قصير في يوم عقد القران .....سامحك الله "
ردت بكلمات وسط سعالها :
" لا يمكنني...الكذب عليها ...لا استطيع التمثيل....أنا اشفق على حالها وتحملت المرض من اجلها فقط لأنني اريد لها الأفضل في حياتها ..."
اخذت نفس واردفت:
" انا بخير...سأنام قليلاً لا تقلقي ... "
~~~~~~~~~~~~~~~
ابتعدت عن فراشها وانتعلت خفها البيتي , تجرّ قدميها جراً بتكاسل , لقد مرّت عليها ليلة طويلة , مؤرقة وهي شاردة بأفكارها وقلقة من الغد...انها عروس ويجب ان تتدلل....لا تدري لمَ جاءت الخادمة لإيقاظها والساعة ما زالت التاسعة صباحاً....دلفت الى الحمام ..غسّلت وجهها لتنتعش ثم توجهت الى منضدتها تلتقط هاتفها لتطمئن على خالتها ....تأففت والقته على السرير لاكتشافها انه مغلق بعد ان نسيت وضعه بالشاحن.....نزلت السلالم بتباطء فاصطدمت بالصاعد مسرعاً ذا الدم البارد الذي القى تحية الصباح بخباثة :
" اووه عروستنا....صباح الخير "
رمقته باشمئزاز وتابعت نزولها بنفس الوتيرة البطيئة...فأردف:
" وُلدتِ مغرورة ...والآن بعد ان اصبحتِ عروساً لصلاح السيد ازددتِ غروراً "
رفع وجهه ويديه عاليا وهتف يستفزها:
" أعاننا الله عليكِ وعلى تغطرسك "
قالت دون ان تنظر اليه وهي شبه متوقفة على السلم :
" اصمت يا كرم...لا ينقصني صداع على صداع.....هل رأيت أبي ؟"
أجاب بمكر:
" لقد خرج باكراً.."
ادارت وجهها الى الخلف بعد ان ضاقت أنفاسها لانقباض قلبها فجأة وسألت بوَجل:
" اليوم اجازته!...لمَ خرج باكراً ؟"
رماها بنظرة ثعلبية وهمس شامتاً وهو يحرك حاجبيه بحركته المستفزّة :
" على ما يبدو ان حفل اليوم سيؤجل!!...لا تحزني ...سيعوضك صلاح ابن الملياردير بحفل آخر....لأن أحدهم دخل المشفى "
جحظت عينيها وصعدت مسرعة نحوه تسأله :
" ماذا؟..من ؟..خا....خالتي ؟"
أجاب ببرود مُهلك :
" نعم خالتك....ارتفعت درجة حرارتها ونقلوها الى المشفى ومن هناك صديقتها اتصلت بالقصر "
صعدت الى غرفتها بخطى مرتبكة وعيناها غارقة بالدموع ....وضعت هاتفها بالشاحن وفتحته تضغط على اسم خطيبها , تطلب منه ايصالها الى المشفى...
×
×
×
وصلا المشفى واستعلما عن غرفتها ..توجها اليها ولما رأتها تتكلم وتبتسم بعد ان كادت تفقد عقلها خوفاً وقلقاً عليها ...دنت منها تعانقها بحرارة وتتحسس منها لتتأكد انها بخير ...القى (صلاح) التحية وتمنى لها الشفاء وبعد لحظات هتف (عاصي رضا) بصوت جهوري ناظراً له :
" بنيّ...اعذرنا ...سنقوم بتأجيل عقد القران لان السيدة فاتن ستبقى ليومين بالمشفى ولا نستطيع الاحتفال بألمى من دونها "
نطقت السيدة(فاتن) بصوت هزيل :
" ارجوكم ابقوا على موعدكم.....لا داعي لتأجيله"
تدخلت (ألمى) قائلة :
" لا داعي لكلامك خالتي ولا ترهقي نفسك...فأنت تعرفين كما الجميع يعرف انه من المستحيل ان احتفل وانت لستِ معي .."
قال(صلاح) ليدعم قولها بثبات مغاير لما يريده ويشعر به بداخله:
" بالطبع لا يمكننا الاحتفال من غيرك سيدة فاتن...عودي سالمة وسنقوم بحفل اكبر "
هتف (عاصي) متباهياً مع ضحكات تشوبها العظمة :
" نعم سنؤجل احتفالنا ليكون احتفالين بعد نجاح صفقتنا.."
نظرت السيدة(ايمان) لصديقتها بعد جملته الأخيرة بنظرات ساخرة وابتسامة مائلة على فمها دون النطق بحرفٍ واحد....
~~~~~~~~~~~~~
اجلس في الشرفة المطلة على الحديقة في القصر , منشغلاً ببعض المعاملات الخاصة بالشركة عن طريق حاسوبي النقال وانا ارتشف من قهوتي الثقيلة , فَعَلا رنين هاتفي وأجبت في الحال بعد السلام :
" نعم اخبرني.....ماذا جرى بموضوعنا ؟"
أجاب بتوتر ملحوظ :
" لقد وافقوا على خطتك انت لتنفيذها !!....لكني أخشى عليك ولا اريد مشاركتك بهذه المهمة "
قاطعته بصلابة:
" من فضلك سيد ماجد ..انت تعلم اصراري على المشاركة بهذه المهمة بالذات...لقد سهرت اسبوعاً كاملاً بعد معرفتي بتجدد النزاعات على الحدود واستفزاز الخونة للثوار وأنا افكر بطريقة لسحقهم .."
قال:
" اعلم....لكن هناك ممكن وضع بديل مكانك اما هنا نحتاجك لمهمتنا الأخرى "
قلت بامتعاض:
" هل اترك مهمة الرجال واخواني هناك بسبب مهمة تافهة ؟"
زفر بغيظ وقال:
" انت من تقول هذا رغم معرفتك بان كل ذلك مربوط ببعضه ؟"
اجبت ببرود:
" افشال صفقتهم اعتبره بالجيب...لا مناص منه...والنصر حليفنا بإذن الله وما بعد المصيبة التي ستحلّ على الوغد عاصي رضا اتركه لي ايضاً...."
تنهد يائساً وهتف:
" مع انني غير مقتنع !!..لكن من واجبي اخبارك ان السفر للحدود غداً بعد صلاة الفجر.."
انهينا المكالمة وتابعت العمل على حاسوبي فأعاد اتصاله قبل مرور خمس دقائق فأجبت على الفور:
" لم اغير رأيي ...انا ذاهب ان شاء الله "
ضحك الذي كان منزعجاً بمكالمته الأولى وقال :
" مبارك لنا.....أُجّلَ عقد القران حتى إتمام صفقتهم ليكون احتفالين في آنٍ واحد "
اطلقتُ ضحكة شماتة وانتصار وأنا ألقي ظهري للخلف بارتياح واثقاً بخططنا محسناً الظن بالله وقلت:
" لقد فعلتها السيدة فاتن ...كل الاحترام لها "
قال بتأنيب ضمير :
" لا لم تمثل.....لقد امرضت نفسها حقاً لإنجاح دورها حتى وصل بها الحال للمشفى "
صُدمت مما سمعت !!...كيف تفعل ذلك ؟!...لم آذت نفسها ؟؟!
{وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}
همستُ شاعراً بالذنب :
" يا الهي.....شافاها الله وعافاها...كنا نفذنا خطة أخرى دون ان تصاب بأذى ...كيف الحقت الضرر بصحتها ؟...لا يجوز هذا ولا يقبل به الله !! "
ختم مكالمته قائلاً:
" هذا ما حصل...علّه خيراً...استودعك الله "
~~~~~~~~~~~~~~
مضى يومان على وصولي الحدود بانتظار اللحظة الحاسمة والمواجهة النارية مع الخونة انصار المدعو (عاصي رضا) الذين يساندونه بأعماله الغير شرعية ويبثون الفساد في ارجاء الوطن لإخلاء الطريق له للوصول لما يصبو اليه ...هؤلاء هم فئة مصغرة من جنوده الأوغاد ومهمتهم نقل الأسلحة الممنوعة وليست بقانونية.... والضارة بالشعب ومبدأهم اسحق من يقف امامك والمهم المال ورضا الأسياد!!....كانوا يتعسكرون منذ أسبوع , ينتظرون إتمام الصفقة الكبرى للوغد وشركائه لإدخالها من غير علم للدولة ..!! يقومون باستفزاز من يتواجد على الحدود كالثوار مثلاً لتشتيت الأعين عنهم اثناء تطبيق المهمة باحترافية شيطانية ..!!
القائد الأعلى للثوار وهو أحد المقربين من ابي رحمه الله ...وثق بي ولأول مرة يسلمني قيادة هذه المهمة كاملة معتمداً بعد الله على ذكائي....وجاءت هذه اللحظة للانطلاق وتنفيذ التكتيك الحربي بدهاء بعد مواجهة ليلة وضحاها مما أسفر عن محو كتيبة العصابة بأكملها والمكوّنة من ثمانية وعشرون جندي بتوفيق من الله....لنعود بعد ذلك الى مقرنا الموجود بجانب قرية هي الأقرب من الحدود والذي يقع على مساحة واسعة وأُنشئ على شكل غرف حديدية متباعدة عن بعضها البعض....رجعنا الى مكاننا نحمل من يخصنا من مصابين وجرحى.....مشاهد اعتدنا على عيشها وبلطف من الله لم نفقد أي عنصر من عناصرنا الأبطال....
كان الاتفاق بعد انجاز مهمتنا بنجاح أن نبيت هذه الليلة بالمعسكر ونغادر صباحاً الى بيوتنا...وبسبب الحماس وسلامة الجميع , قرر اخواني الثوار الاحتفال بنصرنا فيما بيننا بطرقنا الخاصة......
أقبَلَ المساء وبدأوا بالتجمع في الفناء خاصتنا فشعرتُ بانقباض في قلبي وعدم ارتياح وحدسي ساعدني على أمرِهِم بفضّ تجمهرهم , لذا طلبت منهم البقاء متفرقين خوفاً من مباغتة العدو لنا في أي وقت وخصوصا بعد سحق كتيبة كبيرة لهم....
بهذه المنطقة يكون الجو بارداً في ساعات الليل فتوجهتُ انا وبعض زملائي لجمع بقايا الأشجار من اغصان واوراق لنوقد ناراً نتدفأ بها....
بعد ابتعادي قليلاً تذكرتُ انني نسيتُ هاتفي فعدت لأخذه علّنى التقط إشارة لأتصل بأهلي وأُطمئِنَهم عن أحوالي....
اقتربتُ من الساحة وإذ بقذيفة من مدفع ارضي على الحدود تصيب غرفتين هما الأقرب لها لتفتت جدرانهما الحديدية فتقع احدى شظاياها على حاجبي الأيسر وتقسمه من طرفه الخارجي تاركة أثراً أبدياً....لم أشعر بالألم فجلّ تفكيري مرتكز على زملائي واخواني الموجودين بهاتين الغرفتين !!...ربااه...اقترب وأرى....أغراض مبعثرة...دخان كثيف متصاعد...روائح ودماء !!...ثم إصابات متفاوتة بين المتوسطة والبالغة.....هبّ الآخرون للمساعدة...بدأنا برفع الألواح الحديدية عن هذا ونسحب ذاك...أصوات أنينهم يخترق اذاننا ويدمي قلوبنا ...يارب ساعدهم وهوّن عليهم....وأخيراً وصلت الإسعافات التابعة لمشفانا الخاص بعد ما يقارب العشرون دقيقة من العذاب وصراع البقاء.....لم اكن لأتركهم لشعوري بالمسؤولية اتجاههم فلحقنا بهم انا وبعض زملائي للاطمئنان عليهم...امشي بخطى واسعة متألماً لأجلهم , اريد ان استشف أي خبر يهدئ من روعي فاصطدمت بإحدى الممرضات التي شهقت وهي ترى دمائي تنزف من حاجبي وتلطخ وجهي وانا غير مكترث لحالي فقالت بإصرار يجب تنظيفه وتعقيمه ...رافقتها مستسلماً وبعد تحريات علمتُ ان زميلنا (ايمن) صاحب أصعب إصابة يرقد في غرفة العمليات يصارع للحياة ..!!....اربع ساعات ونحن متسمرون مكاننا , نثبت أنظارنا على المصباح الصغير الموجود فوق الباب , المضاء بالأحمر....لو كان ذا روح لتوسلناه ان ينطفئ ويطمئننا عليه !!....أُطفئ الضوء بالتزامن مع فتح الباب الكبير فهرعنا جميعنا بلهفة لنتلقى أي خبر يعطينا الأمل......خرج الطبيب المسؤول يطأطئ رأسه فوصل خبره لبصرنا قبل سمعنا انه فارق الحياة ليُزف شهيد للجنة بإذن الله.....
ذهب الشاب المجتهد محب الخير...عاش على أمل العودة الى بلاده بعد استقرارها ليتزوج من ابنة عمه المرتبط بها من سنوات....كان يملأ جلساتنا في حديثه عن أحلامه التي تركها داخل هذه الغرفة ليصعد الى بارئه.....
اهتزت كتيبة بأكملها بفقدان المجاهد البطل (ايمن) صاحب القلب الطيب والابتسامة خاطفة القلب ...زفناه الى مأواه الأخير في مقبرة شهدائنا في بلاد اللجوء سائلين الله ان يلهم اهله الصبر والسلوان.....
↚
قهقهات شيطانية وايدي تمسك الكؤوس المسكرة احتفالاً بيوم غد يوم الصفقة الكبرى !!...هكذا هم ضعفاء النفس يهربون من واقعهم بادعاء اللذة بارتشاف المشروبات المحرّمة وكأنها هي سبب المسرّة والهناء لأنهم لم يذوقوا البتّة طعم السعادة الحقيقية وهي القرب من الله ....لم تكن تلك سوى بهجة زائفة , زائلة بقشرة هشة تختفي بعودة العقل الى مساره....اما القرب ممن خلقنا سبحانه هو الانشراح والنعيم الابدي الذي يصاحبنا في أي حال كنا حتى الممات.....
في حديقة الصاحب الشريك السيد (رائد السيد)... سهرة أُنس بعد عشاء فاخر معتزين بالإنجاز العظيم الذي سيحققونه غداً.....أطلق (عاصي رضا) ضحكاته الجهورية وهو يحمل الكأس للأعلى هاتفاً:
" غداً يوم النصر ويليه عقد قران ابنينا باحتفال سيضج له الاعلام من الشرق للغرب "
ردّ عليه صديقه ضاحكاً بخيلاء , رافعاً كأسه يؤكد له صحة كلامه....(اسراء) تمسك يد صديقتها(سوزي) تشاركانهما فرحتهما تتبادلان الضحكات بحبور وكأنهما تعانيان من قحط لا تجدا قوت يومهما وغداً ستهلّ عليهما الخيرات...لكن لا ملامة !! فهكذا هي العيشة الحرام التي يغطيها الجشع ولو كان بأيدي هؤلاء البشر لامتلكوا الاوكسجين ليمنعوه عن غيرهم... يظنون أنّهم مخلّدون في هذه الحياة.....
وعلى طرف الحديقة في الزاوية الشمالية حيث نبتة الجوري بأزهارها الحمراء مع انعكاس الضوء القادم من الأرض بنفس اللون يحوطان معاً من تقف بينهما لا تستطيع تمييز من أثّر على جمال الآخر وهي ترتدي فستانها الأسود الطويل المجسّد لمعالمها بإتقان وتسبل شعرها ليمتزج معه بانسجام فاتن يذيب القلب ويبهج النظر!! ومحاذياً لها يقف ذاك (الصلاح) يهمس لها بصوت رخيم , رومانسي وهو يمدّ يده ليمسك يدها ويقبّلها :
" كدتُ أفقد عقلي وأنا أعد الأيام منتظراً يوم الخميس لتحملي اسمي أميرتي الجميلة "
حدّجته بنظرات جريئة وقالت:
" كله عقد قران لمَ انت متحمساً لهذه الدرجة انا لا افهم ؟!"
خفت حماسه وحدّق بها متسائلاً:
" هل انتِ لستِ متحمسة مثلي ؟!"
أجابته ببرود وهي تتحسس أوراق الجوري برقة بأناملها الناعمة وتنحني لتشتمّها :
" لا أدري...لا أرى فرقاً بين الخطوبة وعقد القران.....ربما لو كان زواجاً رسمياً لكان شعوراً آخراً "
ظنّ انها تواقة للزواج به فهتف بصبابة :
" هذا يعني أنّك تريدين الزواج دون انتظار؟"
رفعت راسها تنظر لعينيه ببلاهة ثم همست متهرّبة بحماقة:
" لا.....انت أسأت الظن....اقصد بلى طبعاً.....اوف صلاح لقد انسيتني ماذا سأقول !!"
نصب كتفيه ينظر للبعيد من فوق الجدار وقال بتفاخر وغرور :
" ألمى السيد....يا لجمال الاسم....هذا وحده سيكفيني حالياً لأؤمن انك تخصيني انا.."
ابتسمت مجاملة له دون أدنى إحساس وبعدها خاضا بأحاديث متفرّقة حتى انتهت هذه الليلة في انتظار اكتمال فرحتهم الكبيرة....
~~~~~~~~~~~~~
أن تذهب الى الجامعة لتجد الأستاذ متغيّباً , يكون شعوراً لا يضاهيه أي شعور...فهذا يعني الحرية , التمتع مع الأصدقاء والجلسات المليئة بالدردشات الجميلة في حديقتها او مقهاها وكيف عندما يكون له محاضرتان في يومٍ واحدٍ؟!....
" يا للروعــــة .."
هتفت (ألمى) بابتهاج وهي تضرب كفيها بكفي صديقتها (ميار) والصديقة الجديدة (لميس) فالآن سيكملن بحرية ثرثرتهن التي لا تنتهي والتي دائما يأتي ما يقطعها كدرس ممل مثلاً.....
قالت (ميار) بمرح:
" يجب ان نرسل له برقية شكر على تغيبه .."
دعمتاها مازحتان مع ضحكات ثم قصدن ثلاثتهن مقعداً اعتدن عليه وأصبح يخصهن في حديقة الجامعة بعد ان اشترين العصائر .....رنّ هاتف (لميس) فتورّدت وجنتيها وهي تنظر للاسم وكادت عيناها تخرج قلوب فأجابت بخجل :
" مرحبا...كيف حالك امير؟"
"..."
" بخير...اشكرك"
"..."
" نعم بعثت لك رسالة لأنني متفرغة ...الاستاذ غائب"
"..."
" حسناً سأكلمك فور انتهاء دوامي "
اكتسى وجهها بالكامل باللون الأحمر ..ارتبكت ثم همست بصوت يتعسّر سماعه من خجلها :
" وانا ايضاً.."
كانتا في هذه الاثناء تراقبان ملامحها وانفعالاتها اثناء حديثها مع خطيبها وعند انتهائها سألتها(ميار) ساخرة:
" لمَ كل هذا الاضطراب والاحمرار يا ابنتي ؟؟
أجابت بحياء:
" عندما تجربين ستعذرينني وخصوصاً ان كنتِ تحبينه.."
نظرت لـ( ألمى) ثم اعادت النظر اليها وهي تشير بيدها للأخرى وقالت باندهاش:
" وهذه ايضاً مخطوبة !....لكن لا أرى أي ردة فعل بملامحها وهي تكلم خطيبها ...حتى عيناها تكونا متسعتين بوقاحة وكأنها تكلم أخاها الصغير.."
انتبهت (ألمى) لكلمة (ميار) والتي اصابتها في الصميم وباتت تقرأ افكارها وتغوص في دواخلها وسبر أغوارها....كانت بالفعل مستغربة من طريقة مكالمة صديقتها مع خطيبها والتي كادت ان تذوب امامهما ...فسألت بتردد:
" ماذا تشعرين وانت تكلمينه ؟"
ردت بنبرة خافتة , خجولة وهي تستحضر شعورها :
" مجرد رؤية اسمه اشعر بشيء يتراقص داخلي...عند سماع صوته تتسارع نبضات قلبي...عند همسه لي بكلمات لطيفة أكاد ان أقع مغمىً عليّ....نحن مخطوبان منذ سنة تقريباً والى الآن لم استطع النظر بعينيه مباشرة خجلاً منه وأشعر انني اذوب من لمسته....انا أعشقه وانتظر بفارغ الصبر متى سيجمعنا بيت واحد .."
كانت (لميس) ترد على سؤالها وتلك تقف بينها وبين نفسها عند كل كلمة قالتها وتقارن بما تشعر به عند تحدثها مع (صلاح) فلم تجد أي شيء مما ذكرته لها فهتفت بثقة مزيفة :
" هذا يبدو لي ضعفاً وليس حباً....لمَ أخجل منه ما دام احبه؟!...ولمَ ليتسارع قلبي بسبب شخص ؟؟ "
اجابتها بابتسامة على ثغرها :
" اولاً هو ليس أي شخص.....ثانيا من الممكن ان كل واحدة منا لها طريقتها في الحب..الّا اذا..."
سألتها (المى) بفضول:
" الّا اذا ماذا؟؟..."
تابعت (لميس) بصوتها الهادئ وهي تخفض عينيها الى الأرض:
" لا تغضبي مني....الّا اذا كنتِ لا تحبينه اطلاقاً.....فمن المستحيل ان لا تشعري ولا بأي شيء مما ذكرت..."
آآه لقد أصابتها إصابة بالغة....الهذه الدرجة هي شفافة وتظهر بواطنها ويستطيع أيٍّ كان رؤية مشاعرها ؟؟...لمَ لا يدق قلبها له ولمَ لا تقدر على مبادلته الحب ؟...هي تحاول التقرّب لكن الشيء ليس بيدها ولا سلطة لها على أحاسيسها ...ما ذنبها ؟؟!!
~~~~~~~~~~~~~
" نعم أنا معك....اريد حركتهم بالتفصيل"
اجابني السيد(ماجد):
" حسناً هادي....نحن ننتظر والقوات تتخفى بحذر متقن "
سألت:
" والشرطة البحرية بتواصل معكم ام ماذا ؟؟"
قال:
" بالطبع وبقي عشر دقائق لوصول هذه العبّارة الضخمة للميناء "
قلت بضيق:
" لكن هذا سيستغرق وقتاً طويلاً بسبب تواجد عشرات الحاويات...لربما حتى الفجر!!"
أجاب ببرود:
" إذاً نم وسنخبرك في الصباح "
زفرتُ هاتفاً:
" مســـتحيل ..حتى لو اضطررت لإلصاق جفوني للأعلى بلاصق....لا اريد تفويت هذه اللحظة "
ساعات شاقة ونحن على تواصل مرهق , مضني للأعصاب...ارتأيتُ ان اتابع معهم كل حركة دون الانسحاب او اخذ غفوة....كنا قد التزمنا بأماكننا قبل منتصف الليل !!
كان بجانبي ابي (إبراهيم) وفي الطرف الآخر السيد(ماجد) مع المصوّر الخاص لصحيفة السيدة(ايمان) لتوثيق الفضيحة الاجرامية وفي المقدمة القوات الخاصة لشرطة مكافحة الجريمة في اعلى مستوى مع أسلحتهم المتطورة وكلابهم المدربة والتي انشطرت الى قسمين ...منهم في البحر والاخرون في البر لمحاصرتهم !!
{وَجَعَلْنَا مِنۢ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَٰهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ}
بين هذا الهدوء القاتل تسلل الى آذاننا عابراً نوافذ القصر صوت المؤذن المنادي لآذان الفجر بـ الله اكبر ...
" يااا رب اسألك ان لا تضيّع لنا تعباً وان تجعل كيدهم في نحرهم "
همستُ داعياً مع انتهاء الاذان وتوجهت الى الحمام لأتوضأ ثم شرعت بالصلاة أؤمّ بأبي (إبراهيم) وخالتي....وبينما انا على سجادة الصلاة مستغفراً , مسبحاً ...بدأت نغمات متواصلة خلف بعضها معلنة وصول الكثير من الرسائل لهاتفي...نهضتُ من مكاني متوتراً وتعاقبت أنفاسي ...حملتُ هاتفي وفتحته لأرى الكمية الهائلة من الصور التي تزيّن شاشته بمنظر لا أنساه ولا أبدله بغروب الشمس في جزر المالديف...!!...صورة تلو الأخرى...رجال ينكسون رؤوسهم , يحاولون تغطية وجوههم بملابسهم كاللصوص من الخزيّ...مكبلون بالأصفاد...حاويات مفتوحة على مصراعيها محملة بأسلحة مختلفة , قاتلة مخبأة داخل الأثاث المنزلي بصورة احترافية !! ولو أن القوات لم تستخدم الكلاب والأجهزة المتطورة لما شكّ احدٌ بوجود تلك الأغراض داخل الاخشاب والقماش...!!
زفرت أنفاساً اثقلتني لأرتاح ورفعت بصري للأعلى شاكراً ربي على إتمام مخططنا بنجاح....
~~~~~~~~~~~~~~~~
استيقظت من نومها تشهق مفزوعة بشعرٍ مبعثرٍ...تضع يدها على صدرها بأنفاسٍ لاهثةٍ وضربات قلب ثائرة....تنظر نحو النافذة ترى ضوء النهار بأول طلاته , يخترق الستار قبل شروق الشمس...احنت جسدها تلتقط هاتفها , تنظر للساعة وهمست لنفسها :
" يا الهي انها الخامسة والنصف....لا بد أنه كابـو....."
وقبل ان تكمل جملتها عادت الأصوات التي سمعتها ولكن بقوة أكبر من قبل ....تهشيم زجاج...القاء أشياء ثقيلة ترتطم في الأرض!!..و..و...نعم صرخات والدها مالم تسمعها من قبل بهذه الحدة والقسوة !!....انه ليس كابوساً ...بل واقع مُرّ...
قفزت من سريرها حافية القدمين بمنامتها الوردية القصيرة وشعرها منكوش بطوله الجذّاب , تندفع صوب الباب وتفتحه بقوة ثم تنزل السلالم مسرعة حتى وقفت على آخر درجاته متجمدة كالتمثال باب المتحف من هول ما رأت من دمار والأدهى منظر والدها بقميص منامته الممزق ووجهه مسوداً , مكفهرّاً...صدره متوغّر والعرق يتصبب من رأسه وكأنه خارجٌ من مسبح وانفاسه متهدجة وغير منتظمة !...يستشيط غضباً ويتحرك بلا هوادة مستعداً لارتكاب جريمة هذه اللحظة دون ان يرف له جفن !!....على جانب السلالم تقف زوجته الافعى (سوزي) بوجهٍ شاحبٍ مذعور , تبكي في صمت ومن خلفها (كرم) ينظر بوجوم مصدوماً....الخدم يغلقون باب المطبخ الرحب بأجسادهم وملامحهم مصعوقة.....ابتلعت (ألمى) ريقها واستدارت للأعلى بعد سماعها خطوات خالتها (فاتن) تأتي من خلفها ثم اعادت نظرها للمشهد الكارثي امامها وتقاسيم وجهها فاقدة الحياة والضباب يغشي عينيها....بدأت تنحني بجذعها وتحني ركبتيها بالصورة البطيئة من غير حول ولا قوة لها حتى لامست درجة السلم من تحتها وهي متشبثة بأحد اضلع سوره الخشبي العريض ....وصلت اليها وجلست بجانبها تهدئ من جمودها المخيف فالتفتت لها تنظر بضعف هامسة بضياع:
" ما الذي حصل خالتي ؟...لا اصدق ...ما به والدي ؟"
ربتت عليها بحنان وهي تحتضنها وتشد عليها واجابت:
" سنفهم صغيرتي حين يهدأ.."
مرّت دقائق وهم على هذا الحال حتى دخل مكتبه بخطى مترنحة , شكله يوحي انه آيل للسقوط لكنه صفع الباب بكل ما اوتي من قوة لتعود حركة من تركهم خلفه على مهل فسبب تسمرهم قد زال , صاحب الحضور المرعب والشخصية الطاغية......نزلت (ألمى) قاصدة المطبخ لتشرب الماء بعد أن جفّ حلقها.. واستقامت واقفة السيدة(فاتن) متجهة الى طرف السلالم من الجهة الأخرى حيث تقف (سوزي) وسألتها بتعجب :
" ما كل هذا؟..ماذا حصل ؟"
اجابتها بصوت مبخوع :
" لقد خسر صفقته...و...وانتهينا "
صرخت السيدة(فاتن) بتصنع وكأنها متفاجئة:
" ماذاا؟؟..كيف؟؟"
اردفت الأخرى وهي تزدرد ريقها:
" لقد رهن كل شيء ..كل شيء....القصر والشركتين !َ!....لم يبقَ لنا سوى الشقة في العاصمة وبضع قروش... !!"
انهت جملتها وانفجرت باكية وتركت جسدها يهوي على اريكة بجانبها....
×
×
×
[ القبض على عصابة من مهربي السلاح الثقيل]
كان هذا الخبر الرئيسي في جميع الصحف لهذا اليوم وعزائهم الوحيد ان أسماءهم لم تذكر مباشرة لعدم وجود أدلة تثبت ضلوعهم بها ولكن كما قال المثل < الذبابة لا تؤذي لكنها تلوث المعدة > فمهارة السيدة(ايمان) بالتلميحات الساخرة تكفي لكسر انوفهم وفضّ مضاجعهم....
×
×
×
يومان من بعد الحادثة والضعف النفسي والجسدي يسيطر على (عاصي رضا) لأنه لم يذق خسارة مثل هذه قط في حياته....كان جميع سكان قصر العنكبوت يتحايدونه من اهل وخدم ...اما ابنته انهارت وتأثرت بشدة من حال والدها وانعكس الشيء على وجهها الذي همد نوره ونفسيتها غدت في الحضيض وهي لم تعلم بعد حجم الخسائر التي تعرّض لها.....!!!
~~~~~~~~~~~~
يزفر أنفاسه بشدة ويمسح بكفيه على وجنتيه وهو يمشي بخطوات عاصفة , غاضبة هنا وهناك , ينتظر والده من انهاء مكالمته....
" لمَ نؤجل عقد قراننا بسبب صفقة فاشلة ؟"
هتف بها (صلاح) بعدما رأى والده يغلق الهاتف.....
أجاب بكل برود مع ان داخله حمماً بركانية تصهر امعاءه :
" لن نؤجله !!....بل ستفسخ الخطوبة "
" ماذاا؟؟....مســـتحيل ما هذا الهراء ؟"
صرخ وكأن تياراً صعقه ليرد بهدوء بارد دون ان يتأثر بحال ابنه :
" اولاً اخفض صوتك...لا تنسَ انك تكلّم والدك.."
اعتذر مجبراً وقال بصوت اقل حدّة :
" انا لا افهم ما علاقة خطبتنا بصفقتكم الفاشلة ؟؟"
نعم لسعه ابنه وهو يذكره بالفشل الذريع الذي المّ بهم لكنه بكل برود اسند ظهره لكرسيه الضخم خلف مكتبه وقال :
" لم تكن خسائري كخسائر عاصي رضا...فأنا لم ارهن البيت ولا الشركة ....لكنني اخذت قرض بمبلغ لو عشت عمراً كاملاً بالوضع الذي وصلنا اليه لا استطيع سداده "
قاطعه بأدب قائلاً:
" حسناً ...لكني لم افهم بعد ما علاقته بخطبتنا ؟"
وقف ثم سار نحوه ووضع يده على كتفه طالباً منه الجلوس ثم قابله جالساً على الكرسي الاخر وقال بصوت رزين :
" هل تعرف السيد صبحي خلف ؟"
أجاب بتعجب:
" نعم..مالك اكبر فندقين على ساحل مدينتنا "
صمت برهةً وتابع بنظرات متسائلة:
" ما دخل هذا بسؤالي؟؟"
أجاب محاولاً الثبات على نبرة صوته ليخفي ارتباكه الداخلي من ردة فعل الجالس امامه الذي بلا شك سيعترض ويُجرح بعمق لوضعه كسلعة تباع وتشترى :
" لديه ابنة وحيدة تدعى ميسم .."
صمت يلقط نفسه وأكمل:
" كانت متزوجة من رجل اعمال لمدة شهرين ثم انفصلا برضا لعدم الاتفاق ....مسكينة صغيرة تبلغ من العمر تسعة عشر عاماً "
اتسعت عيناه بتأهب وسأل:
" ها...ما المطلوب ؟"
مرر لسانه على شفتيه يرطبهما وأجاب مبعداً عينيه عنه:
" اريدك الارتباط بها ...لخدمة مصالحنا "
انتصب بغيظ صارخاً حتى برزت عروقه وشارفت على الانفجار:
" ماذا؟؟....مطلقة ؟؟..وهل تراني صفقة!!...كما انني احب ألمى ولن اتخلى عنها "
قال ساخراً:
" ألمى؟؟!!....وهل تظن ان عاصي رضا سيقف مكتوف اليدين ويقدمها لك على طبق من ذهب وانت على حافة الإفلاس دون ان يبحث عن عروض تخدم مصالحه هو الاخر ؟؟.....سيلقيك الى الخارج مع اول صفقة زواج رابحة تتقدم لابنته !! "
هتف بثقة:
" لن تقبل ألمى بذلك.."
أكمل بنبرته الساخرة:
" انت لم تكلمها منذ يومين ولكن والدتك كانت تكلم السيدة سوزي وتعرف وضعها.....لقد أصيبت بانهيار عصبي خوفاً على والدها....أي سترضى
بكل شيء في سبيل اسعاده والمحافظة عليه "
أسبل عينيه الى الأرض شبه مستسلماً وقال بصوت خفيض:
" عليّ ان اكلمها اولاً.."
قال:
" لك ذلك...لكن اعلم ان ارتباطك بابنة السيد صبحي خلف حتميّ لا محالة ...فهو من عرض عليّ المساعدة مقابل النسب بيننا "
×
×
×
عندما خرج من مكتب والده كان محبطاً , يائساً , مشتتاً بأفكاره...محتاراً بين قلبه الذي يحبها وبين مصلحة والده الذي أنشأه دون أي تقصير في حقه , ملبياً كل طلباته ولم يطلب يوماً المقابل لهذا كله بل لم يجبره على شيء ولم يتدخل باختياراته تاركاً له حرية اختيار كل شيء وتحمل مسؤولية قراراته وهذه هي المرة الأولى التي يحتاجه ولم يفعلها سابقاً !!.....توجه الى غرفته واضعاً هاتفه على اذنه بعد ان دق رقمها منتظراً الرد....
" مرحبا صلاح....كيف حالك ؟"
أجاب بهدوء:
" انا بخير...كيف حالك انتِ؟...لقد قلقت عليك وهاتفك كان مغلقاً "
ردت بصوت واهن , مرهق:
" اسفه....كنت منهارة واليوم بدأت بالتحسن بعد ان رأيت ابي يتحسن "
قال:
" سلامتك...هل يمكنني مقابلتك ؟"
اجابت بحرج:
" اعذرني صلاح...لا يمكنني طلب ذلك من والدي الان وايضاً لا يمكنك القدوم الى البيت حاليا فالجو ما زال مكهرباً "
قال وهو يبتلع ألمه :
" حسناً....هل يمكنك الإجابة عن سؤالي بصراحة ؟؟"
اجابت بفضول:
" بالطبع...ما هو ؟"
قال:
" انت تعلمين الحال الذي وصل اليه والدانا والخسائر التي تلقياها.. "
قاطعته هامسة:
" نعم مع الأسف ...ما هو سؤالك؟"
أجاب متردداً:
" لو تقدم لك الان من ينشل والدك من ضيقه ....هل توافقي على فسخ خطوبتنا لترتبطي به ؟"
شردت قليلاً وقالت:
" لم يخطر في بالي هذا من قبل.....وصدقاً انا مستعدة لأفعل المستحيل لإرضاء والدي وحمايته....لكن موضوع الارتباط بشخص لا اعرفه صعب ..صعب جداً....لا اظن انني استطيع "
كانت نبيهة لدرجة فهمت تلميحاته فتابعت :
" صلاح.."
" نعم .."
قالت:
" اياك ان تتردد بشيء يمكنك فعله لإصلاح حال والدك والمحافظة عليه خوفاً من خسارته.....فكل شيء يعوض الّا الوالدين....لا يبدلا بكل كنوز الدنيا..."
سأل بلوعة بعد ان فهم مقصدها :
" وهل سنستمر بصداقتنا على الأقل ؟؟...ام ستفرقنا الطرقات ؟"
تنهد متابعاً بأمل:
" ربما سينصلح الحال ونجتمع مجدداً برباط مقدس متين "
ردت مبتسمة وفي داخلها تضارب بالمشاعر بين الراحة لشعورها بفك قيد كان يثقلها لأنها مرتبطة به من غير حب وبين الضيق بسبب حبها لتملك كل ما يخصها وهو كان في لائحة املاكها تحت اسم الصداقة بل الصديق الأفضل والاقرب :
" لنترك ذلك للمستقبل....كن سعيداً صلاح واراك على خير "
×
×
×
انتهت المكالمة وظلّ مكانه يجلس على سريره يشرد بالفراغ....يشعر بخناجر تطعن فؤاده من غير رحمة فهو يحبها وانتظر اللحظة التي ستربطها به بفارغ الصبر ولكن عدم موافقته على اقتراح والده يعني الخسائر ستزداد وسيصل بهم الحال الى الشارع بعد سنوات طويلة عاشوها بترف وكامل الرفاهية وهذا ما لا يستطيع تحمله هو ولا والديه وخاصة امه التي تربت على العز منذ نعومة اظافرها .....
مسح دمعة قهر سقطت رغماً عنه بعد فسخ خطوبته عن حبيبته واتجه نحو الباب ذاهباً الى حيث ترك والده ليخبره بالموافقة على قراره.....
~~~~~~~~~~~
ما زالت تجلس على اريكتها جانب النافذة والهاتف بيديها المرخيتين على ساقيها وعيناها غائمتان...تحترق داخلياً...هي لا تحبه كحبيب لكن صداقتهم اقوى من ذلك وارتباطه بأخرى يعني انشغاله وابتعاده عنها وهو من كانت تبوء له بكل شيء يخصها وأيضا فسخ الخطوبة هو وضعها على خط الخطر لاحتمالية ارتباطها بأغراب لا تريدهم !!...خسائرها تزداد يوماً بعد يوم...في صغرها فقدت والدتها ...في صباها حرمت ممن خطف قلبها بلمسة حضن دافئة...والان تخسر صديقها الوحيد.....رفعت هاتفها تتصل بصديقتها (ميار) عسى ان تخفف عنها من ضيقها وتآزرها في محنتها فهي لا تريد الان مواجهة خالتها واخبارها بفسخ الخطوبة , معتقدة انها ستشمت بها لأنها لم تتقبله من البداية وسيبدو انه هو من القاها مع اول ازمة صادفتهما ....
" مرحبا ألمى...كنت سأتصل بك لنخرج نتفسح ونروّح عن انفسنا لنشحن طاقات لبداية أسبوع حافلة بالدراسة "
ابتسمت بألم , تشعر بالغبطة من صديقتها التي تمضي حياتها ببساطة ومرح ...تعيش سنها الحقيقي من غير ارتباطات ....تعجب بهذا وتسخر من ذاك...تنام وتصحى من غير تعليمات صارمة وفق برنامج مرسوم كحالها مع والدها....لم ترد عليها بكلمة فسألتها بتعجب :
" ألمى...هل تسمعيني ؟"
هنا انهارت حصونها واجهشت بالبكاء مع شهقات لازمتها وبعد ان هدأت وسط أسئلة صديقتها القلقة عليها , اخبرتها كل ما جرى معها من الظروف التي وصل اليها والدها حتى فسخ خطوبتها فقالت لها (ميار):
" حسناً لم تبكين الان وانت اعترفتِ انك لم تحبيه كحبيب وهو يرغب بان تكملا كصديقين يعني كما تريدين بالضبط!! ...وعلى العكس يجب ان تفرحي اكثر فهذه فرصتك للارتباط بشخصٍ تحبينه "
قالت بصوت مخنوق:
" أي شخص احبه؟؟...هنا المصيبة أخاف ان يزوجني ابي بأي شخص لا اعرفه بسبب ما آل اليه من ظروف....لا اعلم كيف سأتصرف حينها !!"
كانت تصغي لها بتعاطف , مشفقة عليها فتنهدت متألمة من اجلها وهمست:
" لا تتسرعي المى....عساه خيرٌ لكِ...لا تدري "
~~~~~~~~~~~~~~
نجتمع ثلاثتنا في مكتب ابي (إبراهيم) في القصر بعد يومين من فسخ الخطوبة , ندرس الخطة القادمة بتأني....كنا قد جهزنا آنفاً الصفقة التي ستجمعنا به والان حان وقت تطبيقها ....هتفت سائلاً:
" اذاً من أي باب سندخل ؟"
أجاب السيد(ماجد):
" بعد أسبوع سننزل اعلان يتحدث عن فرص كبيره تعطيها شركة الهاشمي لصالح الشركات المشرفة على السقوط .....والتي تأتي بالصفقة الأنسب سيتم التعاقد معها لسنتين بأعمال مشتركة...."
تبسم ابي (إبراهيم) وقال :
" ممتاز....لكن سنحرص على وصول الإعلان الى مسامعه فأخبرتنا السيدة فاتن انه في حالة ضياع..."
↚
ضحك السيد(ماجد) وهتف:
" نعم...وهذه فرصتنا لانه كالغريق المعلق بقشة.."
اردف ابي (إبراهيم):
" لم أتوقع فسخ خطوبتهما بسهولة.."
نظر اليّ وتابع معتزاً:
" يبدو ان نية ابني يامن طيبة ليسهل الله له طريقه..."
تبسمت ممتناً من اطرائه فتحدث السيد (ماجد) قائلاً:
" السيد رائد كغيره طبعاً...مصلحته فوق الجميع فهو يريد حماية ما بناه على مر السنين وابنه يعتبر مطيعاً له "
قلت بتهكم ظاهراً وباطني شعوراً لم أقيّمه :
" لكن سمعنا من السيدة فاتن انه متيماً بها...كيف تركها بسهولة ؟؟"
قال السيد (ماجد):
" اخبرتني السيدة ايمان على حسب ما فهمت من صديقتها السيدة فاتن ان ابنته قالت لربما يعودان ليرتبطا من جديد بعد اصلاح الحال "
تمتمت حانقاً والنيران تشتعل في صدري :
" لنرى ذلك.....في احلامهما "
~~~~~~~~~~~~~
على شرفة غرفته ومع نسمات الجو الصباحية اللطيفة يحتسي قهوته وبيديه صحيفة الأسبوع...بينما يقلب صفحاتها بملل شهق مرة واحدة حتى اجفلت زوجته الجالسة معه وقال بحماس :
" جاء الفرج.....اعلان عن تبني شركة الهاشمي للشركة المفلسة الفائزة بأنسب صفقة تجلبها لمدة سنتين !!...غير معقول !! "
رفع عينيه ينظر لها بعد ان خلع نظارته وهتف مبتهلاً :
" هل تعرفين السيد إبراهيم الهاشمي ؟"
قالت ببرود :
" نعم سمعت به....من اكبر رجال الاعمال حتى صيته يصل للدول المجاورة لنا.."
قال بشبه انكسار لم تره من قبل لا في ملامحه ولا نبرة صوته :
" يجب ان انجح بهذه الصفقة لأنهض من جديد واتابع مسيرتي.."
ارتسمت بسمة مزيفة على شفتيها وباطنها فائض من الشماتة لتذكرها اهانته لها بوالدها والتبجح بعجرفة وكأنه عاش وسيموت وهو فوق السحاب ومَن دونه في قعر الأرض...لكنها لا تستطيع البوح بتشفيها منه لأنها ستفقد مأواها وبالتأكيد من قبل ذلك أحد أطرافها.....فهمست كاذبة :
" أتمنى ذلك..."
×
×
×
في قاعة الاجتماعات في الطابق الأرضي لشركتنا الضخمة التابعة لـ ( إبراهيم ويامن الهاشمي ) اجتمع عشرة رجال أعمال مع محاميهم من ارجاء الدولة ومدنها المختلفة والذين وصلوا لشفا جرفٍ من الإفلاس والدمار الكبير....ومن بينهم السيد( عاصي رضا) الذي حضر متأنقاً بأبهى صورة لا ينقص من هيبته شيئاً بمرافقة محاميه الذي يحمل ملف الصفقة التي سيدلون بها.....دخل ابي (إبراهيم) بمشيته الفخمة وثقته العالية متجهاً الى كرسيه الوثير الضخم الذي يترأس هذه الطاولة الواسعة الشبيهة بحذوة الحصان وتزينها باقات جميلة من الورد وزجاجات ماء توزع عليها بشكل منظم ....بعد قليل تبعته انا والمحامي الخاص لشركتنا , كذلك مدير العلاقات العامة وطاقم من الإداريين....بدأ كل منهم بتقديم صفقته تباعاً ليأخذ كل شخص وقته....كانت الصفقات تتراوح ما بين الضعيفة والقوية ولنعترف بذلك كانت أقواها فعلا التابعة للداهية الوغد (عاصي رضا) والتي كانت عبارة عن انشاء شبكة اتصالات خاصة بنا لأهميتها في هذا العصر والتي تصب أرباح هائلة لتنافس شركات مثيلة لها وبشروط مريحة وتقنية عالية المستوى للهفة الناس لهذين الشرطين الأساسيين ....
انتظر الجميع خارجاً لما يقارب الساعة حتى نحسم الامر ونختار الشريك الصغير...وبعد اختيارنا الذي لا مفر منه حتى لو كانت ارذل صفقة هي صفقته فالمهم ما وراءها ..دخل الينا بثقة وتعالي وكأنه كان متيقن من فوزه ...اما أنا فعذرني ابي (إبراهيم) لأنني لا استطيع مواجهته حالياً بسبب بغضي الدفين الذي اكنّه له ويلزمني بعض الوقت لاعتاد واتأقلم على مقابلة ذاك البغيض النجس....فمن وقت دخولي القاعة ورؤيتي له لأول مره عن كثب عاد امامي شريط حياتي بصورة سريعة بدايةً من يوم وفاة ابي ومروراً بتشردنا ولجوئنا حتى لم انسَ ضرب حراسه لي وذراعي خير شاهد والى ان وصلنا ليومنا هذا فلم استطع كبح انفعالاتي الداخلية وشعرت بتمزق بأمعائي ولا اعدهم بتمالك نفسي ومنعها من أي تهور او تصرف عقيم أقوم به وهو خنقه بيديّ بلا شك دون ان تهتز شعرة في بدني........ابي (إبراهيم) هو رجل واعي اجتماعي من الدرجة الأولى... يستطيع ممارسة هدوء الاعصاب بإتقان فسرعان ما جذبه له وتأقلما معاً وهذا ضمن مخططنا وايضاً هو لم يكن اقل بشخصيته الماكرة والتي يلونها حسب الظروف والأشخاص المحيطين به....
×
×
×
أسبوعان آخران اشرفا على الانقضاء وهما بتواصل معاً من اجل مشروعهما الجديد....كانا في غداء عمل مع فريقيهما وبعد التفرغ منه انصرف موظفيهما وبقيا هما ليأخذهما الحوار الى أمور خارجية فبدأ ابي (إبراهيم) مستفتحاً:
" ابني يامن هو مدير الشركة ...انا اعتمد عليه بكل شيء....سأسلمه قريباً زمام الأمور واعطيه الرئاسة.."
اردف ضاحكاً بتصنع:
" يبدو انني هرمت واحتاج للراحة"
ضحك مجاملاً له وقال:
" لا تقل هذا يا رجل...ما زلت شاباً..."
صمت للحظة وسأل بفضول:
" هل ابنك وحيد؟....فانتم بعيدون عن الاعلام بحياتكم الخاصة "
أجاب بوقار:
"نعم هو ابني ووريثي الوحيد...هو اغلى ما املك...ولا نحب مشاركة المجتمع بحياتنا الخاصة لأنها من حقنا نحن فقط.."
تحفزّ متحمساً وقال مبتسماً:
" وانا كذلك لديّ ابنة وحيدة تتربع على عرش قلبي "
قال بمكر:
" انت تظهر للأعلام بشكل كبير بالطبع لأنك كنت وزيراً في السابق لكني رايتك مرة مع امرأة وشاب...اليس هذين زوجتك وابنك ؟؟"
رد على الفور:
" هي زوجتي وهو ابنها من زوجها السابق....انا ابنتي ألمى هي مدللتي.."
كان يظهر عليه جليّاً ادخال ابنته بعينيه وكأنها سلعة يحاول عرضها بمزاد وهو لم يتوقف عن مدح جمالها واخلاقها ودراستها بكل اعتزاز....وبعد حديث طويل سال بتردد:
" هل ابنك شخص انطوائي؟؟....لانه عكسك تماماً فانت شخصية مرحة متحدثة بقوة.."
أجاب مفتخراً:
" ابني أفضل مني لديه شخصية وحضور قوي لكن احتراماً منه عند وجودي يترك الكلام لي...."
أضاف بخبث:
" يا لسعادتها من ستكون من نصيبه.....ليس وسيماً فقط ..انما هيبة واخلاق وذكاء....رجل تتمناه كل فتاة "
ارتسمت بسمة على محيّاه وسال:
" لمَ لم يتزوج؟"
أجاب:
" هو في الخامسة والعشرين وبعد انهاء دراسته قرر الاعتماد على نفسه وتثبيت وجوده في عالم رجال الاعمال وبفضل الله بدأ بتحقيق مراده بجهوده دون استخدام اسمي...والان لا حجة له ونبحث له عن عروس انا وزوجتي "
هتف بمرح:
" أتمنى ان تجد له عروساً تليق به.."
رمش بعينيه واومأ براسه بامتنان ....لحظات قليلة حتى همس مبتسماً :
" بصراحة لقد شوقتني لرؤية ابنتك وانت دخلت قلبي.....انتظر منا زيارة لنتعرف على عائلتك.."
تحمس باندفاع واخرج هاتفه دون تفكير ليريه بعض من صورها متفاخراً بعنجهية....فقال ابي (إبراهيم):
" ما شاء الله حفظها الله لك.....وجعلها من نصيب ابني...ما هذا الجمال والرقة...تخطف النظر والقلب معاً "
اسند ظهره للخلف وقال بملامح جديه:
" لا تؤاخذني....كيف تقرر ذلك دون الرجوع اليه؟؟....هو شاب ومن الممكن ان يكون مرتبطاً قلبياً "
ضحك بثقة وأجاب:
" انا اعلم بكل تحركات ابني...نحن صديقان ويخبرني بكل ما يخصه فهو جريء لا يخشَ احد ويصمم على ما يريده .....اترك الامر لي وثق بي.."
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
على طاولة العشاء في قصر العنكبوت بعد ان زالت همومه الأولية بعقد صفقه تنشله من الوقوع في الهاوية وقعر جحيم الفقر والافلاس ...ها هو الان عاد الى طبيعته بخروجه تدريجياً من ازمته النفسية والمالية...يجلس على راس الطاولة البيضوية وعلى يمينه زوجته وبجانبها ابنها الذي يأتي من العاصمة لزيارتهم في عطل نهاية الأسبوع ومقابلتان لهما السيدة(فاتن) وابنته المدللة .....بعد انتهاء العشاء كانوا يحتسون الشاي في أماكنهم فتنحنح موجهاً نظره لابنته وقال بلطف بمداعبة ابوية :
" يا لحظك صغيرتي لوما ..."
شقت ثغرها ابتسامة واهية ونظرت له بروْع وقلبها بدأ يخفق بشدة تهمس في داخلها " لا بد ان اللحظة التي انتظرتها آتية"...همست بصوت مهتز خوفاً من المجهول وابتسامتها على حالها :
" لمَ يا ابي.؟.."
وقبل ان تسمع اجابته حاولت ايهام نفسها مردفة بدلال جاهدت لإظهاره :
" بالطبع يا لحظي بوجود اب رائع مثلك وعائلتي من حولي بخير وسلامة.."
تبسم وقال:
" نعم...لكن هذا لا يكفي !!...فالقادم أجمل.."
حملقت به الافعى (سوزي) بفضول وهي تجلي اذنيها استعداداً لما سيخرج من بين شفتيه ...فأكمل بصوت ثابت:
" لقد تقدم اليك اليوم عريس...وليس أي عريس !!.."
هبّت منفعلة وهي تدفع الكرسي من خلفها حتى ارتطمت بعامودٍ خلفها وصاحت وعيناها محتقنة:
" لا اريد أي عريس....سأتابع دراستي فقط !!..."
تلاشت رقته ومداعبته ثم زفر بغضب آمراً يعنفها:
" لا تقاطعيني يا فتاة واحترميني ولا تتصرفي هكذا امامي والا منعتك من دراستك...هيا عودي الى مكانك لم انهِ كلامي بعد..."
سحبت كرسيها بحنق وجلست مكرهة وهي تشد بقبضتيها تحت الطاولة وتغرز اظافرها بكفيها ووجهها صبغ بلون دمائها فأردف قائلاً وهو يوجه كلامه لزوجته والسيدة (فاتن) :
" غداً مساءً سيحضرون للتعارف....اريد عشاءً معتبراً يليق بكرم عاصي رضا.."
ثم ثبت نظره للسيدة (فاتن) يلقي عليها الأوامر من تحتها تهديد لابنته التي تسمعه :
" جهزيها ...انا اعتمد عليكِ واخبريها الا تتهور وتفضحنا والا سيكون لي تصرف آخر معها لم تره من قبل .."
صرخت وسط عبراتها متسلّحة بعنادها:
" لا اريد...لا اريد.."
هدر بصوت اكثر صرامة وقسوة بنبرة عدوانية :
" اصمتي يا وقحة ...اترفعين صوتك بحضوري ؟"
وألقى ما وجد امامه من اطباق وغيرها على الأرض بحركة واحدة ليتبعثر الزجاج في كل مكان مختلطاً مع بقايا الطعام فأجفلت مرعوبة , مذعورة وهي تضع يدها على قلبها وتبكي ...لحظات وشحب وجهه ثم وضع يده على صدره متأوهاً بشدة مصدراً أنيناً فازدادت بكاءً خوفاً وقلقاً عليه واقتربت منه تهمس بتوسل :
" ابي ارجوك اهدأ...لا تضغط على نفسك "
أجاب بصوت ضعيف يكمل تمثيليته التي ابتدعها بالحال ليضغط عليها :
" كنت اظن ان لي شأناً عندك...يبدو انك كبرتِ وبدأتِ تعصيني ولا مكان لي في قلبك "
وبدأ يسعل ليتقن الدور بشكل اكبر فاحتضنته باكية تهمس بحنان :
" ارجوك ابي اهدأ.....انا آسفة....موافقة...سأفعل ما تريد لكن لا تتعب نفسك من اجل خاطري ...لا غنى لي عنك "
×
×
×
في صباح اليوم التالي ذهبت الى جامعتها ووجهها لا حياة فيه بعد ليلة قاسية ثقيلة على سنها وقلبها ...التقت بصديقتها (ميار) التي ذهلت من مظهرها الذي بدت فيه كأنها سقيمة وأكبر من عمرها وبعد ان افضت لها ما في جعبتها من قهر وخذلان حاولت مساندتها ومواساتها واعطاءها بعد النصائح حتى استكانت وعادت النضارة لبشرتها البيضاء ...فقالت لها مازحة :
" هيا اعطني اسمه لنخترق مواقع التواصل الاجتماعي ونأتي بقراره..."
قالت بلا مبالاة:
" لا اعرفه ولست تواقة لمعرفته فكله واحد بالنسبة لي"
شهقت مصدومة:
" يا الهي هل سيخرج لكِ باليانصيب ..؟؟"
اقبلت نحوهما صديقتهما (لميس) بوجهٍ بشوش وسالت :
" ماذا يجري هنا؟؟...ما الشيء الذي فاتني ؟"
شرحت لها (ميار) قصة (ألمى) فتبسمت قائلة:
" ربما هو خير لكِ وسيعوضك الله بعريس رائع....لا تستهيني بالزواج التقليدي ...اشعر ان بارتباطك هذا ستخوضين قصة حب مذهلة ليست كعلاقتك السابقة الجافة .."
تنهدت براحة وهي تنظر للخاتم ببنصرها مردفة:
" انا وامير ارتبطنا بخطبة تقليدية وعقدنا القران والان نعيش اجمل قصة حب ويكفي انها بالحلال...واتمنى لكِ السعادة من كل قلبي "
نظرت لصديقتها الأخرى وقالت غامزة لها:
" العقبى لكِ ميار...."
~~~~~~~~~~~~~
" لا داعي لذهابي...."
نطقت بهذا مقتنعاً بعدم تغيير رأيي بعد إصرار ابي (إبراهيم) عليّ بمرافقتهما لبيت (عاصي رضا) اثناء تجهيز انفسهما للذهاب اليهم....
قال بملامح جديّة منزعجاً :
" لكن الخطبة لك انت ومن غير المنطق عدم تواجدك.."
اجبت ببرود:
" تدبر أي حجة....ممم...مثلا ادّعي ذهابي لرحلة عمل طارئة...او أي شيء....لا يضر ذلك..."
زفر بغضب وهو ينظر الى خالتي يومئ لها بالتدخل لإقناعي وقال لي:
" لا أعلم انك ضعيف لهذه الدرجة ولا تستطيع المواجهة..!!"
اجبته منفعلاً بصوتٍ مرتفع:
" لست بضعيف....فقط امهلوني بعض الوقت ...لا يمكنكم الضغط عليّ هكذا..."
انتبهت لنبرتي فأخفضتها معتذراً منهما لتجاوزي حدودي فتحدثت خالتي بنبرة عتاب:
" لكنك يا هادي تعلم ان هذه اللحظة آتية منذ سنين!!....لمَ تنفعل لهذه الدرجة ؟؟"
لا احد يفهمني او يشعر بما اواجه في باطني ...أيظنون ان التطبيق سهل كالكلام؟؟؟!!...كيف سأضع يدي بيديه الملطختين بدماء أبي ومئات الأبرياء...كيف؟ كيف؟....كيف سأشرب قهوته وادوس بساطه بكل أريحية وكأن شيئاً لم يكن؟!...كيف سألتقي بها والجأ لسمائها ووالدها سبب تشردي ويتمي ؟؟....تدربنا على تمالك الأعصاب وكبح النفس دون السماح للتأثيرات الخارجية بإضعافنا او استفزازنا ..لكن هنا الوضع مختلف وحساس.....احتاج بالفعل لبعض الراحة لأضع كل شيء في مكانه الصحيح ...لم اختلِ بنفسي منذ وقت بسبب ضغط العمل وصخبه !!
" فقط راحة ليومين ..لا غير.."
همست متنهداً برجاء....فرفعت يدها لكتفِ زوجها تربت عليه لتهدئ من غضبه وهمست بلطف:
" امهله يومين إبراهيم....سنتدبر أمرنا هذه الليلة.."
خضع مجبراً والتفت الى المرآه يتابع ارتداء ربطة عنقه فدنوت منه اساعده على عقدها مداعباً له وهمست مبتسماً بارتياح:
" اعدك ابي الزيارة القادمة سأتواجد بإذن الله.....لكنني حقاً احتاج للعزلة قليلاً "
تبسّم برضا وهو يربّت على وجنتي بحنوٍ....
~~~~~~~~~~~~~
" لن تصدقي ميار من هو العريس المنشود !!"
همست بخفوت متحدثة على الهاتف وهي تتجهز لاستقبالنا بعد ان علمت لتوّها هوية العريس....
ردت عليها بفضول متهكمة :
" لا تقولي انه احد نجوم هوليود..."
قالت بدفعة واحدة :
" يامن إبراهيم الهاشمي "
شهقت مندهشة:
" يا ابنة المحظوظين!!...هل ولدتِ بليلة القدر ؟؟"....اللهم لا حسد "
لأول مرة تضحك بعد فسخها الخطوبة من ذلك (الصلاح) فأردفت صديقتها بمكر :
" ها نحن نسمع ضحكاتك من بعد غياب.."
ردت بصوت هادئ:
" صدقاً شعرتُ ببعض الراحة لوهلة وبعدها انتابني بعض القلق لأنه ذو شخصية قوية ...فانت رأيتِ بنفسك الثقة الزائدة يوم السباق....يعني لا اعلم كيف سأتصرف وماذا سأتحدث معه ؟"
قالت(ميار):
" لا ترهقي نفسك بالتفكير....سيأتي الكلام لوحده....اتركي هذا واخبريني ماذا سترتدين؟؟....يجب ان تبهرينه ..مع انك لو نزلتِ بالمنامة ستكونين ساحرة "
اجابت مبتهجة:
" جهزت لي خالتي فستاناً طويلاً باللون السماوي ليتناسق مع لون عينيّ"
سكتت لبرهة شاردة ثم تابعت:
" أتصدقين أنني أرى خالتي متحمسة لهذه الخطوبة اكثر من والدي ....لم تكن هكذا يوم ارتباطي بصلاح !!"
×
×
×
نزلت السلالم تتبختر كالأميرات بعد استقبال أهل بيتها لعائلتي ودخلت غرفة الضيوف تنثر سحرها على الموجودين بفستانها المماثل لعينيها وتجمع شعرها الليلي مع غرتها تشدّه للخلف لينساب على ظهرها كالشلال ويظهر كامل وجهها الذي لم تضع عليه أي لون تاركة هذا الجمال على طبيعته فهي لا تحتاج للزينة لأنها لوحة ربانية من صنع الخالق!!....تقدمت برقة تصافح ضيفيها ثم جلست بجانب خالتي (مريم) بحياء فافتتح أبي(إبراهيم) الكلام قائلاً بخجل:
" اعتذر منكم سيد عاصي....لم يستطع يامن القدوم معنا لذهابه في رحلة اضطرارية ليومين..."
انقلبت ملامحها وتجهّم وجهها ونيران ناقمة تشتعل داخلها بعد شعورها بالإهانة الكبيرة بسبب عدم قدومي لمناسبة من المفروض انها تخص كلينا ومهمة لأي عروسين طبيعيين وهي كالساذجة تتجهز بحماس لاستقبال العريس المنتظر....
ردّ (عاصي رضا) بتملّق ظاهر:
" ظننتُ انه سيلحق بكما....لكن لا بأس فهو غنيّ عن التعريف والأيام قادمة بيننا لنتقابل كثيراً.."
رفعت وجهها , عاقدة حاجبيها , تنظر لابيها بغيظ لاندفاعه ولهفته الواضحتين للحصول على هذا النسب دون ادنى اعتبار لها وحتى لنفسه....
كانت سهرة قصيرة بعض الشيء ومما خفف من مشاعر الكره المكبوتة هو وجود السيدة(فاتن) التي رطبت الأجواء بلطافتها ورقيّها ......في هذه الجلسة تم اخبارهم ببضع تفاصيل صغيرة كادعاء ان والدتي متوفاة وان خالتي هي زوجة ابي وهي من ربتني وأيضا عن دراستي الجامعية واعمالي وأين سنقيم بعد الزواج وكذلك هو أملى شرطه ان لا يتم الزواج قبل بلوغها العشرين !!....لم تشاركهم الاحاديث بل كانت بعالم اخر بعد ان فقدت حماسها ...أما (سوزي) تدخلت بفحيحها سائلة ما كان يخطر في بالها هي وكأنها اراحتها من الصراع الداخلي:
" عفواً سيدة مريم....انت تعلمين ان اليوم طريقة الزواج والارتباط مختلفة عمّا مضى وان الوضع تغير فإما ان تكون علاقة حب تجمعهما وإما اعجاب وتقبّل او على الأقل يأتي الشاب ليتعارفا ورؤية بعضهما ...كيف تتفقون على كل شيء وهو غير متواجد ؟؟"
ضحكت خالتي مريم وردت برزانة :
" هو يثق بخياراتنا ولا يعصِ لنا أمراً.....انه شابٌ مطيع , ملتزم , شجاع وذكي ولا يهمه الأمور التافهة التي تشغل شبان هذا العصر ....ستُسعد مَن تكون مِن نصيبه.."
كانت تستمع وتسخر في سرها مني وتقول داخلها " ابن الماما...اي رجل هذا الذي لا يختار عروسه بنفسه...يبدو انه ضعيف الشخصية ولا رأي له وهذه السيدة تزيّنه بصفات لا وجود لها !!.."
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
عدتُ بنفسية جديدة الى قصرنا بعد يومين قضيتهما بفندقٍ على الساحل متقبلاً الوضع الذي سأمضي به....كنا نتناول فطورنا على الشرفة مع زقزقة العصافير التي تبني اعشاشها على شجرة الزينة الكبيرة في حديقتنا ولا تحمل همّاً من هذه الدنيا ....رفع فنجانه يرتشف من قهوته مستمتعاً بها وهمس بمكر :
" ما هذا الجمال يا يامن....لم أرَ فتاة بهذه الطلة البهية ...محظوظ يا ابني ..."
وكزته خالتي بغيرة فقهقه مردفاً بمرح:
" والعينين النجلاءتين ..لا تستطيع تمييزها هل هي بحر أو سماء !! لا تدري هل هو لونهما أم الفستان الذي كانت ترتديه هو من عكس عليهما !! "
العيون وآه من العيون ...هل يخبر المذنب عن عذابه ؟!...لمَ لا تخفي سماءها عن الجميع ....لأكون ....وحدي لاجئاً بها !!....بل لمَ لا تحجبها عني لأستطيع إتمام مهمتي من غير عراقيل....فكفاني تشرداً ولجوءاً ...اريد ان احتضن عائلتي ووطني ...لقد تعبت تعبت واستنزفت طاقتي....يا الله انا طالب رحمتك ....يارب امددني بالقوة لأستطيع المتابعة من غير الاستسلام للعنة الحب وسحره الفتّاك...
استمرّ بنفس النبرة المرحة :
" يبدو انها هي الحسنة الوحيدة التي سيخرج بها ذلك الوغد من هذه الدنيا..."
شد اوتاره بجدية سائلاً:
" هل رايتها بعدما كبرت ؟؟"
أجبت مشيحاً نظري للشجرة أمامي ويدي تحتضن كأس الشاي الدافئ:
" يوم السباق لمحتها من بعيد....ولا تعنيني شيئاً....اريد فقط احراق قلب اللعين..."
قال مبتسماً:
" ستحرق قلبه اذا أراد الله...لا تقلق.....لكن لا ضرر ان تخرج بغنيمة جميلة كتلك من أرض المعركة.."
قلت:
" انا لا اهتم بها ولا بجمالها..."
غمزني وهمس بدعابة:
" نعم لا تهتم لجمالها ..لكني سأذكرك بهذا عندما تسقط منكباً على وجهك فداءً لعينيها.."
التفت ليساره وأضاف:
" اشهدي على هذا يا مريم .."
همست برقة وحنان مدافعة عني وهي تمد يدها لتمسد على ذراعي :
" انا أتمنى ان أرى عزيزي هادي منتصراً ويعيش بهناء لأشهد فقط على سعادته هو.."
~~~~~~~~~~~~
" ما هذا يا يامن...اين ربطة العنق ؟"
سألني ابي (إبراهيم) بضيق ...
زفرت بحنق قائلاً :
" لا احبها...لا اريد وضعها .."
اردف يائساً:
" يا لكَ من عنيد...اليوم خطوبتك وترتدي بنطالاً وقميصاً فقط ؟؟"
قلت ساخراً:
" لا ...بقي ان اضع زينة الوجه لتكتمل الصورة.."
تأفف منادياً على خالتي التي تقف مستندة على اطار الباب , تراقبنا وتضحك على حالنا :
" تعالي واقنعي ابن شقيقتك ذا العقل المتحجر بدلاً من ان تضحكي .."
قلت مصمماً بضيق:
" لا لزوم لإقناعي فأنا لا اريد وضعها والّا لن أذهب وسأتركك انت لتلبسها الخاتم .."
تمتم مستغفراً وألقى ربطة العنق بامتعاض على طاولة الزينة ثم خرج بعزم ينتظرنا حتى ننتهي من تجهيز انفسنا للذهاب الى بيت الكريه ( عاصي رضا)....
×
×
×
كان قد اقترح علينا السيد (ماجد) ان تكون الخطوبة مع عقد القران لأنه لا يؤتمن للخسيس ويمكن ان يغير رأيه حسب مصالحه لذا اخبرناهم بذلك مع اغرائه بصفقة دسمة ليوافق وهي فك رهنية شركتيه من أموالنا الخاصة وكذلك قصره سيبقى لهم ما دام كل شيء بيننا على ما يرام وفي حال حدث أي خلاف او طلب انفصال من جهتهم , سيصبح القصر ملكنا بأوراق قانونية لا يمكن التلاعب بها وهذا كان إضافة لمهرها الغالي....
~~~~~~~~~~~~~
شبه مستلقية على جانبها ,تتكئ بمرفق ذراعها الأيمن على فراش صديقتها التي تقف محنطة أمام مرآتها تبحث عن عيوب في زينتها المبهرجة لتسألها الأخيرة للمرة العاشرة:
" لا تخدعيني ميار...هل ابدو جميلة ؟"
تأففت بملل وعدلت جلستها ثم نهضت تدنو نحوها واجابت وهي ترتّب لها زنّارها العريض الملتف حول خصرها المنحوت :
" قلت لكِ نعم مليون مرة...تبدين غاية في الجمال "
اقتربت بوجهها تلصقه بالمرآه وهي تتأمل زينتها وتهذّب رموشها بطرف سبابتها وقالت :
" الا يبدو ان زينة وجهي مبالغٌ بها..؟؟"
اجابت بضجر:
" اوف ألمى انتِ عروس اليوم ومن البديهي ان تكون زينتك ظاهرة...."
ثم اردفت تغمزها بخباثة بريئة :
" انت مستاءة منه وتزينتِ لهذه الدرجة بعناية...كيف كان الحال لو انك ترغبين به او تحبينه ؟"
اجابت ترفع ذقنها بعنفوان وغرور:
" لي غاية بذلك..."
سالتها على الفور:
" ما هي ايتها الماكرة؟"
همست بتعجرف وهي تعيد خصلة مسرحة بشكل لولبي خلف اذنها :
" انا اعتقد انه شخص من العصر القديم ما دام انه يمشي حسب رغبات اهله ولا رأي له وطلبني دون ان يهتم برؤيتي وتلك الفئة لا يحبون زينة المرأة والعري الزائد....لذلك سوف أغيظه "
قالت ساخرة:
" انت ترتدين شبه فستان لا نعلم نسترك من اين وأين...وأخشى ان ينقلب السحر على الساحر ويفتن بك ويظن انك تتعمدين اغوائه "
اجابت بتحدي وثقة :
" سنرى ذلك المتخلف..."
×
×
×
وصلنا الى قصر الشؤم ...نزلت من سيارتنا رافعاً الهامة اسحب انفاسي استعداداً للمواجهة...ارتدي بنطالاً من القماش الأسود مع قميص بأكمام طويلة بلون الغيوم المثقلة بالأمطار في عز الشتاء مع حذاء اسود لامع...مهذّب لحيتي القصيرة وشعري نابت حديثاً بعد حلقي له اثناء تواجدي بالمعسكر....كنت اسير موازياً لأهلي احمل باقة ورد أنيقة , نتجه الى المدخل الزجاجي الرئيسي وفي النافذة العلوية المضاءة ومن خلف الستار تقف صديقتها تتلصص بخفاء منبهرة , تضع يدها على فمها وتقول :
" يا للهول....ما هذه الاناقة والفخامة التي تسير على هذا الكوكب؟؟....تعالي وانظري.."
كانت تنثر رذاذ عطرها غير آبهة لكلام صديقتها .....هكذا تبدو من الخارج لكن الحقيقة ...الفضول يقتلها ...ودّت لو قفزت تسترق بعض النظرات لتهيئ نفسها قبل المواجهة الحتمية.....استقبلنا من لا ارغب قربه ولا رؤية وجهه وصافحته مرغماً , اشعر وكأن يدي تدنست...اريد بترها من جذورها.....سلمته الباقة ثم دلفنا الى غرفة الضيوف الواسعة بأثاثها الوثير ولونه السكري وبابها رحب محاذي للسلالم العريضة الضخمة التي تحتل حيزاً كبيراً في هذا القصر.....
نزلتا من الطابق العلوي بخطى بطيئة تنزل درجة درجة بخيلاء , تظن انها سمو الملكة او أنها ابنة الملك المعظّم.....اغمضت صديقتها عينيها تستنشق الرائحة هامسة وكأنها ثملة:
" آااه....ما هذا العطر الرجولي القاتل يا المى؟؟....لا بد انه عطره فأنا لم اشمه عند قدومي..."
رمقتها بابتسامة وهمست بتهكم:
" انظري امامك قبل ان تكملي نزول الدرجات دحرجة وتغدين في حضنه ايتها المعتوهة.."
تنهدت قائلة بهيام:
" ياا ليـــــت.."
وكزتها بكتفها قائلة:
" اصمتي.."
اعادت لها وكزتها وغمزتها هامسة بخفوت:
" احم احم...ها هي الغيرة تظهر جليّاً..."
أطلت ببهاء بفستانها الكريمي الملتصق بجسدها ويصل الى اعلى ركبتيها بأكتافه العريضة وصدرٍ واسعٍ مربوع يكشف ما بين نحرها وصدرها ويلتف على خصرها النحيل شريط عريض باللون القرمزي ومن الخلف يعقد على شكل فراشة كبيرة ...حذاؤها بكعبٍ رفيعٍ مرتفع بلون الزنّار وخيطانه تلتف على ساقيها البيضاء تعانقها بمنظر مثير , فاتن ...زينة وجهها صاخبة ...شفتاها مكسوتان باللون القرمزي وعيناها مرسومتان بإتقان بالكحل الأسود العريض وكأنهما يحتاجان الى جمال على جمالهما....شعرها مجعّد مهمل بحرية دون ان يقيضه أي اكسسوار ....باختصار هي آيـــة من السحر والجمال....
اقتربت منّا تلقي التحية بصوتها الناعم العذب الذي صداه يردد في زوايا الماضي....شرعت بمصافحتنا بكل رقة ورقيّ واحداً تلو الآخر ولما وصلت عندي كان من باب الذوق ان اقف لمصافحتها ففعلت وانا مجبرٌ وهذه هي المرّة الأولى وستكون الأخيرة التي اضع بها يدي بيدِ امرأة اجنبية....كنتُ مضطراً !!!..اسأل الله ان يغفر لي ذنبي...صافحتني ويدها ترتجف في قبضتي ومع التصاق اطراف اناملي الطويلة بظهر كفها الرقيق , لامستُ الاثار الخفيفة القديمة لبقايا الحرق ليعيدني في هذه اللحظة الى ما قبل عشر سنوات متألماً لأجلها.....نهض من جانبي (كرم) بعد ان طلب منه زوج والدته بلطف ليخلي المكان لـ (ألمى )... خاصتي .....يا اللـــــــه...ما هذا الذي فعلوه؟....متى ستنتهي هذه الليلة؟....لم أعلم انها ستجلس ملتصقة بي وعطرها يخترق انفي ويزعزع خلايا مخي...كيف سأتحمل وجود هذه الفتنة جانبي ؟؟....فليرحموني...!!
تنحنح ابي(إبراهيم) ليبدأ بطلب يدها من والدها وفق العادات والتقاليد بشكل رسمي وبعد الموافقة وقراءة الفاتحة بحضور عائلتينا واثنان من أصدقائه ليشهدا على عقد القران الذي تم بعون الله على خير لنسمع المباركات لنا من الجميع وكلٌ حسب نيته ...وهذا لا يهمني ...فأنا الآن .....امتلكتُ سمائي !!
↚
جاءت لحظة تكبيل الأصابع بهذه الحلقات المعدنية وفق المراسم المتعارف عليها عند جميع من يقطن هذا الكوكب .....أنا أعلم أن الفتيات مهووسات بهذه الأمور التافهة وهن يرسمن أحلاماً وردية لحياتهن المليئة بالرومانسية كما يشاهدن مسلسلاتهن المفضلة دون ادراك للواقع الذي يحيط بهن ...مسكينات!!.....
كان من المفروض اصطحابها للصائغ لاختيار محبسها على ذوقها تلك المدللة لكن بما أن كل شيء حصل على عجلة فلترضى باختياراتنا ونصيبها !!...
تقدمت خالتي تحمل صندوقاً خشبياً مزخرفاً بفخامة , تضع فيه المجوهرات الخاصة بعروستنا وخاتميّ خطوبتنا ...
أخرجتْ منه محبسها الألماسيّ الرفيع وهو من اختياري وناولتني إياه لأكبّل بنصر سمائي ...مسكتُ يدها برقة لتتناغم مع رقة أناملها البيضاء التي تكاد ان تذوب بقبضتي بعد التماس الكهربائي الذي أدّى لاحتراقي ....
لأعترف.....كنتُ جباناً....نعم.. لم أجرؤ هذه اللحظة للنظر الى سمائها من هذا القرب !! ....جاء دورها لتلبسني محبسي الفضيّ العريض المنحوت بنقشات منه وفيه , فأنا ابغض كل شيء ناعم للرجال.. وهذا ايضاً كان من اختياري !!...مدت يديها المرتجفتين , واحدة لتسند يدي من الأسفل والأخرى تمسك أصفادي بطرفيّ أناملها وتحاول أسري بها ..فرفعتُ يسراي لأدعم يمناها المرتعشة لتنجح بتقييدي عريساً لها وشعرتُ برفعها لرأسها للنظر لوجهي ربما نظرة امتنان على المساعدة أو أي شيء لكني لم ابادلها اياها وانا محدقاً بيدها مستسلماً لجُبني....الآن دور هذا الشيء الذي يحاصر اعناق النساء كما كان يريد ابي (إبراهيم ) حصري بربطة العنق الكريهة التي تشعرني كأنني على حبل المشنقة...مسكته من جانبيه بشكله العريض وحبيبات ألماس كثيرة تصطف بجانب بعضها عليه كالجنود دون ترك ثغرة بسيطة , ليليق بسمو الملكة ابنة ذاك النجس الذي بالطبع يسيل له لعابه من قيمته !!....
دنوتُ منها وجسدانا متقابلان , شبه ملتصقين وانا احمله وانحني قليلاً اتجاهها لأطوقها بذراعيّ معه....لأحتَلّ ما هو من حقي!!......فقتلتني......
بغير حقٍ قتلتني وهي ترفع شعرها بتسريحته المجعدة لتكشف عن عنقها وتفتح المجال للعقد لينساب على نحرها وأنا أغلقه مسبل العينين ,أدفن وجهي بين البشرة البيضاء وشلالها الأسود ,غارقاً هيماناً بعبق الماضي المشبّع برائحة الاناناس المتبخرة من شعرها المختلطة بعبير عطرها , استنشقها كالمدمن المخدّر الذي حصل على جرعته ليمضي في حياته البائسة......أما قلبي الخائن!!...
كان يسلّم على قلبها وأنفاسي الدافئة تجود عشقاً في قربها لترسم قشعريرة على بدنها لا تعلم ألْمَتي ما سرّها...؟!!
انتبهتُ لوضعي واعدت ملامحي الجدية ثم طلبت ببرود من خالتي لتكمل لها الباقي قبل أن افضح نفسي....!!
ساعة ونصف كاملتان لم أوجه لها بهما أي كلمة خاصة.. وهي كذلك ..وحتى انني لم التفت الى يساري حيث تجلس ملاصقة لي ...كنتُ انتظر متى ستنتهي هذه الليلة لينتهي معها عذابي !!...وبينما انا شاردٌ أعد الثواني لنذهب من هنا , تدّخلت خالتها (فاتن) تطلب من والدها:
" أيمكنهما الذهاب للشرفة ليتعرفا على بعضهما ؟؟ "
ردّ بحماس مع ضحكات كلها رياء:
" طبعا طبعا.....تعتبر الان زوجته "
لا أدري من كذب عليها وأخبرها انني اريد ان اختلي بابنة شقيقتها كأي عريس متلهف لذلك ؟؟!!... لكن الجميل بالموضوع انها انقذتني وأوقفت اختلاط انفاسي بأنفاس النجس في هذه الجلسة !!....وبما انني وُضِعت تحت الأمر الواقع , نهضتُ من مكاني وهي تمشي أمامي بعنفوان لنتجه للمكان المقصود وهاتفها بيدها ...ابتسمت رغماً عني وانا اتذكرها وهي طفلة صغيرة تلهو عندنا كالفراشة وكيف أصبحت الآن بكامل الانوثة ...مررنا من جلسة صغيرة وسط القصر , ملكية من خشب البلوط مع فرش باللون الأخضر الزيتي من المخمل بأربع كراسي , تجلس على احداها صديقتها واعتقد الأخرى هي من الخدم فأشارت للأولى هامسة بحياء يعاكس عنفوانها :
" هذه ميار صديقتي ..."
حييتها برأسي مبتسماً من غير كلام لترفع يدها ملوّحة بالهواء ترد التحية مع ابتسامة عريضة ثم استمرينا لوجهتنا.....كانت الشرفة ضيقة ,جدارها زجاجي, تطلّ على مسبح القصر وتحتوي على طاولة دائرية صغيره , سطحها زجاجي وقاعدتها كالكرسيين خاصتها من القصب , تفصل بينهما....
مرّت لحظات من الصمت ونحن ننظر امامنا فعدّلت جلستها اثناء ذلك وهي تسند ظهرها للخلف.... والمصيبة الكبرى انها لم تكتفي بهذا بل وضعت ساقاً فوق الآخر ليُكشف عن لحمها بشكل أكبر مغرٍ دون خجل أو رحمة وغير مكترثة لحال المسكين الذي بجانبها !...لا أعلم ان كانت تتعمد ذلك أم انها تتصرف بعفوية ...لكن الذي اعلمه ان واجبي شكر الله على نسمات الهواء الباردة التي منَّ بها عليّ لتجفف حبيبات العرق التي اجتاحتني قبل ان تلمع بعينيها وانكشف بسبب المنظر الرهيب الذي ألمحه بجانبي !!....
لم نتفق على هذه الحرب الفاتنة......هذا ليس بعادلٍ ابداً !!...
عليّ الآن ان ادافع عن نفسي بحركة هجومية فباشرتُ مفتتحاً الحديث بعد ان رمقتها بنظرة خاطفة :
" كم عمرك ألمى؟؟.."
كان سؤالٌ لا داعي له فأنا احفظه باليوم من التاريخ المحفور على عقدها الذهبي ..
اجابت بخجل:
" انا في الثمانية عشر.."
حككتُ ذقني بطرف ابهامي رافعاً أحد حاجبيّ ناظراً لها دون تحديق وقلت:
" ممم....اعتقدت انك اكبر من ذلك بكثير....لا تبدين انك بهذا السن بتاتاً "
احمرّ وجهها وسألت منفعلة بقهر, تفك ساقيها وتجلس في حالة دفاع:
" لم تقول هذا ؟؟.....انت اول شخص تعتقد ذلك .."
رائع .... لقد تخلصت من منظر فخذيها المكشوفين اخيراً..!!
وضعتُ ذراعي اليسار على الطاولة وقلت ببرود:
" نمط لباسك لا يليق بسنك وزينتك المبهرجة تزيدك بحوالي عشر سنوات ..."
هتفت كاذبة تستشيط غضباً وعيناها لامعتان :
" هذه انا دائماً بهذه الزينة الصاخبة.....وان كنت لا تعلم فانا اليوم أيضاً اعتبر عروس وهذا الطبيعي للجميع ...لست وحدي من تكون هكذا !! "
قلت بلا مبالاة وهي حالياً في حالة شهيق وزفير سريعين من غيظها ووجهها كحبة الفراولة الطازجة اللذيذة :
" جيــد....لكني لا احب كل هذا ويا حبذا لو تعتادين على عدم وضعها....وايضاً العدسات اللاصقة ان كانت للزينة اتركيها واذا هي للرؤيا فاستخدمي شفافة من غير لون ....لا احب التزييف..."
صرخت وحدقتاها ترتجفان وهي تشد قبضتيها وبنبرة اقرب للبكاء :
" ليست عدسات ...اقسم لك انها عيناي ."
شتمتُ في سري " تباً لكِ ولعينيكِ..."
احنت جذعها ليمينها تقترب مني وهي تفتح احدى عينيها بمساعدة إصبعيها ببراءة قائلة:
" انظر جيدا ...تستطيع تمييز ذلك...انظر "
ماذا تهذي هذه ؟؟....وهل انا مجنون لأنظر لهما من هذه المسافة الآن ؟؟....
أشفقت عليها وعلى نفسي فقلت :
" حسناً أصدقك.....انت تعلمين اليوم معظم الفتيات يعتمدن على التزييف.....لذا ظننت ذلك.."
تنهدت مضيفاً:
" وأيضا هذا اللباس لا يستهويني اطلاقاً لأنه يشعرني أن المرأة كسلعة رخيصة ليس الّا وهي تعرض بضاعتها لتنفق... مع ان الله أكرمها بالستر "
صكت أسنانها وهي مرةً تشد فستانها للأسفل محرجة , تحاول تغطية ساقيها اكثر ثم تعود لترفعه من منطقة الصدر الذي كُشف من شدها له... وهكذا ضاعت بين الشد والرفع ...!!....
تركتها تليّن يديها بهذه الحركات وانا أحاول كبت ضحكتي محافظاً على تقاسيم وجهي الباردة....ثم غيرت الموضوع بنبرة هادئة :
" ماذا تدرسين ؟؟."
حررت يديها , زفرت أنفاسها بهدوء وجلست بأدب وبدأ وجهها يعيد نضارته وأجابت وهي تنظر للأمام:
" أنا في السنة الأولى تخصص هندسة .."
قلت بشبه ابتسامة :
" ممتاز....موضوع شيّق .....كنت أود دراسته"
التفتت نحوي وارتسمت ابتسامة نقية تشبهها على ثغرها وهمست بنبرتها العذبة :
" حقاً؟؟...ما منعك من ذلك ؟؟
أجبتها بصوت متزن وانا شاردٌ في المسبح شاعراً بغصة تخنقني بسبب تغيير حلمي في دراسة الهندسة :
" لأنني وحيد أبي وهو يريدني أن أكمل طريقه بإدارة الأعمال.."
قالت في سرها ساخرة " حتى هذا يقررونه عنه !!"...ثم تبسمت مجاملة وهتفت برقة :
" لكنك ناجح في هذا المجال...ربما أنه الأنسب لك.."
قلت:
" ربما..."
رفعت ذقنها بتعالي مفتخرة :
" حاول ابي اقناعي بدراسة الطب...لكنني لم استسلم وصممت على ما اريد "
تابعت تنظر نحوي :
" الهندسة فن وجمال والفن يحتاج لإبداع وذوق رفيع...فاسمح لي.."
أكملت متلكئة بكلماتها :
" انت ..انتقدت زينتي... وهي من ضمن الجمال والذوق.....يعني لا اظن......انك تصلح او مؤهل لهذا الموضوع ....ما دُمت......تفتقد هذا الجانب !! "
ضحكت مازحة واستطردت:
" سيهرب زبائنك منك وخصوصا النساء اذا لم تُرضي اذواقهن او لا تشيد بزينتهن وجمالهن!!"
شاركتها ضحكتها ساخراً:
" ممكن.....وانت كذلك فعلتِ الصواب بعدم دراستك الطب لأن حسب انفعالاتك ستهربين خوفاً وضعفاً عند اول مريض يزورك وتتركين خلفك جثة هامدة ..."
تجهّم وجهها لوهلة ثم خضنا بعدها بعدة أحاديث...تكلمنا عن أشياء عامة كثيرة تخصنا ولا تخصنا وسألتني عن الجوائز التي نلتها.... بدوْنا بآخر انسجام ننتقل من سيرة لأخرى وحدثتني عن غربتها في كندا وحتى ذكرت من ضمنها ذاك البغيض وامضاء وقتهما معا....كانت تتحدث بعفوية لكني زجرتها عن سيرته وتوقفت بالفعل مجبرة بنظرات حانقة ثم عدنا لذكر هواياتنا ولامست بصوتها شغفها للسيارات والسرعة ...هي تتكلم وانا ملتفٌ بجسدي نحوها ,أتكئ بذراعيّ المكتفتين على الطاولة مبتسماً , مستسلماً لصوتها و بريق عينيها ولم أشعر الّا وهي تمد يدها بجرأة بريئة لتتحسس حاجبي المجروح وما ان لامسه طرف ابهامها سرت رعشة بجسدي فمسكتُ معصمها بلطف لأبعدها فسألتْ بنبرة عطوفة :
" ما هذا الجرح ؟؟.."
اعدت جسدي ونظري للمسبح وقلت :
" حادث صغير ...اصبت به مؤخراً..."
نظرت لها بطرف عيني مع نصف استدارة بوجهي وسألت بفضول :
" هل هو بشع لهذه الدرجة ؟"
نطقت من غير ادراك بعفوية :
" على العكس ...يزدك وسامة !! "
املت زاوية فمي مبتسماً فانتبهت لما قالت ووضعت يدها على فمها شاهقة ثم همست بتملّص :
" أ أ...أقصد انه لا يؤثر على الشكل لا سلبي ولا إيجابي .."
تفاجأت من نفسي لتبادلي الاحاديث معها بأريحية ومن غير حدود...اكتشفت كم هي فتاة شفافة , نقية , بريئة , هشة , تحاول ارتداء قناع القوة والغرور لكنها لا تفلح كثيراً....سرعان ما تتبدل ملامحها بين انفعالها من كلمة مستفزة لتنتقل في الحال الى الهدوء من عبارة لطيفة او اهتمام صغير....عقلي بالطبع لم يستسغ هذا كله بعد أن امهل قلبي القليل من المتعة , فقرع جرس التحذير ..."اوشكتَ على الانجراف سامحاً لمشاعرك بالسيطرة هادي!!"...لذا نفضت رأسي وتحوّلت الى الصلابة كما دخلت وقلت بصوت جهوري ثابت :
" يكفي هذا التعارف الذي وضعونا فيه ....لنعود من حيث جئنا ...لقد اضعنا وقتاً اكثر من اللازم دون فائدة وعلينا المغادرة فغداً الاعمال تنتظرنا..."
رفعت حاجبيها مصدومة من فظاظة كلامي وادّعت الموافقة على رأيي ثم همست بحزم:
" نعم أضعنا وقتاً بأمور تافهة لا داعي لها ..."
قمت من مكاني بهدوء وسبقتها لأدخل من الباب تاركها خلفي فنادت بجدية قبل ان اعتّب عتبته :
" يامن..."
توقفت وانا باسطٌ يديّ على جانبيّ متكئاً بهما على أطار الباب ونظرت لها على يميني فرفعت صوتها بنبرة آمرة وعجرفة من شدة اشتعالها:
" ليكن بعلمك...انا لديّ شروطاً لن اتنازل عنها , قبل الانخراط بعلاقتنا بشكل أوسع !! "
حررت يداي والتففت بجسدي ادنو نحوها بهدوء محنياً كتفيّ , قائلاً بتهديد وصوت قاسي منخفض وانا اشهر سبابتي امام وجهها :
" اياكِ وهذا الأسلوب معي .....قولي ما عندك من غير شوشرة "
رمشت عينيها , ابتلعت ريقها وقالت بنغمة مهزوزة :
" لم اقصد....لكن لديّ شروط تهمني ...سـ ..سأخبرك بها لاحقاً.."
استقمتُ بوقفتي , عدلت كُمَيّ قميصي وقلت:
" يمكنك ارسالها برسالة الكترونية..."
اومأت موافقة وهمست :
" لا اعرف رقم هاتفك..."
نظرتُ الى الطاولة حيث تضع هاتفها والتقطته محاولاً فتحه لأدق رقمي فوجدته مغلقاً برمز سري ...رمقتها بنظرة توحي بانتظاري لها لتملي عليّ هذا الرمز....فهمست بتلعثم تمد يدها :
" اعـ..اعطني إياه ...هذا شيء يخصني "
تبسمتُ ساخراً بضيق وانا اعلم وأعي انه ليس من حقي هذا قطعاً لكن غيرة لعينة تملكتني وانا أحاول كتابة اول حرف من اسم (صلاح) باللغة لإنجليزية مرات عديدة دون جدوى فألقيت به على الطاولة بغضب وكدت اكسرها وأكملت بوعيد:
" من الأفضل لكِ ان تبدليه لئلّا تأخذني الوساوس الى البعيد....وهذا ما لم أرضَه "
امتقع وجهها وهمست بخفوت منصاعة :
" حسناً سأفعل..."
وقبل اجتيازي الباب وصلتني كلماتها...تتمتم شاتمة :
" حائط متخلف مغرور "
تركتها كأني لم اسمعها ,متجهاً الى غرفة الضيوف لنعود أدراجنا انا وعائلتي بعد ان أعطيت رقمي للمغضوب والدها ليعطيها اياه...... أما هي حملت هاتفها بين يديها لتبدلها وهمست بأسف على رمزها السري من خلفي والدموع مترقرقة بعينيها :
" سامحني أيها الهادي"
~~~~~~~~~~~~~~~~~~
كانت ليلة طويلة مرهقة فبعد عودتنا من قصر العنكبوت اضطجعتُ على فراشي الأرضي وبيدي رفيق لياليّ العقد خاصتها !! كنت أتأمل سماءها واتذكر لقاءنا الأول ...ابتسم تارةً لبراءتها وشفافيتها واقطب حاجبيّ تارةً أخرى مغتاظاً من نفسي التي ستنجرف في تيار هواها ...بقيت على هذا الحال بين الصد والرد حتى غلبني النوم في ساعات متأخرة رغم ضرورة استيقاظي باكراً للحاق بأعمال الشركة ...وأول ما فتحت عينيّ مسكتُ هاتفي أتفقده لأرى اذا أرسلت لي شروطها سموّ الملكة...تنهدت محبطاً من عدم دخول أي رسالة منها !!...ما بالي متلهفاً لسطوع اسمها على هاتفي ؟!!...أم انني أريد التأكد انها أصبحت ملكي وتكلمني ؟!!...
نهضتُ قاصداً الحمام لاستحم واجهز نفسي ..ارتديت حلتي الرسمية ...بالطبع دون ربطة العنق الخانقة ولولا رغبة ابي ( إبراهيم ) لارتديت ملابسي اليومية فأنا لا أحب التقيد بهذا اللباس !!...تناولت الفطور مع عائلتي وخرجتُ متوجهاً الى مكان عملي وأثناء القيادة اهتز هاتفي معلناً عن دخول رسالة...املتُ فمي بابتسامة ولم يغلبني الفضول حتى وصلت الشركة بل مكتبي لأفتح الرسالة بعد استقراري مُرَكّزاً بفحواها :
[[ صباح الخير...كيف حالك؟...أتمنى ان تكونوا قد سعدتم في ضيافتنا .... شروطي هي أن لا تتدخّل بلباسي وزينتي .....دخولي وخروجي... وباختياري لأصدقائي ولا تحاول ابعادي عن علاقاتي القديمة مثل صلاح لأنه هو اخي وصديقي قبل أن يكون خطيبي السابق ولا يحق لك التعمق بحياتي الخاصة فلكل منا أسراره وأنا ما زلت تحت رعاية ابي ولست تحت رعايتك لتتحكم بي.....نهارك سعيد...سلام (مع رمز الوردة) ]]
تلك الجبانة لم تجرؤ لقول هذا في وجهي !!....
لو انها اختصرت على نفسها وكتبت اريدك ان تكون ديوثاً لا سائلاً ولا مسؤولاً بدلاً من ان تتعب اناملها الرقيقة بهذا الموشح كان أفضل لها ......فأنا كنتُ في قرارة نفسي أسعى جاهداً بإقناع ذاتي ان حياتها لا تهمني ولن انخرط بها ...لا اريد اللجوء ولا التعلق....هدفي واضح... ونهاية هذه العلاقة هي الفراق ومن ثم الانطلاق الى حريتي ووطني الحبيب بإذن الله...
إذاً لها ذلك حالياً... فهي ما زالت لا تعلم من هو هادي الذي يقدّس مزاجه... وأنا الآن بالوجه المشمس الهادئ ولتدعو ربها الّا تواجهني بالوجه الغائم العاصف!!!...
ضغطتُ على الارسال بعد كتابتي رسالة نصية رداً عليها ثم رفعت الهاتف على اذني متصلاً بصديقي (سامي) لأطمئن على الأوضاع في البلاد....
" هل تظن ان الجميع مستيقظٌ مثلك سيد هادي؟!...حسناً نحن نعلم أنك عريس وتقف على الأطلال تناجي معشوقتك وتتوعد لغريمك لكن ما ذنب المساكين الذين اجتازوا هذه المرحلة وينعمون بالاستقرار ؟؟"
قلت منصدماً:
" ويحك يا رجل...ما كل هذا الخطاب ؟؟....اذا كان هذا حالك وانت مغمض العينين فما وضعك وانت بكامل طاقتك ؟؟.....أعان الله شقيقتي عليك ."
أجاب شاتماً ثم قال :
" أنت المتصل قبل المتسولة وابنتها ...لمَ لا تنشغل بعروسك من باب الأوْلى؟ "
تأففت وقلت:
" أليس من المفروض ان تكون في المركز هذه الساعة لتمارس هوايتك وتستمتع في صفع المجرمين ؟"
رد متثائباً:
" بدلتُ ورديتي هذا الأسبوع لليل .."
" حسناً ...اخبرني كيف تسير أموركما وكيف هي معك ..؟"
هتف بحماس :
" رائعة ...استمتع بجمالها , براءتها , حنيتها .....تعطيني كل الاهتمام...تضحك حتى تدمع بوجودي وتقول لي انها لم تضحك مع احد من قبل هكذا....يبدو انك كنت معها غليظٌ وسمجٌ تلك المسكينة برأسك المتحجر ونكدك .."
تنهدت بارتياح وقلت:
" غاليتي......أرحتني, لأني كنت قلقاً عليها من الّا تتأقلم مع غلاظتك "
قال ببلاهة :
" من تقصد ؟؟ "
قلت:
" ماذا من اقصد؟....شقيقتي دنيا... خطيبتك... أم ان هناك غيرها وأنا لا ادري !! "
تأفف بعدم اهتمام وقال :
" أنا أتكلم عن عيوش...والدتك..."
تنهد وأردف:
" هل يا ترى كان عليّ خطبتها هي منك؟؟...سأعيد حساباتي... لا تقل خنتك !! "
" هل تدلعها عيوش يا وقح ؟!....أبي لم يفعلها .."
" ما أدراك أيها الأحمق....عندما كان يطفئ عليكم الأنوار ويقول لكم نوماً هنيئاً أطفالي , أتظن انه كان يفعلها ليصلي قيام الليل أم أنه كان يضع خططه العسكرية في قلب عيوش ليأتيكم بشادي ؟!"
ضحكت وقلت :
" رحمه الله....يكفي يا غليظ...ما وضعك مع دنيا ؟ "
قال مكملاً بغلاظته:
" تعتكف في غرفتها....هل وضعت المسدس على جبينها لتقبل بي؟...اعترف ! "
قلت بجدية منزعجاً منها :
" اترك الأمر لي...سأكلمها اليوم ان شاء الله و... "
قاطعني بحزم :
" اياك هادي....هل ستظهرني كأني أشكوك منها لأبدو ضعيفاً ؟!...أنت تعلم لا حدود لي في الصبر والعناد..... فثق بي دون ان تتدخل وأعدك بإذن الله انها ستقع في حبي بإرادتها دون ضغوطات....لذا اطمئن يا صاحبي ولا تشغل بالك .."
اجبت ممتناً:
" لا أعلم كيف سأجازيك يا صاحبي ؟ "
رد بصوته المرح:
" نلت جائزتي وأكثر....تكفيني ثقتك بي بتسليمي عائلتك "
" لا أحد غيرك يستحق هذه المكانة سامي..."
تنهدت وأكملت سائلاً:
" ما أخبار الأوضاع الأخرى ؟؟ "
" تقصد أمور الشركة ؟؟"
" لا لقد تكلمت في الأمس مع أحمد ...أقصد أوضاع البلاد ؟!"
أجاب:
" بعد قضائكم على تلك الكتيبة وصلنا انه تم سحب قواتهم من الحدود فبسبب فشل صفقتهم الكبرى توقف سكب المال عليهم حالياً.....وحزب الوغد ضعف صوته والآن الصيت الأكبر لحزب الثوار لكن هذا لا يكفي بالطبع لأن جنود الدولة يبقون هم الأقوى الى حين الانتخابات القادمة "
سألت:
" هل من مناوشات بينهما على الطاولة؟؟"
" لا ...حتى الأقاويل التي تسربت الينا ان الرئيس الحالي يريد وضع هدنة بين جيش الدولة وجيش الثوار حقناً للدماء ..."
" جيد اذا قرر التحرك ...لنرى خيره....."
زفرت انفاسي وأكملت مازحاً:
" حسناً سامي...اوصل سلامي لعيوش ....ٍسأغلق الآن لأتصل بالأبله بلال ...من مدة لم أكلمه , حتى هو لم يتصل بي ..."
ضحك قائلاً:
" ذاك المحظوظ يرقد بسلام في خطوبته دون قصف ومناورات ...ليس كحالنا حتى الخطوبة عندنا جهاد .."
ضحكت وقلت هازئاً:
" قلبه نقي ونيته طيبة , ليس كقلبك الماكر ....فعلى نياتكم ترزقون...لا تحسده "
قال متهكماً:
" وقلبك ما وضعه ؟!.."
اجبته بغصة مخفية:
" سأحاول انتزاعه... لأكمل بلا قلب إذا استطعت!!"
~~~~~~~~~~~~~~~~~
" صباح الخير...ما بكِ عابسة؟.. ؟"
قالت (ميار) بعد اقترابها من (ألمى) الجالسة على مقعدهن المعهود في الجامعة ويظهر على ملامحها الاستياء... فرَفعت الأخيرة رأسها تنفث غضب هاتفة:
" حائط....حائط....حائط.."
حدّجتها تحاول اختراق غياهب عقلها ثم احتضنت حقيبتها وجلست بتروّي سائلة:
" اخبريني ماذا جرى؟ فالأمس عندما اتجهتما للشرفة ,جاء اخي وعدت للبيت ولم يتسنّى لي توديعك.....ها ما بكِ تنفثين لهباً وانت اليوم خطيبة يامن الهاشمي بفخامته ؟"
ردت بضيق حانقة:
" تماماً ...لأني خطيبة ابن الهاشمي انا في هذه الحالة!!.....لقد اخبرته ان لديّ شروطي بعلاقتنا وطلب مني ان ابعثها برسالة ولأن تربيتي لا تسمح لي ان أكون فظة فقَبْل املاء طلباتي تعاملتُ معه برقيّ كالبشر لكنه حائط عديم ذوق ..."
رفعت صوتها تجز على اسنانها عند كلماتها الأخيرة ثم رفعت هاتفها تلصقه بوجه صديقتها آمرة:
" انظري ......بالله عليكِ هل هذا رد بعد رسالة طول في عرض ارهقت نفسي بكتابتها ومن عريس لعروسه في صباح اليوم الأول من ارتباطهما ؟؟"
أخذته من يدها تقرأ رسالتها ثم انزلت الشاشة للأخيرة فوضعت اصابعها على فمها تحاول كتم ضحكتها مع ازدياد اشتعال التي بجانبها وهي تسحبه منها شاتمة هاتفة :
" هل هذا مضحك ؟... أتشمتين بي ؟ "
ردت ضاحكة :
" أضحك على رسالته المعبّرة , لقد أرهق نفسه بإرسالها "
قالت وهي قاطبة حاجبيها بغيظ:
" أرأيتِ اكثر من هكذا برود ؟....أنا ابعث خطاباً وألقي تحية الصباح واسأل عن احواله ومثل البلهاء اختمها بوردة !! وهو يرد بـ [ لا يهم ] دون الرد على تحيتي له و سؤالي عنه او حتى وضع رمز وردة على الأقل !!..."
استدارت اكثر نحوها وهي ضاحكة وقالت:
" حسناً اتفقنا انه حائط ....لكنه في النهاية وافق على شروطك ولكِ الحرية "
ردت عليها بكبرياء:
" هي شروط لا اتخلى عنها بالفعل لكن لا مانع من اغاظته قليلاً بسبب أسلوبه المتسلط .."
زفرت أنفاسها وأضافت:
" اردتُ استفزازه فاستفزني ذاك الحائط المتخلف عديم الإحساس.."
سألت مبتسمة :
" كيف كانت جلستكما ؟؟.."
شردت قليلاً بالفراغ ثم اجابت :
" في البداية نكزت منه وهو ينتقد مظهري بكل برود وتخلف....لكن مع غوصنا بالاحاديث انسجمت معه دون ان ادري وبدأت احكي عن نفسي وكأن به جاذبية جعلتني اخرج الماضي والمستقبل براحة وانا اتأمل وسامته بهذا القرب وابتسامته الساحرة وهو كان ينظر لي مصغياً وعيناه المكحلتان تلمعان ....من يرانا يظن اننا نعرف بعضنا !! وحتى فضحت نفسي وحسّست على حاجبه المجروح وقلت له بِطيْش انه يزيده وسامة.."
شهقت مذهولة :
" تغزلتِ به من أولها مع لمسات ايتها الوقحة ؟؟!! "
طأطأت رأسها بوجنتين متوردتين وملامحها ما زالت عابسة :
" غصب عني ...لساني يترجم افكاري على الفور دون استئذان."
قرصت وجنتها مداعبة لها :
" صديقتي الساذجة البريئة !!......هيا أكملي وماذا حصل بعدها ؟؟ "
" في لحظة تحوّل لشخص آخر وعاد لملامحه كما جاء.."
قصّت عليها كل ما جرى في جلستنا من بدايتها الى نهايتها فغزاها الفضول حائرة :
" وما هو رمزك السري الثمين الذي اخفيته عنه ؟؟....لا تقولي حرف اسم صلاح ؟؟"
اجابت بابتسامة مائلة :
" لقد لمحته يكتب حرف اسم صلاح بالإنجليزي وهو يحاول فتحه !!.."
" اذاً ما هو ؟؟.."
نظرت لساعة هاتفها وقالت :
" ستبدأ المحاضرة ...ما رأيك ان نهرب منها اليوم ونأخذها من لميس لأخبرك قصتي ؟؟"
عدّلت جلستها متربعة على المقعد وكأنها في بيتها وهتفت:
" أنا لها....وصلتِ الى العنوان الصحيح ....هيا اتحفيني.."
جلست (ألمى ) بالمثل محاذية لها وقالت باعتزاز :
" أول حرف من اسم هادي بالإنجليزي...حب الطفولة ...هو رمزي السري !! "
جحظت عينيها متعجبة ثم ارخت ملامحها تصفق يديها ببعضهما ضاحكة بصوت عالٍ وقالت :
" يا لكِ من مصيبة!!...هل انتِ طبيعية ؟؟.....تذكرين حب الطفولة لدرجة تخليد اسمه برمزٍ سريّ؟؟!! "
زمت شفتيها عابسة بتصنع وهمست :
" لا تسخرين مني ...هو مميز جدا لدرجة أني غلّفته بإحدى زوايا قلبي !!..."
تابعت بضحكاتها وهتفت:
" يا ويلي ...لو اردتُ تغليف حب طفولتي لما اتسع قلبي ولاضطررت لاستئجار معدتي لأضعهم بها .!!......نعم كلي آذان صاغية ...تابعي عزيزتي من فضلك.."
اخبرتها كل شيء تذكره وحصل معها في الماضي ثم همست محبطة :
" كبرتُ على أمل اللقاء لكن أصبح هو حلم ميؤوس منه ...انتهى قبل ان يبدأ !! "
ردت مستنكرة ,ساخرة:
" وهل كنتِ تحلمين ان تكوني له وانت ابنة عاصي رضا ؟؟....تخيلي ابنة عاصي ولاجئ !!....تبنين أحلاماً فاقت الخيال ...انتما مثل المشرق والمغرب مستحيل ان تلتقيا.."
اومأت برأسها موافقه باستسلام وقالت حانقة:
" منذ امتلاكي هاتفاً ودائما هذا رمزي السري....لا ادري من اين خرج لي هذا الحائط لأبدله من اجله ؟!!"
ثم هتفت بنبرة تحدي وملامح قوية :
" غيرته على الهاتف لكن بأحلامه ان اغير كلمتي السرية التي تحمل اسمه الكامل على حاسوبي !!.."
~~~~~~~~~~~~~
تجلس على كرسي مكتبتها , تمسك القلم وتخط خربشات على دفترها والهاتف بيدها الأخرى تثبته على اذنها وهي تثرثر مع صديقتها التي بعثت لها صورتين برسالة الكترونية لتساعدها في اختيارها :
" أنا أرى الفستان البنفسجي هو الخيار الأنسب بلونه المبهج الذي سيعكس على بشرتك ويزيدك جمالاً..."
ردت عليها حائرة :
" لكن صدره مكشوف قليلاً ولم ارتدي له مثل هذا التصميم من قبل .."
تأففت من ترددها وقالت :
" يا ابنتي انت بنفسك قلتِ أنك ترغبين بارتداء شيء مميز بيوم ميلاده ماذا دهاك؟...ثم اطمئني خطيبك مؤدب لن يحرجك وكذلك يمكنك ارتداء عقد عريض معه ليستر قليلاً .."
تابعت سائلة:
"هل أعددتِ له كعكة أم ستجلبين واحدة جاهزة من المحلات ؟؟ "
" أمي حضّرت كعكة الجبنة بالفراولة كما يحب ...أنا فقط اقتنيت له الساعة ...قولكِ أتكفي وحدها ؟ "
" تكفي سلمى ... أنسيتِ ثمنها الباهظ ؟! "
ضحكت بمكر وأضافت:
" ثم هذا لا يعني شيئاً أمام مفاجأتك اليوم باعترافك بحبك له...مؤكد سيغمى عليه المسكين بلال عند نطقك بها بعد عناء !! "
↚
ضحكت الأخرى بخجل وقالت :
" العقبى لكِ دنيا ...متى سنرى هذا اليوم ؟ ...ألا تشفقين عليه بعدم اهتمامك به ؟ "
تنهدت بحنق وهتفت:
" ارتاحي صديقتي ...سأستقبله اليوم.."
سألت متفاجئة :
" حقاً؟؟....أخيراً رق قلبك ؟ "
زفرت بملل واجابت :
" لا تفرحي يا حمقاء....أمي هددتني ان لم استقبله ستخبر هادي بكل شيء ليوبخني ويعيد برمجة دماغي على حد قولها .."
ردت ضاحكة بشماتة :
" تستحقين هذا ...لا احد غير اخي هادي يربيكِ......المهم ماذا سترتدين له ؟.....لقد فرحتُ من أجل سامي !! "
أجابت:
" عندي طقم لم ارتديه من قبل...سأسحره به !! "
تحمست هاتفة بفضول:
" ايتها الخبيثة أرني إياه حالاً..."
قالت بهدوء :
" انتظري دقيقة...سأصوره وابعثه لكِ .."
بعد دقائق قليلة وصلت الصورة لـ (سلمى) فشهقت مصدومة :
" أسدال صلاة يا دنيا ...أسدال صلاة ؟؟...وبألوان قوس قزح ؟!! "
ردت بلا مبالاة :
" ما بها ؟؟....الوانها مفرحة تسّر النظر وجديدة أيضا لم تبهت من الغسيل كالأخرى ...ألن يكفيه أني سأجلس معه ذاك الأشقر الغليظ ؟ "
همست بضيق منها ولأجلها :
" مجنونة دنيا ....ستخربين العلاقة بينكما بعنادك وعدم اهتمامك...تلاحقين عقلك الصغير بترّهات الماضي ...سامي شاب وسيم من عائلة محترمة ورجل بمعنى الكلمة وصابرٌ عليك ومؤكد انه لم يشكوكِ لشقيقك ...أرجو الّا تخسريه بتصرفاتك هذه !! "
قالت :
" اوف سلمى ما هذه المحاضرة ؟...هيا اغلقي لتتابعي تحضيراتك , اقترب حلول المساء .."
×
×
×
" لا تتحرك من مكانك وستجلس ملازماً لي والّا حرمتك من لمس هاتفي !! "
هددت (دنيا) شقيقي (شادي) ليجلس جانبها على الأريكة المعدّة لشخصين عند حضور (سامي)...فردّ بطمع :
" لا تنسي النقود أيضاً ...أنتِ من وعدتني بذلك.."
ضربته على كتفه بخفة حانقة وقالت :
" حسناً أيها الشبر ونصف... أنتَ لا تفوّت شيئاً ..."
كانت أمي تحضّر التضييفات بالمطبخ وبعد انتهائها منها بدأت تنقلها على الطاولة في الصالون لاستقبال (سامي) في اليوم الأول لهما للجلوس معاً بعد اعتكاف شقيقتي لأيام وأسابيع رافضة استقباله أو اعتباره كعريسٍ لها أساساً......اتسعت عيناها لرؤيتها لابنتها بالملابس الخاصة بالصلاة فنهرتها باستياء:
" دنيا .....أوشك سامي على الوصول...هيا اذهبي وارتدي شيئاً يليق بفتاة تستقبل عريسها !! "
ردت كاذبة بتهرّب :
" إني أرتدي تحتها أمي ...لكني انتظر آذان العشاء لأصلي وبعدها سأخلعها.."
صدّقتها ببراءة هامسة :
" حسناً صغيرتي....رضي الله عنكِ..."
نظرت لابنها وأردفت :
" وأنت عزيزي شادي....هيا اذهب لغرفتك راجع دروسك واخلد للنوم .."
تحرّك متقدّماً بطاعة فجذبته من الخلف قائلة :
" اتركيه أمي قليلاً....لا بد انه مشتاق لعريس شقيقته الذي لم يرهُ منذ الأمس.....سيجلس معنا قليلاً ونطرده بعدها !!.."
تبسّمت بحنوٍ وصعدت لغرفتها.....
اتّخذت (دنيا) مكانها على الأريكة المقابلة للتلفاز ووضعت على احدى المحطات الخاصة بعرض الأفلام وأمرت شقيقي بفتح الباب بعد أن قرع الجرس...دخل (سامي) وهو متأنقٌ يرتدي بنطالاً من القماش الكحلي وقميصاً بكُميْن طويلين يطويهما للمرفقين ولونه أزرق سماوي ,مستحمّاً بالعطر ويحمل سلّة صغيرة مليئة بالشوكولاتة الفاخرة ... كان مبتهجاً يشعر ان هذا اليوم الأول لخطوبته بعد أن علِم أن عروسه الجميلة ستستقبله....سبقه (شادي) يجلس بجانبها كما اتفقا وعند وصوله لباب الغرفة اتسعت عيناه بذهول لرؤيته ما ترتديه فقال في سرّه " يا الهي ...ما هذه الخيمة التي ترتديها مثل طبق السلطة ؟.."....
دلف محافظاً على ملامح لا مبالية بعد أن القى السلام ثم اقترب منها يعطيها السلّة يتصنع الأدب وجلس على أريكة منفردة جانبية ...بدأ يوجه كلامه لـ ( شادي) دون أن يعيرها أي اهتمام ولمح حركتها وهي تمسك به كلما حاول التحرك بعفوية فقال متنحنحاً بعد مرور بعض الوقت :
" هـيه...شَدشَد..."
رمقه (شادي) باشمئزاز وقال وهو يعيد نظره للشاشة :
" اسمي شادي..."
أحنى ظهره للأمام يضع مرفقيه على ساقيه واتكئ بوجنتيه على قبضتيه يحدّق به وهمس لنفسه بوعيد "لن أكون سامي ان لم ارسلك للمريخ أيها الخبيث "... ثم قال :
" أيها الرجل الصغير البطل ...هلّا جلبتَ لي كأس ماءٍ من فضلك ؟؟ "
كتّف ذراعيه ورد بغرور طفولي :
" أنت معتاد على المطبخ اذهب واجلب لنفسك ..."
وضعت يدها على فمها تكبت ضحكتها شامتة ونظرها موجهاً للتلفاز وقالت في نفسها " رائع شادي ..هكذا اريدك.."....
هتف (سامي) بمكر مهدداً :
" هـيه أنت... ان لم تأتني بالماء سأخبر هادي عن علامتك العجيبة في اختبار الرياضيات..."
أخرج لسانه باستفزاز وهتف :
" لقد اخبرته امي بذلك لا تشغل بالك.."
تمتم بضيق بصوتٍ غير مسموع:
" سامحك الله عيوش...اتركي لي شيئاَ لمقايضة هاذين الضفدعين.."
ثم أراح ظهره للوراء , يضع ذراعه على يد الاريكة والأخرى يرفعها خلف رأسه يستند عليها وساقاً فوق الآخر , مردفاً:
" عزيزي شادي....هل رأيت كيف انتقلت لكَ العدوى المسمّاة باللسان الطويل بسبب جلوسك بجانب شقيقتك ؟.....يبدو أنني سأحجز لك دوراً أنتَ الآخر لاستئصاله "
حدّجته بعينين متسعتين ثم اعادت نظرها للأمام قاطبة حاجبيها , تزمّ شفتيها باستياء منه وتمسك جهاز التحكم لترفع الصوت!.....زفر أنفاسه بيأس وهو يخرج هاتفه الخاص بالعمل يتفحصه فلمعت في باله فكرة ..رفع زاوية فمه بابتسامة ثعلبية وقال لـ (شادي) :
" أتعلم انه تم انزال آخر اصدار من لعبة الفيفا (كرة القدم)...؟؟ "
نظر له شقيقي شارداً وهتف محبطاً :
" أعلم لكن لم أستفد شيئاً...هاتف دنيا ذاكرته مليئة بالصور التافهة وأمي هاتفها أُنتِج منذ عام الفيل ولا ترضى بابتياع آخر ..."
تابع (سامي) ماكراً :
" لكن هاتفي الجديد فارغاً وسأحاول لاحقاً انزالها...."
اتسعت عيناه مُتهيئاً وقال :
" أستطيع انا انزالها....لقد حمّلتها لصديقي..."
تمتم (سامي) بحزن مصطنع :
" يا الله...خسارة ......لقد تركته بالسيارة..."
وقف (شادي) باستعداد متحمساً:
" أستطيع جلبه ...اعطني المفاتيح "
شدّته ( دنيا ) ليجلس فدفع يدها مردفاً :
" هيا سامي اعطني..."
أخرج مفاتيحه يدخل اصبعه بالحلقة المعدنية خاصتها , يلّوح بها غامزا له بابتسامة تشجيع :
" أجلب معك الشاحن واصعد لغرفتك لتركّز وتأتينا بالبطولة أيها البطل المحترف.....لم اضع رقم سري له بعد , سيفتح في الحال "
قفز نحوه يلقفها منه مختفياً عن الأنظار تاركاً مَن خلفه تشتمه بحقد :
" سأريك أيها الشبر ونصف.....لقد اشتراك بلعبة أيها الغبي !! "
استغلّ صديقي المكان الفارغ بجانبها ....دنا منها وجلس يحملق بها وهي لم تزح عينيها عن التلفاز وبدأت تشعر بحرارة في جسدها حياءً من هذا القرب ولشعورها بنظراته نحوها فقال بخباثة ووقاحة :
" من قال أن الحجاب يخفي جمال المرأة ؟؟...."
مسك طرف أسدالها وأكمل:
"مثلاً هذا الشيء المبهر الذي ترتدينه بلون السلطة الشهية لقد عكس على لون بشرتك عروسي الجميلة وغطّى على كل شيء ليبرز هذا السحر في وجهك لوحده... تبارك الله ..."
اقترب أكثر بوجهه هامساً بصوت خفيض رقيق:
" انا محتارٌ ...هل أنظر للوجنتين المحمّرتين ؟..أم لعينيّ الشهد البراقتين ؟...أم للشفتين الورديتين ؟."
ارتفعت حرارتها فهي لم تعتد على هذا الكلام وأن يقترب منها رجل لهذه الدرجة ...بدأت نبضات قلبها تتسارع وكادت تدمي شفتها السفلى وهي تعض عليها بتوتر وأحسّت انها ستبكي خجلاً ورهبةً من هذا الموقف لكنها لن تستسلم له ولن تريه ضعفها هذه اللحظة فهبّت واقفة لتعاند بعد موجة الغزل ، تخلع أسدالها أمامه متأففة وتلقيها على منضدة جانبها لتتسع عيناه شاتماً داخله....." سُحقاً لحظي أنا!!......تخلّصتُ من طبق السلطة هذا لتخرج لي من تحته منامة السنافر مع شرشبيل بأنفه الكبير؟!!... "
سحب أنفاسه واخرجها ببطء دون أن يعلّق ومدّ يده لطبق الفواكه أمامهما يأخذ تفاحة حمراء وهو يحني ظهره باتجاه الطاولة وبدأ بتقشيرها وتقطيعها بهدوء وهي جالسة مكانها تراقبه بطرف عينها تحاول الثبات تنصب دروعها لتتفاجأ به يمد قطعة منها لها بكل لطف هامساً بنبرة ونظرة حنونة :
" تفضلي دُنيتي..."
ابتلعت ريقها ووجنتاها على لون هذه التفاحة ثم مدّت يدها كالمخدّرة من تصرفه ونطقه لاسمها مع ياء الملكية وبدأت تقضم بها تنظر للشاشة دون تركيز , شاردة.....
بعد وقت قصير تلاشى اضطرابها وعادت لتكمل متابعة الفيلم ...هي تنظر للأمام وهو يجلس بشكل جانبي يحني ساقاً تحته والآخر على الأرض ويتأمل تقاسيمها بكل حب وبإصبعيه يمسك طرف شعرها الترابي المموج بنعومة ويصل لتحت اكتافها بقليل , يداعبه برقة مبتسماً مستمتعاً دون ملل....
رنّ هاتفه العمل فعدّل جسده جالساً بتأهب قاطباً حاجبيه بجدية يرد بهيبة ووقار ليأتي دورها تلتف قليلاً وتبدأ باستراق النظر لملامحه تتحدث في عقلها " كيف أصبح وسيماً بعدما تحوّل من الغلاظة للجد ؟!...أم هو بالفعل هكذا لكن أنا لم الحظ ذلك ؟! "...زجرت نفسها... " هيـه دنيا ماذا أصابك ...اثبتي ".....
انتفضت مجفلة من صوته الذي هدر به آمراً أحد عناصره بحزم!!... ليمد يده على الفور , يمسك يدها ويمسّد بإبهامه على ظهر كفها بحنية يهدئ رجفتها بعد أن لمحها وانتبه لنفسه وهو مستمرّاً بحديثه... فاقشعَرَّ جسدها من هذه اللمسة التي لم تفهم ماهيّتها ....!!
انتصب واقفاً بطوله الفارع وجسده الرياضي العريض بعد انهاء مكالمته , يرتّب قميصه المبعثر من جلوسه ...قابلته واقفة دون النظر لعينيه البنيتين فرفع يده يضعها من خلف رأسها على شعرها يجذبها له بلطف ليقرب جبينها من شفتيه ويطبع قبلة دافئة هامساً بمودّة:
" آسف يا عينيّ الشهد على رفع صوتي وخضّكِ....نسيتُ نفسي من ذاك المغفل "
ثم طلب منها جلب هاتفه من (شادي) وسط جمودها من حركته التي شلّت أطرافها وبعدها استأذن منصرفاً لمركز الشرطة ليحل بعض الأمور.....
~~~~~~~~~~~~~~~~~
جرت الأيام لتسجل شهرين من بعد ارتباطنا ونحن على هذا الحال...مهاتفات بسيطة بيننا لا تضر ولا تنفع ....كنت اتحجج خلالها بالأعمال والسفر لأتهرّب من لقائها ...كنتُ كمن ضمن علاقتنا بالجيب , لأن عند المصالح المدعو (عاصي رضا) لا يعترف حتى بوالدته فهو لا ينظر لي كنسيب وخطيب لابنته ويجب أن أصبّ اهتمامي بها كما يفعل الناس الطبيعيين!!....انما انا عبارة عن مغارة كنوز يجب المحافظة عليها حتى لو حارب العالم بأكمله....المهم هو تسوية أموره المادية !!...لكن في داخلي كان ضميري يرهقني وهو يؤنبني لمدى قساوتي عليها بأسلوبي الجاف والذي به أدمّر ثقتها بنفسها وأمحو كيانها وكبريائها كأنثى تريد أن تشعر بمكانتها وأهميتها في حياة شريكها....
كانت خالتي(مريم) تذكرني بين الحين والآخر بالاهتمام بها وعدم تهميشها وهي مقتنعة ان لا ذنب لها بمهمتنا الصعبة وأنها مجرد تذكرة دخول لوكر الثعلب وبيت العنكبوت دون أذيّتها وخصوصاً أنها تلّقت اتصال من السيدة (فاتن) تشكو لها وتطلب منها بطريقة غير مباشرة بأن أعير ابنة شقيقتها القليل من الوقت خلال برنامجي وبين زحام أعمالي وأقرّت أن (ألمى) مستاءة من هذه العلاقة التي لا تستطيع تقييمها وانها تائهة بمشاعرها لا تعلم كيف تتصرف ؟!!....
كان هذا اليوم هو منتصف الأسبوع وأنا شبه متفرغ ولسوء الحظ تركت الهاتف الذي يربطني بها كـ (يامن) في البيت سهواً......نظرتُ الى ساعتي وانا بالشركة فوجدتها تقترب من الثانية عشر ظهراً ومزاجي الجيد مرتفع جداً ولن اسمح لشيء بتعكيره....وبين الضمير الحيّ والشوق للسماء تذكرت انها تنهي محاضراتها على الواحدة لذا قررت أن أكون مرن بعض الشيء واغير اسلوبي رحمةً بها مستغلاً وجهي المشمس الهادئ...فعزمتُ للذهاب الى البيت لأبدل ملابس العمل الرسمية بأخرى مريحة وان أتوجه لجامعتها لاصطحِبها لأول غداء وفسحة خفيفة لنا سوياً....عند وصولي للبيت توجهتُ لغرفتي اتفحص هاتفي فوجدته مغلقاً لانتهاء شحنه فوضعته بالشاحن ودخلت للاستحمام لانتعش ثم ارتديت بلوزه كحلية نصف كم ضيقة مع بنطالاً من الجينز الفاتح وحذاءً رياضياً كلون البلوزة بشعار الماركة الأبيض....تعطرت ودنوت من الشاحن افصل هاتفي وافتحه.....بدأت الرسائل تتقافز تباعاً وكانت معظمها منها.....ضغطت على اسمها فوجدتها بأوقات مختلفة....
[ صباح الخير ]
[ هل انت متفرغ ]
[ هل استطيع الاتصال بك]
[ اجبني..]
[ مع أنه لا يهمك لكن وددت اخبارك لكي لا تجد حجة باتهامي ]
[ اليوم سأرافق صلاح للغداء ]
[؟؟؟؟]
[ يبدو انك مشغول كالعادة...سلام]
نعم أنا بمزاج فوق الممتاز لليوم مع كل من احبهم ويهموني ...لكن ذاك ( الصلاح) ليس من ضمن قائمتي!!....من أين خرج لي هذا البغيض؟؟.....
حاولت سحب أنفاسي قبل الانفجار لأحافظ على اتزاني لكن مع الأسف لم يساعدني هذا فأدرت جسدي عاصفاً قاصداً باب غرفتي وركلتُ بقدمي أول ما أتى أمامي وهي سلة المهملات القريبة من المرآه ثم صفعت الباب خلفي ونزلت السلالم بخطواتي الواسعة بسرعة ...تناولتُ عن العلّاقة قرب المدخل الرئيسي , مفاتيحي ثم خرجتُ دون استئذان اهل بيتي مستقلّاً سيارتي وبعد تشغيلها دعستُ على الوقود مع صوت الاحتراق من أنبوب العادم لها الذي أعزف عليه عند متعتي أو غضبي... لألحق بها....
كنت اسابق الريح لذا توقفتُ أمام باب جامعتها خلال عشر دقائق وتبقّى خمس فقط لانتهاء محاضرتها الأخيرة....
قبل أسبوع علمتُ ان (صلاح) انفصل عن خطيبته لعدم انسجامهما معاً ومما سهّل الامر عليه وعلى والده ان القرار جاء من قِبَل عروسه .....وها هو عاد ليحوم حول ما لا يخصه اطلاقاً...يعتقد اني لا افهمه او أقرأ نواياه !!...جاء ليغويها بسيارته الرياضية البيضاء الجديدة التي اقتناها مؤخراً بعد تحسّن وضع والده ليلعب على الوتر الحساس الذي تعشقه تلك المدللة وهو حبها وميولها للسيارات والسرعة.....
أطلّت من البوابة الكبيرة وانظارها موجهة لسيارته القريبة منها...تهللت أساريرها وهي تلوّح له بيدها التي امسك نفسي عن كسرها لها لألقنها درساً على فعلتها هذه....فعندما شرّطت على استمرار علاقتها معه لم اهتم لأني كنت اعرف انه مشغول ووالده بنسبهم ونبع الأموال الجديد وغير متفرغين لسموّها وظننتُ أيضا انها من الممكن تحاول استفزازي فأظهرت عدم اهتمامي ولم أفكرّ انها جادة في قولها...اما ان أرى المشهد يطبّق امامي وبوجوده كدخيل متطفل على سير برنامجي ليدمر خططي فهذا ما لن اسمح به ....!!
كنت اراقب من بعيد كالفهد الذي سينقضّ على غزالته ...افترقت عن صديقتيها وتوجهت الى الباب الذي فتحه لها بكل تملّق وكأنه السائق الخاص بها....ترّجلتُ من سيارتي أمشي بخطى ثابتة عجولة حتى حالَ جسدي بين بابها الذي تركه لها لتغلقه وسيارته...ارتجفت وازدردت ريقها بذهول لرؤيتي وهمست بصوت منخفض وهي تضع يدها على صدرها :
" يامن؟؟...ماذا تفعل هنا ؟؟!"
انحنيتُ بجذعي واضعاً يدي اليسرى على سقف سيارته واليمنى تمسك بالباب وتبسّمت ابتسامة باردة , مائلة ثم همست آمراً بصوت رزين هادئ :
" انزلي من غير ضوضاء واتبعيني.."
ضيّقت عينيها وكتّفت ذراعيها على صدرها بتحدي وهي تنظر الى الأمام وردت بعناد ترفع احد كتفيها:
" لا أريد..."
أدارت وجهها للجالس على يسارها خلف المقود وتابعت:
" وعدت صلاح لتناول الغداء معاً..."
قلت متهكماً بنبرة منخفضة جافة:
" أنا لا اعرف صلاح ولا فلاح...انزلي دون أي كلمة "
زمجر البغيض بغرور هاتفاً:
" ما هذا الأسلوب الهمجيّ؟؟...لا يليق بكَ كرجل أعمال ناضج !"
وضعت سبابتي اليمنى على شفتيّ هامساً بكل برود:
" ششش....لا تتدخل..."
ثم انتصبتُ بوقفتي ومددت يسراي أقبض ذراعها أشدّها بخفة للخارج وهي تتمتم مُحرجة تجول بعينيها من حولها قائلة بخفوت:
" اترك يدي....لا نريد فضائح هنا.."
سحبتها مطوقاً معصمها الأيمن بيساري ليضيع بين أناملي الطويلة , متجهاً الى سيارتي قائلاً لها وهي تتبع خطواتي مرغمة :
" قولي لنفسك هذا الكلام !!...أنت من اردتِ ذلك..."
عندما وصلنا لها أفلتُّ يدها فوقفت مندهشة فاغرة فاها وعيناها متسعتان ثم سألت دون ان تزيح نظرها:
" هل هذه لك ؟؟...متى اشتريتها ؟؟ "
توجهتُ الى باب السائق وأشرت لها بالركوب ففعلت بصمت وملامحها ما زالت على حالها مندهشة , مسحورة من جمال هذه السيارة التي اشتريتها منذ أيام قليلة وهي ببابين ينفتحان الى الأعلى والأهم لونها ازرق الذي اخترته خصيصاً كالسماء التي بعينيها تماماً !!.... لأتمتع بأجمل سماءين امتلكهما بين يديّ .....
كررت سؤالها بعد أن ركبت بجانبي تتأمل داخلها بانبهار:
" متى اشتريتها ؟؟.."
قلت وأنا انطلق بها بهدوء :
" منذ أسبوع تقريباً.."
قالت بضيق :
" لمَ لم تخبرني ؟؟.."
رمقتها بنظرة جانبية ويدي امدها للمسجل افتحه على محطة الاخبار واجبت سائلاً بجرأة باردة :
" هل تخبريني عندما تشتري ملابسك الداخلية مثلاً؟؟..."
صُبغ وجهها بالكامل بطلاءٍ احمر وعضت شفتها السفلى وتمتمت محرجة :
" وقح...!!"
ثم حاولت تصنع الجرأة وقالت ناظرة للأمام:
" لا مجال للمقارنة بهذا..."
تابعت ببرودي ونفس الوقاحة :
" بلى...انا اشتري السيارة بسهولة دون مقدمات كما تشترين انت ملابسك الداخـ..."
وقبل ان أتمّ جملتي مدت يدها ترفع صوت المسجل وصرخت بخجل :
" اصمت..."
حاولتْ العبث بأزراره وقالت بملل:
" كيف يمكنني تغيير المحطة ..؟؟ "
مددتُ يدي أضع على محطة القران وقبل ان استشعر أي كلمة منه قالت بجهلٍ ظاهر مستغربة:
" هل مات أحد ؟!...لمَ تضع على القران ؟؟.."
لا ألومها فهي نشأت في بيت والد عديم شرف ودين ولم تتذوق حلاوة الغوص به والاستماع الى التلاوة بأصواتٍ عذبة تأخذنا الى عالم آخر نقي , طاهر , ساكن وكأننا نحلّق في السماء بعيداً عن صخب وفوضى الحياة.....
قلت مستنكراً:
" هل مفهومك عن القران هو الموت ؟!...وا أسفاه ...لا تعرفين قيمته !! "
قالت:
" نعم....عندما يموت شخص يضعون في عزائه القران....لم اسمع القران يوماً في فرح او عيد ميلاد.."
" القران لا مكان ولا وقت محدد له....هو كلام الله جل جلاله من سابع سماء ويجب ان نحفظه ونسكنه في قلوبنا أينما وكيفما كنا لتبقى سليمة به...هو ليس رمزاً للموت والفناء , ليس للحزن والبلاء , ليس للكربة والشقاء... انه نعمة من ربنا فيه الأمل والرجاء فيه الفرح والهناء ....لظلمة الفؤاد هو النور والشفاء ..."
صمتّ برهةً ثم تابعت:
" هذا المجتمع الخاص بكِ هو المحروم من هذه اللذة التي اكرمنا بها الله.."
نظرت بتفحص وسالت:
" هل أنت ملتزم دينياً ؟؟..."
أغلقت المسجل وأجبت :
" يا ليت....أنا أحاول القيام بواجبي قدر استطاعتي فنحن في النهاية بشر لا نخلو من العيوب والذنوب والانحراف عن طريقه ....اسأل الله ان يغفرها لنا ويردنا اليه رداً جميلاً "
القت نظرها للمسجل ثم اعادته لي ببلاهة :
" لمَ اغلقته بعد كل هذا الخطاب ؟!!"
قلت تالياً:
" لأن كلام الله له احترامه ...{{ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }}....ونحن نتناقش وهذا غير لائق!!..."
تبسمت برضى وهمست :
" صوتك جميل بالتلاوة..."
نظرتُ لها مبتسماً بخجل رجولي شاكراً اطراءها ...
رفعت جسدها قليلاً ترنو الى الأمام متسائلة عندما بدأت ُ الاندماج بشارع سريع يمتد على طول الساحل :
" إلى اين نحن ذاهبون ؟!.."
انفرجت شفتاي عن ثناياي ضاحكاً ويدي تمسك المقود والأخرى على مقبض الغيارات ...ثم رميتها بغمزة هامساً لها :
" ضعي الحزام واستعدّي لمغامرة السرعة التي تعشقيها..."
شهقت مبتهجة وهي تضع الحزام على الفور هاتفة بحماس :
" كم أنت رااائع..."
دعستُ على الوقود منطلقاً انتقل من جانباً لجانب بخفة وهي تصرخ فرحاً مستمتعة وصرت ازيد بالسرعة اكثر فأكثر حتى اوشكتُ على اقفال الحد الأقصى من ساعة السرعة فوضعت يمناها على صدرها وخبت حماسها وقبضت بيسراها ساعدي قرب الرسغ وتلاحقت أنفاسها وهمست متوسلة :
" يكفي...هذا مرعب....ارجوك خفف السرعة..."
لم ألبِّ طلبها واستمريت على نفس الحال من قيادتي فشدّت اكثر بقبضتها تغرز اظافرها واختنق صوتها :
" ارجوك ...خفف...انا حقاً خائفة..."
اختطفت النظر لها ثم أعدته للشارع ...كان وجهها مبهماً ممتقعاً , يظهر عليه الذعر وكأن الدماء جفت من عروقها فقمتُ بإنزال ساعة السرعة رويدا رويدا حتى وصلت الحد الطبيعي ...وضعت يدها على فمها فعلمت انها أحست بالدوار...توقفتُ الى جانب الطريق اسألها بقلق :
" ما بكِ ألمى ؟...هل انت بخير ؟"
فتحت الباب على عجلة لتنزل ....لحقتها لأطمئن عليها او اساعدها لكنها اومأت بيدها الحرة تمنعني من الاقتراب ...ترنّحت بخطواتها تكاد تقع فأسرعت بإمساكها بقبضتيّ لأدعمها من السقوط ولما ثبتت أفلتّها لتندفع بعيداً عني تخرج ما في جوفها.....!!
عدتُ الى السيارة لأخرج قارورة ماء ومناديل ورقية....ناولتها إياها وتركتها تنفرد تأخذ راحتها....بعد دقائق عادت الى طبيعتها وأقبلت نحوي حيث انا متكئاً بظهري على سيارتي بإمالة قليلة , مكتوف اليدين وساق اضعها خلف الأخرى , مكمش العينين من اشعة الشمس المقابلة لي...وصلتني وهي تمسح فمها بالمنديل هاتفة باستياء:
" توبة....ما هذا الجنون؟....لم اجرب سابقاً هكذا سرعة وقيادة ..بل تهوراً وجنوناً.."
قلت بنبرة متهكمة:
" انت قلتِ انك تعشقين السرعة ففعلتها من أجلك..."
" فعلتها من اجلك؟؟!!...جملة جعلت الفراشات تتطاير فرحاً بداخلي لو انها قيلت لي بغير هذا الموقف " ....هكذا كانت تحدث نفسها !! ....
اما بعد ان رأت الموت بعينيها لم تتراقص الفراشات بل جددت اسلامها بنطق الشهادتين...!!
همست بتعالي ونفور بكلمات لو أنها سكبت على وجهي ماءً مغلياً لكان أسهل عليّ مما سمعت :
" أحب السرعة نعم .....لكني لا اثق بك لأسلمك روحي...فمثلاً مع صلاح....."
انتصبتُ بوقفتي محرراً يداي مشيراً لها بإحداها باحتدام ..ناطقاً بصوت حازم قاطعاً جملتها :
" اركبي.."
ووليتُ ظهري لها قاصداً مقعد القيادة....
كنا في صمتٍ تام للحظات ليست بقليلة اثناء الطريق وانا اسير بسرعة معتدلة فتنحنحت هامسة بعد ان قتلت القتيل ومشت في جنازته :
" ما بك صامت؟...هل انت غاضب ؟...اين سنذهب ؟ "
أجبتها بجدية جافة على الفرع الأخير من سؤالها وملامحي جامدة :
" سنذهب لتناول الغداء وبعدها سأعيدك الى بيتك..."
قالت ببراءة وكأنها لم تنطق سماً قبل دقائق وهي تنظر لساعتها:
" خسارة ما زال الوقت مبكراً....هل انتهت فسحتنا ؟!"
يا صبر.... ستقتلني هذه بلا شك أو تزيد على جنوني جنوناً...هل تقصد ذلك ام هي هكذا فعلاً.....لا استطيع تفسيرها هذه المخلوقة ....!!
اجبت بكبرياء :
" وددت اخذكِ الى مكان مفتوح لتقودي السيارة بنفسك .....لكن لا نصيب !! "
هتفت متفاجئة بانفعال :
" حقاً ؟!.."
" كنت ..وغيرت رأيي .."
زمّت شفتيها قاطبة حاجبيها وكتفت ذراعيها بحركة طفولية ثم همست بحنق:
" لمَ غيرت رأيك ؟!.."
نظرت لها بازدراء مصطنع ثم اعدت عيناي الى الامام وقلت بتعالي :
" لا اثق بكِ لأسلمك سيارتي الثمينة..."
توهجت وجنتاها حرجاً بعد ان وصلها الرد على كلامها السابق....تشعر بقصفي لجبهتها...وجلست ساكنة الى ان وصلنا!!
تناولنا الغداء بأجواء متوترة وبيننا صحراء قاحلة من الكلام....دفعتُ الفاتورة فور انتهائنا ثم نهضنا متجهين الى موقف السيارات وانصرفنا بهدوء عاصف الى سبيلنا حتى افترقنا امام باب منزلها بسلامٍ يتيم.....!!
~~~~~~~~~~~~~~~~~
ما ان دخلت غرفتها حتى علا رنين هاتفها مستقبلاً اتصالاً من صديقتها , فردت بيأس:
" خيرٌ يا ميار ؟؟..."
أجابت على الفور:
" اتصلت بي لميس تخبرني انها رأت خطيبك وهو يسحبك من ذراعك امام الجامعة بعد ان افترقنا .."
قالت بضيق:
" نعم ..حصل.."
سألت لتطمئن:
" لماذا؟؟.."
تنهدت وحكت لها بالتفصيل الممل كل الأحداث كعادة جميع البنات اللواتي لا يتركن حرفاً او همسة دون نقلها وكأنهن يسردن رواية عن حياتهن العظيمة...!!...
تفاعلت (ميار) مع الأحداث وسألت بفضول تريد ان تعلم سبب تصرفها :
" كيف تقولين بوجهه انك لا تثقين به وزيدي على ذلك تنطقين اسم صلاح واردتِ ان تمدحيه بغبائك وتقارنيه به؟؟.....احمدي الله انه اوقفك قبل ان تكملي والّا لو سمع ما كنتِ تنوين التفوه به من ثناء لخطيبك السابق مؤكد لكان وضعك تحت عجلات سيارته الثمينة التي حرمتِ من قيادتها بسبب عقلك الصغير المتوقف عن العمل..... لا أفهم ...ألم تُسعدي بهذه المغامرة التي تعشقين؟؟"
ردت تفسر لها:
" كنت بداية متحمسة , اشعر وكأننا فوق السحاب .....متعة لها نكهة خاصة !! ...ولما ازداد اكثر بالسرعة مع حركاته الجنونية بين المركبات شعرت ان نبضي سيتوقف رعباً ....لم اجرب هذا مع صلاح سابقاً...."
سخرت منها ثم طلبت ان تستأنف بعد توقفها :
" جبانة !!...ها أكملي ...انا معك "
قالت بتيه , لا تفقه شيئاً عن حالتها:
" عند توقفنا جانباً أسرع نحوي بلهفة ومسكني بقبضتيه الكبيرتين قبل وقوعي ....كانت لمسته مخالفة لخشونته وجموده وبروده ....فيها دفء وحنان حقيقي !!...لم أرَ هذا الشيء مع صلاح مع انه كان لطيفاً معي دوماً خلافاً ليوم السباق فقط !! ....وبعدما افرغت ما في معدتي عدتُ له لأجده يقف متكئاً على سيارته بكامل الرجولة ...يقف بجاذبية مبتسماً مع نظرات كادت ان تقتلني ....فلعيونه الترابية المكحلة برموشه حكاية أخرى ...وكيف ان كانت الشمس مسلّطة عليها لتبرق وتصعق من يقابلها؟!!....لذا تحولت لهجومية لأني خفت !!..."
سألتها باستغراب:
" تتغزلين به وبلمساته...مما خفتِ إذاً ؟؟.."
اجابت هامسة بخفوت :
" خفت أن أقع بشباك حبه !!.."
قالت تنصحها :
" اتركي العنان لمشاعرك...جاء الوقت لتعيشي الحب الحقيقي وتستمتعين "
همست حائرة :
" لا اظن !!...صحيح ان القلب لا يستأذن صاحبه عندما يدق من اجل شخص ما ....لكن هو ما زال غامضاً بالنسبة لي ...يطلّ مرة ويغيب مرات ...يحن ويجن...بارد وحار...يعيش ويعيشني معه النقيضين....كيف سأسلم قلبي له بيدي وانا لا افهمه ؟؟....هذا الكلام والقرار سابق لأوانه ....سنرى ماذا يخبئ لنا المستقبل !!.."
ردت عليها :
" غريب أمره ...لم يتحول هكذا ؟...واجهيه بما تفكري به "
قالت محبطة:
" لا لن أواجهه لكي لا يظن اني اشحت منه الاهتمام او الحب !!...لكن أتعرفين ؟! "
" ماذا؟؟"
أكملت بضياعها:
" صلاح يعلم كم احب السيارات وكنتُ اطلب منه ليسمح لي بقيادتها وكان يرفض حرصاً على سيارته ويقول لي حين تأخذين الرخصة وكان يسخر مني بأني سأحولها الى خردة وقطع حديد ان قدتها !!....أما يامن لم أطلب منه ذلك ويبدو انه ظلّ حافراً في ذاكرته يوم تعارفنا عندما اخبرته بأمنيتي ان اقود سيارة وأن ابي لا يسمح بتعلمي القيادة لأنه يراني مجنونة بها ويخاف ان اتهور واتسبب بحادث لنفسي!!....وها هو كان سيسلمني سيارته لكن بحماقتي ولساني الغبي هدمت حلمي بيدي !!....إن لم يكن هذا نوعاً من الاهتمام ماذا قد يكون ؟!"
تنهدت واجابت:
" ماذا تريدين اكثر من ذلك وانت تعرفين ان الشبان مجرد ان تصفعي باب سيارتهم وكأنك غرزتِ سكين في روحهم وهو كان سيسلمك مقعد القيادة بالكامل دون تردد ؟!!....ارى ان تصبري صديقتي وستفهمينه وتعتادين عليه..."
ضحكت واردفت:
" بل ستعشقينه حد النخاع..."
جاملتها الضحكة وهمست:
"هذا ربما يحصل ان لم يغب ويطيل بالغياب بحجة العمل وان لا يضعني على هامش يومياته ....فإما ان أكون عنوانه الرئيسي أو سأكتب النهاية بيدي..!! "
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
أيام كثيرة رتيبة مرت علينا.!!...لا تغييرات بأسلوبي معها......علاقتنا شبه متوترة نسبح بها بين المد والجزر !!...تأتي ليالي عاصفة وتلحقها ساكنة وكنتُ هذه الفترة منشغلاً بأمور عدّة فعلا مثل شركتنا هنا وشركة والدي رحمه الله في الوطن....كذلك كان عليّ زيارة مقرنا العسكري على الحدود لتسوية بعض الأمور كتجديد أسلحة وضم شبان جدد للمعسكر وعلينا اختبارهم ....هذا البعد جعل فتوراً وبروداً بيننا بعض الشيء في التواصل.....هي بالنسبة لي مكانها في القلب سواء رأيتها أو لا , سمعت صوتها او حرمت منه لم يتزلزل و يتقلقل ذرة من شعوري لكن هي كأي أنثى لها أحلامها , خيالاتها ورغباتها , تبتغي الاهتمام والحب ...رقتها تجعلها تعصف من أي تجاهل غير مقصود وترضى من همسة دافئة ....ويبدو أنها كانت هذه الفترة تعيش صراعات داخلية , ترتب أوراق مشاعرها حتى حسمت الأمر ولقطت أنفاسها هذه الليلة لتنزل الى مكتب والدها تواجهه بما يختلج صدرها ويؤرق نومها .....
بعد عدة طرقات خفيفة على بابه العريض قال بصوت جهوري:
" أدخل.."
فتحته وابتسامتها على محيّاها هامسة:
" مساء الخير أبي..."
خلع نظارته الخاصة بالقراءة ورد عليها ببسمة حنونة :
" مساء الورد صغيرتي .....تعالي اجلسي لأراك "
زلفت منه ببطء مترددة فهيمنته لها صداها حتى لو كان في حالة استرخاء ....جلست على الكرسي المقابل لمكتبه , تخفض عينيها للأرض وتلعب بأصابعها فأراحها بفتح الحديث قائلاً:
" نعم يا حلوتي....اخبريني ما يزعجك !!؟"
ظلّت للحظات تستجمع شجاعتها فحدّجها بتوجس يرفع احد حاجبيه , ينتظر ردها , ناصباً سلاحه للدفاع خوفاً من مباغتته بقذيفة لا تسر باله.....فغمغم بحذر:
" ها...انا انتظر !"
ازدردت ريقها ..اغمضت عينيها تشد عليهما واندفعت على نفسٍ واحد :
" اريد الانفصال عن يامن.."
هبّ بفزع صارخاً:
" ماذااا؟؟....هل جننتِ؟؟"
كان الكلام الأول هو الصعب عليها أما الان فتحت الطريق لنفسها ولن تخشى شيئاً فاستطردت مؤكدة بعناد :
" ما سمعت...لا اريده ...لا ننسجم معاً....هو من عالم وانا من عالم....لا اشعر اني مخطوبة أساساً .."
قال ساخراً ببرود وداخله نيران متقده :
" ماذا تهذين ؟؟...كُفّي عن هذا الهراء وايّاك ان اسمعه مجدداً.."
صمت برهةً ثم سأل بتخوّف :
" هل يعلم بهذا؟....هل اتفقتما فيما بينكما ؟؟"
اجابت بتردد:
" لا.....اريد منك انت اخباره "
رمقها بنظرة قاتلة وصرخ بنبرة حادة :
" اصمتي...لحسنِ حظك انك لم تخبريه والّا لتمزقتِ بين يديّ "
حدّقت به مذعورة بعد تهديده الصريح وقالت :
" لو لم تكونا شريكين لقلتُ انه اشتراكَ بماله !! "
هنا انتهى من امساك نفسه عنها فانقضّ عليها من وراء مكتبه يمسك ذراعها بقوة ثم صفعها على وجهها هادراً بقسوة :
" اخرسي يا عديمة التربية.."
أحدثا جلبة في القصر مما جعل البقية يتوافدون هرولة اليهم , قلقين , فزعين من صوته الهادر ولجهلهم بما يحدث وأول من ارادت دفع الباب واقتحام المكان هي خالتها (فاتن) فأمسكتها الأفعى (سوزي) بخبثٍ تهمس بفحيحها :
" أتركيهما....أب يربّي ابنته , ما شأنك انتِ ؟"
رمقتها بازدراء واضح وانزلت يدها بقوة , هاتفة بحزم :
" لا شأن ولا رأي لكِ انتِ ايتها الأفعى السامة.."
ثم دلفت بوجهٍ مصعوق لرؤيتها لابنة شقيقتها تبكي ووجنتها محمرّة يُطبع عليها بصمات كفه الخشن فأسرعت نحوها تحتضنها بذراعيها وتقبّلها من رأسها , تحاول تهدئتها بحنوٍّ و(ألمى) تدفن وجهها على صدرها وصوت بكائها يعلو بقهر وألم .....لم يكن ألم الصفعة كخذلانها من والدها الذي لم يمد يده قط عليها مهما عصف او غضب منها ليفعلها الآن ....
سألت السيدة (فاتن) باستياء :
" ماذا يجري هنا؟...كيف وصلتما لهذا الحال ؟"
ولّاهما ظهره مزمجراً بغيظ واستهجان . يشتم ابنته وعروقه بارزة , مهدداً :
" لتضع عقلها في رأسها والّا لن أرحمها .."
حرّكت حدقتيها بينهما تجهل السبب , هاتفة:
" اخبراني ماذا جرى ؟"
رد وهو على وقفته ذاتها ناقماً :
" ابنة شقيقتك المصون تريد الانفصال عن خطيبها بل زوجها .."
صدمت مما سمعت وسألتها بخفوت :
" لماذا ألمى؟؟"
لم تجبها لانشغالها ببكائها من ألم الصفعة والطعنة في فؤادها فهتفت السيدة(فاتن) بعقلانية:
" اهدءا وسيحلّ كل شيء ان شاء الله ..."
أدار جسده ووجهه مكفهراً كالمصعوق بتيار كهربائي وقال بصرامة:
" لا حل غير الاستمرار بالعلاقة .."
صرخت ابنته وهي تبكي بنحيب:
" لمَ تفعل هذا بي ..لـــمَ؟؟!!"
قال ساخراً دون أدنى شعور وكأن التي أمامه غريمته وليست من دمه :
" لأن ارتباطك به هي صفقة....اذا انفصلتما لن يتبقى لنا شيئاً بعد أن تكبّد هو ووالده كافة المصاريف لفك الرهنية بالمصرف بما فيها هذا القصر الذي تنعمين برخائه وانتِ لم تفكري للحظة كيف حافظنا عليه بعد خسائرنا وكان هذا طبعاً الثمن مقابل الموافقة على عقد القران.....أم تظنين انه يفعل هذا كمشروع خيري ؟! ...
صعقها باعترافه كونها مجرد ملف على ورق يتبادلونه بينهم كيفما يشاؤون!!!
تهالكت ارضاً بعد ان خارت قواها , لا علامات للحياة على وجهها وانزلقت دمعة متشردة من سمائها كانت تتصارع بين جفونها فهاجرت معلنة خنوعها واستسلامها لحياتها المقيتة علّها ترسو في شتات العمر لتجد حضناً دافئاً يأويها....
×
×
×
تغيبت أسبوع ونصف عن الجامعة بعد انهيارها ومعرفتها لمكانتها بيننا ....اصبحت بجسد بلا روح وحتى جسدها غدا نحيلاً هزيلاً ...انعزلت في غرفتها ولا تكلم صديقتيها الا بأمور الدراسة...ذبلت عيناها وانطفأت نضارة بشرتها وكان عزاؤها الوحيد وسط الركام هي خالتها التي تحاول جاهدة لإخراجها مما آلت اليه ...كانت تتعذب من اجلها وحتى للمحافظة على كبرياء ابنة شقيقتها وعزة نفسها لم تشركنا بالموضوع او تُعلمنا بمعرفتها الحقيقة....كانت تسعى لتجميل صورتي امامها وتهدي عليها ...تخبرها لربما بزواجها ستخرج من جحيم بيتها هذا الذي لم تهنأ بداخله منذ فقدانها لوالدتها وزواج ابيها وانها ستملك حرية ذاتها ويكون لها كيانها واستقلاليتها وحياتها التي كيف تشاء ترسمها.....!!
↚
ساعة تلوَ ساعة ويوم يتبعه آخر كان هذا العد التنازلي من أيام عمرها ... أهملت جامعتها بعد أن أصبحت حطام روح تحتضر تنتظر اجلها....لقد استحوذها اليأس والقنوط وهي مسلّمة نفسها دون مقاومة .... لم تعش سابقاً اياماً كهذه !!....
قبل ثلاثة أيام نهضت بنفسها مع جرعات أمل يوهبها الله لمن يشاء من عباده ومع وجود أناس يحبونها ويدفعونها لتمضي في حياتها أمثال السيدة (فاتن) وصديقتيها الوفيتين ...أتمّت الأسبوعين من يوم موقفها الأليم البائس مع والدها وعلمت خالتي (مريم) من خالتها أن نفسيتها في الحضيض دون ان توضح السبب الحقيقي بل لفقته لعدم اهتمامي بها واهمالها فقررت للترقيع عن تصرفاتي أن تدعوهما الى قصرنا في هذا اليوم وهو الجمعة أي بإجازتي بعد أن علمت مني أنني ذاهبٌ لقضاء ليلة للمبيت في الطبيعة مع أصدقائي ....ارادت ان تستغل غيابي كي لا نلتقي أنا وهي خوفاً من ردة فعلها اتجاهي لحنقها عليّ....رغبت أن تروّح لها عن نفسها بأجواء نسائية بعيداً عن ثقيلي الظل من أمثالنا وأن تقربها من أجوائنا العائلية بما أنني غير مبالٍ لها!!.... حتى أبي (إبراهيم) قامت بإقصائه بقضاء يومه مع أصدقائه...!!
بعد صلاة الجمعة وتناولنا الغداء معاً ومع خروج أبي الى منفاه ....توجهت الى المطبخ حيث كانت خالتي مشغولة تشرف على الخدم بتحضيرات التقديم والتضييفات ....كنت اجهل ما يجري ولم اهتم من الأصل لاستفسر عن هوية ضيوفها !!....اقتربت منها مداعباً لها ثم هتفت :
" خالتي سأصعد الى غرفتي لأنام....ارجو ان توقظيني بعد العصر لأصلي .."
تسمّرت في ارضها متفاجئة تسأل باندهاش:
" لمَ؟؟....ألم تقل أنك ستذهب مع اصدقائك لمبيت ليلة في الخلاء؟"
أجبتها متثائباً بكسل:
" نعم كنت!!....لكن مع الأسف أجلناها بسبب مرض والد احد أصدقائنا !!.."
بدا عليها الارتباك والصدمة فقلت مازحاً وانا اقرصها من خدّها:
" ما بكِ صدمتِ؟....هل كنت تنوين التخلص مني ؟! "
تأففت وهي تحوقل واجابت بامتعاض :
" لقد أفسدتَ دعوتي!!....يا الهي ستظن أنني خدعتها !! .."
رفعت احد حاجبيّ بتوجس سائلاً بفضول:
" دعوة ؟!!..لمن ؟!."
اعترفت مجبرة:
" دعوت السيدة فاتن وألمى لتمضيا هذا اليوم معي ونيتي بالطبع اخراج المسكينة من كآبتها التي تسبب بها رجل ثقيل غليظ عديم الضمير.."
وقفت لوهلة متفاجئاً ثم دنوت منها أقبل وجنتها هامساً بمكر :
" شكرا خالتي على هذا الاطراء الجميل........هل ترسمين خططاً من خلفي ؟؟.....كان يجب عليكِ استشارتي .."
غمزتها وأضفت:
" فيما يخص زوجتي طبعاً.."
ضربتني على كتفي منزعجة وقالت مؤنبة :
" هل تذكرت ان لك واحدة ترتبط باسمك أيها القاسي ؟!.....لا تكلّمها ولا تسأل عنها...أهكذا كان الاتفاق ؟!......"
لم أعلق على كلامها لأنها لم تخطئ بما قالت ....اما انا كنت اتجاهلها منتظراً... لأرى الى متى لن ترد على اخر رسالة أرسلتها لها منذ أسبوعين وحتى حاولت الاتصال بها وقتها ولم تجب او تعيد المكالمة !!....لذا تناسيتها عمداً ولم أسال عن أسبابها لكي لا تظن اني متلهفاً لصوتها ومحادثتها تلك المدللة .....
اكتفيت لخالتي بشبح ابتسامة !
اشارت بسبابتها آمرة بحزم :
" افعل أي شيء...اما ان تجد لك مشوار لساعات او لا تخرج من غرفتك بتاتاً....لا اريد ان أضع بموقف الكاذبة !!.."
رفعتُ سبابتي والوسطى الى جبيني بحركة العسكر مبتسماً هاتفاً:
" أمركِ مولاتي.."
صعدتُ الى غرفتي وبدّلت ملابسي لبنطال رياضي قصير لونه اسود وبلوزة بأكتاف عريضة بيضاء دون أكمام.....استلقيت على الأريكة المريحة في غرفتي المخصصة لمشاهدة التلفاز....نظرتُ للسقف أفكر بها وابتسم كالأبله ...ذبحني الشوق وانا صابرٌ مستسلمٌ لكبريائي ...بدأت اسأل نفسي !!...هل انا بالفعل عديم ضمير ؟!...لمَ أتجاهلها الى هذه الدرجة ؟!...هل بإهمالها وحرماني كما حرمانها من اللقيا اصدّ نابضي المتدفق بحبها عنها ؟!.....لو كان كذلك لاختفت من مخيلتي من عشر سنوات عندما كانت في الجانب الاخر ولم تكن بهذا القرب مني!!....أيّ سحر القته على قلبي لحظة وقوع عينيّ على عينيها ؟!!...أتساءل !!....هل أنا ضعيف لهذه الدرجة ولذلك ابني حصوناً بيننا لكي لا أقع اسير حرب بين يديها ؟؟....أين القوة والشجاعة التي اعتدت عليها ؟!!....لم لتكون علاقتنا معقدة بهذه الصعوبة ؟!!....لمَ ليكون نصيبي حبيبتي هي عدوتي ؟!....بل لمَ من كل رحاب هذه الأرض تكون هي ملجئي !!.....أحببتها ليكبر عذابي وانيني....وضعتُ يدي على قلبي زافراً اوجاعي ....إني احترق بنار الحب والانتقام..... وبين ألَمي وألْمَتي ....فتباً لقلبي وتباً لها لأني ما زلت لاجئاً في سمائها..!!..
استغفرتُ ربي متنهداً وادرت جسدي لجانبي الأيمن محتضناً وسادتي مستسلماً للنوم والخائن في صدري ينبض فرحاً يستعدّ لاستقبالها....!!
↚
فُتِحت بوابة القصر الكهربائية للسماح لسيارة السائق الخاص بالسيدة(فاتن) وسمو الملكة (ألمى) بالدخول الى ساحته الشاسعة في الساعة الثالثة قبل العصر.....ترجلتا منها وهما تحملان بين ايديهما هديّة قيمة لخالتي وكانت عبارة عن حقيبة من الجلد الأصلي بلون خمري مع طقم عطور فاخر من نفس الماركة ......لم تكن المرة الأولى التي تزور بها السيدة(فاتن) بيتنا....لقد أتت سابقاً مرتين او اكثر بالخفية لجلب اخبار مهمة من بيت العنكبوت !!...
الآن هي مضطرة للتمثيل أمام ابنة شقيقتها وكأنها زيارتها الأولى الى هنا ....أما الأخيرة كانت تخطو جانبها نحو مدخله الكبير ببابه العريض المصنّع من النحاس المدمج باللون الذهبي وهي تتأمل هذا القصر الشبيه بضخامته لإحدى قلاع الروم المجددة بالوان العصر الحديث...كانت تلتفت يمنة ويسرة على الحديقة المحيطة بساحته بهندستها المبهجة من تناسق الأزهار الملونة بأنواعها مع مختلف الأشجار المحاطة بالنادر من الأحجار ....وهمست لخالتها بانبهار :
" اذا كان من الخارج بهذه الفخامة والجمال ...كيف سيكون من الداخل ؟؟ "
تبسمت مجيبة:
" لندخل ونرى.."
قربت منها اكثر هامسة بخفوت:
" اعتقدتُ ان قصرنا هو الأجمل بطابعه الهندي....اتضح اني مخطئة ....هذا يشبه الخيال كما كنت اشاهد قصور الاميرات في الرسوم المتحركة !!.."
رفعت يدها تربت على كتفها بحنوٍ وهما تصعدان درجاته النصف دائرية وقالت بحب :
" جعله الله بيتك الذي ستعيشين فيه مع عائلتك الجديدة بسعادة وراحة بال صغيرتي."
قطبت حاجبيها برفض وقبل ان تنبس ببنت شفة أطلّت خالتي تفتح الباب لاستقبالهما بوجهها البشوش النقي ورقّتها , صافحتهما واحتضنتهما بلطف بمشاعر صادقة دون رياء....دلفتا وهي ما زالت تنظر بإعجاب على تصاميمه المميزة...وجّهتهما الى غرفة الجلوس العائلية والتي يتواجد بها تلفاز يأخذ مساحة كبيره من احد حيطانها وكأنه شاشة سينما ونافذة كبيرة على حائط آخر تطل على الحديقة الخلفية , تغطيها ستارة تتناسق مع الاثاث بتصميمه المغربي الذي يحتل الغرفة ,فرشه كريمي ومخداته تتنوع بين الجنزاري الغامق والفاتح وزرابيّ من الحرير تَدمِج هذه الألوان....طاولته مستطيلة من خشب مطلي بالكريمي ...فوقها مزهرية كلونها , فيها ورود اصطناعية تلائم هذا الديكور ورائحة اللافندر التي تملأ المكان , تعطر الجو وتهدئ الاعصاب من زجاجة صغيره بعيدان رفيعة موجودة جانبها....
سلالم عريضة تفصل هذه الغرفة عن المطبخ المقابل لها .....
ارادت ان تستقبلهما هنا خاصةً لإدخال (ألمى ) بالأجواء العائلية دون رسميات كما الضيوف الاغراب....قدّمت لهما بعض التضييفات وجلست ليتبادلن الاحاديث المتنوعة وهي بالكاد تشارك ....
مع رفعِ اذان العصر تنحنحت خالتي هامسة مُحرجة , توجه كلامها لها :
" ألمى... بنيتي.."
نظرت لها بابتسامة بريئة واجابت برقة:
" نعم سيدة مريم ..."
قالت وهي تلعب بأصابع يديها في حضنها بارتباك :
" أنا أسفة....اتفقنا على هذا اليوم على أساس أن يامن سيكون في الخارج.."
فزعت وتبدلت ملامحها للعبوس بعد سماعها اسمي دون ان تنطق حرفاً فتابعت خالتي:
" فاجأني بتأجيل مشواره لظرف يخص احد أصدقائه.....أي لم اكن أعلم انه سيبقى في البيت الّا باللحظة الأخيرة ....صدقيني "
قاطعتها السيدة(فاتن) وهي تمدّ يدها لتضعها على كف ابنة شقيقتها تحاول تهدئتها قبل ان تنفعل , هامسة بلطف :
" لا تقولي هكذا سيدة مريم....البيت بيته ونرجو الّا نكون نحن من ازعجناكم..."
أجابت بخجل نافية:
" لا .....لا سيدة فاتن ...نورتم بيتنا...أنا حقاً محرجة منكما....أشعر أنني بدوت كمخادعة بالموقف الذي وضعني به...سامحه الله.."
تبسمت السيدة (فاتن) ترد بلطافة:
" حاشاكِ سيدة مريم...نحن نعلم من انتِ.."
بدأت ترتخي تقاسيمها تتقبل الحال الذي وقعت به !!....عادت تنسجم وتنخرط معهما باحاديثهما وتشارك بالذي يكون في مجال معرفتها وهو قليل , نسبةً لاختلاف اعمارهن وعيشها في الخارج.....
نهضت خالتي من مكانها مستأذنة:
" عن اذنكما ...سأذهب لإيقاظ يامن ليصلي..."
اومأت السيدة (فاتن )برأسها بإيجاب ثم قالت:
" لو سمحتِ وانا اريد ان اصلي ..."
أشارت ليمينها على حافة الجلسة وردت:
"ها هي سجادة الصلاة ...تفضلي خذي راحتك.."
بعد أن اختفت عن الأنظار ...تمتمت بحنق لخالتها :
" خالتي ارجوك لا اريد ان نطيل في الجلسة ...لا ارغب برؤيته.."
مسكت كفها تحيطه بين كفيها وقالت برجاء :
" صغيرتي اهدئي ...حتى لو قابلتيه تصرفي على طبيعتك وكأن شيئاً لم يكن...ارجوكِ كوني قوية ولا تسمحي لأي سببٍ كان ان يهدمك...لا تشغلي بالي عليكِ كالسابق !!.."
وافقت على مضض من اجل خالتها التي نهضت متجهة لتصلي العصر....
مرّت ساعة من بعد اذان العصر وأنا في غرفتي اشاهد التلفاز اقلب قنواته بملل...وصلتني رائحة اعشقها اخترقت انفي ....لا... لم اقصد ألْمتي !!...انها كعكة الشوكلاتة الداكنة الأفضل لديّ !!....مستعد ان افتعل حرباً من اجلها!!.....لم أتمالك نفسي فخرجت من غرفتي كما انا بلباسي الذي نمتُ فيه ...نزلت السلالم بهدوء كاللص المتسلل الى المكان قاصداً المطبخ وعشقي....طلبت من الخادمة (خَوْلة) ان تُحضِر لي لغرفتي منها فور تجهيزها مع كأس شاي .....كنتُ أقف موليّاً ظهري للباب ووجهي مقابل الآلة الخاصة بصنع القهوة , انتظر انتهائها من تحضير فنجاني !!...وبينما انا في وضع الانتظار واقفاً ادندن أنقر بإصبعي على السطح الرخامي والعب بقدمي بنفس النغمة أتسلى وأقضي وقتي ....رائحة أخرى بتُّ أدمنها زلزلت كياني وهذه لا أفتعل حرباً من أجلها لأنها هي حربي وسلامي هي جيشي واعدائي هي غنائمي وخساراتي هي ملجئي وشتاتي.... دخلت الينا لتقف متسمّرة مكانها للحظات بعد اصطدامها بالحائط خاصتها وهو انا لا غيري !....ظلّت على حالها تتأملني من الخلف ثم تنحنحت بعد ان لمحت الخادمة هامسة بصوتها العذب :
" من فضلكِ...اريد كأس ماء للسيدة مريم ...كادت تختنق بحبة من المكسرات !!.."
لففتُ وجهي ليميني رافعاً حاجبي مركّزاً بما قالت...أسرعت الخادمة تخرج بالكأس بنفسها متجهة لخالتي....استدرتُ بكامل جسدي لأجدها على حالها مشدوهة !! ...تلاقت أعيننا على بُعد خطوات بعد غياب مُضني....تنحنحت ثانية ترخي تقاسيم وجهها هامسة :
" عن اذنك !.."
" انتظري.."
بقيتْ مكانها فأردفتُ:
" أتريدين قهوة ؟!.."
اكثر من شهر لم نلتقي وجها لوجه واسبوعين لم نتكلم ولو برسالة لأسألها سؤال بحماقة لا محلّ له بالإعراب!!...هل ستقول لي نعم يا ليت..اني أتشوق لشرب القهوه معك ومن تحت يديك؟!....ما هذا السؤال الغبي الذي تفوهت به كأننا كنا قبل ساعات معاً ...بدلاً من ان احييها لأنها المرة الأولى التي تزور بها بيتي او اسأل عن احوالها ؟!!...
ولّتني ظهرها لتعود ادراجها دون أي رد طبعا ولو اقتربت وسكبت قهوتي على وجهي وخرجت لن ألومها!!...ماذا كنت انتظر مثلا ؟؟!!....
لكن بخطوتين مني مسكت معصمها لأوقفها. ..وبحركةٍ سريعة سحبتها ولففتها... لتدور بخفة ويصطدم ظهرها بصدري... وبذراعي حوطتها ولقفتها.....
رفعت رأسها للخلف وهي محاصرة في حضني تحت ذراعي , لترى وجهي ثم تبعته بعينيها تلقي شهاباً من سمائها لتصعق أرضي بسحرها....انتفضتُ محررها مني متمتماً شاتماً جمالها ....فقالت بصوت ناعم مخنوق حياءً:
" عفواً...ماذا قلت ؟!.."
ماذا قلت وماذا سأقول ؟؟!!... آاه ...لو تعلمين يا مدمّرتي؟!!...
استجمعتُ قوايَ منتصباً بوقفتي ..حككتُ عنقي بتملّص هاتفاً :
" كيف حالك..؟"
حرارة جسدها المشتعل خجلا من حركتي معها لسعتني لكنها اجابت ببرود مصطنع :
" بخير ...كيف حالك انت ؟!.."
تبسّمت هامساً:
" اصبحتُ بخير عندما رأيتك في بيتي.."
تفاجأت وتوردت وجنتاها !!...من يراها يظن أني اغرقتها بعبارات حب وغزل لكن هذا الوضع الطبيعي لأنثى لم تسمع كلمة لطيفة من خطيبها البخيل منذ ارتباطهما ...اعتقد يجب ان توثّق هذه اللحظة بدفتر يومياتها لتحتفل به مثل أيام العيد ..!!...أسدلت اهدابها الى الأسفل تطردني من سمائها وقبل ان اضيف أي كلمة , استأذنت ذاهبة الى من تركتهما دون الالتفات خلفها لترى ما أحدثت من مجازر بفتنتها ورائحة عطرها....
شردتُ بالفراغ باحثاً عن طيفها.....يا الهي... ماذا تنوي ان تفعل بي هذه (الألْمى) ؟؟!!....يا لصعوبة مهمتي!!....
بعد ان عادت الى غرفة العائلة سألتها خالتها بخفوت:
" أين كنتِ؟"
اجابت بخجل :
" تصادفت مع يامن في المطبخ وسلمنا على بعض فقط...ها انا أتيت..."
تنهدت وعدلت جلستها برضى ثم تابعن بالثرثرة النسائية......
عدتُ لأخذ فنجاني الذي اجزم انه ما زال محافظاً على سخونته بسبب الحرارة التي تشع من جسدي من قربها الحارق!!! ....صعدت لغرفتي مجدداً ألهو مع مَللي ......تبسمتُ بمكر حالماً ...لو أنها تصعد عندي لأشاكسها قليلاً ألْمَتي....وتنثر شذاها على مخدتي لتؤنسني في ليلي ووحدتي...!!
أصدرَ هاتفها نغمة دخول رسالة ففتحتها حالاً :
[ لا تخرجي بهذا العطر ثانية.....أم تحاولين اغوائي ؟!]
شقت ثغرها ابتسامة لا تعلم لماذا ثم عبست بتصنع وكأنها تخشى ان اراها وهي تبعث رداً :
[ لا ترتدي هذا اللباس ثانيةً بوجود الضيوف ...أم تحاول عرض عضلاتك للفت انتباهي ]
قرأت رسالتها ضاحكاً صافعاً جبيني وبعثتُ أخرى :
[ يعني تُقرّين أنني لفتُّ انتباهك ( مع رمز الوجه الغامز)...]
ردت على الفور:
[ متوهّم ...مغرور]
الحقتُها برسالة :
[ أنا أعلم ان الضيوف لا مكان لهم بالمطبخ لذلك تصرفت بحرية في بيتي ]
قرأَتهْا , تأففتْ وأغلقت الهاتف ثم أعادته الى حقيبتها دون رد...
×
×
×
دخلتُ الحمام لأتجهّز لصلاة المغرب وفي الأسفل لم يشعرن بالوقت وهن في آخر انسجام !!....ارتفع الآذان فقالت خالتي موجهة كلامها للسيدة (فاتن) :
" ما رأيك أن تتجهزي لنصلي الجماعة مع يامن ؟؟.....ستنبهرين بصوته.....انا استغلّ وجوده في البيت لأكسب الجماعة مع صوته الشجيّ الحنون .."
ثم صوبت نظرها للأخرى تسألها بحنان:
" وأنتِ عزيزتي ألمى ...هل تودين مشاركتنا ؟؟.....لدي أسدال صلاة ..."
اومأت برأسها رفضاً محرجة بخجل دون أن تصدر كلمة.....لم تضغط عليها خالتي ...لربما ظنت انها ترفض لعذر شرعي خاص بالنساء....يا حبّذا لو كان ذلك!!...انما لأنها لا تعلم كيفية الصلاة ومؤكد أنها لا تحفظ أي سورة قصيرة الّا اذا علقت في دماغها صدفةً من الماضي...
بعد خروجي من الحمام ارتديتُ بنطالاً من الجينز الكحلي مع بلوزة كلونه نصف كم لها ياقة مع زرين وخط ابيض عريض على صدرها ...تعطرت وسرحت شعري الذي ازداد طوله قليلاً عن المألوف.....أذنتُ لخالتي بالدخول بعد طرقاتها الخفيفة...دنت مني تستنشق عطري ترميني بنظراتها الحنونة وهمست :
" اللـــــه ما أجمل رائحتك....بسم الله ما شاء الله عزيزي هادي...ماهذه الوسامة والأناقة ؟!"
قلت ضاحكاً بحياء رجولي:
" القرد في عين أمه غزال خالتي..."
غمزتني قائلة:
" لنرى اذا كان فقط بعين أمه أم ايضاً بأعين أخرى.."
قلت محبطاً:
" لا اظن ذلك خالتي لا تتوهمي.....متأكد انها لا تطيق رؤيتي !!.."
ربتت على ظهري وهمست:
" تلك المسكينة ستكسر بينكم ...يا الله كم هي بريئة ......هذه الجلسة عرفتني عليها أكثر!!....أرجو ان تعطيها بعض الاهتمام ولا تقسو عليها..."
قلت:
" لتعتاد على هذا الحال لا بديل لذلك .."
سألت:
" ألا يشعر قلبك بالعطف عليها؟؟.."
تسألني عن الخائن ان كان يعطف عليها ولا تدري انه غارقٌ عشقاً ويريد من يعطف عليه وينشله من مصيبته... !!!
تجنّبت النظر لها وانا اضع ساعتي على معصمي وأجبت:
" من الأفضل لها أن نستمر هكذا كي لا يكون انكسارها قاتلها بعد الانتهاء من مهمتي !!.."
قالت:
" على الأقل لتعيش بضع أيام سعيدة ولا تكون كل ايامها متشابهة بالحزن والألم.."
لم أجب فتنهدتْ وطلبت بلطف:
" نريد أن تؤمّ بنا انا والسيدة فاتن لنكسب صلاة الجماعة.."
نظرت لها فاتحاً عيناً ومغلقاً الأخرى أحكّ عنقي متهرّباً فاستأنفت برجاء:
" لا تحرمنا الجماعة ولا صوتك الحنون.."
تبسمتُ لها ناظراً بحنوٍ هامساً:
" ما عاش من يحرمك شيئاً خالتي الغالية.....اسبقيني سآتي في الحال.."
اومأت برضى هامسة:
" رضي الله عنك وسدد خطاك وأفرح قلبك .."
نزلت السلالم خلفها وتنحنحتُ بعد ان اقتربت من الغرفة حيث يتواجدن فسمحت لي بالدخول...ألقيتُ التحية على السيدة (فاتن) دون النظر للتي بجانبها وبعد السؤال عن الأحوال توجهتُ الى سجادة الصلاة التي جهزتها خالتي مسبقاً وكلتاهما من خلفي وهي تجلس من خلفهما بهدوء مُحرجة !!.....تمنيتُ أن يكون حرجها ممن فرض علينا الصلاة وليس منا بني البشر......أقمتُ الصلاة و شرعت بها تالياً الفاتحة ثم اخترتُ آيات من * سورة الفرقان* رتلتها باتقان لعلّها توكزها من غفلتها قبل فوات الآوان وتكون سبباً لهدايتها...
{{ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)
وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77) }}
كنتُ أستشعر كل آية أتلوها....ففي تلاوة القرآن لذة ومتعة تأخذني الى البعيد خارج هذا الكون لأنسى بها من أكون !!.......كانت هي لأول مرة تسرح في عالمٍ غير عالمها مع الآيات وصوتي الذي لامس قلبها , فسمحت لدموعها بالانهمار على راحتها لثقتها اننا لن نراها......أما اثناء سجودي لفت انتباهها ذراعي الأيسر الذي يظهر عوجه الصغير عند المرفق في هذا الوضع فقط وسببه حادثة حرّاسها في الماضي !!....كانت تتأمل بفضول ولكنها أبقت ذلك بداخلها دون استفسار حتى اشعارٍ آخر.....
بعد انتهائنا من الصلاة واذكارها , همست السيدة (فاتن) بصوت خافت متأثر:
" تقبل الله يا يامن...ربي يحفظك...لأول مرة اشعر بالخشوع حتى لم استطع مسك دموعي.."
تبسمت ممتناً قائلا:
" منا ومنكم صالح الأعمال..."
استأذنتُ صاعداً لغرفتي لجلب محفظتي ومفاتيحي ثم عدتُ اليهن هاتفاً بثقة:
" سيدة فاتن ...سأصطحب ألمى معي إلى مشوار..."
انتفضت هي بمكانها تحدّجني باستغراب عاقدة حاجبيها تحاول اختراق غياهب عقلي وهمست بارتباك :
" إلى أين؟؟.."
لم التفت لها بل ركزت عينيّ على خالتها مع ابتسامة خفيفة وكأنني انتظر الموافقة التي لا احتاجها لكن لنقُول انه من باب الذوق!!!....ردت عليّ مبتسمة بصوتٍ هادئ:
" كما تريد..."
رمَقَتها ابنة شقيقتها بنظرات عابسة فيها عتاب وحدّثت نفسها " هل انا كرة قدم يركلها احدهم على الآخر ولا رأي لي؟!..هذا الحائط لا يستشيرني بشيء بتُّ اعرفه ...انه حائط متسلّط...أما خالتي صدمتني !!...ما بها منحازة لهذا الكائن بشكل واضح ؟....لم أرها تتصرف أي تصرف جيد او سيء مع صلاح حتى لم تكن تعتبره موجود أساساً.....حسناً خالتي ستضعينني بموقف لا مناص منه !!.."
تدّخلت خالتي (مريم) هاتفة:
" لكننا سنتناول العشاء معاً....لا يصح ذلك...اترك مشوارك ليوم آخر..."
تبدّلت ملامحها العابسة الى الشماتة...عدّلت جلستها ترفع رأسها وكتفيها بعلياء وتضع ساقاً على الآخر , تشبك أصابع يديها على ركبتها وتمسك شفتيها عن الابتسامة , تقول في نفسها " هو ابن الماما ..لن يرفض لها طلب...جاء الفرج.."
أجفلت من صوتي عندما قلت حاسماً الأمر :
" ستعوضينها بمرات قادمة خالتي...أما انا لست دائم التفرغ.."
تبسمت لي بحنان قائلة:
" أقنعتني ....معك حق.."
وهنا تلاشى حلمها القصير , متبخراً في الفضاء لتتحول ملامحها الى محبطة , تحرر ساقيها وترخي يديها في حضنها مستسلمة......
×
×
×
أسيرُ ببطء شديد لأخرج من الحيّ بسيارتي السوداء ذات الدفع الرباعي المرتفعة عن الشارع...مرةً انظر للأمام ومرةً الى يميني حيث تجلس صامتة بملامح باهتة لا حياة فيها...وتهرب من نظراتي !!...همست بلطف مبتسماً لأكسر حاجز الصمت:
" اخبريني ألمى...أين ترغبين الذهاب ؟!.."
رمقتني بنظرة جانبية سريعة ثم اعادت حدقتيها الى الشارع وأجابت بصوت يائس وهي ترفع كتفها وتلوي شفتها بعدم اهتمام:
" لا فرق لديّ ...كل الأماكن متشابهة "
قبل أن اقرر الخروج هذه الليلة معها , عاهدتُ نفسي أن أكون هيّناً , ليّناً , عطوفاً ومتسامحاً مهما واجهت من عناد او صد لأعوضها عمّا فاتنا ولأن ضميري أنبني بأن لا ذنب لهذه البريئة بذنوب المغضوب عليه أبيها...!!....لذا قرر ضميري عقد هدنة بين القلب والعقل ولن يسمح للأخير بالتدخل لتدمير فسحتنا !!.....لم أعلّق على ردها واكتفيت بابتسامة خفيفة ثم دعستُ على الوقود بعد وصولي الشارع الخارجي متوجهاً الى الساحل الذي يكون ساحراً في هذا الوقت إذ يعجّ بالعائلات التي تتنزه مع الأطفال وكذلك القوارب المزينة بأضواء ملوّنة مع محلات كثيرة متنوعة ما بين المطاعم والمقاهي الخشبية وأسواق متنقلة صغيرة.......
بالمناسبة !..هذا المكان خاص بعامة الشعب ونادراً ما نجد به من الطبقة الغنية !!....اخترته لتغيير الروتين فكلانا نعيش بأجواء هادئة نوعا ما , تخلو من هذه التجمعات البشرية التي بأصواتها تعزف نغماً يدلّ على الحياة ببساطتها وكأن لا همّ لديهم ولا يفكرون بما ينتظرهم غداً......أوقفت سيارتي بالموقف الخاص ترجلنا منها وسرنا جانب بعضنا وهي تنظر بتفحص للمكان فسألتني مستغربة وهي ترى الحركة فيه :
" هل تأتي دائماً لهذا المكان ؟!.."
أجبتُ بهدوء :
" في بعض الأحيان...مع أصدقائي وعائلاتهم .."
همست بتعجب:
" يبدو غريباً...لم أرهُ من قبل !!....عادةً نذهب للجانب الآخر .."
تبسمت قائلاً:
" أتمنى أن يعجبك...نوع من التغيير عن نمط حياتنا !! "
جاملتني تومئ بابتسامة توافقني على رأيي ...بدأنا نتمشى على ممر خشبي محاط بأحواض الورود واضاءات بينها تشبه شعلة الشموع بخفوتها حتى وصلنا الى الرمال !!......كانت ترتدي بنطالاً من القماش الأبيض يصل منتصف ساقيها يلتصق بجسدها....لا حاجة لأقول أنني وددت لو مزقته واشتريت لها غيره ...لكن عهدي يلجمني !!....قميصها باللون الزهري المرجاني من الشيفون بأكمام طويلة ينتهي طوله عند بداية بنطالها ليبرز الحزام المماثل له . مع حذاء أنيق مغلق بكعب مرتفع بنفس اللون !!.....كانت تمشي بحذر بسببه وهو يغرز بالأرض وفجأة تعثرت فأمسكت بي وأمسكتُ بها وأصدرت انةً خفيفةً متألمة بعد أن التوى كاحلها فسألتها قلقاً:
" هل يؤلمك كثيراً ؟!.."
أجابت وهي تكمش تقاسيم وجهها , تتأوه :
" آلمتني قليلاً...ستتحسن!...لكنني استصعب السير بهذا الكعب على الرمال .."
اقتربنا من مقعدٍ في طريقنا وهي ما زالت تتشبث بي مجبرة وحرارة جسدي آخذه في الارتفاع ...لو قستها بميزان لتفجر من شدتها !!..كانت تمسك ذراعي الضخم بكلتا يديها الناعمتين كالطفلة الملتصقة بوالدها خوفاً من الوقوع فأشرت لها بالجلوس وسألتها :
" ما مقاس قدمك ؟!.."
نظرت لي مندهشة بعينين متسعتين فقلت بجديّة :
" لا أمزح...أجيبيني "
طأطأت رأسها بخجل وهمست:
" ستة وثلاثون ونصف أو سبعة وثلاثون.."
أهديتها ضحكة خفيفة دون كلام...يا الهي ...هل سأشتري لها من قسم الأطفال ؟!!...لو وطئت بقدمها على قدمي الضخم لتألمت هي وسأثبت بالفعل أني حائط.....
وليّتها ظهري مدبراً هاتفاً:
" لا تتحركي...انتظريني.."
كانت تنظر لي من بعيد سابحة بأفكارها , تائهة...لا تستطيع تحديد حالتي !!...تسأل نفسها " ما هذا التحول الذي طرأ عليه ؟ وما هذا الاهتمام وهذه اللطافة التي اظهرها اتجاهي بعد أسابيع كثيرة من القحط والجفاء؟! ".....
لا بد انها تظن انني مصابٌ بحالة انفصام لكني لن أؤنبها أو أعاتبها فأسلوبي سرعان ما يتغير معها !!.....
أخبروها هذا أنا...... من أجبرت لأحمل اسمين مختلفين كخصمين يصعدان على حلبة الحياة ليتصارعا وجميع ضرباتهما صوب القلب المسكين ذاته الذي يربط كليهما بنبضاته ....يقبع بين المطرقة والسدّان احداهما هو عشق ألْمَتي والأخر الانتقام فداءً لابي والوطن...كم سيصمد ويتحمل هذا النابض من ضربات ؟؟!.....ايٍّ كان الكاسب منهما سيكتب نهايته لا محالة ليرتاح الجميع .....أرجو أن لا تلوموني بانفصامي !!...
فأنا مثل الذي يقف على الأعراف !!
غبتُ لدقائق وعدتُ أحمل كيساً ...ناولتها إياه فمدت يدها تأخذه بخجل ...فتحته ووجدت حذاءً رياضياً بناتياً خفيفاً ابيضاً مع نقشات بنفس لون قميصها تماماً....تبسمت قائلة:
" لقد أتعبتك....شكراً لك......هل أنت معتاد على شراء أغراض تخص البنات ؟"
نظرت لها رافعاً احد حاجبي بتسائل :
" لِمَ؟؟."
أجابت وهي تخلع كعبها لترتدي الجديد:
" لأنك تملك ذوق رفيع يدل على خبرتك بهذا المجال.."
ابتسمتُ مجيباً بثقة:
" الذوق موهبة ربانية لا يحتاج لخبرة.."
هتفت مازحة:
" غيرتُ رأيي....يمكنك دراسة الهندسة ما دمت تحمل هذه الموهبة.."
ضحكت صافقاً كفيّ ببعضهما , قائلاً:
" ويحــك...ربطتِ دراسة كاملة بحذاء ؟؟!.."
وضعت حذاءها بالكيس وانتصبت واقفة تحمله بيدها ...مددتُ يدي لأخذه عنها فأزاحته للوراء رافضة بحياء هامسة:
" لا تتعب نفسك...سأتولّى أنا الأمر..."
أملت طرف فمي مبتسماً هاتفاً بمرح:
" هل تظنين أنني سأنزهه معنا ؟!.... سأضعه في السيارة.."
وسّعت عينيها , ترفع حاجبيها تنظر لي ثم التفتت الى البعيد من حيث أتينا وهمست سائلة مشيرة الى موقف السيارات:
" ستعود الى هناك ؟!....لستُ مجبراً على هذا !!.."
قلت لها غامزاً :
" دقيقتان ...انتظريني هنا...سأعود في الحال.."
شتمت في سرها " سحقاً لغمزاتك ".. ومدّت يدها تعطيني إياه مذعنة !!.....أدبرتُ مسرعاً بخطواتي ورجعت بعد أقل من خمس دقائق فارتسمت ابتسامة على محيّاها وهي تنظر لساعتها وتقول ساخرة:
" أربع دقائق وعشرون ثانية !...تخطيت الوقت الذي حددته لنفسك.."
ضحكت مازحاً :
" صادفتني أزمة مرور خانقة...ليس ذنبي.."
تمشينا سويّاً نستمتع بالمكان ونتبادل الأحاديث المختلفة والوضع مستتب بيننا لا إطلاق لصافرات الإنذار ولا نصب لمضادات الصواريخ ...!! ....مررنا بجانب أطفال يلهون بالرمال ويبللون أنفسهم بالبحر...تبسمت متنهدة بألم من غصة تختلج صدرها وقالت:
" أتعلم ....لم أدخل البحر للسباحة في حياتي...لا يمكنني العوم أصلاً !!.."
سألتُ بفضول:
" كيف ذلك ولديكم مسبح ؟!.."
همست بقهر:
" كان ابي يخاف عليّ فلم يسمح لي بالاقتراب منه ...الّا اذا كان موجوداً !!.."
أطلقت ضحكة مبتورة ساخرة وأضافت:
" وطبعاً لم يكن موجوداً !!.....إما مسافراً وإما بالشركة أو غارقاً بين ملفاته في البيت..."
زفرت أنفاسها المجروحة ولمعة حزن زارت عينيها وأكملت:
" كل شيء ممنوع ....لو حنطني كان أيسر له !!.."
ويلٌ لوالدك مني حبيبتي !!.....ماذا لو أضمك لحضني في هذه اللحظة ويحدث ما سيحدث ؟!!.....
.لكني جبان لن أفعلها... أنا أعْرَف بنفسي...!
وصلنا الى مطعم خاص بالأكلات السريعة...فتحتُ لها الباب مشيراً لها بالدخول...توجهنا الى شرفته المطلّة على الساحل , تكشف البحر بشكل أكبر لعدم وجود معوقات أمامها.....قلتُ لها آسفاً:
" أنا آسف لقد ضيعتُ عليكِ فرصة تناول الطعام من يد خالتي التي تنافس أشهر الطهاة وجلبتك لتأكلي الأكل السريع..."
ارتسمت ابتسامة لطيفة على شفتيها وأنزلت عينيها خجلاً وهمست:
" لا يهم...أنا معتادة على هذا الطعام بكندا .."
بعد انتهائنا من وجباتنا أكملنا التجوال على طول الساحل ثم اقتربنا لنقف الى الحافة الاسمنتية القريبة من البحر حيث مرسى القوارب المضاءة بالألوان.....تركتها لأجلب لها كأس ذرة من عربة كانت خلفنا.....عندما أدرتُ وجهي مقبلاً نحوها , تسمّرتُ مكاني لرؤية مشهداً أعادني الى الوراء سنوات عدة في المخيم وها هو يتكرر أمامي !!.....بطلته هي لكن الطرف الآخر طفلة مختلفة عن السابقة!!....شقراء تقارب الستة أعوام تمسك سلة من الزهور لتبيعها ...مدت يدها تمسك قميصها من طرفه تشده لتنتبه لها فأجفلت ودفعتها لتبتعد عنها وهي قاطبة حاجبيها بانزعاج وازدراء , تنفض ملابسها بقوة تزيل لمساتها عنها وكأنها وباء أو اغرقتها بالرمال المتسخة...!!...وقفت الطفلة مكانها تبكي دون أن تهتم بها .......يكفي الى هنا !!...اشتعلت النيران في عروقي ليصل لهيبها الى عينيّ وبدأت أسير بخطى سريعة ثابتة وفي منتصف الطريق تمتمت مستغفراً زافراً أنفاسي وما إن وصلتها كنتُ قد تحكمت بأعصابي وارخيت ملامحي لتذكري أنني عاهدت نفسي الّا أزعلها هذا اليوم.....دنوتُ من الصغيرة جالساً القرفصاء أمامها , أمسك ذراعيها الضئيلتين لأبعدهما عن عينيها ثم حملتها وبدأت بدغدغتها لأضحكها وكأنني لم أرَ شيئاً وتلك تنظر لنا على بعد خطوات قليلة منا ....جلستُ على المقعد القريب ووضعتها في حجري , أمسّد على رأسها هامساً بصوت مسموع:
" ما بها الحلوة الصغيرة تبكي ؟!.."
رفعت كتفها بعبوس دون أن ترد ...اقتربت تلك منا ثم جلست ببطء على طرف المقعد وكأنها خائفة من الالتصاق بنا......مسكتُ كأس الذرة أمدّه للطفلة قائلا:
" خذي هذا لكِ وأخبريني ما أبكاكِ؟!"
اخذته وهي تمسح دموعها ثم اشارت لها , تقول بصوتها الطفولي:
" هذه الفتاة دفعتني دون أن أفعل لها شيئاً.."
كانت صامتة تراقبنا دون تدخّل ,لا نكران تدافع عن نفسها ولا اعتراف بذنبها !!.....أجبتها بضحكة مصطنعة وراءها شعلة من الغضب وأنا اهزّ برجلي مداعباً لها وانظر للأخرى نظرات كفيلة بإحراقها..:
" لا تهتمي لها....لا بد أنها غارت منكِ لأنك أجمل منها .."
أطلّت بوجهها تنظر للجالسة على يميني ثم ضحكت ببراءة وقالت:
" أنت تكذب !!....أنظر الى عينيها كم هي جميلة .."
ربااه... كان هذا ما ينقصني ....النظر الى ملجئي وسمائي.....ما هذا الجيل المخيف؟!
هتفتُ ضاحكاً وانا امسك ضفيرتيها الجانبيتين :
" لكن أنتِ شعرك أصفر جميل.....هي شعرها أسود....لذلك تغار منك .."
صرخت بحماس فرحة :
" حقا!؟.."
قرصتها من خدها بشقاوة قائلاً:
" بالطبع....هيا اخبريني ماذا ستبيعينني ؟؟!"
اجابت تشيرُ للسلة الموجودة على الأرض:
" هذه الزهور.."
ثم اقتربت من اذني توشوشني وهي تضع يدها بحرص تغطي فمها لتمنع غريمتها من سماعها :
" إياك أن تعطي هذه الزهور لتلك المتباهية بعينيها.....هي لكَ أنتَ.."
ضحكتُ بصوت مرتفع صافعاً ساقي وقلت :
" حسناً ..أمرُكِ.."
قفزت من حضني تناولني إياها واخذت النقود تتفحصها هاتفة:
" هذا كثير!!...ألا يوجد معك فكّة ؟!"
قلت:
" كلها لكِ يا حلوة.."
اقتربت مني تقف على رؤوس اصابعها تطبع قبلة بريئة على خدّي ممتنّة ثم انصرفت وهي تلوّح لي حتى اختفت..!!
كان هذا العرض أمامها دون أي ردة فعل ظاهرة منها ...أما داخلها كما أعادني تصرفها هذا الى تلك الأيام كذلك تصرفي مع الطفلة اعادها لنفس الموقف ...كانت تنظر لي بعيون حائرة وهي تعيد الشريط أمامها تتذكر الماضي لكن بطل مشهدها هو الهادي خاصتها..!!
قطعتُ شرودها قائلاً بجدية:
" سأجلب لكِ كأس ذرة آخر.."
انتفضت رافضة تبلع ريقها:
" لا....شكراً....لا اريد.."
قلت:
" كما تشائين !!.."
ثم اردفت سائلاً:
" لمَ أبكيتِ الصغيرة ؟!.."
ردت وهي سارحة بالبحر :
" فاجأتني بلمسها لي وانا لا أحب ان يلمسني أحد وخاصة هؤلاء بملابسهم الملوثة.."
أدارت وجهها الى يسارها نحوي وأكملت:
" أنا لا أفهم كيف أجلستها في حضنك وهي ترتدي تلك الملابس !! لا وسمحت لها ايضاً بتقبيلك ...الّا تشعر بالاشمئزاز ؟! "
بلى... أشعر بالاشمئزاز من كلامك العنصري الدنيء...لمَ لتكوني هكذا ؟؟!!...
رغبت بالرد عليها بهذا لكني قلت متهكماً بحنق محركاً رأسي برفض:
" أشمئز؟!...أأشمئز من هذه البراءة والطهارة ؟!....هم أفضل منا جميعاً....لا يحملون في قلوبهم غلاً وحقداً على أحد....قلوبهم وأرواحهم أنقى مما نرتدي ....ملابسك لو اتسخت تستطيعين غسلها لكن قلب هذه الطفلة اذا كسرتيه كيف ستجبرينه ...{{ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ }}....؟!..."
تنهدت وأضفت:
" لا تعلمي !!...من الممكن أن يأتي يوماً وهذه الصغيرة يصبح لها شأن ومكانة عظيمة وربما أنتِ في حينها تكونين من تستجدي اللقمة لإطعام طفلك الجائع ويضعها الله في طريقك كرزق...لذا لا تغلقي الأبواب أمامك!!..."
ابتلعت ريقي واردفت طارداً غصة من الماضي:
" تقلب الموازين في لحظة....تنتقلين من مكان لآخر برمشة عين !!...تكونين في نعيم السماء وفجأة تجدين نفسك في قعر الأرض !!.... لا تدري ماذا يخبئ لك الزمن......ارجو ان لا تري هذا اليوم.....هداكِ الله.."
كانت تصغي لي دون ان تقاطعني وهي تبعد خصلات شعرها عن وجهها من نسمات الهواء التي تداعبه وتنظر لي وكأنها طفلة تنتظر ليرشدها أحد لتُحسن التصرف ويضعها في الطريق الصحيح....أخفضت رأسها ندماً بعد أن ضمت كفيها لبعضهما في حضنها تنظر لهما وهمست :
" أ...أنا آسفة لتصرفي هذا..."
شقت ثغري بسمة ورمشتُ لها برضى....
يا الله كيف ارتاح قلبي وسررتُ لشعورها بالندم ....لقد خشيتُ أن تكون بقلبٍ ميتٍ لا نور فيه وظلمات الغرور والأنانية هي من تخيّم داخله....يا رب أنِر بصيرتها ولا تجعلها من عبادك الضّالين ...
استقمتُ واقفاً أمامها فرفعتْ رأسها سائلة:
" متى سنعود ....ألّا يكفي الى هنا؟..."
قلت ناظراً لها:
" لمَ...أتشعرين بالملل ؟"
أجابت:
" الساعة اوشكت على العاشرة....تأخر الوقت"
هتفت مبتسماً مشجعها:
" بقي شيء أخير وبعدها نعود....هيا انهضي واتبعيني "
سرنا وانا حامل الزهور التي اشتريتها الى ان وصلنا مكتب تأجير الدراجات المائية ... وضعت ما بيدي جانباً واستأجرت واحدة وهي تتبعني بأنظارها ثم اقتربت الى الموقف المصفوفة به هذه المركبات وناديتها ولما وصلتني ركبتُ احداها وهي على حالها تراقب بصمت فمددتُ يدي لها وقلت بهدوء :
" هيا ألمى.."
هزّت رأسها رافضة والخوف يعتري وجهها فحركت أصابع يدي المرتفعة صوبها أشير لها بالتقدم وهمست :
" هيا اركبي..."
رفضتْ مجدداً فتبسمتُ آمراً بلطف رجولي:
" ثقي بي لمرةٍ..."
↚
همست بخجل من جبنها وهي تشير الى اكتافها:
" أريد سترة نجاة.."
ضحكْتُ فقالت عابسة:
" لا تضحك والّا لن أركب.."
قلت كاتماً ضحكتي:
" حسناً سنرى"
طلبتُ من الصبي المسؤول بجلب واحدة لكنه أجاب محرجاً:
" التي بحوزتي من الحجم الكبير !!.....لا تؤاخذني هي تحتاج الحجم الخاص بالأطفال ولا يتوفر لدينا لأن هذه المركبات للبالغين فقط!! "
توهّجت وجنتاها بحياء فرمقتها بنظرة حنونة هامساً بتمنّي وود :
" ألمى..."
حدّقتني بسمائها فتابعتْ:
" لا تخافي ابداً وأنا معك.."
تقدمت خطوة تمدّ يدها المرتجفة بتردد ...بدأت تدنو من يدي فتلامست أطراف أناملنا لتبعث ومضة كهربائية تشعل النور في خافقينا ورعشة تجتاح بَدَنينا...أغلقتُ أصابعي على أصابعها وبدأت أسحبها برقة وحنية...قفزت خلفي متجمّدة فأدرت وجهي ليميني أنظر بطرف عيني لها وهمست :
" تشبثي بي جيداً..."
ردت بصوتٍ خافتٍ مرتعد :
" لو كان بالنهار أفضل..."
قلت لها:
" والليل له متعته الخاصة.."
ثم طلبتُ منها مجدداً:
" أمسكي بي.."
مسكت بي تشدّ بلوزتي من الخلف حتى ضغطت ياقتها على عنقي فضحكت محركاً رأسي برفض وقلت:
" هكذا تخنقينني.."
أرجعتُ ذراعيّ الى الخلف أمسك يديها بقبضتيّ وسحبتهما بلطف للأمام لأشبكهما على خصري وهي منصاعة من غير مقاومة فالتصق جسدينا وانطلقنا بخفة نطوف على الماء بدنيا غير دنيانا تاركين الحقائق خلفنا لأول مرة...نسرق هذه اللحظات من الزمن الكفيل في ايلامنا ... يداها تعصراني وكأنها تريد الأمان مني ومعي ...أنفاسها تلفح عنقي تدفئني وشعرها يتمرد مع الهواء ويعانق وجنتيّ ويلامس أنفي وفمي ليعطيني الوقود من عبيره ...مع كل ضغطة منها , قلبها ينبض على ظهري وقلبي يجاهد بين ضلوعي...حررتْ ذراعيها ثم رفعتهما تدسهما من تحت ابطيّ تثنيهما للأعلى لتطوق كتفيّ بكفيها اللتين أصبحتا قرب وجهي...كأنها تعانقني بشكل عكسي!! ...وبنعومة لفّت رأسها تسند وجنتها اليمنى تتوسّدني , تغمض عينيها تسبح في عالمنا وأنا أداعب ظهر كفّها الأيمن تارةً بذقني وتارةً بشفتيّ لأمسح أثر حروقها ألتي آلمت روحي وأوجعتني ....لقد ضعنا !!....
تُهنا في بحر الهوى وكنّا به عاشقين ...ذُبنا في الحب سوى تناسينا العذاب والأنين ...ظمأ الفؤاد بها ارتوى هي عمري والسنين....
ساعة تحت ضوء القمر ووسط البحر لم نشعر بمرورها من روعتها وجمالها الذي تمنينا ألّا ينتهي ويرافقنا طول العمر....!!
×
×
×
" هل تعبتِ ؟؟"
سألتها بعد رؤيتي لملامحها مرهقة ونحن متجهان الى موقف السيارات فأجابت بنعاس :
" قليلاً....أنا احتاج للنوم فقط....استيقظت باكراً اليوم..."
قلت بفضول وأنا اضغط على مفتاح سيارتي لأفتحها :
" كيف كان يومك ؟؟ "
ردّت بملامح مبتهجة رغم ارهاقها :
" لأكون صادقة....هذا افضل بل أجمل يوم مرّ عليّ من شهور..!! "
تبسمتُ بنفسٍ راضية وقلت مؤكداً على كلامها :
" وأنا كذلك...لن أنساه.."
كانت الساعة توشك على الحادية عشر والنصف عند وصولنا باب بيتها ....بقينا جالسين في السيارة دون النطق بأي كلمة ونظراتنا الطويلة هي من تتحدث قبل أن تنزل !!...سماؤها لمعت ببريق لأول مرة الاحظه منذ ارتباطنا...لمعة تخفي الكثير لم استطع ترجمتها لكنها لم تبخس شيئا من سحرها وجاذبيتها!!...
لقد أهدتني ليلة من أجمل لياليّ ...كنتُ أفكر كيف سأشكرها ؟!!...هل بلمسة رقيقة أم بهمسة حنونة أم....؟؟!....الخيار الأخير هو ما اختاره قلبي الخائن...فدنوتُ منها مستسلماً له لأهديها ونفسي قبلة لذيذة دافئة على وجنتها الثلجية ...قبلة امتنان تستحقها حبيبتي فقط لا سواها !!......لكنها أوقفتني في منتصف غزوتي قبل أن أصلها وأسرقها منها وهي ترجع رأسها للخلف وتضع يدها أمامي تمنعني من الاقتراب !!
ربما لو صفعتني كان أشرف لي وأسهل على خائني الذي طعنته بنصل خنجرها الحادّ! ......أنا ترفضني ؟؟!!....هل قلبي أصابه العمى وظن انها ستبادله مشاعره الجارفة ؟؟!!...يا لغبائي وغبائه !!....ألهذه الدرجة سحرتني بقربها حتى نسيت من أنا وما موقعي هنا ؟!....يا لك من مغفل يا هادي !!......استعدتُ رباطة جأشي مستغفراً بداخلي ثابتاً بملامحي وقلت بصوتٍ متزن :
" تصبحين على خير.."
لم ترد ولم تتحرك...فأدرت وجهي لها سريعاً منتظراً نزولها أرمقها بنظرة استغراب فسألت في الحال بجرأة:
" ماذا أعني لك ؟؟.."
لم تأخذ اجابتي وقتاً لأقول ببرود مصطنع وحرائق هائلة داخلي :
" ما هذا السؤال ؟...خطيبتي بالطبع.."
ارتجفت حدقتاها وقالت بجرأة اكبر :
" هل تحبني ..؟؟"
أأقول اللعنة على حُبك ومن أَحَبّك... واللعنة حرام...؟؟!!
فاجأتني بسؤالها فأجبتها بآخر هروباً من الرد:
" ما هذه الأسئلة الآن؟؟.."
تكدست دموع في عينيها وتبسمت تخفي جرحها وتابعت :
" لن تستطيع الإجابة لأنك لا تكذب ولأني مجرد صفقة أليس كذلك ؟؟!"
ماذا؟؟؟...كادت تجف الدماء في عروقي من معرفتها بأمر الصفقة !!...ألهذه الدرجة والدها الوغد النجس عديم ضمير حتى معها ليصارحها بإهانة كهذه كبيرة في حقها ؟؟!!
حاولتُ التملص من السؤال هامساً بجفاء وصلابة وعيناي على باب بيتها امامي:
" تصبحين على خير.."
صرخت بألم:
" أجبني على سؤالي ...هل أنا مجرد صفقة ؟؟"
التفتّ لها وقلت بهدوء مزيّف:
" ماذا تستفيدين من الإجابة ؟!!"
ردت بصوت حازم , قاسي , خالي من الرقة :
" أريد سماع ذلك منك لأتصرف وفق ذلك ..."
رفعت حاجبي سائلاً بفضول :
" ماذا تعني ؟!.."
صرخت بصوتٍ منخفض آمر وهي تشدّ على فكيها :
" أجبني لتعلم.."
نفثتُ نفسي واجبتُ بعد ان ضقت ذرعاً منها أريد معرفة قصدها:
" نعم....أنتِ صفقة "
هتفت صارخة وهي تحرك سبابتها امام وجهي تهددني :
" إذاً إيّاك أن تحاول لمسي او تقترب مني...ووفر فسحاتك ولمساتك تلك لنفسك ...التي كنتُ بسذاجتي سأصدقها ....لا داعي لها ولا للتمثيل المُشْمَئِز الذي سيجعلني أتقيأ .."
ثم قفزت بخفة دون انتظار أي رد وهي تصفع الباب بقوة ومعه روحي ودون أن تلتفت للوراء وحتى لم تأخذ أغراضها وهي تجري الى المدخل ودخلت تختفي عن أنظاري لتصعد الى غرفتها وترتمي على سريرها مجهشه بالبكاء......ضربتُ بقبضتيّ على المقود ازفرُ لهباً وغضباً أشتم الحقير وذاتي " تباً له وتباً لي"...أدرته بقوة ودعستُ على الوقود مصدراً صوتاً بإطارات سيارتي لانزلاقها مكانها وانطلقتُ مغشياً على بصري ...لا اعرف كيف قدت وكيف وصلت بيتي لينتهي يومنا ككل أيامنا معاً بأجواء مشتعلة مشحونة بالآلام تحرمنا من أيتها سعادة...
~~~~~~~~~~~~~~~
تنظر لنفسها بالمرآة , لوجهها الشاحب , للعيون الذابلة ....ظهرت أكبر من سنها!!....تسأل نفسها مَن يستحق ومِن اجل مَن ؟!َ....شردت قليلاً تسترجع ليلة أمس ....تعترف انها كانت من اجمل لياليها ...قضت ساعات برفقتي وكأنها تعرفني منذ زمن !!...ما سرّ الانجذاب السريع ؟..لمَ تملّكها شعور غريب وهي معي ؟!....كم تمنت ان تكون تلك اللحظات التي عشناها هي الحقيقة....أفاقت على صوتي الذي تردد فجأة بأذنيها " نعم...أنتِ صفقة " فسقطت دمعة من عينها قتلتها بيدها وهمست " لا بكاء لا ضعف ...كوني قوية " ثم سرّحت شعرها تضمه للوراء وحملت حقيبتها خارجة من الغرفة للذهاب الى جامعتها ...
×
×
×
دخلت قاعة المحاضرات بعد ان سبقتاها صديقتاها وهي ترتدي قناع الثقة والكبرياء ...توجهت تجلس بجانبهما تصبّ تركيزها على المحاضرة , لا تريد اشغال عقلها بمن لا يستحق , بل الأولى ان تستغله لدراستها .....محاضرة خلف محاضرة مع استراحات قليلة حتى انتهى اليوم وخرجنَ ثلاثتهن الى الحديقة للثرثرة البناتية التي لا بد منها قبل العودة الى بيوتهن....فسألت (لميس) موجهة نظرها لها :
" كيف هي أمورك مع خطيبك ؟...من أيام لم تكلمينا الّا عن الدراسة.."
تأففت وردت عليها بعجرفة ونبرة جافة:
" سئمت يا لميس من كلامك عن العرسان....لا تكوني تافهة وشغلك الشاغل العريس والخطوبة !!..."
كأن قطار صدم كلتيهما وهما تستمعان لردها المفاجئ القاسي وحدّجتا ببعضهما ثم لها فقالت (لميس) التي امتلأت عيناها بالدموع متأثرة من كلامها :
" أنا تافهة ولا أفكر الّا بالخطوبة ؟!...شكرا لكِ ألمى...لم أتوقع هذا منكِ.."
وقبل ان تسمع ردها استأذنت صديقتهما ( ميار) وانصرفت تنتظر خطيبها في الخارج....
رمَقت الأخيرة بخيلاء وهتفت :
" وأنتِ...هل تريدين الانصراف مثلها وتركي ؟! "
قالت مندهشة منها معاتبة :
" ما بكِ ألمى ؟...لم تقذفين الجمر الملتهب ؟"...هل هنالك شيء؟...وما ذنب لميس بظروفك ؟!؟.."
ردت بجفاء:
" لا شيء.."
قالت بنبرة حادة:
" كاذبة !!...أنا اعرفك "
سألت ساخرة:
" الى أي مدى تعرفينني؟!.."
سلطت حدقتيها عليها بذهول من عنجهيتها دون ان تنبس بكلمة لكنها تعلم ان صديقتها تمر بضائقة ما والّا مستحيل ان تعاملها بهذه الطريقة!!.... أخرجت (ألمى) هاتفها من حقيبتها وضغطت عليه تنتظر الرد ...
" مرحبا.."
" اهلا...ما هذه المفاجأة ؟!.."
" هل يمكنك أن تقلّني من الجامعة؟! "
" وهل يمكنني رفض طلب أميرتنا ؟!"
" مذهل أنت يا صلاح.."
شهقت صديقتها تضع يدها على فمها ولما أغلقت هاتفها سألتها بقلق عليها :
" هل يعلم خطيبك بهذا؟.."
ضحكت بغرور واجابت واثقة من تصرفاتها:
" لا شأن له بحياتي...انا هكذا....أعجبه فليستمر...لم يعجبه فليذهب ويغلق الباب خلفه.."
جحظت عيناها وهمست بفضول وهي تمسكها من ذراعها تسحبها لمقعد قريب :
" اخبريني ما بكِ؟."
صمتت للحظات ثم طاوعتها تجلس جانبها ...تنهدت بقهر شاردة بالفراغ وقالت وهي تشعر بالاختناق:
" لم اخفِ عنك شيئاً...انت صديقتي المقربة....آسفة على فظاظتي ...قسماً غصب عني أكاد أنفجر !!.."
ردت بإخلاص:
" لا عليكِ....لو لم يكن لك مكانة عندي ولا أعرف معدنك الطيب لتركتك دون ان التفت خلفي.....هيا فضفضي!!.."
تفحصت ساعتها , عدلت جلستها تلقط نفسها وبدأت تقص عليها من قرارها بالانفصال الى سحر وجمال الليلة الماضية مع نهايتها القاسية الأليمة .....كانت تستمع لها وتتألم من اجلها وبما مرت به , تشعر بها وبقباحة هذا الاحساس فمدّت يدها تضعها على ظهرها تربّت برفق وهمست:
" أنا اعلم انه شعور صعب.....لكن انظري الى النصف الممتلئ من الكأس...الى الإيجابيات !!...ما يدريك لعلّ هذا سبب لتتحول هذه العلاقة الى حب حقيقي وتنسجما معاً...جعل الله لكل شيء سببا....أنت لا تري نفسك وانت تتحدثي عن المواقف الجميلة بينكما ...عيناكِ تلمعان ولو انهما تترجمان لمعانهما لأخرجتا قلوباً منهما دون ان تدري.."
ردت بقنوط:
" لا فائدة من هذا...لن اسمح لنفسي بحبه ...لمَ لاحبه وانا بنظره مجرد صفقة؟....لو أنه حاول التبرير على الأقل ربما فكرت...لكنه رد على سؤالي وبقى كالحائط دون إضافة أي كلمة "
هتفت معاتبة:
" هل اعطيته الفرصة لذلك ؟؟...قلتي ما عندك وتركتيه .."
ردت مستاءة:
" ليس حجّة...كان بإمكانه الاتصال بي...لكنه لم يهتم ..."
" كيف سيتصل وانتِ القيتِ عليه كلاماً لاذعاً ؟؟....لا بد انه شعر بالإهانة!!.."
تابعت بابتسامة عطوفة مُطَمئِنة:
"كان سيقبلك ...لم ليفعلها ما دام لا يشعر بشيء اتجاهك ؟"
هتفت هازئة:
" لأنه رجل...وهذه الأشياء هي متعة عابرة بالنسبة لهم...لا دخل للمشاعر بها "
قالت بثقة تثبت نظريتها:
" لو كان كما تقولين لصفعك على اهانتك له او وبخك وصرخ بك .....لا يمنعه شيء عن هذا وهو ضامن صفقته !!....لا تتسرعي صديقتي واعطي لقلبك الفرصة ...كوني حكيمة والأيام ستوضح لكِ كل شيء..."
كانت وكأنها فتحت عينيها لشيء غفلت عنه فسرحت للحظات تسمح لوميض الأمل أن يمر من قلبها وفجأة انتفضت تقطع طريقه في منتصفها لتضع قفلاً على مشاعرها وقالت بجدية وهي تقف من مكانها بعد الرنين الذي صدر من هاتفها:
" ليفعل ما يشاء ...لم يعد يهمني .."
ثم ودّعت صديقتها مدبرة للذي ينتظرها في الخارج ...
×
×
×
ركبت جانبه دون سلام وكأنهما تناولا الفطور معاً صباحاً...طردت أنفاسها الثقيلة وهي تسند ظهرها للخلف بأريحية وأشارت له هامسة كأنه سائقها :
" استمر الى الامام لنذهب ونتناول شيئاً نأكله....إني أتضور جوعاً.."
بسمة حب ارتسمت على محيّاه وقال:
" كما تأمرين أميرتنا....ماذا تشتهين ؟!"
أجابت وهي تحتضن حقيبتها وتنظر للأمام:
" أحنّ الى الأكل الإيطالي الذي كنا نتناوله في كندا....خذني الى مكان مختص بهذه الوجبات فقط...لا افضل المطعم الذي يَلُمّ كافة الأطعمة الشرقية والغربية لأنه يبخس الإيطالي حقه ولا يكون بنفس الجودة..."
انطلق بحماس يشعر بدغدغة في قلبه ...ها هما يعيدان الأيام الخوالي معاً...سألها بمكر:
" هل خطيبك الهمجي يعلم بذلك ؟."
قالت بعدم اهتمام:
" لا داعي ان يعلم..."
برقت عيناه بخبث متشفياً بعد ان لمح بإجابتها وجود مشاحنات بيننا وهمس محرّضاً:
" أكيد لا داعي...أنتِ ابنة عاصي رضا ...لمَ ليقيّدك ذلك الهمجي بأسلوبه المتخلف !!"
اجابت في سرها " لأنه اشتراني " ثم قالت ببرود وهي تنظر له نظرات فارغة:
" لا اعتقد أنك تنوي قضاء مشوارنا ونحن نتكلم عن الحائط !!.."
قهقه ضارباً المقود بكفه هاتفاً بسخرية:
" ماذا؟...الحائط؟....هل تدلعينه بالحائط؟.."
اكمل بقهقهاته فانتفضت لاستيعابها بما تفوهت امامه وهمست :
" انسَ....زلة لسان"
حاول كتم ضحكاته وهو يحرك رأسه يمنة ويسرة نافياً متمتماً بصوت خفيض:
" حائط ؟!."
غلبه الفضول فسألها محاولاً التحكم بملامح جدية :
" لا تكذبي....لم تنعتينه بالحائط؟."
تأففت تشيح وجهها للنافذة بجانبها لالتصاقه بالكلمة وقررت ان تتخلص منه فقالت:
" حسناً سأخبرك لتكفّ عن سيرته..."
قال متحمساً:
" حاضر.."
قالت دون الالتفات نحوه :
" جسده الضخم البشع وأسلوبه المتسلّط الآمر ....عقله اليابس الذي أضاع قفله بأحد المحيطات....عناده الغبي ...تصرفاته المتهورة الفظة وفقدانه للمشاعر والذوق ...بروده القاتل ...لا حسنة فيه... لهذا اختصرت ذلك بحائط.."
ضحك ساخراً قائلاً:
" يا للهول...كل هذا؟!!.....أتمنى ان يكون قريباً اليوم الذي تتخلصين به منه .....كيف تتحملينه ؟!.."
استمعت له دون تعليق وهي تكمل في داخلها تتذكر الأمس " كاذبة...وسيم ينضح رجولة...عطره ادمان.... بغمزته قتلني ...بلمسته اشعلني...قربه أدفأني ...ذكاؤه أبهرني...حنانه أسرني....لو لم أعلم أنني صفقة لكنتُ مثل البلهاء أرتمي بأحضانه دون أن أفكر!!.."
وصلا الى المطعم الإيطالي ..جلسا وهما ينتظران ما طلبا من أصناف ...كانت هي تنظر الى هاتفها من حين لآخر تتفقده لربما اعطف عليها برسالة !! ....مع أنها تألمت الّا انها لا تعلم لمَ قلبها ينجذب الى مكان اخر بعيداً عن الحقد......أما انا بعد تحملي لإهانتها ليلة البارحة احتراماً للعهد الذي قطعته لنفسي, عدت لشخصيتي الأولى وهي الجفاء والكبرياء ولم اتنازل لأكلمها أو اسأل عنها ......انتهى تسامحي وعطفي بانتهاء عهدي مع اشراقة هذا الصباح...!!
" بمَ تشردين ؟؟.."
همس لها وهو يحدّق بها ....فأجابته متهربة بعد ان أفاقت من شرودها على صوته:
" لا شيء....الدراسة والامتحانات..."
قال مبتسماً:
" نعم هذه الفترة صعبة قليلاً.....اذا احتجتِ أي مساعدة لا تترددي !!.."
قالت ممتنّة:
" سلمت....بالطبع سأخبرك.."
تبدلت ملامحه للجد وهمس بهدوء:
" ألمى...أشعر أنك تغيرتِ!!.....كنت اكثر مرحاً والآن تبدين مهمومة .."
انكرت هامسة:
" لا ...فقط مثلما اخبرتك...ضغط الدراسة.."
أمضيا ساعة معاً بعد تناول وجباتهما ثم طلبت وتقاسيمها بائسة:
" اسفه صلاح أشعر انني مرهقة....هل يمكنك ايصالي للبيت ؟؟!.."
اومأ موافقاً ثم خرجا واستقلّا سيارته قاصدين بيتها ولما وصلا أطفأ المحرك قائلاً:
" سأدخل لأسلم على عمي عاصي وأرى كرم.....لقد بعث لي رسالة انه جاء من العاصمة.."
رمشت له بموافقة والحزن في عينيها ثم دخلا سوياً الى القصر وبعد ان استأذنت منه , صعدت السلالم متجهة الى غرفتها فأوقفتها التي رأتهما من النافذة حين دلفا معاً وسألتها بحزم:
" ما هذا ألمى؟...كيف تأتين مع صلاح ؟.."
حدّجتها باستنكار واجابت بكبرياء:
" عفوا خالتي....ما المانع من ذلك؟.."
قالت بصوت جدّي تصك أسنانها وتحاول اخفاضه:
" يامن المانع....كيف تسمحين لنفسك؟؟ هل يعلم ؟؟.."
برقت عيناها بقهرٍ متألمة واجابت بغيظ:
" لا شأن له بي.."
ثم ادارت لتدخل غرفتها فأمسكتها من ذراعها تحدثها بنبرة اكثر صرامة:
" له كل الشأن...هو خطيبك...بل يعتبر زوجك.."
تأففت تحاول الإفلات منها صارخة:
" قولي تعتبرين صفقته....ثم أنني اشترطت عليه هذا في البداية وقال لا يهمه الأمر...فليأتي ويكذبني ان أراد...حتى رسائلنا ما زلت محتفظاً بها وهذا اكبر دليل.."
قالت بازدراء حانقة من تصرفاتها:
" فلتفعلي ما يحلو لكِ....لكن اعلمي انك الخاسرة.."
ردت بضحكة ساخرة مبتورة :
" لا اعلم لمَ كل هذا الاهتمام به ؟...هل ألقى عليكِ بسحره..!؟.."
أجابت بخيبة :
" أنتِ عمياء....أتنكرين انهم عائلة محترمة , راقية , متواضعة , ناجحة ومحبوبة!!....كم تمنيتِ ان يكون لك هكذا عائلة !!.....لو عشتِ بينهم ستعيشين ملكة معززة مكرّمة.....وبالطبع رجل كيامن لا غبار عليه ومئات يتمنينه بكل مقوماته ....لكنك تصرّين على التشتت بحياتك البائسة هنا.."
قالت بعناد وتكابر:
" افضّل الحياة البائسة على ان أكون صفقة قبيحة تشعرني بالإهانة.."
ضحكت بقهر متهكمة:
" تقبلتِ صلاح دون تردد وهل ظننتِ ان ارتباطكما كان بسبب الصداقة فقط ؟؟...الجميع يهتم بمصالحه....والدليل يا حمقاء لم يتشبثوا بكِ كعروس لابنهم وكذلك والدك لم يهتز له جفن وقت الانفصال ...فبانتهاء المصالح بينهما انتهى النسب المزعوم والحياة الوردية وكلٌ بدأ البحث عن منفعته..!!..."
تنهدت بعمق تريح توغّر صدرها واستأنفت :
" ماذا سأقول غير هداكِ الله صغيرتي وشرح صدرك ؟..."
ثم استدارت نحو غرفتها تاركة من وراءها ضائعة بكلامها الذي يبدو أن عقلها وقلبها أخذ بتحليله بتقبّل دون أي رفض منهما...!!
~~~~~~~~~~~~~~
اتفق السيد(ماجد) مع السيدة(ايمان) لترافقه الى حدود البلاد لكتابة مقال عن الوضع هناك حيث أُنشِئت قرية صغيرة خاصة لمهاجرين قدامى من دولتنا الأم بهجرة غير قانونية....كان وضعهم أصعب من الوضع الذي عشناه في لجوئنا لأنهم لم ينالوا ابسط الحقوق من كلتا الدولتين...تجولا يستمعان لمعاناة هؤلاء وما يلقون من تشديدات وكأنهم بين شقيّ رحى , لا يتقدمون في هذه الدولة ولا يعودون الى دولتهم الأم....اعتمدوا على تربية المواشي والدواجن والزراعة ...يبيعون منتوجاتهم بمساعدة جمعيات من اهل الخير من الداخل والخارج , وبينما هما يتنقلان من مكان لآخر , صدر صوت اطلاق نار قريب....اغلقت السيدة( ايمان) اذنيها واحنت كتفيها تغمض عينيها , صارخة:
" آه يا الهي ما هذا؟"
" هيا لا تخافي ..اتبعيني.."
أمرها السيد (ماجد)وهو مستمر في مشيته ضاحكاً على ردة فعلها....
" لمَ تضحك؟ الا تسمع صوت الرصاص؟ الا تخاف من ان يصيبنا؟"
سألته باستنكار بعد ان استقامت بوقفتها....
أسرع في مشيته , ينظر للأرض مبتسماً وقال:
" سأطلعك على سر ...لكن لا اريد التصوير!!"
قفزت هاتفة بفضول:
" ما هو ؟ قل لي.."
أجاب:
" سندخل الان بين الأشجار لتري بنفسك"
بعد ان اجتازا الأشجار , وقفت منبهرة بالمساحة الشاسعة أمامها , المليئة برجال بأجساد رياضية يرتدون لباساً أسوداً ورؤوسهم مغطاة بأوشحة بذات اللون وتظهر فقط عيونهم ... يصطفون بشكل منسق وهم يحملون أسلحتهم ويصوبونها على أهداف أمامهم....
" رباه... ما هذا المنظر الرهيب؟ من هؤلاء وما هذا المكان؟!"
التفت لها وقال:
" هنا معسكر الثوار اللاجئين وهنا يتم تدريبهم على أيدي أمهر وأكبر القادة , الخبراء في فن القتال بأنواعه والدفاع عن النفس"
نظرت له ترمش بحياء وهمست:
" هذا أجمل مشهد رأيته في حياتي...اشكرك...خسارة !! ...لو انني استطيع التصوير"
قال مبتسما:
".. سيحطمون هاتفك ان فعلتها "
ثم أضاف بلطف:
" هل ترغبين بعيش مغامرة جميلة؟"
اجابت بحماس:
"بالطبع.. "
" لكننا سنسير على الاقدام لما لا يقل عن عشرين دقيقة!! "
" لا يهم ...انا ارتدي حذاءً رياضياً ومستعدة لأي مغامرة"
قطعا مسافة لا بأس بها بين الأعشاب المصفرة ووصلا الى سياج مرتفع , محاط بأشواك حديدية وعليه إشارة كهرباء وخطر الموت.....نظرت حولها الى الأرض الخالية وقالت ساخرة:
" هل انتهت مغامرتنا الى هنا سيد أبا لؤي ؟"
توسع فمه ضاحكاً ثم أخرج قطعة قماش سوداء ..نفضها واقترب منها ..فسألت بذهول:
" لم هذه..؟؟"
قال:
"! سأغمّ عينيك لبدء المغامرة ..لا تخافي"
توجه بها بعد ان اغلق عينيها الى شجرة قريبة, تحتها اكوام قش يبسة...أزاحهم ورفع باباً حديدياً بلون الأرض....نزل سلماً وهو يسحبها بحذر ويوجهها لتنزل حتى وصلا قاع الأرض وبدءا يسيران الى الامام , يمسك مصباحاً صغيراً يضيء عتمة النفق ....شعرت بنفاذ أنفاسها وجبينها وجسدها يتصببان عرقاً وقالت بضيق:
" سيد أبا لؤي....اشعر بالاختناق ....لا استطيع...اين نحن؟...احتاج للهواء..."
قال مواسياً:
" تحملي قليلاً ...لا تخافي...لن يحصل لكِ شيء..."
اخرج من حقيبة صغيرة كانت بحوزته قنينة بلاستيكية فيها ماء ورش رذاذ منها على وجهها لتبرد وترتاح...وصلا الى باب اخر بعد سير اكثر من خمس عشر دقيقة...ثم صعدا السلم بالطريقة ذاتها اثناء دخولهما وخرجا من تحت الأرض لشجرة مماثلة للأولى بعد ان فتح لهما رجل كان بانتظارهما وبعد ابتعادهما بقليل , أزال السيد (ماجد) قطعة القماش عن عينيها ففتحتهما تفركهما لشعورها بالظلام للحظات ثم نظرت حولها قائلة بتعجب :
" اين نحن وكيف وصلنا الى هنا ؟!.."
ضحك وأجاب:
" نحن الان في ارض الوطن...سآخذك الى مكان يمكنك كتابة تقرير كامل عنه"
ابتلعت ريقها وعيناها متسعة والدموع مترقرقه فيها وهمست دون تصديق متلعثمة :
" حـ...حقاً....حقاً أنا الان اقف على تراب وطني ؟!...لا..اصدق...هل انا بحلم ؟!.."
اومأ برأسه مؤكداً وعيناه لمعت تأثرا من اجلها فانحنت تجثو لتجرف بكف يدها حفنة تراب ...قربتها لأنفها تشتمها بقوة ويداها ترتجفان وكأنها تريد ادخالها لجوفها وقالت بصوت متحشرج ودمعة سقطت من عينها :
" اللـــــه على هذه الرائحة.....حبيبي وطني الغالي "
فتحت جيب جانبي بسحّاب لحقيبتها ودّست التراب بها ثم انتصبت واقفة ومسحت الدمعة التي علقت على خدها بكفها وقالت مبتسمة بحنين:
" هيا...أنا مستعدّة.."
اتجها نحو مركبة بانتظارهما وكأنها خارجة من تحت الأنقاض وبعد ان استقلّاها اوصلتهما الى مكان مفتوح يبعد حوالي عشر دقائق عن الحدود وهو تابع للوطن وليس ضمن الأرض المختلف عليها.......بعد ان ترجلا منها قال السيد ( ماجد):
" يمكنك هنا تصوير ما شئتِ.."
تبسمت واخرجت الهاتف لتكون مستعدة لالتقاط احداث فورية لا تريد تفويتها...تقدما مشياً على الاقدام وكان امامها مجموعة كبيره من الصهاريج الضخمة لونها بني من الصدأ الذي يكسوها ومتفرقة عن بعضها فسألت:
" ما هذا..؟؟"
أجاب يفسّر لها:
" هذه حارقات تستخدم لتسخين النفط ليتحول الى مواد مشتعلة كالوقود بأنواعه...وبعد الانتهاء يخرجون المادة في انابيب حديدية تمر في حفرة مليئة بالمياه لتبريدها..."
استمرا في السير وتابع بكلامه:
" بالطبع لم اجلبك لتكتبي مقالاً عن تكرير النفط وكيفية تحويله الى وقود .."
ضحكت وقالت بمكر:
" انت تفهمني ....بالضبط هذا ليس من اختصاصي ومجال اهتمامي.."
اقترب من احد الصهاريج فخرج من خلفه طفلٌ لم يتعدّى الاحد عشر سنة يتشح بالسواد وكأن احداً سكب عليه طلاء فحميّ من رأسه الى اخمص قدميه فذهلت السيدة(ايمان) من مظهره وسالت مصدومة وهي تحرك حدقتيها بينه وبين مرافقها :
" من هذا؟؟..وماذا يفعل طفل في سنه بمنطقة ملوثة كهذه ؟!.."
أشار له مجيباً:
" ها هو أمامك اسأليه.."
زلفت من الطفل وجثت امامه تضع يدها على كتفه وبالأخرى تمسك يده هامسة بنبرة عطوفة:
" ما اسمك وماذا تفعل هنا .."
أجاب بثقة رجل ولم يظهر منه الا بياض اسنانه وعينيه :
" اسمي اسلام...آتي هنا لأجمع بقايا الفحم.."
سألت بفضول:
" وماذا تفعل بها؟"
قال:
" اذا جمعت الكثير ابيع قسماً لأشتري الطعام لأمي واخوتي وادخر الباقي للشتاء لنتدفأ عليه واذا كان قليلاً نكتفي به لسد جوعنا.."
همست بحنوٍ:
" هل تعلم انه مضر بالصحة صغيري؟...وانه اكثر تأثيراً على الأطفال خاصة ؟!.."
رد ببراءة:
" أعلم...فأخي امجد ظهر على وجنتيه بقع بنية اللون وقال الطبيب انها ستلازمه مدى الحياة.."
اغرورقت عيناها بالدموع لم تتحمل هذا الموقف وسألت بصوت مهزوز:
" لمَ استمريت اذاً ؟"
طأطأ رأسه للأسفل وأجاب:
" لا يهم أنا...المهم ان لا أرى امي تبكي وهي لا تستطيع اطعام اخوتي او تدفئتهم بالشتاء وهم يرتجفون امامها.."
ضمته اليه بقوة من غير تفكير وغير آبهة لملابسة المسودة بسواد الظالمين الجشعين الخائنين الذين اوصلوا الوطن وابنائه لهذا الحال ...لم تستطع مسك شلال دموعها وكان كل ما فكرت به فقط ان تمده بالأمان والحنان وبعد لحظات افلتته ووقفت تمسد على رأسه واردفت وهي تشير جانبه :
" ومن يحمل هذا الكيس الكبير المليء بالفحم ؟؟"
أجاب معتزاً:
" انا احمله على اكتافي واسحبه أحيانا وأيضا أصدقائي يساعدونني عندما يكونون متفرغين.."
قالت:
" هل أنت من سكان هذه المنطقة ؟"
" كلا....نحن نزحنا الى هنا بسبب الحرب...كان لنا بيتٌ يأوينا ومدفأة تكفينا....لكن القصف هدمه وخرجنا منه سالمين الّا ابي استشهد تحت الردم فجئنا الى هنا مع بقية العائلة "
سألت وسيوف القهر تقطع احشائها :
" من المتسبب بالحرب برأيك؟"
قال:
" كل انسان اناني يفكر بمصلحته الخاصة فقط ...خائن لدينه ووطنه "
قالت مندهشة من رده:
" انت صغير في السن ..كيف عرفت ذلك ؟"
رد بكلمات تفوق عمره:
" القهر يجعل الحجر ينطق ليبحث عن ذنبه الذي لم يقترفه والذي جعله مشرداً من غير هدف ولا عنوان....كيف ونحن البشر نرى ونعيش هذه الحقيقة ؟."
×
×
×
انتهى اللقاء بالتقاط بعض الصور لهذا الطفل والمكان من هاتف السيدة(ايمان) لتكتب تقريراً وتوصل للعالم عن المعاناة التي يعيشها أطفال وطنها دون رحمة ...لتريهم نتائج الحرب كيف تقتل الطفولة والبراءة وتجعلهم يتحملون مسؤولية اكبر من أجسادهم واعمارهم , لعلّها تجد من يتحرك للوقوف بوجه الظلم ويمسك بأيدي أطفال الوطن الحبيب من اجل غد ووطن آمن وأجمل....
وهما في طريق العودة لمدينتنا خارج الوطن , زفرت انفاساً كانت تجثم على صدرها واسندت رأسها للخلف مثقلة مما رأت وهتفت :
" ليتني بقيتُ اسمع صوت الرصاص الذي صمّ اذني ولم أر قهر الطفل الذي أصاب قلبي..."
~~~~~~~~~~~~~~~
" ماذا يفعل هاذان الضفدعان ؟؟!!.."
سأل (سامي) نفسه بعدما دخل الى ساحة بيتنا الجبليّ في المساء ووقع نظره على شقيقيّ اللذين يبحثان عن شيء في احدى زوايا الحديقة و(دنيا) تشمّر كميْها وبدون حجاب تربط شعرها للأعلى بعشوائية وبيدها معوَل التراب ..تنحنحي اتجاه الحوض المليء بالورود و(شادي) يمسك هاتفها يسلّط الكاشف على الموقع.....
" هيـه أنتما...ماذا تفعلان؟؟.."
تابعت دنيا بلا مبالاة وهي تلوي فمها تحركه باشمئزاز بعد سماعها صوته وتشتمه في سرها " ها قد جاء الغليظ .."..... أما (شادي ) رد على الفور وهو يضع اصبعه على فمه:
" ششش....سمعنا خشخشة بين الأزهار...ربما أفعى !!.."
اتسعت عيناه بذهول هاتفاً :
" ماذا؟...أفعى؟!!..."
ثم اقترب منها يضع يده على المعوَل آمراً:
" اعطني إياه وابتعدي..."
استقامت بظهرها رمقته بنظرة عناد ثم عادت تنحني تسحبه لتحرره من يده , تتابع بحثها....فاستطرد بهدوء حازم:
" قلت اعطني إياه وابتعدي..."
عدلت وقفتها والقت المعول ارضاً بنفور ونفضت يديها ببعضهما تزيل ما علق بهما من تراب ثم تنّحت جانباً فمسكه وبدأ يجري بحثه عن العدو الذي اجتاح حديقة بيت عروسه ليريها بطولاته.....لمح جلد هذا الكائن بين الورود ورفع المعول ليضربه الضربة القاضية فتحرك ذاك هارباً قافزاً فشهق (سامي) قبل أن ينزل يديه ليقتل غريمه صارخاً بصدمة :
" يا الله ...كدتما تقتلان شقيقكما ..."
جحظت اعينهما مندهشين وسألا بصوتٍ واحد :
" شقيقنا ؟؟.."
أنزل يده يتكئ بها على عصا المعول وهز رأسه رافضا حركاتهما وقال ببرود :
" نعم....انه ضفدع...كدنا نقتل المسكين بسبب تهوركما ..."
زفر شقيقي أنفاسه بارتياح بعد ان اطمأن انها ليست أفعى ثم تذكر ما قال وسأله:
" ماذا تقصد شقيقنا؟؟. هادي شقيقنا تسميه ضفدع ؟!!.."
قال بثقة وابتسامة ماكرة:
" لا ....أنتما الضفدعان...ذاك أدعوه بشيءٍ آخر..."
صكت فكيها لاستهزائه بهما وتجرأت ترد على كلامه بغيظ وهي تشهر سبابتها امام وجهها وعيناها تلمعان :
" لا تقل ضفدعان...ان لم تعجبك اشكالنا تستطيع غض بصرك عنا .."
أمال زاوية فمه بابتسامته الثعلبية...رمى ما بيده وصفقهما ببعض ينظفهما من بقايا التراب العالقة بعصا المعول وبدأ يدنو نحوها ببطء قائلاً دون ان يكترث لوجود (شادي):
" هل أستطيع ان ابعد عيني عن عينيّ الشهد خاصتي ؟!..."
كانت واقفة مكانها ودقاتها تتسارع كلما اقترب اكثر منها ولما وصلها شد اوتاره الصوتية مردفاً بصوت جدي خفيض :
" أنا لم احاسبك بعد على خروجك من غير حجاب ....كيف تخرجين هكذا....ها أجيبيني ؟!!..."
اسدلت اهدابها محرجة ثم شجعت نفسها لتجيب بفظاظة ونبرة مرتفعة :
" أنا في بيتي ولي الحرية ....الجدران مرتفعة ...ثم شعري أم شعرك لتتدخل؟!...لو سمحت هذا ليس من شأنك !!.."
هز راسه ضاحكاً بتهكم قائلاً:
" اوه آنسة دنيا تردين جواباً في وجهي !!...رائع .....وتنزعجين عندما ادعوكِ بأم لسان طويل ؟!!...هيا تابعي ..."
صمتت تراجع حساباتها وعيناها في الأرض ....هل ثقلت العيار ام لا ؟...هل عليها ان تتابع بالفعل أم يكفي الى هنا قبل ان يهدر بها كما يفعل مع عناصره ويوقف قلبها بصوته ؟!.....تنحنح وقال بصوت صارم ابتدعه ليفرض سيطرته بتصنع ونصف متر يفصل بينهما :
" انظري اليّ ..."
كانت تلعب بأصابع يديها بتوتر وتنكس رأسها ورائحة عطره تخترقها فرفعت عينيها بحياء من قربه وتوهجت وجنتاها فتابع :
" هذه آخر مره تخرجين من غير حجاب ...لا داعي ان اكرر هذا....انت في الخارج ومن الممكن أن يأتي أي شخص الى هنا لحاجة ...مفهوم ؟!.."
رفع صوته عند اخر كلمه فاتسعت عيناها برهبة ...عادت خطوة للوراء وشحب وجهها ثم صرخت بصوت باكي وهي هاربه تصفع باب المدخل خلفها قبل ان يدخل لها :
" لااااا......امــــي "
ارضى غروره المزيف بعد ان فرض هيمنته ثم التفت لـ ( شادي ) قائلا ليعطيه دروس :
" عزيزي شادي....عليك أحيانا ان تكون قاسياً مع الجنس اللطيف ...هؤلاء الكائنات تعطيهن اصبعك فيلتهمن يدك....ضع ذلك في عقلك للمستقبل ..."
تنهد ثم أردف يغمزه مبتسماً بكبرياء وهو يعدّل ياقته:
" ارأيت كيف ارتعبت مني وعملت حسابي ؟!!..."
كان شقيقي يصغي له وبعد ان انتهى من محاضرته علا صوته بقهقه لدرجة مسك بطنه وجلس على حجر كبير يحيط بشجرة الزيتون قائلا :
" أتظن...أنها هربت منك ؟!!.."
حدّجه بتساؤل رافعا حاجبه وهتف :
" بالطبع.....لا اظن...أنا متأكد.... ألم ترَ كيف هربت بعد ان زجرتها!!.."
أكمل بضحكاته وهو ما زال ممسكا بطنه بيد والاخرى يشير عليه ...فانزعج مردفاً :
"هيـه... ما بك تضحك أيها الضفدع.....لا تثير جنوني ؟؟!! "
قال وهو يلقط أنفاسه بعد موجة الضحك :
" لقد تجهم وجهها وهربت بعد أن رأت الصرصور ذا الشوارب على كتفك "
صرخ مصعوقاً :
" ماذا ؟؟.."
ثم لف وجهه لكتفه الأيمن فلمحه ومسكه من شاربيه وجلس جانب (شادي) وهو يرفع الصرصور امام وجهه يحدثه :
" سبحان من يضع سره في أضعف خلقه ..."
تنهد محبطاً وأكمل :
" تبحث عن أفعى دون ان تهتز لها شعرة ويقف رجل مثل الجدار أمامها وتعانده بوقاحة ولما رأتك كاد يتوقف قلبها ...قل لي يا رجل ...من اين تمتلك هذه الهيبة ؟!!...."
↚
رد عليه (شادي) ضاحكاً :
" تخاف من شكل شاربيه .."
نظر له على يساره وسأل :
" وهل ذقني وشاربي لا تراهما ؟؟!!....ام عليّ استعارة شاربيّ هذا الكائن!!؟؟"
تمتم شاتماً والقاه على الأرض ثم سحقه بقدمه فقال الذي بجانبه :
" حرام ...لم قتلته؟.."
أجاب غير مكترث :
" وهل اتركه يفرض هيمنته وهيبته على عروسي بحجمه الضئيل وانا مثل الباب لا يرتجف جفنها مني ؟!!.."
نهضا من مكانهما ونفضا بنطاليهما من الخلف ثم دلفا الى البيت....
×
×
×
" غير معقول يا سامي...أنت ترخي لها الحبل كثيراً وتجعلها تزيد في دلالها وعنادها .."
" آآه يا عيوش اخبريني ماذا افعل ؟...لا استطيع احزانها!!.."
ردت مستاءة من ابنتها التي استمرت بعدم اهتمامها بوجود عريسها وتتصرف على مزاجها :
" وان يكن...عليكَ ان تكون حازماً والا سأضطر لأخبر هادي ليردعها عن تصرفاتها الطفولية..."
ضحك وقال :
" لقد هددني ان نزلت دمعة من عينها بسببي سيفقأ عينيّ .."
قالت بضيق مني ومن ابنتها :
"نسيت ذلك ...كنت سأشكوها لمن اتلفها بدلاله .......فلتبكي علّها تعقل......لن تموت من البكاء ...لا تهتم لهما.........أنا اخجل منك عزيزي سامي حقاً ......فقط مرتين استقبلتك وجلست معك من يوم ارتباطكما!!.."
تنهدت...صمتت....ثم ابتسمت بعد ان لاحت في بالها فكرة وهتفت :
" أتعلم ..؟! لدي الحل .."
احنى جذعه ليساره بالقرب منها على الاريكة الطويلة في غرفة العائلة , يتكئ بمرفقه الايسر ومصغياً بتأهب وسأل بفضول :
" ما هو ؟!.."
اجابت بابتسامة ماكرة :
" تجاهلها ولا تعيرها أي اهتمام...ألقِ السلام عليها من راس انفك وبجفاء ولا تقلّها من الجامعة وعندما تأتي لا تسأل عنها ....أنا اعلم هكذا البنات ان لحقت بهن هربن وان هربتَ هن يلحقن بك ...اسألني ...سترى كيف ستشتعل عندما لا تشعرها بوجودها.. "
جحظت عيناه وفغر فاه وبعد ان ارخى ملامحه سأل ببرود :
" هل هذه كانت احدى التكتيكات الحربية التي طبّقها عمي محيي الدين عليكِ ليوقعك أسيرة بين يديه ؟!!.."
احمرّت وجنتاها خجلاً ثم ضربته بقبضتها على كتفه وقالت :
" اصمت يا فتى ولا تتواقح ...هذا جزائي لأني اساعدك !!.."
قرصها من وجنتها وقال مداعباً :
" اسعد الله أجمل حماة ....فليحفظك ربي لي يا أمي الثانية ..."
واخرج هاتفه يطلب بيتزا من خدمة التوصيل ليتعشوا معاً.....
~~~~~~~~~~~~~~~~~
يطوى يومٌ خلف الآخر والبعد يفصلنا...استمرينا على هذا الحال ومع علمي بلقاءاتها بالبغيض ( صلاح) الّا انني سمحتُ لنفسي بالتجاهل رغم دناءة الشعور بالدياثة....
في أحد الأيام بعد مرور حوالي شهر على تلك الليلة الأخيرة بيننا , هاتفني أحد أصدقائي المقربين الذي ولدت علاقتي به مع اثنين آخرين اثناء التحاقي بنوادي اللياقة البدنية عندما كنت في الجامعة !!...هؤلاء من بلاد مجاورة وليس من أبناء وطني وسياستنا... لذا لم اشركهم بمخططنا لأني لم ار من داعي لكشف اسرارنا الخاصة وهم يعرفونني فقط باسم (يامن) ويعلمون بخطبتي من ابنة وزير بلادنا السابق ويرونها على أنها شيء يفتخر ويتباهى به وانني محظوظ بهذا النسب المشرّف لقلة ادراكهم للحقائق.....كنا قد نوينا سابقاً الخروج الى الطبيعة لقضاء عطلة الأسبوع وهذه نفعلها من وقت لآخر...لم يشأ الله أن نوفق بخطتنا المرة الاخيرة بسبب مرض والد احدهم...لكني اكثر من يعرفهم لا يتنازلون عنها ولو بعد حين فكلمني قائلاً بصوته المرح:
" لا اراك تذكر اتفاقنا الذي لم ننفذه بعد.."
قلت ببرود:
" انا جاهز هذا الأسبوع...تفقّد رامز ويزن .."
ضحك وقال:
" هما مستعدان دائماً ما دام بالأمر حفلة شواء.."
اجبت مبتسماً وانا أتذكر فجعنتهم :
" جيد...اذاً لنذهب هذه الجمعة.."
تنحنح هاتفاً بتردد :
" أعلم أنه لن يعجبك...لكنه أمرٌ واقعٌ علينا.."
سألت بتعجب:
" ما الأمر؟! لقد اقلقتني.."
تابع بتردده وصوت ضاحك:
" نساؤنا التصقن بنا بحجة اننا نهتم لفسحتنا ونتركهن للشقاء في البيت.."
قلت:
" والمطلوب؟!.."
قال بمرح:
" قررنا اصطحابهن هذه المرة لنغلق افواههن من التذمر.....لذلك اجلب خطيبتك معك."
اجبت على الفور:
" لا....وقتاً ممتعاً لكم..."
رد بصوت مفشول:
" لا تحرق علينا حماسنا ..حتى انهن متشوقات للتعرف عليها....يكفي انك لم تدعنا الى الخطوبة.."
قلت متهرباً:
" عندما اتزوج سنفعل ان شاء الله....الان انا في فترة خطبة لذا لا استطيع.."
هتف مغتاظاً:
" هل تخدع نفسك؟....انت عاقد القران وهي محللة لك.....كل ما في الامر قضاء يوم وليلة في الطبيعة معاً"
صمت برهةً واستأنف ماكراً:
" ام انك لا تثق بنا وتخاف عليها من نسمة الهواء ؟!.."
تأففت وقلت:
" حسناً سأرى وأخبرك.."
رد متحمساً مشجعاً:
" افعل ...وستكون المكافأة بما انكما عروسان ان لا تجلبا أي غرض نحتاجه او طعام...فقط الخيمة خاصتك.."
ثم ضحك يمنّ عليّ:
" يا عم...عش حياتك ولا تنسَ معروفنا هذا..."
ضحكت آمراً:
" عمر....اغلق ..انا مشغول ولست متفرغاً لك.."
لقد وضعوني في مأزق!!....اذا صممتُ على الرفض سأفسد عليهم حماسهم وسيعتقدون بالفعل أنني اخبئها عن الجميع وكأنها جوهرة نادرة او سيظنون تكبّراً مني بحكم مكانتي ومكانتها لانهم هم من البسطاء....لا يعلمون ان تواضعهم ونقاءهم وبساطة عيشتهم هي اكبر مكانة وقيمة وشرفاً من والدها !!...أما الأصعب هو الخيار الثاني ....كيف سأخبرها بذلك وكيف ساصطحبها ولو مجبرة مع تواجد هذه الأجواء الشاحنة والانقطاع منذ أسابيع ؟!!...
تركتُ مسألة اعلامها الى يوم الخميس تنصّلاً من المواجهة من قبل يومين لأنها كانت ستقرعني بهما بعنادها وتعجرفها ....فذهبتُ بتثاقل الى جامعتها انتظر خروجها في الثانية بعد الظهر.....
↚
آآه حبيبي يوم الخميس لقد ضاع سدى !....كل أسبوع انتظره بفارغ الصبر لأتصرف بحرية دون ان اجبر نفسي على الدراسة ولأسهر لأي وقتٍ أشاء ولا أستيقظ باكراً في اليوم التالي....لكن مع الأسف هذا الامتحان وعدم فهمي للمادة جاء لينكد عليّ اجازتي...يا ربي ماذا سأفعل؟! "
تنهدت (ألمى) هاتفة بأسى وهي تتربع على العشب في حديقة الجامعة بعد انتهاء الدوام وصديقتاها تجلسان مقابلتان لها بعد أن أصلحت الوضع بينهما وخاصة (لميس) التي خاصمتها ليومين بسبب فظاظتها معها !!....كانت تمسك بيدها اصبع شوكولاتة تأكل منه برقة وبالأخرى تقلب صفحات دفترها لترى ما ينقصها من مادة الرياضيات إثر تغيبها فيما مضى عندما كانت في حال يرثى له وقت معرفتها بشأن الصفقة ..!!...لقد خسرت موضوعاً طويلاً كاملاً وحاولت تعويضه من صديقتيها لكنها لم تكتفي لان شرح الأستاذ مختلف وهو ليس متفرغاً ليعيد لها ذلك خصيصاً....كان هذا ما يؤرقها فالامتحان في مطلع الأسبوع القادم وهي ما زالت ضائعة وليست متمكنة منه....فهتفت (ميار) :
" تعالي أنتِ ولميس عندي غداً صباحاً لندرس معاً وسنحاول قدر استطاعتنا شرح الصعب لكِ..."
ضحكت ساخرة من نفسها وتابعت :
" مع أنك ما شاء الله تتفوقين علينا رغم تغيبك..."
أضافت (لميس) على كلام صديقتها:
" بالفعل هذا احسن من لا شيء ...سنفعل نحن ما في وسعنا وكله في النهاية على الله.."
راقت لها الفكرة فاتفقن على الالتقاء في التاسعة صباحاً عند (ميار).....اغلقت دفترها واعادته الى حقيبتها بعد ان وجدت الحل منهما وتابعت بأكل الشوكولاتة.....رن هاتف (لميس) ففتحته مجيبة:
" اهلا امير..."
"...."
" حسناً سأنتظرك عند المدخل.."
بينما صديقتها تكلم خطيبها , حملت هي هاتفها تتفقده محبطة تكلم نفسها " شهر كامل لم يتعنَّ لمكالمتي !!...الهذه الدرجة حقد عليّ وانا التي يجب ان تحقد؟!....لقد نويتُ أن اعطي انفسنا فرصة كما شجعتني صديقتاي وخالتي وطلبن مني ان لا اكابر او ارفض اذا بادر بالمصالحة ولأبدأ من جديد...فلن أخسر اكثر مما خسرت ان لم ينصلح الوضع بيننا !!......لكنه غير مهتم!!.......اوف........أشعر بالفراغ القاتل وأنني اقف منتصف الطريق لا أتقدم ولا اعود لحياتي قبل معرفته..."
ارتج هاتفها الصامت بعد وصول رسالة وهو بين يديها فاتسعت عيناها بذهول وابتلعت ريقها وهمست متلعثمة تنظر لـ (ميار):
" كـ...كيف هذا ؟! ."
سألتها باستغراب:
" عمّا تتكلمين ؟!.."
رفعت هاتفها تريها الشاشة واجابت:
" كنت افكر به فوصلتني رسالة منه بعد شهر خصام.."
ضحكت بمكر وقالت :
" اعترفتِ يا خبيثة انك تفكرين به وانت تدّعين عدم الاهتمام.."
تأففت منها وهتفت:
" اصمتي ميار واخبريني كيف حصل هذا ؟!.."
أحنت ظهرها للوراء وهي تتكئ على كفيها براحة للخلف واجابت:
" ماذا تريدين اكثر من ذلك؟!!.....هناك ما يسمى توارد خواطر أو تداعي أفكار...مثلاً مثل حالتك الآن كنتما انتما الاثنان تفكران في بعضكما بنفس اللحظة.... هذه توارد خواطر... واكثر الناس الذين يحصل لهم هذا ايتها الحمقاء هم اما التوأم الحقيقي أو المحبون وأصحاب المشاعر الصادقة والقلوب النقية وايضاً يقال عنها الحاسة السادسة !!..."
صمتت تضع سبابتها وابهامها على ذقنها وعيناها للسماء تمثل انها تفكر وأضافت:
" يا ترى انت وهو توأم أم من المحبين !!؟.."
ثم اعادت نظرها لها وقالت :
" هيا افتحيها لنرى ماذا بعث لك شقيقك التوأم.."
فتحت الرساله لتجد :
[ مرحبا ألمى...كيف حالك؟....أنا انتظرك خارج الجامعة منذ وقت ...اين انتِ؟..]
رفعت رأسها مندهشة تقول لصديقتيها :
" ينتظرني في الخارج...ماذا يريد مني ؟!..."
نهضت (لميس) اولاً وهمست :
" هيا اذاً لنخرج ...لا بد ان امير وصل ولتذهبي انتِ لتري يامن .."
مدت الجالستان يديهما لها لتساعدهما في النهوض فسحبتهما حتى وقفتا ثم خرجن معاً و(ألمى) تتوسطهما ...كنتُ اقف استند على سيارتي الرياضية السماوية اضع نظارتي الشمسية الفاخرة وارتدي بنطالاً من القماش الرمادي الغامق وقميصاً بكمين طويلين اطويهما قليلاً , لونه رمادي فاتح ...اعبث بهاتفي وانظر من حين لآخر الى مدخل الجامعة......وقفت مكانها عند البوابة بعد أن وقع نظرها عليّ وهي تتقنّع باللامبالاة وكأنها غير مهتمة ولا تراني فهتفت صديقتها (ميار) مازحة :
" يا ويلي....ما هذا الزلزال الواقف باب جامعتنا بكل هذه الاناقة؟!......ألمى يا غبية.."
وكزتها بمرفقها هامسة:
" ليبلعك هذا الزلزال في جوف الأرض عسانا نتخلص منكِ.."
ضحكت (لميس) وقالت قبل ان تفارقهما :
" هيا اذهبي قبل ان يسحبك كالسابق او يحملك هذه المرة على كتفه لتكوني مشهد الموسم.."
رمقتها بتوجس وقالت بنبرة جدية بريئة :
" قولكِ!!....هل يفعلها ؟!.."
دفعتها الأخرى لتتقدم قائلة:
" انطلقي الى جنّات الخلد.."
بدأت تقترب نحوي بخطى واثقة ثابتة جاهدت على اتقانها وملامحها جامدة جافة وللأمانة رغم جمودها الّا انها لم تنقص شيئاً من جمال تلك الساحرة الصغيرة وطبعاً لم اخلع نظارتي لأتأملها بحرية دون ان تمسك بي في الجرم المشهود ولما وصلتني همست بجفاء :
" ماذا تريد؟!.."
رفعتُ زاوية فمي بابتسامة ساخرة قائلاً:
" وعليكم السلام..."
توردت وجنتاها محرجة فقلت وانا افتح باب السيارة لها :
" اركبي.."
بقيت مكانها متسائلة :
" لمَ والى أين ؟!.."
قلت:
" اركبي ..لديّ ما أقوله.."
ركبت مجبرة مترددة.... شغلت المحرك وانطلقت بهدوء حتى ابتعدنا عن الجامعة ....توقفتُ على طرف الطريق واستدرت بجسدي قليلاً نحوها وقلت :
" سنذهب غداً في رحلة ...استعدي لذلك "
همست رافضة:
" لا اريد.."
تبسمت سائلاً:
" ما المانع...؟!"
وقبل ان ترد اردفت موضحاً كي لا تظن لوحدنا:
"سنذهب مع عائلات أصدقائي الى الطبيعة لقضاء ليلة هناك.."
هتفت مندفعة :
" هل جننت ؟!...بالطبع لا .."
قلت ببرود وتسلّط وانا انظر للشارع امامي:
" بلى سنذهب...جهزي نفسك !!..."
قالت بعناد وخجل :
" مســـتحيل....لن أقبل بقضاء ليلة معك...أأنت مجنون؟!.."
نظرت لها بابتسامة ماكرة وقلت بوقاحة :
" من يسمعك يا حلوة يظن انني اطلبك لتكوني في سريري !!.."
جحظت عينيها شاهقة محمرّة وهمست بثقة مصطنعة :
" وقح....لا اقصد هذا ..."
تابعت بمكر وانا اميل نحوها :
" ما هو الـ (هذا )؟....وضحي لم افهم !!.."
اختنق صوتها حياءً والتصقت بنافذتها كالقطة الصغيرة المحشورة وهمست:
" انت قليل ادب....افكارك سوداء"
اقشعرّ جسدها ذائبة بعد ان مددت يدي لأشاكسها وانا امرر ظهر سبابتي على ذراعها المكشوف هامساً بصوتٍ رخيم خافت مقترب لأذنها لأزيد من ذوبان تلك الحلوى التي يتضاعف حلاها وهي بهذا الوضع مع استعدادي لصد صفعة او خرمشات منها:
" قليل الادب يبعث سلامه لك ويقول انتظريه غداً في العاشرة صباحاً يا قطة ولا داعي للعناد لأنه مثلك مجبر"
وانهيت جملتي قارصاً خدّها المشتعل باللون الدموي من لمستي دون تلّقي أي هجوم!!... لن اكذب ...لقد جازفت بحركتي وتفاجأت من خنوعها وعدم تصرفها كالسابق!!......وبعد ان عدلت جلستي لأكمل سيري...لملمتْ روحها الذائبة وقالت بصوت خفيض :
" لن اذهب.....اتفقت مع صديقتيّ لنلتقي وندرس معاً لامتحان الرياضيات.."
قلت بهدوء :
" اذهبي باكراً وسأمر عليك بالعاشرة!!."
ردت بضيق:
" هنالك بعض الأشياء ستشرحانها لي بسبب تغيبي وهذا يستغرق وقتاً...صدقني لا أستطيع مرافقتكم"
قلت متبجّحاً بمزاح:
" أنا أثق بكِ...تستطيعين استيعابها بسهولة....فأنتِ عروس يامن الهاشمي يجب ان تكوني مثلي "
رفعت حاجبيها باندهاش وهمست بتهكم :
" هل لأنك يامن الهاشمي تظن نفسك بطلاً خارقاً تعرف كل شيء؟!.."
حككت جانب فمي وقلت بثقة :
" لست بطلاً خارقاً لكن كل شيء متعلق بالرياضيات هو لعبتي ..."
اشاحت وجهها الى نافذتها تخفي بسمة شقت ثغرها وتمتمت:
" مغرور.."
فقلت على الفور:
" لا نسيتِ شيئاً.."
التفتت نحوي هامسة بتعجب:
" ماذا؟."
قلت وانا مبتسماً دون النظر لها :
" حائط!!.....حائط مغرور.."
اتسعت عيناها...عضت شفتيها وسالت بحرج:
" هل كنتَ تسمعني؟.."
ضحكت دون الرد عليها..... يا لبراءتها وشفافيتها ...تعترف بذنبها وتكشف دواخلها دون الحاجة لأي صفعة لتقرّ !!.....
وصلنا الى باب بيتها فقلت مؤكداً على كلامي قبل ان تترجل:
" سآتي واجدك جاهزة في العاشرة ان شاء الله.....ارتدي ملابس فضفاضة , طويلة.."
اجابت بانتصار وهي تحتضن حقيبتها وترفع ذقنها بتعالي:
" لا يوجد لدي هذه المواصفات.."
ادرت المقود في الحال داعساً على الوقود فقالت ببلاهة:
" الى اين تذهب؟؟.."
" سنذهب الى المجمع القريب لنشتري شيئاً مناسباً.."
هتفت بامتعاض:
" لا تحلم...لن اغير لباسي من اجل ايٍّ كان....هذه انا !!.."
سحبت نفساً عميقاً اخرجته بالتدريج....يا الله صبرني عليها قبل ان انفجر بها ....وصلنا المجمع , ركنت سيارتي بالمرآب خاصته...نزلتُ فظلّت مكانها تكتف يديها على حقيبتها ...قلت بهدوء:
" هيا انزلي.."
رفعتْ كتفها رافضة ...توجهتُ الى بابها فتحته وسحبتها من ذراعها لتنزل فتأوهت قائلة وهي تمسد مكان قبضتي قاطبة حاجبيها:
" أيّ....انتبه ليدك الثقيلة هذه....ستكسر ذراعي.."
قلت وانا اقفل السيارة :
" اذاً امشي وانت صامتة ....هيا اتبعيني.."
" لمَ اتبعك ؟!...لن اتوه ...انا معتادة على هذا المجمع.."
" بالطبع وهل قلنا غير ذلك ؟!!...لكن مع الأسف لا تعرفين المحلات الخاصة باللباس الساتر .."
لوت فمها بازدراء وسارت جانبي كالتلميذة الخلوقة....
دلفنا الى المصعد الموجود في المرآب ثم نزلنا بالطابق الأول وبدأنا التجول بين المحلات نبحث عن شيء يناسبها...كنا نختلف على كل شيء...تارةً يعجبني ولا يعجبها أو العكس!!...بعد اكثر من ساعة من الكرّ والفرّ اهتدينا اخيراً على لباس مناسب.....وفي طريق العودة تأففت بحنق هامسة:
" وافقت على مضض لأنني سئمت!!...أنا ألمى ابنة عاصي لم ارتدي يوماً بهذا الذوق الرديء.."
حافظت على رباطة جأشي وقلت متهكماً :
" أكيد ...نعتذر منكِ يا ابنة الوزير لقد حرمناكِ هذه المرة من اظهار جسدك لكل من هبّ ودب ليتغنوا بمفاتنك ويرضوا غرورك ولتكوني علكة في افواه الجميع.."
قطبت حاجبيها مغتاظة وردت بنبرة تفاخر:
" انا ارتدي هذا النوع لأني احبه وارتاح به وليس للفت انتباه أصحاب العقول المريضة..."
اجبتها وانا ادخل ساحة منزلها مشيراً بحاجبيّ له:
" مع والدك احبي هذا النوع....اما عند خروجك برفقتي ستحبين ذاك النوع الرديء لأنك لستِ مرتبطة بديوث لا يغار على عرضه واسمه.."
قالت منفعلة وبنبرة مرتفعة بعض الشيء:
" ماذا تقصد؟!...هذه إهانة لوالدي !!..."
قلت ساخراً:
" انا اظهر الحقائق فقط ....انت اخذتِ الشيء بحساسية !!.."
سألت بمكر بريء :
" وهل تغار عليّ مثلاً ؟!"
همست ببرود:
" لو كانت أي واحدة غيرك تحمل اسمي او تخصني كأم أو أخت لفعلت نفس الشيء...."
نظرت لها واردفت:
" يعني الشيء ليس خاص بكِ كألمى.."
غيرت الموضوع سائلة :
" ماذا احضر معي؟!.."
" لا شيء....قبعة وحذاء مريح..."
عادت لنفس النقطة تستفسر بفضول:
" هل اصدقاؤك يجبرون زوجاتهم على هذا اللباس ؟!.."
↚
ضحكت مجيباً:
" طبعاً لا.."
اشتعلت قهراً وقالت:
" اذاً لم انت تجبرني من دونهم ؟.....كيف ستكون صورتي امامهن ؟!.."
قلت بلا مبالاة:
" غداً نرى ان شاء الله......هيا تفضلي انزلي.. .عليّ الذهاب.."
قالت بعبوس طفولي :
" طرد معتبر..."
فتحت الباب لتترجل...فأمسكت يدها آمراً بلطف:
" لا تضعي من عطرك غداً..."
نظرت ليدي ثم رمقتني بنظرة مشبوهة وقالت برقة وعذوبة:
" حاضر...حسناً...هل من أوامر أخرى سيد يامن؟"
سحقاً لجمال اسم يامن من بين شفتيك ....من بعد سبع سنوات لأول مرة اكتشف انه بهذا اللحن الساحر...يا ترى هل سيكون لي نصيب بسماع اسمي الحقيقي هادي وأنتِ تتغنين به بهذه العذوبة ودون ان تكرهيني لما سأفعله بوالدك ؟!!...
تبسمتُ لها مسحوراً وقلت:
" سلامتك سيدة ألمى.."
نزلت بهدوء , ترفع يدها تودعني بكل نعومة وبراءة تذيب القلب ثم طرقت الباب بغلّ كادت تكسره ولربما كاد زجاج القصر ان ينهال معه من قوته وأدبرت دون ان تلتفت لجريمتها.....
~~~~~~~~~~~~~~~~~~
" تفقّديها عيوش ان كان ينقصك شيئاً ..؟!.."
سأل (سامي) والدتي عند دلوفه الى مطبخ بيتنا ووضع مجموعة من الأكياس المليئة بالأغراض على الارض بعد أن قام بالتسوّق دون ان تطلب منه ذلك...فأجابت محرجة ممتنّة:
" سامي ما من داعي لذلك ...لمَ تكلّف نفسك كل هذا ؟!....ان احتجنا شيئاً سأبعث سائقنا الحاج أشعب وايضاً انت تعرف يوجد بقالة قريبة استطيع ارسال شادي للضرورة..."
أجاب وهو يفتح الثلاجة ليرتب الأغراض الخاصة بها داخلها :
" لا اريد ان اذهب وينقصكم شيء ...لا ارتاح..."
" رضي الله عنك بنيّ....لا اعلم ما الخير الذي فعلته ليرزقني ربي ابناً آخراً..."
اقتربت منه مسكت ذراعه بحنية وهمست قلقة :
" عزيزي سامي..."
نظر لها بنفس الحنية وقال :
" أُؤمريني أمي ..."
اخفضت عينيها تشعر بالأحراج وقالت بصوت خفيض:
" هل أهلك راضون عن تواجدك معنا معظم الوقت ؟!....أخشى ان ينزعجوا بنيّ او يغضبوا منك وهذا ما لا ارضَاهُ اطلاقاً....فلهم حق عليك وهم أولى بك منا"
استدار ضاحكاً يمسك يديها بقبضتيه وهتف :
" هل تريدين ان اتصل بوالدي لتسمعي بنفسك ؟!..."
تابع بصوت جدي هادئ :
" عندما اذهب الى البيت واجلس معهم هو من يطردني ويقول *بدل الثرثرة الفارغة اذهب وصن أمانتك ولا تخذل صديقك بك الذي سلّمك اغلى ما يملك وهو مغمض العينين.....لا اريد أن أسمع يوماً أن يقال ابن محمود الأنيس ليس رجلاً ولم يستطع حماية نساء بيته... وليكن بعلمك لو فشلت بمهمتك هذه لا قدّر الله بسبب تقاعسك سأتبرأ منك مهما كنت الأغلى على قلبي من بين اشقائك *..."
احتقنت عيناها بالدموع متأثرة وأكملت لتطمئن :
" سلّمه الله أبا رامي........ووالدتك بنيّ ؟!...هي أم والعاطفة تغلبها .."
قال مبتسماً :
" كيف رضاكِ عن هادي وهو بعيد عنكِ..؟!.."
نزلت دمعة ولحقتها أخرى هامسة بشوق :
" رضا ربي ومن ثم قلبي يخرج له مع كل نفس أتنفسه ..."
مسح دمعتيها بإبهامه برقة وقبّل جبينها وهمس وهو يضمها لصدره :
" أمي كذلك لا تقلّ عنك بشيء وهي ترضى عليّ ليوفقنا الله في مهمتنا من أجل الوطن..."
ضحك وأضاف وهي مازالت على صدره يربت على كتفها :
" ثم أن والديّ أنجبا فريق كرة قدم من الشباب... لن يشعرا ان غاب أحدنا واضيفي لذلك شقيقتيّ المتزوجتين اللتين تأتيان تسع مرات في الأسبوع مع القرود خاصتهن ليصدعوا رؤوسنا بشيطنتهم , تاركتا زوجيهما لينعما بالهدوء في البيت !!...يعني لا ينقصهما غلاظتي فوق وقتهم الحافل بالضجيج..."
حررها منه واستطرد بمرح :
" لا يليقِ بك عيوش الوضع الدرامي الحزين...... اريني صف اللؤلؤ دائماً لتمديني بالطاقة الإيجابية "
ضحكت وقالت :
" ليسعدك الله سعادة الدارين ويحفظ اهلك عزيزي سامي..."
دخل عليهما (شادي) وانقضّ على احد الاكياس بعد ان لمح مسلياته المفضلة وقال :
" ما هذا الكرم أبا السوس ؟!...أم هذه رشوة لدنيا ؟! ..."
" سوس في عينك ...لا تقلها ثانية!!......وهذه لك لتملأ كرشك أيها الضفدع ....تكفيكَ لأسبوع حتى اعود ان شاء الله .."
التفت الى يمينه حيث يقف (سامي) وهو على وضعه جاثياً على الأرض يغوص بين الأغراض ليذخرها لنفسه قبل ان يشاركه احد عليها وسأل :
" الى أين انت ذاهب ؟!.."
" الى العاصمة ....وان اخبرتني عيوش أنك كنت مطيعاً ولم تشاكسها وقمت بحل واجباتك كما يجب ,سأحضِر لك معي مفاجأة بإذن الله...."
كان سيذهب صديقي (سامي) الى العاصمة للالتحاق بدورة تعليمية استكمالية تخص عمله بالشرطة لمدة أسبوع والتي ترفع من نقاطه وتقدم له الفرص ليتقدم ويترقّى وقام بتوصية شقيقه الأكبر (رامي) وكذلك صديقنا (بلال) بتفقد عائلتي بغيابه!!....
خرج (شادي) متفائلاً بالمفاجأة , صاعداً لغرفته مع اغراضه فتنحنح (سامي) هاتفاً بعد ان نظر لساعته على معصمه:
" عيوش...."
" نعم بنيّ.."
" نادي دنيا لأراها قبل ان اخرج..."
التفتت له تحدق به بانزعاج من أجله وقالت:
" ماذا اتفقنا سامي؟...لقد ابليت بلاءً حسناً لمدة أسبوع.....استمر وتحمل ولا تدمر خطتنا..."
قال بعبوس مصطنع:
" لكن لا أستطيع ...سأتغيب أسبوعاً ...كيف لا اراها واودعها بعينيّ؟!..."
نهرته بحزم:
" سامي...تحمل.."
قال متوسلاً وساخراً بذات الوقت:
" ارجوكِ عيوش لا تقسي عليّ.....عندما أتيت التقيت بالحاج أشعب ....هل يرضيك ان يكون هو اخر من رأت عيناي بشاربه الأسود المصبوغ المخيف وكرشه المتدلّي ؟!.....انا حتى لا اعلم كيف تقبّله زوجته فشاربه يغطي شفتيه ولا استدلّ على فتحة فمه ....اعانها الله ....لا بد انها تكتفي بتقبيل جبينه قبلة اخوية وهي تحمد الله لأنه اقرع والّا لالتصق شعره بحاجبيه الكثيفين الملتصقين ولن تجد مكاناً شاغراً..."
ضحكت رغماً عنها وهتفت:
" تحتاج لتربية ...لا تسخر من خلق الله وتتنمر.....ثم ما شأنك بالآخرين ...وهل وقع عليك ان تحمل همهم؟؟..."
" لا اسخر ولا اتنمر ...الله أعطاه العقل والنظر والوسائل المريحة ليهذّب شاربه وحاجبيه لكن هو مصمم ان يكون من اهل الكهف ...فليتحمل انتقادنا !!.....منظر شاربه جريمة بحق البصر ...سأقترح إضافة قانون لمعاقبة هذه الحالات.... اشفق على زوجته "
قالت تذكّره:
" هذا اختيارك أستاذ سامي...لا تنسَ..."
أجاب وهو يتمطى :
"أتريدينني أن اجلب سائقاً وسيماً ليقلّها الى جامعتها وحتى لو كان كبيراً بالسن ؟!...طبعا لا.....اما هكذا كالحاج أشعب ستنفر من النظر له والثرثرة معه !!..."
ضحكت وهتفت:
" مسكين سامي......لقد اصبحا صديقين وتجلس في الامام بجانبه احتراماً له لأنه يعتبرها كابنته التي في سنها ودائما يحكي لها عنها !!..."
صرخ مصدوماً :
" نعــــــم؟؟!!...سامحك الله عيوش....لا تنفعي لتكوني عميلتي السرية ...لمَ لم تخبريني ؟!.."
سألت بفضول :
"ما بيدك لتفعله ؟....هو في سن والدها لا تقلق.."
هز رأسه متوعداً وقال:
" سأحرص على أن ينزع الكرسي الأمامي ويلقيه بأقرب حاوية .......هذه الضفدعة ستفقدني عقلي يوماً ما ..!!.."
عاد لطلبه هاتفاً :
" هيا عيوش ناديها لا اريد ان اسافر بوقت متأخر من الليل ...سأذهب لأجهز حقيبتي وانطلق بعد قليل.....لا تقولي لها أنني اسأل عنها .....تحججي بأي شيء !!.."
هزت رأسها محوقلة مبتسمة له ونادت بصوتٍ عالٍ عليها وقبل ان تأتي نبهته على التظاهر انه غير مهتم وحتى لو القت السلام يتجاهلها ويمثل انه مشغول بالهاتف ولم يسمعها او يلحظها.......
نزلت بعد دقيقتين وهي ترتدي منامتها الحمراء المليئة برسومات ميكي ماوس وشعرها مرفوع للأعلى على شكل كعكة تثبته بقلم وقالت مجبرة بنعاس من ارهاق الدراسة دون ان تنظر له :
" مرحبا.......ماذا تريدين أمي ؟!.."
كان يختلس النظر لها ولم يرد التحية....
قالت أمي :
" التحقتُ في الوقت وانا اعمل بالمطبخ ...اذهبي لتلمّي الغسيل ....ستغرب الشمس ويبرد !!.."
ردت بحنق :
" امّــــي ......قبل ان اصعد سألتك عنه وقلتِ اتركيه ....يا الله امّـــي... هل صعود ونزول السلالم العملاقة بهذه السهولة ؟!.."
" اذهبي من غير تذمر....هيا .."
" ارتدي الحجاب قبل ان تخرجي ولا تنسي ان تجلسي في المقعد الخلفي للسائق والّا لاضطررتِ للذهاب لجامعتك على قدميك الصغيرتين يا عينيّ الشهد ..."
لم يمسك نفسه عن التدخل بها ونعْتِها باسم الغزل تاركاً تنبيهات حماته تذهب كالماء بالغربال.....اما تلك تأففت تضرب قدمها بالأرض خارجة تتمتم بطلاسم لم يفهمانها فقالت امي وهي تصفق بيديها :
" ممتاز سامي...رائع...كل الاحترام يا بطل.....اذهب وساعدها ان اردت وأستأذنها بسفرك لترضا عنك ولا تنسَ قبلة على جبينها أيها المغفل...."
~~~~~~~~~~~~~~~
تسللتْ خيوطها الذهبية من بين ستائر نافذتي لتكتب صباحاً جديداً ليوم الجمعة حيث موعدنا.....استحممتُ وارتديتُ ملابسي الرياضية المريحة وهي عبارة عن بنطال لونه اسود يمر من جانبيه خطان رفيعان رماديان وبلوزه سوداء نصف كم قطنية متسعة بعض الشيء وشعار ماركتها رمادي...حذائي كالخطين وقبعتي كلون البلوزة تغطي شعري الحليق....تعطرت ونزلت الى غرفة الطعام حيث ينتظرني اهل بيتي لتناول الفطور سوياً وبعدها خرجت لأضع خيمتي الخاصة بأدواتها وبعض الأغراض بمركبتي رباعية الدفع لان مشوارنا للجبال.....بعثتُ لها رسالة صباحية لأتأكد من استيقاظها وتجهيز نفسها من غير تأخير .....في التاسعة والنصف انطلقتُ متجهاً الى منزلها ولما وصلت كانت العاشرة الّا ربع ...بعثت رسالة أخرى اعلمها بوصولي فردت :
[ باقي خمس عشر دقيقة على الموعد المتفق عليه..]
يا لبرودها ...متى أصبحت سمو الملكة بهذه الدقة كساعة -بيغ بن- ؟!!.....ستحاول استفزازي ...لكنني لن اعطيها لها....اللهم بك اصبحنا....أرسلتُ رداً :
[ لا مشكلة...انتظرك في سيارتي ]
ردت:
[ حسناً ..انتظر...لن اتأخر ]
[ اتركي الهاتف وانهي تحضيراتك..]
لم تقرأها او ترد ...نزلتُ اتمشى بساحة بيت العنكبوت ....حفظتُ أسماء أبناء البستاني خاصتهم وحتى احفاده وحفيدته الصغيرة (ملاك) فائقة الذكاء ....اخبرني البوّاب قصة حياته الأليمة بسبب زوجة شقيقه الحقودة......قرع رأسي الحارس ببطولاته مع الصبايا.......جلستُ على حافة حوض وفتحت نقاش مع دعسوقة كانت تحاول تسلق الزهرة حتى أني ساعدتها لتصل قمتها ....الوقت يمر وسمو الملكة لم تظهر على الشاشة !!...
عدتُ لسيارتي احمل هاتفي...كانت الساعة العاشرة والنصف فأطلّت أخيراً قبل ان اذهب واسحبها من شعرها هذا ..معذّبي ....انشرح صدري لرؤيتي لها بالملابس التي اخترناها وهي عبارة عن بنطال جينز واسع بعض الشيء وقميص خمري فضفاض بأزرار يصل لمنتصف فخذيها ...الحمد لله لم تتسبب بمشكلة صباحية....كنت فاتحاً النافذة الخاصة بالمقعد جانبي واتأملها مبتسماً....تستحق (ألمى )المطيعة هذه الابتسامة الصباحية أليس كذلك...؟!!.... وقبل أن تصلني سبقها شيءٌ آخر....وصلتني , فتحت الباب وجلست وهي تبتسم بكيد نسائي وتصبّح عليّ فقلت قاطباً حاجبيّ بنبرة استياء:
" ما هذا ألمى ؟...على ماذا اتفقنا ؟!.."
ادّعت الجهل وقالت بصوتها القاتل :
" ماذا؟....ها انا ارتديتُ كما تحب سيد يامن .."
صككتُ اسناني بغيظ وقلت بصوت منخفض:
" ألم انهك عن وضع العطر؟!.....رائحتك تسبقك بأمتار !!.."
قالت ببرود مستمرة بكيدها بعد ان صفعت جبينها شاهقة:
" يا اللـــه....لقد نسيت ذلك!!.."
هتفت آمراً بضيق:
" انزلي اخفي هذه الرائحة او استحمي ....افعلي أي شيء....هيا .."
ردت بخبث:
" لكن العطر موجود على ملابسي وليس على جسدي !!.."
قلت مزمجراً بها :
" تصرفي....لا اريد هذه الرائحة "
قالت بتحدٍّ ماكر:
" اما هذه الملابس بعطرها او ملابسي من غير عطر ..!!"
تأففتُ بضيق مستسلماً وقلت:
" الخياران أسوأ من بعضهما لكن العطر قوي وجذاب ولا يصح وضعه بين الغرباء فالمرأة المتعطرة التي يشمها رجل أجنبي تعتبر كالزانية!!..."
التفتّ اليها واردفت متعصبّاً غيراناً على عرضي :
" وانا لا اقبل ان تكون زوجتي بهذه الصفة .."
اندهشت مما سمعت للحظات...ثم تنحنحت ترخي ملامحها وقالت بشيء من الانتصار لتعاند فقط :
" اذاً ما الحل؟!.."
قلتُ مجبراً:
" بدّلي ملابسك سريعاً....لقد تأخرنا !!..."
لمعت عيناها بدهاء لكسبها هذه الجولة ونزلت مسرعة متحمسة لتبدلها وانا على حالي انتظر وانتظر وبعد عشرين دقيقة عطفت على الانسان الذي كاد يتحول لجثة في ساحة منزلها ليضعوا له نصباً تذكارياً شهيد الألمى...!!
جاءت وليتها ما جاءت....لم نتدرب بالمعسكر لنحارب هذا النوع من الأعداء !!...ما بهم غفلوا عن هذه المسائل التي تزهق أرواح الرجال المسالمين ؟!....
اقبلت تتمخطر في مشيتها , ترتدي بنطالاً رياضياً لونه اسود يصل الى تحت ركبتيها بنصف شبر وعلى طرفيه خط عريض زهري لو مررت اظفري عليه لتمزّق من ضيقه وبلوزتها قصيرة بلون الخطين تنحت خصرها وعلى صدرها مكتوب بالأسود باللغة الإنجليزية * احبك *......أحبّتها أفعى بسبعة رؤوس ...صبراً صبراً.....قبعتها زهريه وتخرج من فتحتها الخلفية شعرها الليلي المربوط كذيل الحصان ....ومع مشيتها يتأرجح من اذنها حلق طويل اسود يصل لكتفها وبالأخرى واحد صغير ...الأدهى من ذلك تفرقع العلكة بكل برود تلك الساحرة الصغيرة....ولأقول الحق ..وجدتُ حسنة يتيمة بين كل هذا ...لقد أخفت سماءيها عني بنظارة شمسية!!....كانت تحمل حقيبة على ظهرها خاصة للجولات والله اعلم ما تضع بداخلها...وان كان عطراً سأكسره على رأسها او اجعلها تشربه بعد الغداء ....ركبت دون ان تنظر اليّ...اخرجت من الفانوس السحري الذي كان على ظهرها , مرآة وكريماً واقياً من الشمس ...وضعت منه على اطراف اناملها وبدأت تربّت وتوزعه بخفة على وجهها لتحمي بشرتها الحليبية...وبعدها مسحت ذراعيها وانا محنط مكاني اشاهد مراحل العناية الخاصة بالألمى ...هل انا مجبرٌ على ذلك؟!....اخرجت قلم شفاه شفافاً تمرره على شفتيها لتلمعان ....ابتلعتُ ريقي لأرطب حلقي الجاف بسبب الكارثة .....انها مجرمة حرب!!....مهلاً عليّ مهلاً .....اعادت كل شيء لخزنتها..... انحنت تعقد خيطان حذاءها الأسود ثم اسندت ظهرها للوراء والتفتت ليسارها نحوي....الشكر لله تذكرت الحائط الذي بجانبها لتهمس بكل عفوية وهي تفرقع العلكة :
" يمكنك الانطلاق....انا جاهزة..."
بكل بساطة يمكنني الانطلاق؟!!...هي جاهزة...وانا ما وضعي في هذه الحالة ؟!.....ويلتاه... ماذا افعل بنفسي ؟!....آه لو أمكنني الاعتذار عن هذه الرحلة المفخخة.....سامح الله نساءكم الفضوليات أصدقائي!!.....
اذاً هي مخططة لهذا لتعاندني بمكرها الانثوي....لكنها ما زالت ساذجة لا تعلم مع من تلعب ؟!.....تبسمتُ بكل برود وانتفاضة تدور بين احشائي ...رفعتُ هاتفي بشكل سريع وانا اسيرُ بسرعة بطيئة وضغطت على ارسال بعد كتابتي لجملة مختصرة....انطلقنا في الطريق السريع ...كنتُ شارداً بنظري الى الامام , اتكئ بمرفقي اليسار على النافذة واحرّك ابهامي وسبابتي على ذقني وهي تمسك هاتفها ويبدو انها تراسل صديقتيها وبين اللحظة واختها من الهدوء تصدر صوتاً من فرقعتها لعلكتها ....الله اعلم انها تفعل هذا بدل الألعاب النارية احتفالاً بالنصر والتغلب عليّ!!....أتتعمد اغاظتي ام انها حالتها الطبيعية ؟!.....فجأة اطلقت قهقهة مائعة ولما انتبهت لوجودها معي حاولت كتمها فقلت بهدوء مركّزاً عينيّ على الطريق:
" اضحكينا معك سيدة ألمى..."
ردت ضاحكة:
" لا شيء يخصك ...اكلم صديقاتي "
سألت بفضول:
" هل راجعتِ على امتحانك ؟!.."
قالت وهي تبدل ملامحها للجدية:
" متى سأراجع وانت تضع برامجاً في طريقي؟"
" كنتُ مضطراً.."
رمقتني بنظرات حائرة وسألت:
" لمَ؟؟"
أجبت:
" أصدقائي صمموا على اصطحابك لتتعرف زوجاتهم عليكِ بما انني لم ادعهم لخطوبتي !.."
همست بغصة:
" ليروا الصفقة الخاصة بالسيد يامن الهاشمي....اليس كذلك؟!.."
انزعجت من سؤالها متألماً لأجلها...سيبقى هذا الموضوع جرح لا يلتئم في قلبها !!......اجبتها بلطف:
" هم لا يعلمون بصفقة او غيرها....يعتقدون علاقتنا طبيعية...لذا تصرفي وفق ذلك.."
تبسمت بسمة مكلومة وقالت:
" غريب!!......على كل حال جيد أنك اخبرتني والا لكنت سأرى بأعينهن الشماتة والسخرية..."
هتفت بهدوء:
" ستتعرفين عليهن وسترين بنفسك طيبة قلوبهن وأرواحهن المرحة .."
سألت بنبرة تحمل في ثناياها الغيرة:
" ألهذه الدرجة علاقتك قوية معهن ؟!.."
اجبت مبتسماً:
" نوعاً ما.!....يكفيني معرفتي بأصدقائي فهم يحملون هذه الصفات ولا بد انهن مثلهم لأني أرى التوافق والسعادة الزوجية وهذا يكفي لإدراك ذلك....اسأل الله ان يديمها عليهم.."
تنحنحتُ وتجرأتُ امسك يدها بيميني برقة وهمست :
" ألمى..."
نظرت متفاجئة ليدي ثم لوجهي فالتفتّ اليها سريعا وأكملت:
" انسي أمر الصفقة...."
كنتُ سأطلب منها ان تنساها وأقول لها لنفتح صفحة جديدة كأي عروسين طبيعيين لكني لم استطع...شيء منعني ...ليس قسوة مني عليها فأنا اقسو على نفسي قبلها....لقد خفت ان اعطيها الأمل لتثق بي وتسلمني قلبها وبعدها احكم عليها بالإعدام بسبب مهمتي....لذا تراجعت عن إتمام جملتي وحررت يدها...فسألت بخفوت:
" لمَ أنساها ؟!..ما الجديد؟!.."
اكتفيت مجيباً ملتفتاً اليها مرةً اخرى :
" لا شيء....هكذا..."
اجابت بامتعاض وهي تفتح الفانوس السحري خاصتها لتخرج سماعات الاذن :
" جـيد.."
ووضعتها على اذنيها ثم اوصلتها بهاتفها تستمع للموسيقى كأنها تخبرني بطريقة غير مباشرة... انتهى الكلام...لا اريد سماع صوتك...التفت للأمام...!!
بعد ساعة على الطريق السريع اتفقنا على نقطة التقاء في احدى محطات الوقود لنجتمع فيها ثم نسير معاً الى منطقة الغابات الجبلية المطلة على نبع مياه كبير تابع لقرية صغيرة ريفية.....كان قد سبقني (عمر)و(يزن) ينتظراننا انا و(رامز).......قبل ان اترجل من السيارة وكزتها لتترك السماعة التي كانت بآخر انسجام معها وحتى لم تخجل وهي تتمايل وتهز قدمها راقصة مكانها وسألتها وهي تنزع احداها :
" هل تريدين دخول الحمام ؟!.."
ردت بإيجاز وهي على حركتها المتمايلة... لا اعلم ان كانت مغمضة عينيها مسترخية , ضائعة او لا... فالنظارة تحجب عني السماء :
" لا.."
وقبل ان تعيد السماعة قلت:
" هذا افضل....لا تنزلي من السيارة....سآتي بعد قليل.."
تركتها واتجهت الى الاثنين اللذين يشعلان سجائرهما , يتظللان بشجرة محاذية لمركباتهما...القيت التحية الخاصة بنا وهي ضرب قبضاتنا ببعضها فقال (يزن):
" نحن ننتظر السيد رامز وحرمه المصون..."
سألت ضاحكاً:
" ما بهما...لمَ تأخرا؟!"
أجاب (عمر) هازئاً شامتاً :
" الحسود عندما علم اننا تركنا انا وزوجتي ابنينا عند حماتي قرر تطبيق ذلك على طفلته لكن زوجته المجنونة رفضت ووقفت له بالمرصاد , لا تريد تركها وحصل بينهما المشادات التي تعرفها فاستسلم منصاعاً لحرمه في الدقيقة الأخيرة وانشغلا بتحضير أغراض الطفلة ....وها نحن نتأخر بفضلهما...!!.."
قلت مبتهجاً:
" رائع ..اذاً ستأتي دميتي .."
قال (عمر) وهو ينظر خلفي يحرك حاجبيه بمكر:
" ودميتك الأخرى نزلت من السيارة مقبلة نحونا.."
سحبتُ أنفاسي مستغفراً بداخلي , أحاول تمالك أعصابي مستديراً ببطء لأتلقى الصدمة وهي تمشي برقة بهذا الشبه لباس الذي يرسم جسدها بحرفية متقنة يجعلها كدمية الباربي بطولها الناعم ونحالتها الانثوية حتى وصلت لنا هامسة بدلع :
" مرحبا شباب.....هل يمكنني أخذ يامن منكم لدقيقة ؟!.."
صبرٌ جميل والله المستعان...تغرز بي سكيناً وراء الثاني ...ما هذه الرحلة التي ستوصلني نهاية المطاف اما قاتلاً او مقتولاً..؟!!
كان (يزن) هو الأكثر خجلاً والأقل كلاماً بين أصدقائي فغض بصره في الحال أما الداهية (عمر) الثرثار لا يفوّت أي خبر او موقف دون التعليق عليه ...اجابها بصوت رقيق ليماثل صوتها :
" يمكنك أخذ يامن وأب يامن ..."
ثم قبض بأصابعه قميص (يزن) من كتفه يحاول دفعه بخفة نحوها مسترسلاً :
" حتى صديق يامن.."
وعاد لشده اليه هاتفاً بصوت رجولي :
" لا....هذا عريس جديد....زوجته تحتاجه "
ضحكت بخفة تجامله دون ان تعير الحائط أي اهتمام فأمسكتُ ذراعها اسحبها والحمم تتقاذف في عروقي هامساً لها من بين أسناني :
" ماذا تريدين ؟...نبهتكِ لتبقي مكانك!...لمَ تتعمدين استفزازي ؟!.."
ردت وهي تحاول مسك يدي لتبعدها عن يدها وتحدق بي بمكر:
" اريد استخدام الحمام...جئت لأخبرك كي لا ينشغل بالك..."
يا أمي على هذه الحنية والطاعة التي نزلت فجأة من السماء عليها !!....قلتُ وانا ادفعها بخفة لتختفي:
" اذهبي وعودي الى السيارة على الفور.."
رسمت ابتسامة مستفزة واومأت براسها ايجاباً وانصرفت قاصدة الحمام....
لقد أضاعت فرصها......استعدّي يا ابنة (عاصي)......سأريك اللعب على أصوله.....
وصل (رامز) اخيراً...استقلّ كلٌّ منّا مركبته....أدرتُ سيارتي لأمر من امام النافذة الخاصة بالطلبات السريعة لدكان المحطة....طلبتُ كأسين من العصير المثلج بطعم الكرز...ناولتها احداها فقالت :
" لمْ تسألني ماذا اريد !!...ماذا لو لمْ اكن احبه ؟!.."
قلت غامزها بخباثة :
" هذا افضلها هنا....تذوقيه وادعي لي..."
مدت يدها وابتسامة بريئة على محيّاها....شعرتُ بالغبطة من الشفّاطة التي حاصرتها بشفتيها تسحب العصير بكل نعومة منها ...عدتُ مستديراً لألحق بهم....وقبل الخروج من الساحة لأندمج مع الشارع , دعستُ على الوقود لمسافة قصيرة ثم حولتُ قدمي للمكابح فجأة فسُكب نصف كأسها على القسم العلوي من جسدها , يغطي بلونه الدموي جزءاً كبيراً من بلوزتها بما فيها كلمة * احبك * ليكتب مكانها * لا تلعبي مع الهادي *....شهقت تنظر اليّ ببلاهة فاغرة فاها رافعة يديها والعصير يتقاطر من كأسها يضع بصماته الأخيرة عليها وبرودة الثلج تلسعها وهتفت مذهولة :
" آححح .....ماذاا فعلــت؟!.."
قلت معتذراً بتصنع :
" يا اللـــه....انا آسف ...لقد قفزت قطة امامي..."
تجمعت الغيوم بسماءيها وهمست بصوت باكي:
" ماذا سأفعل الآن؟...انظر الى وضعي المزري !!.."
اجبتها بصوت درامي متألم :
" ولا محلات خاصة لبيع الملابس هنا...."
قالت بتحشرج:
" هيا لنعود.....لا يمكنني مقابلتهم بهذا المنظر الطفولي المثير للسخرية..."
قلت لها:
" مســـتحيل...طريق العودة من مكان آخر ونحن اوشكنا على دخول الغابة..."
سألت بصوت مخنوق :
" قل لي ماذا سأفعل ؟!......أو سأبقى في السيارة ..."
همست بدهاء :
" انتظري...سأتصل بعمر قبل اختفاء التغطية من هواتفنا لأرى اذا كان معهم ملابس بديلة....فزوجته ممكن ان تكون الأقرب لقياسك.."
هتفت رغم ضيقها من حالتها بغيرة بريئة:
" مدهش!!....وتعلم قياسات نسائهم ايضاً.."
اجبت باستياء:
" لا تتكلمي هكذا.....هن كأخوات لي ومن الطبيعي تقدير احجام الناس فأنا لستُ أعمى .."
ضغطت على اسمه سائلاً بلا مقدمات فاتحاً مكبر الصوت:
" عمر هل تمتلكون بالصدفة ملابس بديلة من اجل ألمى؟!"
أجاب مسانداً لي:
" نعم ...لقد طلبتُ من اماني ان تجلب احتياطاً لعدم معرفة ما سيواجهنا .."
قلت آمراً:
" رائع....انتظرني مدخل الغابة...سآتي بالحال.....الى اللقاء.."
قالت بحنق وهي تقطب حاجبيها عابسة وتزمّ شفتيها كالطفلة :
" تعلّم من صديقك....انظر كيف قام بتذكيرها لتأخذ ملابس احتياطية....ليس مثلك همّك اللباس الفضفاض والعطر.."
تبسمتُ دون تعليق واعطيتها مناديلاً رطبة لتنظف نفسها ....صففتُ جانباً عند وصولي مدخل الغابة....ترجلتُ وقطعت الطريق الترابي قاصداً الطرف الآخر حيث يقف (عمر)....القيت التحية على زوجته فأطلّت من الخلف شقيقته الصغيرة البالغة من العمر سبعة عشر عاماً هاتفة بحماس:
" أخــي يامن...كيف حالك؟..."
تبسمتُ مجيباً:
" أهلاً ميساء ....كيف حالك انتِ....ما هذه المفاجأة ؟!.."
ردت مبتهجة:
" الحمد لله ...انا سعيدة بمرافقتكم لهذه الرحلة في أحضان الطبيعة.."
قلتُ ضاحكاً:
" يعني اخيراً عمر اوفى بوعده لكِ لتعيشي أجواء المغامرة..."
اشتركت زوجته بالحديث:
" كان يتملّص الى ان اوقعناه مجبراً.."
اقترب (عمر) مني بعد ان أخرج من صندوق سيارته الملابس الخاصة بزوجته .... كنتُ انا من طلبتها مسبقاً في رسالة نصية بعثتها له ليجلبها من بيته عند خروجنا من ساحة منزلها بعد رؤيتي للشبه لباس الذي ترتديه !!.....عدتُ لها حاملاً الكيس ووضعته في حضنها قائلاً ببرود:
" تدبري امرك بهذه..."
فتحت الكيس تخرج ما بداخله وهي تنظر بذهول ثم سالت بتعجب:
" ما هذا؟؟!.."
قلت بلا مبالاة:
" عباءة...الم تشاهدي عباءة من قبل؟!....لا بديل لها....او ابقي كما انتِ..."
صمتت للحظات يبدو انها تمر بمعادلات حسابية في دماغها ثم نظرت من خلفي الى الخارج وسألت هامسة متقبّلة الأمر:
" اين سأبدلها؟!...."
تبسمتُ مُطَمئِناً لها هامساً:
" انتقلي الى المقاعد الخلفية...النوافذ مكسوّة بالأسود العازل للرؤيا..."
بعد دقائق من انتقالها للخلف فتحت الباب تقفز بسبب ارتفاع المركبة لتطلّ عليّ بكامل الأناقة بهذه العباءة السوداء التي تبدأ بضيق من طرفي الكتفين ثم تأخذ بالاتساع تدريجياً الى نهاية الذراع مع حواف الفتحة المطرزة باللون الفضي اللامع ومن الخصر ضيقة بسبب الحزام الفضي الذي تعقده لجانبها على شكل فراشة وقسمها السفلي كلوش ينزل بانسياب.....دنوتُ منها هائماً...سحرها لوّن سواد القماش.!!..مددت يدي بخفة لشعرها من الوراء وانا اقف مقابلاً لها وسنتمترات قليلة تحول بيننا ...سحبت الربطة ليتناثر شلالها الليلي بحرية على ظهرها واكتافها ليرسم لوحة آية في الجمال حتى همستُ لها بضياع وخفوت وانا محلّقٌ في سمائها :
" ألمى يا فاتنة "
" ماذا قلت؟!"
تنحنحت هارباً بعينيّ هاتفاً:
" قلت هيا سيسبقوننا ..."
كان عليّ تغليفها بالكامل!!...مهما ارتدت لا يُخفى جمالها ....لا اعرف ما الحل مع هذه الفتنة ؟!!...
لحقنا بهم ننغمس بين الأشجار الكثيفة من السرو والصنوبر التي تندمج مع الازهار البرية تحتها , المتظللة بها لتنسج سجادة بديعة على الأرض وتكتمل الصورة مع زقزقة العصافير , يلحق بها نقيق الضفادع من الوديان القريبة لتعزف ايقونة خاصة بالطبيعة....
كانت هي تمسك هاتفها تلتقط الصور بين الحين والآخر توثّق دقائقها لتحتفظ بها ...اما أنا تائهٌ ابحث عن ملجئي القريب البعيد , الفاتن العنيد التقط كل حركة لها بعينيّ لأحفظها في دماغي علّني اروي ظمئي بها عند ابتعادي عنها......وفي النهاية هزمني قلبي الخائن الذي رفع راية النصر معلناً اللجوء في سمائها في هذه اللحظات الخالدة طالباً السلام حتى إخطارٍ آخر لوقتٍ مجهول..!!
بدأنا بالصعود نتجه الى قمة الجبل حيث يطل على القرية الشبيهة بالريف السويسري بخضرة حقولها وبيوتها الخشبية والحظائر الواسعة المليئة بمختلف الحيوانات والمواشي ونبع الماء الصافي وكأنها قطعة استوردت من تلك البلاد...!!.....لما وصلنا هدفنا وترجّلنا قلت لها بصيغة الأمر ونبرة حازمة :
" اربطي شعرك.."
↚
حدّجتني بحيرة كمن تنظر لرجل معتوه...معها حق!!...هكذا انا أتحول لجلف في ثواني....لا اجيد التعامل مع هذه البتلات الناعمة المحاطة بأشواك الخيانة...!!....نصيبها ان تكون ابنته ونصيبي ان أحبها ....ليتها لم تحمل اسمه لأهديها فؤادي على طبق من ذهب لتأخذ نبضاته وتعيش كل الحب والسعادة الموجودة على هذه الأرض....!!
همست بتيه ونقاء :
" أنت من تركته هكذا..."
قلت بملامح صلبة من غيرتي عليها التي لن تفهمها :
" كنا لوحدنا....الآن سننخرط بالمجموعة......لا داعي للتباهي..."
زفرت مستاءة تتأفف , تخرج من رسغ يدها الربطة وتجمعه بصعوبة من كثافته بشكل عشوائي هاتفة:
" أنا لم أتباهى...كفاكَ اتهام.."
دنونا من أصدقائي وزوجاتهم لأعرّفها عليهم ....القينا التحية وهتفتُ بمرح لنسائهم وانا اضع يدي برقة على ظهرها:
" غلبكن الفضول لتتعرفن على خطيبتي ....ها هي اشبعن بها وتعارفن فيما بينكن .."
قالت (اماني ) زوجة (عمر) بابتسامة عريضة منبهرة:
" ما شاء الله لا قوة الا بالله ....من أي بحر عثرت على هذه اللؤلؤة النادرة ؟!"
تبسمتُ مجاملاً.....فتدّخل زوجها بصوت تمثيلي حزين :
" أيها القاسي على الأقل عرّفها بنا....تبنا عن اكل البشر....لمَ فقط نساؤنا سينلن شرف مخاطبة ابنة الوزير ؟!.."
تبسمتْ بافتخار معتزة ببطلها المزيّف......وددتُ لكمَ هذا السمج لذكره للنجس!!....أشرتُ له وانا ناظراً لها :
" هذا مذياع الشلة.....عمك عمر يكبرني بسنتين ولديه طفلين ذكور خمسة وثلاثة اعوام..."
شهق مستنكراً:
" ويحك!!....عمها مرّة واحدة ؟!.."
شمتت زوجته ضاحكة:
" احتراماً لك...فانت اكبرنا سناً.."
قال موجهاً كلامه لـ(ألمى):
" اذاً هذه خالتك اماني ...ارجوكِ ناديها بخالتي احتراماً لها فهي في سن خطيبك.."
ضحكت وقالت له بلطف جريء:
" لقد ظننتكَ أصغر من يامن..."
هتف منشرحاً:
" لينصر الله دينك.....اخيراً وجدت الداعم لي في هذه المجموعة الحسودة.."
قالت زوجته:
" أعانكِ الله....سيلتصق بكِ....اطلبي الدعم من يامن..."
قاطعتهم تأتي بخطى سريعة بعد ان كانت تلتقط الإشارة بالقرب لتكلم والدتها...هاتفة:
" أنا اتيت.."
قلتُ مُرحّباً:
" اهلاً ميساء...اعتقدت لوهلة ان عمر قذفك من النافذة تحت الأشجار.."
قالت غامزة ببراءة وعشميّة:
" لا يستطيع فالتوصيات والأوامر بأيدي القيادات العليا زوجته ووالدتي.."
كانت مستمعة لحوارنا وعينيها فيها نظرات غريبة ...هل هي اعجاب أم غيرة ؟!...ميساء هي فتاة رقيقة , محجبة بوجهٍ ابيض دائريّ ووجنتين ممتلئتين دائمتيّ التوّرد وعيناها واسعة سوداء وجسمها نحيل متناسق.....قلتُ لها لأخفي نظراتها التي تكاد ان تفضحها :
" هذه ميساء شقيقة عمر في السنة الأخيرة من الثانوية.."
اومأت برأسها تحييها مع ابتسامة صفراء فتابعتُ مشيراً اليها هاتفاً لـ(ميساء):
" هذه خطيبتي ألمى ...قريبة الى سنك.."
مدت يدها تصافحها بنقاء هاتفة بمرح:
" سررت بمعرفتك أيتها الجميلة.."
أجابت بابتسامة ضعيفة:
" وأنا كذلك..."
دفعَ (عمر) صديقنا (يزن) حيث نجتمع هاتفاً لي:
" عرّفها على خائب الرجا..."
احمرّ وجه (يزن) ولكمه على كتفه هامساً بمرح:
" اصمت...ستفضحنا امام الانسة ألمى.....على الأقل حتى تعتاد علينا.."
قلت وانا اضع يدي على كتفه :
" هذا يزن يصغرني بسنة ..."
اومأتُ لزوجته من خلفه:
" وهذه لينا ..اعتقد في سن العشرين...اليس كذلك؟"
حركت رأسها بإيجاب تؤكد على كلامي فأردفت:
" تزوجا حديثاً من حوالي أربعة شهور..."
هتف (عمر) بمرح ..فهو لا يستطيع ان يكتم شيئاً داخله لأنه سيتفجر:
" ما فات خطيبك ان خائب الرجا سيصبح أباً قريباً....العقبى لكما.."
اخفضت عينيها بحياء ووجنتاها ورديتان وشردت داخلها " العقبى لنا ؟!...ومن قال أني سأسمح له بلمسي ان استمر بعدم اهتمامه بي ولم يشعرني بوجودي كأنثى تخصه!!؟..."
تفاجأتُ بالخبر وعانقت صديقي مباركاً لهما......جلتُ في حدقتيّ باحثاً عن (رامز) وسألت زوجته:
" ريما....اين رامز ودميتي ؟!.."
ردت ضاحكة بسيطرة :
" عاد الى المركبة ليجلب لعبة يارا.."
" هذه ريما زوجة رامز"
همستُ مبتسماً لـ (ألمى)متابعاً بحلقة التعارف فحيتها مصافحة لها مع ابتسامة رقيقة لا تشبه ابتسامتها لـ (ميساء) ....جاء (رامز) يلهث وهو يحمل ابنته ذات العامين على اكتافه وفور رؤيتها لي بدأت تحرك يديها تحاول القفز الى حضني فاقتربت منها وسحبتها من فوقه وبدأت اقبّل وجنتيها بنهم واشتم رائحتها فأنا احبّ هذه الطفلة وكأنها قطعة مني ...الأطفال نقطة ضعفي ورائحة (يارا) تذكرني بالشهور الأولى لشقيقي وهو يكبر على يدي وكذلك بـشقيقته (سلوى)....همست وانا ادفنها في صدري اضمها بحنان:
" كم اشتقتُ لرائحتك يا دميتي الشقراء.."
لم اتخيل او أتوقع انها ممكن ان تغار من طفلة !!...لم تستطع إخفاء بريق عينيها الذي وصل لحد الغليان وكأنها تنتظر كلمة للفوران....قاطعت هذه اللحظات زوجة (رامز) مازحة من غير قصد :
" على الأقل لا تقبّلها أمام ضرتها...ستشعر الآن ألمى بالغيرة.."
لأول مرة تتحكم بانفعالها ..لا ادري من اين نزلت عليها هذه القدرة....فهي شفافة تخرج ما في جوفها مباشرةً دون ان تفكر بالعواقب ....وهذه احدى أسباب غرقي في عشقها ....روحها نقية , بريئة , لا خباثة ولا حقد ...احمد الله انها لم ترث دماء والدها النجسة واخذت منه قصر القامة مع انها تناسبها كفتاة.......هي النواة الطاهرة بين خلايا الانتقام....ومع حبي لعفويتها الا انني فرحتُ لتسترها على مشاعرها في هذا الموقف وهي ترد عليها ضاحكة بينما وحدي من يعرف ما يحدث في اعماقها من ثورة:
"لا أغار... مبارك لها ...لتشبع به ويشبع بها.."
ردت عليها زوجة (عمر):
" هذا من وراء قلبك...لو حقيقة لقطعتيهما بين اسنانك......المهم اطمئني انا حجزتها لابني أنس .."
صمتت برهةً وتابعت ترمي زوجة (رامز) والدة الطفلة بازدراء مصطنع:
" رغم انني اشفق عليه من هذه الحماة النكدية..."
قال (رامز) زافراً أنفاسه :
" ظهر الحق وزهق الباطل.."
ثم وجّه كلامه لي هاتفاً:
" عش حياتك اولاً وبعدها ارتبط بالأولاد لأنك لا تعلم كيف ستنقلب حياتك الى نكد بمهارة الزوجات..."
تدّخل مذياع الشلة بخباثة:
" سامحك الله رامز....لمَ تنبهه؟!...كنا سنوقعه بالمصيدة ليعيش ما عشناه ونشمت به كما غدرنا يزن ....لا احد افضل من الاخر ...نطالب بالمساواة النكدية.."
اجابته زوجته متوعدة وبضيق مصطنع:
" هكذا اذاً؟؟....ليكن في علمك ..لن اترك اولادي بعد اليوم لأهلي لتتحمل رعايتهم انت أينما تذهب.."
هتف محاولاً ترميم أقواله رافعا اصبعه تائباً:
" الّا زوجتي رائعة....فهي تعلم كيف تبعد النكد عن حياة زوجها.."
نصبنا خيمنا في بقعة نظيفة منبسطة , خالية من الحجارة....شرعت النسوة بإخراج ما يخص الطعام لتجهيزه اما هي حصلت على اعفاء وجلست تشاهدهن ....جاء هذا لصالحها لأنها لا تستطيع تقطيع حبة خيار ابنة العز والدلال..!!
بعد فترة التحضيرات وقبل البدء بالشواء نوينا إقامة صلاة الظهر جماعة لأننا تغيبنا عنها بالمسجد فالوقت ادركنا على الطريق.....فرشت زوجة (عمر) البساط الكبير على الأرض لنصلي عليه وقبل اصطفافنا وتوجهي للإمامة , دنت مني بحياء محرجة هامسة بهدوء وتلعثم كأنها ستعترف بجرم:
" أُ...أُريدُ أن أصـ....أصلي..."
أشرق قلبي بشعاع الأمل رغم معرفتي انها طلبت ذلك تداركاً لموقفها بينهم كي لا تكون شاذة عن القاعدة وسطنا......ولْيكُن ذلك!! ...لا نعلم متى يشق الله لها نور الهداية ولربما سجدة منها تُقبل في السماء أكثر من سجدات المئات من امثالنا...لسنا نحن من نحكم او نوزع بطاقات الدخول الى الجنة والنار ...واجبنا ان نقوم بما فرض الله علينا وأن نُذكّر غيرنا إن نفعت الذكرى عسانا نكون سبباً لفتح باب الهدى لاحدهم ....!
شقت ثغري بسمة الأمل وأجبتها داعماً لها:
" حسناً ...سنرى من معها حجاب إضافي !!"
اسدلت اهدابها خجله , محرجة وهمست:
" كـ..كيف سأصلي ؟؟....انا لا اعرف الوضوء ولا الصلاة !!...."
اجبتها مبتسماً بحُب:
" سأخبر زوجة عمر لترشدك للوضوء....لا حرج بذلك...كل شيء له بداية ....لم نُخلق مستعدين.....كنا مثلكِ ...لا تخجلي او تترددي...تعلمنا وما زلنا نتعلم... وبالصلاة افعلي كما يفعل الجميع وسأعلّمك إياها لاحقاً ان شاء الله..."
قالت مرتاحة بابتسامة رضا:
" حسناً..."
باشرنا بالصلاة بعد ان وجدت حجاباً مع (ميساء)....كانت تحاول تقليد الحركات لا تفقه شيئاً منها حتى اتممناها ....وقفت من تسبيحاتي لأخطو انتعل حذائي فوقع نظري على هذا التجمع العجيب للكون في مخلوقٍ واحد....منذ متى كان القمر هو من يضم السماء؟!...هل اختّلّت الموازين؟!....وشاحها الأبيض يغطي ليلها ليبرز وجهها المنير كالبدر في أوج طلته وكماله , يحمل السماءان الصافيان ...ربااه على هذه الملاحة وهذا البهاء..!!.......كانت لحظة نادرة لها اقفلتها في خزائن مخي ملقياً مفتاحها بغرف قلبي الذي لم يعد يحتمل المزيد......خلعت حجابها امامي بتصدٍّ وتباهٍ بعد ان اخبرَتها عيناي برجائي الصامت " لطفاً...ابقي هكذا حبيبتي"....لكنها لن تكون (ألمى) ان فعلتها !!...
×
×
×
جالسة بينهن ووجهها متهلل يظهر عليه الحبور وهي تتبادل الأحاديث معهن بكل ودّ دون حدود...تأقلمت معهن الى حدٍ ما والسبب انهن هن من يجعلن الصنم ينطق بأرواحهن الطروبة.... كانت بينها وبين نفسها تشعر بالراحة لكونها تماثلهن باللباس الساتر فجميعهن محجبات... والّا لكانت محط الأنظار ولربما الانتقاد الهامس ....استوعبت سبب اصراري عليها لترتدي الفضفاض.!!.....لا أقبل ان تكون ظاهرة بتبرجها ولا اطيق ان تُذكر بسوء بين أصدقائي...أريد أن يبقى شأنها مرفوعاً ...أنا أخاف وأغار عليها...أخاف عليها من غضب الله وأغار على سمعتها ومن ان يرى سحر جمالها غيري.....شيء يجثم على صدري يخبرني انها ليست لي في دنيتي فأتمنى ان ترضي الله في دينها لألقاها بين الحور العين ولتكون وحدها حوريتي في جنتي..!!....ستقولون أناني ...تمنيتُ هذا لها من أجلي ؟!!....نعم.... ان كان تمني الخير لأفوز بمن أحب ومن يخصني يعتبر أنانية فسأكون انا مصنعها ولا أبالي.....!!
كنتُ مشغولاً في اشعال الموقد الفحمي لتبدأ حفلة الشواء ومن حين لآخر اكلم هذا وتلك بمزاحات ودعابات الّا هي لم أوجه لها شيئاً خاصاً دون قصد ......كانت وظيفتها مراقبة كل حركة وهمسه تبدر مني .....هتفت (ميساء) من بعيد وهي ترفع طبقاً مغلفاً بالقصدير :
" أخي يامن ...أمي حضّرت لك هذا خصيصاً....خمّن ما هو ؟!.."
رميتها بابتسامة محاولاً احتباس حماسي بعد رؤيتي للتي تجلس بملامح عابسة وهي تترصد تحركاتي وحدسي اعلمني انها منزعجة من قربي لهذه الفتاة....فقلت واثقاً ببرود:
" كعكة الشوكولاتة....ما غيرها؟!"
وانشغلتُ مجدداً بالموقِد.....فقال (عمر) ساخراً:
" يا لك من ساذج يامن....انت لا تدري لمَ هذه المقدمات ولمَ هذه الرشوة !!.."
عدّلت جلستها تتجهز لاقتناص الحكاية بشكل أوضح ناصبة كافة حواسها معه فرمقتُه بفضول رافعاً حاجبي هامساً:
" هيا اتحفني سيد عمر.."
قال وهو يتجه لجلب اللحمة من عند زوجته شامتاً:
" لقد حصلت ميساء على المرتبة الأولى في صفها بمهمة الرياضيات التي ساعدتها بها.....لذا طمعت امي وارادت ان تساعدها بمهمة العلوم..."
تبسمتُ مجيباً بصوت راكز مسموع:
" أنا بأمر خالتي ام عمر....سأساعد ابنتها في كافة المواضيع ما دام الثمن كعكة الشوكولاتة..."
قفزت شقيقته هاتفة باندفاع:
" رااائع اخي يامن.."
رمقت اخيها بازدراء مصطنع:
" ليس مثلك فاشل لا يهمك الا معدتك.."
رد عليها ببرود متهكماً:
" وهو سيفعلها من اجل معدته وليس بنية الصدقة..."
جلست (ميساء) جانب (ألمى) وهي تضم ساقيها لصدرها وتحيطهما بذراعيها وتتأرجح بظهرها بسرور , تنظر لي وتتحدث لها عني... همست للتي بجانبها ببراءة:
" انتِ محظوظة بأخي يامن.....ستجدينه متى تحتاجينه لدروسك او حتى لأي شيء آخر فهو شخص معطاء لا مثيل له.."
يبدو ان التراكمات وصلت الحد الأقصى في جوفها ولم يعد اتساع لها فأرادت افراغ القليل منها في مكانٍ ما فنطقت بحماقة وبرود قاتل يخفي خلفه مشاعر الغيرة:
" هل حقاً يعني لكِ يامن بأنه أخ؟..ام شيئاً اخراً...؟؟"
التفتت لها بملامح مبهمة سائلة:
" لم افهم.....ماذا تقصدين؟!.."
نظرت لها نظرات باردة وتابعت:
" كحبيب مثلاً.."
صعقت من هول ما القت عليها من اتهام دنيء...لم تكن مستعدة لتسمع هذا...ابتلعت ريقها وهمست بصوت متحشرج مخنوق:
" ماذا؟؟؟....كـ..كيف تتجرئين على قول هذا لي ؟!.."
اجابتها بنفس الأسلوب السابق :
" لا تنكري...هذا واضح ....يوجد انسجام بينكما..."
أمالت قليلاً جسدها نحوها وهي تصك على اسنانها بوجهٍ كحبة البندورة وعيناها محتقنة بدموع الخذلان ثم همست بتهديد:
" سأدّعي أنني لم اسمع شيئاً من كلامك المسموم لأنه ان وصل لشقيقي وأخي يامن سيحدث فتنة وتوقعين بينهما ..."
ابتلعت ريقها وأضافت بشيء من الازدراء:
" حقاً انا مصدومة منك ومن كلامك.."
انهت جملتها وانتفضت واقفة تتجه بعزم نحو الأعشاب تتهرب من رؤية احد لوجهها الأحمر المهزوم ثم جلست على صخرة واجهشت بالبكاء رغماً عنها.......استلم مهمة الشواء عني (رامز)....توجهتُ الى حيث يجلس (يزن )و (عمر) قرب النساء....فقال الأخير:
" اذاً لتأتي ميساء بدفترها ما دمت متفرغاً.."
نظرتُ الى المكان حيثُ كانت تجلس فلم أجدها.....وقع نظري على وجه (ألمى) الممتقع وهزة قدمها المضطربة....رفعت رأسي باحثاً عن الأخرى لشعوري بوجود خطب ما .....نهضتُ متجهاً اليها بعد رؤيتي انعزالها ولما دنوتُ اكثر هالني منظر وجهها الباكي فسألت بتوجس:
" ما بكِ ميساء ؟...لمَ تبكين؟؟"
اجابت وهي تكفكف دموعها :
" لا شيء اخي يامن...عُد مكانك ارجوك"
غيرتُ الموضوع احتراماً لخصوصيتها رغم قلقي والذي سببه الأكبر ان يكون علاقة لتلك بحالها:
" هيا احضري مهمة العلوم لنبدأ ريثما يجهز الطعام..."
ردت بضيق ونبرة حازمة:
" لا داعي اخي يامن...انا سأقوم بحلّها...ليست بهذه الصعوبة.."
رفعتُ حاجبي سائلاً بفضول:
" لم يكن رأيك هكذا....اخبريني ما بكِ؟"
قالت متهربة بحدقتيها:
" صدقني لا شيء.."
هتفت ادلي بتوقعاتي :
" هل ألمى السبب؟؟...أجيبيني"
اومأت برأسها نافية وهمست بوهن:
" لا.."
تركتها وعدت الى المجموعة بملامح جافة ولما وصلتها همست بهدوء دون ان أُشعِر أحد:
" اتبعيني الى السيارة.."
انصاعت بلا مبالاة....ولما ابتعدنا همست من خلفي بنبرة باردة فيها الغرور:
" ماذا اخبرتك شقيقة صديقك؟!."
وقفت فجأة مستديراً نحوها فارتطمت بصدري شاهقة بتوتر:
" مـ...ماذا تريد؟!"
رمقتها بنظرة نارية مشدود الفكين هامساً بقوة:
" ماذا قلتِ لها ؟!...هي لم تخبرني شيئاً...لكنني رايتها مسرورة بجانبك وفجأة تحولت الى هذا الحال؟!.."
نكست رأسها للأسفل وهي تلعب بأصابعها مرتبكة واجابت بتردد:
" سألتها..عن...عن...مكانتك عندها...يعني اذا تراكَ كأخٍ لها...أم ...أم.."
" أم ماذا.؟!..تابعي "
صرختُ بها فاجابت بصوت مهزوز:
" أنها تراكَ..كـ....كحبيب"
قبضتُ ذراعها بذهول وهززتها هاتفاً بغضب اوبخها:
" يا لكِ من وقحة....كيف تسمحين لنفسك بهذا....ماذا ان سمعك شقيقها ؟!....حتى لو كان يوجد شيء كهذا فهو ليس من حقك !!....ميساء اعرفها قبل ارتباطي بكِ وكانت هي اكثر من فرح لخطبتي لأنها بقلب محبّ لا تحمل الضغينة به....لقد احبتك دون معرفتك فقط لأنك تخصيني ....لكنك كشفتِ لها بغبائك معدنك الرخيص ..."
كانت تبكي تحاول تحرير يدها من قبضتي وهي تتألم قائلة:
" اترك يدي...انك تؤلمني ..."
اجبتها وانا احرر يدها بغلّ:
" ليس بالألم الذي سببته لها.... ستعتذرين منها والّا لفعلت انا باسمك امامهم جميعاً...."
انهارت تجثو على الأرض تحجب وجهها بكفيها وعلا صوت بكائها حتى أطلقت رصاصات اوجاعها التي تجتاح صدرها لتصيبَ فؤادي وهي تقول :
" أنت السبب....انت!!......اشعر انك مجبرٌ عليّ.....تعاملني كعدوة لك...لا اعرف ما ذنبي !!....رغم علمي انني صفقة الّا أنني تأملتُ ان نفتح صفحة جديدة واعطي علاقتنا فرصة....لكن ارتباطي بك هو مجرد صفعات ....اردتُ الانفصال عنك فصفعني أبي لأول مرة على وجهي ليلحقها بصفعة على قلبي عند قوله لي أني صفقة ....رغبت بأن اتقرب منك لأرضى بنصيبي لكنك تصفعني بروحي....كنتُ اقنع نفسي انك جامد وهذا اسلوبك...لكنني اكتشفتُ اليوم كم أنت لطيفٌ مع الجميع الا انا !!.....طفلة صغيرة تتغزل بها بكل حب ... فتاة غريبة تتعامل معها بكل رقة وود....اصدقائك تستطيع المزاح والقاء الدعابات معهم...نساءهم تعاملهن بكل رقيّ ووقار....ماذا سأخبرك ايضاً ؟!......مثلاً...أكان شاقّاً عليك اعلامي وانت تشتري لي الملابس انهن محجبات ولن أكون مرتاحة ان كنت مختلفة بينهن ؟؟!!....فقط أوامر وتسلّط....هل اخبرك انني سمعتك عندما قلت ألمى يا فاتنة لكنك استكثرت عليّ اعادتها ؟!...كنتُ احتاج سماعها لأرضي غروري كأنثى عريسها يتغزل بها....اهتزت ثقتي بنفسي ...ابحث عن عيوب بشكلي وشخصيتي .....هل كلماتك لي تكون بهذا الثقل على لسانك؟!....في الأمس اخبرتك انني سأدرس مع صديقاتي ليشرحن لي موضوعاً لا أفهمه لأنني تغيبت عن جامعتي ....وكان هذا بسببك يوم اردت الانفصال عنك...فخسرت الكثير الكثير...وماذا؟!....لم تحرك ساكناً كالصنم من غير مشاعر ...تتبجح ببطولاتك في الرياضيات ...لم تتكرم عليّ بعطائك وتتطوّع او تتنازل وتقول لي رافقيني ولا تقلقي انا سأشرحه لكِ...هل كان سينقصك شيء لو فعلتها ؟!!.....أما هي تغدق عليها بعلمك دون ان تفكر ...أتعلم ؟!....انا جالسة جانبها وهي تمدحك ...تصوّر....تعرفك اكثر مني وانا عروسك !!....كنتُ اصغي لها صامتة وبراكين تتفجر في باطني !!.....هل أصفق لكما ام ماذا أفعل ؟!....نعم أنا آسفة لما تفوهت به لها لأن ليس ذنبها بمعاملة من يسمّى خطيبي معي ..أنا آسفة لأني لم استطع صون كرامتي واظهرت غيرتي الحمقاء ....لكنني لستُ آسفة لك...ان كنت تسعى لكي لا تحبني واحبك...اطمئن....فأنت تكرهني وانا بدأتُ اكرهك..."
كنتُ أقف مكاني مستمعاً على غير هدى ...قلبي ينزف وروحي تحتضر....هل قالت اكرهها ؟!...الا تعلم أنني أحبّها قدر كراهيتي لوالدها وأني أكره نابضي الخائن من شدة حبه لها ؟!....
كلماتها عرّتني من نفسي !!.....هل انا بهذه القسوة والبشاعة ؟!....هل انا ظالم لها وهي الأولى بايجابياتي..؟!!.... اعرف مدى فظاظتي...لكنني لست لئيماً..... حاولت ان اجمّد علاقتي بها كي لا تحبني واكسرها في المستقبل لكن يبدو أن انهيارها هذا هو الأصعب وأنا اغرز خناجر صلابتي بها دون ان أحسّ....لقد قتلت روحها النقية وانوثتها الفتّاكة بإجحافي معها ....سامحيني حبيبتي ....تحملي قسوتي وبخلي ....انا اتعذّب اضعاف عذابك ....لا استطيع ان افرش لك الأرض بورود الحب فالدمّ بيننا والوطن يفصلنا....لن يكون ربيع في حياتنا ....ستمر فصولنا الأربعة عاصفة بنا ....انتِ ألمي في الدنيا...فأرجوكِ كوني أملي في الآخرة.....
ما زالت تبكي وانا متسمّراً مكاني كالحائط ....يجب ان افعلها الآن او سأقسم ظهرها الى الأبد....بدأتُ ادنو منها ببطء حتى صرتُ امامها وشبراً يعزل وطنينا... حضني وعينيها !...مسحتْ دموعها بكفيها ونظرتْ لموضع قدميّ ثم رفعت رأسها بالتدريج حتى وصلت قمتي ....أتعلمون ماذا رأيت في سمائها ؟!....كانت تلك النظرة هي بذاتها من عشر سنوات عندما زارت مخيمي وأصبحت رؤيتها ضبابية تشعر بالرهبة , خائفة من صوت انفجار البالونات تبحث عن الأمان ....نفس النظرة لكن الانفجارات داخلها ووحدها تعاني من سماعها!!....لن أكون الهادي ابن محيي الدين الشامي ان لم أفتح لها حضني وهي تستعطف الأمان في حضوري.... فأهلاً بكِ يا ملجئي وسمائي لتدوسي على قلبي وتنثري دمائي....
جثوتُ بمحاذاتها....انزلتْ رأسها هروباً فجذبتها بطلاقة قبل ان تقاوم لتقع في احضاني وتوقعني معها ارضاً لأصبح انا اريكتها وهي فوقي اطوق ظهرها بذراعيّ احاصر يديها على صدري ووجهانا متقابلان ....حاولت أن تتحرك بعنف لتتحرر مني فهي كانت في قمة الغضب والتحطّم ولا تطيقني.....عززتُ من حصري لها لتستكين وهمست لها نادماً :
" آسف ألمى ...لم اتعمد جرحك.....سامحيني"
امتثلت وسلّمت زمامها لي في احضاني دون ان تبدي أي ردة فعل كالشاه المستعدة لنحرها....ثم سلّطت عينيها السماويتين على عينيّ الترابيتين .....سارحة , شاردة , حائرة... في داخلها تفكر " هل جميع الاحضان متشابهة ؟! ...لكن حضن ابي مختلف ليس بنفس الاحساس!! ...حتى صلاح لم يكن شعوري هكذا عندما حضنني المرة الوحيدة في خطبتنا !!...لمَ بدأت تتسارع دقات قلبي الآن ؟ لمَ اشعر بجاذبية قوية وبقيت مكاني مثل البلهاء راضخة له؟!.....ليس بيدي...حضنه غريب , مريح ...إنه ....إنه يذكرني بذاك الحضن ؟!....يا الله بدأتُ أهذي.!!....عيب ألمى عيب .....ان علم بم تفكرين سيحرقك على الفور ...هذا مجنون.....اوف....وانا ايضاً سأجن ....سحقاً لهاتين العينين المكحلتين!! ......هل اجبر نفسي على النهوض قبل أن افقد السيطرة وأقبّل هذه الرموش ؟!......يا لأفكارك المنحرفة يا ألمى ".....
فقط نظرات نرسل خلالها ذبذبات الحب وكلٌّ منا شاردٌ بأفكاره ونواياه.!..
فأنا على حين غرة وهي بهذا القرب تذكرت قلم الشفاه اللامع الذي لامس شفتيها....هل مسموح أن أتذوقه ؟!....ليس لشيء ...فقط لأعلم أي نكهة تحب وأجلب لها مثله هدية ؟!.......أصدقتموني ؟!...ايّاكم.... انا نيتي سيئة بهذا... ليس مثلها أقصى امانيها كلمة لطيفة ......لكن مع الأسف محروم بإرادتي كي لا أضعف وأغرق.....
بينما نحن على هذا الحال فجأة انفجرت ضاحكة وانا تبعتها اضحك لضحكتها لا يهم السبب.....بالنهاية تصافينا .....فهذه هي ألمتي الطيبة التي تجعلني متيّماً بها يوما عن يوم.... من تتحول بسهولة وتنسى ....كلمة تكسرها ولمسة تجبرها....!
تململت لتنهض فعصرتها بذراعيّ....استكانت مجدداً بارتياح فقلت بمكر :
" هل اعجبك وضعنا ؟!...سيمسكون بنا بقضية مخلّة للآداب "
ارتعدت حياءً ووجهها متوهجٌ ...حررتها فوقفتْ وبدأت تنفض التراب عن ركبتيها....نهضتُ من مكاني وفعلت بالمثل لكن من الخلف ...قلت لها :
" انفضي التراب عن ظهري....سيفضحنا عمر ....لا يفوته شيء !!"
اقتربت على استحياء......يا اللـــه !!.... طلبت منها ان تنفضني لا أن تحسس وتـ.... استغفر الله ...اين انت يا صبري؟! ...
" ألمى.."
" ها..؟!"
الـ (ها) بصوتها لوحدها دمار شامل....قلت:
" انا افتح لكِ المجال لتنتقمي مني....انفضيني يعني اضربيني ليزول التراب....ألم تري الخادمة كيف تطرق الفرش في بيتكم ؟!....افعلي مثلها واخرجي غلّك.....لا تتعاملين مع ظهري كأنه وجهك وتوزعين كريم الواقي عليه بنعومة "
عدنا الى المجموعة فشغّل الإذاعة خاصته :
" أين اختفيتما ...ها...أتظنا أنكما لوحدكما سيد يامن ؟!....الليل طويل تستطيع أخذ جرعاتك كما تشاء.."
" عمر اصمت ..."
نهرته عن غلاظته ثم اخذتها جانباً وطلبتُ منها لتذهب وتعتذر من (ميساء)...لم ارد ان اتدخل بينهما وتركتهما على راحتهما....
×
×
×
" ميساء....أنا آسفه...سامحيني.....لا اعلم كيف تفوهت بهذا؟....ليس من طبعي...اعتذر منكِ..."
تبسمت لها ببراءتها ونقاء روحها ومدت يدها تصافحها ثم شدتها بلطافة تجلسها جانبها وقالت وهي تسرح بالأعشاب امامها:
" انا ايضاً آسفه اذا حماسي واندفاعي جعلك تسيئين الظن ......صدقيني أخي يامن بمقام عمر شقيقي....نحن نحترمه ونحبه كابن للعائلة ....فهو رغم اسمه ومكانته متواضع لأبعد الحدود ولا يشعرنا بالفرق بيننا..."
التفتت نحوها ووضعت يدها على كفها وتابعت:
" سأخبرك سر لتطمئني !!...لكن لا تبوحي به لأحد ..."
ارتسمت ابتسامة بريئة وهي تستعد لسماعها....فاستطردت الاخرى:
أنا وابن خالتي نحب بعضنا ....هو ينتظر انتهاء ثانويتي ليتقدم لي....يعرف بحبي الأخوي ليامن ولا ينزعج لأنه يثق بي.....وأنتِ افعلي هذا وثقي بحبيبك.."
قالت وهي تنظر لي من بعيد وتتذكر الصفقة :
" جميل الحب ..حافظي عليه.....مثلًا انا ويامن لم نرتبط عن حب...خطبتنا وعلاقتنا تقليدية..."
ردت عليها ضاحكة:
" كدتِ تشعلين بي النار واخي يامن عيناه تلتهمك وتقولين علاقتكما تقليدية؟!....حسناً ممكن في البداية كنتما كذلك لكن نظراتكما تفضحاكما...لا تحاولي اقناعي بغير هذا..."
جاملتها بابتسامة واستمرتا بالثرثرة حتى نادتهما زوجة (عمر):
" هيا ايتها المدللتان ...الطعام جاهز..."
افترشنا الأرض نجلس على شكل حلقة حول المائدة كل واحد بجانب شريكته....لم تمد يدها لطبقها فوكزتها بخفة هامساً:
" كلي ولا تفوتي الفرصة.....اذا انتظرتِ دقيقة ستغدين في صحراء قاحلة بفضلهم .."
ثم مسكت سيخ لحم اناولها إياه...اخذته ووضعته بالطبق...فسالت بتوجس:
" ما بكِ؟..لمَ لا تأكلين ؟!."
اجابت بخجل:
" لا احب لحم الخراف....آكل فقط الكباب.."
تبسمتُ هامساً بحنوٍ:
" حاضر.."
ومددتُ يدي احمل طبق الكباب الكامل وأضعه امامها فشهقت بوجهٍ محمرٍّ هامسة :
" ماذا تفعل؟...اعده مكانه....سيظنونني مفجوعة !!"
نطق من يصطاد المواقف:
" من ينظر لكِ سيدة ألمى لا يتوقع انك تأكلين كل هذا...تذكري أن لك أخوة جياع من فضلك...."
ازداد وجهها توهجاً وتمتمت محرجة:
" أرأيت ؟!.."
قلت بصوت مرتفع:
" لا تهتمي له......هو يريد احراجك ليبقى الطبق له.....ان لم تكوني ذئبة سيأكلك هؤلاء الذئاب..."
ثم مسكتُ قطعه وقربتها من فمها...قضمت منها برقة وحياء وهي ترفع اهدابها لتسطع سماؤها بوجهي....فتنحنح (رامز) هاتفاً:
" احم احم...نحن هنا....ستشعل الفتنة سيد يامن"
اخذت ابنته من حضنه ..وضعتها على حجري واطعمتها من الكباب وقلت:
" ها انت متفرغ سيد رامز...اطعم زوجتك قبل ان ينزل الطبق على رأسك"
قال (عمر) ساخراً:
" ما ذنبنا نحن لتفسد بيننا وانت تطعم دميتيك بهذه اللطافة والرومانسية.."
ضربته زوجته بمرفقها على معدته فقال بصوت مختنق وهو يسعل :
" خذ...ها انا اول ضحايا الفتنة "
قالت زوجته بتصنع منزعجة:
" تعلّم يا هذا......فقط تعرف كيف تأكل ولا تعرف كيف تطعم"
امضينا جلستنا بالحكايات المنوعة ...تمشينا قليلاً بين الورود والتقطت لها بعض الصور بهاتفها وصورة ذاتية بهاتفي لنا وانا اضع ذراعي على كتفيها والخلفية السماء والازهار ....عندما حلّ الليل سهرنا على اضاءة المصابيح التي تعمل على البطّاريات ...تناولنا الفواكه والمكسرات بأجواء مرحة مع مشاحناتهم الزوجية وانهينا ليلتنا بشرب الشاي المغلي على الفحم مع كعكة (ام عمر).....نفذت الطاقات من الجميع فدخلوا خيمهم يستقرون....كانت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل....بقينا انا وهي وبدأت نسمات باردة تلفحنا ...هكذا يتبدل الجو الى بارد ليلاً في هذه المنطقة ...كانت تجلس تحتضن ذراعيها تضمهما الى صدرها وانفها ورديّ من صفعات البرد فهمست لها بحنان:
" هيا ادخلي الى الخيمة ونامي..."
سالت بارتباك:
" وأنت؟."
" لا تخافي...لن ادخل....اطمئني ...لا اشعر بالنعاس..!!"
اومأت لي بنعاس موافقة ثم نهضت هامسة بتثاؤب:
" تصبح على خير..."
رسمت ابتسامة خفيفة وهمست بهدوء:
" وانتِ من اهل الخير.."
بعد ان دخلت الخيمة جمعتُ بعض الاغصان الصغيرة اليابسة , حوطتها بحجارة عند حافة الجبل قريباً من المنحدر ...اشعلتُ ناراً تؤنسني , التمس منها بعض الدفء وانا اسرح بالمنظر الليلي حيث يُعكس البدر على وجه بقعة ماء النبع والبيوت الخشبية تلمع بقناديلها تتلألأ كالنجوم وكأننا اصبحنا بين سماءين من فوقنا وتحتنا.......مرّت ساعتان وانا مكاني مرة العب بهاتفي ومرة اردد ما تيسر من الآيات بصوت خاشع خفيض ..احمل عصا صغيرة , ارسم بعشوائية على التراب...سمعتُ خطوات انثوية من خلفي فعرفت انها هي ...استدرت بوجهي فوجدت ملامحها مذعورة وانفاسها لاهثة فسألت قلقاً:
" ما ايقظك؟!.."
قالت بنبرة خائفة:
" نهضت لأشرب فلمحت صرصوراً داخل الخيمة....جئت هنا على الفور قبل أن يطير عليّ.."
اطلقت قهقهة ...ذكرتني بشقيقتي (دنيا) وافلام الرعب مع الصراصير....سأجري بحثاً لأفهم ما مشكلة أولئك الفتيات مع هذا المخلوق البريء.....حركت رأسي مستنكراً ثم نهضت هاتفاً:
" هيا لنطلق النار على هذا الدخيل.."
سبقتها وقتلته في مكانه والقيت به خارجاً ثم طلبت منها الدخول وعدتُ الى ناري....بعد لحظات عادت نفس الخطوات لتتوقف في مسافة معينة ...التفتّ للخلف وجدتها تجلس على الأرض , تضم ركبتيها لصدرها تحاول تدفئة نفسها فسألتها مازحاً:
" هل عاد ابنه لينتقم؟!.."
ضحكت ببراءة واومأت نفياً براسها..فأردفت:
" اذاً من الأفضل ان تذهبي لتنامي....داخل الخيمة اكثر دفئاً .."
قالت محرجة وصوت رقيق:
" لم أرتح....أخاف ان يأتي غيره.."
عدت بوجهي الى ناري وهي ورائي وضحكت هاتفاً:
" مشغولون الآن بتشييع جثمان صديقهم...اطمئني.."
تبسمت بأنفها المحمرّ وقالت مازحة:
" أشعر أنك تريد اقصائي بأي طريقة ....هل يزعجك وجودي؟!.."
حمقاء...كنت افكر بها قبل قليل ...تمنيتُ لو انها مستيقظة لنتسامر سوياً...أجبتها نافياً بهدوء وانا اكمل بالعصا لوحاتي مولّيها ظهري:
" أبداً ....اقول ذلك من اجلك...لترتاحي"
" لا ارتاح داخل الخيمة.."
" كما تشائين....انت حرة.."
استدرتُ مجدداً لها وهمست:
" اقتربي من النار...ستبردين"
هل أنا مجنون؟!...كان يجب اقناعها لتعود للخيمة بأي طريقة....لم شجعتها لتأتي؟......يا الهي ..كيف سيكون قرب النار من البارود ؟!...
دنت مني موازية لي ومسافة متر بيننا...جلست وهي تمسح كفيها ببعضهما من البرد....فالنار شعلتها صغيرة ويجب الالتصاق بها لتشعر بحرارتها....
" تعالي...اقتربي اكثر من النار.."
طلبت عاطفاً عليها....تحركت تزحف حتى وصلتني ...همست وهي تنظر للأمام:
" يا له من منظر رائع.."
تأملتها بنظراتي فوجدت انعكاس القمر في سمائها وضوء النار يتحرك راقصاً على وجهها ليحدث مشهداً ابداعياً آخراً من صنع الخالق ...اجبتها بصوتٍ هامسٍ مبحوح يتدفق منه المشاعر وانا سارحٌ بجمالها:
" بل منظر نادرٌ, ساحرٌ.....يكاد يقتلني "
شعرتُ ببرودة جسدها من رعشتها ....فمددت ذراعي احوط كتفيها وانا اضمها لصدري ...مسكتُ يسارها بيميني اغلفها بقبضتي لأوهبها الدفء من لهيبي ...رفعت رأسها عن صدري تحدّق في وجهي وهي مطوقة بذراعي وهمستْ:
" ويقتلني ايضاً.."
شددتُ باحتضانها وهيمن علينا الصمت يعقد السنتنا عن الكلام والهمس , يترك خافقينا يتفاعلان بفعل هذه الجاذبية الحارقة ....املتُ رأسي نحوها اداعب انفها الأحمر بأنفي ...حجبت سماءها بأهدابها, رافعة رأسها مستسلمة بشفتيها لحتفها فأغلقتُ بوهن جفوني على أرضي وأنا بشفتيّ احفر قبري لنستقبل معاً قبلة الموت لكلينا.....شعرة غير مرئية بيننا تفصل شفاهنا قبل ان نسقط في الدرك الأسفل من العشق المحروم علينا ...ففززتُ من مكاني لأتلافاه متوجهاً الى حافة المنحدر وانفاسي متهدجة , امسح بيدي على رأسي بغلّ ونفحات الهواء لم تقدر على تبريد هيجان قلبي ولا على مشاعري التي كادت تجرفني مع تيار الغرام , تاركاً خلفي انثى جريحة تبكي مدراراً من قسوتي وضعفي.......التفتّ الى الخلف بعد ان كابدت ململماً بقايا روحي فلم اجدها !!...رفعت رأسي ناظراً لخيمتي فلمحتُ الطرف الأخير من عباءتها وهي تدخلها لترثي نفسها وخيبتها مني....ليس ذنبك ألمتي!! ....لا ينقصك شيء يا زهرة في ربيع العمر يا نجمة تضاهي في جمالها القمر يا براءة ينشرح بها الصدر يا حمامة بيضاء تحمل غصن الزيتون لتنثر السلام وسط الحرب والغدر.....سامحيني حبيبتي...!!
↚
الى متى سيرافقني هذا الصراع بين قلبي وعقلي ؟!!.....كأنهما يخوضان لعبة شد الحبل وفي كل مرة يزدادان متانة وتصلّب ...لا يهزم احدهما الآخر....اذا كان قلبي في بعدها يحبها فإنه ينبض عشقاً في قربها مما يزيده تمسكاً وقوة وعقلي آه من عقلي الذي لا ينام ولا ينسى ...دائماً يذكرني من أكون ومن حبيبتي تكون !....لا ادري ان كانت هذه نعمة ام نقمة !!...فهو يدفعني دائماً لأمضي في مهمتي بعزيمة وإصرار حتى انتصر نصراً في نهايته سأكون المنتصر والخاسر.....
أشعر بصداع سيفجر دماغي ...أريدها بشدّة ...مع كل نسمة أتذكر فيها عطرها اريدها ....حفرتُ اسمها على دمائي ..رسمت جمالها في قرنتيّ....سجنتُ روحها بين ضلوعي ...سرقتُ نبضاتها لخافقي ....كتمت أنفاسها برئتيّ....من يقول أن الاوكسجين هو الحياة ...خاطئ !!...فأنا أعيش لأني اتنفس عشق الألمى ....احتاجها ,اريدها ولكن.....!!
لقد اوقعتنا الحياة في منحنياتها ونحن مجبرون على خوض المغامرة....مغامرة يكتبها القدر لنا نكون بها خصوم متّحدين ....لا نستطيع تفسير ذلك لأنفسنا.؟!......صعب ..صعب جداً الحال الذي انا فيه ...إني اتمزق ولن أجد من يخيط جروحي ..!
×
×
×
" اريد العودة الى البيت.....انتهى اليوم والليلة"
أقبلت نحوي هاتفة بجفاء وعيناها كالجمر بينما كنتُ عند سيارتي اسحب هاتفي من الشاحن بعد شروق شمس يوم السبت.....نظرتُ لها بهدوء ثم اعدتُ حدقتيّ لما بين يدي اتفحص الوارد من الرسائل واجبت بلا مبالاة :
" ما زال الوقت مبكراً...لم نبدأ بالمغامرات "
ردت حانقة:
" لا تهمني المغامرات....فعلت ما تريد ولديّ امتحانات...لست متفرغة مثلكم"
قلت ببرود دون النظر لها:
" لننتظر حتى الظهر وبعدها نعود "
هتفت مصممة:
" لا اريد....جِد لي سيارة اجرة وابقَ انت !!.."
التفتّ اليها بابتسامة هادئة:
" لا تكوني عنيدة.....بعد الظهر نذهب ."
علا صوتها بحدة:
" انت لا تفهم ؟!....لا ارغب بالبقاء ...اريد العودة...لم أتكلم هندي !!"
سحبت انفاسي وزفرتها بهدوء وقلت وانا التفت بكامل جسدي اليها محاولاً الحفاظ على برودي:
" لا تخلقي مشكلة ....اصبري وفي المساء سآتي لأشرح لك ما تريدين"
صرخت غاضبة:
" استطيع تدبير أمور دراستي بنفسي....فقط اوصلني الى بيتي كما جلبتني مجبرة "
حدّقت بها لثواني بعد ان صرعت دماغي بإصرارها ثم قلت مبتسماً بقهر :
" حسناً انا مخطئ بما حدث بالأمس أو بالأصح بما لم يحدث.....اعتذر "
قطبت حاجبيها وبرقت عيناها وقالت :
" ماذا تقصد ؟!..."
" ألمى ...تعلمين ماذا اقصد.."
نطقت كلماتي واستدرت مجدداً نحو باب سيارتي المفتوح وعدتُ لتفحص هاتفي فدنت اكثر مني تمسك ذراعي , تسحبه من بين يدي وتلقيه في الداخل على المقعد هاتفة باستياء :
" لم ننهي كلامنا لتتجاهلني وتعبث بهاتفك .....انظر اليّ ووضّح قصدك .."
رفعت رأسي ناظراً للسماء مستغفراً ثم مسكتها من ذراعها ودفعتها بلطف على السيارة واسندت كفيّ على النافذة فوق كتفيها احبسها بجسدي منحنيا ووجهي قريب من وجهها وقلت وانا أتأملها بجرأة اخْجَلَتها :
" ها انا انظر اليكِ كما تريدين يا قطة "
بدأ صدرها يعلو ويهبط انفعالاً من وهج أنفاسي ....
" ابتعد عني...هذا يسمى تعدّي للحدود وليس نظر "
قالتها بصوت خفيض ويديها على صدري تحاول ابعادي ...فهمستُ قرب اذنها :
" سأشرح لكِ بالتطبيق العملي ما اقصد ....المْ ترغبي بذلك ؟! "
دفعتني بقوة بعد ان فهمت ما أعني ورفعت يدها محرجة لتصفعني على خدّي هاتفة بغضب:
" اصمت...وقح"
طوقتُ بقبضتي معصمها قبل ان تصل وجهي ثم قربت ظهر كفها لشفتيّ وقبّلتها وانا محدّقاً بها كأنها لم تفعل شيئاً وهمستُ بنبرة بين الصلبة والليّنة :
" هذه اليد الرقيقة تستحق القبلة الان , فأنتِ تحتاجينها لامتحانك...لكن مستقبلاً لن تكرري حركتك.....اتفقنا ؟!..."
قرصتها من وجنتها برقة وأضفت بنفس النبرة:
" لأني لستُ مسؤولاً عن ردة فعلي حينها.."
وانتصبتُ بوقفتي قائلاً بجدية :
" سأجلب اغراضي واستأذنهم ....انتظريني في السيارة "
اعتذرتُ من أصدقائي بحجة امتحانها وعدتُ حاملاً خيمتي بعد ان وضبتها ....وضعتها بصندوق السيارة ثم اخرجتُ بلوزة نظيفة سوداء...خلعتُ المشبّعة برائحة الدخان وارتديتُ الأخرى....كانت تجلس في المقعد الأمامي عابسة وترى انعكاس صورتي بالمرآة الجانبية ...اتجهت الى مقعدي ومددتُ يدي للدرج أمامها أُخرِج زجاجة عطري انثر رذاذه على ملابسي ثم القيته مجدداً صافعاً باب الدرج الذي تحمّل ذنبها وشغّلتُ المحرك ....دعستُ على الوقود دون الالتفات نحوها او توجيه حرفاً لها وهي كذلك ....
في منتصف الطريق رفعت هاتفها تتصل بإحدى صديقتيها وقالت بهدوء :
" هل انتهيتما من الفصل المعقد ؟!.."
" لم نحل معظم تمارينه ونحن من كنا موجودات حينها ....ماذا ستفعلين انتِ ؟"
سألتها صديقتها لتجيب حائرة :
" لا اعلم ....ربما أبعثها لصلاح وأرى ان كان يستطيع شرحها لي .."
يبدو انها غفلت مع من متواجدة ونسيت نفسها!!....دعستُ على الوقود بغيظ لأزيد من سرعتي عند سماعي لاسم البغيض فانتبهت لما تفوهت وهمست بارتباك للتي تكلمها :
" سأكلمك لاحقاً ميار....الى اللقاء.."
انهت مكالمتها ووضعت هاتفها بحقيبتها ولاذت بالصمت !!.....فتحتُ المذياع على محطة الاخبار الهي نفسي واقتل الهدوء الممل بيننا..... لقد ثبتت دون ان تثرثر او تختلق شيئاً لنتجادل حتى وصلنا بيتها ...فتحتْ بابها وقبل ان تترجل تنحنحتُ وقلت وعيناي للأمام:
" انتظريني مساءً..."
هتفت بعزة نفس:
" لا تتعب نفسك...أستطيع حل اموري..."
ضحكتُ متهكماً ودمائي تغلي وقلت ناظراً اليها:
" هل امورك تحل مع ذاك الصلاح ؟!.."
ردت واثقة بتعالي :
" اظن هذه من الشروط التي لا تهمك ....ما بكَ مهتم؟!.."
اجبتها بهدوء :
" تهمني او لا تهمني انا اقرر ذلك متى اشاء.."
حدّجتني متسائلة :
" هل أنت تعاني من حالة انفصام ؟!.."
غمزتها هامساً بصوت رزين:
" بالضبط.....تصرفي على حسب حالتي !"
قالت هازئة:
" لست مجبرة على ضياع دروسي ومستقبلي بسبب مزاجك الفريد.."
ثم قفزت عن مقعدها وهي تسحب حقيبتها الصغيرة قبل ان ارد عليها وكالعادة يكون الباب ضحيتها .....
~~~~~~~~~~~~~~~
وصلتُ بيتي منهكاً نفسياً وجسدياً وبعد الاستحمام ارتميت على فراشي الأرضي لأعوض ما خسرت من ساعات نومي....استيقظت لصلاة الظهر ثم عدتُ لاغط في نومٍ اعمق حتى ساعة قبل رفع اذان المغرب....توضأت وصليت العصر ...ارتديتُ بنطال جينز اسود وبلوزة نصف كم ضيقة زيتية ....نزلتُ الى خالتي التي كانت تحتسي القهوة في غرفة العائلة وفور رؤيتها لي توجهتْ الى المطبخ من اجلي لتضع الطعام الذي لم اتناوله طوال هذا اليوم وجلست امامي على السفرة ثم اخبرتني عن مكالمتها مع والدتي في البلاد :
" قلبها منفطر عليك يا هادي....شهور كثيرة لم تَرَك وتشمّ رائحتك....افعل المستحيل يا عزيزي واذهب اليها....انت تعلم الوضع الآن اسهل من الماضي..."
نظرتُ اليها وانا امسك الملعقة بيدي هامساً بألم من شوقي لنبض الحياة خاصتي:
" اعلم خالتي ....كنت انوي الذهاب في العيد الكبير لكني سأحاول جاهداً لأسافر في العشر الاواخر من رمضان لقضاء عيد الفطر برفقتهم بإذن الله..."
صمتّ برهةً واردفت مازحاً:
"سأصطحبك معي بالطبع وليبقى زوجك من غير امرأة ليعرف قيمتك..."
تبسمت بحنان واجابت :
" يا ليت ...حاول ...فأنا مشتاقة لهم جميعاً ولبلادنا....اما زوجي انت تعلم ان لا مثيل له بحنانه واحترامه لي ...لا تنكر ذلك.."
هتفَ مَن كان خلفها ومِن اجله استفززتها ليسمع رأيها به :
" حفظك الله لنا يا جوهرة بيتنا الثمينة.."
ثم اقترب يضع كفيه على كتفيها من خلفها وقبّلها على رأسها بحنوٍ فاستأذنتهما للخروج وهتفت لأحراجهما:
" سأصلي المغرب واذهب ليخلو لكما الجو الشاعري....خذا راحتكما سأعود في وقت متأخر ان شاء الله"
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
أُف....هذا اكثر ما اكرهه أن أجد سيارة الوغد والدها في البيت ...يجب ان اضغط على نفسي وارتدي قناعاً بوجوده لأتحمله قدر الإمكان ويا لمساوئ الصدف كان هو من استقبلني بعد ان لمحني من الباب الزجاجي....يا مغيث اغثني وابعد هذا النجس عني .....رحّب بي برياء ثم اجلسني في غرفة الضيوف وبدأ يبادلني الأحاديث عن الصفقات والأعمال وكأنني تواق لصوته ومجالسته وكلامه الذي يثير اشمئزازي !!....فقط لو تعلم ألمتي ماذا أتحمل من أجلها......انقذتني السيدة (فاتن) بدخولها لترحّب بي ثم سألتني بلطافة :
" هل تعلم ألمى بوجودك؟!....لأنني أتيتُ لتوّي من عندها ولم تخبرني وكانت ترتدي منامتها !.."
اذاً ظنت أنني لستُ جاداً بكلمتي وأخذت راحتها سموّ الملكة..!!
قلت للسيدة(فاتن):
" جئتُ لأشرح لها مادة الامتحان .....يبدو انها نسيت اتفاقنا.."
هتف والدها وهو يستعد للنهوض:
" اصعد الى تلك المدللة الصغيرة....اما انا استأذنك فلديّ مشوار مع زوجتي.....خذ راحتك"
آاه لو بإمكاني الآن التفنن بصفع وجه هذا الحقير لأنه تجرأ وصفع بيده النجسة حبيبتي البريئة!!.....لم تخرج من رأسي كلمتها وهي تقول صفعني أبي...لقد ازددتُ كرهاً له على كرهي......ضاعِف عقابك أيها الخسيس...ضاعِف!!
" درب يغلق في وجهك ولا يعيدك " همستُ ذلك بداخلي ثم رسمتُ ابتسامة صفراء ناهضاً من مكاني هامساً من وراء قلبي:
" مع السلامة ...مشوار موفق"
صعدتُ السلالم لوحدي بعجلة هارباً قبل ان التقي بالأفعى زوجته وتغلّث معدتي بعد ان ارشدتني خالتها الى غرفتها....طرقتُ الباب بلطف فهتفت :
" ادخل او ادخلي ."
فتحتُ فتحة صغيرة وأطلّيتُ برأسي للداخل لأقتل من جديد بعفويتها وصورتها الفوضوية تلك وهي تتسطح على فراشها بمنامتها من الساتان البنفسجي ...تضع ساقاً فوق الآخر تلوّح به بالهواء وهو مكشوف لانزلاق البنطال لركبتها والقميص بأزراره المقفلة الّا أول اثنان لينزل كتفه ويعرّي كتفها ..شعرها مضموم بعشوائية للأعلى واطرافه تنزل حول وجهها ...تضع قلماً على طرف شفتيها بيد وبالأخرى تعبث بالهاتف...كتاب الرياضيات يكبّ على وجهه بجانبها وأيضا حقيبتها أي فانوسها السحري رفيقتنا بجولتنا كانت بجانب مخدتها...
صُدِمَتْ من رؤيتي وجحظت عينيها ثم عدّلت جلستها وفزّت بسرعة ترتب نفسها لا تعرف هل تستر ساقها ام كتفها أو تلملم دفاترها الملقاة على مكتبتها ؟!....دنوتُ ببطء للداخل وانا انظر يمنة ويسرة هاتفاً باستهزاء:
" ما شاء الله... ما شاء الله....هل حدثت هزة أرضية في بيتكم؟! "
لم تجبني فهي لا تستوعب بعد وجودي فوق رأسها ومشغولة بترميم غرفتها.....بدأت اقترب للأريكة القريبة من النافذة فشهقت وحاولت تسبقني لسحب ملابسها المبعثرة عليها لكنها تأخرت لأني وصلتها قبلها ...كمشتُ ما عليها بقبضتيّ ثم القيتها لها لتلقفها وجلستُ بكل أريحيه فسقط شيء من بينها جذَبَته في الحال وخبأته خلفها فقلت :
" ماذا تخبئين ؟.."
اجابت بتلعثم من صدمتها:
" هل ...أنت....حقيقي؟"
" لا....خيالي !!"
قالت مستاءة وذراعاها ما زالا وراءها:
" ما هذا الامتحان المفاجئ؟.."
اجبت ببرود:
" اخبرتك انتظريني ...هذه مشكلتك ان لم تصدقيني"
" من سمح لك بالدخول الى هنا ؟"
قلت وانا اجول في نظري الى زوايا الغرفة :
" تصريح رسمي من والدك رغم انني لا احتاجه فبالنهاية انا زوجك ..."
ثبتُّ عينيّ اليها واضفت:
" يا لك من فوضوية..."
رفعت حاجبي سائلاً بفضول مرةً اخرى لأنها لم تتحرك من مكانها وقسم من ملابسها امامها على الأرض ولكنها تخبئ شيئاً :
" ما الذي تخبئينه خلفك ؟!.."
همست محرجة بحياء :
" لا شيء ..."
" اريني .."
" مستحيل ...لا شأن لك "
أشرتُ الى المكتبة خلفها بملامح ونبرة مندهشة :
" ما هذا الذي على مكتبتك ؟.."
التفتت بكامل جسدها كالبلهاء تبحث عمّا اشرت اليه...فهتفتُ بصوت هادئ:
"رأيتها.... لونها وردي.....تابعي عملك براحة "
شهقت شاتمة :
" أيها المخادع الوقح .."
رفعت ذقنها بعلوٍّ وحاولت تظهر جرأتها سائلة:
" انت درست إدارة اعمال ام إدارة وقاحة ؟!"
تبسمت وقلت :
" إدارة اعمال ....ادارة الوقاحة اجتهاد ذاتي حسب الحالة التي امامي .."
غمزتها واردفت:
" كل ما كانت الحالة فاتنة تزداد الوقاحة....يعني ليس ذنبي "
توهجت وجنتاها وشقت ثغرها ابتسامة حاولت اخفاءها ثم لملمت ملابسها ووضعتها في حمام غرفتها...عادت ترتب فراشها ولما حملت حقيبتها قالت في سرها " وضعتك بجانبي لأشم رائحة عطره العالقة بك عندما رشّ منه بالسيارة فتجسد امامي صوت وصورة ورائحة !!"
توجهت لمكتبتها تكمل ترتيب دفاترها وهي تتمتم فقلت ساخراً:
" هل هذه الفوضى تعلمتيها في كندا ؟!.."
اجابت حانقة عليهم في تلك البلاد:
" لا ....لقد خنقوني في نظامهم ....الاكل في ساعات معينة ....النوم محدد وقته....حل الواجبات يجب ان يكون على المكتبة من اجل صحة ظهورنا ....سئمت من نظامهم الذي جعلني كالرجل الآلي ....هذا مسموح وهذا ممنوع......عدتُ هنا وانطلقت الى حريتي كما كنت قبل ذهابي ....ليس علينا ان نكون نظاميين في اكثر مكان خاص لنا..."
قلتُ كاذباً :
" غرفتك لا تشبهك ...فيها براءة الأطفال بلوحاتها وطلائها واثاثها اما انت كقطة شرسة متمردة .."
ردت بغرور وهي توليني ظهرها تتابع عملها على مكتبتها :
" من اين تعرف انني لست بريئة مثلها ؟!...فمن حقي اظهار مخالبي لمن يستحق ذلك !.."
ضحكت وهتفت وانا انظر لمنامتها :
" انت غريبة الاطوار ..."
التفتت نحوي برأسها رافعة أحد حاجبيها بفضول فتابعتُ:
" في بيتك ترتدين ملابس فضفاضة وفي الخارج أضيق ما لديك .....سبحان الله "
لم تعلّق فتنهدتُ بقوة وقلت :
" هيا احضري كتابك لنرى ذاك الفصل الذي صدعتنا به .."
هتفتْ بتهكم مستفز:
" بعثت التمارين لصلاح ولم يستطع حل معظمها....كيف ستحله انت ؟!"
زمجرت بصوت حاولت ان اخفضه:
" صلاح صلاح ...يكفي!...لا تقارنيني به....ان لم تأتيني بكتابك سأخرج ولتذهبي الى الجحيم انت وصلاحك وامتحانك.."
أجفلتْ من ردة فعلي ثم حملتْ الكتاب ودنت نحوي وأشارت على الفصل والتمارين المطلوبة بهدوء ...اخذتُ اقلبُ صفحاته بتركيز وهي واقفة تتأملني بصمت ....نهضتُ عن الاريكة واتجهتُ الى كرسي المكتب ...جلست وفتحت دفتراً امامي على صفحة فارغة...لم اجد القلم ففتحتُ بعفوية درج المكتبة ليقع نظري على ماذا ؟!!....لا يعقل!!......تناولته مشدوهاً مبتسماً بحنين وتفحصته بمكر وقلت لاختبرها مدّعي الازدراء :
" ما هذا القلم الرخيص ؟؟..من اين جلبتيه ؟؟...وما هذه الحروف المحفورة عليه ؟!.."
اتسعت عيناها مصدومة ثم قفزت خطوتين نحوي وسحبته من يدي مستاءة وقالت :
" لا تلمسه ولا تقل رخيص ....كومة الأقلام التي امامك بأنواعها لا تساوي حتى الممحاة منه ..."
" لكنه من النوع الرخيص كيف تقارنينه بالباقي ؟!.."
قطبت حاجبيها ,غامت عيناها بتوْق للماضي وصاحبه ثم همست بحرقة دون ان تبالي :
" ليس مهماً قيمته المادية ...هذه افضل هدية احصل عليها في حياتي من أعز شخص على قلبي ..."
من حسن حظها انها تتكلم عن (هادي) والّا لكسرت القلم وفوقه اسنانها لو كان احدٌ اخر...!!
أكملت بمكري وانا مبتسماً ممسكاً نفسي عن الانقضاض عليها وضمها لصدري :
" من يكون هذا الشخص البالغ الأهمية عند السيدة ألمى ؟!.."
اخفضت رأسها للأرض تهرب بعينيها وهمست بصوت خافت:
" تستطيع القول انه كان معلمي في طفولتي.."
قلت ببرود وانا اعدّل جلستي واعيد نظري للكتاب :
" هل على الأقل احتفظتِ بما علّمك ام تبخر مع الزمن ؟!.."
ردت مبتسمة ببراءة:
" انسى اسمي ولا انسى حرفاً خرج منه .."
هتفت ساخراً والسعادة داخلي تغمرني من كلماتها :
" اوه ...سأشعر بالغبطة من هذا المعلم ....ليتني استطيع أخذ مكانة في قلبك مثله.."
ضحكت واضفت:
" اقصد كمعلم.."
حبيبتي المخلصة ...لم يخطر في بالي يوماً انها ستحتفظ بشيء بسيط اهديتها اياه لسنوات بكل حرص وكأنه شيء نادر .....كيف لا احبها مدمّرتي الطيبة ؟!.....
اخرجتُ قلماً آخراً وهمست :
" تعالي الى جانبي..."
عند اقترابها بدأت ارسم واكتب على الصفحة مثل خارطة مبسّطة أفك لها المعادلة وأفسر لها بالحرف الواحد كل رقم واشارة ولما انتهيت سالتها بجدية :
" هل فهمتِ؟"
اجابت بطيْش:
" ها؟...لحظة....دعني أحاول.."
فتحتُ صفحة جديدة وكتبت لها تمريناً مماثلاً من عقلي ثم اجلستها مكاني اراقب حلّها ...كانت تسير بخطٍ صحيح الى ان اخذت في نهايته طريقاً اخراً فسحبتُ القلم من بين اصابعها منحنياً على المكتبة متكئاً بمرفقي ...كاد يلتصق رأسي برأسها وانا أنبهها على خطئها فسألت وانا انظر اليها :
" واضح؟"
رفعت وجهها بسماءيها لتقابل وجهي وحرارة القرب تلسعني وهي حالها من حالي فانتصبتُ بوقفتي متنحنحاً هامساً:
" واضح ام اعيد شرحي ؟"
ردت بخجل:
" لا...لم افهم"
عدتُ مرةً أخرى الى وضعي السابق اشرح لها وبعد انتهائي رفعت وجهي لأسألها فكانت في عالم آخر مغمضة عينيها تستنشق عطري كالمخدرة ...تبسمتُ ونكزتها بالقلم على انفها ففزعت تستفيق من غيبوبتها واكتسى وجهها بالأحمر ثم سحبت القلم مني وهمست محرجة:
" سأحاول من الأول .."
هي تكتب وانا انظر الى جانبها اتأملها بوَلَه...بداية من عنقها الى ذقنها الناعم وشفتيها الورديتين ...انفها الصغير ...مددتُ يدي لأزيح خصلة من شلالها تعيق وصولي الى المحطة المركزية أي عينها السماوية ....علقتْ في نفس النقطة السابقة من الحل والقت القلم واخذت تهف بكفيها على وجهها من شدة سخونته واحتراقه من انفاسي ولمستي ....فعلمتُ ان لا جدوى ان استمرينا بهذا الوضع وسنكون كمن نطحن بالماء...قلت لها بحزم كأستاذ صارم :
" اجلبي اغراضك واتبعيني الى الأسفل لغرفة الضيوف او طاولة السفرة....لا يمكن هكذا "
سبقتها للأسفل وجلستُ على طاولة السفرة انتظر قدومها....كان هذا الحل الأنسب لكلينا !!...فنحن اثنان والوَلَع ثالثنا...الله اعلم ماذا يمكن ان يحدث اذا اندلعت الحرائق في غرفتها وخصوصاً شرارة قربنا في الأمس تنتظر دفعة منا؟!!......أقبلت وجلست على كرسي تقابلني وشرعتُ بالشرح لها من البداية حتى امضينا ساعات لم نشعر بها لأنني لم اتركها حتى أيقنتُ من فهمها للمادة ....نظرتُ للساعة , كانت الحادية عشر ليلاً....نهضتُ اتمطى بسبب تيبُس أطرافي فنهضتْ هي من مكانها واقتربت بخجل مني ثم مدت يدها بتردد تمسك كفي بأناملها البيضاء الرقيقة ورفعت سماءيها تنظر لأرضي بامتنان وهمست :
" لا أعلم كيف أشكرك حقاً "
شددتُ بحب على اناملها بقبضتي وتبسمتُ هامساً لها بلطف :
" العفو ألمى...لم افعل شيئاً.....نجاحك هو شكري "
حررنا يدينا وبدأنا نتمشى خارجان حتى وصلنا سيارتي...فتحتُ باب مقعدي فمسَكَته بيسارها وعيناها تشع مسرّة وارتياح وقالت بنبرة عذبة :
" سلِمتَ يامن ...لولاكَ لانفجرتُ مِن يأسي"
تبسمتُ واستدرت اليها بحنوٍ ومددتُ يدي وضعتها خلف رأسها وجذبتها برقة لصدري وقلت وانا امسد على شعرها:
" ألمى.."
قالت متعجبة مني بصوت رقيق وهي خاضعة على وضعها:
" نعم.؟."
" عديني أن تنجحي في دراستك مهما مررتِ بظروف!....اريدك ان تصبحي مهندسة كبيرة تعتمدين على نفسك دون ان تنتظري دعم من أيٍ كان....لا تستسلمي ولا تتوقفي....تابعي حياتك وحاربي الصعاب ...انا اثق بكِ وأعلم انك تستطيعين فعل المستحيل.....شهادتك وعلمك هما سلاحك ...أقول هذا من اجلك فقط....أتعديني بذلك ألمى ؟!"
كان عليّ احتضانها لقول ما عندي كي يصلها صدق مشاعري فلو طلبت منها هذا دون لمسها ستفهمها بصيغة التسلّط والأمر وخصوصا لديّ سوابق في ثنايا عقلها....
فلا أروع من الأحضان لترجمة ما في القلب دون ان نحتاج للتعبير باللسان....
رفعت رأسها المحشور على صدري قرب نابضي وقالت بصوت خفيض متفاجئة :
" لمَ تقول هذا وكأنني سأمضي وحيدة او سأعيش كارثة ما ؟!.."
رسمتُ بسمة جريحة واجبت :
" مع الله لن تكوني وحيدة ابداً....الجئي له بسعادتك لتجدي الخير منه بشقائك ...فقط عديني الّا تنهاري من شيء وان تثابري حتى تنجحي..."
ابعدتها عن صدري وحوطتُ وجنتيها بكفيّ وتأملتها بعشق مع الرجاء وكررت طلبي :
" عديني...اريد ان اسمعها منك "
جالت بحدقتيها على وجهي باستغراب ...لمعت عيناها وهتفت مبتسمة بنقاء:
" اعدك.."
قربت منها أكثر منحنياً قليلاً برأسي ,اغمضتُ عيناي ووضعتُ بصمة شفتيّ على جبينها ملتصقاً به لثواني لأوثّق قبلة رؤوفة دافئة ...افلتّها ثم دثّرتُ رأسها مجددا في احضاني وهمست وانا امسح بيدي على ظهرها مسروراً منها:
" انت رائعة ألمى ..."
اقشعرّت ولم تتحرك لكني اشعر بنبضات قلبها التي تكاد تخرج من بين اضلاعها وحماوة جسدها التي ترتفع اكثر واكثر لتتسبب بغليان دمائي في عروقي مع عشقي ولهفتي لها إثْرَ تماسنا ببعضنا.!....ماذا لو اخطفها معي وأضعها أمامي لأشبع نظري بجمالها واطرب اذنيّ بصوتها وادفئ جسدي بلمسها ؟!!....حررتها بعد ان رأيت بوابة الساحة تفتح لتدخل سيارة الوغد والدها فاستأذنتها لأذهب قبل ان اعكر صفوي برؤيته ...
وكانت هذه اول ليلة لنا نفترق بمودة ولطافة دون اطلاق النار على بعضنا ..!!
~~~~~~~~~~~~~~~
خرجت من القاعة تكاد الدنيا لا تسعها...تمشي بخفة وكأن حمل جبل انزاح عنها بعد ان قدّمت الامتحان دون ان تجد أي صعوبة....تتباهى بين زملائها وصديقاتها ...يراجعون نموذج الأسئلة سوياً وهي تجادلهم بثقة وتجيب بطلاقة....انهوا المراجعة وتوجهت مع صاحبتيها الى مقعدهن في الحديقة للثرثرة بعد ان زال الهم عنهن... فقالت (ميار) بضيق مصطنع :
" سبقتينا ايتها المخادعة....وهذا بفضل الحائط الذي لا يعجبك !!"
ردت بصوت مخنوق خجلاً بعد ان شعرت بشيء سرى في منابعها بمجرد ذكرها لسيرتي :
" لا اصدق....اشعر أنني كنت في كابوس وصحوت منه ....لم يأتِ في بالي بتاتاً ان يكون هو مصدر نجاحي ... انه معلم مذهل بشكل خرافي"
هتفت (ميار) مازحة:
" واخيراً استوعب هذا عقلك الغبي وأدركتِ أنك محظوظة ابنة محظوظين"
لكزتها على فخذها ثم تنحنحت والتفتت الى يسارها حيث تجلس (لميس) وسألت بحياء ووجهها متورّد:
" هل تلتصقين بشيء عالقة به رائحة عطر خطيبك لأنها آسرة وجذابة....؟"
اتسعت عينا (ميار) وضربت صدرها شاهقة وسألت:
" هل قفزتِ عن كل المراحل ووصلتِ الى هذه النقطة ايتها الملهوفة للحب ؟!.."
قطبت حاجبيها وضيقت عينيها وحركت يدها وراسها برفض تمثيلي وتابعت :
" لا , لا ....ستفضحيننا بالتأكيد ...الحالة عندك في مراحل متقدمة ...."
↚
ضربتها مجدداً عابسة من ثرثرتها وقالت :
" هلّا صمتِّ لطفا ؟!...انا اسأل لميس اخصائية العرسان والخطوبة ...انتِ بروفيسورة في الوسامة المزلزلة للشبان ..."
ضحكت (لميس) واجابت بروحها المُحبة:
" مثلما قالت ميار....اذا وصلتِ لهذه المرحلة فأنت غارقة ولا تدري..."
نكست رأسها للأسفل تحاول الانكار:
" لا تبالغا....ليس لهذه الدرجة !!....سألتك لأفهم ان كان شيئاً طبيعياً ام مشبوهاً......يعني رائحة عطره جميلة وقوية ومميزة وعلقت على حقيبتي لذا وضعتها جانبي اثناء دراستي أشمها لتنعشني...وايضاً وهو بقربي كنتُ استنشقها عن رقبته لكن رغماً عني ليس لشيء...حتى فُضحت لأنه امسك بي وخفت ان يظن أنني شغوفة لرائحته..."
صمتت لوهلة واستطردت قلقة ببراءة:
"لن يظن هذا...اليس كذلك؟"
اجابتها (ميار) ساخرة :
"نعم , انت تخطبين احمقاً ولن يفهم حركاتك المفضوحة وسيعتقد ربما تريدين شراء عطر مثله لوالدك ايتها الخرقاء "
سألتها ( لميس) :
" كيف كانت رائحة عطر صلاح..؟!"
ردت في الحال :
" جميلة ...يضع ايضاً من افخم العطور.."
تابعت (لميس):
" ألم تعلق رائحة عطره بأغراضك ؟!"
" بلى..."
" هل كنتِ تلتصقين بها ؟"
شردت قليلاً تتذكر ثم لوت فمها وقطبت حاجبيها وهزت رأسها نافية :
"كلا... لا اذكر هذا....كنا نقضي معظم الوقت مع بعضنا فمن الممكن انه لم يكن لديّ الوقت لافتقد رائحته .."
ضحكت (لميس) وقالت :
" لو كنتِ تحبينه لاشتقتِ له فور اختفائه من امامك وبحثتِ عن شيء يشعرك بوجوده أما يامن الذي ميز عطره انه خاص به أي ربطتِ الرائحة بأنفاسه وجسده وروحه ولو وضع صلاح من نفس الرائحة لن ترينها وتعجبين بها مثلما تكون على الآخر...."
ظلّت صامتة دون تعليق فأضافت (لميس):
" اجيبيني بصدق.....ماذا تشعرين بقربه ؟!"
اهتز هاتفها بين يديها مع نغمة يعلن دخول رسالة قبل ان ترد على صديقتها فأجفلت وارتجفت يدها وهي ترى اسمي وهمست وكأن لسانها احتبس عن الكلام واللمعة في عينيها:
" انـ.....انه هـ...هو...يامن "
وضعت ( لميس) يدها على جهة قلبها فوراً وغمزتها هاتفة :
" اخذت اجابتي ....قلبك يفضحك ويتمرد عليكِ ..يكاد يقفز للخارج من رسالة....الله اعلم ما يكون حاله في قربه...لا تخدعي نفسك او تخدعينا....هذه علامات الحب يا ذكية !"
قالت (ميار) :
" افتحي لنرى ماذا بعث لك من هزات الزلزال خاصتك...لنحمي أنفسنا ربما هزة قاتلة "
فتحتها وقرأتها بتردد وخجل :
"...[ مرحبا ألمى...طمئنيني....كيف كان امتحانك ؟]..."
" يا الهي ....انت في وضع صعب يا ابنتي ...كل هذا الخجل لأنه سألك عن امتحان ؟....اذاً لقد احدث هزة ضعيفة حسب مقياس - ريختر- .....قدّر الله ولطف بنا .."
تنهدت وتابعت :
" ماذا ستفعلين عندما تأتي الهزة الكبرى بقوله حبيبتي او احبك ؟!"
تهللت اساريرها من مجرد تخيلها هذه اللحظة ولم تعد تستطع امساك نفسها اكثر واخذت تقص عليهما كل ما حدث معها في الرحلة حتى زيارتي لبيتها وهي تفتح الباب على مصراعيه لمشاعرها لتنساب بأريحية كشلال الماء المتدفق بغزارة بعد ان كانت أسيرة في داخلها وتتصارع معها لوحدها ......كانتا تنصتان لها بحماس برباط الصداقة الحقيقية وهما فرحتان من اجلها وبعد ان انهت كلامها حالمة بأمل الحب سألت بتخوّف :
" هل سيأتي بالفعل اليوم الذي سيهز كياني واوصالي به عند قوله لي احبك ؟!"
ربتت (لميس) على ظهرها تشجعها :
" سيأتي يا صديقتي ان شاء الله....انتِ تستحقين كل شيء جميل ....وكل شيء في اوانه...لا تتعجلي.."
رفعت (ميار) يديها وعينيها الى السماء وقالت بروح الفكاهة:
" اكرمني يا الله مثلما اكرمت هاتين الحمقاوتين بزلزال أقوى اسحق به زلزاليهما "
~~~~~~~~~~~~~~~
" تذوقي هذه فتة الباذنجان...ماهرة امي في صنعها وحتى بلال يطلبها منها دائماً "
قالت (سلمى) وهي تمد الطبق لـ (دنيا) التي لبّت دعوتها لها بتناول الغداء في بيتها بعد عودتهما من الجامعة ......اعادته الأخيرة لها رافضة :
" لا شكرا....لا احب الباذنجان "
تبسمت باشتياق وأضافت:
" والدتك تذكرني بخالتي مريم .....اتذكرين كيف كانتا في المخيم مميزتين بصنع المأكولات ؟!.."
تنهدت وأكملت :
" كم اشتاق لأكل خالتي الحنونة...يا الله متى يعودان لنا هي وهادي "
ردت (سلمى):
" سيعودان ان اراد الله ...فقط ادعي ان يوفق الله اخي هادي بمهمته "
أكملت تسأل بفضول :
" مرّ شهور على ارتباطه ...الم يبعث لكم شيئاً من صور خطوبته حتى الان؟!"
ضحكت واجابت :
" من قال لك انه سمح بالتصوير حينها ....طلبت امي من خالتي ان تصوره وهو عريس ورفض رفضاً قاطعاً...حتى لم يبعث أي صورة تخص عروسه لنرى كنتنا الحالية"
هتفت (سلمى):
" مؤكد ساحرة ....اذكرها وهي صغيرة كانت مثل الدمية .."
" نعم هي كذلك حسب وصف خالتي ....لكن هو يضع في رأسه ان علاقته ستنتهي بها مع انتهاء مهمته لذا لا يقبل ان يدخل شيء يخصها بيننا كي لا نتعامل مع الموضوع بشكل طبيعي مثل أي ارتباط بين اثنين وبالطبع هو صادق لأنه يعلم انها بنفسها سترفض الاستمرار معه بعد كشف الحقائق والامساك بالحقير والدها بإذن الله..."
قالت باستغراب مترددة:
" اتعجب منكم ...ما شاء الله ...لا تتكلمون عنها بسوء كما تتكلمون عن والدها....كيف استطعتم تقبّلها ؟!....لا تؤاخذيني !...يعني يوجد حقيقة وهي ان الخائن والدها ...يعني اقصد...انه هو من ..."
ابتلعت (دنيا) ريقها بألم واكملت عنها وهي تنظر للأطباق على الطاولة:
" نعم, والدها هو من قتل والدي ..."
رفعت بصرها اليها امامها وعيناها محتقنة بالدموع على والدنا وتابعت بغصة:
" يوم معرفتي بذلك انه سيخطب ابنته ...ثرت , اعترضت , شتمت ودعوت عليها......لكن الحمد لله على نعمة وجود امي المؤمنة لتنير بصيرتي ....لقد قالت لي.... * هذه مهمة وستنتهي يوماً ما لكن يا ابنتي لو أراد الله ان تكون هي من نصيبه للأبد , لا اعتراض على أمره وضعي في عقلك ان لا تعاقِبي احداً بذنب الآخر....انّ الله هو العدل لم ولن يحاسب احداً على تصرفات غيره , فمن نحن لنفعلها ونحكم ونظلم هذه المسكينة ونحاسبها على ما اقترفه والدها ؟!....ضعي نفسك مكانها لا قدّر الله....أتتخيلين مدى الظلم الذي ستعانينه والقهر الذي لن تتحملينه وأنت تُعاقَبي دون ان تفقهي أسباب هذا الذي تمرّين به؟!....لذا صغيرتي هي مثلك ضلع قاصر تحتاج لنعطف عليها وأتمنى ان ينير الله بصيرتها للحق وهو أخبر بها....لا تجعلي على قلبك غشاوة وايّاك ان تتدخلي ....ابقي جانباً وادعي لأخيك فقط بالنصر..*..."
تبسمت ثم أكملت :
" من يومها اشعر انني لا احمل بقلبي شيئاً ضدها.."
تابعت بقلق :
" أما ما اخشاه ان يقع شقيقي في حبها ويتعلّق بها وهذا اكيد ما دامت بهذا الجمال والبراءة كما اخبرتنا خالتي وانا اعرفه يمتلك قلباً حنوناً أي لن يقاومها كما انه ليس من الشبان الباحثين عن البنات بالحرام وهذه الحسناء حلاله.!!...لكن ما سيحصل في النهاية انها ستصدم من خداع الجميع لها واذا كانت تحمل ذرة كرامة ...لا تسامحهم بما فعلوه .!!.... كيف سيقدر هادي وقتها على فراقها اذا اختارت ابعاده عن حياتها ان تعلّق بها؟!.."
زفرت أنفاسها مضيفة:
" مسكين أخي حياته عذاب في عذاب ...يا رب أرح باله واسعد قلبه واجبر خاطره"
" آمين....معك حق...اعانه الله ..."
أمّنتْ وراءها ثم تنهدت وهتفت بإصرار :
" هيا دنيا كُلي....عليكِ ان تنهي البطاطا المحشوة باللحم التي تحبينها ...صنعتها امي خصيصاً لكِ ..يعني لا مفر"
جاءت ( ام سلمى) تحمل كوبيّ العصير الطبيعي وقالت مبتسمة بحنان :
" لن تنهضي قبل أن تنهي كل هذا !.....سامحها الله والدتك...اتصلت بها لتأتي مع شادي لكنها رفضت .."
" أنتِ تعرفين أمي ...من يوم عودتنا لا تخرج كثيراً...تلتصق في البيت وكأنها ستعوض أيام غيابها عنه ..."
صمتت برهة واردفت:
" وأنت خالتي اجلسي معنا ...اين سلوى ؟ فلتأتي "
ربتت على كتفها مجيبة بلطافة :
" صحة وعافية عزيزتي دنيا ...سبقناكما انا وسلوى ...عادت من المدرسة جائعة فتناولناه سوياً وصعدت عند شقيقة بلال لحل الواجبات معاً..."
تركتهما عائدة لعملها في المطبخ وبعد انتهائهما من الطعام دخلتا الى غرفة (سلمى) لتتابعان دردشتهما الخاصة......جلست (دنيا) على الكرسي الخاص بطاولة الزينة وبدأت تتفحص ما عليه من مساحيق وعطور ....لفتّ انتباهها لون قلم شفاه جديد ...حملته مستفسرة :
" متى اشتريتِ هذا ؟...لم تريني إياه ....لونه ساحر.."
ردت (سلمى) :
" لقد اخبرتك ان بلال احضر لي تشكيلة من مساحيق الزينة قبل أسبوع وصورتها لك قبل ان افتحها وهي مغلفة.....هذا كان من ضمنهم .."
" نعم صحيح....لقد نسيت ..."
تنحنحت وفتحت فمها لتتكلم ثم عدلت عن رايها وبقيت صامتة فسألتها صديقتها :
" ما بك دنيا ؟...كنتِ ستقولين شيئاً .."
هزت راسها نافية:
" لا ابداً..."
" لا تنكري دنيا...هيا اخبريني ما عندك "
سرحت قليلاً في الأرض ثم همست بحيرة تحاول انتقاء كلماتها:
" أخبرتك....انه قبل سفره ....لم ....يعرني أي اهتمام لأسبوع ...كان يأتي دون ان يسأل عني وأنني بعدها.... افتقدت..... زيارته لنا... لكني لم اجرؤ على سؤال امي عنه كي لا تظنني مهتمة....ثم تفاجأت بسفره عندما علمت من شادي عن طريق الصدفة لما رأيته مجتهداً في دروسه فاخبرني ان ذاك ...يعني الغليـ....اقصد.... سامي ....وعده بجلب هدية له معه....وقلتُ لكِ انه سافر ولم ....يودعني..."
قالت:
" نعم أخبرتيني بذلك...ما الجديد؟"
غيرت نبرتها ناكرة ما يختلج صدرها بتعجرف مصطنع:
" طبعا لا انتظر ان يودعني....لكن ليست عادته !!....لذا استغربت.."
اعادت نبرتها السابقة وتابعت:
" هذا اليوم الخامس لغيابه ولم يرسل أي رسالة لهاتفي انما رأيت رسائله على هاتف امي وهو يسأل عنا بشكل عام ولم يخصص ولا سؤال عني ..."
سحبت صديقتها هاتفها الذي كان امامها وهي منزعجة منها ثم فتحته على الرسائل ووضعت على الوارد من (سامي) وقالت تعاتبها :
" انظري دنيا لمحادثاتكما ....انت بنفسك كنتِ تريني إياها وتعتزين بعدم ردك عليه ....بالله عليكِ اخبريني لمَ ليبعث رسائل لجثة ؟...هل تكرمتِ عليه يوماً برد ؟....ماذا تغير الآن لتهتمي برسائله ؟ أم تجاهله وإيلامه شيء يعجبك؟ "
لمعت عيناها تشعر بشيء يخنقها وقالت بنبرة هجومية لتغطي على كلامها الذي خشيت ان تعتبره صديقتها اهتماماً او اشتياقاً له:
" لم يتغير شيء....اخبرتك فقط لأجد شيئاً ندردش به....انسي الموضوع....هكذا انا بأفضل حال أساساً..."
بدلتا دفة الحديث لمواضيع أخرى وأمضيتا وقتهما بمرح حتى الخامسة مساءً...
×
×
×
تجلس (سلمى) في المقعد الامامي جانب خطيبها (بلال) لإيصال شقيقتي الى البيت وأثناء الطريق بينما هما تكملان ثرثرتهما تتهامسان من الفراغ الذي بين رأس الكرسي والنافذة رنّ هاتف صديقي الموصول بسمّاعة السيارة , صمتتا ففتحه ليتكلم من في الطرف الآخر :
" السلام عليكم بلال ....لمَ اتصلت بي ظهراً ؟..."
من اول كلمة نطقها لم تستطع منع رفرفة قلبها التي باغتتها على غفلة عند سماع صوته الغائب عن بيتها ....حاولت تهدئة الانفعالات التي اجتاحتها لتحافظ على شكلها الطبيعي الغير مهتم وكأنها تخاف ان تمسك بها صديقتها او حتى المتكلم على الهاتف يراها ....
" وعليكم السلام سامي....اتصلت لحاجة....متى ستعود ان شاء الله ؟"
" على الأغلب يوم الجمعة بإذن الله....خير ما هي؟"
" كلمتُ احمد في فرع الشركة بالعاصمة ليحضّر ملفاً خاصاً بالبرمجة الالكترونية هناك... احتاجه لوضع برنامجاً جديداً لحماية الحواسيب ...آمن اكثر.....كنتُ سأسافر له انا لكن فكرت بما انك هناك اريدك ان تجلبه معك اذا أمكن.."
" بالطبع ان شاء الله ...اذا حدث أي تغيير معي سأخبرك.."
" حسناً...الى اللقاء ...نتكلم لاحقاً.."
" مع السلامة .."
وصلا بيتنا الجبليّ ...دعتهما لشرب فنجان قهوة لكن رفضا بلطف وانصرفا في سبيلهما أما هي ظلّت واقفة مكانها تضع يدها على قلبها قبل ان تدخل وابتسامة تزيّن محيّاها , فطنت لها فغيرت ملامحها على الفور تتحدث مع نفسها " ما بكِ دنيا اصبحتِ هكذا...وماذا يعني ان سمعتِ صوته؟...الم نتفق ممنوع الحب ؟...لا تضعفي واستمري كما انتِ قوية دون ان تقعي في هذا الوباء..."......
ثم دخلت البيت واثقة بقرارها الذي تصمم على الّا تتنازل عنه والّا تكترث بآراء من حولها .....
~~~~~~~~~~~~~~~~~~
انها هي تتصل بي ...غريب!!...لم تفعلها سابقاً... ان كلمتني تُكلمني فقط بالرسائل ! ...كان هذا بعد امتحانها بيومين......وضعت على مكبر الصوت لأني مشغول جداً , احتاج يديّ فواحدة على الحاسوب والأخرى تمسك ملفاً :
" السلام عليكم.."
ردت بحياء :
" وعليكم السلام..."
لوهلة اعتقدتُ انها أغلقت ...لقد مرت عدة ثواني دون همس....فنظرت للهاتف سريعاً واعدتُ نظري لشاشة الحاسوب بعد أن رأيت ساعة المحادثة مستمرة وقلت:
" أين اختفيتِ ألمى ؟"
تنحنحت واجابت برقة:
" انا هنا....كنتُ سأسألك....هل تناولت غداءك ؟"
تهتم بغدائي مرة واحدة ؟!...ما هذا اليوم الغير مألوف ؟!...هل سقطت على رأسها أم تعاني من الحمّى ؟!
أجبت لأرى الى اين ستصل سموّ الملكة :
" ليس بعد....لمَ تسألين ؟! ...أليس من المفترض ان تكوني الان في الجامعة ؟! "
قالت :
" يوجد اجتماع للمحاضرين لذا قاموا بصرفنا باكراً.."
قلت بمرح :
" جيد...عيشي حياتك ...لا امتع من هذا الشعور .."
ضحكت ضحكة خفيفة تجاملني وهمست :
" هل أنت متفرغٌ بهذه الاوقات؟!.."
قلت زافراً انفاسي بتعب :
" صراحةً لا ...مشغول جداً ...يبدو أنني سأمضي يومي في الشركة !..."
ردت بصوت مفشول :
" خسارة !....حسناً... لا يهم , ليكن في يوم آخر "
رفعتُ حاجبي متأهباً ودفعني حب الاستطلاع لأسأل :
" خسارة على ماذا ؟.."
اجابت مستاءة من حظها :
" رغبت بأن أدعوك لتناول الغداء ...حظاً أوفر لي"
" في بيتكم ؟"
" كلا...أنا وأنت في الخارج "
"هادي يا غبي ...أتتك الفرصة لتكحل عينيك برؤياها فركلتها بتسرّعك...اسمع اولاً وافهم وبعدها أجب حسب مصالحك.!...هيا ...حرام !...هل هذا القمر وجه يستحق افشاله ؟! "... أنّبت نفسي في سري ثم قلت مازحاً ارّقع اجابتي :
" ممم....كنت سأخرج لاستراحة الطعام ثم اعود لعملي....هل تكفينا ساعتان برأيك ؟.."
تحفزت واجابت بانشراح :
" تكفي وتزيد ....المكان ليس بعيداً ويمكنني أن آتي لشركتكم لأختصر الوقت .."
مرّ من أمامي سريعاً شريطٌ مستقبليٌّ وانا اراها قادمة بالشبه لباس خاصتها تتغندر في شركتي ليأكلوها بنظراتهم الجائع منهم والشبعان ....يا ويلي.. سأولّع الشركة بمن فيها حينها وتكون هي أول من القيها بالنار ...فأجبت على الفور :
" لا لا.. ارتاحي مكانك ..عشر دقائق واكون عندك بإذن الله.."
قالت ممتنة بعذوبة :
" حسناً سأنتظرك..!"
×
×
×
ارسلتُ رسالة نصية...
[ أنا في الخارج ]
[ دقيقة فقط ..سآتي في الحال ]
بعد تسعة عشر دقيقة واثنان وعشرون ثانية....
[ اين انت؟...(مع رمز تعبيري الغاضب الذي ينفث دخاناً)...هل غيرتِ رأيك؟]
وصلت وهي تسرع في خطواتها وتثبت شيئاً في اذنها ...ألقت التحية وجلست محرجة هامسة :
"آسفة , لقد وقع حلقي على الأرض لذا تأخرت وانا ابحث عنه "
" هل وجدتيه ؟!"
قالت باستنكار :
" هل انت جاد ؟...الا تراه ؟"
اتسعت عيناي بصدمة وقلت :
" هل هذه النقطة التي لا يظهر لونها بسبب حجمها الضئيل هي من جعلتني انتظر ثلث ساعة سيدة ألمى ؟"
زمّت شفتيها بعبوس طفولي وقالت :
" لونها يلائم لقميصي الفضي ..."
لم أمسك نفسي عن الضحك ...حلق يحتاج مجهر لنعرف لونه وتقول يلائم لقميصي ....يا الله اين تفكير البنات ....اللهم ثبت علينا العقل والدين !....اعترضت هاتفة وهي تكتف ذراعيها ناظرة للامام:
" لا تسخر ....هذا شيء لن تفهموه انتم الرجال ! "
انطلقت خارجاً من ساحة بيت العنكبوت وانا اكتم ضحكتي على هذه الطفلة اللذيذة ثم سألت :
" لمْ تقولي لي ما مناسبة هذه الدعوة المفاجئة ؟"
ردت باعتزاز مبتهجة من قلبها :
" لقد حصلت على أعلى علامة بين زملائي في الرياضيات.."
رمقتني بنظرة ممتنة واردفت :
" الفضل طبعاً لك....لذا اردت شكرك "
فرحت من اجلها وهمست مشجعاً:
" الفضل اولاً لله ...ثم لا تستهيني بقدراتك فلولا ذكائك لما استوعبتِ الشرح"
ردت بنبرة خجلة :
" اشكرك على هذا الثناء.."
تبسمت هاتفاً :
"العفو.... أين مطعمنا ؟"
" مطعم - سباغيتي - الإيطالي "
" ماذا؟؟؟!...الساعة الان الثانية ولم اتناول الفطور وتريدين ان تطعمينني حبال عجينة ؟.."
قالت عابسة:
"لمَ تقول هذا؟... أطيب أكلة عندي ....ألم تأكلها سابقاً ؟"
" بلى...هذه آكلها قبل او بعد الأكل..... كالمقبلات مثلاً "
شهقت هاتفة :
" يا الهي ...كيف تستطيع ؟..."
ضحكت واجبت :
" هل تقارنين معدتي بمعدتك يا عصفورة ؟"
تبسمتْ باستحياء , فأكملتُ اقترح عليها :
" ما رأيك ان نذهب لمطعم السمك ؟"
ها انا بدأت اتعرّف على ما تحب وما تكره سمائي.....
" يـــع....اياك "
صرخت رافضة بتقزز ثم قالت وهي ترفع ذقنها بشموخ تمنّ بمزاح :
" أنا من دعوتك لذا ستقبل حسب اختياري .....وافرض مثلاً المال الذي بحوزتي لا يكفي لمطعم آخر ...لمَ هذا الاحراج؟"
ضحكت وقلت :
" سأقرضكِ لا تقلقي ....أو نبيع النقطة المخفية على أذنك لنسدد فاتورة المطعم ...أم ان قيمتها لا تجلب حتى منديل ورق ؟"
ردت بإباء تدافع عن ممتلكاتها :
" انت تحلم سيد يامن...هذه قطعة ثمينة "
هتفت ساخراً:
" تقصدين النقطة التي على حرف القاف في كلمة قطعة !...يعني قولي نقطة ثمينة.. هذا الأصح "
تأففت دون تعقيب.....
وصلنا المطعم وتناولنا الطعام على حسب ذوق السيدة (ألمى) ....كانت تتحدث وهي متهللة الوجه , تخبرني عن الامتحان وزملائها واشياء اخرى...هذه أول مرة من يوم خطوبتنا تحكي لي عن تفاصيل اوقاتها بشكل دقيق وتكون في قمة السعادة التي تظهر بملامحها , حركتها ونبرة صوتها .....كنتُ استمع لها بكل حُب دون ان اقاطعها او اعلّق ...جلّ تركيزي معها....فقط اريد ان اجلي اذنيّ بعذوبة صوتها وأغسل عينيّ بجمالها واشحن طاقات ليومي المرهق بأنفاسها ولو كان الأمر بيدي والوقت معي لما تركتها ولأكملنا تجوالنا بأي مكان طمعاً مني لقربها لكن يتوجب عليّ العودة للشركة.....أوصلتها الى بيتها بعد ان شكرتها على الدعوة ظريفة المكان ثقيلة المشاعر وعدتُ لأسبح بين ملفاتي....
وهذه ايضاً المرة الثانية التي نفترق بروحٍ طيبة دون إصابات باستثناء خلافنا على دفع الفاتورة التي تنازلتُ عنها مجبراً بعد ان صممت بتمرد لدرجة كانت ستلّم علينا من تواجد هناك وهي تعاند مثل الطفلة التي اعجبتها دمية في محل الألعاب وبدأت تبكي بإصرار لتحرج أمها لشرائها لها وهي لا تحمل ثمنها ...
فهكذا تماماً ألمتي ...طفلتي التي أحبها ولا أعلم الى اين سأصل في حبها...؟!
~~~~~~~~~~~~~
على ما يبدو بركات الامتحان تهلّ عليّ !!...لليوم الثاني على التوالي بينما كنتُ أصلي العصر في مكتبي بالشركة رنّ هاتفي وفور اتمامي لصلاتي وتسبيحاتي تفقّدته لأجد اسمها يحفر على الشاشة كما يحفر على دمائي وفي قلبي !!....رجعت لها لم تجب ثم عاودت الاتصال فردت المرة التالية :
" مرحبا يامن..."
" أهلاً ألمى...كيف حالك ؟"
↚
" بخير وانت؟"
" الحمد لله بخير.....ممم...اتصلتِ بي وانا اصلي ...أهناك شيء؟ "
قلت بصوت جدي ثم بدلت نبرتي للمزاح سائلاً :
" أم انه توجد دعوة أخرى اليوم ؟"
ضحكت بنعومة واجابت :
" كنتُ سأخبرك عن العباءة الخاصة بزوجة صديقك .."
" ما بها ؟"
قالت برقة :
" يجب علينا اعادتها وشكرها على معروفها..."
كالعادة مندفع ....قلت بغباوة :
" حسناً سأمر لآخذها لاحقاً..."
شتمت نفسها في سرها " تباً لكِ ايتها الملهوفة لمرافقته....وضعتِ نفسك في موقف محرج ...ها هو لم يفهم رسالتك !! ".....ثم قالت بصوت ضعيف :
" على راحتك.."
عاد عقلي للعمل وهو يترجم ..." يجب علينا اعادتها...!! "....هل تقصد انها ترغب بمرافقتي وشكرها بنفسها ؟!......فعلاً حائط , لمْ تنعتني بها عن عبث !!.....سأترك إدارة الاعمال واتجه للعمل في الترميمات لأني بدأت في الآونة الأخيرة ارمم كلامي المعطوب معها بسبب تهوري بحماقة دون ان افهم....قلت بحماس كأن الاقتراح نابع مني :
" ما رأيك ان ترافقيني لتشكريها بنفسك ؟...ستسعد بالتأكيد .."
عادت تتكلم بحيّوية وكأنها فرجت من بعد ضيق :
" كما تريد ....متى انتظرك ؟.."
معادلة حسابية للوقت حسبتها بسرعة في دماغي ....ان اخبرتها في السادسة هذا يعني سنذهب في التاسعة بتوقيت الألمى فربما تضيع منها ذرات العطر وستبحث عنها في الهواء كما نقطتها الثمينة تلك أو ان ظفرها الرقيق يكسر وستبكي في زاوية غرفتها ترثي جمالها لذا سأتركها على راحتها تصارع ممتلكاتها ....قلت باختصار :
" انا قادم .."
كانت الساعة الرابعة وأنا انوي الذهاب لها في السادسة والنصف فلديّ اعمال لم انتهي منها....ولتنتظرني المدللة كما انتظرها....!!
×
×
×
أقبلتْ بحماس تحمل كيساً فيه العباءة ووجهها ينبض بالحياة ....فتحت الباب قائلة بخجل رقيق مثلها :
" مرحباً....هذه المرة لم أتأخر عليك...انت من تأخرت"
تبسمتُ مجاملاً لها مع رد التحية ...ركبتْ وركبتْ معها رائحة عطرها.!..مسكتُ نفسي عن أي تعليق فيبدو أنها من النوع الذي يزداد عناده ان جئتها بالأمر وينتظرني مجهود شاق لأعمل عليها واخرجها مما فيه ان وفقني الله لذلك.....اكتفيتُ بداخلي بالدعاء لها بالهداية أما أنا كنتُ مرهقاً من العمل وأجبرتُ على هذا المشوار من اجلها ومن اجل صديقي الذي ينتظرنا بعدما أعلمته بقدومنا والّا لكان من الأفضل لي تأجيله.....لكن لعلّه خير!....
لما خرجنا من بيتها وضعتْ الحزام وبعد دقائق تنحنحت هامسة :
" أريدُ شراء هدية لها "
رمقتها بنظرة سريعة وانا اسيرُ ببطء سائلاً بهدوء :
" أهذا ضروري؟."
اجابت بابتسامة :
" غير لائق اول زيارة لي لأصدقائك ان اذهب بيدين فارغتين .."
تبسمتُ بوهن ناظراً اليها فغمزتني واردفت بمرح:
" لا ترضاها لي كوني خطيبتك.."
رغم تعبي وضعفي وقلة تركيزي الّا انها صعقتني في هذه الغمزة التي كانت وكأنها البرق الذي نزل من سمائها ليصيب جوارحي ومن قبلها قلبي الخائن لكني لم انبس بكلمة على حركتها العفوية الجديدة لأنني أدرك عدم وعيها بما فعلت بي ساحرتي الصغيرة...!!
همست بصوت رجولي لطيف :
" تحت أمركِ سيدة ألمى ...أين اتجه ؟"
اشارت بثقة الى يمينها هاتفة:
" بعد عدة امتار ادخل لذاك الشارع ...يوجد محل عطور خاص للنساء...انا زبونته....سأشتري لها من هناك !"
وصلنا المحل وقبل ان ننزل قلت :
" لا تجلبي كعطرك.."
بهتت ملامحها وهمست بتوجس :
" هل رائحته مزعجة الى هذا الحد ؟"
ابتلعت ريقها واستطردت بضعف والحزن يظهر عليها :
" لم أتوقع ان عطري يضايقك لهذه الدرجة "
من غير وعي مني مددت يدي لوجهها أمسح بإبهامي وجنتها برفق ورحمة هامساً بصوت أجش مركزاً على عينيها :
" لا تكوني غبية ...عطرك خارق ويميزك انتِ فقط ...أتفهمين؟... أنتِ فقط لا غيرك"
أومأت برأسها برضى بعد ان ارتسمت على شفتيها ابتسامة صغيرة , عدلت جلستي واكملت في عقلي " ليتك تفهمين ما يفعله بي حبيبتي وترحميني من عذابك وترحمي نفسك من عذاب الله "
دخلنا المحل وأكثر ما اكرهه هو التصاق الباعة بزبائنهم ليروجوا لمنتوجاتهم ...الا يتركون للشخص حرية الاختيار والانتظار بصمت ؟...
كانت تعمل به فتاة ملوّنة...أقصد ملوّنة بزينتها وملابسها وخصل شعرها وكذلك المعنى الآخر أي تبدو ذات الوجهين وهذا يظهر في اسلوبها وطريقة كلامها .....اقتربت مني تتغنج وبدأت تعرض عليّ وهي تقنعني ان اشتري لأمي ولأختي وهذا يناسب جدتي وذاك لجارتنا أم محمد والنوع الآخر للتي تسكن اول الشارع...اووف ...سئمت منها !!...رأسي يصدعني بطبيعة الحال ....أين ألمتي عنها لتخلّصني ؟....جلستُ على كرسي مخصص للزبائن...اختفت لثلاث , اربع دقائق ثم عادت تحمل فنجان قهوة دون ان تسالني وفي الحقيقة لم ارفضه كنتُ احتاجه عسى ان يخفف من صداعي....وأخيراً ظهرت حُبي التي كانت غارقة بإحدى الزوايا تختار هديتها ولما راتنا أقبلت نحونا بعزم وقبل ان تصلنا كنت أضع الفنجان على فمي وارتشفت رشفة عميقة , بصقتُها في الحال وانا أسعل بانقباض هاتفاً باستياء :
" هل هذه قهوة أم سكر...ييع ؟!.."
بما انها جريئة ووقحة ردت بتملّق تغازلني غير مبالية للحمل الوديع الواقفة بجانبي :
"اوه ... أنا آسفة أيها الوسيم ...لقد ظننتُ أنّ الحلو حلواً لأنه يشرب القهوة حلوة ..."
هل قلت حمل وديع ؟؟ هل سمعتم شيئاً يُكسر ؟...نعم... انها المجنونة ألقت ما جمعت بيدها على الارض من العطور المعروضة للاختبار التي جلبتها لتستشيرني واقتربت من الملوّنة تشهر سبابتها بغيظ أمامها هاتفة بوعيد :
" هيـــه ...أنتِ...الزمي حدودك يا عديمة التربية وابعدي نظرك عن ما ليس لكِ .....سأخبر السيد وائل بوقاحتك مع الزبائن وسأحرص على طردك من هنا والّا سأجعله يعلن افلاسه ..."
أنهت قصفها واستدارت اليّ بحنق ثم ماذا ؟؟.....ثم مدت يدها تسحبني من يدي كالأم الغاضبة التي جرّت ولدها من الشارع لتعاقبه على عدم إتمام واجباته ...أما انا لم يكن بي القوة وسايرتها امشي معها ...ليس من التعب انما من كثرة الضحك ...لم أتمالك نفسي وهي توبخ تلك بشراسة كاللبؤة الهائجة بعد ان هرب من داخلها الحمل الوديع....عند السيارة أفلتتني وقفت إزائي وهتفت تؤنبني , أليس الان انا ابنها المذنب؟!...:
" لمَ تضحك ؟...أم أنك كنت مسروراً معها ؟؟...كيف تسمح لها بالتحرّش بك ؟"
" ماذا ؟!..تتحرّش بي؟؟"
سألتها وانا امسك بطني من الضحك ...فأكملت ناقمة :
" نعم تتحرّش الّا اذا كنت راضي !!... لو كان العكس واحدهم تغزّل بي ماذا تفعل ؟"
بدلت ملامحي على الفور وقلت بجدية :
" سأجعله ينظر للمرآة ولا يعرف نفسه"
قالت بامتعاض:
" اذاً اصمت ولا تضحك.."
القيتُ عليها ابتسامة مع نظرة حب ثم قلت وانا استدير نحو المحل:
" انتظريني هنا...سآتي في الحال "
جحظت عينيها ومسكتني من معصمي فوراً وسألت :
" الى اين ؟!"
" سأدفع ثمن الضحايا من العطور "
خطت خطوة تحجب طريقي وقالت بعُنجهية وتحدٍّ:
" مستحيل...لن تدخل لها وأنا سأتحاسب مع صاحب المحل.."
حركت رأسي يميناً ويساراً مبتسماً برفض وتوجهت لمقعد القيادة مستسلماً لأوامرها.....في الطريق سألت:
" ماذا قررتِ؟...هل هناك محل غيره نذهب اليه ؟"
" تابع للأمام....لديهم فرع آخر"
وصلنا وهذه المرة أمي (ألمى) لم تسمح لي بالنزول بحجة انها لن تتأخر وانها رست على نوع اعجبها بالمحل السابق وفقط تريد تغليفه وطبعاً لم تقبل اخذ مال مني وهي تهددني انها ستعود لبيتها مشياً ان لحقت بها لأدفع....!!
×
×
×
تسكن والدة صديقي في الطابق الأرضي لبيته وهي انسانه كريمة دائما تغمرنا بحُسن الضيافة ولا تترك شيئاً الّا وتضعه امامنا او تصنعه لنا رغم بساطة وضعها المادي عند ذهابنا اليهم.... لذا في طريقنا اشتريتُ لها سلة مليئة بالشوكولاتة باسمينا لنمر ونسلّم عليها فأصرّت ان تكون الجلسة عندها ولم نرفض احتراماً لها ...لقد استقبلونا بحرارة كبيرة , لا يصدقون ان ابنة من كان وزير تزور بيتهم !!.... ....كانت ( ام عمر) تلتصق بـ (ألمى) تتأملها وتحصّنها من العين ...يبدو انها دخلت قلبها!!.....ومن ذا الذي لم تدخل قلبه؟؟؟ ....كنا نستمع لكلامها بمتعة فهي تملك روح الدعابة , خفيفة الظل وطيبة القلب كابنها....شكّلن اربعتهن ضدنا مع (ميساء) اتحاد نسائي , كانت توصيها بمسك زمام الأمور مستقبلاً لأن الرجال فاشلون في إدارة البيت مثل ولدها !!...استمرت توجّه كلامها لـ (ألمى) :
" يجب ان تجلبي له دستة أولاد لكي تربطينه ...لا تكوني مثل بنات اليوم المائلات , الفاشلات..."
رفعت بصرها اليّ ولما رأتني انظر اليها مبتسماً اسدلت جفونها بحياء دون ان ترد على كلامها......
.ضربني (عمر) على ظهري هاتفاً :
" نحن نثق بالأسد ...سيأتينا بولد كل تسعة شهور.."
قلت له :
" ويحك يا رجل !! هل سنفتح مدرسة في البيت ؟!....ثم قل لنفسك هذا الكلام..."
اغمض عينيه وهزّ رأسة معترضاً مع حركة يده:
" أنَس ومالِك قلبا عينيّ للخلف ...ان أتى الثالث لن يبقى لي عينان ولا آذنان ولا ...."
وقبل أن يتمّ جملته ارتطمت الكرة بأنفه بعد ان القاها ابنه عليه ...فصرخ شاتماً واضعا يده مكان الضربة :
" هيــه يا أولاد الكـ..... اخرجا العبا بالساحة لقد فضحتمونا أمام ابنة الوزير ...الآن سيحرّمان الانجاب بسببكما أيها القردان ..."
حدّج زوجته بعتاب قائلاً :
" لمَ لم تبعثيهما لبيت جدهما لنجلس بهدوء ؟!.."
أجابت مستنكرة :
" هل يسجلان على هويته وانا لا ادري ؟!....ثم أنت من فجّرت دماغي وانت تقول اريد أولاداً ذكوراً يحملون اسمي ....خذ...تفضل اشبع بهما وباسمك....لا اعرف على ماذا توحّمت ليأتيان كأنهما خارجان من الأدغال.!!..."
تدّخلت حماتها تفضح طفولة ابنها :
" هل هذا سؤال؟....التفاحة لا تسقط بعيداً عن الشجرة!!......هكذا كان عمر يقفز من زاوية لأخرى ووراء الضيوف وهم جالسون.....كنت أضع صحن الفواكه لهم فيسوّد وجهي , يحسسني انه خارج من مجاعة ولما نذهب لزيارة يسألني امي ما هذا الشيء وكأنه لم يره من قبل ولم نجلبه سابقاً للبيت....ماذا سأحكي وأحكي...الافضل ان ابقى صامتة ...جعل الله تعبنا على أولادنا في ميزان حسناتنا "
اتسعت عيناه بخزيّ وذهول ثم قال :
" أمّــــي....بارك الله بكِ لم تقصّري بشيء ما شاء الله..."
أشار لضيفته مردفاً:
" في خمس دقائق نشرتِ غسيلنا المتسخ أمام ضيفتنا!!....ستخرج من هنا تتبرأ منا وخطيبها معنا ..."
كانت تستمع لهما منبسطة الأسارير , مبتهجة القلب.... فهنا وجدت الحياة الاسرية الواقعية , البسيطة ودفء العائلة ولطافة المعشر التي لم تعشها قط في قصر العنكبوت....
أما (اماني) زوجة صديقي وضعت يدها على فخذ ( ألمى) وقالت تنصحها بعد ان بحّ صوتها وهي تنهر ابنيها المشاغبين:
" عيشي حياتك وضعي فرق خمس سنوات على الأقل بين الطفل والآخر والّا ستخرجين للشارع تشدّين شعرك وتكلمين نفسك وسيصل بكِ الحال الى مشفى المجانين..."
كانت فقط تجاملهم بخجل مبتسمة كلما ذكروا أطفال المستقبل...ربما متأملة وتبني أحلاماً ومن الممكن انها اختارت أسمائهم في عقلها كأي فتاة تنتظر متى ستصبح أماً ؟؟!!........جميعهم مساكين وبما فيهم هي ..!!....لا يدرون انه لن يحصل هذا أبداً......الايام تسير والوقت يمر , فكلما اقتربنا ابتعدنا....يشارف زواجنا ليدوّن شقاقنا الأزليّ ...انّ موعدنا الصبح ...أليس الصبح بقريب ؟!.....سيأتي يوم الفراق لا فرار منه ولا عدول...!!
بعد قرابة الساعة والنصف استأذنتهم ثم خرجنا لسبيلنا وطوال الطريق لم يدخل لسانها لحلقها وهي تعيد كلامهم متأثرة من الزيارة مع فرحة عارمة داهمتها ...عند باب بيتها ظلّت جالسة بالسيارة دون ان تنزل فرفعتُ حاجبي مستغرباً احدق بها بتساؤل دون النطق بحرف فقالت مع اشعاعات غريبة تصدر من كل تقاسيم وجهها وبصوت خافت من خجلها لتسألني:
" ألن تدخل عندنا لنكمل السهرة. ؟!.....ما زال الوقت باكراً....هيا تفضّل"
ما بها هذه ؟؟...كيف انقلبت هكذا ؟؟....منذ متى تدعوني لبيتها ؟؟....
من البديهي ان احتفل بتقبّلها لي بعد ان كانت لا تطيقني !!....لكن....قرون استشعاراتي تنبئني بشيء لا يبشر بالخير ....هل يا ترى زلّت قدمها بطريق الحب ؟!......أتمنى ان أكون مخطئاً ....احبها ولا اريد منها حُبها !!......العذاب من كل حدَبٍ وصوْبٍ ينسل لنا ...لمَ لنضاعفه بأيدينا ؟!......همست في سري وعينايّ بعينيها " من فضلك لا تحبيني ....قفي محايدة واعتقيني ...قلبي لا يتحمّل ولن أجد طبيباً يداويني يا مهجتي ويا حبل وتيني .."
تنحنحتُ , حككتُ جبيني وقلت بلباقة :
" في وقتٍ لاحق......لا بد انهم ينتظروني لتناول العشاء.."
رمشت بعينيها مذعنة مع ابتسامة سقيمة ثم نزلت , لوّحت لي بيدها ودخلت بعد ان اختفيت عن انظارها .....
~~~~~~~~~~~~~~~~
كيف سيخبره ؟!...انه متوتر جداً..!!...يمشي ذهاباً واياباً في موقف السيارات الخاص لسكان العمارة التي يسكنون فيها بعد ان أوصل خطيبته من الجامعة....لا يعرف كيف يتصرّف؟؟....هو ليس بواشي لكن لا مفرّ من اعلامه!! ...كان غاضباً , حانقاً من الفتاتين , يعاتب صديقه في سره " هل هذا وقت تأخرك سامي؟!...عد رجاءً قبل ان تكبر ".......
اليوم هو الثلاثاء ولم يعد من العاصمة , لقد مددوا لهم الدورة الاستكمالية لثلاثة أيام إضافية ومن المفترض ان يكون في مدينتنا الجبلية هذا الصباح لكنه تأخر ...الساعة الآن الثانية والنصف!!......ثبت مكانه أخذ شهيقاً وزفيراً , سمّى بالله ثم اتصل مجازفاً ولتضربا رأسيهما بأقرب حائط الغبيتان....
" أهلاً بلال....أعلم انك استأخرتني وتحتاج ملفك ....لكن زملائي اصروا على التسوق قليلاً في العاصمة....لا تخف , الملف معي يا بلبل !!.."
ردّ (سامي) عليه بصوته المرح ولا يعلم ماذا ينتظره ؟!!.....سعل الآخر مرتين يستجمع بهما صوته وقال :
" متى ستصل ؟...هناك أمر طارئ"
سأله بصوته الجاد بعد ان انقبض قلبه :
" خير بلال؟!...لا تفجعني بأحبائي....هيا انطق.."
أجابه يهدئ من روْعه :
" اطمئن ....مشكلة بسيطة ....لكن ربما من الأفضل تواجدك لتحلها بطريقتك !!"
" ماذا يوجد؟؟..اخبرني بسرعة "
هتف بنبرة مرتفعة فيها الخشونة بسبب اضطرابه فردّ عليه ببرود وتلكؤ عكس النيران التي بأحشائه :
" على يومين ....عندما كنتُ اذهب للجامعة لأعيد خطيبتي ...لفت انتباهي تواجد دنيا تنتظر خارج أسوار الجامعة قبل سلمى وهذا ليس من عادتهما ...انت تعرف هما كالتوأم الملتصق"
قاطعه (سامي) بعجلة يريد ان يلقي عليه ما في جعبته مرة واحدة من غير تلكؤ :
" هيا بلال... ارجوك اسرع ...لا توترني "
" سألتُ سلمى بعد اشتباهي بالأمر لكنها تهرّبت ولم تخبرني بشيء بل تسترت عن الموضوع من اجل دنيا !!....وتلك لها حساباً عسيراً عندي....لقد تشاجرنا وتخاصمنا...."
همهم كالرعد :
" هاا...اكمل يا اخي "
" المهم!!....سألت زملائهن فاتضح ان دنيا تشاجرت مع زميلين لهما , شاب وفتاة قبل أسبوعين وانهوا الموضوع مع الإدارة حينها ولكن اليوم احتدّ النزاع بينها وبين الفتاة... هناك بغضاء بينهما فضربتها.... أي خطيبتك ضربت الفتاه على عينها حتى احمرّ وانتفخ محيطها ..."
سأل مغتاظاً مما سمع :
" ما سبب كل هذا ؟.."
تنحنح وأجاب بارتباك:
" اخبروني انه يوجد شاب آخر... معجبٌ !!...يعني معجبٌ بدنيا وهو لا يعلم بارتباطها ....وان تلك الفتاة تغار منها فعندما علمت بالموضوع بمساعدة زميلها ...وضعا رسالة حب باسم ذاك الشاب بحقيبتها وباسمها بحقيبته لتشوه سمعتها ويشبكانهما...هذا منذ أسبوعين....ولما وجدتها , واجهت الشاب وقرّعته وعنّفته لكنه اعتذر بأدب وبرأ نفسه وهي كذلك برأت نفسها من ارسال شيءٍ له واكتشفا بعد ذلك أن الآخريْن هما سبب الفتنة فهاجمتهما دنيا وشتمتهما لكن الفتاة لم تتوقف عن افعالها وبدأت تفتري عليها وتطلق اشاعات لكن لم يصدقها احد لأنهم يعرفون دماثة اخلاق دنيا ومن أي بيت خرجت , اما الإدارة اكتفت بإعطاء انذار لكلٍّ منهما...."
تنهد بعد أن أفضى بالفقرة المهمة ثم تابع على مسمع من لا يصدر منه سوى هدير انفاسه:
" قبل يومين الفتاة ازعجتها واستفزتها مجدداً فمزقت لها دنيا كتبها دون تفكير .....مما أدى لفصلها ...لذا هي تذهب للجامعة وتنتظر في الخارج حتى انتهاء الدوام ...اظن خوفاً من ان يعلم احدكم بشأنها....."
كان يقود كالمجنون وهو يستمع للشعر الغزلي الخاص عن خطيبته الذي يلقى عليه فسأل باقتضاب وكتل بركانية تصارع للخروج منه يحاول التحكم بها :
" ماذا الآن؟؟!"
ردّ:
" اليوم سخرت منها الفتاة وعايرتها بفصلها وان لا احد لها يتوسط لإرجاعها فهاجمتها بعدوانية وكادت تقلع شعرها ولما ذهبتُ اخذتهما معاً هي وسلمى , سمعت بين الطلاب يقال انها كانت تلك تهدد متبجحة بجرّ دنيا لمركز الشرطة لتشكو عنها وترى ان كان خطيبها الضابط عادلاً ام ظالماً اذا الشيء مسّ عروسه !!.."
" هكذا اذاً؟؟؟!!......حسناً سأتصرف....سأصل بعد ساعة بإذن الله .."
دخلت مكالمة أخرى لهاتفه الشخصي بينما ما زالت محادثتهما مستمرة , تبيّن انها من احد زملائه بالمركز فاعتذر لـ (بلال) قائلاً بصوته المجروح بسببها:
" سأغلق بلال....اتصال من المركز....ربما جاءت البشرى ...اراك لاحقاً ان شاء الله "
اغلق معه وأعاد الاتصال بزميله :
" نعم أشرف...أهناك شيء؟"
" لا تقلق سامي.....اريد اعلامك فقط ان خطيبتك في زيارتنا بشكوى من زميلتها بسبب مشكلة خفيفة "
صرخ بقسوة :
" من ذا الذي سمح لنفسه باستدعائها ؟؟"
" برأيك من ؟"
" الكلب تميم ....أليس كذلك ؟"
" أصبت...لكن ورديته انتهت وسينصرف لبيته "
" سأريه الحقود ..."
قالها بغلّ ثم غير نبرته آمراً بصوت رزين :
" ضعها في غرفتي ولا تدخل أي كائن لها حتى أصل .....قدّم لها عصير الليمون دون ان تضع الثلج لأنها تنزعج منه.....الى اللقاء"
×
×
×
دخل المركز كالإعصار وخصوصاً بعد ان جاءه اتصال من حماته الغالية على قلبه وهي تبكي وتستنجد به قلقاً على ابنتها وهو على مشارف المدينة....القى السلام العسكري ورد العناصر التحية باحترام.....دخل غرفته فوجدها تجلس على كرسي ترتجف مضطربة وزاد ارتجافها المكيف ...كانت تضم يديها بين ساقيها , تطأطئ رأسها بذلّ والدموع تنساب على خديها....
انه (سامي) الحنون صاحب القلب المرهف , هل سيتحمل منظرها هذا ؟!.....
سيتحمل نعم... شاء أم أبى لأنه بالمكان الذي اقسم به لقول الحق وإظهار العدالة مهما كانت صلته بالذي امامه, سواءً ظالماً او مظلوماً....هنا بالذات يُجَمّد القلب ودقاته والروح وشغفها ...قائمة المشاعر تحذف ويبقى فقط العقل ليحكم بالقِسط ...!!
" السلام عليكم ..."
قالها بصوتٍ صارم ولم ينتظر ردّها بل أكمل بمشيته حتى وصل كرسيه ...جلس بملامح قاسية ثم ضغط على زر ليدخل أحد عساكره ...:
" خذ الآنسة للغرفة المجاورة وادخل لي الأخرى..."
رمقته مندهشة بوجهها الممتقع ,فرماها بنظرة تحمل بحور من العتاب لكنه لم يعلّق ولما اقترب العسكري وقفت بعجز وكلالة ثم نطقت بصوت متحشرج :
" سـ...سا..مي..أنا...."
لفّ كرسيه المتحرك جانباً يشيح كامل جسده عنها وقال بنبرة جافة يصححها :
" عفواً آنسة.....سيادة الضابط سامي........خذها"
لمّا سمعت جملته ابتلعت كلامها وكادت تبتلع شفتيها وهي تحاول ايقاف ارتعاشهما واحتبست مياه مقلتيها ثم انتصبت بشموخ تخفي هوانها وسبقت عنصره خارجة !!.....بعد ان اغلق الأخير الباب خلفه ...حملَ (سامي) لوحته الاسمية المكتبية وقذفها بعرض الحائط ساخطاً على حبيبته المتهمة :
" تباً لكِ يا حمقاء .....اصبتيني بالشلل.."
لقد لمح الفتاة في صالة الانتظار ورأى الضرر الذي احدثته لها حول عينها !!...ان لم تتنازل ستوقَّف (دنيا) لثماني وأربعين ساعة على الأقل وربما تصل المحاكم وهذا حسب درجة الحقد عند ضحيتها.....!!.....طرقتان على الباب ليسمح بدخول العسكري مع المدّعية.....جلستْ بتجبّر مع ابتسامة خبيثة جانبية ....اسند ظهره ببرود ولصق رؤوس انامل يمينه بيساره يحركهم كالعازف ومرفقاه ثابتان على ذراعيّ مقعده الضخم وقال بصوت متماسك هادئ :
" ما اسمك ؟...واخبريني بالتفصيل ما حدث معكما ...وقبل ذلك ارجو الّا تكذبي لأن لديّ شهود على ما حصل بالحرف لكن رغبتُ ان اسمع روايتك "
ردت بزهوٍّ :
" اسمي سجى.."
ثم رفعت صوتها بهمجية مشيرة لعينها :
"ماذا ساخبرك؟....الا ترى ماذا فعلت خطيبتك ؟!..."
وضع سبابته على شفتيه وقال مبتسماً بوقار :
" ششش....اخفضي صوتك وتكلمي باحترام....لا خطيبة لي هنا....هيا...اخبريني..."
اخبرته بما حدث منذ أسبوعين تدّعي انها كانت مجرد دعابة بين الزملاء وحاولت إخفاء بعض الحقائق ...لكنه كان يحدجها بنظرة ثاقبة كالجهاز الكاشف عن المعادن والممنوعات...كانت تترك ثغرات وهي تناقض نفسها وتهرب كثيراً بعينيها ....ولما انتهت من قصتها ...سألها :
" ماذا تريدين الآن؟.."
قالت بانتصار:
" اريد ان ارفع دعوة ضدها....لقد شوهت منظري ..!!"
احنى نفسه قليلاً واخرج من درجه ملفين جديدين لونهما ازرق فاتح قائلاً:
" حقك آنسة سجى ...كما حقها"
بدأ يملأ الفراغات بعد ان طلب هويتها ثم اخرج هويته وكتب الأشياء التي تخص (دنيا) على الملف الآخر ورفع رأسه ناظراً اليها هاتفاً بجدية :
" ستشرفاننا الليلة انتِ والآنسة دنيا .."
اتسعت عيناها بذعر وسألت وهي تزدرد لعابها :
" ما ذنبي أنا ؟؟...ما هذا الهراء ؟؟..."
قال بهدوء:
" ألم تطلبي العدالة ؟؟"
"بلى....وهل هذه العدالة يا سيادة الضابط "
قالتها باستنكار وضربات قلبها ترقص رهبةً فهمس سائلاً :
" ألم تشتميها بلسانك وتفتري عليها وتعايرينها ووضعتِ خطتك الجهنمية في عقلك ؟؟..."
" لكن هذا على سبيل المزاح !!"
" فعلتِ أم لم تفعلي ؟؟!"
نظرت ضائعة وقالت بتردد :
" بـ....بلى.."
استعادت ثقتها واردفت:
" ما دخل هذا ؟؟!!هل يسجن شخص على الكلام ؟!.."
قال ببرود وهو يلف كرسيه يميناً ويساراً ببطء :
" انتِ بحثتِ عن العدالة وانا لن أكون الضابط سامي ان لم احكم بها .."
حدّقته بفضول تنتظر اكمال كلامه...فاستطرد :
" هي ضربتك بيدها بعد ان عقلها اخبرها بذلك ....يدها التابعة لها التي آذتكِ من أعضاء ماذا ؟! "
ردت مستخفّة بسؤاله :
" أعضاء الجسم طبعاً.."
انتفضت ورمشت مجفلة بعد أن صفق بكفيه الطاولة امامه وسأل بصرامة :
" هل اللسان والعقل من أعضاء البرلمان ؟! "
أكمل بغضب :
" أليس عن طريقهما آذيتها وهما من أعضاء جسمك ؟....انتِ ضربتيها بلسانك وهي ردت بيدها .....تعادلتما ...مع أنه يجب يكون عقابك أعسر من عقابها !!"
ابتلعت ريقها وسألت بتلعثم :
" ماذا تقصد ؟!"
نهض من مكانه واقترب لنافذة غرفته يتأمل الخارج وقال بجدية :
" كدماتك هذه التي سببتها يدها ربما أسبوع او شهر وستختفي وكأن شيئاً لم يكن !!..."
التفت بصلابة وتابع :
" أما بعقلك الحقود ولسانك الحسود تركتِ كدمات عليها وعلى قلبها لن تزول بسهولة ولو لا قدّر الله نجحتِ بتشويه سمعتها والاشهار بها بهتاناً لرافقتها كدماتها مع جروح لا تندمل طوال العمر ...فلا يرحمها أحد..."
حرك سبابته بتحذير ويده الأخرى في جيبه وحدّجها بنظرة قاتلة وأضاف :
" ولن ارحمك انا .."
رفع صوته بنبرة حادة حتى برزت عروق رقبته هادراً:
" أتسمعين ؟؟...لن ارحمك "
عاد لمكانه وقال بهدوء يتقنه متى شاء:
" لذا وانت وراء القضبان اشكري الله أنك لم تفلحي بهدفك الدنيء ...فكري قبل أن تتكلمي !!....الكلمة الجميلة هي كالعطر على اللسان والكلمة القبيحة حتى ماء زمزم لن يطهرها وينقيها وستفوح رائحتها الكريهة الى الأبد.....لقد حذرنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم من اللسان وزلاته.... (( وهل يكب الناس على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم )).....فانظري لنفسك واختاري ان كنتِ ترغبين ان تكوني ممن شملهم الحديث الشريف ام لا... "
{{ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ }}
نظر لساعته , تأفف بتصنع وهتف :
" الساعة الآن الرابعة والنصف ...اتركي رقم والدك لنستدعيه لأنه وليّ أمرك...فلينتظرني هنا ريثما أعود لورديتي في العاشرة مساءً.....انا الآن مرهقٌ ويجب ان اذهب للنوم ....سنرى لاحقاً كم يوماً سنستضيفكما انت وهي..."
افرغ ما عنده من كلام.....سحب مفتاحه عن الطاولة وهمّ بالخروج فسدّت طريقه هاتفة متوسلة :
" ارجوك لا تستدعي ابي ...سيحرمني الجامعة ان علم بدخولي الى مركز الشرطة !!"
رمقها بنظرة جانبية ويده على مقبض الباب فنكست رأسها مكملة:
" أنا آسفة ....ارجوك... سأعتذر لها واتنازل عن الدعوة ...المهم لا يصل لأبي .."
مسك نفسه عن ابتسامة ثعلبية كانت ستفضح شماتته وسعادته الداخلية...استدار عائداً لمكانه ...مزق الملفين وقال :
" سأسامحك هذه المرة ...على شرط لا تعيدينها !!...."
رسم بالهواء دائرة وهو يشير لوجهها مردفاً بتهديد:
" لأنه اذا كررتِ فعلتك او اقتربتِ منها بسوء... سأحرص على ان ترسم بأناملها
على وجهك خارطة الوطن بالألوان ...."
×
×
×
ترك (دنيا) في مكانها دون ان يعلمها بتنازل تلك عن شكواها وذهب لبيته ليستحم عمداً ويعود لاحقاً كي يمرر بعض الوقت عليها كفركة أذن لها....كانت الأفكار تصول وتجول في عقله ...يتخبّط بينها وهو يحاول إعادة حساباته ..!!
بعد ساعة ونصف كان بالمركز يرتدي الملابس الخاصة بالشرطة مما زادته هيبة , رهبة ورصانة.....دخل الى الغرفة المتواجدة بها ورغم انها مرتعبة منه ومن أمي بسبب موقفها الّا انها بمجرد وقعت عيناه على عينيها أشاحت وجهها بعجرفة وخاصة من معاملته الجافة معها بغرفته.!!...لقد تربّت على العزة والأصالة ولن تسمح لشيء بكسرها ...هكذا تحاول اقناع نفسها وتقول داخلها... " ماذا يعني اذا هدر بي ووبخني ؟..لن يضربني ولن يسجنني ولن اموت....هل يعتقد ان بلباسه هذا سأخنع له ؟!...عندما نخرج من هنا سيعود ليقول لي عينيّ الشهد ككل مرة ....لا يستطيع التحكم بلسانه هذا الأشقر الوسـ ...الغليظ !!....ثم بالطبع لن يقوَ على احزاني كي لا يغضب منه هادي ويخاصمه !!...."
" هيا اتبعيني .."
أفاقت من حديث النفس مجفلة بعد أن امرها بنبرة يشوبها التغطرس ....نهضت تمشي بخيلاء لتثبت له قوتها التي عرفها بها لكن ساقيها كادتا تفقدان توازنهما من النظرة الحارقة التي القاها عليها وهو ممسك بيد الباب المفتوح ينتظر خروجها......عند وصولهما لموقف السيارات تباطأت خطاها ...لقد اقتربت من مشنقتها ...ها هو سينفرد بها بالسيارة ...ذمّت نفسها ..." أين القوة التي كنتِ تتبجحين بها قبل قليل ؟...ما بكِ يكاد قلبك يسلم أوراقه للمشرحة ؟!...تمالكي دنيا .."..
لا شعوريا منها قادتها قدماها للباب الخلفي فتحته وهو ما زال واقفاً قريباً منها ..لكنه طرقه ليغلقه بكفه ثم فتح لها الامامي وقال بحزم :
" اركبي هنا ...لا تختبئي كالنعامة آنسة دنيا "
شعرت بنغزة في قلبها عند قوله آنسة (دنيا) ...لا تسمعها منه الا اذا أراد السخرية بمزاح ...أما هنا نبرته قاسية... قاسية جداً !!...نبرة لم يستعملها اطلاقاً اثناء تواجده معهم !!.....ركبت وكتّفت ذراعيها تدفئ جسدها ...الجو حار لكن الجبل الذي بجانبها يلفحها ببروده....تستغرق الطريق حوالي ربع ساعة من المركز لبيتنا الجبليّ...عشر دقائق منها خيّم عليهما الصمت والخمس الأخيرة استجمعت قواها بطلوع الروح لتهمس بارتباك :
" أ...ألن تـ...تقول شيئاً ؟"
كان يتكئ بمرفقه الايسر على نافذته وابهامه على خده , الوسطى على ذقنه والسبابة على فمه سارحاً بالطريق ...لم يغير حركته ولم ينطق بحرف وتابع بصمت وكأن ذبابة طنت بجانب اذنه والرياح من الشباك هشّتها عنه دون مجهود منه......
التي بجانبه انفعالية من الدرجة الأولى ولا تتحكم بنفسها ان استفزها احد وماذا يوجد استفزاز اكثر من ان تكلم شخصاً ويتجاهلها ولا يعيرها اي اهتمام رغم سماعه ؟!!....استدارت بجسدها قليلاً نحوه بعد ان فارت الدماء منها بغيظ ومدت يمينها على يمينه الممسكة بالمقود , تمسك ذراعه قرب المعصم , تضغط قليلاً هاتفة بهجوم :
" أنا اكلمك ...لست كلبة تنبح لتتغافلني..."
أمال رأسه مع نظرة سريعة ليدها ثم اليها وابتسم ابتسامة مائلة ساخرة مكلومة لرؤيته خاتم الخطوبة الذي لم ترتديه سابقاً والآن يطوق بنصرها !!.....انتبهت لنفسها ولحركة عينيه فسحبت يدها ببطء وأغلقت قبضتها , تضعها على فخذها....توقف عند البوابة من الخارج ولم يدخل الساحة كعادته ....انتظر ان تترجل لكنها لم تتحرك .....دقيقتان وهي مكانها ..فزفر أنفاسه ينظر لساعته قائلاً ببروده :
" تفضلي لو سمحتِ.....لديّ عمل !! "
تكدّست الدموع في مقلتيها ...سألت باستعطاف ونبرة مهزوزة :
" ألن تدخل لنتكلم وتسمعني ؟!...ألن تقول شيئاً ؟!"
ردّ بغِلظة وتجافٍ يسلّط عينيه على الطريق :
" من الأفضل الّا نتكلم الآن .....عليّ ترتيب اوراقي ....لا اريد قول شيء أندم عليه!!.....لذا لو سمحتِ انزلي ...."
ابتلعت ريقها وسألت بقلق :
" ماذا سأقول لأمي ؟! "
" طلبتُ منها عدم فتح الموضوع معك حتى آتي غداً ونضع النقاط على الحروف ان شاء الله "
قالها بجدية ثم أمال جسده ليمينه نحوها يمدّ يده لمقبض بابها , فتحه ليضع حدّاً لحديثهما ....فلتفهم انه عليها النزول دون ان يضطر لزجرها !!.......ترّجلت يائسة , مستسلمة لمصيرها ...أغلقت الباب برخاوة ليدعس على الوقود عاصفاً بسيارته وصرير عجلاتها تخبر الواقفة بانكسار ان بركان الغضب عنده أوشك على الانفجار..... !!
↚
" هل أخطأنا برأيك ؟؟ "
تتكلم بخفوت على الهاتف تسأل صديقتها وهي تنزوي في غرفتها , تغلق الباب على نفسها بالمفتاح قبل ان يداهمها من توعّد بالعودة لها لاحقاً ليحاسبها على مراوغتها عن الموضوع عندما التبس عليه الأمر في الأمس ...!!
" لا اعلم سلمى ...لا اعلم ....أتعرفين ؟...امي لم تسألني وعاملتني كأنه لم يحدث شيئاً ...لكن المشكلة الكبرى بمن تحوّل لشخصٍ آخر ...أكاد أجن كيف سأصبر حتى غدٍ لنتكلم ؟!.."
ردت (دنيا) بصوت مبحوح من كثرة البكاء بعد ان تركها (سامي) دون ان يوجه لها كلمة بشأن الموضوع مما زاد من هلعها ...لقد دلفت الى ساحة المنزل وهي تضرب أخماس بأسداس في عقلها الصغير ..ماذا بعد ؟ ماذا سيحصل ؟ هل سيصل خبر تشريفها لمركز الشرطة اليّ وربما للسيد (سليم الأسمر) الذي تحترمه من جهة ومن جهة ثانية تهابه ؟!!...نحن في كفة وذاك الذي عاد من سفره مقلوباً كأنه ذهب لصياغة وتنسيق شخصيته من جديد في كفة أخرى ؟!!...
ردّت (سلمى) حائرة على وضعيهما:
" صدقاً لا ادري ان كنا مذنبات او لا !.....صحيح طلبت منك منذ المشكلة الأولى إخبار سامي ورفضتِ رفضاً قاطعاً بحجة أنك لا تريدين إدخاله في امورك لكن آخر مشكلتين لم يتواجد في المدينة لتلجئي له وتعلميه فيهما...!!"
ابتلعت ريقها واردفت :
" أم انك أيضاً كنتِ لتخفي عنه حتى لو كان هنا ؟!.."
حمحمت بتهرب ثم اجابتها بصوت خافت:
" نعم...اقصد ممكن ...يعني الله اعلم!!"
علت نبرتها وأضافت :
" لكن انتِ تشاجرتِ مع بلال بسببي....كان من الأفضل اخباره ...لم يكن داعي لتخبئي عنه ما دام احجار الجامعة والأشجار عرفت بقصتنا ....يعني اخفائك كان ليس بمحله "
كانت دائماً شقيقتي الأشجع بينهما ولم تسمح لأحدٍ بالاقتراب منهما ودائماً لسانها جاهز للقصف ...فلم يصفها خطيبها ام لسان طويل ظلماً.!!..أما توأمها وصديقتها (سلمى) المتواضعة ,الليّنة , المتسامحة الآن بحالة يرثى لها بسبب ما آلت اليه علاقتها بـ (بلال) الذي لأول مرة يريها جانبه الشديد القاسي.... فلطالما كان عطوفاً ,لطيفاً , رومانسياً والسبّاق لمسح دمعتها...انها تعاني من اضطرابات بمعدتها من شدة وجلها وفزعها ورغم ذلك أجابت واثقة بتصرفها :
" مستحيل لن انقل كلاماً يخصك ...انت تقررين عن نفسك ان اردتِ اعلام أحد...هذا ليس من حقي نهائياً وغير ممكن ولو على قطع رأسي وخصوصاً لعلمي برغبتك بالتكتم عنه...وإما أنا وأنت على المقصلة سوياً أو ننفذ كلتانا بريشنا ..!!"
اجابتها بنشوة وَفَدَت اليها وسط حزنها وارتياعها :
" ربي يحفظك لي يا نصف قلبي الآخر يا توأم روحي .."
تنهدت وسألت بقلق عليها :
" ماذا ستفعلين الآن مع بلال ؟؟!...هل جربتِ الاتصال به ؟! "
اجابت ودقات قلبها تسنُّ سكاكينها :
" بعدما اوصلني للبيت ..اتصلت به وكان هاتفه مشغولاً ثم المرة الثانية مغلقاً .."
" ربما نفذت بطاريته !!"
" كلا...رايتها بالسيارة كانت مشحونة اكثر من النصف !...هذا مؤكد يخبرني بطريقة غير مباشرة اطبقي فمك لا اريد سماع صوتك .."
" دنيااا...."
" ما بك سلمى ؟....افزعتنـــي !!"
" اغلقي اغلقي ...سمعت صوته يكلم امي ...لقد أتى ....يا رب سترك ..."
قالت مستسلمة بوجل لحالها وحال صاحبتها :
" كان الله في عونك....اراكِ بالجنة ان شاء الله حبيبتي "
أغلقت مع (دنيا) واقتربت من الباب تسمع ما يدور في الخارج لكن مع الأسف لم تصلها الذبذبات الصوتية !! ليس لأنه أصابها الطرش أو ان اولئك يتوشوشون إنما بسبب النغمات الصاخبة لمشهد التشويق والاثارة التي تحدث في احشائها..!!.....بينما هي تحاول التنصت مع انها ليست من عادتها , تحرك مقبض الباب صاحَبَه طرقة واحدة عليه فانتصبت نافرة مفزوعة , لحقها صوته ألآمر :
" افتحي الباب..."
طلبت ببراءة:
" عدني لا تصرخ .."
" افتحي سلمى .."
" قل قسماً لن اصرخ "
" سلمــى ....لا تحفزي اعصابي "
هتف بها بنبرة صارمة وسمع بعدها طقة المفتاح ...فتح بحذر وهدوء...... كانت تبعد مترين عن الباب بعد ان هربت توليه ظهرها......ولج الى الداخل واغلق الباب خلفه فاستدارت تنظر له وعيناها ملّبدة بالدموع !!...اشار الى سريرها رافعاً صوته :
" هيا اجلسي.."
ترنّح بوقفته بعد أن ارتمت في احضانه على حين غرّة....
لقد هربت منه اليه !!.....طوقت خصره بذراعيها بتملك وغمرت وجهها بين صدره وذراعه ......استحوذت على ثغره ابتسامة سببها الطفلة التي بين احضانه , سيطر عليها قبل ان تراها..!!...كلما حاول تحريرها عنه زادت بالتصاقها وطَمرِ وجهها ....هتف بصوت جاد هادئ :
" اجلسي لنتكلم ..."
همست بغنج وصوتها مخنوق حياءً , خوفاً وبسبب حصر فيها على جسده :
" سنتكلم لكن لا تصرخ.....ألستُ انا حبيبتك ؟"
ربطت لسانه عن الكلام هذه المخادعة وهي بهذا القرب وهذا الدلال لكنه لن يخضع للعبتها فاستجمع قوته وقال :
" حبيبتي شيئاً وما فعلتيه أمراً آخراً...هيا اجلسي ...يجب ان نتكلم "
بدأت ترخي يديها شيئاً فشيئاً ثم رفعت رأسها ببطء حتى وصلت وجهه الذي يعلوها بضعة سنتمترات وسلّطت ليل عينيها الدعجاء على الحقول الخضراء في عينيه المحميتين بعدسات لاصقة شفافتين ....فتح فاهُ ليكرر كلامه لكنه لم يستطع عندما حاوطت عنقه بذراعيها بدلع , تقف على رؤوس اناملها لترتفع اكثر وبكل جرأة أدهشته لا سابقة لها تضع شفتيها على شفتيه توصدهما ولِيَنطق حرفاً هذا الثائر الأسمر ان استطاع ذلك....!!
وإلى الآن لم نعرف من كان منهما حسابه عسيراً كما تنطّح وتفاخرَ مهدداً بلبلنا العاشق الولهان ....
~~~~~~~~~~~~~~~~~
تثاءب وهو يتمطّى ...كان يومه طويلاً ...يريد فقط النوم ...لا شيئاً آخراً....لقد استيقظ من الفجر وهو بالعاصمة وبعدها قام بالتسوق ثم مشوار الطريق الذي يستغرق ساعات ليستقبل خلاله بشرى مشكلة خطيبته وينشغل بها كما انه عاد لورديته التي تبدأ بالسادسة والنصف حتى الساعة الثالثة والنصف قبل الفجر لكن احد زملائه المقربين عندما رأى ارهاقه اقنعه بالعودة للبيت في الواحدة بعد منتصف الليل وهو سيهتم باللازم بما تبقّى من ورديته في غيابه...!!.....توجه الى سيارته التابعة للشرطة المركونة في الموقف لأن خاصته رباعية الدفع احتاجها شقيقه لمشوار.....هو ليس من طبعه استعمال ما يخص الدولة لأغراض شخصية وخارج الدوام مع انه يُسمح لهم بذلك ما داموا موظفين حكوميين !! .....استقلّها وادار المحرك وما ان لبث ليخرج من البوابة حتى علا رنين هاتفه الشخصي باتصال غريب نسبةً لهذا الوقت المتأخر...أخرجه فتسارعت نبضات قلبه لرؤيته اسم المتصل ...لمسه ليرد بقلق مع أسئلة متتابعة :
" خيرٌ ان شاء الله ؟؟..."
"لمَ تبكين ؟؟!! "
" ماذا حدث؟"
"......"
" ماذا؟؟!!"
"....."
" ها أنا قادم على الطريق.."
" ....."
" خمس دقائق بإذن الله وسأكون عندكم"
ضغط على الوقود بقوة...الشارع فارغ لم يواجه ايّةُ عراقيل !!....وصل البيت الجبلي كالبرق...ترك سيارته والمحرك مفتوح وترجل منها مسرعاً.....قرع الجرس لتفتح له شقيقتي بوجهها المتشوش الشاحب ...سألها على عجلة دون ان ينظر لها :
" أين هو ؟!"
" في غرفته "
اجابت وسط شهقاتها اثر البكاء فعجّل في خطاه قافزا السلالم قفزات قليلة واسعة ....وصله صوته الباكي :
" أمـــي..آااه..لا استطيع ...أمــي...آي "
سأل مذعوراً التي اتصلت به مجبرة تستنجد من اجل ابنها والّا لما اشغلته بهمومها:
" ما به ؟؟ كيف حصل هذا"
أجابت بصوت مرعوب , متقطع ومختنق على حال المستلقي على فراشه يصرخ ويتململ بعنف ودموعها تتسابق في الهطول من عينيها :
" كنتُ نائمة.... وكانت دنيا مستيقظة.... وفجأة..... سمعتْ صراخه فهجمتْ ووجدته يتحرك كالذبيحة .....من حرارة الروح... فأيقظتني في الحال ثم اتصلتُ بك.....وها هو كما ترى....يضع يده على بطنه..... ولا يسمح لنا بلمسه ...يا رب... لطفك...يا رب "
اقترب من (شادي) جلس جانبه على فراشه ومسّد على رأسه هامساً :
" ما بك يا بطل ؟!...ماذا تشعر ؟!.."
مدّ يده يكشف عن بطنه حيث يضع يديه قريباً من السرّة ...كان بطنه منتفخاً وحرارة جسده تبدو مرتفعة لاحظها ما ان لامست يده جلد المتألم امامه...
أزاح له اياها صارخاً به ...لا يطيق ان يلمسه أحد :
" اتركني.....سأموت ...بطنـــي ...بطنــي "
وقف متأهباً ثم انحنى قليلاً يضع ذراعاً تحت ركبتيّ الصغير والأخرى تحت عنقه... حمله غير مهتم للضربات التي يتلقاها منه وهو يرفسه , هتف آمراً مهرولاً في مشيته قاصداً الخروج:
" هيا الحقاني للسيارة سآخذه على المشفى.....ربما الزائدة الدودية والله اعلم "
" كيــف عرفت ؟! "
سألته امي بين عبراتها بقلق على فلذة كبدها ليجيب وهو شبه راكض :
" هذه الاعراض كانت عند إيهاب ابن شقيقتي بيان واتضح انها الزائدة....هذا مجرد تخمين ...هيا استعجلا بسرعة ..."
هتفت (دنيا) سائلة بصوت لاهث وهي تتبعهم وتلفّ الحجاب على رأسها :
" هل نتصل بالإسعاف ؟!"
أدارَ وجهه للوراء يرميها بنظرة جافة لاقتراحها التافه ...هل تظن ان الإسعاف اسرع منه ؟!....لو بقيت صامتة بهيبتها أشرف لها لأنه لم يرد عليها بشيء وكأنها لم تتكلم ...انه يرى الديك أرنباً من شدة نعاسه وزاد عليه قلقه على من في احضانه وتأتي تلك لتتفلسف بأفكارها الخارجة من عقلها الصغير الذي يريد ان يحرقه لها !!...
.لما وصلوا الساحة حيث سيارته ببابها المفتوح والمحرك الذي لم يغلقه ...وقفت مستنكرة لرؤيتها انها الخاصة بالشرطة فهتفت بصوت معترض :
" هل سنذهب بسيارة الشرطة ؟...لا يمكن ذلك !! "
لو ان الموقف يسمح له لانفجر ضاحكاً وقصف جبهتها...أنَسيت عندما زفوها عصراً بمركبة الشرطة بمصباحها الذي يضيء ازرق واحمر على السقف والمزمار ينادي على الجميع ليخبرهم انها سيارة شرطة ليفسحوا لها المجال بالمرور براحة ؟؟!!...على الأقل هذا خطيبها الضابط وطبيعي تواجدها معه ولو حتى بسيارة عمله البيضاء الخاصة للضباط...
قال بصوت بارد بخلاف الغارات التي كانت في داخله :
" يمكنك البقاء في البيت ان كانت تزعجك مركبتنا..."
ضيق عينيه وأضاف متهكماً بجفاء:
" آنسة دنيا.."
ثم استقلّ مقعد القيادة وكانت امي قد سبقته على المقعد الخلفي ليضع رأس (شادي) على حجرها ..!!....لم يكن مكان لها بالخلف لأن شقيقي احتلّ الكرسي بجسده الصغير وهو مستلقي ...اضطرت للتوجه للمقعد بجانبه دون ان يبدر منها أي نَفَس.....ان كان قد قاد بقدومه كالبرق فانه الآن يسبق البرق بعد ان شغّل المصباح من فوق مع صوت المزمار الذي يميز مركباتهم لتُخْلي له السيارات طريقه....
أليست الشرطة في خدمة الشعب ؟؟!!...وهؤلاء بالنسبة له ليسوا الشعب انما الوطن بأكمله..!!
×
×
×
دلف راكضاً الى قسم الطوارئ والصغير بين يديه !....لم ينتظر جلب سرير ....يثق بقدراته وسرعته واللتان زادتا بسبب قلقه الصادق عليه بخلاف من يعملون ويرعون المرضى لأنه مجرد عمل وواجباً عليهم...!!.....تبعتاه أمي وشقيقتي لكنهما لم تستطيعا مجاراة خطواته ....وضعه على احد الأسِرّة ثم تنحّى جانباً ليسمح لحماته ان تأخذ مكانه بعد وصولها , فأخي يبكي يريدها وممنوع تواجد اكثر من مرافق مع انه يستطيع استخدام منصبه ان لزم الأمر..!!....
كشفت عليه طبيبة في الحال وخمّنت كما قال لكنها ستجري له فحوصات دم وغيرها وكذلك ستقوم بتصوير أشعة - رونتجن - لبطنه لتتأكد .....بعد حوالي اقل من نصف ساعة جاءت النتائج تثبت شكوكهم ليجدوا التهاب حاد في الزائدة وعليهم اجراء عملية له بشكل عاجل قبل ان تحدث مضاعفات كانفجارها لا قدّر الله.....!! ....كادت تنهار امي على آخر العنقود خاصتها الذي تحنّ عليه بشكل خاص بسبب ما واجه منذ قدومه على هذه الدنيا فماذا سيكون أصعب من انه تيَتّم بنفس اليوم الذي وُلِدَ به وانه كاد يفقد حياته جوعاً اثناء الهجرة ؟؟!!..الى يومنا هذا ما زالت تؤنب نفسها على نسيانها زجاجة الحليب !!....
شقيقاي هما خطان احمران عندي لكن (شادي) علاقتنا واهتمامنا الكبير به ليس لأنه الصغير فحسب انما حبنا له يختلط مع الرأفة والعطف عليه .....لم يرَ ولم يعش ماضينا الجميل السعيد لذا نحاول ان نعوضه قدر الإمكان من الحنان والدلال علّنا نملأ القليل من فراغ لروحٍ لا بديل لها ....مهما عملنا وفعلنا لن نغطّي مكانة حبيبنا الغالي أبي رحمه الله ...حاولتُ ان أكون والده بوقت كنت انا احتاج بشدة لوالد.!!...لكن هذا قضاء الله فنعم المولى ونعم النصير ....!!....
أدخلوا صغيرنا لإحدى غرف العمليات المصطفة جانب بعضها البعض ...تفصل بينها وبين غرفة الانتظار غرفة أخرى يستخدمها الممرضون فقط , تسمّرت امي بها وأبت ان تتركها وهي ترتجف على ابنها الممدد في الداخل وكأنها تسلمه للذبح بيديها لكن مسؤول القسم رفض تواجدها واخرجها مصرّاً..... وهنا جاء دور من كان ينتظر في المكان المعدّ لذلك عندما رأى حماته تخرج منكسرة , خاضعة وتبكي بصمت ضعيف ... صوتها لا يخرج منها بسبب حيائها وايمانها ....اقترب منها بعد ان هاله حالها ...ضمها لصدره بقوة يربّت على ظهرها بحُب وحنان رجولي صُنع في قلبه هو.... ذاك السامي الوفيّ...
همس سائلاً بعد ان حاول تهدئتها :
" لمَ خرجتِ ؟؟...يوجد مقاعد في الداخل !!..."
" ممنوع الانتظار هناك...لم يسمحوا!!"
اجابته واللوعة في فؤادها ...
" من قال ذلك..؟"
حررها سائلاً يتهيأ للذهاب لمن منعها فمسكت ساعده توقفه بخجل :
" لا بنيّ...لا نريد ان نحدث شوشرة...إنسَ...سأنتظر هنا مثلي مثل الباقي!!.."
التفت اليها , مسك ذراعيها بقبضتيه قرب كتفيها , منحنيا بظهره بسبب قصر قامتها مقارنة به وقال بحزم محترم :
" انتِ لستِ مثل الباقي ...أنت الشريفة زوجة الشريف ...أنت فخرنا ....لكِ ما تريدين ....فقط اؤمريني أمي ...!!...ولو كان هادي هنا لكسّر المشفى فوق دماغهم وأنا لن أكون أقل منه !..."
قبّل جبينها ثم ولج إليهم مستخدماً سلطته دون أن يجادلوه او يعترضوا بكلمة وسمحوا لها بالتواجد قرب غرفة العمليات على مضض ...المهم عنده ان تكون راضية وليذهب لسطح المشفى ويلقي نفسه من لا يعجبه الأمر بينهم !!....
تستغرق العملية ساعة من الزمن ....كان يقف يسند جسده للحائط , يكتّف ذراعيه ...الارهاق واضحٌ عليه.....أما عروسه كانت تقف بعيدة عنه يعزل بينهما مقعد مكوّن من ثلاث كراسي , يجلس على الوسطى منها رجل اربعينيّ واللتان على جانبيه فارغتان ....المقعد شبيهه المقابل له ممتلئ والأخرى الشاغرة بالرواق بعيدة عن الباب الفاصل عن غرفة العمليات....انتبه (سامي) بنظرته الجانبية اليها لحركة ساقيها وهي تبدلهما اثناء وقفتها دليل التعب من الوقوف...فدنا من الرجل بأدب هاتفاً :
" لو سمحت...اجلس جانباً لتجلس الآنسة !! "
سمعته بسبب قربها منه ...يجب ان تفرح جاء الفرج لترتاح لكن قلبها يؤلمها لتصميمه طوال هذا اليوم على لقب آنسة !!....تريد ان يعرّفها بصفة تخصه صفة لم ترضها سابقاً ولن ترضاها لاحقاً لكنها لا تدري لمَ الآن بالذات تحتاج سماعها منه..!!.....أطاعه الرجل باحترام ولربما بخوف ....اقترب ليطلب منها الجلوس فسبقته تمد يدها المرتجفة بغتةً دون وعيها نحو زاوية فمه حيث وقع بصرها على نقطة دماء من احدى الضربات التي تلقاها من الصغير...وهتفت قلقة :
" هناك دماء على طرف شفتك "
.لكنه كان قد نصب ذراعه ليضعها حائلاً بين وجهه وكفها مع كشرة على ملامحه فأنزلتها وأنزلت معها رأسها وأهدابها محبطة من افشاله لها...فقال بجدية بصوت خفيض:
" يمكنك الجلوس .."
اجل هي حمقاء لا تتخلّى عن عنادها ....أما هنا كانت نيتها باستفزازه لفت انتباهه وكذلك لترد على قسوته هذه ....لذا رفعت كتفها وهي تزمّ شفتيها كالطفلة هاتفة بحنق:
" لا اريد.....بإمكاني طلب ذلك منه ان اردت..!!.."
رمقها بنظرة من اخمص قدميها لرأسها بازدراء خفيف ..كانت ترتدي منامة كحلية على بلوزتها يرسم نجمة صفراء مع حجاب تلفه بعشوائية لونه ابيض وقال بنبرة متحجرة ميتة وهو متجهاً نحو الحمامات :
" أنتِ حرة ...نسيت انه بإمكانك فعل الكثير. ! "
لقد ضرب سهماً على نابضها ...تشعر بنزيف ودقاته ستتوقف ...انه لا يعي ماذا يفعل بها بأسلوبه الجديد عليها ...!!..هي تصمم على رأيها وتتحدى الجميع لا تريد هذا الوباء المسمّى حب ....لكنها اعتادت على الأشقر الغليظ بشخصية مغايرة لهذه....
عاد من الحمام لم يجدها...نظر يمنة ويسرة نظرة ثاقبة كالصقر , لا أثرَ لها ....انتبه له الرجل الجالس فقال وهو يشير للرواق المؤدي للخارج :
" ان كنت تبحث عن الآنسة فهي ذهبت من هناك .."
من المفروض ان يشكره بامتنان لكنه قطب حاجبيه بغيظ وهتف بنبرة تحذيرية:
" انشغل بالدعاء لمن لكَ في الداخل ولا تراقب من لا يخصك يا سيد ...أظن انك تحتاج لعينيك فحافظ عليهما بغض البصر والّا... !!.."
ازدرد الرجل ريقه جبناً فلباس الشرطة وحده له هيبة وكيف ان كان من يرتديه جبلاً شامخاً بثقة وشجاعة لا يهاب احداً...
قصد الخارج بخطى سريعة ليبحث عن ذات عقل الضفدعة ....عند تخطيه عتبة الباب الزجاجي الرئيسي التقى بممرضتين تدخلان , تتهامسان ....وصله صوت عابر من احداهما :
" أتراهنين انها تبكي بسبب غليظ أحمق وليس لسبب آخر ...كقلق على مريض مثلاً "
انفطر قلبه بعد سماعه هذا ...حدسه أخبره انهما تتكلمان عنها فمن غيرها ستبكي في الخارج بل من غيره غليظ أحمق يعاملها بصلابة دون ان يفصل ما حدث بالنهار عن حاجتها له الآن بعد قلقها على شقيقها !!....
لمحها تجلس على حافة حوض للأزهار ...ظهرها له ...تتكئ بمرفقيها على فخذيها وتحجب عينيها بكفيها ...زلف منها بهدوء ...مدّ يده بتردد ليضعها على كتفها ثم اعادها ممتنعاً يغلق قبضته يشدّ عليها بقهر حتى ابيضت مفاصله ...يشعر بطعنات في انحاء جسده منها وعليها....تنحنح هامساً :
" لمَ تجلسين هنا ؟! "
استدارت بوجهها ليمينها حيث يقف للخلف قليلاً وأنفها كحبة الفراولة من البكاء والهواء معاً وقالت :
" أريد ان أتنفس ...أهذا ممنوع ؟!"
" لكن هنا الهواء بارد وستمرضين "
" يبقى أدفأ من الأسكيمو في الداخل "
حكّ عنقه متهرباً وهتف بصوت هادئ وكأنه لم يفهم قصدها:
" هيا لندخل...ستخرج والدتك ولن تجدنا "
" ادخل انت...سأبقى هنا "
تمتم مستغفراً وقال :
" بربك دنيا ....ليس وقت الانشغال بك "
هبّت واقفة تقابله وعيناها تلمعان ثم هتفت بصوت بدا له مرتفعاً :
" لم اطلب منك الانشغال بي ..."
حافظ على هدوئه هامساً :
" أعلم لكن بعد قليل سيخرج شادي من العمليات ان شاء الله ...هيا تعالي "
تفحّصت ساعة هاتفها كانت تقترب من الرابعة قبل الفجر فسارت امامه بانحناء لا يشبهها , انحناء لفت انتباهه! لأنه دائماً يراها مرفوعة الهامة!!...هل هو تعب السهر أم قلق على الصغير أم ألم وقهر ؟؟!!....لا يعلم الإجابة لكن يعلم كمية المعاناة التي في صدره من حيرته كيف يتصرف معها !!.......عادوا الى غرفة الانتظار....جلست على المقعد الذي غدا فارغاً فجلس جانبها مباشرة كي لا يقترب احداً منها ولو حتى كان كفيفاً ..!!...عمّت السكينة في المكان...معظم من تواجدوا اختفوا بعد انتهاء عمليات ذويهم ....تجاوزت عــقارب الدقائق عن الرابعة وهما ما زالا ينتظران في مكانهما يراقبان شاشة تحديثات مجرى العملية التي تظهر امامهم وتُطلِعهم أولاً بأول عن كل مرحلة ....يومها كان عصيباً ومرّ كأنه الدهر , لذا لم تشعر كيف اتخذت كتفه مخدة لوجنتها الناعمة راحلة في سبات لعالم احلامها ....دغدغة طيّبة وحلوة وافته لرؤية كتلة البراءة التي تحتله دون استئذان ...رسم بسمة حبٍ مبتور....كم تمنى هذه اللحظات ؟؟!! كم دعا ربه لتكون من نصيبه وان يضع حبه في قلبها ؟؟!!....لو بادلته نفس الشعور الذي لم يعطيه لسواها لأفرغ الغرفة وأغلقها من جميع الجهات ووضعها في حضنه كالطفلة في حضن أبيها وجعل من نفسه فراشا وبيتاً لها , فقط لتنعم بالطمأنينة والراحة حتى تشبع وتنهض لوحدها لكن كما قالوا زرعنا (لو) فأنبتت ( يا ليت ) ....!!....بعد قليل غدره النعاس هو الآخر فأمال رأسه ليسنده على رأسها وذهب الآخر في عالمه....من كان يمر من الممرضين وغيرهم كان يبتسم للطافة مشهدهما الذي يجسد صورة لعاشقيْن اجتمعا بعد ضنْك ومقاساة...!!...
مضت دقائق ليكتب على الشاشة انتهاء العملية بعدها خرجت امي لتبشرهما فوجدتهما على حالهما ...ابتسمت بوهن وجلست بجانبه الآخر بعد ان طمأنتها الطبيبة بنجاحها وأنه الآن في قسم الإنعاش وما زال تحت التخدير...من غير ادراك منها هي الأخرى وقع رأسها على كتفه الأيسر ليُصَمم غلاف لرواية لهم , بطلها صديقي (سامي) وعنوانها (في بيتنا رجل)....كان هو عامود الأساس لهاذين الركنين الضعيفين لتستندان عليه وتتماسكان في غربة الوطن....!
رنّ منبه هاتفه الذي يضعه لوقت الصلاة لكنه لأول مرة لا يستيقظ فانتبهت أمي له وأيقظته بهدوء كي لا تفوتهم صلاة الفجر...فزّ يحاول استيعاب مكان وجوده ...كانت شقيقتي قد عدّلت نومتها مستندة براسها على الحائط خلفها ...فرك عينيه وهمس يوجه كلامه لحماته :
" ألن توقظي دنيا ؟! "
هربت بعينيها حياءً ثم اجابت مجبرة بصوت خافت :
" لديها عذر..."
ندم على سؤاله بتطفل ...ما كان عليه معرفة شيء خاص لهذه الدرجة عنها !!...نهض ورأى احتضانها لذراعيها من البرد...نظر لقميصه الكحلي الفخم الخاص بزيّ الشرطة يتفحصه....فكّ أزراره وخلعه وبقي ببلوزة نصف كم بيضاء سادة تجسّد عضلاته ثم دثّر قسمها العلوي به علّها تلتمس بعض الدفء لتحتمي من برد الفجر فهكذا يكون الجو الصيفي الصباحي والليلي في المدينة الجبلية....
×
×
×
بعد ساعتين من الفجر استيقظ صغيرنا وكل القيّم عنده مستقرة بفضل الله...كانوا يعطونه بعض المسكنات بسبب الآلام في موضع جرح العملية.....مكث في المشفى يومين وغادره بالثالث ...كانوا قد اعلموني بما أصابه ...هذيتُ كالمجنون كنت اريد ان أطير له من شدة خوفي وقلقي عليه لكن صديقي والسيد (سليم الأسمر) منعوني وطمأنوني أن لا حاجة للمجازفة مادام كل شيء يسير على ما يرام....قضيتُ هذه الأيام بمكالمات هاتفية , صوت وصورة لأرى حبيبي صغيري بنفسي ....انه رجل صغير قوي الإرادة ويتماثل للشفاء بسرعة ...!!....في اليوم الخامس وردني اتصال من صديقي (سامي) وكان صوته جدياً على غير العادة :
" هل انت متفرغ هادي ؟"
سألت بتخوّف:
" خيرٌ سامي. ؟؟....كيف شادي ؟!"
ردّ بذات النبرة :
" لا تقلق....كل شيء تمام الحمد لله....لكن اريد اخبارك بموضوع آخر "
نفثت انفاسي بارتياح وقلت:
"الحمد لله....... قل ما عندك !!"
" شيء يخص شقيقتك دنيا !!"
رفعت نبرة صوتي بتوجس :
" ما بها صغيرتي ؟؟...هل حصل معها مشكلة ما ؟؟"
" تعال لتفقأ عينيّ.....لقد أبكيتها "
كانت مكالمة طويلة سرد لي بها كل ما حدث وكذلك أطلعني على قراراته فأخبرته بنيتي لزيارة اهلي والوطن في أواخر الشهر المبارك الذي تبقّى له شهر ليهلّ علينا بخيراته واتفقنا اننا سنتحدث بقضيته وتفاصيلها وجهاً لوجه بإذن الله وأيضا طلبت منه التكتم عن موضوع ذهابي لتبقْى مفاجأة لهم .....!!
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
قبل ثلاثة أيام تم اختيارها من ضمن نخبة من طلاب جامعتها المتفوقين في الامتحانات الأخيرة للمشاركة في مؤتمر تقيمه هذه الدولة بالعاصمة تحت رعاية وزيريّ الثقافة والتربية والتعليم ...ففي كل سنة يختارون تخصصاً جديداً لتسليط الضوء عليه لتشجيع الأجيال الصاعدة ودعم الجامعيين من أجل تطوير المستوى التعليمي والثقافي للدولة وفي هذا العام تم انتخاب تخصص الهندسة المعمارية والداخلية فقام المقبلون على التخرج بعمل مشروع ومجسم الكتروني ليعرضوه في معرض المؤتمر وعلى الجامعة ايضاً بعث فئة من الطلاب المبتدئين والمعلمين ليمثلوها فيه وليكرموهم ....!!.....بعد اصطفائها من بين زملائها ,اعلموها بجلب مرافق معها ليسلمها شهادة التقدير بنفسه هناك ويجب ان يكون قريباً من الدرجة الأولى , وبلا ريب فتاة رقيقة , مدللة مثلها سيكون والدها مصدر فخرها واعتزازها فقررت مفاجأته باختياره مرافقاً لها......كان الوقت مساءً والسفر للعاصمة في الغد مثل هذا الوقت والمؤتمر في صباح اليوم الذي يليه ....انتظرت قدومه من عمله بفارغ الصبر...كانت تجوب بهو القصر بحماس وبهجة , تراقب مجيئه من الباب الزجاجي الكبير...!!.....منذ صغرها اعتادت على ان تكون هي اول من تقوم باستقباله والقاء نفسها في احضانه ولما عادت من كندا أحيَت مرة أخرى عادتها هذه فهي تشعر نفسها طفلة مهما كبرت وانها ما زالت مدللته وتتربع على عرش قلبه مهما اختلفا او تخاصما ...!!....فُتح الباب ليدلف العنكبوت لشباكه الواهية ...اتسع فمها بضحكتها البريئة التي تصل من الاذن للأخرى واسرعت بمشيتها لتحتضنه لكنها توقفت في نقطة معينة عندما رأته ينفث لهباً ويده على أذنه تثبت الهاتف ولا يرى أمامه ....بدأت تقترب ببطء بعدما خمد حماسها ....وصلته فاستدار بجسده ليساره حيث مكتبه القريب من المدخل....لحقت به لكن حجب بينهما الباب عندما صفعه بوجهها من غير ان ينتبه لها !!...نكست رأسها لوهلة ثم قررت المجازفة فموضوعها يجب ان يفخر به وعليها بعث رسالة للإدارة باسم مرافقها ...طرقت الباب فقال باحتدام :
" ألا ترون الباب مقفلاً ؟...لا اريد الازعاج !! "
همست بصوتها الناعم ويدها على مقبض الباب:
" هذه أنا أبي ...من فضلك دقيقة من وقتك لأمر ضروري .."
أجاب بصلابة :
" أجّلي الدقيقة ألمى ...لست متفرغاً الآن ...سأناديك ريثما انتهي !!.."
أدارت ظهرها للباب تستند عليه بضعف وهي متشبثة بمقبضه وتمتمت هامسة بشجا :
" متى كنتَ متفرغاً لي أبي ؟!..."
وسُرِقت من سمائها نجمة متلألئة , صافية كصفاء روحها , مجروحة كجرح قلبها , مبتورة كيُتمها ..!!...
ظلّت على هذا الحال دقائق قليلة جداً ثم استعادت رباطة جأشها وفي نيتها الذهاب للاحتمال الثاني لمرافقتها وهي خالتها الحبيبة ...زارها الأمل ودفعها لتصعد السلالم بعجلة ليطمئن قلبها ....طرقت الباب طرقتان وفتحت من غير استئذان وهذه ايضاً عادتها القديمة منذ صغرها والتي استمرت عليها ...فعند خالتها لا حدود ولا قوانين كالوحش المرعب الذي يجلس في الأسفل في قلعته المزيفة ..!!......وجدتها تجلس على كرسيها الخشبي الهزاز جانب النافذة , تضع كتاباً على فخذها وفوقه ورقة بيضاء تكتب عليها فدنت منها متسائلة :
" ماذا تكتبين خالتي؟!"
خلعت نظارتها الطبية واهدتها ابتسامتها الحنونة بوجهها البشوش هامسة :
" أهلاً صغيرتي.....اين القبلة يا بخيلة ؟!.."
غمزتها بمكر وأضافت:
" أم ان هناك من سرق قبلاتنا ؟!"
" خالتــــي.."
مطتها بحياء ودلع تنهرها بعد ان فهمت مغزاها مع انها بقرارة نفسها تعرف بأي صحراء جرداء بَرَكَ جملها ونصبت خيمتها... أي بأيّ حائط شحيح المشاعر ارتبطت !!.....أحنت جسدها نحوها تقبّلها من خدها مجيبة وهي تخفي جرح فؤادها الذي ألهاها عن طبع قبلتها :
" انشغلت بما تكتبين ونسيت !! "
أعادت السيدة(فاتن) نظارتها لعينيها ونظرها للورقة بيديها وأجابت :
" بعد غدٍ يوجد ندوة بالمدينة المجاورة لنا ....كالعادة تخص اللاجئين والمهاجرين ...سنذهب أنا وايمان ...هي ستغطي الحدث وأنا سألقي كلمة.."
رفعت الورقة وتابعت :
" ها انا أحاول كتابتها علّني أفلح...فأنا فاشلة في هذا المجال !"
ابتلعت اقتراحها التي أتت به بعد أن وصلتها الإجابة قبل السؤال فأيضاً خالتها ليست شاغرة ..!!...استأذنتها هامسة بابتسامة كافحت لرسمها :
" بالتوفيق خالتي.."
وخرجت قاصدة غرفتها قبل ان ترد عليها !....خالتها تحفظها أكثر من نفسها ...لم ترتح لملامحها ولا لنبرة صوتها فلحقت بها لتجدها تكوّر نفسها على سريرها تبكي بهدوء على وحدتها ويُتمها ....دنت منها بقلبٍ موجوع عليها ...جلست أمامها بشكل جانبي وبدأت تمسد وجنتها وهمست بحنوٍ:
" ما بكِ حبيبتي ؟...لمَ تبكين صغيرتي ؟"
كانت تفتح عينيها دون ان ترمش , شاردة بحالها وحياتها ....أشارت لها لحضنها وهمست :
" هيا صغيرتي...ضعي رأسك في حضني لأداعب شعرك كما تحبين "
حرّكت جسدها قليلاً لتستجيب لها وبدأت تداعب لها شلالها الليليّ وهي تسألها:
" اخبريني عزيزتي بما يزعجك !!.."
" انتِ اخبريني خالتي ...متى سأجد أبي متفرغاً لي ؟!..شارفت على عمر التاسعة عشر وانا أبحث عن الوقت الذي يمكنني التحدث معه براحة من غير ضغوطات او مقاطعات ...ألا يشعر بي ؟! هل يا ترى يراني عالة عليه ؟!.."
أجابت تمسك نفسها ثم استطردت ببكاء :
" أحسد شركته والملفات والموظفين وكرسي المكتب....كلهم لهم قيمة عنده ويبجلهم أما أنا يركنني على الرف وفقط متى شاء يذكر أن له ابنة مسؤولٌ عنها....الى متى خالتي سنستمر هكذا ؟!....هل الأبوة ان تستطيع الانجاب والاطعام فقط ؟!...لمَ لا يضيفون تخصصاً كيف تصبح أب ولمَ لا يُدخلون كل اثنين مقبلين على الزواج لدورة كيفية الاهتمام بالأولاد قبل انجابهم ومن ثم يخضعونهم لامتحان اجباري ؟!! "
عدّلت جلستها وهي تحني ساقيها بشكل جانبي ثم مسحت بظهر كفها دموعاً انسكبت بغزارة تختلط معها المرارة ...كانت رموشها تحتضن بعضها من ثقل الدمعات وخصلات شعرها المبلولة من امطار سمائها تلتصق بوجهها ...تابعت تسألها بغصة والمستمعة لها تتمنى أن تمحو عنها بعض آلامها لكن ما باليد حيلة :
" هل يوجد آباء للإيجار ؟!!....أو أني سأعتذر لهم فهذا أفضل من أن أكون كالمنبوذة والمقطوعة من شجرة ...انه غير متفرغ ليسمعني فكيف سيتفرغ لمرافقتي ؟!"
" لا بنيتي...إياك أن تخسري ما حصلتي عليه بجدارة ....كم يتمنون ان يكونون مكانك ؟!...لا تثبطي عزيمتك وقاتلي دوماً لتَسمي إلى العلا...أزيحي الحجارة من طريقك وامضي للمستقبل ...لا تنتظري أن يأتيك بل أنتِ اقْبِلي عليه بكفاحك حبيبتي .."
كانت تصغي لها صاغرة من حظها فأكملت السيدة (فاتن) لتشعل شعلة أمل على درب صغيرتها :
" أنتِ تعلمين بعد أن يستحم والدك وينزل للعشاء يكون في حالة مخالفة لما كان عليه ....لذا على طاولة العشاء اخبريه بذلك ومؤكد لن يخيّب ظنك وعلى العكس سيفتخر بك !!..وان لم يستطع لا تجزعي واذهبي وتحدي نفسك ...واعذريني لعدم مرافقتك بنفسي بسبب انشغالي المصادف لنفس اليوم لكن هذه حكمة الله "
تراءت بسمة على مبسمها وهتفت برَجا ممتنة:
" شكرا لكِ خالتي لأنك اعطيتني من وقتك...فليحفظك الله لي ...سأحاول مثلما قلتِ.....يكفيني وقوفك معي "
×
×
×
يجتمعون على الطاولة البيضوية التي يترأسها... تَصُفّ الخادمة الأطباق الملكية بعناية وتضع ما لذ وطاب من المأكولات ...(ألمى) بجانب خالتها ويقابلانهما الأفعى (سوزي) وابنها القادم من العاصمة...تناولوا الطعام بهدوء وبعد الانتهاء منه كعادتهم القديمة يتناولون الشاي في الحال وهم في أماكنهم وهنا يكون فرصة للإدلاء بالطلبات او الشكاوي لأن هذه السُفرة فقط هي من تجمعهم فبعد قليل سينفض كل منهم ثيابه ويمسح فمه ويتجه الى أهدافه فحبالهم مرخية لم تُعقد بألفة عائلية ليكون رباطهم متيناً ! .. .حاضر الجسد غائب الذهن يبدو أنه نسيَ من كانت في حاجته قبل ساعة ونصف !!....طبعاً في رأسه تدور أسطوانات كثيرة وجميعها خارج نطاق ألحان بيته فهو يمجّد الاستماع لكل شيء أجنبي ما دام به در للمال ...لكنها بسنوات عمرها القليلة وطيبة قلبها البعيد عن الجشع والحقد تغني في رأسها اغنية واحدة وتتمنى ان يسمعها والدها ويصفق لها باعتزاز..!!...تنحنحت وهمست متناسية ما يخرج منه من ردود أفعال قاسية لأنها ما زالت (ألمى) الشفافة , المحبة التي تسامح بسهوله وقالت بأدب :
" أبي.."
رمقها بنظرة جانبية دون ان ينبس ببنت شفة أما نظرته تخبرها أن تكمل فأكملت تخبره عن اختيارهم لها متباهية بإنجازها وفي أي فندق سيستضيفونهم ...لم يكن لها فرصة منذ أيام بإعلامه بسبب تأخره خارج البيت ورغبت ان يكون وجهاً لوجه لتتذوق فرحته ...كانت تنطق كل كلمة وعيناها مسلّطة على ملامح وجهه تراقبه لترى تفاعله معها بفخر ...وصلت آخر نشرتها الإخبارية وهو على حاله قاطب الحاجبين لا مؤشرات للحياة في وجهه لدرجة ظنت انها كانت تكلم نفسها ولم يخرج صوتها لولا أن (كرم) قاطع ظنونها قائلاً :
" اووه سيدة ألمى....أعرفه جيداً هذا الفندق ...انه آخر فخامة ...يا لحظك !!.."
تبسمت له ليس لأنها فرحت لكلامه بل لتمنع تقاسيم وجهها للاستسلام للبكاء بعد أن رأت لا حياة لمن تنادي .!!...سألت لتتأكد :
" هل سمعتني أبي ؟!"
نظر لساعة يده وقال دون النظر لها لأن حدقتاه تحلق بأروقة عقله بين الصفقات :
" سمعت أميرتي!!...من واجبهم اختيارك حتى لو لم تنجحي فأنا اثناء انشاء هذه الجامعة وضعت مالاً لا يعد ولا يحصى لتنجح ولتكون رفيعة المستوى وبهذه الفخامة من أجل ابنتي الوحيدة..."
ارتجف فكها السفليّ مع رعشة في شفتيها واستدمعت عيناها وهمست بصوت مكهرب بسبب رده البارد والاستهانة بها :
" لكن أبي هم اختاروني لتفوقي بفضل اجتهادي وذكائي.."
" طبعاً لوما ...هذا بالإضافة لما ذكرت "
كانت السيدة ( فاتن ) تصك على اسنانها وتشد قبضتيها تحت الطاولة مغتاظة لهدمه لمعنوياتها وهزّه ثقتها بنفسها بغباء عديم المشاعر هذا.... أما الأفعى خطّت ابتسامة شماتة على فيها ومسكت قبضة ابنها من تحت الطاولة ليساندان بعضهما بهذا العرض والأخير يضع يده الأخرى يغطي ثغره الشامت خوفاً من ان يلمحه العنكبوت ....قبل أن تكمل لتصل لطلبها وقف مستعداً ليبرح الجلسة فوقفت مثله ومدت يدها تمسك معصمه قائلة برهبة :
" هل يمكنك مرافقتي أبي غداً لنبيت ليلة وتسلمني شهادة التقدير بيدك ؟!"
حدّق بعينيها لثواني يفكر ثم أجاب من غير تردد :
" عزيزتي سامحيني....لو ان المؤتمر سيكون مساء الغد لفعلتُ المستحيل لكن بعد الغد عليّ موعد هام جداً لا يمكنني الغائه أو الاعراض عنه !!.."
لم تبدي أي ردة فعل فأضاف مشيرا للجالسة :
" خذي خالتك..."
أجابت بنبرة جافة ترغب بإحراقه :
" لديّ ندوة لا يمكنني الاعتذار عنها فأنا ضيفة شرفها وهي من اول يوم اعلموها به رغبت باصطحاب والدها والّا لكنت رتبت أموري من اجلها..."
حكّ صدغه وقال :
" خذي كرم أو صلاح.. "
انفجرت به هاتفة غير مهتمة بالأفعى وفرخها :
" من يكون كرم ؟!...لا اريده.....انا اطلب منك أنت....وصلاح ما صلته بي ليرافقني ؟؟!....قلت لك فقط أقارب من الدرجة الأولى !!.."
على غير عادته رد ببرود فهو الآن لرفعها لصوتها بوجهه كان يجدر به سحبها من شعرها او صفعها لكنه يدرك انه مخطئٌ ومقصّرٌ في حقها لذا ترك لها ان تنفّس قليلاً من ضيقها :
" اذاً يامن....باعتباره خطيبك او زوجك.....يعني هو أقرب المقربين لكِ "
أفرجت عن ضحكة هازئة تعايره :
" يامن ؟؟!....أنسيت انه مثلك رجل أعمال ولا وقت لديه ؟؟!.....بماذا سيختلف عنك ؟!....هل سيترك أعماله من أجلي وأنت الأولى بفعل هذا ؟!.....لم اعد ارغب ان يرافقني أحد......كم يتيماً أثبت اسمه وكم لقيطاً نجح في حصد أهدافه ؟!.....وأنا سأفعل مثلهم وأذهب بمفردي وليروا ألمى التي لا أصل لها ولا عنوان !! "
صرخة مستنكرة مع شهقة مصدومة من الجالستين بعد ان نزلت يده للمرة الثانية على وجنتها بغلّ صارخاً :
" تحتاجين لتربية يا قليلة الحياء .... لسانك طال يا فاجرة !....لن تذهبي للبعثة ...نقطة وانتهى !!"
سكب ما عنده بمقت واستهجان , ترك المكان على من فيه وانصرف ليعتكف بقلعته....
↚
في اليوم التالي ذهبت للجامعة رغم انها لم تنم ليلتها وهي تبكي في حضن خالتها على معاملة ابيها لها الذي بدأ يستسهل مدّ يده عليها وهو لم يكن يفعلها آنفاً ...انها ليست كالسابق لن تتغيب !...فدائماً أول مرة يكون الصعب وهذه ليست الأولى !!.... وماذا جنت من غيابها غير انها خسرت مادة وتاهت في شرحها !!.....
بعد أن عادت لقصرها اتخذت غرفتها منفى لها وعصفت بها الأفكار شمالاً ويميناً ...في السادسة مساءً موعد انطلاق الحافلة من أمام الجامعة والآن الساعة الرابعة !!...لم تجرب في حياتها شيئاً جنونياً ولكن لكل شيء يوجد بداية !!....تسأل نفسها " هل أستطيع فعلها ؟!...هل يمكنني مواجهة العواقب ؟!.."...
والدها يعود من عمله في السادسة والمشوار للجامعة يستغرق من عشرين لثلاثين دقيقة فلكي تستطيع الخروج وإيجاد سيارة أجرة لتوصلها هناك عليها ترك المنزل في الخامسة !!...همّت بسرعة من سريرها...أخرجت حقيبة لها تتسع لمنامة خفيفة وملابس لليوم التالي مع التوابع خاصتها بما فيها الكريم والمشط...قامت بلفّ زجاجة العطر بملابسها كي لا تكسر... انتزعت بسرعة محفظتها التي فيها بطاقة الاعتماد خاصتها من حقيبة الجامعة لكنها ذكية لن تعتمد عليها فقط فأخرجت من خزانتها ورقاً نقدياً لأنها تفقه انها تعبث مع الثعلب (عاصي رضا) والأكيد فور معرفته بفعلتها سيوقف لها الحساب ليعاقبها وكي لا تسرح وتمرح براحة وليستطيع اضعافها بسهولة والوصول اليها ..!!....دخلت الحمام واستحمت بدقائق خلافاً لروتينها ....ارتدت بنطال جينز كحلي ضيق ممزق من احدى ركبتيه وبلوزة نصف كم سوداء مع شعار الماركة الأبيض على يسارها ...اوبس....ما كان عليها غسل شعرها !!...لقد نسيت نفسها وهي تحت الدش ...شعرها لوحده يستغرق تمشيطه نصف ساعة والآن العــقارب تعلن الدقيقة الأربعين بعد الرابعة !! .....حاولت الاستعجال بتسريحه وكان جاهزاً في الخامسة لأنها أبقته منسدلاً على ظهرها .....ماذا ستفعل الآن؟! ..ما ان تخرج بتسلل من الداخل والخارج ستكون الساعة اجتازت الخامسة والنصف وحتى الحصول على سيارة اجرة ستكون قد انطلقت الحافلة !!.... فقررت ان تضرب ضربة حظ من هاتفها...
" مرحبا يامن.."
قلت مازحاً:
" أهلاً ألمى...هل اشتقتِ لي وقبل ساعتين تكلمنا؟!"
"هل بإمكانك ايصالي للجامعة .؟! "
سألت بفضول وقلق :
" لمَ؟...اخبرتيني انك ستذهبين مع والدك...ماذا تغير ؟! ."
ردت بتملّص كاذبة:
" ممم.....ابي سيلحق بي في وقتٍ متأخر ...اين انت ألان ؟!"
قلت :
" قبل قليل دخلت بيتي ...لم تسألين؟!"
" كي تأتي في تلك السيارة الرياضية السماوية السريعة !"
هتفت ساخراً بمرح:
" ماذا سيدة ألمى هل تطلبين أم تأمرين ؟! ...فأنا لم اعطك جوابي بعد !!.."
ردت محرجة بخجل :
" آسفة ...ظننت أنك وافقت .."
ضحكت من قلبي لقلبي وهمست :
" لا مجال لرفض طلب عروسي !!.."
همست بحياء:
" اشكرك يامن "
" العفو......هل انت جاهزة أم عليّ جلب خيمة لأخيّم في ساحتكم وأنام ؟!
ضحكت ضحكة شلّت أطرافي وقالت :
" قسماً جاهزة ...أتريد أن ابعث لك صورتي ؟!"
"يا ليت أن تبعثي لي نفسك جسداً وروحاً حبيبتي" ....وددت بشدة قول هذا لها لكني ملجماً ..فقلت بنبرة لطيفة :
" أنتِ أقسمتِ فواجبي ان اصدقك !...عشر دقائق بإذن الله واكون باب بيتك .."
جاء الآن دور كيفية خروجها مِن شبكة العنكبوت المليئة بالمتاهات ....فتحت نافذتها وألقت حقيبتها منها ....نزلت السلالم تجاهد على رسم الهدوء في ملامحها وحركتها....كانت (سوزي) تجلس على جلسة قريبة من السلالم تحتسي قهوتها وتقلّب مجلات الموضة وفي غرفة المعيشة خالتها تشاهد التلفاز ....أوقفتها (سوزي) تنثر سمومها :
" الى أين سيدة ألمى ؟!.."
عند سماع السيدة (فاتن) سؤالها أقبلت نحوهما وكررت سؤال تلك :
" أين ذاهبة صغيرتي ؟!.."
اجابت بثقة لأنها فعلاً لم تكذب ولو اجبروها ان تقسم ستقسم :
" سأذهب مع يامن لمشوار ....هل من مانع ؟! "
" لا عزيزتي...مشوار موفق...ليسعدك الله أينما ذهبتِ "
مدّت جسدها تقبّلها من وجنتها هامسة :
" ربي يحفظك خالتي .."
همست (سوزي) بفحيح :
" ظننتُ انك ستكسرين كلمة والدك وتذهبين للمؤتمر...."
فتحت فمها لتجيب بهجوم لكن مسكتها خالتها وقالت :
" ظننتُ أن لا دخل لك بما يخصها والتفتي لمجلاتك كي لا تجدين نفسك بين براثن عاصي !"
أضافت (ألمى) على كلامها تهين ذكائها المحدود :
" أين هي حقيبتي لأذهب يا.....يا زوجة أبي النبيهة ؟!"
رمقتها بازدراء واتجهت لمكانها هاتفه :
" فعلاً طال لسانك...أم أن خطيبك الذي لا نراه يعلمك على التمرد ؟! "
صرخت بها متخطية حدودها كونها زوجة ابيها ولها احترامها :
" أصمتي ...لا شأن لك بي ولا بخطيبي ...أتسمعين ؟! "
ثم تعجّلت بخطواتها تخرج من الباب تتأفف حانقة بعد أن سمّت بدنها تلك الأفعى .!!....
نزلت سلالم المدخل القليلة العريضة ...التفتت يمنة ويسرة بحذر...من الجيد في هذا الوقت لن يكون البستاني ولا البوّاب أما الحراس عند البوابة لا مشكلة لأنها مع خطيبها....استدارت للفناء الجانبي للقصر فنافذتها كبيرة موجودة في زاوية غرفتها تحتل قسماً من الحائطين الجنوبي والشرقي وألقت حقيبتها من الجهة الشرقية لأن الجنوبية تطل على المدخل والساحة الكبيرة ....صدمت عندما رأت حقيبتها عالقة على غصن الشجرة !!...طولها لن يساعدها ...تحتاج لكرسي على الأقل أو لشخص طويل...مثلي مثلاً!!...فكرت بسرعة ....." عندما يأتي يامن سأطلب منه انزالها وأقول له وقعت بالخطأ من نافذتي !!" ..
نفضت فكرتها الغبية وتابعت في عقلها "..هل هو أحمق ليصدقني؟!...سيبدأ بتحقيق بين السين والجيم !!...عليّ أنا انتشالها ...اوف... يا ربي "...
لا حل لديها سوى ان تجلب كرسياً من الطقم الموجود قرب المدخل ....ذهبت لتحملها تعتقد انها مشتركة في نادي اللياقة البدنية لكمال الأجسام فالكرسي مصنوعة من الحديد والرخام خصيصاً للحدائق وتتلاءم مع تصميم القصر !!...لمحها احد الحراس فاقترب منها خافضاً عينيه للأرض!...ليس لأنه ملتزماً او خلوقاً بل مهابةً من سيده !...هتف سائلاً :
" أتحتاجين مساعدة سيدتي ؟!.."
" من فضلك ضعها تحت شجرة البرتقال ..لأنني سأجلس تحتها استنشق رائحتها لحين قدوم خطيبي !"
من سألها لماذا تريدها ؟!...كادت تفضح نفسها بكلامها الغبي وهي تشرح له قصة حياتها دون ان يطلب منها !!....لو كان متطفلاً قليلاً لاعترفت له في جرمها ..!!....
طلبت منه بلطف ولحقت به لتشير له على بقعة محددة فانصاع مجبراً رغم استغرابه باختيار هذا المكان ....بعدما اختفى عن انظارها ...صعدت بسرعة لتحررها لكنها شبكت بغصن رفيع فبدأت تشدها بعنف والأوراق مع الغبار تتهافت عليها وبينما هي في هذا الحال دخلت بسيارتي الساحة ففزعت وشدتها بقوة أكبر فخدش كوعها من احد الاغصان وترنحت وكادت تقع لكنها وازنت نفسها بمشقة قبل السقوط الحرّ والأهم من ذلك ان الحقيبة أصبحت بيدها..!!....نفضت عنها وعن حقيبتها ما وجدت من غبار أو أوراق عالقة وأقبلت عندي مهرولة كالسارقة الهاربة من مصرف وهي تقول لاهثة بكلمات متتابعة وكأنها تتكلم سنسكريتي:
" مرحبا كيف حالك ؟انا بخير وانت بخير هيا اسرع تأخرنا !!.."
لم اطيعها لأني مذهول من منظرها ولهجتها ...أأضحك أم افتح تحقيقاً معها ؟؟....لا اعرف !! ...فحدقت بي وورقة صغيرة خضراء كالمشبك تزيّن شعرها دون ان تدري ....مددت يدي بفضول وسحبتها عن شعرها وبرمتها من عنقها بإبهامي وسبابتي أتأملها باستغراب وهذا غير خطوط الغبار التي جعلت وجهها كصفحة لدفتر الحساب فسألت ساخراً :
" هل تقومون بتربية الدجاج ؟! "
اتسعت عيناها بصدمة وسألت ببراءة :
" لا...لماذا تسأل؟! "
أجبت مستنكراً :
" لأن مظهرك يدل على أنك كنتِ تطاردين الدجاجات تحت الاشجار لتدخليها القفص !"
أشرت على ركبتها التي تظهر من البنطال وأردفت :
" حتى انظري ...مؤكد وقعتي على حجر وتمزق!"
قالت وهي تشيح وجهها لنافذتها هروباً :
" هذه الموضة أما انا كنت أقطف ثمرة البرتقال .."
لم اعقب على الموضة خاصتها لأني قلت يلزمها شغل مكثف لتخرج مما هي فيه !!...
يرحم الله أيام زمان كان من يتمزق له بنطال وخلافه لا يقبل بارتدائه خجلاً او تجنباً للسخرية والاحراج أما الان ينفقون آلاف القروش ليشترون الممزق تحت اسم الموضة التي لا ذوق لها ولا رقي بها...لا حول ولا قوة الا بالله ...!!.
وبالنسبة لإجابتها لا ذنب لي هي مصممة على ان احرجها فقلت ماسكاً ضحكتي :
" ألمى....هل نحن في فصل الشتاء ولا علم لي ؟! ...نحن في الصيف يعني لا ثمار للبرتقال !!....جدي كذبة أخرى .."
انفعلت متضايقة وترقرقت الدموع في عينيها ومدت يدها لمقبض الباب هامسة بتحشرج :
" يكفي يامن...لا ينقصني أنت أيضاً للتحقيق..."
وفتحت الباب لتنزل مستسلمة لكن نابضي لم يتحمل دمعها فأمسكتها برفق وهمست بحنوٍ وانا اجزم بوجود خطب ما يزعجها :
" آسف...لن اسأل ....فقط.. انظري اليّ.."
صوبت السماء الغائمة نحوي ...حلّقتُ بها للحظات ثم أخرجت من الدرج امامها مناديل رطبة وسحبت منديلاً وهي على وضعها , وجهها مباين لوجهي وبدأت بليونة خائفاً من ان اخدشها أمسح الغبار عن قمري وبعدها عدت لأنظف فتات الأوراق عن ليلي ثم بإبهامي جففتُ قطرات الماء التي كانت تتأرجح على رموشها وبقبلة مني على أعلى انفها بين زرقاوتيها زجرت السحُب من سمائي لتصفى الدنيا بعينيها وتهديني ابتسامة رضا من شفتيها...
×
×
×
في الطريق كانت تمسك يدها عند الكوع وتكمش تقاسيم وجهها بألم فسألت قلقاً عليها :
" ما بها يدك ؟!.."
رفعت ذراعها تريني الخدش وهمست تشكو وجعها :
" خدشت من الشجرة ويحرقني مكانه .."
كانت نقطة دماء مع خط احمر ...اوقفت السيارة جانباً واخرجتُ قارورة ماء صغيرة من جيب بابي ومناديلاً جافة لأن الرطبة ستزيد احتراقها بسبب المواد الكيماوية التي عليها....سكبتُ عليها الماء لأرطبها ومسكت ذراعها بحذر كي لا تتألم ألمتي وتؤلمني ...ربتّ بخفة على موضع الإصابة واخرجت لاصقاً طبياً وضعته لها ...فحبيبتي الحليبية الرقيقة , هشة أي شيء يؤثر عليها ولو وقفت بالشمس ستذوب حتماً كالزبدة لأنها نشأت دون ان تواجه الطبيعة بصعوباتها ولا الحياة بقسوتها فالنذل حاول حمايتها بطريقة غبية مريحة له كي لا ينشغل بها....جعلها أسيرة للجدران ولم يفكر بالعواقب ذاك الخسيس الأناني.....تابعتُ سيري حتى وصلنا بوابة الجامعة وكان الطلاب يتوافدون مع مرافقيهم الّا هي كانت وحيدة ....نزلنا من السيارة ...سرتُ معها حتى الحافلة تبسمتُ لها بقبول وهمست :
" رحلة موفقة ألمى...استودعكِ الله الذي لا تضيع ودائعه....اتصلي بي وطمئنيني عند وصولك.."
ارجعت لي البسمة بواحدة أجمل وهمست ممتنة :
" شكري لكَ يصل لعنان السماء ....سأتصل أكيد .."
ثم ولتني ظهرها مدبرة لتصعد سلالم الحافلة.....انتظرتُ حتى انطلقتْ وهي تلوّح لي من النافذة بتلقائية وعرفان وعدتُ لأباشر التحقيق بمظهرها الذي لم يرُق لي ......
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
في فندق العاصمة الفاخر ,استحمت وارتدت ملابسها ....الآن عليها وضع اللمسات الأخيرة مثل الكريمات , العطر وترتيب شعرها ....كان هذا في العاشرة من صباح اليوم التالي وبقي ساعة لمؤتمرها ...أصابها الأرق والقلق في ليلتها...ليس لأنه تغير عليها المكان فهي عاشت سنوات في الخارج انما قلبها سيتوقف احتراساً وروعاً من فعلتها فعند وصولها الفندق اتصلت بي تطمئنني كما اتفقنا ثم أغلقت هاتفها كي لا يلاحقها اهل بيتها باتصالاتهم ومن ناحية أخرى حزينة , عاجزة ومهزومة من وحدتها بين هذا الكم من زملائها الطلاب القادمين من أرجاء الدولة مع مرافقيهم..!!....جلست على المقعد الخاص بطاولة الزينة في غرفتها الموجودة في الطابق الرابع ...بدأت تعيد ترتيب شعرها بشرود ونبضات قلبها تحارب للصمود من حصيلة ونتائج ثورتها ومغامرتها وايضاً تفكر متعجبة كيف لم يصلها والدها الى الآن.؟؟!!..اسئلة كثيرة راودت عقلها ولم تفلح بالعثور على أي اجابة...سمعت طرقات خفيفة على الباب...جرّت قدميها لتفتح ...ربما عمال التنظيف!! ....ما ان فتحته حتى جحظت عيناها مدهوشة..!!
" هل تقبلين بي لأكون اليوم أباً لكِ صغيرتي ؟!"
وبعفويتها صرخت منشرحة مع وثبة مباغتة منها لتتشبث بعنقي وتخبئ وجهها به وتقفز بقدميها تباعاً كطفلة يانعة منفعلة , تهمس بين ضحكاتها الممزوجة مع البكاء :
" موافقة....موافقة....موافقة "
ضحكتُ واحتضنتها...شددتُ عليها قليلاً ثم حررتُ ذراعيّ لكنها ما زالت ملتصقة كالغراء لا تعتقني ..وبالطبع لا تستوعب ما تفعل بي بغنجها هذا!!...خجلتُ وانا اجول بنظري على الجهتين يميني ويساري لأننا على الباب في رواق هذا الطابق ويمر من خلفي القاصي والداني ويقذفوننا بنظراتهم المستنكرة ...ألا يعلمون أن هذا عناق بين أب وابنته ؟؟!!...حتى انهم لا يضعون احتمالاً أن نكون زوجين !!...لا بد انهم يعتقدون أننا عاشق وعشيقته فهكذا نحن البشر نتسابق لسوء الظن والتحليلات ...ننظر للشيء من زاوية واحدة دون ان نلتمس الاعذار او نقول لربما ولربما...صفاء النفوس وحُسن الظن هي نعمة يُحرم منها الكثير ولا يدركون العاقبة والإثم الذي يأتي به شكهم وانه هو مجرد تهيؤات وخيالات لا أساس لها من الصحة!!...... همستُ قرب اذنها ضاحكاً محاولاً ابعادها:
" ألمى...كفى!...ألمى الناس ينظرون لنا وان استمريتِ هكذا سندخل الغرفة ولا نخرج الّا وأكون أباً حقيقياً ...لا تحرضيني !!"
ادركت اخيراً ما تفوهتُ به فأفلتتني ناظرة لوجهي وقالت بجسارة تواري حياءها وحرجها مع ضربة خفيفة من ظهر كفها على صدري صاحبتها غمزة وابتسامة:
" هل الآباء يكونون هكذا وقحين أيضاً ؟!...صفّي النية مرةً يا رجل ...الا تترك للمرء ان يفرح من غير تحليلات مشبوهة ؟!.."
تقدمتُ خطوة ورجعت هي خطوة ...اغلقتُ الباب بيدي من خلفي أرميها بنظرات ماكرة فابتعدت بخطوات أوسع مذهولة...وقالت بتلعثم :
" لمَ د...دخلت و...وأغلقت الباب ؟!"
هتفت بخباثة:
" انتِ من لعبتِ بالنار..!"
ارتطمت بالسرير فوصلتها وهي ترتجف ناصبة ذراعيها , باسطة كفيها كدرع للحماية وتتمتم مرتبكة :
" إلى..أ.. أين ؟! ماذا...تـ.. تريد ؟! "
أبعدتها من أمامي وارتميتُ على السرير هاتفاً :
" أنتِ صفّي النية....اريد ان اريح جسدي قليلاً من مشوار الطريق والقيادة ...هيا تابعي عملك....المؤتمر ليس يامن لينتظروا سموّ الملكة ريثما تطل عليهم بفخامتها .."
وضعت يدها على صدرها ونظرها للسقف وزفرت بارتياح بعد الاثارة التي عاشتها ...عادت لطاولة الزينة تكمل حيث توقفت ...لمحتُ زجاجة العطر التي تقتلني بها ففززتُ مقبلاً نحوها فسألتني باستغراب :
" لم نهضت؟...ألن ترتاح ؟! .."
أسندت نفسي على طاولة الزينة وذراعيّ بكفيّ على سطحها خلفي وابتسمت وأنا اتأملها هاتفاً :
" غيرتُ رأيي....اريد ان استغلّ المنظر الجميل في العاصمة !!.."
حدقت بي ببلاهة وأشارت للنافذة هامسة :
" هناك المنظر ...ماذا تفعل هنا ؟! "
غمزتها مجيباً:
" كلا...هنا المنظر أجمل...ليل ونهار وثلوج وقمر ....هل اتركه لأشاهد جدران باهتة ميتة ؟! "
يبدو ان الحمقاء لم تفهم أني اقصدها او ادّعت عدم الفهم لأنها استمرت دون تعليق.....لا يهمني الآن سبر اغوارها فما يهمني يقف مغتراً بنفسه خلفي ويجب ان اتخلص منه قبل أن يحتل مسمات حبيبتي ليستمتع به الغرباء ..!!...حركتُ ذراعي بقلة انتباه ابتدعتها ليسقط ويتناثر زجاجه على الأرض وأريجه يتبخر بالهواء فشهقت مصدومة هاتفة بتذمر :
" يا الله....ذهب عطري .."
" أعتذر لم انتبه..."
قالت بعبوس :
" فداكَ لكن ماذا سأضع بديلا له؟!.."
قلت :
" لا حاجة له...الوردة لا تحتاج للعطر !"
توردت وجنتاها وهمست :
" سأكتفي بالكريم..."
ضحكت وتابعت مازحة :
" أو ستشتري لي من المحل الموجود في بهو الفندق.."
" سأشتري لك المحل بأكمله......لكن عندما تكونين في بيتي وتحت جناحي "
قلت جملتي مبتسماً فأخفضت رأسها بخجل من فكرة انها ستكون يوماً معي في بيتنا ولوحدنا..!!....أنا القيتها بمزاح وهي رسمت احلاماً لها لوّنتها على ذوقها ولا تعلم أن امطاراً ستُسكب مدراراً لتمحو لوحاتها....!
" لمْ تخبرني...كيف علمت بعدم قدوم أبي لتاتي مكانه؟!"
" بعد أن اوصلتك عدت لبيتكم استفسر عن مخلّفات المعركة التي خضتيها فأنت لم تري مظهرك وارتباكك بالأمس الذي يثير الشك !!....قابلتُ السيدة (فاتن) لأفهم منها.......بالمناسبة! كيف تتحملين وجود تلك زوجة ابيك الشمطاء المستفزة في بيتكم؟؟!...لقد قلت في صريح العبارة لخالتك سنتكلم على انفراد لكنها التصقت بنا بكل بجاحة!...كدت افقد صبري.."
تأففت مشمئزة مجيبة بانزعاج وهي تحرّك كفها برفض :
" لا تذكرني بها تلك الأفعى ...اتحملها لأجل خاطر والدي فقط"
قلت في عقلي " لتخسأ هي ووالدك "...ثم تابعت كلامي :
" طلبت من خالتك مرافقتي بسيارتي لنتكلم براحة وعندما سألتها عنك لمَ ذهبتِ لرحلتك بذاك الحال كان سيغمى عليها لأنها لم تكن تعلم بمخططك وحينها علمتُ انكِ كنتِ هاربة يا مجنونة.."
قاطعتني تدافع عن نفسها :
" لستُ مجنونة...كان عليّ فعلها !!.....تابع ...ماذا حصل بعدها؟"
" اخبرتني بشجارك مع والدك وحتى قلقتْ عليكِ ومن ردة فعله عندما يعلم بعصيانك له....كيف تجازفين بنفسك ؟!"
أجابت عابسة :
" عشت ثلاثة أيام محلقة بالسماء بعدما اختاروني !....هل اخضع لرفضه دون سبب مقنع ولمجرد أنه لا يريد نكايةً بي فقط ؟!....هذا المؤتمر يستحق المجازفة لذا حماسي دفعني للقيام..."
طأطأت رأسها معترفة بداخلها بذنبها وأضافت :
" للقيام بهذا التهور الذي لا اعلم عواقبه بعد !!"
رفعت رأسها متسائلة بفضول :
" وماذا اخبرتك أيضا! "
" لا شيء...فقط هذا وطلبت مني اصلاح الأمر قبل ان يعلن والدك حالة استنفار ويلحق بك مع رجاله ليجرّك من شعرك ..!! "
ابتلعت ريقها وهمست :
" هل نجحت بإصلاح الأمر أم لا؟!.."
استدرتُ للمرآه أهذب ذقني وارتب ملابسي مجيباً:
" بعد اعادتي لخالتك لبيتكم كان قد رجع من عمله فدخلت واخبرته أنني انا من ارسلتك بنفسي وأنني سألحق بك لأرافقك وكذلك طلبت منه عدم الحديث معك بهذا الأمر عند عودتك ..."
نظرتُ لانعكاس صورتها بالمرآة وهي جالسة تستمع وتحملق بي ايضاً بالمرآة فغمزتها مردفاً..:
"يعني ارتاحي... أخذت المسؤولية بالكامل على عاتقي"
فزّت من مكانها متهللة الوجه ومستبشرة ثم مسكت كفي الأيسر بين كفيها بامتنان وهمست بعينيّ لامعة :
" أنا ممتنة لك جداً....عندما أكون في ذروة يأسي الحارقة تأتي أنت إليّ كنسمة أمل تبرّد حياتي!.....كيف سأكافئك ؟! "
استدرتُ اليها ناظراً لساعتي هاتفاً بجدية:
" سنتحاسب لاحقاً ...هيا لننزل للقاعة...ٍسيبدأ العرض وينتهي ونحن نثرثر "
أردت الهروب الى ابعد مكان من عينيها وظرافة حديثها وفتنتها والأهم عدم ايلامها بتعلقها بي ...فيبدو أنها اختارت ان تغوص في بحري ولا اودّ لها هذا لأن سطحه مليء بالتيارات الغادرة وأعماقه باسماك القرش القاتلة وشاطئه لا تزيّنه الأصداف بل مسامير حادة ألقوها عليه الخائنين فحرموني من ان اعشق حوريتي وتعشقني ومنعوني من الاقتراب منها وان تقترب مني....بحري انا (هادي) سيلفظها ولن تستطيع التأقلم مع مياهه ولا صخوره ولا رماله عروس البحر هذه ....حبيبتي التي أمامي...!!
×
×
×
ساعتان كانت مدة المؤتمر وفي الحقيقة استمتعت به مع أنني اكره الخطابات واشعر بالملل منها لكن هنا لي سببان مهمان لأتقبله من غير شجب وتبرّم ...أوله فرحتي بابنتي (ألمى) وثانيه شغفي للهندسة منذ صغري فلَرُبما طفت بينهم وبين عروضهم فارّاً من واقعي المرير لحلمٍ جميل بقي حسرة في فؤادي..!!...في نهايته كان تسليم شهادات التكريم والتقدير من المرافقين للطلاب....كنتُ مستعداً لأجوب بلاد وبلاد من اجل مشاهدة بريق السعادة في سماءيها ..!!
×
×
×
مع زقزقة الطيور التي تحتل قمم أشجار السرو والزينة ورائحة الورود المزروعة حولنا وأصوات ضحكات تندمج ببكاء من الأطفال في احدى الحدائق العامة الشهيرة للعاصمة نجلس أنا وهي نتناول البوظة بعد وجبة غداء دسمة من احد المطاعم الراقية هنا....أنهينا ما بيدينا وبدأنا نتمشى في ارجائها نتعرّف عليها وكما عادة الفتيات بدل ان يستمتعن باللحظة يخرجن هواتفهن للتصوير والنشر الفوري لا ادري غايتهن !! المهم هي فعلت كذلك...تارةً تصور وردة أعجبتها لا تعلم انها ذاتها كل الورود...تارة ترفع هاتفها وتزمّ شفتيها تلتقط صورة ذاتية لها بعد ان تختار الخلفية التي تريدها ...
" هيا اقترب لنتصور معاً.."
حمداً لله لقد فطنت لي لتضعني في البومها !!...قلت :
" صورة واحدة فقط ...ولا تنشريها على صفحاتك !"
" صحيح لمَ لا يوجد لك صفحات اجتماعية ولا حتى صور ؟! "
اجبتُ باختصار :
" هكذا...لا احب كل هذه التفاهات والمظاهر !"
عبست سائلة :
" لم تقول تفاهة ؟!...نحتفظ بالصور كذكرى جميلة نعود لنشاهدها في يوم يأخذنا الحنين لها ."
" وهل عرض يوميات حياتك بالدقيقة والثانية ذكرى أم مظاهر ومنافسات وجلب مشاهدات لا فائدة منها ؟!....يمكنك الاحتفاظ بها عن طريق تحميضها أو انشاء البوم في هاتفك .."
تذكرتُ انها ابنة الوغد وله أعداء كثر ومن الممكن اختراق جهازها واخذ صورها لابتزاز وغيره فتنحنحت وقلت :
" حتى لا داعي للاحتفاظ بها بجهازك....حمضيها فقط او ضعيها على ناقل البيانات( يو اس بي )....انتشر مؤخراً اختراق الهواتف وسرقة صور وملفات مهمة من قِبَل عصابات مجندة للابتزاز ....انتبهي كي لا تندمي لاحقاً .."
التقطنا الصورة التي طلبتها لنا سوياً ومضينا في طريقنا نحو المدخل وعند اقترابنا لفت انتباهي ولد يبدو في التاسعة من عمره يهرول ذهاباً وجيئة ويفرك قبضتيه في بعضهما مرتبكاً , حزيناً , ضائعاً ولم يخفَ عليّ أنه لاجئ...مثلي!!...كانت التي بجانبي تتحدث عن أمور للفتيات لا تعنيني لكني كنت اصغي لها مجبراً لأجاملها وعند وقوع نظري على شبيهي في محنتي تركتها مسرعاً في خطاي منجذباً له لاستنبط أسباب ابتئاسه وشجنه ...
" أتحتاج شيئاً أيها البطل ؟! "
ابتلع ريقه وقال متلعثماً ودموع ساخنة تحرق عينيه:
" أمي.."
" ما بها امك ؟!.."
في هذه اللحظة وصلتنا المدللة تنصت لحديثنا ...أجاب بفجعة وألم :
" أكلمها ولا ترد عليّ وشقيقتي تبكي.."
سالت على الفور مستعداً :
" اين هي ؟!.."
مسح دمعة سوداء اثرَ غبار الطريق وتلوث القلوب وأشار لخلفي وراء احد جدران الحديقة فأسرعت راكضاً ولحقني وكذلك هي تبعتنا ببطء فوجدتُ امرأة محجبة هزيلة تفترش الأرض تسند ظهرها على الجدار ورأسها يسقط على صدرها وبجانبها طفلة رضيعة أظنها ابنة سبعة اشهر او ثمانية حسب تطورها فهي تحبو وتبكي تحاول لمس صدر أمها لترضع...ابتلعت ريقي بوجل لأنني كنت شبه متأكداً انها فارقت الحياة ...لما وصلتنا (ألمى) شهقت شهقة ووضعت يدها على فمها , اغمضت عينيها بأسى وأشاحت وجهها جانباً...دنوت من المرأة بحذر وانا ادعو ربي أن يبشرني عند لمس موضع نبض قلبها من اجل صغارها !!...قرفصت بجانبها والرضيعة تصرخ باكية وحالها كاخيها الغبار يملأها مع ملابسها وعلى خديها دموعها تشق طريقاً معبدة بالفقر والخذلان وقسوة البشر ...مددتُ يدي بإصبعيّ السبابة والوسطى بخجل من تحت حجابها لأفحص نبضها على عنقها قرب قصبتها الهوائية فأنعم عليّ ربي بالشعور به دليل أنها ما زالت على قيد الحياة وهذه فرصتي لأقاتل الريح واسابق الزمن عسى أن ننقذها قبل فوات الأوان ...تبسمتُ للطفل هامساً :
" لا تخف صغيري....امك بخير.."
انتصبتُ واقفاً ووجهتُ كلامي لها آمراً :
" ابقي هنا سأجلب سيارتي !.."
اومأت موافقة على مضض ...كان وجهها شاحباً خوفاً....احضرتُ سيارتي من الموقف , فتحت الباب للأعلى الخاص بالمقعد جانبي وأحنيت الكرسي للأمام لأفسح المجال للمرور للمقعد الخلفي ...هذه سلبيات السيارات الرياضية كأنها صممت فقط للعاشق وحبيبته بجانبه !!....دنوت ممن ينتظروني وقلت محفزاً بنبرة عاجلة :
" هيا يا بطل اركب....ألمى احملي الصغيرة !! .."
ركب الولد من غير تأخير ..انتظرت لتركب الأخرى ولم تقترب...التفتّ لها فوجدتها متسمّرة مكانها...لماذا يا ترى ؟!...أنسيتم ؟!...لم تشفى بعد من مرضها مع الفقراء وملابسهم المتسخة وليس هذا فحسب ...انها لا تعلم كيف يحملوا الأطفال ؟! ...فكانت واقفة مترددة ...وددتُ أن القي عليها حجراً لتتحرك ..هل هذا وقت دلالها سمو الملكة ؟!...الا يجب ان تكون الإنسانية في قائمة اولوياتنا ...صرخت هادراً :
" ألمــى...هيا تحركي ...لا تثيري جنوني "
اقتربت مذعنة وحملتها ...طريقتها كانت خاطئة في حملها لكن غير مهم نحن لسنا في برنامج خطواتك مع الأمومة او نبع الحنان!!....ركبتْ في الخلف بجانب الولد...قلت :
" اذهبي وراء مقعدي وانت يا بطل في المنتصف ...سأفتح هذا الكرسي للخلف لأضع والدتك .."
عدتُ وحملتها مندفعاً بها بعد ان اعددت المقعد لتستلقي ...ركبت بطلاقة وانطلقت لأقرب مستشفى الذي يبعد حوالي عشر دقائق بالسرعة المعتدلة ....وصلنا الى المدخل وهتفت بصوت مرتفع بأحد الممرضين :
" احضر سريراً بسرعة معنا حالة عاجلة .."
انقضّ للداخل وعاد مع زميلٍ له يجرّون السرير....حملت المرأة ووضعتها عليه ...انزلت الآخرين وقلت :
" انتظروني في الداخل سأصف السيارة وآتي .."
دخلتُ قسم الطوارئ وفوجئت أن المرأة ما زالت على السرير خارج الباب الزجاجي للقسم وحولها طبيبان ومديرة المشفى والممرضان الذين ادخلاها.....اقتربت شبه راكض ..سألت مستنكراً :
" لمَ لم تدخلوها بعد ؟!....هيا استعجلوا...ماذا تنتظرون ؟!..."
رفعت ذقنها مديرة المشفى بعجرفة وغرور واجابت:
" هذه أتت لنا بالأمس واخبرناها لا مجال للعلاج عندنا....هي لاجئة من غير تصاريح... لا أوراق قانونية لديها وكذلك..."
أشارت بازدراء لها وتابعت :
" حالتها المادية لا تغطي تكاليف العلاج "
هدرت بها مستشيطاً غضباً , صارخاً .ضارباً بقبضتي الحائط بجانبي :
" ان كان همك التكاليف فسأدفن مشفاكم بالمال كرامةً لها لتعالجوها !!..لكن وا أسفاه ..مالي لا يستطيع علاجك أنتِ وأنتِ الأحوج له لأنك مريضة بداء فقدان الإنسانية الذي لا دواء له وان وجد لا يقدّر بثمن !!.."
اقترب مني أحد الأطباء يهدئني يربت على كتفي فأزحت يده بعدوانية وقلت :
" ستعالجونها ....كيف ولماذا لا اعلم ؟!...لكنكم مجبرون والّا ليشهد عليّ ربي أن اشتري هذا المشفى حالاً واطردكم جميعاً لتتوسلوا اللقمة ولا يعطيها احد لكم...تباً لعنصريتكم "
ابتلعت العجوز المتكبرة الشمطاء ريقها ودنا منها احد الأطباء يهمس في اذنها...اومأت له برضا...عدلت نظارتها ورسمت ابتسامة صفراء تنبع من النفاق الذي بداخلها وهتفت :
" نعتذر يا سيد ...لا تؤاخذنا هذه الأوامر..... لا نستطيع معالجة مرضى من غير دفع الفاتورة او جواز سفر قانوني...لكن بما انك رجل محترم سنتغاضى عن جواز السفر من اجلك!!.."
أدخلوها للفحوصات وعدتُ للجالسة على احد المقاعد في الرواق والطفلة تتململ في حضنها تبكي بشدة , لعابها يسيل والمخاط ينزل على فمها والتي تحملها عابسة لا تعرف كيف تهتم بها ومؤكد تشعر بالقرف وبجانبها الولد ينظر لكل الجهات بضياع ويلوّح بساقيه القصيرتين بالهواء قلقاً....لما رأتني رفعت راسها لي ثم همست ضالّة لا تجد مخرجاً لمعضلتها:
" يامن ماذا افعل لها؟!...لا تسكت !.."
تأملتُ الصغيرة برهةً ..حككتُ ذقني شارداً بفكري واستدرت قائلاً :
" سأعود في الحال.."
بعد عشر دقائق كنت عندهم وبيدي مناديل ورقية ناعمة خاصة للأطفال اشتريتها من الصيدلية الخاصة بالمشفى وزجاجة للحليب مع علبة حليب بودرة من اجلها...جلست بجانبها الاخر...اخرجت منديلين وبدأت انظف لها وجهها وأنفها والمدللة تحدق بي فاغرة فاها ببلاهة ...القيت المناديل بسلة جانبي ومزقتُ الغلاف الذي يغطي الزجاجة...توجهت لمطبخ الممرضين...غسلتها وملأتها بماء دافئ ثم رجعت لمكاني اقرأ عن علبة الحليب الكمية الملائمة للماء الذي بداخلها...فتحتها ووضعت حسب التعليمات...خضضتها ومددتُ يدي اناولها قائلاً وهي مذهولة :
" خذي اطعميها ...سأذهب اطمئن اين وصلوا بالفحوصات .."
اسدلت اهدابها وقالت بوجوم:
" مستحيل... لا استطيع ...ستختنق !!.."
تأففت يائساً منها واخذتُ البنت منها وضعتها في حضني وجعلت رأسها يتوسّد ذراعي مرتفعاً عن سائر جسدها ..ادخلت طرف الزجاجة بفمها ...رفعتها للأعلى كي لا يدخل الهواء في الجزء المطاطي منها وهمست مبتسماً :
" انظري...هكذا ارضعيها .."
تبسمت بخجل وقالت باعتزاز :
" ستكون أباً مميزاً ورائعاً يوماً ما .."
تابعت بفضول مازحة:
" أين تعلمت هذا؟...أم انك كنت متزوجاً ولديك أطفال دون علمنا؟"
اعطيتها البنت وقلت وانا اضع يدي على رأسها ضاحكاً ابعثر شعرها بلين :
" لديّ طفلة كبيرة ...تركتُ أعمالي من اجلها!!
قبل الذهاب استطردت انبهها :
" بعد ان تنتهي ارفعيها لكتفك وربّتي على ظهرها لتتجشأ ..ضعي منديلا على كتفك كي لا تتقيأ عليك "
كان من الأفضل الا احذرها من القسم الخاص بالتقيؤ علّها تتربى وتكسر انفها الصغير ذاك لأشمت بها قليلاً...بل كثيراً ...هل ستمضي ايامها معي وهي تشمئز من هذا وتقرف من ذاك ؟!...يا ويلها سأريها العجب حينها !!...
وليتها ظهري قاصداً قسم الطوارئ...ظهرت نتائج بعض الفحوصات وتبيّن ان المرأة تعاني من فقر دم حاد وجفاف نتيجة عدم تناول الطعام ...تركتهم ليتابعوا باقي الفحوصات وذهبت لأصطحب الولد لمقصف المشفى لأشتري له شيئاً يأكله...جلسنا سوياً حتى انتهى من طعامه واشتريت له بعض المسليات والحلويات....كنا نتبادل الحديث كالرجال ...سألته :
" من أي مخيم انتم ؟! "
↚
كان صبياً نبيهاً فرد بسؤال :
" كيف عرفت اننا نعيش في مخيم ؟!"
اقتربتُ منه هامساً:
" لا تخبر احداً.....لديّ صديق كان يعيش في خيمة ومرّ بما تعيشه انت الآن .."
ابتسم ببراءة مستفسراً متأملاً:
" كان ؟!...يعني الآن خرج من المخيم !!...هل سنخرج مثله ؟! "
قلت وانا اربت على كفه الموضوعة على الطاولة :
" ستخرج وتعود الى وطنك بإذن الله وتصبح رجلاً ناجحاً وسيفتخر بكَ أهلك .."
رفع يديه وعينيه للسماء هاتفاً :
" يااا رب..."
أعاد نظره اليّ قائلاً:
" سأكبر واتعلم لأصبح طبيباً وأضع لأبي ساقين جديدين وأعالج الفقراء دون مقابل "
تبسمت وقلت :
" ان شاء الله يا بطل....الآن ادعُ لأمك ليشفيها الله "
قال واثقاً :
" سيشفيها الله بالتأكيد فهي تصلي وتصوم كل الأيام حتى بالليل وتقول لي من اجل ان يرضا عنها الله.."
" كيف تصوم بالليل ؟! "
أجاب :
" عندما تبلّ لنا الخبز لنتعشى انا ووالدي اطلب منها لتأكل معنا فتقول لي انها صائمة !!...فقط تشرب الماء وفي وقت متأخر كنت احياناً استيقظ واجدها تأكل الفتات الذي بقي من خلفنا وبعدها تكمل صومها......احياناً كنت اراها تبكي عندما تريد ارضاع اختي ولا يكون في صدرها حليب وكانت تقول لي ستصوم ليأتي الحليب ...لكنها تصوم ونادراً ما يأتي !! "
ربااه...ما هذا الذي اسمعه ؟!...ما هذه المصائب وهذا الذل والهوان ؟!..
أيقنتُ اننا كنا نعيش في نعيم في مخيمنا بعد معرفتي عدم حصول أولئك على الطعام ..انهم يعتاشون على الخبز اليابس ويبلّونه بالماء ليصلح للمضغ!!...أي انهم يأخذوه من....من.....النفايات....يا الله ..لا اريد ان اذكر ذاك اليوم المشؤوم لي ولشقيقتي.....يا رب سامحني وأعنّي على ان اساعد اكبر قدرٍ ممكن من البؤساء...يا رب الطف في حالهم وعوضهم جزاء صبرهم نعيماً من فضلك ....
نحن كنا محظوظين لدينا جمعيات تهتم بنا ....لا بد ان هؤلاء يقطنون بالمخيمات الغير قانونية في العاصمة والدليل ان المرأة لا تصاريح قانونية ولا جواز معها...وهذه المخيمات عادةً لا تجد جمعيات ترعاها ..!!....أخبرني هذا الولد ان لديه أب مبتور الساقين بسبب الحرب اللعينة في وطنهم فهم من احدى البلدان الشقيقة المجاورة ...وما أكثر حروبنا!!....يأتي للحديقة ليبيع قارورات ماء وتأتي معه امه تنتظره خوفاً عليه وكي يبحثوا في طريق عودتهم عن بقايا الطعام في حاويات البيوت والمطاعم !!....
ها نحن نتبارى في تدمير الأوطان وتشتيت واذلال الشعوب!!....متى سنرقى بفكرنا ؟؟...متى سنقتنع بما لدينا ونترك الجشع الذي يعمي بصيرتنا؟؟..متى سننهض في ثقافتنا واقتصادنا وديننا ونكون يداً واحدة لنكتب تاريخاً يكون فخراً لنا وقدوة لغيرنا ؟!!...
انهينا حديثنا وتوجهنا عائديْن الى (ألمى) والصغيرة ....كان مكانهما فارغاً !!..توجستُ خيفة وجلتُ في نظري هنا وهناك ...هل ألقت بالطفلة تلك المجنونة ام ماذا ؟!...تعمقتُ اكثر بالرواق فوصلني صوت ليس أي صوت !!...صوت يشدو كالبلبل كهديل الحمام بترنيمة عذبة تذيب الصوّان فكيف بقلبٍ بها هيمان ؟!...ارفقي بي وبروحي يا بلسمي ويا جروحي ...لماذا تصرّين على أن تسرقيني من ذاتي لتتركيني بعدها ولا تكوني مستقبلي أو حتى ذكرياتي ؟!!....
[[ ..يلا تنام ألمى يلا يــجيها النوم
يلا تحب الصلاة يلا تحب الصوم
يلا تجيها العوافي كــل يوم بيوم
يلا تنام يلا تنام لأذبحلها طير الحمام
روح يا حمام لا تصدق بضحك ع ألمى لتنام
ألمى ألمى الحندقة شعرك اسود ومنقى
واللى حبك ببوسك واللى بغضك شو بيترقى..]]....(فيروز)
كانت تغني تهويدة الأطفال للنوم للصغيرة في حضنها وهي تهزّها بروِيّة وبصوتها الحنون الشجيّ الذي زلزلني وبعثرني ولا أعلم ايضاً ماذا فعل بي ؟!....اقتربتُ منها ولما انتبهتْ لخطواتي التفتت اليّ ضاحكة وعيناها محتقنة بالدموع وهمست متعجبة من نفسها :
" يامن ..لقد نجحتُ....نجحتُ في تنويمها....أنا سعيدة....سعيدة جداً "
وصلتها اتأملها والصغيرة معها بتحنن ومودة ...مددتُ يدي لأعيد خصلة هاربة وراء اذنها وهمست بصوت خفيض :
" كيف لا تنام وانت تعطيها كل هذا الحنان بصوتك الساحر ...أنتِ مذهلة ألمى.....لكن لمَ أرى هذا الدمع في عينيك ؟!.."
أجابت بوجع والأنين يستولي على روحها وقلبها وهي تشدد من احتضانها للطفلة , هاربة بحدقتيها للأرض وسقطت دمعة تائهة على وجنتها لتصل ذقنها مسَحَتها بكتفها هامسة :
" تذكرت والدتي ....كانت تغنيها لي...وبعدها خالتي استمرت بغنائها من أجلي !!.."
رفعت وجهها الذي تحول من ثلوج بيضاء لحمراء فلحقت دمعة تبحث عن اختها التي سبقتها فسحقتها بظهر كفي برقة وقلت :
" رحمها الله ....لا تبكي... على العكس افرحي لأنها بمكان أجمل من هذه الدنيا.."
اومأت برأسها بـ نعم تبتلع شفتيها ...فغيرتُ مجرى الحديث بعد ان نظرت لساعتي واخذت الطفلة منها اسند رأسها على كتفي قائلاً:
" سأرسلك للفندق بسيارة اجرة لتعودي مع زملائك لمدينتنا ....بقي ساعة ونصف لانطلاق الحافلة .."
" وأنت؟!"
" لا استطيع ترك الأطفال ...سأطمئن على والدتهما وبعدها افكر ماذا سأفعل"
ابتلعت ريقها وقالت :
" سأبقى معك.."
اعترضتُ قائلاً :
" لا يمكن ...يحتمل أن ابات بالعاصمة هذه الليلة لأجري بعض الأمور وايضاً مؤكد والدك ينتظر عودتك !!..."
" ليضربني ؟!"
قلتُ باندهاش :
" يضربك ؟؟..كيف؟"
نكست رأسها وأجابت :
" نعم...سيضربني لأني كسرت كلمته.."
جفّ حلقي فازدردت ريقي لأرطبه وقلت :
" مستحيل...لقد اخذت كلمة منه ان لا يكلمك بالموضوع لأني انا المسؤول ولا دخل لك!!.."
ردت بنغمات صوتية مرتعبة :
" لكني خائفة .....غير مطمئنة....أبي لا يسمح ان يعصيه او يتمرد عليه أحد منا ... "
رفعت يسراها تمسّد على وجنتها اليسرى وتابعت مرتجفة خائفة :
" لقد ضربني بالأمس امامهم جميعاً دون تردد....برأيك ألن يكررها مجدداً؟"
سالت بصدمة غاضباً :
" ضربكِ مرةً أخرى ؟؟!"
" أجل.."
قلتُ حاسماً الأمر بغيظ :
" اذاً ستبقين معي بلا شك !!..."
ومددتُ يمناي وجذبتها لصدري احوطها بذراعي مقبّلاً أعلى رأسها هامساً بحنوٍ:
" اطمئني...يا ألمتي "