📌 روايات متفرقة

رواية لاجئ في سمائها الفصل الثاني 2 بقلم الحان الربيع

رواية لاجئ في سمائها الفصل الثاني 2 بقلم الحان الربيع

رواية لاجئ في سمائها الفصل الثاني 2 هى رواية من اجمل الروايات الرومانسية السعودية رواية لاجئ في سمائها الفصل الثاني 2 صدر لاول مرة على موقع التواصل الاجتماعى فيسبوك رواية لاجئ في سمائها الفصل الثاني 2 حقق تفاعل كبير على الفيسبوك لذلك سنعرض لكم رواية لاجئ في سمائها الفصل الثاني 2

رواية لاجئ في سمائها بقلم الحان الربيع

رواية لاجئ في سمائها الفصل الثاني 2

" أين أيان وأديان؟!...أين ولديّ؟!....أريد اولادي ....اجلبوا لـــي أولادي "

صرخت المرأة بهذه الكلمات بصورة هستيرية بعد ان استعادت وعيها وهي تحاول نزع الأجهزة المربوطة بها عنها ...هجمت الممرضات عليها تمنعها من ذلك وحاولن تهدئتها لكنها لا تصغي ولا تستوعب الكلام!!.....كنا مكاننا نجلس على المقاعد المقابلة لباب قسم الطوارئ فأقبلت عليّ احداهن تقول :
" يا سيد...المريضة استعادت وعيها وتتصرف بجنون , تسأل عن ولديها ولا تصغي لنا مع أننا نقول لها انهما بخير.....من فضلك تعال جد لها حلاً او سنحقنها بمنوّم قبل ان تفقد اعصابها ..."

حملتُ الصغيرة وكانت لتوّها مستيقظة وهممت بالدخول وانا انادي على الولد فأوقفتني هاتفة بلطف انساني:
" لا احبذ ادخالهما لهذا القسم...انه مكان مليء بالأمراض ....مؤسف ان ينتقل لهما شيء من الفيروسات ونحوها فنحن لا نعلم ان كانا قد تلّقيا تطعيمات حماية ام لا لأنهما من اللاجئين ....وكذلك المرضى في الداخل مناعتهم ضعيفة ولأجل مصلحتهم ايضاً الأفضل ان يبقيا في الخارج لأننا لا نعلم ان كانا يحملان امراضاً معينة ناقلة ولا تظهر عليهما"

قلت :
" بارك الله بكِ لتنبيهك لي لهذه النقطة ....اذاً سأدخل لوحدي !"

اقتنعتُ بالقسم الأخير أما الأول في داخلي أعلم انهما اقوى مما تقول فأي مرض ووباء أشد من التشرد والمبيت في البرد القارس وافتراش التراب والوحل والأكل من النفايات وأن تتغذى على دمائهما الحشرات...جسديهما بنيا مناعة تفوق الأدوية خاصتهم ...!!

دخلتُ للأم الهائجة ...تبسمتُ لها وقلت :
" اهدئي أختاه...ابناكِ معي انا وخطيبتي في الحفظ والصون ...نحن من نقلناكِ الى المشفى......عجّلي في تلّقي العلاج لتستطيعي العناية بهما...."

صرخت بي باكية:
" أنت تكذب.... تكذب ...لمَ سأصدقك ؟؟!...اريد ان اراهما ...هل اعطيتموهما لسماسرة بيع الأطفال ليستغلوهما للتسول...؟؟!....ارجوكم لا تفعلوا...سأموت من دونهما....لا تقتلوني بهما "

قلت بهدوء :
" كلا أختي.. ما هذا الذي تقولينه ؟!...اقسم لكِ انهما خارج هذه الغرفة مع خطيبتي تهتم بهما ...تناولا طعامهما وهما بخير...فقط لا نستطيع ادخالهما الى هنا.!!......لحظة.....انتظري دقيقتين !!.."

تركتها للحظات ثم عدتُ لها مجدداً بعد ان التقطت صورة لابنها يحمل شقيقته الساكنة في حضنه وهو جالس ويبتسم ببراءة من اجل امه .! ولما رأتهما سحبت الهاتف من يدي ..استكانت وتكدست الدموع في عينيها وبدأت تقبّل صورتهما هامسة :
" قرة عينيّ...أملي ورجائي في الحياة ...سأموت لتحييا أنتما يا قلبي ودقاته...سامحاني صغيريّ ...أنا أمٌ فاشلة ...سمحتُ لنفسي بالانهيار امامكما .."
رفعت وجهها إليّ وتابعت بين عبراتها وهي ممسكة بالهاتف :
" كم أنت رحيم وكريم يا رب...دعوتك في الليل والنهار لتحفظهما ...لا ادخل ولا اخرج الا واستودعهما بيقين لتحرسهما بعينك التي لا تأخذها سنةٌ ولا نوم...فبعثت لي ملاكاً على هيئة هذا الشهم ...فياااا رب حقق له كل ما يتمنى وارزقه راحة البال ولا تحرمه من احبائه.....قادرٌ أنت يا الله .."
ثم مدت يدها تعيد لي هاتفي وهمست بخجل محرجة :
" سامحني أخي على تسرّعي واندفاعي بما تفوهت به....لكن خوفي عليهما أعماني....سامحني أرجوك.."


" كلا اختاه...أنتِ سامحينا على تقصيرنا بحقك وحق طفليك......أرجو فقط ان تتعاوني مع الأطباء لتخرجي في أسرع وقت...... سيعطونك مكملات للحديد وحقن للفيتامينات لذا اذا استجبتِ للعلاج ستخرجين في الصباح الباكر بإذن الله .."
"

تنحنحتُ وسألتُ:
" هل من أحدٍ يمكنه الاعتناء بابنيك ؟!.."

ردت بغصة تنزل عينيها:
" أنا أرعاهما وأرعى زوجي فهو لا يستطيع العناية بهما بسبب.."


" أجل علمت عن وضعه.....أخبرني أيان بذلك...لكن اقصد أقارب ...جيران ..؟؟!
"

اجابت :
"لا أقارب لنا وفي المخيم كلٌّ مشغول بهمومه....يمكن أن يهتموا بهما لساعتين ثلاثة وليس لليلة....خاصةً الصغيرة !!.."

قلت مطَمْئِناً لها :
" اذاً سيبقيان معنا وسنعود لكِ في الغد..."

ابتلعت ريقها ومسكت طرف غطاءها بأطراف اصابعها تحركهم بتوتر لفت انتباهي دون ان تعلّق ففهمت انها ما زالت غير مطمئنة لأنها بالنهاية هي أم ومن أكون أنا لتثق بي بسهولة ؟!...فسألت الممرضة الواقفة :
" متى تنتهي ورديتك ؟!.."

قالت بلطافة :
" أنا لديّ مناوبة لورديتين يعني بدأت بالمسائية الآن وسأستمر حتى الصباح ....أتريد شيئاً؟.."


" سأعطيكِ رقم هاتفي لتتصل بي اختي (أم أيان ) صوت وصورة في أي وقتٍ تشاء حتى لو الثالثة قبل الفجر لترى صغيريها .....هل يمكنك أن تكملي معروفك الإنساني ام صعبٌ عليك؟!.."

ردت مبتسمة مازحة بجرأة ومن حظها الجميل أن حملي الوديع التي تتحول للبؤة في مثل هذه الحالات لم تسمعها:
" كيف سنرفض طلب رجلٍ نبيلٍ وبالإضافة لذلك وسيم ؟!...ستلاحقني اللعنة ان رفضت !.."

تبسمت مجاملاً لها فمن الجيد أنني وجدت شخصاً هنا فيه رائحة الإنسانية أما بالنسبة لجرأتها هذه قد اعتدتُ عليها من أيام الجامعة ...لقد انقرض شرش الحياء من الفتيات وأصبحن هن من يغازلن الشبان !!....نادت عليها احدى زميلاتها ولما ابتعدت قالت لي (أم أيان) :
" يا أخي احذر ان تسمعها خطيبتك ربما ستنزعج ....لا توتر العلاقة بينكما بسبب الغرباء..."

ضحكت وقلت وأنا أتخيل ردود فعلها المجنونة :
" اطمئني اختي ....خطيبتي عاقلة ....عاااقلة جداً ولا تهتم لهذه الأمور العابرة .."

استأذنتها بعد ان اطمأنّتْ لطريقة التواصل مع صغارها وتوجهتُ لخارج القسم حيث تتواجد (ألمى)....جلستُ بجانبها وكان الولد يلهو في زاوية يضعون بها بعض الألعاب للأطفال وقت الانتظار ...أخذت الصغيرة منها أوقفتها على رجليّ وبدأت ادغدغها واكلمها بكلمات مداعبة وكانت تضحك لي واسنانها الأربعة فوق وتحت يظهران بوضوح ...كم أحب شكل الأطفال بهذه الاسنان فقط واكتشفت أن لها غمازة لذيذة في احدى وجنتيها فقبّلتها منها قائلاً :
" وتمتلكين غمازة أيضاً أيتها الصغيرة ؟!....يا لجمالك وجمالها !"

مدّت يدها التي بجانبي على وجنتها تتحسس , ربما تبحث عن غمازة لها ضائعة هنا او هناك ولما لم تجد عبستْ فكدتُ اضحك عليها لكني تحكّمت بنفسي أما هي دائما تفضح نفسها بعفويتها فقالت :
" ما الجميل بالغمازات ؟..أتعلم ان وجودها هو عيب خلقي ؟..سببها قصر عضلات الوجه .."



قلت لأشاكسها قليلاً لأمضي بعض الوقت :
" لا يهم السبب المهم النتيجة ...فبلا شك هي احدى أمارات الجمال .... والأكيد ان تلك المقولة تمسّك بها فاقد هذه الأمارة ..!!..فإنهم يدفعون المال ليحصلوا عليها ...ومحظوظ من يمتلكها !!.... "
قبّلتُ الصغيرة منها مرةً أخرى وأضفت :
" كأديان مثلاً تمتلك غمازة خارقة..."

تأففت ونظرت لساعة هاتفها وقالت لتغيّر الموضوع من غيرتها:
" ما هذه الورطة التي نحن بها ؟!"

سألتُ مستنكراً بجدية :
" ورطة؟؟....أتقصدين وجودنا هنا ليس سوى ورطة ؟!"

اجابت بتردد :
" نـ....نعم...ماذا تسمّي هذا ؟...نحن عالقان هنا ولا نعلم مصير هاذين الصغيرين وأمهما ولا كيف سنتصرف أيضاً ...أليست هذه ورطة ؟!.."

ضحكت نصف ضحكة باستهزاء مما سمعت وهتفت :
" كل شخص ينظر في عين قلبه .."


"ماذا تعني؟!.."


قلت:
" أعني اذا قلبك اختار الخير فسترين كل شيء يضعه الله في طريقك مهما كانت صعوبته هو هبة وعطاء وستتفاءلين وتشحنين طاقة عجيبة واذا اختار الشر ستعتقدين أن ما تواجهيه ليس سوى مصائب وعراقيل أو كما تفضلتِ ورطة وستتشاءمين وستستنزفين طاقتك سدى !!.."

عدّلت جلسة الطفلة في حضني وأكملتُ وأنا أمسد على شعرها الناعم الخروبي القصير :
" أن يضع الله أمامك مثل هذا الموقف هو اصطفاء منه لكِ...لقد اجتباكِ عن سائر عباده لتخوضي هذا الامتحان وهذه التجربة ليعلّي من قدرك درجات في الآخرة وليقربك له وصدقيني ستأخذين أجرك أيضاً في الدنيا بطريقة ما ...يكون الاصطفاء بعدة أشكال ...فمنهم من يصطفيهم الله للجهاد في سبيله ومنهم لتعلم القرآن وتعليمه والكثير من هذه الأمثلة وأنا وانت قطعنا أميال كثيرة بحكمة منه بعد ان اصطفانا لنهتم بهؤلاء الفقراء ..."
ثم سمّيت تالياً بتجويد :
"...{{ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ ۗ مَا كَانَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ ۚ سُبْحَٰنَ ٱللَّهِ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ }}..."

ظلّت محدقة بي لثواني بابتسامة خفيفة وهي مصغية ولمّا انتهيتُ مدّت ذراعيها تأخذ الصغيرة من حضني وقالت مازحة :
" اذاً اعطني اياها ولا تأخذ نصيبي من الأجر.."

تلميذتي المجتهدة تستفيد من دروسها بسرعة دون مماطلة ....!!

كان يجب علينا الخروج من المشفى لكن عند رؤيتي للصغير مندمجاً بالألعاب ولا تسعه الدنيا قررتُ أن ننتظر قليلاً...وبينما نحن جالسان نراقبه والطفلة في حضنها , هتفت مشمئزة :
" يــع.."

يبدو أن الصغيرة تحتاج لتبديل الحفّاظة !!...وقفتُ وأخذتها منها ...اعلم انها لن تستطيع فعلها لها ولا أريد أن اجبرها بالطبع , فيكفيها اليوم من المغامرات ما عاشت...ولو كانت ولد لفعلتها أنا ...شهور كنتُ خلالها كحاضنة لشقيقي حبيبي الصغير الذي اشتقت له بجنون وانتظر بفارغ الصبر الذهاب لأعضّه من خديّه اللذيذين ....!!

وقفت محاذية لي وسألت بفضول :
" أين ستذهب ؟! "

قلت :
" يجب تبديل حفّاظتها.."

سألت باندهاش :
" هل ستفعلها أنت ؟!.."


" مؤكد لا فهي بنت... لو كانت ولد لفعلت من غير تردد.."

تعجّبت من اجابتي وأكملت مستفسرة :
" اذاً ماذا ستفعل ؟!.."

قلت مشيراً لممرضتين واقفتين عند طاولة استقبال قسم الطوارئ وكانت منهما التي اعطيتها رقمي :
" أترين تلك الشقراء ؟!.."

حاولتْ جلب عيوب بها بطريقةٍ او بأخرى فردت :
" أجل...تقصد القصيرة الممتلئة التي تصبغ شعرها بالأشقر وأتت قبل قليل لتخبرك عن أم الطفلين....ما بها .؟"

أجبت ضاحكاً على كلامها :
" سأطلب منها ذلك .."

قالت مستنكرة :
" لمَ ليست تلك السمراء التي تشبه عامود الكهرباء بطولها ؟...لمَ اخترتَ الشقراء ؟...أم ان الشقراوات يرقن لك كابنة صديقك الصغيرة التي تدعوها دميتي الشقراء ؟!.."

يا الهـــي على هذه الحقودة الغيّورة... لا تنسى شيئاً...مؤكد ستغار مستقبلاً من ابنتها اذا رزقها الله ...يعني اذا رُزقنا بطفلة !!...أقصد ان انتهت مهمتي بنجاح وسامحتني سمائي وقبلت بي زوجاً حقيقياً لها.....فإما أن تكون ابنتها مني أو لنبقى هكذا حتى يحدث الله أمرا.......لا أتخيّل أن يلمسها أحد غيري.....سأفقد صوابي وأجن....فقط ان ترمّلتْ بعدي لا سلطة لي عليها حينها !!...

أجبت على سؤالها :
" ليست لأنها شقراء لكن لثقتي أنها لن تردني فأنا اعطيتها رقمي لتتصل بي أم الصغيرين متى تشاء من هاتفها ولم ترفض طلبي بذلك وعلى العكس أخذته بكل ترحاب....سلّمها الله ....فعلاً ملائكة الرحمة!!.."

صرخت مشتعلة :
" ماذا ؟؟....بأي صفة تعطيها رقمك ؟!....وهل صدقت انها ملاك ؟....مساكين انتم الشبان لا تفهموا نية الفتيات ...ستقعون في مكائدهن دون أن تدرون..."

ثم أشارت للمقعد آمرة سمو الملكة بحزم وتهوّر وثقة عمياء بقدراتها:
" اجلس هنا وانتظرني.. أنا من ستبدّل للطفلة حفاظتها ...ماذا تظنني ؟.....الا استطيع الاهتمام بالأطفال ؟! ..."

لم أملك الّا الضحك فجلستُ والطفلة تبكي في حضني منزعجة من حالها ...أما هي ذهبت بعزم لعدوتها وطلبت منها حذف رقمي واعطتها رقمها بدلاً عنه ثم طلبت من الممرضة الأخرى ان تعطيها لوازم تغيير الحفاظة للصغيرة......أخذتها مني ودخلت للحمام حيث يوجد هناك زاوية فيها طاولة خصيصاً لهذا الغرض.....مرّ حوالي نصف ساعة ولم تظهر السيدة (ألمى)....اتجهتُ نحو الحمامات بعد أن اصابني القلق لطول غيابها وطرقت الباب منادياً :
" ألمى!!...أهناك مشكلة ؟!"


" ثواني ...أنا آتية "


فُتح الباب ولولا أن سماءيها تسطعان بوضوح والطفلة معها لظننتُ أنها أخرى وكنتُ سألتها عنها !!....كانت ترتدي مريول وقفازين وكمامة تخفي وجهها...قلت بتعجب :
" هل احتاجوكِ دكتورة ألمى لإحدى العمليات المستعصية ؟!....ما هذا الذي ترتدينه ؟!.."

مدّت لي البنت لأحملها ورفعت سبابتها هامسة بصوتها المختنق وراء الكمامة :
" ثانية فقط..!!.."

عادت بعد ان تخلّصت مما كانت ترتدي فسألتها :
" لم تأخرتِ ..أهو صنع صاروخ ؟!"

قالت وهي تسحب البنت من يدي :
" لم أجد شريطاً مصوّراً قصيراً وسريعاً ...جميعه فوق العشر دقائق !!.."


"شريط ماذا ؟!"


" كيف تبدّل حفاظة طفلك ؟!.."


اجبت بصدمة :
" يا الهي ....ماذا ستفعلين مع أطفالك ؟! "

قالت بلا مبالاة :
" وما وظيفة المربية خاصتهم ؟!...انا لن افعلها أكيد ! "

حركتُ رأسي مبتسماً بإحباط منها ثم ناديت الولد وأخذت أغراض الطفلة وتوجهنا الى السيارة لنحجز لليلة بفندق قريب من المشفى ...
×
×
×

حجزتُ غرفتين متجاورتين ...واحدة لي بسرير زوجي وفردي لأُبقي الطفلين معي فأنا لن اعتمد عليها لأنها لم تنم جيداً لليلتين متتاليتين ويمكن أن تغفل عن الصغيرة !!... وغرفة لها بسرير زوجي ...زارتني مرة بعد ان اتصلت بها والدة الطفلين لتراهما ثم عادت لغرفتها....نام (أيان) على السرير الفردي في الحال أما (أديان) داعبتها قليلاً ثم أطعمتها وجبتها وحمداً لله نامت وهي تأكل منها ...وضعتها على السرير الزوجي لكي تكون بجانبي وأشعر بها عند استيقاظها....دخلتُ الحمام وتوضأت لأصلي العشاء...لم أتوقع انني سأجبر للمبيت في العاصمة لذا لم اجلب ملابس بديلة وكذلك لا استطيع ترك الطفلين معها والذهاب لشراء شيء يناسبني لأنها مؤكد ستشد شعرها فهي غير معتادة لا على المسؤوليات ولا على غيرها....وانقضت ليلتنا بسلام حتى أن الطفلة لم تستيقظ خلالها بلطف من الله ....!!
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

" اعطني جهاز التحكم...سيبدأ مسلسلي !.."


" لا اريد... انا مريض ويجب ان تدلليني ثم لديك تلفاز في غرفتك وكنتِ لا تخرجين منها ...لمَ هذه الأيام تلتصقين بي ؟!...."

ردّ شقيقي (شادي) على (دنيا) التي لم تكن عادتها التواجد كثيراً في الطابق الأرضي ومنذ أيام بدأت تحوم به كأنها تنتظر شيئاً ما....

لم تصمم على طلبها لأنها ارادت ان تسرق منه بعض الاخبار فقالت بمكر تستفزه :
" أين المفاجأة التي كنت تتبجح بها منذ أيام وأنها ستأتي من العاصمة ؟!....لم أرها ...أم خدعك صديقك ايها المسكين ؟!.."

عدّل جلسته فتأوهَ متألماً من مكان العملية وأجاب يمد يده:
" صحيح ذكرتيني....هاتي هاتفك لاتصل به اسأله عنها !.."

خبأت يدها الممسكة بالهاتف خلفها وقالت :
" اتصل به من هاتف أمي...انا لا شأن لي بكما !"

حمل جهاز التحكم ليغير المحطة وقال بعدم اهتمام :
" سأتصل به غداً ..لا بد انه الآن في عمله لأني فهمت من أمي أن هذا الأسبوع أخذ ورديات ليلية !.."

كلّمت نفسها " اذاّ لهذا السبب لم يأتِ مساءً هذه الأيام وكان يمر فقط ليطمئن على امي وشادي اثناء تواجدي في الجامعة !! "...واستطردت هاتفة :
" سأجلب لكَ هاتف أمي فمن الممكن أن يكون غداً نائماً ولا يردّ عليك !.."

جلبته بسرعة والتصقت بجانبه ..وضعت على اسمه مع مكبر الصوت فأجاب من الرنة الأولى :
" السلام عليكم...خيرٌ ان شاء الله ؟! "

ردّ (شادي) التحية وأكمل معاتباً :
" أين المفاجأة التي وعدتني بها ؟!..."


" اهلاً أيها الضفدع...ألم تنسَها ؟! "


" كدت أنساها لولا أن دنيا سألتني عنها لتشمت بي .....أيّ "


" ما بك ؟؟...."

رد مستاءً يفضحها:
" ضربتني دنيا على عنقي !.."


قال ينهي الحديث بعد أن علم بوجودها جانبه :
" غداّ عصراً ان شاء الله ستكون المفاجأة بين يديك....انتظرني !..سأغلق الآن "

شعرت روحها تتحول الى أشلاء !!...ما هذا البرود وعدم الاهتمام ؟!...فقط لو حتى نعتها بالضفدعة ستكفيها ...لا تريد عروسي ولا عينيّ الشهد ....سترضى بأن يسخر منها المهم أن يكون الأشقر الغليظ الذي عرفته !.....تركت غرفة المعيشة بعد ان لملمت خيبتها وصعدت الى غرفتها وهي التي جلست لتطرب أذنيها بصوته وحتى طمعت ان تسمع سؤالاً واحداً عنها.....نظرت للساعة كان الوقت ما زال مبكراً من الليل فأرادت أن تشكي همومها التي لم تخبر أحداً عنها من قبل وبقيت تصارعها بنفسها لذا اتصلت بصديقتها علّها تفهمها او ترشدها ...

" اهلا دنيا...القلوب عند بعضها ..كنتُ سأتصل بكِ بالحال لأخبرك أن بلال حدّد موعد زفافنا للصيف القادم اذا أراد الله ..."

ردت (سلمى) بحماس وجاملتها الأخرى بصوت مبتئس من حالها :
" مبارك حبيبتي....اسأل الله ان يتمم لكما على خير.."


" العقبى لكِ دُندن .....لكن لمَ صوتك هكذا ؟!.."


" لا تسخري مني ولا تقاطعيني وفي النهاية علّقي !"

شرحت لها معاملة (سامي) معها من يوم المشكلة الى هذه اللحظة, فسألت (سلمى ) :
" دنيا اجيبيني بصراحة ....هل أنتِ تريدينه أم لا ؟! "

حاولت المراوغة مجيبة:
" يعني ان كان هو قدري لا مفر من ذلك ...ماذا عساي أن أفعل ؟!...لو صممت على الانفصال سأغضب أمي وأجرح أخي ....لذا سأحاول تقبّله ...لكن لا اريد الاستمرار بهذا الجفاء بيننا فهذه حياة كاملة ....ارشديني بحل علّني أصلح الأمور !!.."

فرحت من أجل صديقتها فهتفت :
" اذاً اسمعيني وطبّقي ما أقول لكِ بالحرف الواحد !.."

وبدأت ترشدها لحلول آملة بأن تأتيها بنتائج مُرْضية ....

~~~~~~~~~~~~~~~~

استيقظت الصغيرة على رنة منبه صلاة الفجر من هاتفي ...يا الله كيف سأصلي الآن ؟!...أطعمتها وحاولت تنويمها بكل الطرق التي أعرفها دون جدوى...بدأت عــقارب الساعة تسرع نحو الشروق ...ستفوتني الصلاة لا ريب !!....قررتُ أن أذهب للمدللة...يكفيها ما نامت من ساعات ....وضعتُ الصغيرة على السرير وحاوطتها بالكثير من المخدات والاغطية كي لا تقع ثم أسرعت متجهاً لغرفة (ألمى)...بعد عدة طرقات فتحت لي بشعرها المشعث ....تتثاءب وترتدي منامتها التي جلبتها معها , كانت ببنطال سماوي يصل لتحت الركبة بقليل وقميص نصف كم نفس اللون بأزرار ويوزّع عليه أرانب تأكل الجزر...كدت أفرط ضحكاً على مظهرها الأهبل هذا...اتكأتْ على اطار الباب تتوسد كفها برأسها , نصف نائمة فقلت :
" ألمى...تعالي احملي البنت ريثما أصلي .."

اجتازت بابها لتمشي أمامي كالبلهاء دون ان تغلق غرفتها ...فقبضتُ معصمها اوقفها وسحبت بطاقتها بسرعة وأغلقته ثم مسكتها من كتفيها وانا خلفها أوجهها لغرفتي لأنها شبه مغمضة العينين.....يبدو أنني جلبت طفلة أخرى لأعتني بها وليست لتعينني هي على تلك !!.....دخلنا غرفتي واتجهتْ لوحدها للسرير حيث الطفلة ...استلقت كالأم الحنونة بعد ان سحبتها وضمتها لحضنها ...فدسّت الصغيرة يدها داخل ياقة قميصها لصدرها وراحت كلتاهما بنومٍ عميق ...سبحان الله......أهذه الفطرة ؟!... .....تلك المكّارة الصغيرة ارادت جسد أنثوي ناعم ....لم يعجبها جسدي الخشن !!...توضأتُ وصلّيت ولم يبقَ لي مجال للنوم بعد ان استوطنت فراشي وغرفتي كما استوطنت قلبي وشعيراتي الدموية وكل خلاياي....خرجتُ للشرفة وجلست على كرسي ومددتُ ساقيّ لأخرى وسرحت بالسماء انتظر شروق الشمس ولم أدرَ كيف غفوتُ من تعبي....في التاسعة صباحاً شغّلت الصغيرة صافرة الإنذار فأفاق شقيقها كما أفقتُ أنا ...ايضاً الفندق أعلن حالة الطوارئ بسبب صوتها المرتفع الّا صغيرتي أنا تظن نفسها بيضاء الثلج وتنتظر قبلة من أميرها لتصحو !!...بعد قليل استيقظت وفزّت تعدّل جلستها وعادت لوعيها ثم بدأت تتحسس جسدها بارتباك تتفقده وتنظر حولها وكأننا سرقنا كنوزها منها....كنتُ في هذه اللحظة انا والصغيرين على الشرفة ..دخلتُ فوقع نظرها عليّ ...سألت بتوجس متلعثمة :
" مـ ..ماذا افعل في غرفتك و...و...وعلى سريرك ايضاً ؟! "

جمــيل ..فرصة أخرى للمشاكسة !!....أجبتها بخباثة :
" أيعقل أنكِ نسيتِ شيئاً كهذا ؟!.."

جحظت عينيها اللامعة بخوف وهتفت :
" مـ....ما هو ؟!....ماذا تـ..تقصد ؟! .."

غمزتها بمكر واجبت كاذباً :
" عيـْـب ...معنا أطفال!!....مع أنك لم تبالي لهما وبكل وقاحة تشبثتِ في سريري ولم تتركيه ......أنا لم اكن اريد ذلك لكن وافقت من اجلك .."

قفزت محرجة تُقبل نحوي شبه باكية وقالت وهي تخفض عينيها للأرض :
"على ماذا وافقت من أجلي ؟!...أحقاً أنا طلبتُ منك ؟!..."

ضحكتُ وقررت ان انهي مشاكستي وانا احرّك عنقي الذي تيبس من نومتي تلك :
" أمزح معك...ناديتك من اجل الطفلة وانا نمت على الشرفة .."

تبسمتْ مطمئنة ودنت مني لما رأت حركتي فمدت يديها بعفوية لعنقي لتدلكه لي لكني منعتها مبتعداً للخلف .... كأنّ هذا ما كان ينقصني !! ...وهمست بلطافة :
" شكراً لكِ....لا داعي لذلك ...أنا بخير .....اذهبي لغرفتك وارتدي ملابسك لننزل للفطور وننطلق للمشفى ان شاء الله..."

×
×
×

قمت بإجراءات الخروج لـ (أم أيان ) بعد أن كتبوا لنا الأدوية اللازمة التي يجب المواظبة عليها وقبل التوجه لمخيمهم اشتريتُ لها ما طُلب منا للعلاج وكذلك أغراضاً كثيرة لاحتياجات الطفلين وكمية من المواد الغذائية ولما وصلنا خيمتهم كان زوجها جالساً حزيناً , مهموماً , فاقداً الأمل بالحياة وما ان ناداه ابنه حتى تهللت اساريره وبدأ يزحف على مؤخرته ليصلهم بسرعة وهو يبكي بنحيب ويسأل عن سر اختفائهم ....جثت زوجته مع صغيرتها أمامه فاحتضن عائلته بأكملها وهم يبكون معاً للحظات طويلة ...مسكتُ دمعتي من النزول من هذا المشهد المؤثر لكن (ألمى) لم تسيطر على دمعاتها ..كانت تقف بقربي شبه ملتصقة بي من شدة تأثرها مما ترى !! ....بعد أن بلّوا شوقهم من بعض أصرّت (أم أيان) هي وزوجها علينا لنجلس عندهم قليلاً وبدأت تسرد له قصتها وسبب غيابهم ثم انتقلنا لمواضيع أخرى بداية من حياتهم السابقة في وطنهم وعلمنا أن ( أبا أيان ) كان يعمل ممرضاً وسائقاً لسيارة اسعاف وانه من المتطوعين في ساحات الحرب وبترت ساقيْه من قصف أصاب السيارة اثناء قيامه بنقل جرحى للمشفى....كان يخبرنا عن ماضيهم الجميل قبل الحرب وكيف نزحوا الى هنا وزوجته حامل في شهورها الأخيرة بابنتهما وكيف قطع مسافات زحفاً على مؤخرته بمساعدة يديه هروباً من الغارات التي وصلت بلدهم وباعوا ذهب زوجته ليستطيعوا الهجرة بأحد القوارب تهريباً ...!!...كان يتكلم صامداً بعزة نفس حتى وصل بحديثه عن يوم أمس وماذا عاش من دونهم هذه الليلة من قلقه عليهم فقال بصوت متحشرج وبقلة حيلة :
" لما أذّن الفجر قلت في نفسي ان لم يعودوا لي قبل شروق الشمس فسأتأكد حينها أن حياتي كلها بُتِرت وليست ساقاي فقط ...فهم عيناي اللتان أرى بهما واذناي اللتان اسمع بهما وهم كل جوارحي ...لم اشعر يوماً أني ضعيفاً بوجودهم معي !!.... حتى يوم أمس...ايقنتُ ضـ...ضعفي.."

أنهى كلامه وحرر دمعة لتضع بصمة قهر ووجع على خدّه , قابلتها أخرى من عيني لتشد أزرها... فاللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وغلبة الدين وقهر الرجال....
فما أصعب من دمعة وقهر الرجل الذي لا حول له ولا قوة... ؟؟!!

×
×
×

خرجنا في سبيلنا قاصديْن مدينتنا الساحلية بعد ان اجبرتهم على أخذ المال من اجل دواء (أم ايان ) وحليب للطفلة ووعدتهم بدعم مخيمهم في أقرب وقت بإذن الله....لقد عزمتُ على توكيل السيد (ماجد) والسيدتين (ايمان وفاتن) لهذه المهمة لتجنيد سفراء يهتموا بهذا المخيم من الجمعيات القائمين عليها وعلى أمل ان نوسعها لأكبر نطاق ممكن بمساعدات داخلية وخارجية لدعم ما تطال ايدينا من مخيمات أخرى للاجئين ....!!....كانت خلال الطريق تتحدث بشوق للطفلة واعترفت انها احبّتها وعبّرت عن ألمها اتجاههم وتمنت ان ينصلح حالهم أما أنا توقّعتُ أن يأخذنا الحديث الى مخيمنا لكنها لم تتطرّق له البتة ....أيعقل أن أمره لم يهمها ونسيته أم أنها لا تريد فتح شيء من ماضيها أمامي..؟!

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

بدأنا نقترب من قصر العنكبوت!!....رغم انها بعثت رسالة لخالتها فور قرارها بالبقاء معي لتطلب منها ان تتولّى مهمة اخبار والدها بذلك وتلك طمأنتها الّا انها ليست آمِنة لردود أفعاله ...ربما لأنها تعرف خطأها أو لأن جرحها من صفعته غائر ...كان الوقت قُبيل العصر من يوم الجمعة وسيكون متواجداً في البيت بسبب العطلة الرسمية , لا لأنه يقدّس هذا اليوم للعبادات......دخلنا الساحة وترجلنا من سيارتي...استقبلتنا خالتها وكان الوغد في وكره يطبخ الاعيبه ولما أحسّ بنا خرج قاطباً حاجبيه وتقدّم نحونا.....اقتربت منه (ألمى) واقتربتُ معها لأن عينيه تنذر بالشر ولم ارتح لنظراته ...طأطأت رأسها وهمست :
" سامحني أبي...لم أقصد كسر كلمتك بذهابي .."

قلت ناظراً اليها لأؤكد مسؤوليتي :
" لم تكسري كلمته ...انا من اردتُ ذلك....لا ذنب لكِ...يعني لكِ الأمان كما وعدني.."
وجّهتُ بصري اليه وسألت:
"أليس كذلك ؟؟!.."

قال بنبرة ثعلبية :
" بلى ...أنا أعطيتها الأمان في رحلتها واعتمدتُ عليك بذلك....شكرا لك ..لقد اتعبناك معنا...أما الآن في بيتي سأقوم بدوري كأب لأربيها .."
ثم رفع يده بحقد ليصفعها بالتزامن مع صرخته بها:
" هل تريدين خداعي بعقلك الصغير أيتها السافلة ؟!...اتظنينني لم اشاهد أجهزة المراقبة ولم أر ما فعلتيه لتهربي؟!"

لكن معصمه كان أسير قبضتي قبل ان يلمسها , أشدّ عليه بغلّ وأجزّ على اسناني محذراً:
" كُن رجلاً على قدْر وعدك ولا تخلّ به واتّقِ شر الحليم اذا غضب..."

فقال ليستعطفها وهو يحاول الحفاظ على ملامحه رغم ألمه:
" انظري لما اوصلتني بعصيانك.....في هذا العمر أنا أهان في وسط بيتي !.."

مدّت يديها تمسك بواحدة يدي وبالأخرى يده تحاول تحرريهما من بعضهما وهي تبكي متوسلة :
" أرجوكما كفى....يامن أرجوك اتركه..."

كانت في هذه الاثناء السيدة(فاتن) من خلفه تومئ لي بعينيها وتلوح بيديها لأتركه كي لا ازعزع علاقتي به لأن ليس هذا ما نحتاجه .....

ألقيتُ يده بعنف وقلت :
" إن اقترب منها أحد لا تلوموني بما سأفعل ..."

قال غاضباً:
" أتهددني ؟!.."

أجبت بغيظ غير آبه لإشارات السيدة (فاتن) :
" فسّرها كما يحلو لك.."

اقتربت (ألمى) مني تمسكني من ذراعيّ لتهدئني هاتفة :
" يامن من فضلك اهدأ من أجل خاطري..."

ثم انتقلت له تهمس برجاء :
" أبي أعدك لن أكررها ...سامحني...لن اغضبك مجدداً.."
هتف هادراً بها :
" على ماذا سأسامحك يا ابنة كريمة ؟! ...اذهبي من حيث أتيتِ ...لا اريدك.....ألستِ أنت من تبجحتِ أن لا أصل لكِ ولا عنوان ؟!....هيا اخرجي يا قليلة الحياء"

نظرتُ اليه شزراً من كلامه اللاذع بحقها ومددت يدي نحوها قائلاً بجدية دون ادراك لعواقب جنوني هذا :
" ألمى....تعالي معي !!.."

كانت تقف بيننا منحنية بكتفيها من ثقل أوجاعها ولما نطقتُ جملتي التفتت اليّ شاردة بنظرها فقلت في نفسي وعيناي بعينيها " عهداً عليّ ان اخترتني أنا...من هذه اللحظة سأعترف بحبي لكِ يا حُبي وسأخرج بك من هنا لأُشهد وقت العصر والليل والنجوم والقمر والبحر والشجر أن تكوني زوجتي اسماً وفعلاً من اليوم ولن يقف أحد أمامي ولن أسمح بأن يصيبك خدش واحد ما دمتُ حيّاً...وان اخترته هو لا ألومك لكن سأتأكد أننا لم ولن نكون لبعضنا يوماً...وستقطعين حبل الأمل الذي أتمسك به ..!!"....
فوصلني صوتها ليشتت عهدي وفكري وهي تكمل توسلها له ببكاء وتمسك يده تقبّلها قبلات متلاحقة :
" أنا ابنتك أنت....أنتَ فخري وسندي ...أبي حبيبي ...سامحني ...ألستُ أنا أميرتك لوما ؟...صدقني لن اخرج عن كلمتك مرةً ثانية "

رقّ قلبه ان كان له قلبٌ أساساً.!!..ووضع يده على ظهرها يمسّده لها كإشارة منه انه يعطيها رضاه والأمان وبعينيه أعطاني نظرة انتصار لأنها اختارته هو لكن بما أننا بيننا صفقات ...لا يستطيع البوح او التبجح بشماتته لعلمه ما سيخسر منا !!...

×
×
×

دلفتُ بيتي محبطاً وكأن كل الهموم اجتمعت على كاهلي والذي زاده تعب ما مررتُ به هاذان اليومين ومشوار الطريق ...لذا طلبتُ من خالتي ألّا يقترب مني أحد حتى أصحو بنفسي لكنها استوقفتني هامسة بقلق :
" السيد ماجد سأل عنك وأراد أن...."

قاطعتها بوهن قائلاً:
" لاحقاً خالتي...لا حيْل لي الآن لأسمع شيئاً....من فضلكِ أجلّي أي كلام وسامحيني...اريد أن أستحم وأنااام فقط لا غير..."

اومأت برأسها برضا مع شبح ابتسامة وتركتني أصعد الى غرفتي....

~~~~~~~~~~~~~~~~~~

تقف أمام طاولة الزينة تضع على وجهها لمسات خفيفة من المساحيق التي تناسب لون فستانها العسلي ويصل الى تحت الركبة بشبر يفصّل جسدها مع كميْن يصلان للمرفقين وياقته مفتوحة بشكل مربوع وتنتعل كعباً اسوداً كلون الحزام وعقداً من الخرز الأسود وفي قلم الكحل العريض حددت عينيها ليبرز شهدهما ويجعل من ينظر لهما يقع صريعاً من سحرهما...أبقت شعرها منسدلاً على ظهرها وكتفيها بحرية.....نثرت عطرها على عنقها ...ألقت نظرة أخيرة لمظهرها برضى....تأملت بابتسامة خاتم خطوبتها الذي لم تخلعه منذ أسبوعين تقريباً....هي تحب أن تتزيّن وتمتلك ذوقاً مميزاً في اختيار ملابسها لكن أمامه كانت تهمل شكلها ولا تهتم لأنه لا يعنيها شيئاً أو هكذا تدّعي ....قررت ان تستقبله اليوم بصورتها التي لم يرها بها سابقاً بعد أن ارشدتها صديقتها الوفيّة بقولها أن الجبال والحيطان أمثالنا تنهار أمام جمال المرأة وفتنتها وأنه سيرفع الراية البيضاء مستسلماً لها ....نزلت السلالم لتتفقد طاولة التضييفات في غرفة المعيشة العائلية حيث اعتاد على الجلوس عندهم ...لقد طلبت من والدتي أن تجهّز ما يحب (سامي) ووافقتها منشرحة ومسرورة من أجل التغيير الذي طرأ عليها ....جلس (شادي) على احدى الارائك فهتفت منزعجة :
" هيــه أيها الشبر ونصف...لا اريد أن أرى وجهك اليوم هنا !.."

سرق حفنة من المكسرات الموجودة أمامه وعدّل جلسته هاتفاً وهو يقضم منها :
" يبدو انك ستذهبين لحفلة ...ما شأنك بي ؟...اجلس أينما أريد ثم أنني انتظر صديقي سمسم ومفاجأته وليس لأريكِ وجهي .."

قطع مشاحناتهما رنين الجرس فبدأت بارتباك ترتب نفسها أما الصغير انقضّ يلحق والدتي ليستقبل المفاجأة ولما رآه هتف بسعادة يستقبله :
" أهلا بالحامل والمحمول..."

دلف (سامي) الى بهو المنزل حتى وصل طاولة دائرية حولها أربع كراسي ووضع عليها صناديق ثلاثة مغلفة وكانت بأحجام مختلفة... كبير , وسط وصغير....كان يرتدي بنطال جينز أزرق وبلوزة نصف كم لها ياقة وزريْن لونها خمري داكن وحذاءً رياضياً ملوّناً بالأبيض وتدرجات الأزرق....سحب الصندوق الكبير واتجه الى غرفة المعيشة قائلاً لـ (شادي) :
" هيا اتبعني أيها الضفدع ..."

ما ان اجتاز بابها حتى وقعت عيناه على الجالسة يتأملها لثواني معدودة بمظهرها الجديد الجذاب وبعدها ألقى حدقتيه على الطاولة أمامها ....قال وهو يبعد نظره :
" السلام عليكم ..."

ردّت التحية وهمّت لتقوم لتستقبله لكنه كان قد استدار نحو التلفاز وسحب منضدة جانبية وجلس عليها يوليها ظهره وبدأ بنزع الغلاف عن هديته وما ان ظهرت صورتها حتى قفز (شادي) هاتفاً بابتهاج وفرحة :
" يا للروعة ....جهاز الألعاب الالكترونية( playStation ).."

ثم قفز يحتضن الجالس ويقبّله متناسياً الآم موضع العملية وهو يشكره بكل حب وامتنان ....بدأ يوصل الأسلاك في التلفاز ...فتنحنحت الجالسة ووجهها محتقن غيظاً وقالت بحماقة:
" لا تجعله يلعب هنا ..."

استدار نصف استدارة برأسه يرمقها بنظرة جانبية مع رفع حاجبه سائلاً :
" لماذا لا يلعب هنا ؟!.."

حرّكت حدقتيها هاربة من الإجابة ...فكرر سؤاله فاضطرت مجيبة بكذب :
" ستأتي صديقتي ...لا أريد ضوضاء هنا "

انتصب واقفاً وقال وهو يضع احدى يديه على خصره بجدية :
" اطلبي منها أن تأتي بعد ساعة او ساعتين لأني احتاجك في موضوع ولا يمكنني تأجيله أكثر من ذلك .."

سقط قلبها الى قدميها بهلع ...لقد ظنت أنه نسيَ ما حدث منذ اكثر من أسبوع....ها هو سيواجهها به ولا مفر من ذلك....شتمت صديقتها في سرّها على فكرتها التي جعلتها كالنقطة امامه....انه يلقي نظرة لها ثم يبعدها في الحال ولم يكبّ على وجهه من جمالها وفتنتها !!...هل هي ليست جميلة أم هو خفّ نظره ويحتاج لنظارة أو ماذا ؟؟...
اومأت له موافقة بخنوع ووجل وهي تبتلع ريقها فخرج من الغرفة ثم عاد بالصندوق الوسط وناولها إياه دون ان يفتحه لها هاتفاً بنبرة جدية :
" هذه لكِ.."

مسكتها متفاجئة ...لم تتوقع ان يتذكرها بهدية ...همست بتردد:
"أ..ألن تفتحها ؟!.."

توجّه لـ ( شادي ) مجدداً وأجابها ببرود:
" أنتِ افتحيها .."
تنحنح وأردف :
" وبعدها اصعدي لتبدّلي ملابسك للخروج....لن نتكلم هنا!.."

كانت كالزجاجة التي تكسرت لكنها صامدة مكانها وان مرّ احد من جانبها ستنهار شظاياها وتملأ الارض من عدم اهتمامه بمظهرها هذا ...لم يُسمّعها أي كلمة او تعليق وفوق هذا بكل برود طلب منها أن تبدّل ملابسها وكأنها تقف امامه بأسدال الصلاة أو منامة معتاد عليها ....!!...ألن يثني على لباسها وجمالها ؟!.....لكن ستصبر ولن تحكم عليه ظلماً....فتحت هديتها فشهقت باندهاش هاتفة بامتنان :
" شـكراً سامي....كـ...كيف عرفت أني اريدها ؟! ...يا الله اخيراً حصلتُ عليها"

ردّ كاذباً وهو يلعب مع (شادي) بجهاز الألعاب الالكترونية :
" لم أعلم أنكِ تريدينها لكني انتبهت صدفةً أنك تحبين التصوير.."

لقد أحضر لها من العاصمة آلة تصوير فورية , حديثة وثمينة ....كان قد سمعها من غير قصد وهي تحدث والدتي عنها وتتوسلها للسماح لها بطلبها عبر احد مواقع التسوق الالكتروني لكنها رفضت أما هو لم ينسَ ذلك وهو يعلم أشد المعرفة هوسها بالتصوير وهذه هي هوايتها المفضلة !!.....ربما لو كانت علاقتهما مستقرّة لقفزت الآن في حضنه لتشكره على تحقيق حلمها....أما الصندوق الصغير كان هاتفاً جديداً من اجل حماته ...لقد كلّف نفسه بهدايا باهظة دون أن يرف له جفن لأنه يقدّم بسخاء لأحب الناس على قلبه ....

×
×
×

استقلّا سيارته ومع أن الخوف يسيطر عليها الّا انها سعيدة بهديته القيّمة ...بدأ يتجه صعوداً للأعلى الى رأس الجبل دون أي كلمة ...التفتت يمنة ويسرة عندما اجتازا المنطقة السكنية ودلفا الى منطقة غير مأهولة وطريقها ترابية وعلى الجوانب صخور وأحجار وأعشاب يابسة ....وصلا الى التلة ....تلة الصقور....حيث شجرة الخروب خاصتنا ثلاثتنا انا وهو و(أحمد) والمكان الذي جمعنا دوماً ولم نسمح لأحد بالاقتراب منه والذي يطلّ على القسم المنخفض من مدينتنا ...أوقف سيارته رباعية الدفع وترجّل منها ....بقيت هي مكانها مذهولة , مستغربة من هذا المكان ولمَ جلبها اليه ؟!....دنا من الحافة يضع يديه على خصريه ناظراً أمامه بشموخ وشمس العصرية تسلّط على وجهه ....زفر أنفاسه ثم التفت اليها يشير لها بالنزول....انصاعت له وهي على حالها متعجبة...اقتربت منه مرتاعة ....همس لها بهدوء عكس عواصف القهر داخله وهو يومئ لإحدى الصخور التي كنا نجلس عليها :
" اجلسي هنا..."

أشارت على أخرى أبعد من الحافة هامسة بوجل :
" سأجلس على هذه....أخاف من المرتفعات واشعر بالدوخة .."

اومأ موافقاً وجلس على صخرة مقابلاً لها ملتفتاً نحوها وأصبح المنحدر من خلفه.....لحظات وكلاهما صامتان حتى بدأ هو بالكلام :
"اسمعيني يا ابنة الكرام.... في البداية سأخبركِ لمَ جلبتك الى هنا بالذات..."

حدّجته بشهديها المكحلتين واللتين ازدادتا روعة وجمالاً بسبب انعكاس ضوء الشمس عليهما فأشاح بصره عنها ...لا يريد أن يغرق بهما أكثر...لم الآن تضاعف سحرهما وجاذبيتهما ؟...هل هذا ما ينقصه ؟!...همس بسره " تباً لعينيّ الشهد الحارقتين"....تمتم مستغفراً.....ثم تابع كلامه :
" هذا المكان يشهد على طفولتنا وصبانا أنا وهادي وأحمد..."

أشار لجذع الشجرة واستطرد:
" حفرنا أسماءنا عليها كأننا نصك ملكيتنا ...لم نسمح لأحد بلمسها واتفقنا ان لا نضيف اسماً اخراً معنا الّا..."
ضحك شبه ضحكة مطعونة وأضاف :
" الّا فقط عندما نكبر ونختار شريكات حياتنا سنحفر اسمائهن جانب اسمائنا وتراهنّا على ان من يخطب الأول بيننا هو فقط سيحق له كشف مكاننا هذا وجلب عروسه الى هنا ...."

نهض من مكانه وزلف نحو الشجرة وناداها فاستجابت له وقبل أن يشير انتبهت لاسمها المنحوت جانب اسمه ...شعرت بسعادة تغمرها لقد فازت هي بشرف معرفة هذا المكان لكنها لم تترجم سعادتها بأيةُ ابتسامة لأن الخوف من الآتي يلاحقها...لا تريد أن تتسرع بكشف مشاعرها وردود افعالها ....مدّ يده لها بلطف رجولي وعيناه تشع بالحنية المخلوطة بالآهات وهمس :
" اعطني الخاتم لطفاً..."

خلعته وهي متفائلة عندما راته يخلع خاتمه ايضاً ...فأكيد سيعترف بحبه وثم يعيدان لبس الخواتم لبعضهما ليفتحا صفحة جديدة في علاقتهما المهزوزة....هذا ما تمنّت !!... ...وضع خاتمها الصغير داخل محيط خاتمه الكبير على بطن كفه ثم اغلق قبضته بحرص عليهما وعاد الى الصخرة فلحقته تجلس مكانها فتابع كلامه :
" عندما أخبرني هادي بموافقتك كنتُ يومها مصاباً بالحمّى وأقبع بفراشي ...لكن لا أعلم من اين أتتني القوة لانطلق الى هنا واحفر اسمك قبلهما لأؤكد كسبي للتحدي بيننا ....أنا لم اركِ ....لكني بعثت صورتي من اجلك ولتكوني على نور...نحن لسنا في العصر القديم وأعي ان هذا من حقك.....وكذلك طلب مني هادي المجيء عندكم لتلك البلاد كي القي النظرة الأولى لأنه بالطبع لن يقبل ببعث صور شقيقته ....لكني رفضت وأخبرته أنا لم اشترِ بضاعة من السوق ....يكفيني شرفاً أن تكون شريكتي ابنة العز والنسب ..ابنة شرفاء القبائل....ابنة المجاهد محيي الدين وشقيقة توأم روحي والبطل الشجاع هادي ...وليس هذا فحسب ...كان يقال لنا ان اردت أن تتزوج ...ابحث عن أم العروس وليس على العروس فنحن نعلم أن الفتاة تتأثر الى حدٍ ما بأمها وحتى أيضا بعماتها ....ومَن أفضل من خالتي عائشة كأم ربّت أبنائها على الأصالة والدين والخُلق الحسن؟!... والسيد سليم الأسمر بمقامه وشهامته اختار عمتك السيدة لبنى زوجة له فمؤكد انه اختار خيرة النساء فان لم تكوني كأمك ستكونين كعمتك وكلتاهما مصدر فخر واحترام وترفع لهما القبعة.....عندما طلبتكِ من شقيقك ليس فقط من اجل مساعدته وأخذ حمل عنه فلو لم تكونوا انتم بنسبكم المشرّف لساعدته بإيجاد حلول أخرى دون أن اربط حياتي بزواج لا أرضى به .....أنتم هاجرتم نعم ...لكن روحي ايضاً هاجرت معكم... أنا حياتي لم تكن حياة من غير هادي حتى رضيت على الأقل بتواصلنا عبر الهاتف وكنت حينها كأنني خرجت من عملية صعبة للإنعاش ....كنا قبل رحيلكم نمضي معظم الوقت معاً اكثر مما نمضيه مع عائلاتنا ....لن تستوعبي ماذا يعنيني صديقي !....لن يصل احد بعمق صداقته مثلنا.....إن صفعني هادي سأعطيه خدّي الآخر ليصفعه من غير تردد لأني اثق انه سيفعل مثلي.!!.....أما الآن فلنأتي للعلاقة بين الرجل والمرأة....اخبريني....ماذا تحتاج المرأة من شريك حياتها ؟!.."

حملقت به ثم اخفضت عينيها ليديها في حضنها والتوتر يعتريها يصاحبه الخجل من قربه ونظراته وسؤاله ...كيف ستجيب ؟...هل ستقول له الحب والأمان والحنان والاهتمام وأن يكون بيتاً لها ويجعلها الملكة عليه ؟!....بالطبع لن تنطق بهذا فهي ستكشف نفسها وأن هذا ما تريده منه...فأجابته سائلة ضد تيار مشاعرها واحتياجاتها :
" لمَ تعتقدون أن المرأة تحتاج شيئا من شريك حياتها ؟!...أتظنون أنها لا تستطيع فعل أي شيء لوحدها ؟!.......يمكنها الكثير دون الرجل"

فقاطعها ساخراً ليحرجها :
" مثلاً أتستطيع الانجاب لوحدها من غير زوج ؟!.."

أشاحت وجهها جانباً قاطبة حاجبيها بحرج وحياء وهمست :
" أين عقلك أخذك؟...لم أقصد تلك الأمور.."

ضحك ليبرّد عليها قليلاً من توهجها وقال :
" حسناً ....أنا لا اسأل ماذا تريدين أنتِ كدنيا ...أنا أتكلم عن العلاقات الطبيعية ....لذا سأجيبك على قدر معرفتي..."

نظرت اليه بفضول فاستأنف :
" تريد المرأة من الرجل ...الحب والحنان والأمان ...الوفاء والإخلاص لها ...أن يراها دائماً هي الأجمل بين نساء الكون....أن يرفع شأنها في كل مكان ...أما الرجل يريد ...ان تكون شريكته في الصباح أم له تهتم به وبكل ما يخصه وفي الظهر صديقة تسمع لمشاكله وتساعده على حلولها ...في العصر شقيقته تشعره أنه سنداً وحامي لها وفي المساء ابنته تركض لاستقباله بكل حب وبراءة وتتدلل عليه وفي الليل عشيقته وزوجته ليعيشا لحظاتهما العاطفية الجميلة بكل حب وينسياً معاً كل العالم ..!!..."
تنهّد وأكمل وهو يستدير جانباً قليلاً نحو المنحدر:
" الحياة فيها أخذ وعطاء ....هكذا نحن بعيداً عن معرفة النوايا ....قدّمي اهتمامك لأرضك واعتني بها لتعطيك التربة الخصبة للزراعة.....اسقي الشجرة لتعطيك الثمرة ....ثابري وابذلي جهداً لامتحانك لتحصلي على نتائج تفرحك.....حتى البحر لن يتبخّر ليعطينا السحب المحملة بالأمطار دون أن تعطيه الشمس أشعتها ....هذه سنة الحياة ...نعطي لنأخذ .....أما أنا سامي عشت وسأموت وانا اعطي ...لا أمنّ على أحد ..حاشى لله ...لكن هذا طبعي ...اتغذى العطاء وأتنفسه ...شيء لا استطيع التحكم به ....كنتُ أتمنى ان استمد طاقتي من شريكتي وحبيبتي لأتابع مسيرتي في العطاء ..."
ابتلع ريقه وأردف وهو يبعد نظره عنها :
" انا حاولت قدر الإمكان ان اعطي واعطي ....لم ينفذ صبري ..تحمّلت ولم يجرح قلبي ...لم أكلّ ولم أملّ ...كنتُ اجد لك الاعذار...ربما تخجل مني ربما تتدلل ...كم ربما قالها عقلي ؟!...اقول في نفسي ..غير مهم...تحمل يا رجل لا تيأس ..استمر في عطائك حتى تتذوق ثماره..... لكن في موقفك الأخير حسمتِ الأمر...لم تشركيني بشيء حساس يخصك والذي يؤثر على سمعتك وسمعة اهلك وكدتِ أن تُسَجلي بين السجناء وليتك سجينة من اجل الوطن !!.... الى هنا بتصرّفك هذا وصلتني رسالتك أنكِ لستِ بحاجتي وبغنى عني وحتى أنكِ ايضاً لا تضعيني على هامش حياتك !!....لا مكانة لي عندك!!......لم تعتبريني ابناً ولا صديقاً ولا حتى شقيقاً ولا اباً وبالطبع لا حبيباً او زوجاً كما اريد ان أكون بنظر شريكة حياتي.... مع الأسف خاب ظني!! ....ارتباطي بك هو استنزاف لطاقتي التي يحتاجها وطني وأهلي واصدقائي وأبناء شعبي ..!!... لا استطيع أن أترك الكل وأهدرها هباءً من أجل واحدة لا تراني ولا ترغب بي وربما تكرهني وتفكر بي كعثرة في طريقها !! ....كما انّ لديّ كرامة ان تخليّت عنها سأتخلّى عن كل ما يخصني بسهولة...وأهمها وطني ....فالكرامة هي عشق الوطن وبدونها سأخون الجميع وحينها لن أكون أنا سامي..!!.."

نهض من مكانه ووجهه منخفض صوبها ...كانت شفتاها ترتجفان وهي تحاول الضغط عليهما لتستكينا لكن لا فائدة فالغليان في باطنها وصل حد الفوران....ستنفجر بكاءً لا محالة ....هتف بشهامة ورقيّ :
" دنيا....أأستطيع أن اطلب منكِ طلباً ؟! "

رفعت عينيها المتكدسة بالدموع نحوه ليستمر بكلامه فقال برجاء :
" أرجو أن تتحملي وجودي معكم حتى يعود هادي ...لا أطلب ذلك من أجلي ...فقط اريد ان يتم عمله وهو مرتاح البال ....وأعدك ولتشهد هذه الشجرة على وعدي أنني سأنظر لكِ وأعاملك كشقيقتيّ بيان ورزان وعند تحرره من مهمته سأحررك مني وأعيد له أمانته الغالية..."
أضاف وقلبه موجوع :
" ربما طريقتنا في الارتباط كانت خاطئة لذا لم ننجح بها وفي النهاية كل شيء قسمة ونصيب...."

وقفت بصعوبة محاذية له ...لا تشعر بقدميها على الأرض لقد أصابهما التنمّل ...ليس من جلستها بل لأن كل الدماء صعدت لدماغها وتكاد تتقاطر من شعرها !!.....بسطَ قبضته الممسكة بالخاتمين وتأملهما بابتسامة محتضرة على زاوية فمه ...نظرت هي أيضاً اليهما ثم رفعت بصرها اليه بفضول لترى مصيرهما....فبحركة سريعة منه ألقاهما من فوق المنحدر ليتدحرجا نحو الحرية وتتدحرج معهما احلاماً نسجها كلٌّ منهما بخيوطٍ ملوّنة رفيعة قطعها لهما حبس المشاعر في القلوب دون اطلاق سراحها لبيتيهما قبل أن يهدمهما لهما العناد.....!!....ونطق بقهر نجح بإخفائه :
" لم يكونا لنا ولا من نصيبنا ولن نكون لبعضنا يوماً.."

ليتلقّى بعدها ضربات على صدره بقبضتيها الصغيرتين وهي باكية وتدوي بصراخ صداه ملأ الأرجاء والكحل يخربش خطوطاً تحت عينيها :
" كيف تسمح لنفسك بإلقاء خاتمي ؟!...قل لي ...كيف ؟؟!.... أكرهك...أكرهك....لا اريدك ولا اريد رؤيتك.....اخرج من حياتي ومن بيتي ... لا داعي لتربط نفسك بنا.....اذهب وابحث عن الشريكة التي ترغب بها ...أنا اكرهك "
وتهالكت على الأرض منزلقة من بين يديه تستمر في بكائها !!...أما هو كان ينزف ألماً على حالها ....فهي حبيبته التي ظنّ أنه لن يسمح بنزول دمعتها وها هي الآن تغرقه بشلالات من عينيها العسلية ولا يستطيع ايقافها لها ....!!....انحنى قليلاً اتجاهها ومسكها من ذراعيها ليساعدها على النهوض ...وقال بتعجب وداخله طوفان يكاد يغرقه :
" لا ادري لم تبكين ؟....أنا كنتُ أنتظر رؤية ضحكتك وأنت تتخلصين مني !! "

أزاحت يديه عنها ونهضت بعظمة اختلقتها هاتفة :
" أبكي أو أضحك لا شأن لك وإياك أن تلمسني لأني اكرهك ..أفهمت؟...أكرهك "

أجاب وعلى ثغره ابتسامة سقيمة مزيفة :
" فهمت....لقد كررتها كثيراً...."

ولّته ظهرها وبدأت تمشي بخطوات سريعة شبه راكضة حتى اجتازت سيارته....فقفز خطوات واسعة وركبها ولحق بها ...فتح النافذة وقال :
" هيا اركبي ..."


" لا اريد رؤيتك "


" اركبي وانظري للخارج لا تريني "

اسرعت في خطاها اكثر دون ان تجيب فهتف:
" اركبي ...هنا المنطقة مليئة بالكلاب الضالة ..!!"


" الكلاب أفضل من بعض البشر.."

نهرها بحزم :
" دنياا...لا تقللي أدبك...ما زلتِ تحملين اسمي ! "

قالت بغباء وهي تلهث من مشيها السريع :
" طلقني لتحافظ على اسمك المرموق "

أوقف سيارته ونزل منها ثم تبعها يمسك بها هاتفاً بصرامة :
" ستركبين أم أركبك أنا بطريقتي ؟؟!....هيا ...اختاري !.."

تأففت حانقة وركبت في المقعد الخلفي وفتحت النافذة تخرج راسها لأنها لا تطيق تواجدها معه بنفس السيارة ولا اختلاط أنفاسها بأنفاسه ولو بإمكانها ان تمد يديها لتخنقه لما ترددت! ...عندما ولج الى ساحة البيت لينزلها قالت بغطرسة وهي تترجل :
" انتظر دقيقة .."

استغرب من طلبها فدخلت البيت ثم أطلّت عليه تحمل هديته وتضعها على المقعد بجانبه :
" خذ هديتك ...لا اريدها .."

تضايق من ردّها لهديته فقال :
" ما ذنب الهدية ؟....اعتبريها من شقيقك !.."

رمقته بنظرة حارقة من شهديها المشتعلتين وهتفت :
" لن تكون شقيقي ابداً ولا تقارن نفسك به ....واعطي هديتك لعروسك تلك التي صممتها في دماغك !.."

قال ببرود أدّى لاستفزازها :
" ربما لا تحب التصوير !! ما أدراني.."


ردت بغيظ وهي تستعد للتوجه للمدخل :
" اذاً صوّرها أنت لتملأ غرفتك بصورها وتنام وتحلم بها .."

ودخلت وصفعت الباب خلفها وهو ينظر لطيفها محترقاً على فراقها ....

~~~~~~~~~~~~~~~~

في صباح اليوم التالي ذهبت للعمل دون أن آخذ هاتفيّ ...لقد نسيتهما...لكن لا بأس ..هذا أفضل لي....اريد ان ارتاح قليلاً من الاتصالات التي تلاحقني كوني (يامن )وكوني (هادي )...قررتُ الهروب والانعزال في غرفتي بالشركة حتى انني أغلقت الباب على نفسي وطلبت من سكرتيرتي والموظفين عدم الاقتراب مني وسحبت سلك هاتف المكتب من المقبس خاصته...لا اريد أي تأثيرات وتطفلات خارجية....هكذا سأنهي عملي الذي تراكم منذ يومين وسأنفّس عن نفسي قليلاً ....خلال النهار تذكرتُ أن خالتي كانت ستخبرني عن السيد (ماجد) وقاطعتها دون فهم القصة واليوم خرجتُ باكراً دون أن اراها هي وأبي (إبراهيم) الذي أخذ إجازة أسبوع عن عمله ليرتاح ويتفرّغ به لزوجته مريوما.......يا الله ستقلق عليّ الآن !....لا مفر من استعمال الهاتف ...اوف....نهضت من مكاني واوصلت السلك للمقبس...اتصلتُ في البيت لا من مجيب !!....يبدو أن زوجها سرقها لمكان ما ليعيد شبابه ....اتصلتُ على هاتفه الخاص فأجاب على الفور :
" أهلاً بالهارب ....ماذا سيد هادي....هل ذهبت للشركة من صلاة الفجر ؟!..."

قلت مازحاً :
" اريد ان اعوض عن غيابي قبل أن تخصم من معاشي !.."

أجاب بمكر:
"ماذا هل طابت لكَ الرحلات والتملّص من العمل ؟!....اتفقنا الذهاب ليوم واحد أم أن ابنة الوغد سحرتك وأوقعتك في شباكها ؟!.."

قلت بضيق:
" لم يوقعني أحد!!....عندما آتي ان شاء الله سأخبرك ماذا حصل معنا ؟!...لن اتأخر اليوم ..لقد التهمتُ الملفات بشراسة واقتربت للانتهاء من عمل الغد لأنني بعد يومين سأسافر للحدود للمعسكر لاستقبال الذخيرة الجديدة ......"

أكملت سائلاً بفضول:
" أين أنتما ؟...اتصلت في البيت حتى السيدة خولة لم ترد !!.."

قال :
" السيدة خولة في إجازة وانا خطفت خالتك لإحدى المنتجعات لنسترخي بعيداً عنكم أيها النكديون أنت وماجد وسليم....أشعر أنني عسكري في المعسكر بينكم..."

ضحكت وقلت :
"اذاً لا داعي لأن أعود باكراً!!..... أوصل سلامي وقبلاتي لمريومتي ....فلتهنآ في يومكما "

نهرني بمزاح :
" هيـه يا ولد ....ألم تكفكَ قبلات خاصتك وتأتي لتشاركني بخاصتي ؟!.."

زفرتُ أنفاسي هاتفاً :
" أبــي...اخرج هذا من عقلك !....أنت تعلم لا يوجد شيءٌ كما تعتقد بيننا ولن يكون بتاتاً ان شاء الله.."

هو وخالتي يريدان أن أعيش حياتي واستمتع في شبابي وخطوبتي وان لا اربط مشاعري بمهمتي ...كيف يحسبونها لا اعلم ؟!....صحيح اني غارق لكني أجاهد لأثبت للجميع أنني صامد ولن أقع في حبها فلا أريد أن يدرى أحد بحالي ...فلتبقى أحاسيسي وعواطفي سراً دفيناً في جُبّ قلبي الخائن !!....نعم , البارحة تحدّيت نفسي ان اختارتني سأشْهِر للعالم بأسره انها مليكة فؤادي لكن هذا كان مجرد سراب الحب مرّ في صحراء عقلي وزرع اوهاماً لا تثمر.....ربما ذاك الموقف كان كلسعة لأفيق من سباتي وأصمم اكثر على مهمتي ومحو حبها من طريقي ....سأحاول أن أكون رجلاً معها ولا أقسو عليها ...سأحاول ألّا ينبض نابضي نبضات العشق في جوارها....سأحاول ثم أحاول.........لكن .......كم محاولة باءت بالفشل ؟!!!

أنهى كلامه أبي (إبراهيم) قائلاً :
" استعدّ مساءً لاستقبال السيد ماجد المتأجج غضباً.....انه يتنفس سعيراً....ولم يخبرني أسبابه..!!.."

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

يتناولن وجبتهن في مقصف الجامعة وتسرد لهما مغامرتها وهما تتفاعلان معها بحب وتشويق وكأنهما تشاهدان فيلماً مصوّراً حتى وصلت للكلمة التي رفعتها للسماء عند سماعها لكنها مثّلت انها لم تنتبه خوفاً من نكراني لها ..:

" كان أجمل شعور عندما جذبني تحت جناحه وقبّل رأسي برفق وهمس في أذني ...*اطمئني... يا ألمتي * ...كدتُ أقفز وأصرخ ....قال لي ألمتي يعني ربطني به ...هذه أجمل من كل كلام الغزل أن يناديني مع ياء الملكية ...يا الهي ...كيف ثبتُّ دون أن يغمى عليّ بين يديه ؟!...بتُّ أدمن همسه وكلامه والدفء الذي ينبع من حضنه ..."

قالت ( لميس ) بابتهاج من اجلها :
" يا عيني على الحب ...هذا هو الكلام المضبوط !!.."

أما (ميار) هتفت بغبطة مازحة :
" يا لحسن حظك ....اسمك يناسب مع ياء الملكية لكن انا ان أراد خطيبي ان يدعوني بها سيقول مرارتي بدل ميارتي ....اووف.....سأبحث عن اسم آخر يلائم للتملك وأغيره عن هويتي قبل ان يداهمني أي زلزال.."

ضحكتا عليها ثم أكملت (ألمى) قصتها الى حين خروجي من بيتهم مغتاظاً وهمست بقلق وحزن :
" لم يكن بإمكاني الذهاب معه!!....هذا يبقى أبي...لا استطيع اغضابه .....يكفي أنني تمردت عليه ولاحقت عنادي ...لكن هو خرج مستاءً دون ان يودعني والى الآن هاتفه مغلق ....هل يا ترى غضب مني وسيعود حائطاً كما كان بعد أن عيشني بقربه لحظات لا تنسى ؟!.."

أجابتها (ميار) :
" وضعك حرج صديقتي ....جفّت السنتنا ونحن ندعو لِيَلين ويصهر الحائط قليلاً .....وها هو بعد أن أصبح رمال متحركة صببتِ عليه الاسمنت ليتحجّر من جديد ويصلّب......لكن في النهاية يجب أن يعلم ان هذا والدك مهما كان ويحق له تربيتك كيف يشاء وهو لا سلطة له عليكِ لأنك لستِ في بيته !!.."

نظرت لها بترقّب مترجّية :
" يعني هل سيتفهم هذا الشيء أم سيستخدمه ليقسو عليّ ؟!... "

شردت (ميار) فأجابت عنها (لميس) :
" انتِ قلتِ انه ملتزم الى حدٍّ ما ...ان كان كذلك بالفعل لن يعاقبك ببرّك لوالدك وعلى العكس يجب أن يفتخر بكِ ....الفتاة التي تطيع أهلها ستطيع زوجها وترّبي ابناءها على الاحسان والبرّ ايضاً.....لا تقلقي ألمى....شخص مثله ترك أعماله ولحق بكِ لبلاد بعيدة لن يتخلّى عنك بسهولة أو يقسو عليك وهو الذي جاءك للعاصمة ليرمم قلبك مهما أخفى أو أنكر....أما بالنسبة لإغلاق هاتفه لا بد أن له أسبابه وستتضح لكِ لاحقاً.....ابعثي له رسالة جميلة مثلك ليقرأها عندما يفتحه..."
رمشت بعينيها مع ابتسامة على محيّاها توافقها على كلامها بارتياح.....

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

بما أن أهلي ليسوا في البيت أكملت عملي لبعد آذان المغرب وفي طريقي أردت ممارسة شيء أحبه فتوجهتُ للساحل لأستأجر دراجة مائية لأطوف على سطح الماء وأنسى الدنيا بمن فيها ...فأنا مجنون في عشق البحر ووحده من يفهمني ويتحمل ثوراتي وجنوني وعشقي وسكوني ...بعد ساعة من المتعة وتعديل المزاج استقليتُ سيارتي وقصدتُ بيتي ....عند وصولي للساحة رأيت سيارة السيد (ماجد) فصفعت جبيني من حماقتي....لقد نسيت انه بانتظاري !!....لا بد أنني سأسمع سيلاً من العتاب والملامة منه ومن أبي (إبراهيم )....نزلت من سيارتي أخذتُ شهيقاً وزفرته بتروّي استعداداً للمواجهة النارية ...فالمعلومات الأولى التي اخبرني بها أبي انه مضطرم ومشتعل بالإضافة لتأخري الآن واهمالي للموعد مؤكد سيلقي جمراته عليّ..!!.....سمّيت بالله وتسلّحت بالبرود وولجت الى المنزل بهدوء....وصلني صوته هادراً من غرفة الضيوف ....فتوجهتُ الى هناك في الحال :
" السلام عليكم..."

ردت خالتي السلام مع زوجها اما الآخر رمقني بنظرات قاتلة كأنني متهمٌ بجريمة ما ....ادّعيتُ اللا مبالاة وتوجهت للأريكة الزوجية وارتميتُ عليها سانداً ظهري للخلف وبدأت بفك ازرار قميصي العلوية وقلت ببرود:
" ماذا تنتظر ؟...إلقي قذائفك...ها أنا أسمعك."

فسألني السيد (ماجد) بصوت منخفض عكس الضجيج الذي يدور في داخله وهو يشدّ على فكيه :
" أين كنت هاذين اليومين؟!.."

نظرت اليه متعجباً مردفاً بنفس النبرة الباردة :
" لمَ؟...هل عليّ كتابة تقارير عن تحركاتي ؟!."

ضرب بقبضة يده الطاولة أمامه وزمجر صارخاً:
" ماذا تفعل بنا وبنفسك ؟!...ما هذه الفسحات والخروج مع ابنة عاصي ؟؟!...ها؟...اخبرني !!....وهل أبقيتَ هاتفك الخاص بنا في البيت عمداً كي تأخذ راحتك معها دون ازعاجات منا ؟!..... "
" ماذا تؤثر على عملك سيد ماجد هذه الفسحات وغيرها ؟!...هل اهملتُ دوري يوماً ؟!.....أما هاتفي كوني هادي لقد نسيته ثم لا حجّة لك , كان بإمكانك الاتصال على هاتفي الثاني ان كان امراً ضرورياً .."

قلت كلامي بنبرة مرتفعة ليجيبني بأعلى وأقسى :
" هل أتصل واخبرك ان عاصي يريد طبخ طبخة دسمة ستجعله يقفز قفزة مهمة للأمام ؟؟!....متى أصبحت أحمقاً هكذا ؟!....هل بإمكاني قول هذا لك على هاتف يامن الذي يستطيع التجسس عليه الوغد ان وضعك في دماغه ؟!...أتريدنا ان نخلط يامن بهادي لنُكشف بسهولة يا سيد؟! .."


صرخت بغضب :
" لا تقل أحمقاً .!!..ما هي هذه الطبخة.. قل لي لأحرقها له قبل ان يشعل الموقد ؟! "

ضحك ضحكة عميقة ساخرة:
" ان كنت تريد سنسكب لك طبقاً سيد هادي......لقد طبخها وغسل الأواني وأنت تتفسح مع ابنته أيها البطل ....!"

قطب حاجبيه وأكمل بصوت خشن :
" هل كان هذا في بنود اتفاقنا ؟!...أنت تفعل عكس ما نقول...."

أدار وجهه لأبي (إبراهيم) دون ان ينتظر ردي وتابع مبتسماً بقهر :
" لم اكمل لك ما حدث....جاء البطل وقطع قصتنا ..."

رفعتُ حاجبي بتأهب لأصغي لقصته وكذلك فعل أبي بفضول فقال:
" والسيد ظنّ نفسه عنتر بن شداد وتواجه مع الوغد دفاعاً عن ابنته ....لقد فعل ما خشيناه وهو ان يزعزع ويوتر علاقته به .....تفضل اخبرني ماذا سنفعل الآن وكيف سنصلح الأمور ؟!.."

قلت هادراً بعد ان تهدجت أنفاسي :
" هل أقف وأشاهد وهو يضربها سواء هي او غيرها ؟!....ثم انه اعطاني كلمة وخدعني ....لذا لم اعد أرى أمامي وتمنيت لو سحقته تحت قدمي ذاك الحقير.."

أجاب بتهكم وجفاء :
" يضربها او يحرقها فليذهبا الى الجحيم سوياً ...هي ابنته أنت ما شأنك يا هذا ؟؟!....أما مسألة انه خدعك ...يا حسافة.....ألم اقل لك أصبحت احمقاً ؟!...هل يؤتمن للأفعى والعقرب ....هل تثق بقاتل وخائن يا ..يا قائدنا القادم ؟!..."

أخفض صوته وأردف بتوجس :
" أم أنك وقعت في سحر ابنته ورفعت رايات الاستسلام من اجلها يا ابن محيي الدين ؟؟!.."

فززتُ من مكاني وصرخت حتى برزت عروقي وعيناي كالجمر الملتهب :
" كفـــى...كفــــى.....لا اريد سماع شيء !!"

ثم وليّتهم ظهري صاعداً السلالم قاصداً غرفتي ووصلني صوته هاتفاً :
" اهرب ....لنرى الى اين ستصل في هروبك !.."

بعد أن تلاشيتُ صوتاً وصورة من امامهم ...قال أبي (إبراهيم) :
" لقد قسوت عليه ماجد....ما بك هكذا ؟!....صفقة الوغد ليست نهاية الحياة ..سنتداركها بإذن الله...اما شجاره معه سأعتذر منه بطريقتي ...اطمئن...اعرف من أي المداخل آتيِه ......وبالنسبة لابنته انا وخالته لا نرى ضرراً او مشكلة ان احبها ....هي فتاة رقيقة ,مسالمة وبريئة وكأنها ليست من صلب النجس والآن هي حلاله ....لقد كبر قبل اوانه ولم يعش عمره ...الا يستحق أن يعشق ليجد شيئاً يحببه بالحياة ويعوضه عمّا فقد في الماضي ؟!.....لمَ تظن ان حبه لها سيجعله يخفق في مهمته ؟!....والده خير مثال.."
نظر الى خالتي واردف :
" ها هي مريم مؤكد تذكر أيامه....لقد ذاب عشقاً في شقيقتها وتفطرت قدماه وهو يلحقها حتى فاز بها ولم يزده قربها الا عشقاً ولم يزده عشقه لها الّا قوة واصراراً في مهماته ....ألا يمكن أن يكون ابنه يمشي على دربه تماماً ؟!.....لا تستهين به ولا تخسره بغضبك الذي ما من داعي له .....أنا اثق بابني يامن كما أثق بهادي ابن محيي الدين رحمه الله ..."

اعترض السيد (ماجد) قائلاً :
" إبراهيم ماذا تهذي ؟....هنا لا مجال للمقارنة...والده أحب اصيلة ابنة اصيل....اما هنا مهما تكون تبقى ابنة عدوه ...شتّان بينهما......أنا اثق بعقل هادي لكن لن أثق بقلب يامن !.....قلب يامن سيرسل هادي الى الهاوية !!.."

ابتلعت خالتي ريقها وسألت بخوف:
" وماذا ان كان قلب هادي احبها قبل يامن ؟!.."

حدّجاها باستغراب وسألا:
" ماذا تقولين؟... "

اخفضت عينيها بأسى وهمست :
" يبدو انه متعلق بها منذ زمن وقبل معرفته بحقيقة والدها..!!...لكننا ظننا انا ووالدته بأنها مشاعر المراهقة وستنقرض مع الزمن !!....فماذا ان احبّها الان قلبيّ هادي ويامن ؟!...لمَ تقول سيد ماجد انه سيقع في الهاوية ؟!.."

حوقل وأجاب :
"اذا أراد الوصول الى غايته وربح هذه المعركة ....يجب ان يدوس على مشاعره اتجاهها والّا..."

قاطعته بقلق :
"والّا ماذا ؟!."

قال:
" والّا سيضيع المخطط بأكمله ...هي هنا مصدر ضعف له وليست قوة كأمه لوالده ...اذا تعلّق بها سيخشى ضياعها منه مما يجعله ان يتهوّر ولا يتحكم بردود افعاله وها انا اخبرتكما ماذا فعل أمس ..وربما القادم يكون اسوء ان ازداد تعلّقاً وهكذا سيكشف نفسه أمام والدها بحماقة ويقلب كل شيء ضده......وربما سيغدره الخسيس دون ان نشعر وسنقول ..يا ليت.. بعد فوات الأوان !!....انا لا اقسو عليه الّا لمصلحته حتى أنني لم اخبر سليم بهذا الأمر.."

شهقت مفزوعة تضع يدها على صدرها وقالت :
" اقترب موعد سفرنا الى البلاد..."

حدّقا بها ينصتان بإمعان لما تقول فهتف أبي (إبراهيم):
" نعم وما الجديد بذلك؟."

همست بألم :
" أعلم انه سيكون قاسي عليه جداً ولكن ليس اقسى واصعب مما سيوقع نفسه به.."

رفع السيد (ماجد) حاجبه سائلاً بفضول:
" ما هو ؟!"

ردت:
" فلتخبرا السيد سليم الأسمر بكل شيء حتى لو خاصمكما هادي...فهو له مكانة وهيبة كبيرة عنده منذ طفولته ..وليلعب على الوتر الحساس حتى لو ضغط عليه مجبراً عند ذهابنا الى هناك.."

قال أبي (إبراهيم) مستبعداً الأمر :
" لا اظن ذلك....أنت تعلمين جيداً تمرده وعناده !!.."

ابتسمت بثقة واجابت بهدوء :
" الّا بما يخص والده..!!"

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

اكثر شيء تكرهه هو اعطاءها مهمة نشر الغسيل ....كانت تقوم بعملها في المكان المخصص لذلك قرب الحديقة ....ترتدي بنطال جينز ضيق وبلوزة نصف كم بيضاء ضيقة وتربط شعرها الترابي كذيل الحصان ....تتأفف حانقة من هذه المهمة التي توكلها بها أمي اغلب الأحيان ...بعد انتهائها مما كان بين يديها ...حملت السلة واتجهت نحو المدخل فدلفت سيارته الى الساحة دون سابق انذار !!.....لا يأتي بهذا الوقت وبعد انفصالهما المبدئي قلل من زيارته لهم مع أن حب والدتي اتجاهه لم يقل واحترمت قراره الذي هو من حقه وخصوصاً انها تعلم ان ابنتها السبب في كل هذا وتؤمن ايضاً بالنصيب ....!!.....ارتبكت وتسمرت مكانها ...ما كان عليه رؤيتها هكذا حتى لو ان عقد القران ما زال ساري المفعول ....لمحت بجانبه خالته التي جاءتهم بزيارة من القرية القريبة لمدينتنا ومعها ابنتها الشقراء الغير محجبة وتكبرها بسنتين رأتها يوم حفلة عقد القران...انها فتاة مدللة ومتحررة بعض الشيء ...هي الأكثر شبهاً بـ (سامي) فكليهما أخذا جينات جدتهما والدة والدتيهما ....لما رأتاها لوّحتا لها فأجبرت للاقتراب لتحييهما وتسلّم عليهما وهمست :
" تفضلا خالتي لتشربا قهوتنا ..."


" شكراً بنيتي ..يجب العودة للبيت لقد استأخرني زوجي ...ان شاء الله نشربها في الأفراح !...اوصلي سلامنا لأمك .."

ترجّل من السيارة واتجه نحو المدخل ثم ناداها ....انصاعت له بتصنع امامهما والّا لجعلته ينفجر في مكانه ولن ترد عليه ....اقتربت منه فهمس من بين اسنانه بغيظ :
" كيف تخرجين بهذا اللباس للساحة ؟!.."

قالت ببرود لتستفزه والنسمات تنثر عطره الذي غاب عن بيتها باتجاهها وتبعثر احاسيسها في الداخل :
" لم اظن ان الغرباء سيقتحمون بيتنا في هذا الوقت ثم ما دخلك أنت وحتى ان خرجت بلباس البحر ؟!.."

رد بخفوت والنيران تلتهم احشاءه من لباسها هذا الذي حدد جسدها بجاذبية وتسريحة شعرها التي جعلت عينيّ الشهد الواسعتين تبرزان اكثر :
" دنياا...سأقولها للمرة المليون ....لا تنسي أنني أُعدّ زوجك الى الآن لذا لا تستفزيني بطول لسانك وعنادك....والّا سأريك جانب لم تريه بي !!....ادخلي بسرعة ونادي شادي .."

كان يريد اصطحابه معه لإعادة خالته وابنتها للقرية ....

قالت مجازفة بغيرة وعناد وتهكم :
" لست زوجي ...ولست خدامة لك لأنادي لك من تريد....واذهب لخطيبتك الجديدة التي بالسيارة والبسها الحجاب أولى من ان تتحكم بالغرباء...آه صحيح تلائمان بعضكما...نفس الشقار والغلاظة سبحان الله.....والأقربون أولى بالمعروف سيادة...الضابط...سامي.."

زفر أنفاسه وضرب ساقيه ناظرا للسماء مستغفراً ومتمتماً :
" صبرٌ جميل والله المستعان "

ثم سحبها من ذراعها للداخل ودفعها صارخاً بها :
" اصعدي للأعلى ولا تريني وجهك ...لا أعلم من أي طينة مجبولة أنتِ...لا تمتلكين ذرة مشاعر ولا مكابح لديك لطول اللسان ...مغرورة بشكل لا يعقل..."

انتفضت مجفلة من كلامه وصعدت السلالم راكضة بعينيها ضبابية الرؤيا ثم دخلت غرفتها صافعة الباب خلفها وارتمت على سريرها تبكي ماءً صديداً من قسوته معها .....

×
×
×

تشابكت الأيام ببعضها وكتبت اسبوعاً من الزمن ....كانت والدتي في المطبخ تطهو الغداء وشقيقتي تمسك بيد ابريقاً زجاجياً مليئاً بالماء تسكب منه بالكأس بيدها الأخرى لتشرب......دلف (شادي) مسرعاً عائداً من مدرسته وأنفاسه قطعت ...يلهث بقوة ويضع يده على صدره مع انحناءة بجذعه ....وجهه مكفهرٌّ أقرب للبكاء...اضطرب فؤاد امي من مظهره ...دنت منه تسأل بقلق :
" على مهلك بني...ما بك؟...اخبرني !! "

أحدث الابريق والكأس صوتاً صاخباً اثر تهشيمهما لارتطامهما في الأرض والمياه تحفر مستنقع على البلاط وتلحق هي بهم تجثو غير آبهة لحالها ودون شعورها بالزجاج المكسور الذي غرز بركبتيها وكفيها بعد أن وصلها جوابه المتقطع لأمي :
" سـ...سيارة أخي سـ...سامي....الخاصة بالـ...بالـشرطة ...و...وقعت عـ..عن المنحدر من أعلى...الـ...الجبل...أثناء ملاحقتهم سيارة مسروقة "
تسعى على غير هدى ...تشعر بالأرض تميد من تحتها ...تزيد من سرعتها ولا تصل غايتها ....كأنها في كابوس تركض وتركض دون تقدم ...يفصل بيتنا عن بيته ثلاثة منازل ....لكن بدا لها أنه بعيد بعيـــد جداً ....هل ازدادت البنايات هنا وهي لا تدري ؟؟!.....متى ستصل لتتأكد أن هذا كان مقلباً مفتعلاً من الغليظ وشقيقنا ؟!....رغم ان كفيها جريحتان الّا ان الدماء تجمدّت في منابعها ...فقدت إحساس الألم من ركبتيها المصابتين من غروز الزجاج المحطم بهما ....خرجت بخفيّ البيت دون انتباه ...كانت توّها داخلة اليه عطشانة بعد عودتها من جامعتها ....أصاب حلقها الجفاف فوق ظمئها ....الكلمات لن تخرج من جوفها ....لسانها يشبه الأرض المشققة من قلة الماء....ستنادي ليسمعها لكن صوتها يكابر كعنادها معه ....لم تستطع أمي اللحاق بها لتمنعها من نوبة جنونها لأنها لم تهتدي لحجابها لتقوم بذلك غير أنها انشغلت بـ (شادي ) الذي اشتد عليه الألم مكان عمليته بسبب الضغط على نفسه والجري!! ......اخيراً ظهر لها بيته ....وا مصيبتاه.... ما هذه الأصوات التي تخترق طبلتيّ أذنيها ؟!....لا مستحيل ...هي متأكدة انها ما زالت بالكابوس ولم تستيقظ منه !!... أيعقل أن الجميع متفق عليها ووضعوها داخل برنامج الكاميرا الخفيّة ؟؟!!....عويل...صراخ...ولولة....غي ر ممكن !!...أمه انسانة صابرة ومؤمنة كأمي!!...ان حدث ستكتم صوتها !!...وماذا عن شقيقتيه وعماته ؟!...لا بد أنهن هن من فقدن صبرهن ...بلى ...هذا نواحهن!!.....اذاً ماذا؟...على ماذا يدل ؟!.......بدأت تجرّ قدميها جرّاً ...خارت قواها وهي مصرّة ولن تستسلم ...ستصل الى بوابتهم الكبيرة ولو زحفاً لتجده يضحك ويستقبلها ذاك السمج , ثقيل الدم...!!...احتضنت عاموداً جانب البوابة تستند عليه ...تحاول إخفاء نفسها فيه ....لا يمكنها الدخول ....أهله عرفوا بموضوع انفصالهما الأول ويعلمون أنه لن يحررها رسمياً الا بعودتي ومن اجلي....حماية لعائلتي... وبقي الأمر سرياً بينهم وبين أهلي .....كيف ستريهم وجهها الذي لم يبتسم له يوماً وهي ايضاً التي لم تزرهم سابقاً الّا مرتين مجبرة من والدتي ؟!..هل الآن عرفت طريق بيتهم بعد ان فقدوه وهي من كانت أول فرحة لهم ؟!...شقيقه الأكبر منه (رامي) لم يرتبط بعد, لذا غدت الكنة الأولى عندهم وخطيبة الغالي الذي يضعونه في كفة لوحده دون اخوته مع معرفتهم بذلك ولا يغارون منه فسماحة صدره ونفسه تجعلهم يخجلون منه ويكنّون له مشاعر المودة والاعتزاز....لقد كان المميز بحنانه وعطائه , طيبة قلبه ووفائه , خفة دمه وشهامته انه ابنٌ وشقيقٌ وصاحبٌ بارٌّ مرْضيٌّ ....كان مصدر الفخر لهم فكل شيء تابع له من غير مقدمات يحبونه من أجله ...وها هي خطيبته كان ينبغي لها ان تفوز بهذا الحب وتستشعره ...الحب الذي خسرته قبل تذوقه والسبب بما كسبت يداها !!....تراقب عن كثب وتحاول الاستتار مكانها بين العامود مع شجرة ليلة القدر (ملكة الليل) ذات الرائحة الندية المزروعة خارج جدار منزلهم , الوقت نهار ورائحتها لا تفوح الا بالليل لكن لمَ الآن تشمّها .؟..أم ان هذا شذى دمائه الزكية يأتي من البعيد ؟...لا...لا...ما هذه الوساوس ؟!......نفضت رأسها مستعيذة بالله تطرد تشاؤمها ......الجيران والأقارب يتوافدون ليقفوا جانب أهله بمصابهم الجلل .....ما زالت صامدة والأمل يلوح أمامها ...مؤكد هناك خطأ ما !!.....بعد قليل وصلت سيارتان تابعتان للشرطة ...اتسعت عيناها وجلت أذنيها لتصطاد الأخبار بشكل أدق من أصحاب الشأن....ترجّل منها عدة أفراد للشرطة...وجوههم مصفرة غير مستبشرة !!...علامات الحزن تكسو ملامحهم.....تقدّمَهم زميله الضابط (أشرف) الذي اهتم بها يوم استدعائها للمركز.... يمشي بهدوء ولما وصل البوابة خلع قبعته الخاصة بزيهم احتراماً لوالد (سامي)...كان يتكلم بجدية مع حركات بيده بعد ان صافحه , يشرح له ولـ (رامي) شيئاً ما ...لم تتمكن من سماعه !!...شرطيان بقيا خارج البوابة يتهامسان بالموضوع فوصلها كلام احداهما :
" يقال أن السيارة تعجّنت ولا أمل للحياة لمن بداخلها ....وبعد قليل ستنطلق الطائرة المروحية مع قوات خاصة للوصول اليها....فهي عالقة بين صخور المنحدر ولم تقع في الوادي أسفله ...لكان أسهل إخراجها بمَن فيها مِن تحت ..."

سمعت كلامهما وانهارت مغشياً عليها لا تعي لمَ وأين وكيف ومن هي !!؟؟؟.....
×
×
×

بعد ساعتين استيقظت لتجد نفسها على فراشها وجانبها صديقتها ( سلمى ) وامها ووالدتي يبكين بصمت ...غيّرت جلستها فور يقظتها واستعادتها ذاكرتها وماذا حدث معها !....بعد ان انهارت كان قد وصل لمكانها صديقتها مع خطيبها (بلال) فانهما عند معرفتهما بالخبر ذهبا الى بيتنا برفقة ( أم سلمى ) ومن هناك علما أين تكون وجلبوا لها طبيباً للبيت , فحصها واعطاها حقنة مهدئ .!!....عاد (بلال) الى منزل أهل (سامي) يستقصي آخر المستجدات....لقد مرّ ما يقارب الثلاث ساعات على الخبر ولا جديد ..اقتربت الشمس على الغروب......فزّت دنيا من السرير واندفعت نحو نافذتها تفتحها على مصراعيها لحظة سماعها صوت هدير محرك الطائرة المروحية , لمحتها تحلق بالسماء فوق تلك المنطقة المشؤومة ....اعادت حدقتيها للجالسات في غرفتها دون ان تنبس ببنت شفة...ابتلعت لسانها وتركت نظراتها تترجم ما يختلج صدرها من رجاء وتوسل بأن يشفق عليها أحد ويؤكد لها انه مقلب او كابوس....لكن اعينهن المتكدسة بالدموع تنفي ما تتمنى .....رنّ هاتف (سلمى) فتسللت للخارج وقلبها يهوي أسفل قدميها لرؤيتها ان خطيبها المتصل....أخذت زاوية بعيدة عن غرفة صديقتها وفتحته لترد :
" ها بلال ...أبشر أرجوك وأرِح بالنا .."

رد بنبرة حزينة :
" عثروا على مرافق له قفز قبل سقوطها ...جسده مهشّم ونقلوه بمروحية أخرى للمشفى ...حالته صعبة يعاني من كسور عدّة في هيكله ولا يستطيعون أخذ أي خبر منه حالياً...ٍسيدخلونه لغرفة العمليات فوراً... لكن حسب ما وصلنا من زملائهم الشهود , أن هذا كان يقود السيارة عند خروجهما من المركز و(سامي) كان يجلس بجانبه وحتى أنهما لم يكونا بمهمة وصدفةً جاءتهما إخبارية عن سيارة جديدة مسروقة وهما في الخارج فقاما بالبحث عنها وملاحقتها حتى حدث ما حدث!!......سأغلق الآن حبيبتي ....أوافيكِ لاحقاً بالأخبار...أدعي أن تكون بشائر خير "

قالت بنبرة خافتة متألمة :
" يااا رب...احفظ أخي سامي أينما يكون وأجبر قلب صديقتي !.......في امان الله حبيبي...مع السلامة "

عادت الى الغرفة حيث يتواجدن وتمتمت بهمس تخبر والدتها ووالدتي ما اخبرها به ( بلال) أما (دنيا) كانت بدنيا غير دنياهن ....ملتصقة بالنافذة سارحة....شيء يجثم على صدرها تشعر به يخنقها....فجأة تذكرت انها لم تصلي العصر وتبقّى أقل من ساعة لآذان المغرب....دخلت الحمام في غرفتها كجثة من غير روح....لا ترى من معها ولا تسمع أحداً...عزلت نفسها عن العالم تسترجع صوته الدافئ الذي كان يطوف بصداه في زوايا بيتنا....خرجت منه متجهة لركن في غرفتها تفرش سجادتها متخذة القبلة العنوان الأرحم بحالها...لاح في بالها عن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال ((يا بلالُ، أَقِمِ الصَّلاةَ، أَرِحْنا بها ))...هو خير قدوة لنا ستفعل مثله وتطلب من الله ان يريحها بها ويجبر خاطرها.....صلّت صلاتها وأطالت سجودها ...كتفاها يهتزان من بكائها وتوسلها لخالقها ...علا صوتها بالرجاء .." ياااا رب ...يااا رب "...دقائق وهي على هذا الحال ....سلّمت من صلاتها وسلّمت يقينها وحسن ظنها لجابر القلوب لعلّام الغيوب راجية منه أن يعيد لها المحبوب , خطيبها المهيوب ..!!

~~~~~~~~~~~~~~~~~

بين العصر والمغرب زرتُ مخيمي وخيمتي ....لم أكن أعلم ماذا يدور في بلادي الأم من مصائب ....من مدة طويـــــــلة لم أفعلها وأمارس أحب هواياتي ,الرسم على الحجارة!!..... ولا أفضل وأحسن جودة من الحجارة الملساء التي تكون في الوديان لتطبيق هذه الهواية عليها لذا اشتريت من احدى المكتبات ما يلزمني من أدوات الرسم من فُرَش وألوان مائية واتخذت الوادي قرب المخيم عالمي الذي سأنسج به ما بخيالي .....اخترتُ حجراً مناسباً لأوثّق عليه ما يزاحم عقلي من فكرة أرسمها !!.....صحيح نسيتُ أن اخبركم ....هذا لم يكن بمحض صدفة !! ....بل ذهبتُ خصيصاً بعد حوالي أسبوع من التفكير المرهق ماذا سأقدّم لسمائي هدية في يوم ميلادها القادم بعد يومين !! حتى زارتني هذه الفكرة المميزة ....فهي لا ينقصها أشياء ثمينة والهدية جمالها بميزتها ومن يهديها وليست بقيمتها المادية....وهذه الشهور كانت كفيلة لتعرّفني عليها , انها ليست من الفتيات اللاتي تهتم بالمظاهر والتبذير المفرط بالماركات او ان تعيش ببذخ كونها ابنة السيد ( عاصي رضا ) سوّد الله وجهه....ودليلي على ذلك القلم البسيط الذي اعتبرته الأغلى بين مقتنياتها !!.....أنا لن أحتفل بيوم مولدها لأني تعمّدت أن أذهب مرةً أخرى للمعسكر مع أنني زرته قبل يومين لاستقبال ذخيرة لأسلحتنا ...لكن هذه المرة سأزوره هروباً ليكون حجّة على عدم تواجدي معها !!..سأرسل لها هديتي مع خدمة التوصيل .....فبعد مواجهتي الأخيرة مع السيد (ماجد) نويتُ أن ابقي علاقتي بها محدودة وليس كأيامنا الأخيرة التي تقاربنا بها ....لا اعلم هل هذا لأثبت له انه مخطئ أم لأخدع نفسي أنه بإمكاني الابتعاد عنها بإرادتي ومتى شئت ولن يثنيني عن ذلك أي شيء صغيراً كان او كبيراً ؟!.....
في صباح اليوم التالي من اغلاقي لهاتفي وعدم تمكّنها من محادثتي قبل قرابة الاسبوع....عند فتحي للهاتف وردتني رسالة نصية منها ...بريئة مثل صاحبتها ...شكرتني على اليومين اللذين قضيناهما معاً ولاقت أعذاراً لتجمّل صورة والدها امامي بروحها المُحبّة ولأول مرة تنهي رسالتها برمز تعبيري قلباً أحمراً ...لقد فاجأتني !!...فكانت دائماً رموزها تقتصر اذا فرحانة او ممتنة تبعث وردة او ابتسامة واذا غضبانة تبعث الغاضب .......قرأتها مبتسماً بوجع ...ذاك الوجع الذي يذكّرني بأن اتوقف عن عشقها ...يسدّ الطرق في وجهي ....مهما كان السيد (ماجد) قاسياً معي كان على حق !!....يجب ان ادفن حبي وقلبي لكن كيف ؟ اني لا اهتدي لسبيل الرشاد !!.....لكني سأفوّض أمري الى الله.....

أنهيتُ رسمتي أضع لمساتي الأخيرة على ضوء القمر مع كاشف هاتفي ...لملمتُ بعدها أغراضي وعدتُ الى بيتي ......

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

حلّ الليل في مدينتنا الجبلية وأفلحوا بصعوبة بربط السيارة المعجّنة بحبال الطائرة ....كان كأنه مشهد تمثيلي....حشود تتجمع أعلى الجبل يشاهدون عملية تخليص السيارة وبلا أدنى شك الهواتف مضاءة لتصوير الحدث أولاً بأول قبل ان يفوتهم شيء...أليس هذا ما وصلنا اليه ؟!....نمر من جانب حادث وبدل المساعدة أو الدعاء نتسابق بتصويره ونشره على مواقع التواصل لنجمع أكبر عدد من المشاهدات والاعجابات ...شيء محيّر !....كيف يضع الشخص اعجاباً على خبر مؤلم .؟!!....اللهم اصلح حالنا وحال أمتنا ......
بدأت الشرطة بإخلاء المكان في الساحة المستوية المفتوحة في رأس الجبل ليتسنّى للطائرة انزال السيارة بها ....بعد حوالي ربع ساعة نجحت بتثبيتها على الأرض الخالية .....نصبت الشرطة حواجزها...احاطتها بالأشرطة الحمراء.....فريق الإنقاذ يتأهّب لقص حديدها ....المروحية الخاصة بالمشفى تنتظر جانباً لنقل من فيها سواءً كان على قيد الحياة او أشلاء.... الأطباء يقفون استعداداً للتدخل الطارئ....قدّر الله ولطف انها لم تشتعل ....فهذا يعطيهم بصيصاً من الأمل ....يحاول الصحفيون الاقتراب اكثر لكن الشرطة عززت قواتها وخصوصاً ان الموضوع حساس ويمسّ أفرادها فمنعتهم بصرامة.....!!.....كان (بلال) مع أشقاء (سامي) يحتضرون بين الناس ....انفاسهم شبه مقطوعة وقلوبهم شبه متوقفة...يجهدهم العرق رغم النسمات الجبلية الباردة ......الكل ينتظر بين كفتيّ الألم والأمل ولا يعلمون ايهما سترجح في الميزان ...!!

×
×
×

في بيتنا نزلت الى غرفة المعيشة أمي مع (أم سلمى ) وابنتها وتركن شقيقتي في غرفتها تقرأ القرآن....لا فائدة لهن جانبها...انها لا تشعر بوجودهن أصلاً....هجرت عالم البشر والماديات الملموسة ولجأت الى الروحانيات والتقرب الى الله....لن تفيدها أي مواساة مهما كانت !!.....فقط مناجاة الرب وذكره وتلاوة كلامه هذا ما تحتاجه لتشعر بالسكينة والاطمئنان....الا بذكر الله تطمئن القلوب ؟!...لا اله الا الله....
ضاعت أمي بين ابنتها الساكنة بعد انهيارها والتي تشك ان هذا هدوء ما قبل العاصفة !!...هل سكينتها بفعل المهدئات أم ان الله وضع في قلبها الصبر على الابتلاء ؟؟ وبين شقيقي الذي لازمته اوجاع عمليته بالإضافة لحزنه على صديقه وحبيبه (سامي) وبين حزنها على الغالي في قلبها فهو لم تفرّقه عنا بحبها ...هل فعلاً ذهب ولم يعد ؟!....سترضى ان يطلّق ابنتها فعلياً ولا يرى وجوههم لكن لا يقتلهم بموته ...هذا شيء لن تتحمله أفئدتهم !!.....وبذات الوقت قلقة من تأثر ابنتها الشديد بالحادثة...تعلم انها لا تريده!...جاء في بالها... " أيعقل ان ابنتي المجنونة تحبه ؟!.."...
طردت الفكرة التي لطالما تمنتها لها والآن ترفضها بشدة بسبب انقباض قلبها فتابعت تواسي نفسها ...." ممكن ان هذا سببه انها اعتادت على وجوده بيننا او انها خائفة بدون رجل معنا أو ان خبره اعادها الى الماضي وفاجعة والدها رحمه الله وما عانيناه بالهجرة...مسكينة صغيرتي !!..يبدو ان كل هذا تراءى امامها لذا لم تتحمل وانهارت!!.. أكيد ثورتها كانت ردة فعل لصدمة بخبر عن شخص قريب منا ونعرفه والآن تقبّلت الوضع !!..أي ان لو كان أحد غيره ستفعل هذا !!..."....
...هي حتماً ستعرف منها لاحقاً ما هذا الجنون الذي أصابها لكن عليهم بداية الاطمئنان على الأشقر !!......قرع جرس الباب....وسقطت القلوب المنتظرة الجواب .....فتحته ( سلمى ) لتستقبل خطيبها وتمنت ان يكون مظهره مجرد سراب..!!....لكن ان كان شكله الشاحب أوهام فصوته الباكي أخرجها من عالم الأحلام ....طأطأ رأسه بانهزام ...فتح لها ذراعيه ليستطيع التقدم خطوة للأمام وعند أذنها تحشرجت الكلمات المحملة بالآلام :
" انا لله وانا اليه راجعون.....البقاء لله "

وبدآ يبكيان معاً يحتضنان بعضهما حتى وصلهما من بعيد صوت (أم سلمى) :
" من على الباب سلمى ؟!.."

حررا جسديهما....مسحت دموعها بكفيّ يديها ....أخذت نفس وأجابت بصوت جاهدت بعذاب لإخراجه :
" هـ...هذا بلال.....أمي "

هتفت والدتي من بعيد :
" تفضل بنيّ...ادخل "

دلف الى غرفة المعيشة وألقى السلام ثم جلس على احدى الأرائك وحماته ووالدتي تنظران له ومن ملامحه أخذتا الخبر لكن لن تحكمان دون سماعه فقالت حماته :
" ها بنيّ....اخبرنا اين وصلوا ؟!.."

تنحنح شارداً بالأرض ليخفي حقوله الخضراء التي فاضت عليها سيول فَقْد وموت صديق عزيز على قلبه......من شهور عرفا بعضهما وبنيا صداقة وطيدة وسببها أنهما يتفقان على محبتي...لقد تناغما بشكل سريع ....وها هما كما جمعهما القدر... بذاته فرقهما ....همس بصوتٍ أجش :
" ساعات وهم مشغولون بإخراجه....كان حديد السيارة كأنه منصهر عليه من شدة التصاقه بجسده.."

تأتأت أمي سائلة بعينين جاحظتين :
" هـ....هل...تـ...تقصد.....أنـ...أنه ...؟!"

لم تستطع اكمال جملتها لكنه فهم سؤالها فنظر اليها ثم أزاح حدقتيه لخطيبته مجيباً :
" أجل....البقاء لله "

مع انها كانت قلبياً مستعدة لسماع هذا الخبر الا انها انهدّت قواها حيث تجلس وأجهشت بالبكاء و(أم سلمى) تبكي وتحاول تهدئتها وتسترجعه الله أما (سلمى ) اتجهت للمطبخ تجلب الماء لتسقيها وتضع بعض القطرات الباردة على وجهها ...كانت تبكي أمي وتتمتم :
" رحمك الله يا بنيّ....سينهار هادي من بعدك !!....سأفتقدك يا غالي......كيف هان عليك ترك عيوش ؟؟.....من سيملأ بيتنا الموحش بالدعابات وخفة الظل ؟!....كنت النبض لنا في هذا البيت ......في بلاد اللجوء عائلتي معي ....عدنا للوطن دون هادي حماه الله...لكن انتَ حاولت ان تسد وحدتنا واحتياجنا لرجل بيننا ....كونك توأم ابني كان هذا يصبرني على بُعد هادي عنا......الآن سنعيش الغربة الحقيقية ....أشعر أنني أصبحتُ أماً ثاكلة... انا لله وانا اليه راجعون "

همست (أم سلمى) بقلبٍ مؤمن وصوتٍ حزين:
" انّ لله ما أخذ وله ما أعطى وكلّ شيء عنده بأجلٍ مسمّى...فلتصبروا وتحتسبوا أختي عائشة....كلنا لها ...لا يدوم الا وجه الله ....كوني اقوى من أجل اولادك "

بعد دقائق من البكاء والدعاء له....هدأت وسألت مرةً أخرى :
" كـ..كيف وجدوه ؟! "

أجاب بنبرة مختنقة من هول ما سمع ورأى :
" كان هو بجانب السائق والسيارة انقلبت على اليمين نحو المنحدر فكانت الضربة الأولى الأقوى من جهته لأنها وقعت على صخور حادّة وبعدها تدحرجت وعلقت بين صخور أخرى!!....أخرجوه لا يُعرف وجهه ...و...واحشاؤه كلها كانت خارج جسده ....بصعوبة حتى استطاعوا لملمته وعلى الفور حملوه بالطائرة.....أعان الله أهله....أشقاؤه مزقوا قلبي وهم يبكون بنحيب عندما تأكد لهم الخبر عن وجوده بالسيارة....كانوا يتأملون ان تكون فارغة !!.....لكن هذا قدر الله .."

" لم يمت ....انتم مخطئون .....سامي حي...سترون "

التفت الجميع نحو باب الغرفة الواسع حيث تقف (دنيا) تتسمع على حديثهم من الأول ...لقد نزلت عند سماعها الجرس....واحتجبت بسور السلالم.....وجهها مطلي بالأحمر وجفونها منتفخة من البكاء ....قالت جملتها دون مقدرتها على التحكم بدموعها التي تنساب من عينيّ الشهد....لكن كلامها لم يزد الجالسات الا بكاءً على حالها...يوجد وقائع لا تخيلات وأوهام ...ها هو الشاهد بينهن ...ماذا تريد اكثر من ذلك لتتأكد من الخبر ؟!.....قلقات عليها من فقدان اعصابها وعقلها....تبسمت ودنت منهم ...جلست على ذراع الاريكة التي تجلس عليها والدتنا ...احاطت لها كتفيها بذراعها وهمست بشفاه مبتسمة وعيون محتقنة وصوتٍ ممزوج بالانشراح والرهبة :
" أمي....صدقيني...الأشقر الغليظ لم يمت....لا يمكنه ترك امانته بهذه السهولة ....قلبي مرتاح ومطمئن أمي....أرجوك صدقيني.... أنا متأكدة ان سامي كان السائق وقفز ومَن بجانبه هو شخص ثالث....لأن سامي عنيد لن يعطي مهمة ما لشرطي آخر....هو يتولّى مهماته بنفسه....الأشقر مغرور لا يثق بأحد.....أليس هادي من كان يخبرنا انه متهور ويحب المغامرة وانه تمنى دائما ان يصبح شرطياً ليستمتع بمغامراته ؟!.....هل سيترك مطاردة التي تحتاج للسرعة والجنون وذلك أكثر ما يحب لرجل آخر ويجلس كمتفرج ؟!....مستحيل أمي مســـــتحيل "
أنهت كلماتها المليئة بالتفاؤل وعند اخر كلمة مدتها شرعت بالبكاء لتقوم صديقتها من مكانها وتحتضنها وتبكيان سوياً بصوت مرتفع كالصغار ....فتركهن ( بلال ) ليأخذن راحتهن بهذا الموقف الأليم ولا يعلم كيف ومتى سيخبرني به ؟!......بعد لحظات توقفت شقيقتي عن نشيجها...وضعت يدها على صدرها وزفرت انفاساً أثقلتها ثم كررت كلمتها لأمي :
" قسماً أمي ..قلبي مطمئن حتى لو بكيت....لا بد انه مقلب ويختبئ في مكان ما ! "

حشرت امي جسدها على اريكتها الفردية لتفرغ مكاناً لصغيرتها...أشارت لها لتجلس جوارها ففعلت بهدوء...احتضنتها تضع لها رأسها على صدرها وتمسّد عليه من فوق حجاب الصلاة وتلت بقلبٍ عامر بالإيمان وصوتها الحنون :
"...{{ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ }}.....الله يضع بقلوب المؤمنين السكينة والطمأنينة عند نزول المصائب أو المحن أو أي امرٍ صعب يمرّ بهم ....وأنتِ بنيتي اسأل الله ان تكوني من هؤلاء المؤمنين.....صغيرتي الموت حق وسيزور الجميع ....علينا تقبّل الحقائق مهما كانت قسوتها والصبر عليها لنمضي في حياتنا....ها هو الكريم لطف في قلبك البريء لتتحملي....الآن فقط ترّحمي عليه وادعي ان يثبته الله عند السؤال وأن يجعله من أهل الفردوس وأن يربط على قلوبنا وقلب أهله يا.....يا عينيّ الشهد...."
وعادت وصلة الأنين والنحيب بصورة أشد وأقسى بينهما ولم تفارقانهما صديقتاهما طوال الليل ....أما الصغيرة ( سلوى ) بقيت ضيفة عند شقيقة (بلال ).... !! و(شادي) يحبس نفسه في غرفته يبكي أعز صديق له ....

×
×
×

" ماذااا تقووول؟؟....كررها مرة أخرى لأتأكد من سماعها "

ضجت البيت بجدرانه عند صلاة الفجر بعد أن ردت على هاتفها في هذا الوقت الغريب ....أغلقته وألقته على الأريكة حيث كانت تصلي ...وبدأت تجوب البيت ذهاباً وجيئة ...تضلّ عنوانها ....هل تصعد السلالم أم تتجه لغرفة النوم الخاصة بالضيوف في هذا الطابق الأرضي....اهتدت أخيراً لحل تعدل به بين جميع سكان المنزل ...فصرخت بأعلى صوتها :
" يا قَـــــــوم...يا قَـــــــوم....تعالوا اسمعوني !! "

بدأ القوم من كل حدْبٍ ينسلون ...ملامحهم مفزوعة ...متى هذه الناعمة الرقيقة يخرج صوتها بهذه القوة ؟!.....ماهي الكارثة القادمة يا ترى؟!.....وقف (شادي) أعلى السلالم يفرك عينيه بنعاس...خرجت أمها من غرفة الضيوف بعد أن انهت اذكار الصلاة.....نزلت عندها أمي.....(دنيا) تقف وسط السلالم لا تتقدم ولا تتأخر ....فاتسع فمها بضحكة مرتفعة مع قفزة وصفقة بيديها منها كالأطفال صاحبتها كلماتها بصوتها المسرور :
" اتصل بــي بلال....وقال أن ذاك الشرطي السائق استيقظ قبل قليل بالسلامة....لديه كسور في عاموده الفقري وساقيْه واحد كتفيه ..."

قالت أمها محبطة منها :
" هداكِ الله بنيتي.....وليشفه الله ...لكن هل احدثتِ كل هذه الجلبة لتخبرينا فقط ؟!..."

ضحكت بصوت أعلى وتابعت :
" طبعا لا يا أم سلمى.....هذا الشرطي أخبر زملاءه من الشرطة المتواجدين في المشفى برفقته كل شيء حدث معهم....وهم بدورهم اتصلوا لأهل سامي....وكان بلال متواجداً عندهم الى هذا الوقت فبيتهم ما زال مليئاً بالرجال ..."

قالت أمي :
" ها...صغيرتي....تابعي...ماذا اخبروهم ؟!..."

حدّجت صديقتها بكل رقة وانشراح وتابعت كلامها توجهه لها دون الجميع :
" لقد كان سامي هو السائق.....مثلما قلتِ يا داهية ..."

قفزت دنيا درجات السلالم بخفة ....وصلتها بعينين غارقتين بالدموع وشبح ابتسامة على ثغرها....مسكتها من ذراعيها وهمست متأثرة ومرتبكة :
" كـ..كيف ...وأ....أين هو ....اخبريني "

أمسكت يد صديقتها وجلستا سوياً على الدرجة ألأولى من السلالم...نزل اليهما شقيقي يجلس خلفهما وأمي و(أم سلمى ) دنتا منهما كل واحدة تمسك عامود من سور السلالم ليستمعوا لقصة (سلمى) :
" الشرطي الموجود بالمشفى حصل على ترقية فقام بدعوة أخي سامي لوجبة غداء لأنه كان سبباً بترقيته وعند خروجهما من المركز كان هو يقود سيارة أخي سامي لأنه لم يكن له مزاج للقيادة فسلمه مكانه...التقيا بشرطي آخر زميل لهما خارج بوابة موقف السيارات الخاص بهم فأخذوه معهما فهو يكون صديقه لهذا الشرطي لكن برتبة أعلى ...لذا الشهود لم يروه عندما ركب معهما.....تناولوا غداءهم معاً.....وعند خروجهم من المطعم جاءتهم الإخبارية عن السيارة فاستلم سامي مقعد القيادة وجلس هذا في الخلف والثاني في الامام جانب سامي....وبعد ان ترصدوا مكان المشتبه بهم بسرقتها ...هرب أولئك فطاردوهم ...وعند صعودهم لأعلى الجبل نحو التلة...انفجر أحد إطارات سيارتهم الأمامية فاستطاع سامي بصعوبة كبيرة التحكم لمسافة ما بالمقود رغم السرعة التي كان بها ...لم يتمكن من ايقافها لذا أخبرهما أن يستعدا للقفز عندما يعد للثلاثة لأنه حاول قدر الإمكان توجيهها بعيداً عن منطقة الصخور ليقفزوا على الأرض المليئة بالأعشاب اليابسة والتراب الليّن...لكن هذا الشرطي من ارتباكه قفز قبل أن يعدّ , لذا وقع جسده على الأرض الصلبة ومن قوة ارتطامه بها تأذى بهذه الكسور....بالطبع هو لم يرَ سامي اذا قفز أم لا لأنه فعلها قبله ....أما المهم في الموضوع أن السيارة لم يكن بها السائق ..فقط ذاك الرجل يرحمه الله ...وهذا دليل أن أخي سامي قفز قبل سقوطها ...لكن لا يستطيعون تحديد المكان بدقة لأن الأرض الترابية المليئة بالأعشاب اليابسة شاسعة والآن يستعدون لاستخدام المروحية مرةً أخرى مع الكلاب الخاصة للبحث عنه في الخلاء....يعني ابشري خيرا صديقتـــي "
أنهت قصتها واحتضنت صديقتها بغلّ مُحبب تضحكان وتدمعان فرحاً بهذه البشرى وقرفصت الواقفتان أمامهما لتشتبك الأحضان الرباعية معاً فلحقهما من الخلف بذراعيه الصغيرين يحاوطهما ويشدّ عليهما لدقائق والضحكات تملأ الأرجاء تنشر في البيت الأمل والرجاء ....
بعد انفكاكهم عن بعض أخذ كلٌّ منهم سجادته الصلاة ليصلي ركعتي شكر لله على هذه الهدية التي انعم عليهم بها أطراف النهار ....!!
~~~~~~~~~~~~~~~~~~

بعدما صليّتُ الفجر وقرأتُ وردي من القرآن حملت هاتفي أتصفح الشبكة العنكبوتية ....دخلتُ احد المواقع الإخبارية الخاصة بالوطن وكان خبراً عن فاجعة في مدينتنا الجبلية....هوى قلبي وارتبكتُ...لم يكن الخبر مُفصّلاً ....كانت فقرة صغيرة مع صورة قبل الغروب لسيارة شرطة منقلبه بالمنحدر....فززتُ عن الأريكة في غرفتي التي كنتُ اتسطح عليها وحبيبات عرق أسرعت لتظهر على جبيني ....الوقت مبكر ...لا استطيع الاتصال بأحد كي لا اقلقهم!!.....لكني لم أطق صبرا ولم أتحمل فجازفت أخيراً غير مكترث لما سأسمع من (سامي) الغليظ من شتائم ان كان نائماً....وضعتُ على اسمه بإصبع مرتجف وأنا أرجو الله أن اسمع صوته فردّ عليّ التسجيل ألآلي أنه مغلق....وهذه المرة الأولى التي يُصفع هاتف صديقي في وجهي ويطردني من غير اجابه منه ..!!....تسارعت نبضاتي....صرتُ أجول في غرفتي وأنا ابتلع ريقي من جفاف حلقي ....حملتُ هاتفي واتصلتُ بـ (بلال) علّه يبرّد على فؤادي.....لكن مع الأسف ردّه زادني اشتعالاً...تخبّطت في مكاني ...احتقنت عيناي في الدموع وتعاقبت أنفاسي....سرد لي ما حصل وفي النهاية حاول مواساتي وهو متفائل وأخبرني أنه تجري عمليات بحث مكثفة في هذا الوقت وأنه متواجد هناك مع شبان الحيّ وأشقاء الغالي توأم روحي ....لا يمكنه تركي هكذا!!...سأخنقه بيديّ مرةً تلو مرةً إن فعلها.....أرجوك لا تكسر ظهري يا صاحبي......كل يوم يمر يقربني للذهاب للوطن , يزداد به شوقي لأحبتي أكثر.. ومعهم حبيبي (سامي )....مسكتُ هاتفي وانزلقتُ بظهري على الحائط لأفترش الأرض الرخامية واستند عليه ...طلبتُ من ( بلال ) أن يعود بالاتصال بي صوتاً وصورة....لو بإمكاني لوضعت جناحين وطرتُ الى هناك في الحال....ما بيدي الآن غير الدعاء بالسلامة له والمتابعة عن بعد...كنتُ معهم من قلب الحدث والشمس تنسج خيوطها الأولية لحظة الشروق لتنثر الآمال لكل قلبٍ محروق.....بعد قليل علت الأصوات المختلطة بنباح الكلاب....ضحك (بلال) بصوت باكي تهللاً وحبوراً....وهمس متأثراً :
" عـــثروا عليه هادي....وجـــــدوه يتنفس ويتململ....."

صرخت ُ هاتفاً ببكاء الفرح والاستبشار :
" الحمد والشكر لك يا رب ...الحمد لله حتى يبلغ الحمد منتهاه .."
ثم وضعتُ هاتفي جانباً وسجدتُ سجدة الشكر لجابر قلوبنا وشافي جروحنا ...

حملتُ هاتفي مجدداً وقلت برجاء :
" اقترب بلال منه....اريد ان أراه....ارجوك بلال .."

اعتذر قائلاً :
" صعب صديقي ..اعذرني .....لا يسمحون لنا بالاقتراب....نحن نراقبهم من بعيد ورجال الشرطة الذين وجدوه تواصلوا مع الآخرين الموجودين بقربنا واخبروهم عن حاله.......وجهك خير علينا يا كل الخير...المهم انه حي بفضل الله.....يا اللـــــه ما أجمل هذا الشعور بعد ان فقدنا الأمل..."
عاد الينا من جديد صديقي وتوأم روحي بعد أن كُتبت له حياة أخرى .....وجدوه وقت الضحى بجانب صخرة صغيرة ارتطم رأسه بها عند قفزه وتدحرجه بالأرض المائلة حتى وصلها وفقد وعيه لساعات من الضربة القوية التي تلقاها منها ....نقلوه على الفور الى المشفى في الطائرة وبعد اجراء عدة فحوصات تبيّن كسر في كتفه الأيسر وجرح في رأسه من الخلف ورضوض وكدمات على ظهره وفخذيه .....تجمهر اهل الحيّ خارج المشفى وامتلأت غرفته والأروقة بأهله والمحبين والمقربين ليهنئونه بالسلامة في ساعات العصر ولم ينسوا تعزيته بزميله...لقد بكى كثيراً عليه كما لو كان صديقه المقرّب رغم علاقتهما السطحية....أنّب نفسه وكأنه السبب لكن سرعان ما آزره محبيه وأخرجوه من حالته وكذلك هو من النوع الذي لا يحب أن يستسلم للأحزان!!.....لم تستطع أمي الذهاب لزيارته لتترك هذه الأوقات لعائلته ...غير أنها تخجل من تواجدها بينهم وبالذات بعد انفصاله عن ابنتها...لكنها ستزوره بالتأكيد حين يشاء الله.....طلبت من (بلال) بعد الاختلاء بصديقه أن يهاتفها لتكلمه أولا وتهنيه بعمره الجديد ولتعتذر منه عن عدم قدومها, فهاتف (سامي) تحطّم في جيبه عند قفزه ويحتاج لآخر......قبل ساعات المغرب طلب الأطباء برقيّ من أهله والأصدقاء إفراغ المكان ليتابعوا له بعض الفحوصات كما أن المشفى أصبح مكتظاً وهذا يعيق سير عملهم سواء له او لغيره .....تفهّم والداه واشقاءه الأمر وقرر والده الانسحاب ليتركوه ينام ويرتاح ثم أن بيتهم معمور بالناس والجيران وواجب عليهم حُسن استقبالهم وضيافتهم.....عندما همّ (بلال) للخروج كالبقية , ناداه صديقي :
" بلبل.....انت انتظر....!!"

انصاع له بكل ودّ.....فقال وهو يمد يمينه يكابد الآمه :
" اعطني هاتفك..."

ناوله إياه فوضع على اسم حماته ( خالتي ام هادي ) بين المكالمات الأخيرة على هاتف (بلال) ولم ينتظر كثيراً لترد :
" ها...بنيّ بلال...أأستطيع الآن التكلم معه ؟! "

" يا مرحباً بعيوش ....هل اشتقتِ لي ؟! "
قالها بصوته المرح يخفي أنينه تحت قناع التحمل والقوة ...يحفظها عن ظهر قلب...يعلم أنها قلقة عليه حد السماء بحنانها وعطفها ويعلم أن الحياء يلازمها مع عزة النفس ...لذا سبقها ليطمئنها عليه بنفسه ....ردّت بصوت متحشرج تحذّره:
" أهلاً بابني الغالي أهلا.........لم فعلت هذا بنا؟....قلبي لا يتحمّل ..أرجوك اهتم بنفسك....لا تصبح غليظاً فعلاً وأنت تقلقنا عليك وتوقف نبضاتنا"
زفرت أنفاسها وأكملت:
" حمداً لله على سلامتك عزيزي......سامحني لعدم قدومي اليك "

" أنا سأزورك بنفسي أمي ....لا تتعبي نفسك بالتفكير....آسف لأني تسببت لكِ بالقلق والحزن..."

" رضي الله عنك بنيّ.... ..لحظة......خذ شادي يريد أن يسمع صوتك !"

كان شقيقي بجانبها يهزّ لها ذراعها الممسكة بالهاتف يصرّ عليها بإعطائه إياه ليكلم صديقه ويسمع صوته.....أما (دنيا) بهذه الأوقات كانت تلزم غرفتها ولا تدري ماذا يجري في الأسفل......بعد انتهائهما من مكالمته صعد الصغير اليها وهو يشعر بالمسرّة والبهجة إثرَ سماع صوته وأراد أن يشاطرها فرحته وفور اخباره لها أنه كلّمه...قفزت عن فراشها وقطعت درجات السلالم كالغزال من سرعتها وخفّتها حتى وصلت أمي الجالسة بغرفة المعيشة تعاتبها بشجا :
" أمي.....لمَ لم تناديني لأكلمه معكما ؟!.."

رمقتها بنظرات متسائلة وهتفت :
" أولاً لم اكن أعلم أنك ترغبين بذلك.....ثانياً بأي صفة ستكلمينه ؟! "

هربت بعينيها جانباً ولم تعرف ماذا ستجيبها..!!....
حسناً مرّوا بساعات عصيبة وكالحة ولكن ليس هم فقط من ذاقوا وقاسوا هذا....فمَن مِن هذا الحيّ بل المدينة بأكملها لم يتألم ويتعذّب بالفاجعة ألتي ألمّت بأبناء بلدهم ؟؟!!....ورغم أن الحزن وأجواء الحداد تخيّم على أهل البلدة الّا أن فرحة أهل الحيّ والمقربين من (سامي) برّدت قليلاً وكثيراً على أفئدتهم!!.....الى هنا يكفي !!...اطمأنَ الجميع عليه وسيتقدمون بالزمن ويمضون بحياتهم والمفروض أن تكون (دنيا) مثلهم....لقد سهرت وبحّ صوتها وهي تقرأ وتصلي من أجل سلامة ابن بلدها وحيّها !!...أليست هذه مكانته فقط عندها ؟!.....لكن لمَ وجيب قلبها يرهقها.؟؟!..ضجيجه يصرع دماغها .....على ماذا يصرّ هذا ؟!...لمَ كل خلية في جسدها تصرخ بها لتقول :
" أريد....أريد....الذهاب لزيارته أمي .."

جحظت عينيها مستنكرة تهتف بنبرة صارمة :
" ماذا؟!....هل فقدتِ عقلك ؟!....لم اؤنبك على جنونك ساعة الخبر فجميعنا لم نكن على الدنيا ....لكن ماذا الآن؟ ما هذا الذي تتفوهين به ؟!...من تكونين لتذهبي له ؟!...ألستِ هذا ما تمنيته من اول يوم ارتبطتِ به وهو أن تنفصلي عنه بأقرب وقت ....خذي تفضلي لقد حقق لكِ ما ترغبين ايتها المدللة ....ووجودك على هويته الآن فقط كمهمة وأمانة.....يعني اعتبريه غريباً عنكِ ولا يحق لكِ الاقتراب منه !... أتريدين فضحنا آخر العمر يا ابنتي ؟!....هل تريدين ان تهدري كرامتنا وشرفنا وأنت تذهبين له أمام أهله بكل جرأة ووقاحة ؟!.....ماذا ستقولين لهم ؟...اسمحوا لي بزيارة ابنكم الذي طالما رفضته ولم ارغب به يوماً وكم من مرة جرحته وأهملته ولم اعتبره موجوداً في حياتي أصلاً علّني أزيد من الآمه بتواجدي أمامه ؟!....هل ستقولين هذا لهم ؟!....جئتُ لأكمل على ما تبقى منه من أماكن غير مجروحة لينزف أكثر...أتريدين احراقه ؟!....يكفيه ما عاش وعانى شهوراً ذاك المسكين من ارتباطه بك ومن رؤية الموت أمس"
أشارت لها بحزم بسبابتها نحو السلالم وأردفت بنبرة جافة :
" اصعدي الى غرفتك وكفاكِ هراءً ...هذا ما ينقصنا أن تجولي بالمشفى عند الغرباء كأنك لا تملكين رقيباً أو حسيباً.....هيا اصعدي .."

كانت تستمتع مذعنة بوهن وتحبس دموعها بشهديها وتخبؤهم مسدلة عليهما أهدابها ولما رفعت صوتها والدتي في نهاية كلامها جثت أمامها تمسك يدها بتوسل تطلق العنان لتنزل القطرات المالحة من عينيها هامسة :
" أرجوكِ أمي....أريد أن أراه....سأموت....أرجوك "
ثم أرخت يديها تحرر كف والدتي وتفترش الأرض وتسند ظهرها على الأريكة خلفها وتحاول ابعاد ياقتها عن نحرها لتحرر أنفاسها وهي مردفة بنشيج بين عبراتها :
" إني أختنق أمي ....أختنق...ارحموني....لم اكن اريد هذا!! ....قسماً لم أرد أن أصاب بوباء الحب لكنه أصابني وبقوة....لقد أنهك صحة نابضي ....حاولتُ أن أحقنه بالقسوة والرفض ...حاولت أن أداوي روحي بالعناد ...لكن ذاك الأشقر احتلّني ....انتشر حبه في جسدي كالمرض الخبيث....ظننتُ سأستطيع التصدّي له ...ظننتُ سأستطيع اقتلاعه من جذوره ....كان كل يوم يتفشّى أكثر وأكثر.....أمي...أنا ....أنا....أحبه بكل جوارحي....لا تحرموني منه بعد أن أوقعتموني به...أرجوكِ.... أنا.... أريد سامي...."
قاطعتها بصدمة من فظاعة ما سمعت منها من اعتراف صريح واضح كقرص الشمس في كبدِ السماء وهمست تكمل عتابها :
" نحن حرمناكِ منه أم أنتِ من فعلتِ ذلك ؟! ...هل الآن اكتشفتِ أنك تحبينه ؟!.."

أجابتها وهي تنصب احدى ركبتيها وتتكئ عليها بمرفقها وتضع كفها أعلى جبينها عند منبت غرتها بأسى وضعف لم تره أمي عليها طول عمرها :
" أنت السبب أمي....هادي السبب...أبي السبب...كل ما عشته هو السبب لأكره الحب....خفتُ من الحب ولم ارغب بتذوقه ....لكـ.....لكني غرقت وما من نجاة منه.."

ابتلعت ريقها بذهول ...ما هذا الذي بدأت تفرغه من قلبها وباطنها ؟!..وهمست مدهوشة لاتهامنا أننا السبب وهي تدنو منها وتجلس جوارها :
" كـ...كيف صغيرتي نحن السبب ؟!.."

وجّهت وجهها لها بجفونها المنتفخة وعينيها اللتين انقلب بياضهما لتصبحان كالجمر وأجابت ويداها ترتعشان انفعالاً من حالها :
" أنتِ أحببتِ أبي حد الإدمان ....ما كان حالك من بعده ؟!...ألست أنتِ من تركتينا وأنهرت في فراشك أياماً....لو لم تكوني تحبينه لتقبّلتي موته بسهولة ...لمّا انصدمتِ وفعلتِ هذا بنا..من اهتم بي ؟...أليس شقيقي وهو يحتاج من يهتم به ؟؟.."
علّت نبرتها تعاتبها ومع كل كلمة تشعر طعنات في كافة أنحاء جسدها :
" أليس شادي من كان سيموت لأنك نسيتِ زجاجته ؟!....لمَ هذا ؟...وما سببه ؟؟! "
رفعت صوتها أكثر بقسوة :
" اجيبيني.....أليس هذا لأن حليبك جف حزناً وعلى من؟....أليس على حبيبك ؟؟!.....أليس هذا سبباً كافياً لأخاف من الحب ؟!.....كدنا نفقد شقيقي!!....هل أحب واتعلق لأنهار عند موته وأضرّ أولادي ؟!....هل أحب لكي لا اعرف كيف اتصرف من بعده ؟!....لمتوني لمَ لم أشرك سامي بمشكلتي.....نعم أردت ذلك ولم اندم ....أردت أن اعتمد على نفسي ....أردتُ أن أكون بغنى عن العالم أجمع لأمضي بحياتي بجروح أقل..... هل أحمّله مسؤوليتي ليقطعني في منتصف الطريق ويتركني أتوه وسط ظلام البشر وقسوة الحياة عند موته؟؟.........سامحيني أماه....لم أرغب أن أكون مكانك مع انك مصدر فخري...بقَدْر ما كان حبكما مميزاً أنتِ وأبي بقَدْرِ ما كرهت الحب وخشيته كلما تذكرت كيف فرقكما القَدَر لتتعذبي عذاباً لا يضاهيه عذاب....أنتِ أحببتِ درجة الهلاك!!.........أما هادي .... حرم نفسه ليعطيني....برد هو ليغطيني....لم يتركني يوماً ولا لحظة....وفجأة ...قرر ترحيلنا الى هنا.....ابعدني عنه ....صحيح كان ينام في بيت آخر لكن كنت على يقين ان فتحت فمي لأقول اول حرف من اسمه سأجده قربي....كنتُ أشعر بالأمان لمعرفتي أنه معي أينما كنت وكيفما وليّت وجهي.....ثم في يوم وليلة جعل أميال تفصلنا عنه وسلّمني لرجل لا أعرفه بل كنت في طفولتي ابغضه ليكون الحامي لنا من بعد الله .....فكان هادي سبباً أن أتحدّى نفسي ولا احتاج حتى لأخي الذي اغرقني بحنيته واهتمامه.....كان سبباً لكي ارفض يد العون من أي أحد وأولهم صديقه....أردتُ أن أكون قوية لكن سحر الأشقر أضعفني وهزّ أركاني...ما كان عليّ الاستماع لكِ وأقبل الجلوس معه جلستنا الأولى تلك....فَبها نقل لي هذا الوباء ...رجولته وحنيته تسرّبت لكياني...وقبلته الدافئة على جبيني اخترقت وجداني...لقد استخدم بدهاء عتاده العسكري ليحتل نواة نواة في جسمي كما يحتّل المحتل ما ليس له....لكنه صكّ ملكيته في شراييني ليجعل احتلاله قانونياً أمام الأمم المتحدة لقلوب العاشقين ....فبتّ اعشقه حد الجنون وسلمته ما تبقّى بي من مسامات......كنت أكذب على نفسي وأحاول ابعاد هذيان الحب عني وطرده من حياتي...لكنه حاصرني من كل الجهات وفتح عليّ جبهات....جبهاته فيها الحنية والرجولة والشهامة وخفة الدم والوسامة لقد استخدم أسلحته المتطورة لتُفكّك الحجر الموجود بين أضلاعي.....سأعترف لكِ بسر صغير.....كنتُ أرفض استقباله لكنني لم أكن اعتكف بغرفتي كما تعتقدون!.."


حدّجتها باستغراب لتكمل (دنيا) تجيب على نظراتها:
" كنتُ أجلس على السلالم متخفية لأستمع لحديثه الذي يتردد صداه في زوايا البيت كما في زوايا قلبي ...كنتُ أدمع ضحكاً من خفة دمه التي بيدي قررتُ أن أحرم نفسي منها كما ادّعيت.......كنتُ أترك مجالسته وجهاً لوجه ولكني بطرق ملتوية أبحث عن مكان أكون به موجودة ولست موجودة وما كنتُ بهذه الطرق سوى حمقاء أخدع عقلي وقلبي....عندما كان يهمّ للخروج , أسبقه وأصعدُ غرفتي لأراقب ذهابه من نافذتي وأرسل معه دعائي بأن ربي يحميه ومع دعائي يكون رفيقه حُبي....عندما كنتما تتخذان غرفتيكما أنت وشادي كنتُ أتسلل للطابق الأرضي لاحتضن المخدات التي سرقت عبق عطره ورائحته مني....لقاءنا الأخير عندما تزيّنت قررتُ أن ألَمّح له عن مشاعري...لكنه صدمني بعدم اهتمامه بشكلي فعنادي قفز أمامي كدرعٍ حامي لعزة نفسي....وفي التلة عندما ألقى خاتمينا شعرت كأنه نزع روحي مني ...رغبتُ أن أخنقه بيديّ وأطلع غلّي وعندما ضربته على صدره تمنيتُ ان يعصرني بذراعيه ليجعل قلبي يجاور قلبه ويسجنه بين ضلوعه ويحكم عليه عشر مؤبدات مع الأشغال الشاقة في الحب ....لكنه خذلني ولم يفعلها !!....فشعرت أن كل خلية بجسدي تمزقت كما تُمزّق العاشقة رسائل حبيبها الذي هجرها أو خانها......تركته ووليته ظهري وفي طريقي عنادي مسك يدي ليحميني مجدداً من حبه حتى جاءت لحظة الكارثة الكبرى وعقلي لم يستوعب الّا يكون في حياتي سامي....فسحقاً لوباء الحب الذي ألمّ بروحي وسحقاً للعناد الذي حرمني قربه وأنفاسه أياماً و شهوراً......أريد إن كُتب لي العيش يوماً......يكون سامي هو صباحه ومساؤه هو ساعاته ودقائقه ....لا أريد ثانية لا يكون فيها على سطح الأرض...ألم يقال على هذه الأرض ما يستحق الحياة ؟!......أما أنا....سامي هو أرضي وهو الحياة....!! .."

ما هذه المشاعر الجمّة التي أسرتها في نفسها ؟؟!....لقد اثبتت لوالدتي كم هي قوية وتحملت كل هذا....أكان عليها أن تتذوق طعم الفقد لتبوء بما يدفن في صدرها ؟؟.....كانت تقول كل كلمة وهي تحيط بها آهات الندم والجالسة تستمع لها ودموعها تسكب على وجنتيها عاطفة أمٍ محاطة بالألم......جذبتها لحضنها وتوسدت رأس صغيرتها لتنزل عبراتها عليها وتختلط مياه أعينهن بغير حول ولا قوة منهما....
هي في حيرة من أمرها!!.....حتى لو كانت ابنتها المخطئة كيف ستسمح لها بالذهاب له ؟!....لا تريد ان ينقص من اعتبارها شيئاً.....تبقى هي مهجة قلبها وستحارب لأن تضعها في قمة المجد والإباء....لكن بكائها ينزل كشرارات من الجحيم عليها ...لا تقوَ على مشاهدة عذاب الحب بعيني ابنتها وتوسلاتها وهي تتابع راجية :
" أمي...لن أخفض رأسك....أريد فقط أن أراه بعيني ليطمئن قلبي ....أريد أن اعتذر له عن معاملتي معه وأعود.....اسمحي لي بالذهاب....أعدك ان رأيت أحداً من أهله لن ادخل ولن أسمح بأن يراني أحد منهم..."

شردت أمي تعيد حساباتها بسرها .." أنا أثق بسامي...لن يخذلها وسيقبل أسفها ....مسكينة صغيرتي أفهم ما تعاني الآن...."....
عدّلت جلستها لتقابلها وحوطت وجنتيها بكفيّها وتلك ما زالت تفيض عيناها من الدمع ثم همست لها :
" صغيرتي....سأسمح لكِ...شرط...ان تذهبي وتعودي بسرعة.....انتبهي لنفسك بنيتي ....اصعدي لتجهزي نفسك ريثما أتصل بالحاج أشعب ليقلّك للمشفى.."

مسكت كفيّ والدتي بقوة وبدأت تقبّل باطنيهما بنهم ممتنة لها هامسة بصوتها الذي كاد يختفي :
" اشكرك أمي ....لن اتأخر ..."
قفزت واقفة وخطت خطوات قليلة لا تصدق انها حصلت على التصريح...ثم عادت كالضائعة تقبّل لها جبينها هاتفة :
" أحبك أمي....اسأل الله أن يحفظك لنا ويديمك فوق رؤوسنا يا .."
غمزتها وسط أنهار عينيها وأكملت :
" يا أحلى عيوشة سامي "

عند صعودها للأعلى مسكت أمي هاتفها بسرعة ودقت لـ (بلال ) :
" بنيّ ..أما زلت عند سامي ؟"

" أجل خالتي ..."

" من فضلك اعطه هاتفك .."

بعد ثواني ردّ الغليظ مازحاً :
" ماذا هناك عيوش...ما زلت أتنفس غلاظة لا تخافي أم أنك تشتاقين لصوتي ؟! "

أخبرته بقدوم ( دنيا ) عنده وطلبت منه كأمٍ حزينة على ابنتها أن يرفق بها ولا يعاملها بخشونة وترجو أن يقبل اعتذارها لكن نبرة صوتها كانت بكبرياء ووضحت له أنها لم تقصد بطلبها هذا ارجاعها له كخطيبة وانما فقط اعتذار بحكم العشرة والعلاقة بينهم فوافقها بكل رقيّ ونخوة وطمأنها أن يكون كل شيء على ما يرام.....وبعد انتهاء المكالمة وضع على اسم شقيقه (رامي ) ثم قال بعد السلام :
" لا أريد كائناً مَن كان أن يأتي لزيارتي ....اخبر اهلي بذلك ولِتأتوا غداً صباحاً أو وقت الظهيرة ان اردتم....أنا مرهق وسأنااام...... اعتمد عليك بذلك والّا سأترك لكم المشفى وأهاجر لأي بقعة خالية من البشر.."

" على مهلك يا أخي....ما هذا التحول المفاجئ ؟!...ألست أنت من كنت تتنطح وتقول أنك لا تستطيع النوم في المشافي وتتوسل لأصدقائك بأن يعودوا لك لتسهروا معاً..."


أجابه شقيقه (رامي) ليردّ عليه متاففاً :
"اوف يا أخي ...أصابني النعاس الآن....هل أنت أب مزاجي ؟؟....وصحيح على ذكر أصدقائي...اخبرهم بأني لا أرغب برؤية وجوههم المنحوسة هذه الليلة....هيا اغلق.."

وكان آخر اتصال للمركز لزملائه لينهاهم عن المجيء فلقد كان قسم منهم يريد الذهاب له بالزيارة الليلية ولما أنهى مكالمته جاء دور صديقه الذي كان ينتظر خارجاً ليعطيه المجال بالتحدث براحة وناداه فور انتهاء اتصالاته... فقال متثائباً بخباثة :
" هيا بلبل....أشكرك على وقوفك بجانبي....لا بد أن اهلك وعروسك اشتاقوا لك...أراكَ غداً....أشعر بالنعاس وسأنام"

أجابه بمكر :
" سبحان مغير الأحوال ....ألهذه الدرجة اتصال خالتي أم هادي أشعرك بالنعاس ؟!....هل كانت تغني لكَ تهويدة النوم ؟!.....العب غيرها سمسم ....أتظن ابن شقيقتك الصغير يقف أمامك؟..."

" حقاً اشعر بالنعاس لم لا تصدق ؟!.."

أخذ الهاتف وقال غامزاً :
" حسناً سأدّعي اني صدقتك....وسنرى غداً بركات هذا النعاس الذي داهمك فوراً.."
×
×
×

تخطو بقدميها الصغيرتين على الأرض الرخامية للمشفى...كل خطوة لها كأنها تلعب بأطراف أنامل يديها على مفاتيح البيانو ليخرج صوت عزفه بين نبضات خافقها ...تتقدم نحو غرفته بعد أن علمت رقمها من الاستعلامات....تحمل بيدها التي تهتز ارتباكاً كلما تقترب نحو أرضها باقة ورد أنيقة باللونين الأبيض والبنفسجي .....كان الباب موصداً......طرقات رقيقة منها مترددة حياءً ليصلها صوته الذي اشتاقته :
" تفضل.."

نطقت البسملة ثلاث أو أربع مرات ...ابتلعت ريقها وأغمضت عينيها ...كفها ترتجف فوق مقبض الباب ...انتفض جسدها عندما سمعت الممرضة من خلفها :
" عفواً آنسة....هلّا سمحتِ لي بالدخول ؟!..."

أخلَت لها مساحة لتفتح تلك الباب ....كان نظره مصوباً عليه ..لما رأى الأخرى...لام قلبه كيف يخدعه وأوهمه أن هذه دنيته ؟!...وقبل أن يكمل عتابه بداخله ظهرت من خلف الممرضة....تهللت أساريره وبدأ نابضه يدق محتفلاً برؤية عينيّ الشهد البراقتين....ظلّت واقفة على عتبة الباب بوجنتيها المتورّدتين يتبادلان النظرات بينهما بينما الممرضة تناديه لتقيس له درجة الحرارة والفحوصات الروتينية وهو مغيّب لا يسمعها فهو الآن اعتزل دنياهم ولجأ لدنياه الخاصة ....اختفت الأوجاع منه ...يتساءل بينه وبين نفسه .." أكان عليّ يا ترى أن أمكث عندهم لأشفى من هاتين العسليتين ؟...أليس العسل فيه شفاء للناس ؟؟..."..
كان يحملق بها كالأبله وخاصة عندما انفرجت شفتاها باتساع لتظهر لؤلؤها ضاحكة على حاله لأن الممرضة تكرر نداءها وهو مسحور ... عاد الى أرض الواقع بعدما شعر ببرودة ميزان الحرارة بفمه عندما اضطرت لتدسه له مرغماً فتجاوب معها ليتخلص منها وهو يرفع يمينه بحركة أنامله يخبر بها الواقفة على الباب بالدخول عنده .....بعد أن انهت الممرضة عملها وهمّت لتخرج....قال بحزم :
" اغلقي الباب خلفك ....وها أنا أنبهك... حتى اذا حضر رئيس الدولة ليتنازل لي عن الرئاسة لا تدخليه ...لا أريد أي مخلوق يدق بابي ..."

تبسمت ورمقت الواقفة بنظرات خبيثة فقد أخذتها التحليلات الى الطرف الآخر من عالم الظنون ثم أجابت :
" حاضر سيدي.."

كانت شقيقتي تراقبها حتى أغلقت الباب واختفى أثرها...أعادت حدقتيها عليه تتأمل اصاباته...كان رأسه ملفوفاً بضماد أبيض وكتفه الأيسر مغطى بجبيرة وحزام خاص لتثبيته ثم دنت منه على استحياء تناوله الباقة هامسة بتلعثم بعد رؤيتها صدره العاري :
" حـ...حمداً لله على سلامتك..."

أهداها ابتسامته الحنونة وأشار لها على المنضدة بجانبه هامساً :
" سلّمك الله....ضعيها هنا....لمَ أتعبتِ نفسك ؟!.."

لم تطعه ولم تجبه وهي متسمّرة مكانها ترسل له بعينيها المحتقنة أشياء لا يستطيع قراءتها وما كان هذا الا صراعها بين الاعتذار منه والرحيل أو اعترافها بالحب الجميل....فكرر كلامه :
" ضعيها هنا...ما بكِ؟! .."

لم يأخذ الأمر ثانيتين لتطير الباقة من يديها على الأرض في جانبه الآخر وترتمي على صدره تدثر وجهها مجهشة بالبكاء وسط اتساع عينيه بذهول دون استيعاب لما يجري معه وبدأت بقبضة يمينها تضرب عليه هاتفة :
" إياك أن تفعل هذا بي يا مجنون...إياك...إياك....أتسمعني أيها المحتل ؟؟! "

صوتها يعلو بنحيبها وهو تضاعفت صدمته فهتف مستنكراً بنبرة مرحة :
" أتشبهينني بالمحتل آنسة دنيا ؟!.."

رفعت رأسها عن صدره بعد أن اغرقته بعبراتها ونهرته بحزم وصوتها المبحوح :
" لا تقل آنسة دنيا....أكره هذه الكلمة منك ...لا تظن نفسك ظريفا بنطقها....ونعم أنت محتل وأكبر محتل "

شهق وقال بنبرة جدية مصطنعة :
" ظننتُ أنك جئتِ لتعتذري....يبدو أني أخطأت ...ما شاء الله لسانك يحافظ على قوامه "

هتفت صارخة بأنين :
" ذاك شيء آخر!...أسمعت عن شخص أرضه مسلوبة يعتذر لمن احتلّها ؟!...كيف سأعتذر لك وأنت احتليت بيتي وأهلي ومستقبلي وعمري واسمي ...أليس هذا احتلال ؟!..."

شعر بغصة في صدره لم يتوقع ان يكون في نظرها شخص احتلها وسلب كل شيء يخصها ...فقال بصوت هادئ مجروح :
" لكني اخبرتك....أنني سأحرر.."

قاطعته قبل أن يكمل:
" أنت محتل ...لكنك الاحتلال الوحيد الذي يتمنى المرء الّا يزول.."

ابتعدت عن صدره تنصب جسدها واقفة ثم بابتسامة حب وعينيها الممتلئة بدموعها ..شكّلت بسبابتيها وإبهاميها شكل قلب وألصقته بقلبها وأردفت بصوتها الناعم:
"الّا يزول....... مِن قلب هذه الدنيا "

تزيّن ثغره بابتسامة عاشقة توحي لها برضاه وفتح ذراعه الأيمن لتعود لأرضها على صدره وبقلة انتباه منها عند التصاقها به تأوه للمسها موضع الألم في كتفه المصاب...فرفعت راسها وبدأت تحرّك حدقتيها مذعورة هامسة :
" أنا آسفة ....لم انتبه ..."

كمش تقاسيمه بألم وقال :
" لا عليك..."

لم تحتمل الأوجاع الظاهرة على وجه هذا الجبل الصامد فبكلّ حنية وجرأة قرّبت شفتيها لكتفه وطبعت قبلة سريعة عليه لكن أصبح هذا ذنبها وهي التي فتحت على نفسها أبواب معاقبته لها عندما اعجبه الأمر ذاك الماكر وبدأ يكمل تأوهاته مشيراً على احدى وجنتيه بسبابته :
" هنا أيضاً يؤلمني .."

ترددت قليلاً ثم جازفت وقبّلت حيث أشار ليلحقها طامعاً بالجهة الأخرى ....فقالت بخجل :
" يكفي سامي...اعتبره هذا اعتذاري"

تبسّم بحب وقال بوقاحة:
" حسناً يكفي....لم أحلم أساساً بالحصول على شيء كهذا من هاتين الشفتين اللذيذتين ....لو علمت بذلك لألقيت نفسي من فوق المنحدر منذ زمن .."
غمزها ضاحكاً وأردف:
" لعلّني أحصل على شيء أكبر وأعظم .."

جلست على الكرسي هاربة منه بخجل وهمست تشيح وجهها :
" أصمت...لا يجب أن اعطيك وجه "

رفع يمناه مستسلماً وقال بصوت ضاحك :
" لا أرجوكِ....التوبة ....لا تحرميني هذا الوجه .."

تنحنح ورفع غطاءه عنه واتخذ طرف سريره الأيسر وهمس بصوت رخيم , حنون :
"تعالي بجانبي..... يا عينيّ الشهد."

حدّجته مندهشة ثم ألقت نظرها صوب الباب وقالت بحياء :
" لا يمكن ذلك....عليّ الذهاب ...وعدتُ امي بان اعود سريعاً...و..وأيضاً لا بد أن يأتي أهلك لزيارتك...غير لائق وجودي هنا "

" ابقي عندي هذه الليلة.....لطفاً..."
أردف يطمئنها :
" لن يأتي احد "

أجابت بحزن لا تريد أن تكسره ولكنها لم تنتبه لما تفوهت به:
" آسفة حبيب عمري....ستغضب أمي!"

هتف مشدوهاً غير مصدق ما سمع :
" ماذا؟؟....حبيب عمرك؟؟......اعطني الهاتف سريعاً"

تمتمت تشتم نفسها لتفوهها بهذا وناولته إياه ...وضع على اسم (أمي) لتجيب قائلة:
" أأنتِ بالطريق صغيرتي ؟؟!"

" أيّ طريق عيوش وصهرك غريق ؟؟!...لا تنتظري دنيا....في المشفى يوجد حالة طوارئ... أغلقوا جميع المداخل والمخارج وحفاظاً على سلامتها ستبقى معي في الملجأ....تصبحين على خير ...قبّلي لنا الضفدع...الى اللقاء "

" ما هذا الذي تقوله بنيّ؟؟!"

" أمزح لا تقلقي ...لكن دنيا ستبقى معي .."

" كلا سامي ...اعطني إياها حالاً.."

نطقتها بحزم ...فهمس بهدوء :
" من فضلك أمي....علينا اصلاح بعض الأمور .."
أردف يقايضها :
" هذا أول طلب لي منكِ.....لا تردّيني رجاءً.....أنت تعلمين هي في عينيّ لن اسمح أن يصيبها شيء فعلياً أو كلامياً.....أعدك لن تكوني الّا راضية من كلينا !!.."

حوقلت مذعنة وهمست توصيه بها :
" هي في أمانتك بنيّ أنا اثق بك اكثر من نفسي ...هذه المرة الأولى التي تنام بها خارج البيت...أرجوك لا تغفل عنها.."

عند اغلاقه الهاتف وفِهْمها أن والدتي وافقت ..نهضت من كرسيها متجهة نحو الباب..فسأل متعجباً :
" إلى اين ؟.."

" دقيقة...سأعود فوراً."

عادت تحمل بيديها شيئاً لم يستطع تخمينه...كان يراقب يدها القابضة على هذا الشيء حتى وصلته...جلست على طرف سريره...وهمست :
" مدّ يمينك..."

رمقها بفضول دون ان يستجيب لها فقالت :
" أتريد أن استلقي بجانبك ؟!.."

" طبعاً.."

" من أكون بالنسبة لك لأفعلها ؟"

" حبيبتي وخطيبتي وزوجتي أمام الله "

" ما هو الدليل على ذلك سيد سامي وأنت ألقيت خاتمينا بدون ذمة ولا ضمير ودون أن ترأف بحالي ؟!"

" إنسي الماضي يا عينيّ الشهد...لا تذكريني ...ثم ذاك الخاتم لم تختاريه بنفسك لذا سنذهب للصائغ فور خروجي ليكون على ذوقك ..."

قالت مبتسمة :
" اذاً مد يدك..."

مدّها فأخرجت لاصق طبي وحوطت به بنصره الأيمن وهو يراقب بصمت وقالت ببراءة عقلها الطفولي وهي ترفع يده لشفتيها لتقبّل خاتمه الجديد المبتكر :
" مبارك حبيبي خاتم خطوبتنا ..."

مسك نفسه عن الضحك كي لا يغضبها وكانت الفرحة تغمره من كلامها.....أخذ منها اللاصق الطبي الآخر يطاوعها وفي داخله يسخر من جنون البنات وعقلهن الصغير ثم حوط بنصرها به بمساعدتها ورفع يدها يقرّبها لشفتيه بقبلة طويلة ادفأ وأجمل من قبلتها وعيناه تخترق شهديها لينشر عشقه لها ثم حررها ومدّ يمناه يجذب عنقها ليقرّب أذنها لفمه هامساً بصوت خفيـــض أذابها كحبة البوظة المتروكة تحت أشعة الشمس الحارقة :
" أحبك.... يا حياتي ودنيتي "
ثمّ قبّل لها عينيها مضيفاً:
" آسف لأني أبكيتُ هاتين العينين "

بعد أن تعمّد اذابتها وبعثرة أحاسيسها ...ضغط على زر بجانب سريره لتأتي الممرضة وكانت هي قد وقفت مبتعدة عنه كي لا تجلب لنفسها الكلام ..
" أتحتاج شيئاً سيادة الضابط....؟؟"

" سلامتك....أردتُ أن أذكّرك بعدم ادخال حتى ذبابة للغرفة ولا تأتي الّا بقرع الجرس.."

اومأت تؤكد على أوامره ثم خرجت لتخلع بعدها (دنيا) حذاءها من قدميها وتدسّ جسدها النحيل بجانبه وبدآ يثرثران حتى ساعات متأخرة من الليل ....كانا يعوضان كل دقيقة ذهبت من عمرهما هدراً وهما بعيدان عن بعضهما....كان يستمع لها بقلبه العاشق الغارق بحبها وهي تحكي له خباياها وتعترف له بما قالته لأمي قبل مجيئها...وبين الحكاية والأخرى كان يقصد اظهار تأوهاته بدهاء ليجعلها تربّت على أوجاعه أو تقبّلها له.!!...انتقم منها بتدليل نفسه ذاك الغليظ........بعد صمت لدقائق قليلة جداً يتأملان بعضهما بشغف وهيام ...همس لها بِوَلَه وهو يدنو منها ويسحق كل وحدات قياس المساحة بينهما:
" تعالي لأوشوشك كلمة بين شفتيك "
ثم شدّ الغطاء يخفي وجهيهما كي لا يقرأ أحد الكلمة السحرية التي أمّنها عليها ....!!

وكان الشرف لجدران هذا المشفى بأن تشهد على ولادة قصة حبهما......

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

هذا أول عيد ميلاد يكون بدون احتفالات ....السنة الماضية يوم رجوعها للبلاد أقاموا لها احتفالاً كبيراً والسنوات التي تغرّبت بهن كانوا يذهبون لعندها من أجل معايدتها وإغراقها بهداياهم واهتماماتهم ....هذه المرة تمنّت أن يحتفل خطيبها معها... .. لقد سئمت من التجمعات الفارغة....رغبت أن يكون يومها مميزاً عمّا سبقه...فالآن قلبها يخفق خفقات تدغدغ روحها....تشعر أنها رست على بر الأمان بعد أعوام تخبطت بها.....تريد أن تعيش لحظات حب كأي فتاة في سنها...تريد من عريسها أن يصبّ اهتمامه بها ويدللها ...لكنها حائرة ...تقول في نفسها "...أيمكن أنه لا يحفظ تاريخ ميلادي ؟!....أصبحنا وقت العصر ولا رسالة أو مكالمة ليعايدني ....لا أريد هدايا ثمينة...أريد سماع كلمة حلوة فقط.."........كانت تعيش حيرتها في غرفتها فطرقت الخادمة الباب عليها...
" أدخل..."

فتحته وقالت وهي تحمل شيئاً في يدها :
" وصلت هذه لكِ سيدتي .."

نظرت باستغراب لما بين يديها وهمست تمد يديها:
" شكراً لِيلِي ...هاتها ....أتعلمين ممن ؟؟! "

اقتربت تعطيها إياها مجيبة :
" كلا سيدتي...خدمة التوصيل جلبتها باسمك "

حملتها وكادت يداها تقعان لمّا تفاجأت من ثقلها وهتفت :
" حسناً ليلي...يمكنك الانصراف"

وضعتها بجانبها على السرير متسائلة وهي تخرجها من الكيس الكرتوني الفاخر وتكلمها :
" تعالي لنرى من يكون صاحبك يا هل ترى .."

كانت الهدية مغلفة بورق خاص للهدايا وعليها بطاقة بغلاف مورّد...حررته من اللاصق وفتحته لتجد ..
[ كل عام وأنتِ بخير ....أتمنى لكِ يوم ميلاد سعيد ....أعتذر عن عدم تواجدي معك في هذا اليوم......يامن ]
قرأتها بشحوب وأغلقتها شاردة في حظها...لقد وضعت في مخيلتها قبل قليل الكثير من التخطيطات والأمنيات التي ستعيشها مع خطيبها وها هو جاء الرد الفوري لتتلاشى أمنياتها .....فعلاً ليس كل ما يتمنى المرء يدركه ...!!....تنهدت بقوة عسى أن تتخطى شعور الخذلان الذي اصابها ثم بدأت تمزق الغلاف وفور كشف الحجر أمامها شهقت منبهرة من جماله وحملته تتفحصه بدقة تحاول تحليل ما عليه ....حجمه متوسط , رسمتُ عليه سماء زرقاء صافية وفي كبدِها عينين شبيهتين لعينيها وأرض جرداء تنصب عليها خيمة يقف بجانبها فتى يحدّق بالسماء وبين الفتى والعينين كتبتُ اسمها بالخط العثماني وأسفل الحجر حيث ترسم الأرض الجرداء كتبت جملة بالرموز المشفرة التي علمني إياها أبي ويستحيل أن تعرف حرفاً منها دون أن اخبرها بها بنفسي ....بعد أن انهت انبهارها تلاعبت بها ذاكرتها....هذا الشيء المميز مرّ عليها ...سرحت في السقف تربّت براس سبابتها على جبينها تنعش دماغها , تقول .."...أين رأيت فكرة كهذه ...اين اين ؟؟ " .......اتسعت عيناها عندما ارشدها عقلها للعنوان وحملت هاتفها التي كانت تمنع نفسها منذ الصباح عنه لئلا تتصل هي بي قبلي...كانت تنتظر أن ابدأ انا بمهاتفتها لأن اليوم هو يوم ميلادها ويجب أن يأتي الاهتمام مني...لكن الآن الفضول أهلكها....فحاولت الاتصال عدة مرات ودائماً كان الرد أنه مغلق لأن هاتفي الخاص بـ (يامن) لا آخذه معي على المعسكر خوف اختلاط الحابل بالنابل ....في اليوم التالي كنتُ في بيتي ...فتحتُ هاتفي فقفزت على الشاشة رسالة منها :
[....انتظرتك حتى الدقيقة الأخيرة من يوم مولدي لتسمعني صوتك... تمنيتُ أن تهديني دقيقة من وقتك ولو على الهاتف لتكتمل روعة هديتك التي ابهرتني.....لكن يبدو هذا نصيب كل من ترتبط برجل أعمال أن تكون هي آخر اهتماماته....اعتدتُ على هذا لأن أبي يفعلها من قبلك!!......على كل حال... شكراً على الهدية ( مع رمز المبتسم ووردة )....]
رغم أنها حروف ميتة لا تنبض الّا أن مشاعرها الجريحة التي تكمن خلف رسالتها وصلتني....ها أنا بتّ أشبه أكثر شخص أكرهه....قسماً لم أثبت لنفسي في هروبي الا جُبني وضعفي وليس كما ادعيت أنني قوي ويمكنني الابتعاد عنها متى شئت......ماذا أفعل بي وبكِ حبيبتي ؟!....لم آخذ الكثير من الوقت لأقرر أن اصطحبها اليوم بعد جامعتها الى احد المطاعم كتعويض بسيط عن أمس ...أساساً تلقيتُ توبيخاً لتقربي منها ولا مانع بآخر ......تلك البريئة لا ذنب لها بين قسوة قلوبنا ومخططاتنا !!....
في الثانية بعد الظهر كنتُ أمام جامعتها أرتدي حلتي الكحلية مع قميص سماوي أفتح زر ياقته الخانق.....عند خروجها برفقة صديقتيها توقفت مكانها متفاجئة وهمست لهما :
" ماذا يفعل حائطي امام جامعتنا ؟!.."
قالت (ميار):
" ألا يمكن أن الحيطان داخلها قلوب نابضة تحسّ انها أخطأت لذا جاء ليتلافى خطأه ؟!.....هيا انطلقي وإياك الاصطدام بالحائط وكسر أنفك "

أضافت (لميس) :
" ألمى لا تعاتبيه على تقصيره بحقك أمس....الرجال لا يحبّون ذلك...تعاملي مع الشيء كأنه عاديّ كي لا تضعي فجوة بينكما ....وأن يصل متأخراً خيرٌ من أن لا يصل أبداً.."

نظرت لهما باستغراب وهتفت:
" ما بكما وكأنكما متأكدتين أنه جاء ليعوّضني عن البارحة ؟!...لم نعلم بَعد سبب قدومه .......هيا أنا ذاهبة....أراكما غداً..."

وصلتني وألقت التحية ثم سبقتني تركب السيارة بهدوء فاستقلّيت بعدها مقعد القيادة مبتسماً وهي ساكنة مكانها....مددتُ يدي على المقعد الخلفي وسحبت وردة بيضاء اشتريتها في طريقي...مددتها لها مبتسماً وفور امساكها بها دنوتُ منها أقبّل خدّها هامساً قرب أذنها :
" أنا أعلم أن قلبكِ أبيض مثل الوردة التي بين يديك يا وردتي لذا ستسامحينني عن البارحة.."
توهّجت وجنتاها من أنفاسي وكلمتي واضطربت نبضاتها ثم التفتت نحوي بعد أن عدلتُ جلستي ورمتني بتلك النظرة من سماءيها والابتسامة من شفتيها اللتين تهزّان أوصالي.....بعد نيْل القبول من ألمتي الطيبة انطلقت في طريقنا الى غايتنا ...كسرتُ الصمت بيننا سائلاً :
" هل أعجبتك الهدية ؟!.."

ردت بسرور :
" جداً...مميزة.....سلِمت"

تبسمت ونظرت لها نظرة سريعة ثم أعدت عينيّ للأمام وهمست :
" سُعدت أنها أعجبتك....انتابتني الحيرة فيما أهديكِ حتى رسيتُ على هذه "

رمشت بعينيها ممتنة ثم تنحنحت وهمست :
" اتصلتُ بك في الأمس لأسالك ..!"

" عن ماذا ؟!"

" هل...أنتَ رسمتها ؟!.."

" شخص آخر رسمها....لماذا؟! "

أنا أجبتها هكذا صدفةً لأنني قصدتُ بذلك (هادي) وليس (يامن) لكني تفاجأت عندما اجابت :
" تعرّفت على شخص في الماضي يرسم على الحجارة ....الهدية أعادتني لذاك الوقت....لذا كان سؤالي مجرد فضول ....من يكون هذا الشخص؟ !!"

يا ويلي....لقد نسيت!! ....أحمق....كيف غفلتُ عن شيء كهذا ؟!...أيعقل انها ما زالت تذكر هذه الأشياء البسيطة ؟!.....أجبتها متهرباً :
" ليس من هنا ...لا تعرفينه ....ثم هل ذاك الشخص هو الوحيد الذي يرسم على الحجارة ؟."

" بالطبع لا ..لكنها هواية نادرة ....والذي لفت انتباهي الخيمة والولد..."

" كيف لفتت انتباهك ؟!.."

أجابت هاربة بعينيها لنافذتها :
" ممم....ذاك الشخص قابلته في احد المخيمات عندما كنتُ برفقة خالتي... "
أعادت بصرها نحوي وسألت :
" من اختار الرسمة ؟! "

أجبت :
" أنا.."

سألت بفضول :
" ماذا تعني هذه الرسمة وما قصدك بالخيمة وما تلك الرموز أسفلها ؟!....لم أفهم شيئاً منها كأنها طلاسم .."

تبسّمت وقلت :
" إنسي الرموز والمختبئ خلفها وتمتعي بالرسمة !.."

همستْ لي بتيه وأنا اركن السيارة بموقف المطعم :
" لمَ سأنسى ؟؟...أريد أن أفهم المقصود!"

أوقفت السيارة ثم مسكت يسراها مبتسماً أطبع قبلة عليها وعيناي تشعّ بالحب صوْب عينيها وهمست :
" أعدك إن أراد الله لنا ....سأخبرِك يوماً ماذا يعني كل شيء وُجِد فيها !!...لا تسأليني الآن"

تأملتني لثواني بضياع ثم أومأت برأسها خاضعة وفتحت الباب لتنزل الى المطعم....

كنتُ قد كتبتُ بالرموز ( هادي...لاجئٌ في سمائك ).....

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

توالت الأيام علينا لنصبح في منتصف الشهر المبارك....مضت تلك الأيام وكانت هي من تبدأ وتنهي اتصالاتنا أو رسائلنا في الصباح والليل كما لم أعهدها مِن قبل ....وكنا نتقابل بين الفينة والأخرى للغداء وكذلك برمضان للإفطار معاً... كنتُ أستجيب لها هائماً بعينيها وفي بحور مشاعرها التي باتت تتجلّى لي وتكشف عنها بعفويتها البريئة .......لم يتبقَّ الّا ان تعترف لي بذلك مباشرة.!!... لم أنجح بالابتعاد عنها كما عزمتُ على ذلك...ها هي ربما المحاولة العاشرة بعد الألف التي ألقي بها في سلة الفشل!!.......
بدأنا بالإجراءات والتحضيرات الرسمية لسفرنا الأول الى أرض الوطن ...الى مسقط رأسي إلى ماضيي ومستقبلي...إلى وجعي وفرحي .....مرّ عام على رحيل عائلتي عني....أنتظرُ صابراً والشوق يذبحني لليوم الذي سأضمهم إلى حضني ...آه يا نبض الحياة...أين لمساتك ودفء انفاسك ؟....حرموني من أبي ميّتاً وحرموني منكِ حية ...وضعوني في دوامة لا ألمس السماء ولا أثبت على الأرض....حائر , ضائع....مشاعري وأفكاري مبعثرة ومشتتة....أقف على مفترق طرق لا أعلم أي السبيلين أسلك...خطوتي على يميني فيها انتقامي وردّ اعتباري...فيها إطفاء ناري.... لأمضي بها عليّ اجتثاث قلبي من بين ضلوعي ...ان اخترتها سأنتصر لكن سأتذوق هذا النصر كجثة هامدة بلا روح بعد أن أترك روحي في الطريق الآخر....سأمضي في الظلام الدامس عند هجري لزرقة سمائي..!!....وطريقي على يساري لأعبرها عليّ الدوس على الكرامة من أجل الحصول على نبض قلبي لأعيش كأي انسان من حقه العيش حياة فيها الحب والسعادة بقرب الحبيبة ..فيها بلسم الروح.....فيها أبقى أنا ..محلّقاً في سماء عينيها.!!...
هذه معادلتي الصعبة الوحيدة التي لم استطع حلها .....لكن رحمة الله واسعة...فاللهم اختر لي ولا تخيرني...إني أفوض أمري لك فأنا لا أحسن التدبير وأنت على كل شيء قدير....
×
×
×

حزمنا حقائبنا مستعدان أنا وخالتي للسفر لوطننا الذي كان مسكننا وأصبح رحلتنا....يوم غد هو اليوم الأعظم في حياتي ..يوم كنتُ فاقداً الأمل به منذ حوالي احدى عشر سنة....كنّا متكتمين عن هذه الرحلة حتى نرتّب كافة أمورنا من غير أخطاء وجاء الوقت الذي سأخبرها به بسفري....رفعتُ هاتفي بعد أن لمستُ اسمها فردت على الفور هامسة :
" أهلاً يامن...خير؟"

قلت:
" مساء الخير ألمى....أعلم أن الوقت متأخر!"

هتفت بحماس :
" لا ابداً.....أنت تعلم انني أصبحتُ في الآونة الأخيرة من فئة الذين يعشقون السهر "

ضحكتُ مجاملاً لها وقلت :
" أجل....ممم....أتصل بكِ لأخبرك أنني مسافر غداً لأسبوعين على الأقل "

شهقت مصدومة ثم قالت بصوت خمد حماسه:
" تسافر؟!...إلى أين؟!"

أجبتها:
" خالتي مريم ستزور أهلها في البلاد وأنا مضطر لمرافقتها لأن أبي مشغول.."

همست بصوت شجيّ:
" ألا أراك لأسبوعين ؟!"

أجبتُ باقتضاب ليّن مع أن قلبي يهفو للطرب على عذب همسها:
" يبدو هكذا....سأغلق الآن...أراكِ على خير"

علقت غصة في حلقها وتجمعت الغيوم بسماءيها وهمست:
" دُمت سالماً لي....سـ...سأشتاق لكَ كثيراً...اعتني بنفسك...من أجلي"

أطلقت سهامها تصيب بها النابض الخائن في صدري تاركة أثراً لكلماتها التي كانت بالنسبة لي كاعتراف صغير بمشاعرها اتجاهي فلم أمسك نفسي ورددت على الفور غير متحكّم بلساني لأقول ما أملاه عليّ ذات الخائن بهمسٍ خافت:
" أنا سأشتاقُ لكِ أكثر يا مَن تسرقين قلبي "

~~~~~~~~~~~~~~~~

تأبى الدقائق ان تتقدم.....تقف مكانها عاجزة أمام هذا الطريق الطويل....سألت نفسي !!......هل الطريق طويل بالفعل أم مشاعر الشوق أثقلتنا وسنين البعد أضنتنا؟؟!......نصف ساعة هي المسافة بين البلدين جواً!!.....لكني أشعر أن طاقتي استنزفت وقدميّ لم تعودا تحملانني وكأننا انطلقنا من درب التبانة الى كواكب أخرى أبعد منها ونحن على هذا الحال!!....حتى يوم هجرتنا ورحيلنا عنها في البحر لم أشعر أننا أخذنا كل هذا الوقت ..."..[ الرجاء ربط الأحزمة ].."...رجاءً...هل استطيع ربط قلبي مع هذه الأحزمة؟!!....فأنا أشعر أنه يهوى من بين قضبانه رغم أنها ليست المرة الأولى التي اركب فيها طائرة !!...هل هو بفعل الجاذبية؟؟!.....الطائرة تهبط بحذر وهو يهبط معها راضياً بقضائه......هل هذا حُب الوطن؟!....هل تراب الوطن عرف قلوب وافديه؟!....هل استطاع أن يميز من هم خاصته؟!....ثبّتت عجلاتها على الأرض ..تتقدم بعنفوان وكبرياء لتصل إلى موقفها بكل دقة واحترافية.....حتى ظهرت أمامنا لافتة [ أهلاً وسهلاً بكم ]....أيفرض أن تقال لنا أم نحن من نقولها لزوارنا ؟!......رغم غصتي بانتمائي للغرباء وأرض الشتات وأصبحتُ غريب الوطن والدار الّا أن دمائي اشتعلت بعد هذه الرائحة....رائحة الوطن !!....ثورة متمردة في عروقي حاربت مشاعري وقصفت قلبي مما جعل مقلتيّ تنزف دمعاً غصباً عني....آاااه يا وطني الغالي.....الحمد والشكر لك يا الله أنك كحّلت عينيّ برؤياه ورزقتني زيارته.....وطني الأم ...أرض الأحرار....أرض العِزّة والأصالة......سجدتُ باكياً شاكراً لأمسح وجهي في ترابه الطاهر ثم دخلنا الى المطار نقوم بإتمام وتنفيذ المعاملات الرسمية.....مرّ كل شيء على خير بفضل الله....دلفنا من باب وخرجنا من آخر لنحتضن الوطن بأكمله...نحتضنه بهوائه وترابه...ببحره ونهره...بل بجباله وسمائه ...ليله ونهاره....شمسه وقمره....كباره وصغاره.....بشعبه الأبيّ الصامد والمسك الذي يفوح من دم شهدائه .....!!
أصبحتُ حراً طليقاً بجسدي بعد أن كان أسير التشرد والنزوح والشتات....هذا ما يجب أن يكون....لكن روحي ظلّت لاجئة.!!....لأني لاجئ في سمائها.....
×
×
×

رفعت من هاتفي وضعية حالة الطيران ثم بعثتُ رسالة لصديقي (سامي) لأخبره عن وصولنا..........يوم قرارنا بالقدوم كان هو والسيد (سليم) فقط من يعلمان بذلك لكن بسبب الحادث الأخير أخبرته أن يسلّم المهمة لـ(أحمد)أو(بلال) ليأخذونا من المطار....لكن هذا عقل صديقي العنيد !!....أبى واستكبر أن يعطي مهمة استقبالنا لغيره....أراد أن نبقى على اتفاقنا ....ما زال كتفه الأيسر مربوطاً بحزام داعم ...فهو لم يمر عليه شهر بَعد!!....وأكثر ما أفرحني هو عندما اتصل بي ليبشرني بإصلاح علاقته مع شقيقتي ....تفاجأت من هذا التحول الكبير وسررتُ من أجل حبيبيّ قلبي........بعد دقيقتين من ارسالي رسالتي رد عليّ بأخرى يخبرني عن مكان تواجده ووصف لي سيارته.....سحبتُ حقيبتي مع حقيبة خالتي...ووصلنا الرصيف الخاص ببوابة المطار الخارجية الخاصة بموقف السيارات.....ها هي ظهرت لنا سيارته الفضية رباعية الدفع الفاخرة وهو يستند عليها ويعبث بهاتفه تارة ويراقب البوابة الكبيرة تارة....توقفنا أنا وخالتي على بعد خطوات منه ...رفع رأسه فتشابكت أعيننا في بعضها....ظللنا على وضعنا دقيقة صمت حداد على عمرنا الذي أضعناه بالبعد أو أضاعوه منا.....دقيقة نسترجع ماضينا وطفولتنا حتى لحظة وداعنا الأخير....وبخفة ألقيتُ الحقيبتين بعد أن فتح ذراعه الأيمن واندفعنا بنفس الخطوات ونفس ضربات أقدامنا التي تعزف نغمة عمق صداقتنا...اندمجت أحضاننا لنعود أطفالاً وصبياناً كما افترقنا ...نبكي قهرنا وفرحنا....نبكي ماضينا ومستقبلنا....نشد من احتضاننا أكثر مع قفزات الشوق والحماس ونربّت بقوة على ظهريّ بعضنا!!...من يرانا يعتقد أننا مصابان بالجنون أو تأخر في نمو العقل ونحن في اجسادنا الضخمة وعقلينا الصغيرين بهذه الحركات العفوية النقية التي تكتب الوفاء والإخلاص في صحبتنا.!!.....كانت خالتي ليست بأقل من حالنا وهي تراقبنا بصمت.... تنظر لنا بحنانها ورقتها والعبرات تنساب على وجنتيها لا تقدر ان تسيطر عليها من فَرط المشاعر والأحاسيس التي انتشرت بالأجواء ....لو وزّعناها على الآخرين لما نفدت......اقتربت منا أخيراً بعد أن تركت لنا المجال أن نشفي غليلنا وهمست:
" هيا أيها الشقيّان....تعبت من الوقوف "

قال (سامي) :
" هلا بمريومة ....أنرتِ البلاد....الحمد لله على سلامتكما.!!........ما شاء الله... ظننتُ أنكِ شقيقة هذا النكدي او عروسه.....هل فقط نحن من نتقدم بالعمر وأنت وعيوش بقيتما مكانكما ؟َ"

هتفت ضاحكاً:
" هيه أيها الغليظ....عيوش ووافقنا عليها لكن أن تدلع خالتي مريومة وتتغزل بها وهي تحت ذمة رجل آخر هذا كثير لأنه لو وضعك تحت ذراعه لسحقك بعضلاتك التي تتباهى بها..."

ابتسمت بخجل وقالت :
" كيف أنت الآن عزيزي سامي ؟!.."

اتسعت عيناي بذهول وقلت مازحاً:
" عزيزي سامي؟!...هل تجرئين على قولها أمام برهوم ؟!"

رد الغليظ عنها باشمئزاز مصطنع:
" لمَ أشعر أنك تغار مني ؟!..أم لأني استحوذت على نساء عائلتك سيد هادي ؟!.."
ثم أردف يرد على سؤالها :
" سلّمك الله خالتي....ها أنا مثل القط بسبع أرواح أقف أمامك لأبقى علّة على قلب هذا النكدي ذو راس الصوّان.."

قالت مازحة تجيبني أولاً:
" من اين سيعلم برهوم إن لم تفتن بيننا ..ثم الآن سامي هو صهر عائلتنا الوحيد وأصبح ابننا ...الا يحق له أن ندللـه قليلاً ؟!"
ورمقته بحنان وتابعت:
" فليحفظكما الله لنا وللوطن أنت وهادي.."
×
×
×

استقلّينا سيارته متوجهين على بركة الله الى مدينتنا الجبلية.....ساعات قليلة حتى دخلناها قاصدين حيّنا ( تلة الصقور) في الجانب الأعلى بها....كنتُ بنظراتي أتأمل من النوافذ الأشجار التي فارقتها وكأنه البارحة...كانت على حالها وخضرتها ...على شموخها وارتفاعها....لم تستسلم للحرب اللعينة...لم تنهار ولم تطلب اللجوء....لقد أكرمني الله بالسير على ذات الطريق التي رثيتها في رحيلي...فسجّل يا تاريخ أننا عدنا ولتكون خطواتنا هي العنوان وليست بين الصفحات المنسية....اشهدي يا أرضنا أن جذورنا مثبّتة بك مهما حاول الخونة اقتلاعها ومحوها......تراب الأرض التي تمتلكها لها نكهة خاصة لا يعرفها الّا من كان وفيّاً لها ولم يتخلَّ عنها....
دقائق أخرى حتى وصلنا إلى أغلى بقعة على فؤادي...إلى زمني الجميل إلى عزّي وعُزوتي.....قصر ابي الذي لا يضاهيه آخر مما رأيت وأقمت......من هذه المدخنة الثابتة فوق سطحه كانت رائحة خبز جدتي وفطائرها تجعلنا نسرع خطانا مغشياً علينا...سكارى وما نحن بسكارى...آه على ايامك يا جدتي!!......انفتحت البوابة الضخمة لتستقبل سيارة صديقي الذي أصبح هو رجل البيت بغيابنا عنه...ازدردت ريقي وكأنني سأدخل قلعة غريبة أجهل جدرانها وأروقتها!!.....ترّجلنا ثلاثتنا من السيارة وأنا وخالتي ننظر يمنة ويسرة....نقتبس من نفحاته ما يروي ظمأنا في غربتنا...بينما هذا حالي...ارتبكت أحشائي وتسارعت نبضات قلبي بعد أن وقع نظري على تلك الشجرة المباركة!!...زيتونة لا شرقية ولا غربية ..لا أعلم لمَ أرى في أوراقها وهن مما تحمل من عتاب وملامة رغم صمود جذعها!!....هل تعتقد أنني تخلّيت ؟!....أم هل أثقلتها أمانتي ؟!....كلا وألف كلا....أتخلّى عن روحي ولا عنها ....حملتاني قدمايَ نحوها...أخطو خطى بطيئة حذرة...كأنني خائفٌ من مواجهتها....كأنني مذنب في بعدي عنها....بتّ محاذياً لها أقف شامخاً واثقاً أقول لها بإباء وتحدٍّ كأنها تسمعني :
" ها أنا عدتُ....وعدتُ ووفيتُ"
وضعتُ يدي على صدري أسْكتُ هياج خافقي!!....كانا من بعيد يرتقبان تحرّكاتي حتى جثوتُ على رُكبتيّ منحنياً بظهري , خافضاً رأسي , مصوباً بصري , واضعاً كفيّ على ترابها في هذه النقطة تحديداً...ثم شرعتُ بعزقه مستخدماً أناملي وكأنها فأس مع أنفاسي اللاهثة من سرعة حركتي حتى لامست سبابتي صلبة حديدها ولم اتوقف الى أن ظهرت امامي بأبهى حلّتها وكأن حروفنا المطرزة عليها تشقّ ابتسامتها على هيئة صورة ابي وضحكته البشوشة....أخرجتها أزيلُ عنها ما علق بها من تراب ثم ضممتها كالعاشق الولهان , الملهوف على حبيبته لأدمغ عليها وعدي بدمعة ألّحت على عصياني.....فهذه هي عهدي!!
حملت البندقية وعلّقتها على كتفي خلف ظهري ورجعتُ الى خالتي وصديقي ثم توجهنا الى باب القصر وبعد طرقات قليلة فتح لنا الرجل الصغير شقيقي (شادي) ليشهق مصدوماً ويحملق بنا لثواني ثم قفز يتشبث بي صارخاً:
" أخي هادي عاد....أخي هادي عاد "
بدأت أقبّله بنهم وأعض وجنتيه اللذيذتين الشبيهتين بالتفاح ثم أنزلته أرضاً....لحقت به شقيقتي المدللة (دنيا) تقف وكأنها تريد التحقق من وقوفي امامها...لحظات قليلة ثم ألقت المكنسة التي كانت بيدها واندفعت نحوي تحيط بذراعيها خصري بكل ما اوتيت من قوة وتتكئ بوجنتها على صدري وتبكي مع ابتسامة على محيّاها هامسة بكل حُب الأخوّة :
" هاادي...كم اشتقتُ لك حبيبي الغالي.."

سعل (سامي) متعمداً وقال:
" نحن هنا....ليتنا هادي لنسمع هذا"

استقامت بوقفتها وضربته بدلال بقبضتها على كتفه السليم مبتسمة بحياء وهمست:
" اصمت يا طماع.."

هتف ناكراً ما يحصل عليه من همس ولمس منها:
" لهادي الكلام المعسول والأحضان وأنا المسكين فقط أتلقّى الضربات والتوبيخ "

تركته يتغالظ ويكلم الهواء واندفعت تعانق خالتي (مريم) تقبّلان بعضهما بلهفة وحنان ..فسألتُ :
" أين أمي؟!."
وقبل أن أنهي سؤالي رفعت نظري لأجدها تنتصف سلالم البيت الدائرية متسمّرة مكانها بعينين جاحظتين تلمعان بألم الشوق والحنين كأن الصورة توقفت عليها فتبسمتُ لها فاتحاً ذراعيّ أخطو نحوها بثبات خطوة تلو خطوة ...زمّت طرف ثوبها خوفاً من عرقلتها وانطلقت تقفز بسرعة وكأنها ابنة عشر سنوات حتى ارتمت في حضني لأغلق عليها ذراعيّ وهي تقبّل كل مكان تصل له شفتيها , تبكي بصوت مقهور , مشتاقة...تهمس بلوعة :
" مهجة قلبي...قرّة عينيّ...حبيبي هادي....الحمد لله على رؤيتي لك قبل أن اموت توقاً وقهراً .."
قبّلتُ رأسها وأنا اعصرها بذراعيّ بعينين دامعتين هامساً لها بنبرة مخنوقة بالكاد خرجت من بين أوتاري:
" ليبعد الشر عنكِ أماه يا نبض الحياة.."
ثم حملتها وهي بين ذراعيّ أدورُ بها أعوّض شوقي لها حتى أنني لم اكترث لخالتي التي تهمس ساخرة منا تنتظر دورها لتعانقها :
" هل نفترش الأرض وننام ريثما تنتهيان ؟؟...من يراكما يظن أنكما عاشقين وليس أم وابنها "

بعد اللقاء الحافل بمشاعر الفرح والاشتياق, اخذنا قسطاً من الراحة وعند اذان المغرب تناولنا فطورنا الرمضاني بأجواء عائلية دافئة....
×
×
×

في اليوم التالي ذهبت مع (سامي) الى شركة أبي حيث يديرها زوج شقيقته وصديقنا (بلال ) بالإضافة لكونه المهندس الرئيسي للبرمجيات وأنظمة الحاسوب اما (أحمد) يكون مدير العلاقات العامة لها ولفرع العاصمة الذي درس خصيصاً هذا المجال بعد أن طلب منه ذلك السيد (سليم الأسمر) .....دخلت الغرفة الرئيسية المقفلة من بعد رحيل أبي ولم يجرؤ أحد على فتحها بطلبٍ مني حتى تكون خاصة لي ولأرتشف منها أنفاس الماضي ورائحته وبصماته...دلفتُ أحاول أن استرجع صورته امامي وهو جالس على كرسيه الفاخر يستقبلني ويضحك لي...اقتربت ولامست الكرسي فطارت أوهامي وتصوراتي .....جلستُ أتحسس كل شيء حولي على مكتبه حتى بصرتُ صورة خاصة مثبتة داخل أطار على مكتبه موجهة لمقعده كي لا يراها غيره ...كنا قد التقطناها في أحد الأعياد ....كانت أمي تجلس على اريكة تشع بحنانها وعشقها وأبي من خلفها يقف يحمل دنيانا على ذراعه ويقرب وجهه منها ليقبّلها وأنا بجواره مبتسماً أضع يداً على كتف أمي والأخرى على ظهر أبي العريض ....مسكتها أمسح غبار الزمن عنها وأتأملها بعينيّ لامعة حنيناً لعبق الماضي وراحة البال...أنظر وأذكر كل حركة لنا فيها بل كل همسة....كم كنا عائلة مميزة بسعادتها وجمالها!!.....تنهدتُ بأسى وأعدتها مكانها طالباً الرحمة لأبي ومحتسباً ممن ظلمنا......اطمأننتُ على أمور الشركة التي بفضل الله ومن ثم السيد (سليم) وأصدقائي عادت أقوى من السابق , تأخذ لها مكانة في عالم الشركات الخاصة برجال الأعمال.....

×
×
×

في طريق عودتنا منها قررنا أنا وصديقي التسوّق لأشتري بعض الهدايا لعائلتي التي لم أجد فرصة لجلبها من تلك البلاد.......بعد شرائي ثلاثة حقائب يد فاخرة لأمي وخالتي وشقيقتي من أحد المجمعات الكبيرة , توجهتُ لدكان بيع الألعاب لأشتري لعبه للصغير وشقيقته (سلوى)...بينما انا ابحث عن هداياهما عدتُ سنوات كثيرة للخلف عندما وقع نظري على دمية بيضاء بشعر أسود حريري وغرة تكسو الجبين وعينين واسعتين سماويتين محاطتين برموش كثيفة والأغرب أنها ترتدي فستاناً باللون السماوي خصره محاطاً بزنّار من القماش الأبيض....كانت كأنها هي!!.....ألْمَتي تجلّت أمامي....تجسدت بطفولتها أثناء زيارتها لمخيمنا المرة الثانية .....سبحان الله كم تشبهها !!....هربتُ منها لأجدها هنا...كأنها إشارات تحذيرية منها بأن لا انساها ......قولوا لها أن المشرّد لا يترك أماكن اللجوء الى حين العثور على وطنه !!..... ..اشتريتها من غير تردد لأهديها لها بعد عودتي بإذن الله....!!

~~~~~~~~~~~~~~~~

انقضى آخر أسبوع من الشهر المبارك وتهيأنا لاستقبال عيد الفطر الذي قررنا امضاءه عند عمتي(لبنى) في بيت السيد (سليم الأسمر) في مدينتهما الأقرب للحدود وكانت هدفنا بهذه الزيارة جدتي أم والدي التي أضعفها المرض ....تلك جدتي التي كانت كالجبل بقوتها وصلابتها وربّت رجلاً بطلاً مغواراً خادماً للدين والوطن بدموع عينيها......كان مصدر فخرها وبفقدانه كُسرت وقفز بصحتها العمر سنوات تسبق جيلها........فرحت بقدومنا وخاصة عند رؤيتها لي كانت كدفعة لتكمل ما تبقّى من حياتها فمنذ طفولتي وهي ترى بي والدي قلباً وقالباً....جلست بجانبها وهي تتحسس من جسدي وعبرات الزمن المطعون تعلق بين ثنايا تجاعيد وجهها...كانت تشدّ على يدي بكفها ...تغمر وجهها عند عنقي وصدري علّها تستنشق مني رائحة ابنها وتشبع شوقها....فأنا الجسد ذاته بطوله الفارع وبنيته العضلية ..العينان نفسها بصفاتها ..حتى ملامح الأنف والفم والحاجبين تشبهه الى حدٍّ كبير باستثناء التغيير الذي طرأ على حاجبي الأيسر....كان الاختلاف في الذقن فأبي ذقنه كان أطول ونابتاً بعشوائية وذقني قصير مهذب مرسوم بإتقان يجعلني أكثر جاذبية...شعري مثله لكن أبي كان يطيله قليلاً أما أنا ملتزماً بحلقه لسببين أولها لتمويه ملامحي عن ملامحه وثانياً هكذا نظامنا بالمعسكر أن يكون الجندي حليق الشعر للتجانس أي ليفقد تفرّده عن الآخرين ويكون جميع الزملاء سواء ....!!

×
×
×

في اليوم الثاني من العيد جلسنا أنا والسيد (سليم الأسمر) نحتسي قهوتنا الصباحية على احدى شرف منزله الكبير .....تبسّم لي بحنان أبوي ثم سألني ومؤكد يعلم الإجابة من مخبريه وأولهم السيد (ماجد):
" كيف هي أمورك مع عائلة الوغد؟!"

أجبتُ بسكون عكس العاصفة التي في داخلي ارتباكاً من الوصول للموضوع نفسه الذي يبدو سيصبح شغلهم الشاغل :
" الى الآن جيدة....لا جديد"

اتكأ بمرفقيه على الطاولة احتضن فنجانه بيديه وهمس بهدوء وحدقتيه تثبتان على وجهي:
" وصلني أنك مهتم بها.."

سألت مستنكراً:
" مهتم بمن؟!"

أجاب ببرود مع ابتسامة مائلة ماكرة على زاوية فمه:
" أنت تعلم جيداً مَن..."
أردف وهو يرجع ظهره للخلف يحرر فنجانه هامساً ببرود قاتل :
" لم يكن هذا اتفاقنا أيها الهادي.."



قلت متأففاً بضيق:
" ما لكم عليّ؟...لمَ تلصقون بي هذه التهم؟!...لمَ تشعرونني كأنني مرتكب جريمة ؟!"

رفع فنجانه لشفتيه يرتشف رشفة ثم ردّ بنفس بروده:
" نرى وقائع لا نتهم....فأنت مهتم بها ولا تسمح لنسمة هواء بجرحها "

شعرتُ بطنين قرب اذنيّ...قطبتُ حاجبيّ مستاءً وزمجرت هاتفاً :
" لا ذنب لها بمخططنا ولن أكون رجلاً ان آذيتها..."

ضمّ قبضته وضرب بها على الطاولة حتى تناثر رذاذ القهوة من فنجانينا وهو يشدّ فكيه على بعضهما ويفتحهما صارخاً بصوته الجهوري مشيراً للداخل :
" لا ذنب لوالدتك لتفقد سندها مبكراً....لا ذنب لدنيا لتتشتت في طفولتها وتتعرض للمخاطر......لا ذنب للصغير شادي الذي كاد يموت قبل أن يعيش بعد أن حرم من حليب امه.....لا ذنب له أنه لا يعرف من والده سوى اسمه......بل لا ذنب لكَ أنت خصيصاً !!....أصبحت رجلاً قبل أوانك.....تحمّلتُ مسؤولية بخلاف أقرانك....متّ وعشت مرات ومرات....حُرمتَ من حلمك الكبير وهو دراستك للهندسة....لا تعلم من أنت ...أأنت يامن ام هادي؟!....فقدت والدك في وقت يكون أكثر ما تحتاجه فيه....تفرّقت عن عائلتك دون أن تعلم هل ستلتقي بهم مجدداً أم ان الموت سيخطف أحدكم .......لا تستطيع اللجوء هناك ولا الاستقرار هنا.....وتقول لي ما ذنبها؟؟!!.......أجبني عن ذنب هؤلاء لأذهب بنفسي وأزفّها إليك عروساً لطول العمر..."

لم يكن بوسعي النطق بأي كلمة بعد أن سقطت أوراقي....هي حقائق اعرفها ولكن بدا لي كأنني أجهلها!!.....هل ألقت بتعويذة عليّ لتعمي بصري وبصيرتي؟!....هل كنتُ على وشك الاستسلام لسحرها دون ادراك لهذا؟!....
ولمّا رآني لذتُ بالصمت ولم أحرّك ساكناً...هتف آمراً:
" جهّز نفسك فجراً لأريك بعض الحقائق لعلّك تصحو من سباتك قبل فوات الأوان.."

رمقته بنظرات فارغة بفعل الصفعات التي تلقيتها فأكمل مهدداً بقسوة:
" لا تنظر اليّ هكذا....اذا لزم الأمر أنا سأقتلع قلبك من بين اضلاعك....فأتمنى أن تدوس عليه بنفسك قبل أن أفعلها.."
هدأ قليلاً وأخذ صوته منحنى آخراً فيه الرقة والحنية:
" هادي يا ولدي....نحن وضعنا آمالنا فيك....لا تدمّرها من أجل امرأة لن تكون لك يوماً...لأنها لو علمت من أنت وما غايتك بالاقتراب منها والارتباط بها ستحرقك بكيدها دون ان تنظر لك مِن خلفها ....أتظن أنها ستترك والدها من أجلك ؟....ان اعتقدت ذلك فهذه ليست سوى أضغاث أحلام استعذ بالله منها ..."

فسحتُ له المجال يقرأ عليّ خطاباته وكلماته تلك...ليس احتراماً وذوقاً مني ولا خوفاً منه...بل لأنني احتضر في داخلي بعد فقدان الأمل بالعلاج....أطلق رصاصته وتركني صريعاً دون أن يمد لي يد العون والإغاثة......فليتصل أحدكم بالإسعاف علّني أسرق من حياتي دقائق أخرى.....!!
لقد جافاني النوم هذه الليلة بعد أن أزعجني عقلي وهو يعيد حرفاً حرفاً من كلامه كي احفظه قبل دخولي الامتحان....
استسلمت أخيراً عيناي مسدلة ستائرها لتسمح لي بالنوم ساعتين قبل دلوف الفجر...!!

~~~~~~~~~~~~~~~~~~

توجهنا للمسجد لصلاة الفجر كلانا ثم عدنا بعدها لنتناول فطورنا وانطلقنا متجهين الى مكان لم يعلمني عنه بعد......بعد نصف ساعة وصلنا الى شركته ودخلنا من مدخلها الرئيسي ثم أخذنا بنزول السلالم حتى وصلنا الى مرآب السيارات الأرضي فأخرج من جيبه مفتاحاً يشبه المفتاح الذي كان بصندوق أبي الصغير الذي استلمته في الماضي من السيد (ماجد)....يمشي بثقة وأنا أتبعه بحذر إلى أن وقفنا أمام خزانة حديدية بارتفاع أقل من مترين , اعتقدتُ أنها خاصة للكهرباء ولكن بعد فتح بابيها بواسطة مفتاحاً آخراً ظهر لي حائطاً خشبياً دون فتحات أو مقابض...دعسَ بضغطة خفيفة على زاويته العليا ليُفتح بسهولة وننزل منه درجتين ثم أخرى باب فتحه لندلف الى غرفة غريبة واسعة نوعاً ما , لم أخمّن من الخارج أنني سأدخل لهكذا مكان !!....كانت بأثاث قديم من طاولة دائرية كبيرة حولها كراسي خشبية باهتة وسرير فراشه مهترئ...كان يعلّق على الحائط لوحاً طباشيرياً يُبنى في الزاوية القريبة منه بيوت للعنكبوت وكانت خزانة خشبية مقفلة فتحها بذات المفتاح الأول...كانت مليئة بالخرائط الملفوفة بأوراقها الأقرب للصفرة بفعل الزمن وملفات تحمل كل المعلومات الخاصة عن الثوار منذ تأسيس الكتيبة الأولى.....أشعل قنديلاً قريباً لافتقاد الغرفة للكهرباء بسبب اهمالها فهي تحتاج لصيانة....أخذ ملفاً طواه بشكل اسطواني ولوّح به قائلاً:
" هذه الغرفة التي ستكون المقر الخاص بك لتخطيط العمليات وحماية الوطن طالما يكون على أرضه الأوغاد حتى يتم تصفيتهم والقضاء عليهم.."

فرَد الملف الذي بيده وبدأ يشير بعشوائية ويشرح لي نجاحات أبي وسيطرته بالميادين وإلى أين وصل بعد جهد جهيد ...كنتُ أصغي مستمتعاً , مفتخراً بهذه الإنجازات التي أعادت الحماس في داخلي بشكل أكبر فهتف في النهاية :
" هل ستصون تعب والدك وتستمر ببنائه أم ستهدمه من أجل امرأة ؟!"

قطبتُ جبيني مستنكراً:
" ما هذا السؤال ؟!"

أعاد كل شيء مكانه ثم هتف آمراً :
" اتبعني"

ركبنا سيارته ليتوجه بنا سائقه خارجاً من أطراف المدينة سالكاً طرقاً وعرة حتى مررنا بطريقٍ لم أنسها وهي التي سلكناها مع السائق الخاص به سابقاً الذي أصيب من غصن بعد ارتطامه بالشجرة ثم سقوط قذيفة عليه أنهت حياته.....مررنا من أمامها وعيناي بقيتا عالقتان فيها رغم ابتعادنا عنها كنتُ أشعر بطعنات متفرّقة بأحشائي وأنا أتذكّر منظره أمامي وهو يحتضر.......بعد ساعة ونصف وصلنا الى منطقة مفتوحة يتوسطها طريق ترابية ضيقة...ثم بدأت تظهر لنا أشجار وبعدها غرف حديدية تتوزع بينها وحركة خفيفة للرجال فسألتُ قبل توقف السيارة:
" ما هذا المكان الأشبه بثكنة عسكرية قديمة وكأنها على زمن الانتداب ؟"

أجاب مبتسماً:
" هي كذلك....هذه الثكنة التي كان مسؤولاً عنها والدك"

هفت قلبي وأنا أتخيل وجوده بينهم بهيبته وسيطرته البطولية.... !!...وبعدما توقفت السيارة قال لي آمراً بحزم :
" ترّجل واتبعني.."

ابتعدنا سيراً على الأقدام نتجه للجهة المعاكسة لهذه الثكنة نغوص بين الأشجار حتى انتهينا بعد ان مشينا خمسة عشر دقيقة ليظهر لنا سهلٌ وعرٌ مليء بالأعشاب والأشواك والصخور وحُفر مختلفة بأحجامها بسبب القذائف وقت التدريبات او وقت القصف من الأعداء....سرنا أكثر نتعمق بالسهل حتى وقفنا في نقطة معينة وصرخ بي بقوة :
" أنظر جيداً حولك..."

نظرتُ كالساذج لا أفقه شيئاً من طلبه فزمجر بصوت ثابت:
" أنظر وإياك أن تنسى هذه البقعة"

فسألتُ ببرود رافعاً احد حاجبيّ:
" لمَ؟"

شدني من ذراعي يقربني الى نقطة أكثر دقة وهتف مشيراً الى الأرض بسبابته واوداجه منتفخة تكاد تنفجر وعيناه كالجمر المشتعل:
" في هذه النقطة بالذات قتل والدك على يد قناص محترف بطلبٍ بارد نجس حاقدٍ من وغد يسمّى عاصي رضا......ماذا يسمّى؟؟....احفظه جيداً......عاصي رضا!!.....الحقير الذي ستسلم قلبك لابنته بسذاجة .."

صمت برهةً واستطرد وانا لم أعد باستطاعتي ابتلاع ريقي بعد أن جفف ماء جسمي بما يقول ويريني :
" هنا خرجت روحه الى بارئها.....هنا احتضر والقناص ينظر ضاحكاً مستمتعاً بانتصاره ليقبض جائزته....هنا تأوه بأنين واستنجد دون أن..."

" يكـــــفي.....يكــــــفي..."
صرختُ مقاطعاً له أغلق أذنيّ بيديّ ثم سقطت بركبتيّ منهاراً على الأرض ابكي وكأن كل مياه جسمي التي جفت فجرّت ينابيع من مقلتيّ وتشنجات متتابعة في عضلات صدري وسائر جسدي ...أتنفس بعنف وأصدر نحيباً لم يخرج مني حتى وأنا صغير....!!

اقتربَ مني بحنوٍ يضع كفه على كتفي ويقبض عليه هامساً بصوت رجولي لطيف:
" تمالك يا بنيّ....لم اجلبك هنا لتبكي على والدك....جلبتك لأوقظك من غفلتك لتنتقم أشدّ انتقام من الخونة الأوغاد..."

اتكأت بكفيّ على الأرض لأساعد نفسي ناهضاً ثم بعنف مسحت دموعي بيدي وقلت وأنا استجمع قواي تاركاً الوجه والحال الذي كنت عليه قبل قليل وهتفت بنبرة رجولية صارمة:
" هيا....ماذا ستريني بعد؟؟"

تبسّم مميلاً طرف شفتيه واقترب يربّت على ظهري كأنني تلميذ مجتهد وهمس بهدوء:
" غداً سنكمل.."

سألت متعجباً بخشونة :
" ولم ليس اليوم؟؟!!...ما زال الوقت مبكراً...."

قال بخفوت:
" تدّبرت موعد زيارة لشخص في السجن....بالكاد وافقوا على يوم غد.."

سألت بفضول:
" من هذا الشخص ؟!"

فأجاب من فوره:
" غداً ستعرف ان شاء الله.....هيا لنعود الى البيت!!."
تضحكان بسعادة وهما تنتقلان من لعبة الى أخرى وسط هذا الاكتظاظ الجماهيري والأجواء المبهجة التي تكون في أيام العيد.....لقد زارتا مدينة الملاهي لترفّها عن نفسيهما بعد ضغط الامتحانات ورحيل شهر رمضان....كان هذا اقتراح وبإصرار من صديقتها (ميار) بعد حوالي أسبوعين من حالة الاكتئاب التي عاشتها (ألمى) بسبب غيابي وعدم تواصلي معها اثناء رحلتي فشجّعتها على الخروج لتعدّل مزاجها ولتهتم بنفسها لاقتراب موعد عودتي كي لا أراها بصورتها الشاحبة ....استجابت لصديقتها متحمّسة , متشوّقة تريد أن تمضي ما تبقّى من ايام بلمح البصر !!....ومع انتهاء هذا اليوم وهو اليوم الثاني من عيد الفطر اتفقتا سوياً للخروج غداً للتسوق ولزيارة صالون التجميل لتتدللا وتهتما ببشرتهما وشعرهما فلم تأتيهما الفرصة قبل العيد بسبب انشغالهما بالجامعة والواجبات والامتحانات......!!
×
×
×

نفذتا اتفاقهما في اليوم التالي ....توجهتا لأكبر المجمعات في المدينة تشتريان ما تريدان وما لا تريدان من اكسسوارات وأشياءً أخرى تخص الفتيات ......وقفت (ألمى) أمام محل لبيع ملابس المحجبات فاستغربت صديقتها سائلة:
" ما بكِ تقفين كالبلهاء أمامه ؟؟"

ضحكت وأجابت:
" بالطبع لا أريد أن أتحجب فأنا ما زلتُ صغيرة...لكنني أردت احداث بعض التغييرات بنمط لباسي اليومي!.."
نظرت الى يمينها نحو صديقتها ثم أعادت عينيها إلى النافذة الزجاجية الكبيرة الخاصة بالمحل تمعن النظر بما يعرض فيها من ملابس محتشمة ثم سألت بذهول :
" أنتِ؟؟!...كيف ولِمَ؟؟....لا أفهم!!"

سحبتها من يدها لتدخلا المحل دون أن تجيبها وبدأت تفتّش بين الرفوف والعلّاقات حتى اختارت بضع قطع لتجربتها وهي مسرورة.....كانت تضعها في سلة بعد أن قامت بقياسها وبدأت تخرج قطعة تلوَ الأخرى وتقول للتي معها :
" سآخذ هذه وهذه وتلك..."

شهقت (ميار) هاتفة باستنكار:
" مجنونة!!...ما هذا الذوق؟؟...انظري كم هي فضفاضة ستخفي جمال جسدك !"

أجابتها ضاحكة :
" أعلم....لكني أفعل هذا من أجله لأفاجئه فطالما علّق على لباسي وانتقده بسبب ضيقه وقصره !!.."

قالت بحيرة:
" صحيح أنه حائط وسيم ويجب فعل ما يرضيه ..لكنك بهذا تصبحين فتاة أخرى أكبر سناً وأقل مستوى...!!"



غمزتها هاتفة بثقة:
" لا يهم....المهم أن يراني كما يحب ...وبعدها بالتأكيد سأقنعه ليتقبّل لباسي المعتاد!!"

بعد أن أنهيتا التسوّق دلفتا الى صالون تجميل تكون (ميار) زبونته فهي تواظب على زيارته لأنها من متتبعي أحدث صيحات الموضة من تسريحات الشعر!!!.....بينما كانت مصففة الشعر تهتم بها وبشعرها...سألت صديقتها التي تنظر إليها :
" ألن تقصي شعرك؟"

أدارت وجهها الى المرآة محتارة ...تلعب بشلالها الأسود برقة ودلال وهمست :
" سأقص غرّتي لقد طالت وأطراف شعري المتقصفة فقط!!"

شجّعتها هاتفة:
" لمَ لا تجرّبين تسريحة جديدة؟...الشعر المتوسط والقصير هو الدارج في هذه الأيام ....انظري الى شعرك يصل الى خاصرتك وأنت بنفسك تشكين لنا صعوبة تسريحه "

ردّت بخجل وعيناها تشع شوقاً :
" لا أريد.....ربما يحب شعري هكذا "

تأففت يائسة منها وقالت:
" أنتِ حرة.."

بعد قليل تنحنحت (ألمى) وهي تصوب عينيها لعينيّ صديقتها في المرآة وقالت :
" ممم....أفكر في ادخال خصل شقراء إليه....ما رأيك؟"

التفتت لها وشعرها ما زال بقبضتي المصففة وأجابت بتعجّب:
" منذ متى تحبين الأشقر؟؟..دائماً تنتقدين لميس لأنها تقوم بصبغه بالأشقر وكنتِ دائمة التباهي بسواد شعرك..!!"

اخفضت عينيها لأصابعها التي تلعب بهم على ذراع الكرسي بتوتر وقالت:
" أراه يميل للون الشعر الأشقر ....يعني أعتقد ذلك!"

أسندت ظهرها مشيرة للمصففة بمتابعة عملها وقالت وهي تنظر لانعكاس صورة صديقتها بالمرآة:
" جرّبي لنرى ألمى الشقراء.."

وضحكت غامزة لها بعد انتهائها من جملتها ثم قالت للمصففة تستشيرها :
" ما رأيك هل يكون جميلاً هذا ؟؟...شعر اسود بخصل شقراء ؟"

أجابتها وهي تقص لها شعرها بمهارة:
" أرى أن تغيّر لون شعرها بالكامل بخلفية كستنائية ثم ادخال له الخصل الذهبية...يكون متناسقاً ومبهراً.."


قالت (ألمى) بتيه واستغراب:
" لكن لون حاجبيّ أسود...لن يكون جميلاً!!"

تبسمت وردّت على الفور:
" سنقوم بتغيير لونهما ايضاً.."

تحمست للمظهر الجديد الذي ستظهر به وبعد لحظات همست سائلة بتوجس:
" ماذا ان لم يعجبني ..او..يعجبه؟!"

أشارت الى رفوف جانبها :
" لا تقلقي...هذه مستحضرات لإزالة الصبغة "
×
×
×

بعد ما يقارب الساعتين من تواجدهما في الصالون ...خرجتا تلعب كلٌّ منهما بشعرها فرحتان بمظهرهما الجديد فهتفت (ألمى) بثقة:
" هذه أول مرة أجازف بشعري...لم اكن أتوقع أن يتغير شكلي لهذه الدرجة !!...أتوّق لرؤية ردة فعله عندما يرى ألمى الشقراء..."


ضحكت وردّت مازحة:
" في الحالتين جميلة وفاتنة لكن سنرى أي طلاء يفضّل حائطك ليدهن به عينيه.."

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

العاصمة لا تبعد كثيراً عن مدينة السيد (سليم الأسمر)....كان موعد زيارتنا للسجن في ساعات العصر وهو خاص بالسجناء الأمنيين والسياسيين ...بالكاد حصل على ساعة لنقابل بها شخصاً الى الآن أجهله !؟...وكان هذا بفضل صديقي (سامي) مع السيد(سليم) بمساعدة اصدقائهم!!....استقبلنا هناك اللواء (جمال) في غرفته احتراماً للسيد (سليم) ومنصبه وبعد المصافحات والقليل من الممازحات ...بدّل نبرة صوته للجد ووجّه كلامه لي آمراً:
" ستدخل الغرفة وحدك ولا أريد أي شوشرة تفتح علينا باب السين والجيم....هذا يعتبر لقاء من تحت الطاولة "

قلت وانا ما زلت تائهاً لا أعلم علاقتي بالموضوع:
" من هذا الذي سأدخل له وما علاقتي به ؟!.."

ضحك وأجاب بصوت جهوري :
" الطيّار!!....هل سمعت به ؟!"

شردت بالفراغ ابحث بين صفحات ذاكرتي وقلت:
" كلا......لا اذكر هذا الاسم!!"

فقال مجدداً:
" منذر حسين الأشوَل؟!"

حرّكت حدقتيّ متابعاً بالبحث في عقلي وأجبت بهدوء بعد برهة:
" في أول بداياتي في المعسكر ذُكر هذا الاسم أمامي ..أعتقد كان مديحاً له بمهارته بالقناصة...شيئاً من هذا القبيل !!"

عبست ملامح السيد (سليم) وقال:
" نعم...ولّقب بالطيّار لأنه يقنص ويختفي طائراً دون ترك أثر"

أضاف اللواء (جمال):
" قُتِل على يده العشرات ....فهو قاتل مأجور يعمل لمن يدفع أكثر ...لا انتماء سياسي له وقبل ست سنوات ألقيَ القبض عليه عندما حاول اغتيال عضو في البرلمان بعد أن وشى عنه شقيقه الذي كان يسير على خطاه ثم تاب بعدها..."

بدأت دمائي تسخن فضولاً فسألت بضيق :
" أريد معرفة علاقتي بالموضوع ...لا شأن لي بتاريخ ذلك المجرم.."

تنهد السيد (سليم) وقال دون مقدمات :
" هو قاتل والدك.."

نطق كلمته لتصل دمائي الساخنة حد الغليان بل الفوران فنهضت بعزم مستقيماً بوقفتي بوجهٍ قاتم مشدود الفكين وعيناي تذرف حقداً صارخاً بقوة :
" اللعين ...سأحرقه ...هيا أدخلوني له !!"

أسند اللواء (جمال) ظهره على كرسيه الجلدي براحة يشبك أصابعه ببعض واضعاً ذراعيه على بطنه البارز هاتفاً ببرود ساحق :
" هذا ليس من ضمن اتفاقنا سيد هادي ....اهدأ لتقابله والّا لعدتُ أدراجك بخفيّ حُنيْن.."

اتجهتُ بحركة جنونية نحو الباب وصرخت:
" لن أهدأ سأقتله....أتفهمان ؟؟....سأقتل ذاك الحقير ..."

هدرَ بي السيد (سليم) قائلاً:
" ماذا جرى لك ؟؟....كفاك تهوّراً وانفعالاً...لم اعهدك هكذا....قل لي ماذا ستستفيد من قتل ميّت في السجن والمجرم الحقيقي , الرأس المدبر , الحاقد ينعم بالحرية والرفاهية في الخارج ؟!"

قبضتُ جبيني برؤوس أناملي أشد عليه , أحاول أن أسكن انفعالاتي والصداع الذي باغتني من صراخي ...زفرتُ أنفاسي ثم استغفرت هاتفاً وأنا أوليهما ظهري:
" كيف عرفتما أنه هو ذاته القناص ؟؟...لقد ذكرتما أنه قبض عليه عندما حاول اغتيال عضو في البرلمان...كيف توصلتما انه هو من ...من قتل والدي؟؟"


التفتُّ لهما فأجاب اللواء (جمال):
" سلّمناه لمحقق يخرج الاعتراف من فم الميّت لكي يعترف بكافة الجرائم التي ارتكبها وكان من ضمنها جريمة قتله لوالدك متحملاً كامل المسؤولية....لكن السيد سليم لم يقتنع أنه هو من خطط ونفذ لوحده فقابله بالسجن وحصل مشادات بينهما ليقرّ عن عاصي لكنه أبى وصمد دون أي اعتراف فقلت للسيد سليم حينها أن..."

قاطعه السيد (سليم):
" أخبرتك أنني أثق بجنودنا الشرفاء وليس بأولئك النجس....محيي الدين رحمه الله قال الحقيقة لطباخ الثوّار كأمانه ليوصلها لي وهذا ما حصل....لن اقتنع بشيء غير ذلك !!...هذا اللعين يكذب لا اعلم السبب لمَ لهذه الدرجة متكتم !!.."

ثبّت بصره إليّ وأضاف بحزم :
" أريدك أن تخرج الاعتراف منه بطريقتك .."

قلت بجفاء:
" ماذا سيفيدنا اعترافه إذا كان لا يجلب ذاك الحقير للسجن؟؟... لأنه لا يوجد بين وطننا وتلك الدولة أي اتفاقية او معاهدة لتسليم مجرمين سياسيين وغيره!! "

قال :
" أنت تعلم أننا نعمل جاهدين على جلبه الى هنا بطريقة أو بأخرى لكن يجب أن تكون الأدلة التي تخص خيانته للدولة والشعب والاختلاسات بين أيدينا لندخله السجن أولاً على ذمة التحقيق بها وهذه مهمتك وبعدها نبدأ بكشف أوراقه ورقة ورقة......نحن لا نملك خيوطاً تخص جريمة والدك والشاهد الوحيد هو الطبّاخ ...فعلينا جلب أدلة أكثر مثل اعتراف هذا اللعين وبعد أن ننجح ان شاء الله بأخذه من الطيّار نستطيع حينها القاء هذه التهمة عليه وهو مسجون لنضغطه ونحصره بها وسنجتث اعترافه رغماً عنه سواء بالسلم أو بالإجبار ..!!.."

أخذتُ شهيقاً وزفرته بقوة هاتفاً:
" حسناً...أريد قراءة ملفه أولاً لمعرفة بعض المعلومات الشخصية عنه "

تبسّم موافقاً اللواء (جمال) ثم ضغط على زر ليدخل أحد العساكر وطلب منه جلب الملف من غرفة الأرشيف ....بعد ربع ساعة جلبه فخرجت لقراءته بهدوء ثم عدت لهما قائلاً بصوت هادئ ثابت :
" أنا جاهز لمقابلته ..."

ضغط مرةً أخرى على الزر ليدخل نفس العسكري وبعد دخوله ناداه ليقول له كلمة في اذنه ثم أمرني باللحاق به.......دلفتُ الى غرفة جدرانها باهتة ورائحة الرطوبة تنتشر بفضائها ...بابها حديدي يأكله الصدأ وفيها شباك زجاجي عازل للصوت فقد صفة الشفافية بسبب البقع الموجودة عليه غالباً منذ قيام الدولة..!!...وبحكم خبرتهم أزالوا الكرسيين والطاولة منها ووضعوا وسادتان لكل منا لنجلس أرضاً من غير أي أدوات بعد أن اخذوا ساعتي وهاتفي وحزامي وحذائي الرياضي....مؤكد احتياطاً من جنوني !!...لكنهم نسوا أخذ يديّ فأنا لستُ بحاجة لأدوات إن قررتُ قتله!!......ربّعتُ ساقيّ على الوسادة وجلت بنظري على زوايا الغرفة الضيقة....لحظات وفُتح الباب فاستدرتُ برأسي وحاولت الحفاظ على هدوئي فور ادخالهم له...كان رجلاً أربعينياً لكن مظهره يوحي لأكبر من ذلك بكثير....ذقنه تنمو بعشوائية لونها بني يخالطها بياض خفيف ووجهه احمر مُنمّش بحاجبين ملتصقين...عيناه بلون ذقنه فيهما نظرة انكسار بعد جبروت وقوة.....شعره حليق أو حتى بدا لي أنه أقرع وليس بسبب تعليمات السجن..!!...عدلتُ جلستي وانا مكاني فاقترب بخطى ثابته يحاول أن يُظهر هيمنته ويخفي انكساره....رسم ابتسامة على زاوية فمه سائلاً بلا مبالاة :
" من أنتَ؟...وماذا تريد مني؟"

تصنّعتُ الضحكة مشيراً له بالجلوس وأنا أكابد للتحكم بأعصابي ففعل وهو يتأمّلني بفضول ينتظر اجابتي وإظهار هويتي التي يسأل عنها...!!...لم أرُدّ فغيّر صيغة سؤاله وهو على حاله يظهر لا مبالاته:
" من هذا الوسيم الذي أراد مقابلتي؟!"

اتكأت بكف يميني على الأرض خلفي وظهري منحني قليلاً للوراء , أضع ساقاً تحتي والآخر اثنيه منتصباً بركبتي أسند ذراعي الأخرى عليها وسألت بكل هدوء مضاد لأعاصير قلبي التي تهبّ لاقتلاع اضلاعي من قوتها :
" من هو عاصي رضا بالنسبة لك ؟!"

تبدّلت ملامحه للشحوب فإنه لم يستطع اخفاءها لكنه أيضاً لم يستسلم وكرر سؤاله بعنجهية :
" من أنت؟....لا أجيب على أي سؤال دون معرفة من امامي "

أجبته ببرود وأنا انظر الى زوايا الغرفة لأقلل من قيمته وأذلّه :
" جئت لأسألك لا لتسألني ..!"

أجاب مكابراً:
" أعتقد أنك أنت من تحتاج أجوبتي لذلك على الأقل عرّف عن نفسك أو اتركني لأعود لزنزانتي !!.."

دنوتُ منه منحنياً بظهري للأمام متكئاً بكف على الأرض والأخرى أمسكه بتلابيب لباسه السجن بعنف وزمجرتُ قائلاً:
" أنا عذابك.... هذه هي هويتي ..!!"

ضحك ساخراً:
" هل ستعذّب ميّت ؟!"

أجبته ساخراً مثله:
" السجن هو قبرك وقتلي لأفراد اسرتك بالبطيء هو عذابك في هذا القبر...ألم تسمع عن عذاب القبر؟!...ما رأيك ؟!"

ارتبك يبتلع ريقه ثم قال بصوت مهزوز :
" ماذا تريد مني ؟!....لا ذنب لعائلتي....اتركهم في حالهم !! "

قلت بثقة قاسية وفي داخلي غير راضي لأن هذا ليس من طبعي التهديد واستخدام الأبرياء لمهامنا :
" اجاباتك هي حمايتهم مني ومن غيري وعنادك هو احضاري في كل زيارة هدية لك... رأس أحدهم ....مممم.....أتحب أن أيَتم اولادك من أمهم أولاً أم أحرق قلبها مثلا على تلك الصغيرة التي تعاني من مرض التوحّد ؟!....."

استطردت بقسوة أشد :
" أو أمنع الدواء عن ابنك الأوسط المصاب بالسكري حتى ينهار..."

أكملت محدقاً بالسقف أدّعي التفكير :
"ما اسمه؟.. ذكرني ؟!!...مجيد ؟؟...مجد؟؟....نعم مجد "

صوبت حدقتيّ عليه بنظرة حارقة وأضفت بنبرة جافة :
" ها أخبرني بمن تحب أن أبدأ ؟!...قل لي لمن تشتاق لأجلب لك رأسه سريعاً "

رفعتُ سبابتي أحركها متوعداً وهتفت بنظرة تحذيرية :
" إعلم أن الذي أمامك قلبه توّزع الى قطع ...ناس سرقوه وناس سحقوه وناس أحرقوه ....لم يتبقَّ لي قطعة منه تنبض كي أشفق على أحد لكن لي عقل يخطط ويدان تنفذان في الحال فاحذرني ولا تلعب معي !!.."

صرخ بعينين غاضبتين يختلط بهما الخوف والارتباك:
" اسأل ما تريد ..."

قلت :
" سؤالي الأول...من هو عاصي رضا بالنسبة لك؟!"

سأل بذكاء :
" من أين أعرف أنك لست من رجاله وجئت لتختبرني ؟!"

هتفت بهدوء :
" هل هو غبي لهذه الدرجة ليبعثني عندك لتدلي بما لديك عنه في سجن أمني مراقب لا تدخله ناموسة ولا يُنطق حرف دون سماعه ومعرفته ؟!...هل سيأتي بالدب لكرمه ؟!"

نكس رأسه للأرض وأجاب بقهر :
" هو شخص خسيس , وغد , ماكر , أناني لا يؤتمن ولا يُصدّق!"

شقّت ثغري ابتسامة ساخرة وسألت:
" لمَ؟...اسمه لامع وله مكانته!!"

قال:
" لامع بالنصب والخداع والقتل ....لقد وعدني اذا جاء يوم ودخلت به السجن سيساعدني ويوكّل أمهر المحامين.....وعند اتصالي به للخارج أنكر معرفته بي وبدأ برفض مكالماتي !!"

سألت :
" ما نوعية العمل الذي بينكما؟!"

تنهّد وهتف:
" هي مرة واحدة فقط!!....لكن حجمها كبير"

اضطربت احشائي وتصاعدت الدماء الى وجهي لأنه يقصد بعبارته تلك مكانة والدي وثمن العملية ...!

قلت آمراً بصوت ثابت:
" أخبرني عنها بالتفصيل !!.."

ردّ وهو يشيح رأسه جانباً هارباً بحدقتيه للحائط:
" لا استطيع...لا يمكنني ذلك!!....لا أخشى على نفسي انما على عائلتي ...سيقتلهم لقد هددني "

شددت فكيّ وبرزت عروقي وقبضتُ عنقه بيميني هادراً بصلابة :
" إن لم يفعل هو سأفعل أنا فور خروجي....هيا اخبرني"

اختنق وجهه وأصدر ألواناً وهو يكابر رافضاً فصفعته وحررتُ عنقه وبدأ يسعل يستعيد أنفاسه ...فصرخت:
" من يكون محيي الدين الشامي ؟!"

جحظت عيناه وأعاد ظهره للوراء وكأن عاصفة خريفية قوية اجتاحت المكان مع هذا الاسم.....تأججت النيران في عروقي فجلجلت الغرفة في صوتي لأنه لم يجب:
" أجبني من يكون ؟؟"


ولمّا لم يرد وكان في حالة جمود قلت بصوت ساكن فيه نبرة سموّ وكبرياء:
" سيدُك محيي الدين الشامي هو والدي.."

ثم لكمته على وجنته قائلاً بصوت مرتفع صارم:
" أتفهم ؟!...هل عقلك استوعب ؟!...أم أفهمك بطرقي الخاصة؟!"

ازدرد لعابه ووضع يده أمام وجهه لحماية نفسه وقال بصوت خائف:
" ليس ذنبي...لا أعرفه شخصياً....أنا....أنا فقط نفّذت ما أراد بعد أن دفع لي مبلغاً كبيراً دون ان اهتم بتاريخ وهوية الضحية..."

لكمة أخرى ألصقتها بفمه وهتفت:
" تنهي حياة انسان من أجل بضعة قروش!!....لو كان بينكما ثأر أو مشكلة ربما عذرناك...لكنك هكذا بكل قسوة ودون ضمير وبقلب ميّت تلطخ يديك ...تخسر
دنياك وآخرتك وتشرّد أبرياء بسبب قروش نتنة لا بركة فيها ...أموال حرام تذهب مع الريح كيفما تأتي!!.."

قال بنبرة ناقمة , حاسدة وحسرة:
" ربما انت وُلدت وبفمك ملعقة ذهب لهذا تلقي خُطبك بسهولة ...أما من عانى الفقر والذل ....من نام لأيام هو وزوجته وأولاده من غير طعام لا يفكر مثلك !!.."

استندت ارضاً على ركبتيّ نصف واقف ومسكته من ياقته بيديّ أهزه وأصيح به ألماً وكُرهاً:
" لو كل من عانى الفقر اصبح قاتلاً لقضى نصف سكان الأرض على النصف الآخر.....تشرّدنا وعانينا القهر والفقر لكن ثقتنا بربنا كبيرة...هو يضعنا بامتحانات يختبر صبرنا وعلى قدر صبرنا يعطينا من خيره ....أما أمثالك يلجؤون الى الشيطان بأنفسهم فماذا ينتظرون غير هذا من العذاب والذل؟؟!!"

نفثتُ أنفاسي المشتعلة بقوة وقلت بأسى:
" لو أنك نبهته عن غدر الوغد له بذمة وضمير لحماك وعائلتك وأعطاك مالاً وعملاً لتعيش بشرف معهم ...لكنك اخترت ان تصبح عبداً للشيطان عاصي رضا.."

أضفت ببرود:
" هيا أخبرني التفاصيل... فها أنت عرفت من أكون وما يمكنني فعله للانتقام لأبي"

تنهدت واستطردت بهدوء :
" اخبرني وأعدك بحمايتهم منه...ثم أنه لن يعلم الّا وهو بالسجن بإذن الله"

طأطأ رأسه بانهزام وهتف بصوت ضعيف :
" زارني مرة في بيتي واقترح عليّ مبلغاً كبيراً...أقبض نصفه قبل العملية والنصف الآخر بعد القضاء عليه ..وشرّط أن أوثّق له ذلك بالصور و..."

كأن السقف انهالَ على رأسي عند سماعي طلبه الدنيء .....أشعر أنني تحت الأنقاض ولا استطيع إزاحة الردم عني ...لا استطيع التنفس ...المكان يخنقني ...فقاطعته أدوي بصوتي علّني أحرر أنفاسي :
" الحــقير...الملعون....لم يكتفِ بقتله ...أراد ايضاً الاستمتاع بصوره.."

نظر اليّ بحذر ووجهه مصفرّ يعتريه الفزع وأكمل:
" أعطاني آلة تصوير صوت وصورة صغيرة...لأنه...لأنه.."

صرخت به:
" لأنه ماذا؟!"

أجاب وجبينه يتصبب عرقاً :
" لأنه يريد التمتع بأنينه وقت الاحتضار...!!"

لا وقت لتمالك الأعصاب ولا للهدوء ...لا مجال لإحكام العقل في هذه اللحظات بعد أن اخترق أذنيّ الكلام عن أحقر وأدنى وأقسى جريمة قتل ....لم يرتوِ من انهاء حياته وحسب!!....بل أراد التمتع بهذه المشاهد متى رغب بذلك وكأنه ذاهب للسينما للترفيه عن نفسه مع عائلته !!....تركتُ عقلي في سباته واستسلمتُ لانفعالاتي لأبدأ بضرب وركل من كان أمامي من غير رحمة حتى ثبتّ فوقه أصفعه صفعات تخفف من غلّي...كيف أرحمه وهو لم يرحم أبي ؟؟!....كيف ؟....كنتُ مصعوقاً وأريد أن أفرّغ شحناتي ...أضرب وأضرب مغشي على بصيرتي ...
" اللعنة عليكما....اللعنة يا نجس يا مجرمان ....سأنهي حياتكما أيها الوغدان.."

أشتم وألكُم...أشتم وألكُم ..وناري تزداد اشتعالاً !!....وضعته هدفاً لي لأخرِج قهر السنين وعذابي عليه ...وما كانت الضربات الا مضاعفة للعذاب داخلي لأني مكبّل بأصفاد المهمة عن قتل ذاك النجس (عاصي) عندما يكون امامي!!...كيف يختبرون صبري عليه ؟!...إلى أي حد يثقون أنني لن انهيه بيديّ؟؟.....عدتُ مركزاً بالذي أثبته تحتي وحاوطت عنقه بيديّ أضغط بإبهاميّ على بلعومه لأسد القصبة الهوائية وأمنع وصول الأوكسجين ولم أعِ الّا بأيدي كثيرة تحاول سحبي وافلاته مني...كان هؤلاء أربعة عساكر سحبوني من فوقه بقوة ولولا دخولهم لخرجت روحه بين يديّ....كنتُ مستشيطاً غضباً , حركاتي عدوانية عنيفة ولم أفكر بأي نتائج وخيمة سأصل اليها...كنت أرى وجه أبي المتألم أمامي ووجه الملعون يبتسم .....لا أستطيع التحمل !!......كأنني مربوط بسيارتين بذراعيّ وساقيّ وبدأتا بالسير باتجاهين متعاكسين ... .أشعر بجسدي انشطر الى قسمين...آهٍ ثم آه...لا غيرَ لي سواك يا الله ....كانوا يحاولون اخراجي وانا أضع كل ثقلي على الأرض أريد أن أعود إليه.....قبل اخراجي من الباب استطعتُ التحرر منهم بكل قوتي ثم اندفعت اليه مجدداً اسأله هاتفاً بحقد :
" أين سلمته آلة التصوير؟!.."

بالكاد استطاع الوقوف بمساعدة احد العساكر ..مسك بيدٍ بطنه وبالأخرى يمسّد على عنقه وأجاب بصعوبة وهو يسعل وفمه يقطر دماً:
" سلّ..سلّمته إياها فـ....في مكتبه الخاص ببيته... الموجود ...في العاصمة هنا !!.."

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

ألقيتُ حقيبتي على السرير العريض في غرفتي ....أنهكني تعب السفر وما عانيت هناك في بلادي الأم...من ينظر لحالي يعتقد أنني كنتُ أخوض معركة ضارية لا لزيارة اهلي....ففوق تعبي ومقابلتي للمجرم (الطيّار) كان الأصعب لحظة فراقي عن عائلتي وأكثر ما يؤلمني هو دموع نبض الحياة أمي الغالية التي تنزل كالماء المغليّ على جلدي......توجّهتُ للاستحمام أمشي بخطى بطيئة واهية قبل أخذِ قسطاً من القيلولة ....فالحمد لله ان موعد رحلة العودة إلى المنفى كان مبكراً وسار دون أي مشاكل أو عقبات......لم أكترث لتلك الحقيبة وما بها ...لم أرسم هدفاً سوى فراشي الأرضي لأرتمي عليه بجسدي فاتحاً ذراعيّ , تاركاً له المجال ليرتاح ويشحن طاقة من جديد.....تركتُ هاتفي مغلقاً حتى إشعارٍ آخر...لا أريد مكالمات تؤرقني وتبدد نومتي من غير شفقة!!...أنا أعلم أن الأعمال الكثيرة تنتظرني في الشركة وأعلم أن عليّ زيارة المقر العسكري خاصتنا ...لا داعي لتذكيري
بذلك ...!!....لكن السبب الأعظم أنني لا أرغب بسماع صوتها ولا قراءة حرفاً منها....فلتنتظر ولترتقب...إذا كانت توّاقة لرؤيتي !!...وإن لم تكن سيكون هذا أفضل لي....!!

×
×
×

بعد قضاء ساعات من نومي لم استيقظ بها الّا لأداء الصلوات جاء وقت المغرب فأيقظتني خالتي لأصليه ولتناول وجبة العشاء ولمّا نزلت الى غرفة الطعام وجدتُ السيد (ماجد) ضيفنا على المائدة فصافحته مرحّباً به وجلستُ لنتشارك طعامنا بجو لطيف نتبادل أحاديثنا العامة !.....بعد انتهائنا طلبت منّا خالتي الانتقال الى غرفة العائلة لتجلب لنا الشاي بنكهة النعناع مع البسكويت البيتي الذي صنعته ورائحته تنتشر في أرجاء البيت.....كنا نشاهد التلفاز ونعلّق على الأخبار التي عرضوها ونحن نحتسي الشاي المنعش فتنحنح من لم يأتِ إلّا لخبر أو طلب قائلاً:
" بعد غد سيقيم المدعو عاصي رضا احتفالاً في بيته لأنه أعاد احدى شركتيه لعصمته فور سداده لدينه من المصرف.."

قلتُ وأنا جالس بأريحية بملابسي البيتية الخفيفة ماسكاً كأسي بيميني وبصري موجهاً للتلفاز:
" والمطلوب ؟!."

قال بهدوء:
" لا بد أنه سيدعوكم بالطبع....عليكم الذهاب دون تملّص وتحجج.."

رفعت حاجبي ناظراً إليه سائلاً بفضول:
" لمَ لنتملّص؟!.."

أجاب:
" لأن هذه النوعية من الحفلات ليست من ثوبنا!!.."

سألت:
" كيف ذلك؟!"

أجاب بازدراء:
" ستكون حفلة مختلطة لا تخلو من العريّ والرقص وكذلك الخمور..."

همستُ ببرود رافضاً:
" إذاً ما من داعي لذهابنا....فليتمتعوا وشياطينهم بمجونهم !!.."


قال بصوت حازم:
" أنت بالتحديد ستذهب !...لا يمكنك الرفض مطلقاً.."

نظر لأبي (إبراهيم) وخالتي يتنازل عن جزء من طلبه متابعاً:
" يعني إبراهيم والسيدة مريم ممكن إيجاد حجّة من اجلهم..."
قلت:
" ما ضرورة ذهابي؟"

" سيكون في الاحتفال نخبة من رجال وسيدات الأعمال ....عليك لفت انتباههم بشتّى الطرق دون أن يشعر ...فها هو سيبدأ بالاستقلالية والاستغناء عن خدماتك بعد عودة شركته هذه.....لذلك لا تعطيه المجال لعقد صفقات كثيرة للنجاح ولِيكون دائماً بحاجتك ذليلاً....عليك سحب البساط من تحته في الحفل"

شردتُ بالفراغ وملامحي ثابتة ثم همست بضيق:
" لا استطيع التواجد بأماكن كهذه ...لا أرضاها لنفسي ولا لتربية أبي لي...والأهم لربي.."

قال بقلة حيلة:
" أعرف أنه صعب....لكن يمكنك الهاء نفسك عن هذه الأشياء ....بالطبع سيطلبون منك مشاركتهم بالشرب وبالنسبة لهم الرفض قلة واجب وإهانة......تحجج بأي شيء ولا تظهر التزامك الديني بعناد...يجب أن تظهر أنك من أبناء جلدتهم....نثق بك دون وضع نقطة سوداء ضدك!"

تأففتُ بضيق مستسلماً وقلت:
" حسناً..سأحاول"

هتف آمراً:
" نفّذ يا هادي لا تحاول....كل طلب لنا هو فرض وليس خيار"

×
×
×

صعدتُ إلى غرفتي بعد سهرتنا القصيرة ودنوتُ من الحقيبة الملقاة فوق السرير ....فتحتها لأرتب أغراضي فخرجت من بينها الدمية (ألمى)...تبدّلت ملامحي للضيق عند رؤيتها فأخرجتها بعنف وقذفتها للحد الذي تصل له يدي فارتطمت بالحائط المقابل لي حيث فراشي الأرضي....مسكتُ هاتفي حائراً أفتحه أو لا أفتحه فألقيته هو الآخر على السرير ليبقى مغلقا ويعزلني عن العالم الخارجي ثم توجّهتُ للزاوية الخاصة بالتلفاز أبحث عن شيء أشاهده علّني أتسلى حتى يزورني النعاس....بعد ساعتين من الملل تيقّنت أن النوم هو الأجمل للمرء للهروب من واقعه ومرارة عيشه ...فقصدتُ فراشي الأرضي متخذاً جانبي الأيمن فوقع نظري على الدمية الثابتة على ألأرض ...سرحتُ بها رغماً عني مبتسماً ...أحدّق بها كأنها تقف أمامي بصورتها منذ سنوات....فجأة شعرت بانقباض قلبي الذي استيقظ من غيبوبة الخيانة للحظات ليساند عقلي في مسيرته...استغليّت هذه اللحظة ونهضت من فوري ...التقطتها من مكانها ذاهباً بها إلى غرفة الملابس ورميتها بالخزانة المغلقة حيث تتواجد الخزنة وعقدها القلب الذهبي وهتفت بضيق وغيظ وأنا اصفع بابها :
" أخرجي من حياتي وقلبي يا ابنة اللعين.."

~~~~~~~~~~~~~~~~~

" خالتي.......خالتي.....اخبريني الصراحة ....أيهما أجمل؟"

قالت جملتها وهي داخلة مندفعة الى غرفة خالتها تحمل فستانين حائرة بينهما .....فنظرت الأخيرة لكليهما وأجابت:
" لمَ لم تشتري فستاناً ساتراً أكثر؟..أخشى ألّا يعجب هذا خطيبك ويفتعل لك مشكلة"

قالت بدلع مستنكرة:
" هذه حفلة خالتي.....يكفي أنني اشتريت ملابساً لم أفكر يوماً بارتدائها وفقط لأجله!!.....لا يعقل أنه معقّد لهذه الدرجة ليمنعني من هذا اللباس بالحفلات"

استدارت تولّيها ظهرها لتضع ملابسها النظيفة التي قامت بطيّها بالدولاب وهتفت:
" البارحة كنتِ غاضبة منه....ما بدّل مزاجك الآن.؟"

أجابت ببراءة:
" كنتُ غاضبة لأنه لم يكلمني أو يبعث لي رسالة بعد عودته لكنه اليوم في الصباح بعث لي واحدة يخبرني أنه كان متعباً وأنه أمضى اليومين الفائتين بالنوم ولم يضع هاتفه بالشاحن.."

تبسّمت وهي تغلق أبواب دولابها وهمست مشيرة لأحد الفساتين:
" ارتدي هذا الأزرق النيلي ...رغم قصره الّا أن أكتافه العريضة وصدره أكثر سترة من الأحمر الذي بدون أكتاف ويكشف صدرك !! .."

تابعت تسأل بحماس:
" وشعري!!...كيف أسرّحه؟"

أجابت باستياء:
" لا تسأليني...فأنت لم تستشيرينا بالتهوّر الذي قمتِ به وأدعي أيضاً ألّا يسبب لك مشكلة معه !"

هتفت واثقة بقرارها:
" سيعجبه خالتي فهو يحب الشقراوات!"

هزّت رأسها ضاحكة رافضة لأفعال صغيرتها وأجابتها مستسلمة:
" سرّحيه تسريحة جانبية لينزل على كتفك وكذلك الغرّة بنفس الاتجاه.."

أمالت جسدها تقبّلها هاتفة:
" شكراً يا أجمل خالة !!"

×
×
×

امتلأ قصرهم بالضيوف المدعوين وهم من أبرز رجال الأعمال والصحافة التابعة له وكان داعماً لها في السابق قبل انهياره....كان من ضمن الضيوف السيد ( رائد السيد) وابنه (صلاح) ...لقد عادا للعمل معاً بعد انقطاع أشهر بسبب سوء وضعيهما...كانت هي تتفتل في أرجاء بهو قصرهم الواسع ترحّب بضيوفهم بحبور وكانت فرحتها ليست لهم إنما تهفو للقائي الليلة......وقفت في زاوية ممسكة بيدها كأساً من عصير الليمون وترتدي فستاناً نيلياً كلوش يصل الى بداية ركبتيها , كتفيه عريضين وفتحة ضيقة عند الصدر , يحيط خصره سرباً من حبات الكريستال الفضي والكعب مثلهن وسرّحت شعرها كما أرشدتها خالتها....التصق بها (صلاح) كالغراء دون أن يعتقها ولحق بهما (كرم) بظله الثقيل.....وصلتُ بيت العنكبوت في حال لا يعلمه الّا الله....كنتُ أشعر بثقل خطواتي وأنا أُقبِل إلى المدخل...لا أود رؤيته بغضاً ولا حتى رؤيتها هروباً وتمنّعاً من سحرها !!....أمضيت الطريق من بيتي لبيتهم وأنا أرجو ربي بأن يلهمني الصبر وكبح جماح غضبي وانفعالاتي وأن يربط قلبي عنها عند مواجهتها....وقفتُ على عتبة الباب ونفخت سموم أنفاسي الحاقدة كي لا أثور...ولجتُ إليهم حاملاً بيدي باقة من أرقى الزهور المنسقة باحترافية... لَيتها كانت لتوضع على قبره مع أنه لا يستحقها وإن كان ميتاً.!!...كنتُ أرتدي حلّة سوداء وكذلك القميص مثلها ولَيت هذه ايضاً ارتديتها لقدومي لبيت عزائه !!....لم أسمح لعينيّ بالبحث عنها وسط هذا الجمع من الناس لكنها هي صادتني بسماءيها فشهقت مذهولة تضع كفها على فمها وتمتمت دون أن يسمعها من معها :
" ربااه...ما هذه الوسامة القادمة إلينا ؟!!"

عند دخولي كان الجو ساكناً من الموسيقى وفقط تُسمع أصوات همسات وهمزات ولمزات مجتمعهم المنافق .....اتجهتُ بكل عزة وكبرياء نحو المغضوب عليه لأسلمه الباقة واهنئه برياء مجبرٌ عليه ....بدأ يتباهى بي كصهر له بين أصدقائه ومعارفه وطبعاً هذا ليس حباً إنما ليستخدم مكانتي أنا وأبي (إبراهيم)..!!.....من لم يعرفني سابقاً بدأ يقترب مني لنتعارف وصار يأخذنا الحديث بين الشرق والغرب ونجحتُ بذكاء بلفت الأنظار نحوي حتى أصبح رقم هاتفي المحمول وشركتنا مع قسم كبير منهم ليزوروني بنية العمل ....!!....مع أنني جاهدت لأنشغل عن التفكير بها الّا أن خائني من بين نبضاته ذكرني بها متسائلاً باستغراب لمَ لم تظهر لي الى الآن ؟!.....وما اخرجني من دقيقة الخيانة هو إقبال ثلاث سيدات نحوي لمتابعة وصلة التعارف....كانتا اثنتين تبدوان في سن الخمسين وواحدة في الثلاثين ....شعرت بحاجتي للتقيؤ من لباسهن الفاضح لكني تحكّمت باضطراب معدتي...عند وصولهن إليّ مدت احداهن يدها لتصافحني فوضعتُ يدي على صدري وغمزتها هامساً بتصنع:
" اعذريني سيدتي ...وعدتُ خطيبتي الّا ألمس غيرها ...لا يمكنني اخلاف وعدي "

ضحكت بصوت عالي ودلع تظن نفسها مراهقة وأخذت الموقف برحابة صدر وقالت :
" محظوظة ابنة السيد عاصي أن ترتبط برجلٍ وسيم ومخلصٍ مثلك....انقرض هذا النوع من الرجال..!!.."

وأكملن بأحاديث تافهة يتخللها عبارات غزل لي وأنا أجاملهن وضحكاتهن تعلو ولحظات حتى وصلني الصوت العذب من مدمّرتي :
" عن اذنكن....احتاج خطيبي لدقائق !"

تبسّمتُ لهن مستأذناً دون الالتفات نحوها لأني أجاهد بشق الأنفس الّا اصطدم بعينيها اللتين بسببهما بدأت أشعر بخفقات التمرد داخلي من الخائن الذي يحاول الانقلاب ضدي !!...... لن أسمح له وسأنشر جنود الحراسة في سائر جسدي لقمع هذا التمرد !...لم أكن ألمح سوى لونين نيلي وأبيض فنجح قلبي بإسقاط عقلي ليجعله يأمرني بالنظر لها بعد أن استوعبتُ ان الأبيض هو ساقيها العاريتين واستعديتُ لأنزل عليها وابل من البهادل وما إن ثبتت حدقتيّ عليها تسمّرتُ مكاني مذهولاً مما رأيت وبقيت ثواني معدودة هكذا وهي توزّع ابتساماتها بحياء وتزيح خصلة من غرتها الشقراء وقعت على عينها ثم همست بغنج :
" ما رأيك بلون شعري؟!"

لم أجبها فقالت وهي ترفع ذقنها بعلياء معتزة به:
" جميل..اليس كذلك؟"

أجبتها بسؤال قاطباً جبيني بغيظ وما زلت على صدمتي بشقارها ولم اعلّق بعد:
" ما هذا اللباس العاري الرديء أمام الرجال؟"

عبست بدلال وهتفت برقة وهي تدفع كتفي بنعومة بكف يدها :
" لا تكن معقّداً.....ماذا سأرتدي للاحتفال !"

قبل أن أنزل بغاراتي قاطعنا ابن زوجة ابيها وهو يقف بيننا يمسك كأسين من الخمر قائلاً:
" هيا ألمى...صلاح ينتظر لبدء التحدي......خذي كأسك "

ناولها إياه وأخذته بقلة إدراك ثم سبقها عند (صلاح) ...رأت نظراتي الناريّة فارتبكت وتنحنحت هاربة بعينيها الى الأرض هامسة:
" كنا.....كنا نتسلى إلى حين بدء الاحتفال...فـ ..فاقترح علينا كرم هذا التحدي لأننا لم نجربه من قبل....سنتسابق من يستطيع شربه دفعة واحدة .."

اتسعت عيناها واتسع معهما فمها بحماس وأضافت :
" ما رأيك أن تشاركنا التحدي ؟!"

ومع انتهاء اقتراحها اقترب النجس مني يمسك هو الآخر كأسين ويمد احداهما نحوي هاتفاً بضحكته الملعونة :
" خذ كأسك وتعال لأعرفك على السيد وليد كناوي صاحب أكبر شركة لتصدير الأقمشة.."

استغفرت بسري وأملت زاوية فمي بابتسامة كاذبة وقلت:
" اعذرني...لدي قرحة معدة...الطبيب منعني !"

أرخى يده الممتدة وقال:
" زال البأس...هيا اتبعني"

تبعته دون أن أعير الواقفة أي اهتمام فتأففت تضرب كعبها بالأرض الرخامية بحركتها الطفولية ثم ابتسمت متنهدة هامسة:
" لقد أنقذني مجيء أبي من غضبه الظاهر في عينيه"

عادت الى مكانها تقف مع (كرم )و(صلاح) وأنا انخرطت مع ضيوفه مجدداً أتمم مهمتي بإظهار دهائي واستراتيجيتي بمكر وأكسب المزيد من صفقات العمل !!...بعد حوالي ساعة من الاستقبالات والتعارف أخذ كل شخص مكانه ليلقي المستضيف كلمته المثيرة للاشمئزاز وبعدها صدحت نغمات الموسيقى الكلاسيكية لمن يريد الاسترخاء أو الرقص ...كنتُ اقف أسجل حضور في جسدي لكني شارد الذهن... عزلت عقلي الى عالم الاستغفار والتسبيحات فاقتربت تقاطع انعزالي ضاحكة ببلاهة قائلة:
" هل ترقص معي ؟!"

خطت خطوة أخرى ولم يفصلنا سوى سنتمترات فاخترقت أنفي رائحة الخمور تفيح منها فهتفتُ باستحقار مصدوماً:
" هل شربتِ الخمر ؟!"

رفعت الوسطى والسبابة بيمينها وضحكت بغنج وميوعة هاتفة :
" فقط اثنان ونصف ....وخسرت التحدي!"

انتفخت اوداجي والتهبت عيناي غضباً واستنكاراً ثم مسكتُ ذراعها بقوة وسحبتها خلسة أصعد بها السلالم قاصداً غرفتها....فتحت الباب وأغلقته بقدمي من خلفي ثم دفعتها ألقيها على سريرها مزمجراً بازدراء وأرميها بنظرات تحقير من قدميها لرأسها وكأني أرى جيفة أمامي وقلت بصوت خفيض قاسي جداً :
" أنتِ تثيرين اشمئزازي....لباسك فاضح...سلوكك مخزي....رائحتك نتنة بفعل الخمور....وزيدي على هذا لون شعرك الذي جعلك كالساحرة العجوز...ماذا تظنين نفسك ؟!"

رفعت القسم العلوي من جسدها وهي تتكئ على مرفقيها ووجهها صبغ بالأحمر القاتم وغامت سماءها وهمست بصوت مخنوق يستعد للبكاء:
" أنا أثير اشمئزازك؟؟....هل هذا تعبيرك عن اشتياقك لي كما ادّعيت قبل سفرك ؟!....غيرت لون شعري من أجلك...لأنك تحب الشقراوات ."

صرخت بنفس ملامح الازدراء:
" من أين تعلمين ماذا احب وماذا أكره ؟...كيف تحكمين عليّ؟"

تابعت بنبرة محطمة :
" أراك تنتبه للشقراوات...و...وكنت تنعت ابنة صديقك بدميتي الشقراء...وظـ..ظننت..."

قاطعتها ضاحكاً بسخرية ومع كل كلمة أخرجها أطلق رصاصة على روحي ..لكني مجبر...مرغم...عليّ أن اقسو عليها وعلى نفسي :
" يا لك من مسكينة...هل تغارين من طفلة؟!....كما انك كيف تقارنين نفسك مع تلك البريئة الطاهرة ؟...ها...اخبريني!.."

علا صوتي بغلظة وشدّة:
"..اخبريني ما هذا القرف الذي أنتِ به؟!..."

عدّلت جلستها وهي تبكي بحرقة بعد انفجارها صارخة :
" اصمت ...اردت ان اعجبك لكنك لا تستحق .."

حرقتني بحريقها فقلت ممسكاً بمعصمها أهزّها:
" أنت غبية....غبية....تعجبيني بطبيعتك....بشعرك الليلي...بعفويتك ...بحركاتك ......أما أنا الآن لا أرى أمامي ألمى ....اصبحت واحدة أخرى بلونك المزيف....قتلتِ براءتك بشربك ما حرّم الله علينا !!....حمقاء لا تثقين بنفسك وتسمحين لمن كان ان يتلاعب بكِ"

تسارعت نبضاتها وتلاحقت أنفاسها وصدرها يعلو ويهبط انفعالاً وبيدها الأخرى تمسح عينيها اللتين سال منهما ما وضعت عليهما من زينة فحررتُ يدها راجعاً خطوة الى الخلف فنهضت بعزم ودنت مني ...عدتُ خطوة وهي تقترب أكثر وعلى هذا المنوال حتى حشرتني بين الباب ومكتبتها وأغلقت جانبيّ خصري بيديها الممدودتين على الحائط خلفي وقالت حانقة بوجهها المبعثر وصوتها الفتّاك كلاماً مغايراً لما كنا عليه:
" لمَ لم تكلمني أسبوعين كاملين ؟!..ها؟....لمَ لم تسأل عني ولم لم ترد على رسائلي مع انك كنت تقرأها ؟!"

يا ربي ...أنا بماذا وهي بماذا ؟...قسماً بريئة ....طفلة بجسد أنثى....أشكّ أن دمائها مختلطة بدمائه ..!!....صبراً يا هادي ....استمرّ ولا تضعف...تذكّر فقط أنها ابنة ( عاصي رضا ) المجرم النجس.....!!

تحديّت نفسي بأن انظر إليها دون أن أتأثر بقربها ...جمعتُ الأرض بالسماء لثواني ولما شعرت أني سأحلّق بسماءيها المحمرّتين مستسلماً... دفعتها بخفة وأجبت استمر بقسوتي كدرع حماية من فتنتها:
" أكلمك واسأل متى أريد أنا....أرد على رسائلك حسب مزاجي.....أنا من أقرر هذا.....ثم اذهبي استحمّي أفضل لكِ لأن رائحتك لا تطاق..."

رجعت خطوة للخلف محرجة وأسدلت أهدابها وهي تحجب شفتيها بأناملها هامسة :
" كفى...لا تجرحني!"

شعرت برغبة جامحة بضمها لحضني ...بالتربيت عليها...بأخذ يدها ونُصحِها ...وبـ....بتقبيل شفتيها وعينيها وبالتهامها كلها على بعضها ....مثيرة للشفقة ومثيرة بجمالها.....تباً لها ولهم ....ايّ ورطة أنا بها ؟!...آه منكِ يا مدمّرتي وآه من معركتي...!!...

كادت ملامحها المنهزمة أن تهزمني لكني عزمتُ على التقدم بشراستي فأكملت ببرود مصطنع وأنا أشير بسبابتي من الأسفل للأعلى عليها وأتذكر رؤيتي لها تقف ضاحكة بجانب البغيض الذي استفز غيرتي:
" وهذا اللباس من الأفضل أن تتركيه...الّا اذا كنتِ تودين لفت الأنظار لتجمعي حولك الرجال كالكلاب الضالة الجائعة ...ممم....أمثال حبيب القلب صلاح.."

اتسعت عيناها بذهول لثواني ثم قطبت حاجبيها وحدقتيها ترتجفان غيظاً ...ابتلعت ريقها وهتفت وهي تشير للخارج:
" أخرج برة...أنت متخلّف...معقّد....أنا ارتديت من أجلك وكل شيء فعلته من أجلك....لكنك حائط لا تفهم ولا تشعر ....ما أغباني .!!..."

تسابقت دموعها بالقفز الى الهاوية وأكملت صارخة بصوت موجوع وهي تدفعني:
" هيا اخرج....لا اريد رؤيتك....لا يمكنني التعامل مع متقلبي المزاج...اخرج"

مسكتُ يديها وأعدتها الى السرير من خلفها حتى جعلتها تستلقي للخلف بجسدها العلوي وقدميها على الأرض وثبتّ كفيها قرب رأسها بكفيّ وأنا أنحني فوقها وهي تتململ لتنهض ثم داعبتُ عنقها قرب أذنها بأنفي لأثيرها وهمست بأنفاسي التي نثرت القشعريرة على بدنها مهدداً:
" اسمعيني يا حلوة....سأخرج لأني أريد هذا....أما أنتِ إياك النزول قبل أن تنتهي حفلتكم اللعينة تلك .."

حاولت افلات يديها وبدأت تحرّك رأسها بعنف بعد أن كانت شبه خاضعة وردت بتحدٍّ وغضب:
" سأنزل لا شأن لك بي.....ابتعد عني والّا سأخبر أبي بذلك.."

حررتها وانتصبتُ بوقفتي عائدا للخلف متراً وقلت متهكماً:
" أرجوكِ لا تخبريه....سأبكي خوفاً الآن"

استشاطت مغتاظة وقذفتني بمخدتها وهي تجزّ على أسنانها فلقفتها واحتضنتها أشمّ أريج عطرها الملتصق بها الذي يذيبني ويعبث بمشاعري ثم تصنعت الاشمئزاز منها هاتفاً لاستفزازها وانا ألقيها عليها:
" يـع.....رائحة عطرك عالقة بها "

وقبل أن أسمع أي تعليق أو أرأف لأوجاعها , تركتها صافعاً الباب خلفي....مشيتُ خطوتين ثم استدرتُ نحو غرفتها واقفاً ....لقطتُ أنفاسي وتنهدتُ من أعماقي ...تأملت بابها بأسى ...كانت معركتي معها مضنية لأعصابي , مؤلمة لروحي , مبكية لقلبي ...همستُ متمتماً :
" هذه ضريبة أفعال والدك وهذه هي حياتك معي ألمتي....لكِ الله.... يا حبيبتي "

نزلت السلالم برخاوة واستأذنت الحقير برقيّ مزيّف وركبت سيارتي متوجهاً الى الساحل أشكو للبحر همومي وأروي له قصة عشقي البائسة....!!

~~~~~~~~~~~~~~~~~

" أصبحنا وأصبح الملكُ لله ....خير أيها الغليظ ؟!"

رددتُ على اتصال صديقي (سامي) فور دخولي مكتبي في الشركة صباحاً...فقال متحمساً:
" لم أنم من فرط السعادة قلت لتعرف مني الخبر قبل غيري !"

جلست على أريكة ومددت احدى قدماي للطاولة وقلت :
" الحمد لله أن أحدنا سعيد على الأقل .....هيا اتحفني بما عندك !"

رد مفتخراً بنفسه :
" أقنعت عقل الضفدعة وحددنا موعد الزفاف....بارك لنا يا صاحبي "

هتفت متفاجئاً :
" متى ان شاء الله ؟!.."

قال مبتهجاً كالطالب الذي ينتظر موعد رحلته المدرسية :
" بعد شهرين بإذن الله في منتصف الخريف..."


" ماذا ؟؟...بهذه السرعة ؟!.....ظننتُ بعد عرس بلال أي بعد سنة تقريباً !"


هتف شامتاً:
" ذاك البلبل كان متباهياً بنفسه أنه أقنع عروسه وأمها بزواجه القريب لكني سحقته ونلتُ الصدارة...غار مني المسكين!....العقبى لك .."

ضحكت وقلت :
" وكيف أقنعت ضفدعتك ؟!.."

" هيــه...هذه أسرار عروسين خاصة... لمَ سأطلعك عليها ؟!"

رد بغلاظة ثم ضحك وأردف متنهداً هيماناً:
" الحُب وآه من الحُب يا صديقي ..."

قلت شاتماً بمزاح:
" ما أغلظك...سمج....إخجل قليلاً واحترمني ...أنا شقيقها كيف تتباهى بحبها أمامي؟ "

رد يغيظني :
" عروسي حلالي وأنا حر ...اتغزل بها ..أشتمها ...أقبّـ..."

قاطعته بغيرة عليها :
" أصمت...فعلاً غليظ بوقاحة...لا تتمادى.. سأقتلك "

تذكرت فجأة وأردفت :
" أيها الثعلب المخادع ....الآن تذكّرت....خدعتها باختيارك أن يكون الفرح بيوم مولدها....يا لك من ماكر ..."

أطلق قهقهته المستفزة وقال:
" هيـه ليس هذا فقط ...لا تنسَ السر بجاذبيتي وشخصيتي المؤثرة على عالم حواء....لقد أوقعتها بالفخ.....المهم كنتُ سأدعوك لفرحنا لكني غيرتُ رأيي....أخشى أن تأخذ ضفدعتي ليلة الدخلة مني ! "

ضحكتْ فتابع بجدية مصطنعة:
" هيا وأنت استعجل لتلهي نفسك عني وتعتقني ....أنا أخطط لتعبئة البيت بالضفادع الصغيرة ...سأجعلها تفقس البيض بوقت قياسي.....اللــــه ما أجمل صغاري وهم يقفزون من كل زاوية.....لذا لا أريدك أن تقف لي بالمرصاد ...ثم لنرى من سيأتي لعيوش بالحفيد الأول.."

استرسلت بالضحك مجاملاً له ثم تنهدت وقلت :
" أكثرَ الله من ضفادعك ...أما حلمك من أجلي فهو بعيد المنال....لن نخدع أنفسنا ...أنت تعلم ماهيّة زواجي ! "

" اذاً اسرع من انهاء المهمة لنجد لك عروساً تليق بك وتستقر معنا ثم تجلب لنا وليّ العهد محيي الدين الثاني.."

آاه يا صديقي لا تعلم أن صديقك لا يرى غيرها منذ سنوات.!!....كنتُ أرى كل العيون تتشابه أمامي الّا سماءيها مميزتين , فريدتين... وحدهما تلاحقاني في كل مكان...أنام واصحو عليهما.....ما كان عليّ أن أحتفظ بتلك الأمانة الأشبه باللعنة!.....لقد ألقت تعويذتها بعينيها وجعلتني مربّطاً بها...ضعيفاً إزاءها ... أنتَ لا تدري اين أغرق وماذا أعاني ؟!....فأنا وخائني نتفق أننا لا نريد سواها....إما هي زوجتي أو يا مرحبا بحياة العزوبية....!

" هيـه...هادي ..أين ذهبت ؟!"


تنحنحت مجيباً:
" ها أنا معك سامي.."

صمتّ لوهلة وأضفت:
" ليتمم الله لكما على خير يا عريسنا الغالي ....نتكلم لاحقاً بالتفاصيل ان شاء الله.."

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

" ســتتزوج!!"
خرج هذا الأمر من مكبر الصوت على الهاتف أمامنا نحن الثلاثة في الشركة بعد أن أطلقها بكل هدوء وثبات بينما كنتُ أنا أجلس وكأنني أشاهد مباراة كرة قدم , مستمتعاً بها بين الجمهور حتى ارتطمت هذه الكلمة كالكرة بوجهي فجأة وبقوة على غفلة ..!!

فسألتُ فوراً مستغرباً:
" كيف؟!...هي لم تتم العشرين وكان هذا الاتفاق !!"

أجاب من الطرف الآخر :
" هادي يا ولدي ...هل سننتظر اتفاقياتهم وشروطهم؟...عليك تحديد موعد الزفاف في أقرب وقت .."

وزعتُ نظري بين الجالسيْن معي ثم وجهتُ كلمتي للسيد(ماجد):
" سيد ماجد ...تدخّل...لمَ أنت صامت؟"

أجاب ببرود:
" الكلمة للسيد سليم.."

تأففت وقلت:
" كلمته على رأسي ...لكن لمَ الاستعجال اذا كان بإمكاننا تنفيذ بعض المخططات من غير زواج ؟!"

ضرب جملته عبر الهاتف بسخرية:
" ممَ تخاف يا ابن محيي الدين ؟؟....أم ما زلت متعاطفاً مع من لا ذنب لها ؟!
أجبتُ بضيق:
" لستُ متعاطفاً مع أحد لكني لم أتوقع أن يكون زواجي بهذه السرعة!!"

قال ابي (إبراهيم) مازحاً بجرأة:
" أحمق...ستكون دميتك بين يديك...افعل بها ما يحلو لك .....فهي حلالك "

هتف السيد (سليم) متهكماً :
" أخشى يا إبراهيم أن تلعب هي به كما يحلو لها ..."
ثم وجّه كلامه إليّ:
" ستكون زوجتك وفي بيتك ليس من حقنا منعك عنها ....نحن رجال ونفهم بعضنا......لكن إياك يا ولدي أن تسلّمها قلبك ...حبّك لها سيضعفك... سيجعلك تتنازل من أجلها!!....قُم بإنهاء مهمتك بأسرع وقت لتتحرر......الطيّار قدّم لنا خدمة لنتحرك بعجَلة عندما كشف عن مسألة الة التصوير....كنت أظن فقط أننا سنأخذ ملفات وأوراق ترسله إلى الجحيم !!.......يعني عليك دخول بيت العاصمة بأي طريقة وهذا لا يتم إن لم تكن زوجها رسمياً لتتصرف بأريحية دون قيود أو شبهات..."

ضربت بقبضتي ذراع الكرسي وزمجرتُ بغيظ هاتفاً:
" ما هذا الهراء الذي تتكلمون به؟!...ماذا تظنونني؟!...لن ألمسها بتاتاً وسأفعل ما عليّ فعله ....لا حاجة لهذه التّرّهات التي تتفوهون بها ....أخبرني متى الزفاف؟!...أريد أن أرتاح من هذه المهمة المعقّدة.."

قال بصوته الجهوري:
" بالطبع علمت أن زواج شقيقتك بعد شهرين .....القرار لك تريد قبلها أو بعدها"

أجبت من فوري:
" بعدها.....لا أريد الانشغال بشيء عن فرحها....هي الأهم.."

" إذاً ليكون بعد شهر من زفافها لتحلّ أمورك!.."

قلت متأففاً على مضض:
" حسناً...ان شاء الله"

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

انقضى أسبوع من بعد حفلتهم الماجنة ونحن متخاصمان لا نتواصل مع بعضنا...لا أدري ما وضعها وكيف أمضته؟!....في هذه الأيام حاولت أشغل نفسي بالعمل وزرت المعسكر مرة...أريد أن أتعافى من حُبها...لكني لم أجد الدواء المناسب ...لو علمت بوجوده في آخر الدنيا لذهبت دون تردد......
قُربها ذنبٌ وبُعدها عذاب.!!....معضلتي لا تُحل ببضع سطور أو كتاب....ساعدني وارأف بحالي يا رب الأرباب ....
عُدتُ هذا اليوم من عملي في المساء وتوجهتُ إلى غرفتي لأبدّل ملابسي فرَنّ هاتفي قبل تبديلها وإذ به اتصال من السيدة (إيمان)....غريب!!...لا حديث مباشر بيننا !! ....بعد السلام والتحية والإكرام بدا لي من صوتها أنها مرتبكة وقد أصبتُ بحدسي عندما طلبت مني زيارتها بشكل عاجل ...نفّذت طلبها ذاهباً برفقة خالتي (مريم) لأنها تسكن لوحدها ولا يمكنني الاختلاء بها....استقبلتنا وادخلتنا بيتها بملامح وجلة وبشرة شاحبة...يبدو عليها أنها عانت ساعات طويلة من البكاء...فسألتُ بتوجس وأنا أتأمل ملامحها :
" عساه خيراً سيدة إيمان ؟!"

نكست رأسها وأجهشت بالبكاء فاقتربت منها خالتي ووضعت يدها فوق كفها الموضوعة على فخذها وهمست بقلق:
" ما بكِ سيدة إيمان ؟!...اخبرينا علّنا نستطيع المساعدة "

رفعت رأسها بقلة حيلة ووجهها محتقن بالحمرة...مسحت دموعها وقالت بصوت مرتعش:
" لم أعرف لمن الجأ بعد أن نزل عليّ هذا الخبر كالصاعقة....اعذراني اقلقتكما معي....لكنكما الأقرب لنا..."

قلت بقلق:
" أي خبر سيدة ايمان؟...ماذا حصل ؟"

شدّت شفتيها بلَوعة وعيناها غارقة بالدموع ثم نظرت إليّ وأجابت بألم:
" البارحة علمنا أن فاتن مصابة بورم سرطاني في دماغها.."

ثم تابعت نشيجها بحرقة وانضمت لها خالتي كذلك وهي تحوقل وتقول:
" يا الله.....مسكينة فاتن.....الله يشفيها"

كنتُ أنا في حالة ذهول مما سمعت ...صحيح لقاءاتي بها قليلة الّا أنني احترمها ولها مكانة خاصة عندي ...فهي ثابرت بمساعدتنا بكل ما تطال يداها....إنها امرأة مضحية , صامدة , حكيمة , مخلصة لوطنها....لها نضالات وبصمات لا تنسى ولا يمكننا نكرانها ....وغير كل هذا أنا أعلم كم أن (ألمى) متعلقة بها لأبعد حدود...يا ترى ماذا ستكون ردة فعلها عند علمها بذلك ؟!.......همست سائلاً بأسى متأثراً من الخبر :
" كيف حالها ؟!..ماذا فعلت عند معرفتها بهذا؟"

تنهدت بعمق وأجابت:
" ما شاء الله ...هي أقوى مني ومؤمنة بقضاء الله.....أنا حاولتُ الثبات أمامها لكني أمضيتُ الليلة الفائتة واليوم وأنا مكاني كأنني مقيدة...لم استطع الذهاب لعملي ولا فعل أي شيء آخر.....اتصلتُ بكم ...لا اعلم ماذا افعل من أجلها....وهي لا تريد ان تعلم أحد من أهل بيتها "

صمتت برهةً...كفكفت دمعاتها وحدّقت بي بنظرة فيها الرجاء وهمست بين الخجل والحزن:
" لا حق لي بذلك...لكن...يعني لو أنكما.."

قلت أشجعها للاستمرار بكلامها:
" تفضلي سيدة ايمان أنا جاهز لأي شيء يمكنني تقديمه"

رسمت بسمة امتنان بين آلامها وتابعت:
" لو أنكما تتزوجان أنت وألمى في القريب العاجل.....يعني لا تؤاخذني على تطفلي......لكن عند معرفتها بالخبر لم يخرج منها غير * يا رب أرني صغيرتي في فستان الزفاف وفي بيت زوجها لأطمئن عليها قبل أن أموت *.....كان هذا دعاءها لربها .....لو علمت أنني طلبتُ منك ذلك ستخاصمني ...لكنني لم أتحمل....أريد أن تذوق الفرح ....كما أن ربما هذا يساعدها على العلاج....فالنفسية المرتاحة أكثر ما يحتاجه المريض ليتقبّل جسده الدواء ويتماثل للشفاء....الدعم والمساندة في هذه الحالات مهم...ماذا سيكون أجمل من رؤيتها لابنة شقيقتها عروساً وخصوصاً لك ليرتاح بالها ...كم هي متفائلة لحياة صغيرتها معك....تنتظر هذا اليوم على أحرّ من الجمر كي تنشلها من الظلمات الى النور...تصبو بأن تتغيّر على يدك وأن تعوضها ما فقدت من حياتها السابقة في بيت والدها ..!...تضع ثقتها وأملها فيك من بعد ربنا ونحن نعلم مَن انت ومِن صُلب مَن خرجت.."

مسكينة السيدة (فاتن)...هل تظن أنها ستضعها بين أيدي أمينة ؟!.....لو تعلم أنني لن اعتبرها زوجة ولن أعاملها وفق ذلك وحتى لربما أقسو عليها لما وافقت على مساعدتنا لا من أجل والدها ولا من أجل الوطن!!.....هذه أحلامها البريئة مِن حُسنِ نيتها ....لِمَ أُوضَع بهذه المواقف المحرجة ؟!..هل لأجلِد نفسي أكثر ؟!....لا القلب مرتاح ولا الضمير مرتاح ........سنرى ما تقدّمه لنا الأيام ....أدعو ربي أن يرشدني الى الطريق الصحيح ...لا أظلِم ولا أُظلَم...!!

جلسنا ساعة عندها نواسيها دون أن نخبرها بقرارنا عن الزواج لأن هذا ما زال بيننا فقط ولم يخرج عن دائرتنا.....!!

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

التحضيرات على قدمٍ وساق في منزلنا الجبليّ في بلاد الأم ...قد كان من المقرر إن تزوج صديقي قبل إتمام مهمتي أن يقيم في بيتنا حتى عودتي ان شاء الله....لذا بدؤا بتجهيز غرفة الضيوف في الطابق الأرضي لتكون غرفتهما....هي غرفة رحبة فيها شرفة صغيرة تطلّ على الفناء الخلفي للبيت حيث منظر الغابات الجبلية القريبة وفيها حمام خاص....سيقوم (سامي) بطلائها وتأثيثها من جديد ....مشكور صديقي وأهله فرغم أن بيته جاهز بجانب بيتهم الّا أنهم لم يعارضوا على اقامته في بيتنا مؤقتاً!......كيف سأردّ له هذا المعروف الذي أحفره بدمي ولن أنساه ما حييت ؟!....أرادت أمي والخالة ( أم سلمى ) الذهاب للمدينة المجاورة المشهورة بأسواقها للتسوق من أجل بعض الأغراض التي تخص جهاز العروس ثم لرؤية أقمشة تخيطانها ليوم الفرح فتبرّع صديقنا (بلال) بأخذهما بعد انتهاء عمله بعد الظهر وطبعاً لا بد من اصطحاب خطيبته معه وشقيقتها وكذلك التصق بهم صغيرنا (شادي) وبقيت (دنيا) في البيت لأن لا موقع لها من الاعراب بينهم وأيضاً وكّلتها والدتي بالاعتناء في البيت كترتيبه وتنظيفه وغسل الأواني الخاصة بوجبة الغداء .....مضت ساعات قليلة وشقيقتي تعمل وتتذمر بين الفينة والأخرى وحتى ندمت لمَ لم ترافقهم لتهرب من هذه الأعمال التي تكرهها؟!.....تلك المدينة كانت تبعُد مسافة ساعة ونصف عن مدينتنا فعندما اقتربت الشمس من الغروب وما زال أولئك يغوصون في الأسواق ...اتصلت أمي بصهرها العزيز ليذهب الى البيت بعد انتهاء دوامه لأنه الى حين وصولهم سيكون الوقت بعد العِشاء ولا تريد أن تبقى ابنتها لوحدها في هذا البيت الكبير ....!!....لم تكُن (دنيا) تدري بطلب والدتنا فبينما كانت تقوم بطيّ الغسيل في الأعلى لتضعه في أماكنه ...قرع جرس الباب....نزلت لتفتحه وكان الوقت بين المغرب والعشاء ...
" مَن على الباب ؟!"

" افتحي ..هذا أنا "

فتحته مستغربة مع اتساع عينيها المستنكرة وهمست :
" سامي ؟!.."

حملق بها بغلاظة وقال:
" ما بكِ كأنكِ رأيت شبحاً أمامك ؟! "

تنحنحت وقالت:
" لم تقل أنك آتٍ .....لذا استغربت...هل انتهت ورديتك؟! ! "

رفع يده الممسكة بكيس وغمزها قائلاً :
" هربت وجئت لأتعشى مع حبيبتي ...هل عندك مانع ؟! "

تبسّمت بخجل وهمست :
" تفضل.."

دلف وأغلق الباب ..دنا منها وهتف بمكر:
" تفضل هكذا لوحدها دُنيتي؟!.."

همست بدلع تنهره وهي تبعد عينيها عنه بحياء:
" سامــي!!.."

اقترب أكثر وحاصرها بذراعيه عند قرنة الباب وهمس بصوت رخيم:
" يا روح سامي "

حاولت الهرب من تحت ذراعه فأمسكها وقال :
" قولي أي كلمة لقلبي يا عينيّ الشهد حتى أحررك .."

رفعت حاجبيها تعني لا تريد القول فأحنى رأسه إليها ليقرّب أذنه عند فمها ينتظر أي كلمة حلوة منها وهمس :
" هيا...ما زلتُ أنتظر...لن أتزحزح قبل سماعها "

تعاقبت أنفاسها وتوهّجت وجنتيها من التصاقه بها مع رائحته التي تدمنها لكنها باتت تحفظه جيداً وتعلم أنه بئر من غير قاع ولن يحلّ عنها اذا أسمعته شيئاً يدغدغ قلبه وسيطمع بالمزيد......لذا لقطت أنفاسها والصقت شفتيها بأذنه ثم بمكر وكيّد النساء عضته منها لينشغل بأوجاعه وفرّت هاربة منه.....وضع يده على أذنه التي احمرّت متألماً ومتأوهاً وهددّ هاتفاً:
" سأريكِ أيتها الضفدعة الجبلية.."
ولحق بها فوجدها جالسة في غرفة المعيشة عند التلفاز....وضع الكيس على الطاولة وزلف منها قائلاً:
" العقاب يزداد....اذا تأخرتِ سيتضاعف لا شأن لي..."

فزّت منقضة على الكيس تفتحه هاتفة بهروب :
" ماذا أحضرت لنا.؟!...أكاد أموت جوعاً.."

سحبه بخفة من يدها وأرجعه خلف ظهره وقال:
" وأنا أموتُ حباً...اعطني الحُب لأعطيكِ الطعام...تبادل مصالح !...هيا.."

وقفت كالتلميذة المطيعة المؤدبة ورفعت سبابتها بوجنتيها المتوردتين وعينيها البراقتين وقالت:
" واحدة فقط....لا تطمع!.."

" كلا....كلمة ... وقبلة تكفير عن العضة....لن أتنازل... "

" اووف سامي...لا تتغالظ....كنتُ أمزح معك....ماذا ستترك ليوم الفرح ؟!"

غمزها بخباثة مبتسماً وقال:
" وهل تعتقدين أنني سأكتفي بهذا حبيبتي ؟!.."

جحظت عيناها وسألت:
" ماذا تقصد بقولك ؟!"

اعاد الكيس على الطاولة وجلس على الأريكة وأجاب:
" اتركي ماذا أقصد الآن ....سأشرح لكِ لاحقاً....إن نطقت حرفاً لن تأكلي وستحبسين نفسك بالغرفة.....هيا اقتربي لنأكل... سيبرد.....تنازلت عن القبلة حالياً لكن لا تبخلي عليّ بكلمة من بين شفتيك..."

جلست بجانبه ..ناولها سندويشتها ثم أخرج خاصته ...سمّى بالله وقضم منها أما هي قبل أن تبدأ الأكل ..انحنت قليلاً نحوه تقترب من أذنه وهمست بصوت ناعم وأنفاسها تلعب بمشاعره :
" أحبك يا أشقري..."
ثم قبّلته من خدّه وعدّلت جلستها لتأكل....علقت اللقمة بحلقه من صدمته...أخذ بالسعال فبدأت تضرب على ظهره مفزوعة وبعد أن ابتلعها هتف :
" سامحك الله... كدتِ تقتلينني....يعني بالله عليكِ هل وجدتِ هذه اللحظة لتفعلي هذا بي وأنا منذ الصباح أطلبها منكِ..."

عبست ملامحها ووضعت ما بيدها على الطاولة ثم فزّت وولّته ظهرها لتذهب زعلانة لكنه بسرعة وضع ساندويشته جانباً وأمسك يدها يجذبها لتقع في حضنه وهمس بحب وحنية :
" أمزح يا حياتي .."
ثم قبّلها من جبينها وساعدها بالنهوض عن حجره لتجلس جانبه تكمل طعامها....!!....بعد أن شبعا ....لملمت البقايا واتجهت لتلقيها في صندوق النفايات في المطبخ ولما دخلته صفعت جبينها عندما انتبهت أنها نسيت غسل الأواني...ارتبكت احشاؤها ونظرت للساعة على حائط المطبخ وكانت السابعة وخمس واربعين دقيقة...أدركها الوقت!!...ستأتي أمي وتوبخها والأصعب أن هذا الفيلم سيكون أمام حبيبها لتضيع هيبتها ...!!....خرجت من المطبخ واتجهت نحو السلالم وفجأة وصله صوتها تصرخ متألمة...هبّ من مكانه كالنمر ذاهباً إليها خائفاً عليها...وصلها فوجدها تقف على قدم وترفع الأخرى تمسك كاحلها وتتأوه فهمس بوجل:
" ما بكِ حبيبتي ؟...ماذا جرى؟!"

ردت بصوت متقطع موجوعة:
" تـ...تعثرت بهذه السجادة..... التي تصر أمي....آه...على وضعها أمام السلالم ....آي...تؤلمني!.."

أمسك ذراعها برفق وهمس بعطف:
" تعالي حبيبتي لتجلسي ونرى ....هل آخذك على العيادة ؟!.."

" أي...كلا ..لا أريد...ستتحسن...سأذهب لغسل الأواني ....لقد نسيتهم..!!.."

قال ينهاها بشفقة:
" أي أواني ...إنسي....تعالي وارتاحي.."

ردّت بقهر:
" لا يمكن...ستغضب أمي وتوبخني!.."

لم يصغِ لها...حملها على ذراعيه دون سابق انذار وأدخلها لغرفة المعيشة...وضعها على الأريكة وقرّب الطاولة لتمد رجلها ....وهمس:
" ابقي هكذا...سنرى ...ان لم يخفّ الألم سآخذك للعيادة....سلامتك يا عينيّ الشهد.."

اومأت برأسها خاضعة....جحظت عيناها عندما رأته يفك أزرار قميصه الخاص بزيّ الشرطة وهتفت بذهول:
" ماذا تفعل؟!.."

وضع القميص على ظهر الاريكة بجانبها وكان يرتدي تحته بلوزة قطنية سوداء بأكتاف عريضة دون أكمام وقال :
" سأغسل الأواني.."

سرحت ثواني بعضلاته البارزة ولما انتبهت لنفسها تململت لتقوم وقالت رافضة:
" كلا ...كلا...أنا سأغسلهم.."

ثبّتها مكانها وقال بتصميم:
" لا تعاندي....ابقي مكانك....أنا محترف بغسل الأواني....لقد انتقموا منا بكلية الشرطة !!.."

وافقت على مضض ....تركها أمام التلفاز وذهب يباشر في عمله قبل أن تداهمهما أمي.....بعد نصف ساعة قرع جرس الباب ...فتحه ليجد حماته وابنها فشهقت عند رؤيتها مظهره هاتفة :
" ماذا تفعل بنيّ....ما هذا المنظر؟!.."

كان يرتدي مريول المطبخ ويديه غارقتان برغوة سائل تنظيف الأواني وكان قد حكّ انفه فترك أثراً وأصبح كالمهرّج بأنفٍ أبيض....وبقعة متوسطة من الكلور طُبعت على بنطاله الكحلي الخاص بزيّ الشرطة قرب الركبة دون أن ينتبه .....مسح جبينه بذراعه وأجاب:
" لا شيء عيوش....دنيا تعثرت ويبدو ان كاحلها التوى ...حرام...قررتُ مساعدتها....ثم سامحك الله لمَ تضعين هذه السجادة هناك...هل تريدين أن تسلميني عروسي مضروبة ؟!!"
نظرت لساعة يدها وهتفت بغيظ:
" هل تعثرت بالسجادة الموضوعة أمام السلالم؟؟"

" أجل!"

" هل تعثرت الساعة الثامنة الّا عشر دقائق؟!"

اتسعت عيناه مندهشاً وسأل باستنكار :
" عيوش....هل تضعين الآت مراقبة أم تتعاملين مع الجن ؟!...بسم الله بسم الله....كيف عرفتِ.؟!.."

تنهدت وأجابت:
" آه يا ولدي الساذج ....تدير مركز شرطة بالكامل وتكشف أمهر وأدهى المجرمين ....وعند ابنتي تفقد عقلك ولا تستطيع تشغيل هذه البطيخة التي تحملها ؟!..."

" ماذا تعنين ؟!"

" أعني أنها خدعتك.....لقد فعلتها بي عند متابعتها لمسلسلها السابق ...كان يوم عرض الحلقة الأخيرة في الثامنة مساءً ولمّا طلبتُ منها غسل أواني وجبة العشاء ادّعت انها تعثرت قبل أن يبدأ بعشر دقائق وبنفس المكان على تلك السجادة لكنها لاحقاً ندمت واخبرتني لتعتذر لأنها كذبت....وها هي اليوم فعلتها معك...فلقد علمنا من سلمى أن اليوم عرض الحلقة الأخيرة للمسلسل الثاني الذي تتابعانه وقد طلبت من دنيا تسجيل الحلقة لها لأنها اضطرت للذهاب معنا......عزيزي سامي المسكين!.....ابتعد... سأربيها تلك المدللة..."

احمرّ وجهه محرجاً ...فتاة تخدعه؟!!...كيف فاتته هذه الكذبة ؟!...ما موقفه في هيئة الأمم المتحدة ؟!!....عندما يذهب للبيت ويروا بقعة الكلور ماذا سيخبرهم ؟!...هل سيقول لهم قام بالقبض على تاجر أدوات تنظيف؟!.....ضاع منصبه وضاع اعتباره!!..وضاع بنطاله!!...أخذ شهيقاً وزفره بهدوء وقال :
" اتركي هذه المهمة لي....إن لم أجعل تلك الضفدعة تقفز أمتاراً....سأتنازل عن مركزي..!!"
" اتركي هذه المهمة لي....إن لم أجعل تلك الضفدعة تقفز أمتاراً....سأتنازل عن مركزي..!!"

صرّح (سامي) بجملته ثم انحنى يلتقط الأكياس الكثيرة الموضوعة بجانب أمي وأخي مما اشتريا من تسوقهما ليساعدهما على ادخالها ....كانت (دنيا) غارقة في الحلقة الأخيرة من مسلسلها تخرج عيناها قلوب لمشاهد البطلين الرومانسية تارةً ثم تضحك لمشهد آخر...بل تبكي ايضاً وتعيش الدور بسذاجة وهي تتناول من المكسرات التي وضعها لها بطبق مشفقاً عليها لتتسلى وتنسى الآم كاحلها وذلك قبل أن يشرع بغسل الأواني!!....عند اغلاقه للباب خلفهما أشار لهما بسبابته الّا يصدرا صوتاً وأن يصعدا للأعلى ولما استدارت والدتي لتطيعه في طلبه همس بصوت خافت ملسوع من حماقته :
" عيوش.!!"

التفتت اليه برأسها ليكمل بنفس الصوت وهو يعمل حركة بيده كأنه يكتب شيء بالهواء:
" سجّلي لي قائمة بكل القنوات التي تعرض مسلسلاتها تلك .."

ضحكت ضحكة مكتومة وهزّت رأسها ثم صعدت للأعلى أما شقيقي (شادي) ظلّ عنده وسأل بخباثة يستفزه :
" هل سيخاف منك المجرمون ان ذهبت إليهم بهذا المنظر ؟! أم سيسخرون ويقولون خطيبته جعلته يغسل الصحون ولن يضعوا لك اعتباراً ؟!.."
استفزّ رجولته فضربه على عنقه بخفة وهمس:
" لا تحرضني ايها الضفدع.!!...اخبرني ....ما هو نوع المسلسل الذي تشاهده شقيقتك الضفدعة ؟!.."

اتكأ على الحائط بمرفقه براحة مع امالة خفيفة بجسده فقابله صديقي يفعل مثله ليكمل استجوابه عندما أجاب الصغير:
" لا اتابع معها لكني رأيتُ مرة مشهد للبطل في حلبة ملاكمة وكانت دنيا منفعلة تريده أن يهزم خصمه.......بصراحة له هيبة بعضلاته ...."

استقام بوقفته وأشار لصدره وبطنه مردفاً:
" خصوصاً عضلات صدره وبطنه....بطل خارق!."

توهّج المستمع غيرة فقال بتباهي وهو ينتصب بوقفته ويشير لجسده العلوي :
" تقصد مثل عضلاتي ؟!.."

رمقه بنظرة تفحصية ثم لوى فمه بتشكك وأجاب:
" أظن أن عضلاته أكبر قليلاً.."

صفعة ثانية انزلها على عنقه وهو شاتماً ومتهكماً من غيظه:
" ذاك السافل لا تغتر بعضلاته المنفوخة ...هذا كله بفعل الفيتامينات للعرض فقط وخداع عقول الفتيات الساذجات..!....ليس مثل عضلاتنا طبيعية من التدريبات!....اخبرني ماذا تشاهد ايضاً في مسلسلها ؟!.."

فكّر قليلا وقال:
" سمعتها هي وسلمى تتحدثان عن مشهد اعتراف البطل للبطلة بحبه كم كان مذهلاً ورومانسياً لا مثيل له .."

تخيّل المشهد امامه وهو متأكد ان هذا الاعتراف لحقه قبلة طويلة كتلك التي أعطاها إياها بالمشفى ولن ينسى طعمها وروعتها الى الآن فاشتعل بداخله اكثر من غيرته لكنه هتف بهدوء وشماتة يريد ان يطمئن أن ليس وحده المغفل بالقصة ولا يدري ماذا تتابع خطيبته :
" وذاك البلبل المسكين يعلم ما تشاهدان أم أنه مثلي ؟َ!"

" لا أظن لأني سمعت سلمى تقول إن سمعني بلال سيغضب لأنه يغار كثيراً..."

عندما أخذ ما يريد من معلومات وارتاح أن صديقه مغفل مثله ...زجره هاتفاً بصوت منخفض:
" هيـه .!!..لمَ تسترق السمع وتنقل الكلام أيها الشبر ونصف ..الا تعلم ان هذا حرام وعيب ؟؟!.."

حدّجه ببلاهة وقال بنبرة مرتفعة قليلاً:
" صوتهما كان مرتفعاً وأنت سألتني ..ما ذنبي انا الآن؟!.."

وضع سبابته على شفتيه وهمس:
" ششش...اخفض صوتك واصعد الى الأعلى ."

بعد أن اختفى (شادي) بين درجات السلالم توجّه (سامي) الى غرفة المعيشة حيث تجلس المخادعة مستمتعة بانتصارها عليه وعندما وقف على الباب ..نظرت له ببراءة لا تشبه فعلتها وهمست برقة تذيبه وساقها ما زال ممدوداً على الطاولة :
" مَن كان على الباب حبيبي ؟!.."

هل وقتها الان أن تنعته بكلمة تعزف على أوتار قلبه بكل حب ودلال ؟!.......شرد يفكر! ....إما أن يستعيد منصبه وهيبته الآن أو سيصبح سجين عشقها بحماقة ان خضع لكلمتها !!....

رفع يديه بتأهّب كإشارة لها بالبقاء على وضعها واتسعت عيناه فأصابها الوجل من ملامحه وقرون استشعاراتها اخبرتها بوجود خطر يحيط بها فهمست وهي تبتلع ريقها :
" ما بكَ سامي ؟!..اخبرني من كان على الباب"

أجاب بتحذير :
" لا تتحركي ...ابقي كما أنتِ.....حجمه ليس كبيراً كثيراً..."

جحظت عيناها ولم تعد باستطاعتها ابتلاع ريقها وهمست بصوت جاف خوفاً:
" عمّـ...عمّا تـ...تتحدث ؟!.."

ألقى كلمته ببرود وهو يلج للداخل اكثر :
" الصرصور ذو الشوارب !!...خلفك على ظهر الأريكة .."

لا يعلم اذا اشتركت سابقاً في الأولمبياد....او كانت فرساً في نادي الفروسية للقفز على الحواجز!!....لكن ما رآه من سرعة وطلاقة في اجتيازها الطاولة وصعودها السلالم حقاً أدهشه وفكر بمنحها جائزة على هذه الموهبة.!!....وتأكد أنه لم يخطئ ابداً بتسميتها الضفدعة ....!!
بعد أن اختفت عن الأنظار واصطدامها بشقيقنا في الأعلى ....ذهب هو الى مكان جلوسها...مسكَ جهاز التحكم...مد رجليه على الطاولة بسكون ووضع طبق المكسرات في حضنه يتناول منه بلذّة ...راقب دقيقتين المسلسل ليرى البطل الخارق ولما ظهر على الشاشة لوى فمه باشمئزاز وتمتم " ليس أوسم مني ...بل يبدو قصيراً " ثم بدأ بتشفير وحظر القناة التي كانت تشاهدها......مرتّ خمس دقائق فوصله صوتها من أعلى السلالم :
" سامـــي....هل قتلته ؟!.."

" ليس بعد!!.... طار ودخل تحت طاولة التلفاز.....نادي شادي ليساعدني "

نزل له أخي مثل البرق فقال:
" هيا اربط جهاز الألعاب الالكترونية بالتلفاز لنلعب معاً ساعة زمنية قبل ذهابي .."

وهكذا ضاعت أهم حلقة من مسلسلها وانتقم لبنطاله وهو يخبرها كلّما سألت من بعيد خلال لعبه بلعبة الحرب الالكترونية ان البحث ما زال جارياً عن الكائن المرعب الغير موجود اساساً.......لقد طبّق عليها العين بالعين والسن بالسن والبادئ أظلم...!!

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

كان يوم جمعة وهو يوم عطلتي من العمل والذي انهض به متأخراً قبل الصلاة بوقت لا بأس به بعد أن أشبع حاجتي للنوم......غسلتُ وجهي وارتديت بنطالاً رياضياً طويلاً باللون الأزرق وبلوزة نصف كم بيضاء قاصداً الذهاب للركض على الساحل.....نزلتُ السلالم بعد أن تعطرتُ وأخذتُ سماعات الأذن خاصتي وتوجهتُ الى المطبخ لأخذ قنينة ماء فتوقفتُ متسمراً مكاني على بابه بعد رؤيتي للشعر الأسود المتناثر على ظهر الكرسي ومقابلاً له وجه خالتي المضيء ببسمة حنان ولمّا رأتني همست:
" تعال يامن...جاءت ألمى لزيارتي..."

تنحنحت وتقدّمت للداخل أكثر ببرود مع أن قلبي سيقفز لرؤياها وهمست:
" أهلاً....كيف حالك ؟!"

كان هذا لقاؤنا بعد أيام عديدة من احتفالهم الماجن والتي قضيناها برسائل فقيرة بيننا ...
أجابت دون النظر اتجاهي وبنفس البرود:
" ممتازة....بأفضل حال"

قلت:
"جيد"
ثم توجهتُ للثلاجة لأخرج الزجاجة ووجّهتُ كلامي لخالتي:
" أنا خارج للساحل ..لن أتأخر...سأعود قبل الصلاة ان شاء الله.."

رمتني بابتسامة محرجة من ضيفتها لأنني سأتركها لكنها قالت :
" في أمان الله بنيّ.."

وما إن وليّتُ ظهري وخرجت من المطبخ لحقت بي مندفعة بغل تمسك ذراعي وتسأل بألم:
" ماذا فعلت لك؟!...لمَ تعاملني هكذا؟"

نظرتُ ليدها الممسكة بذراعي ثم إلى سمائها وقلت بهدوء قاتل:
" لا شيء...هكذا أنا....أتركي يدي.."

شدّت قبضتها الناعمة وهمست بعنفوان وكبرياء:
" أتيتُ إلى هنا لأطلب من السيد إبراهيم إنهاء علاقتنا ما دمت لا تنظر لوجهي وتشمئز مني......الأفضل لنا الانفصال.."

أملتُ فمي بضحكة باردة ساخرة وأنا أمسك يدها القابضة على ذراعي أُبعدها برقة هامساً:
" لا تتعبي نفسك...لا سلطة لأحد عليّ...أتزوجك أو أطلقك هذا قراري وحدي.."

توهّجت وجنتاها احمراراً من الغيظ ومعهما أنفها ودمعت حدقتاها وقالت:
" مغرور...أنا لا أريد الزواج منك....أنت مصاب بالانفصام ...اذهب وتعالج..."


تبسّمت وحككتُ مؤخرة رأسي وعيناي مسلّطة عليها وهمست:
" سأفكر بالموضوع بعد الزواج..."

زمّت شفتيها بحنق وأشاحت وجهها الى الجانب الآخر متمتمة:
" في حلمك نتزوج.."

تابعتُ بنفس الابتسامة ثم أمرتُ بلطف:
" انتظريني هنا....سآتي في الحال.."
وتركتها صاعداً الى الأعلى لأبدل بنطالي إلى جينز أزرق ثم نزلتُ أحمل كيساً بيدي وهي تنظر ببلاهة لي ولِما أحمله ولمّا وصلتها مسكتُ ذراعها ورفعتُ صوتي لخالتي الموجودة في المطبخ وأنا أسحبها:
" خالتي نحن خارجان...لا تقلقي علينا..."

وصلنا السيارة فتحتها وركبتُ قبلها هاتفاً لها بالصعود ....رفعت كتفها رافضة كالأطفال فترجلتُ ودفعتها برفق لمقعدها ثم أغلقت الباب وانطلقتُ وهي تشتم بالإنجليزية فقلتُ ناظراً للأمام:
" عليكِ تعلم الصينية أو الهندية لتشتمي براحة.."

لم تعلّق وظلّت تنظر للخارج صامتة ووجهها يظهر عليه الغليان فقلتُ بهدوء دون الالتفات اليها:
" فتاة مطيعة...أعدتِ لون شعرك وغيرتِ نمط لباسك....أحسنتِ تستحقين هدية.."

زفرت أنفاسها وهي تنظر من نافذتها الجانبية وقالت بعناد:
" أعدته لأني أنا أريد أما اللباس لا تظن من أجلك...هذا ما جاء بيدي عندما كنتُ على عجلة من أمري وسألقيه في النفايات فور وصولي..."

ضحكتُ بتهكم ثم أملتُ جسدي الى يميني ومددتُ ذراعي خلف كرسيها وعيناي على الطريق وهي تراقبني بحذر حتى وصلتُ للكيس الذي ألقيته على فخذيها حال امساكه فسألت بتعالي دون أن تلمسه:
" ما هذا؟ لماذا تضعه في حضني؟!.."

قلت آمراً بصوت خفيض:
" افتحيه....هذه هديتك من السفر..."

أطلقت ضحكة بصوتٍ عالٍ بأسى حتى دمعت عيناها وهتفت بغصة مستنكرة:
" هديتي من السفر؟...بعد أيام طويلة؟...هل كانت كل هذه الفترة بالميناء؟....لا أعلم كيف تفكر أنت؟.."

ضحكت وقلت بتباهٍ:
" هل انتظرتِ هديتي لهذه الدرجة؟"

أجابت بحنق وابتسامة مزيّفة:
" صدقاً لا أفهم كيف تكون رجل أعمال ناجح وأنت بهذه الشخصية...مزاجيّ...غامض....تود عني بشوق وتستقبلني بكره .....أيا ترى هكذا معاملتك مع زبائنك وموظفيك ايضاً؟؟..."

تنهدت وأضافت:
" اذا كنت كذلك ستخسر الكثير لا محالة.."
وحملت الكيس دون أن تفتحه وألقته في حضني هاتفة بجفاء:
" فلتبقَ هديتك لك....لا احتاجها..."
×
×
×

دخلنا ساحة قصرهم بعد دقائق والكيس ما زال في حضني وما إن أغلقت المحرّك نزلت تسبقني الى الداخل بخطى غاضبة فتبعتها حاملاً الكيس ولمّا اجتزت عتبة بابهم الذي أبقته مفتوحاً وجدتُ زوجة أبيها الأفعى تستقبلني بابتسامة خبيثة وحدقتاها تبرقان بشماتة وحقد بعد أن استشفّت من حركة الغاضبة وجود تماس بيننا وهذا أحبّ ما عليها فسألتها بازدراء:
" أين السيد عاصي؟"

أجابت بخباثة:
" خرج الى غداء عمل وسيعود في المساء.."

مسحتُ شعري للوراء متأففاً وقلت:
" اذاً سأعود في المساء....اخبريه بذلك"
ثم اجتزتها لاحقاً المدللة المشتعلة صاعداً السلالم بخطوات واسعة حتى وصلت غرفتها وطرقت طرقة خفيفة وفتحت الباب دون انتظار اذنها فرمقتني بغيظ وهي تكتّف ذراعيها على صدرها ....اقتربتُ وقلت لها وأنا ألقي ما في يدي على الفراش خاصتها بلطف وهمست:
" لا ذنب للهدية بغضبك....أتمنى ألّا تخرجي جنونك بها..."
وتركتها نازلاً السلالم كخطواتي وانا صاعده ثم خرجتُ من البيت منطلقاً بسيارتي.....
×
×
×

دخلت خالتها الى غرفتها تنظر لها بتوجّس وهمست متسائلة:
" ما به يامن خرج كالإعصار دون القاء التحية ؟؟"

ردّت وهي تنظر للخارج من نافذتها بضيق:
" هكذا هو....يعاملني حسب مزاجه .....أجزم أن لديه انفصام بالشخصية "

تبسمت بحنوٍ ودنت منها تضع يديها على كتفيها من خلفها وهمست برقة:
" صبراً صغيرتي....هكذا هم الرجال لا تستطيعين قراءتهم بسهولة ان لم يفصحوا بنفسهم عمّا في صدورهم....لا تعلمي ما يصارع بداخله فلربما ضغط العمل والمسؤوليات يتصرّف بهذه الطريقة .....عندما تكونين عنده ستعرفينه اكثر وتفهمينه .."

" تعبت يا خالتي ...لمَ كُتب لي الّا يدوم عليّ الفرح والهناء؟......منذ طفولتي وسعادتي ناقصة.....أكاد أبتهج بشيء وقبل ان يكتمل يومي أصدم دون التمتع به.."

قالت كلماتها بعد ان استدارت نحو خالتها مقتربة منها ترمي رأسها على صدرها وعيناها مليئة بالدموع فأحاطتها بذراعيها وهي تمسح على ظهرها بعطف وقالت لها :
" ستفرحين عزيزتي ان شاء الله فقط قولي يارب لعلّ فرج الله قريب.."
وأكملت في سرها " ستفرحين عندما تكونين بأحضان مَن تمنيتِ منذ سنين "....

وقعَ نظرها وهي ترفع رأسها عن صدر خالتها على الكيس المُلقى على سريرها فتحررت منها ببطء واتجهت صوبه قائلة:
"انظري....جلب لي هدية رجوعه من السفر بعد اكثر من أسبوعين....أيعقل هذا؟!.."

ضحكت السيدة(فاتن) واقتربت منها تدخل عليها بعض المرح:
" أراكِ لم تفتحيها بعد....ألم يصبك الفضول؟"

قالت بكذب:
" كلا....ماذا ستكون غير ملابس صلاة مثلاً لأخرج بها؟"

ضحكت وانحنت قليلاً تحمل الكيس وهزته هاتفة:
" لا اعتقد ذلك ....غير انه لو فكر بهذا يكون افضل علّك تسجدين لربك قبل فوات الأوان.."


تأففت متهربة وقالت بلا مبالاة:
" افتحيها انت لنرى..."

ابتسمت وهمست بمكر:
" لا استطيع...ممكن ان يكون شيئاً خاصاً جداً.."

رفعت حاجبيها وتوسعت عيناها مستفسرة ببراءة:
" خاص؟!...مثل ماذا؟."

غمزتها واجابت:
" ممم...مثلاً شيء ترتدينه له بعد زفافكما..."

نظرت بسذاجة وقالت بعفوية:
" اذاً عدنا لملابس الصلاة..."

تنهدت متعبة من سذاجتها وهتفت:
" صغيرتي الحمقاء البريئة....كقمصان النوم مثلاً..!!.."

شهقت تغطي فمها بيدها محرجة واصطبغ وجهها بالحمرة وهمست مختنقة حياءً:
" هل سيكون وقحاً لهذه الدرجة؟"

تبسمت بوقار وقالت:
" حقه بنيتي عندما تصبحين زوجته..."
وألقت لها الكيس لتفتحه فلقفته وبدأت تفتحه بحذر وتنظر خلسة خوفاً أن تصدم بشيء مشبوه مما قالت خالتها ولمّا ظهر لها ما بداخله أخرجتها صارخة بذهول مع ضحكات:
" مدهشة....انها دمية جميلة.."

هتفت مازحة التي معها :
" ظهر انه بريء ...خيّب ظنوني!"
وعندما أدارتها نحوها جحظت عيناها فاغرة فاها هاتفة باندهاش:
" سبحان الله كم تشبهك!"
وتابعت في داخلها" يبدو انك لم تنسَ شكلها وهي طفلة أيها الهادي"....

بدأت تقلب وتشقلب بها تتأملها بحماس وتقول مبهورة :
" انظري خالتي...وكأنها أنا.."

ثم اندفعت تخرج البوم صورها من خزانتها تنظر لصورها وهي طفلة صغيرة وتقارن بينها وبين الدمية وهمست مبتهجة :
" من يرى اختياره لهذه الدمية يظن أنه يعرفني منذ صغري....يا لها من صدفة !!.."
اقتربت خالتها منها تشاهد الصور معها وتحاولان معاً تذكر الأيام الماضية ثم قالت بهدوء وهي مبتسمة:
" حتى الفستان كان لكِ شبيه به.."

احتضنت الدمية بحبور وشدّت عليها بوجهها الضاحك وقالت:
" حقا؟!....أنا لا أذكره!!..."

صمتت برهةً وأضافت :
" مع أنني غاضبه منه إلّا أنه عليّ الاعتراف أنه مميز بهداياه..."

سرحت قليلاً بها تتأملها ولمعت عيناها بألم وهي تتذكر ما ينتظرها من إجراءات لحالتها المرضية وتفكر كيف ستخبرها أو الأصح هل ستستطيع اخبارها ؟!....ماذا ستكون ردة فعلها عند معرفتها ؟!...إن أصابها شيءٌ لا قدّر الله لمن ستتركها ؟!...هل سيمدّ الله بعمرها لتراها عروساً بالأبيض تدخل عش الزوجية ؟! ....كم تمنت لها هذا اليوم الذي ستترك فيه البيت الكئيب المجرّد من المشاعر ومن الترابط الأسري بل المبني على الحرام ....ضاعت في أفكارها حائرة وقالت في نفسها " هل أسلّمك صغيرتي لمن يصونك حقاً وستسعدين معه عند معرفتك هويته أم أنني ألقي بكِ للهلاك وأقتل قلبك بفعلي هذا وستكرهيننا حينها ؟!..".....نفثت أنفاسها وهمست وهي تطبطب على ظهرها بحنان :
" اسأل الله أن يريني يوم زفافك حبيبتي .."
ثم مسحت دمعة هربت من عينها قبل أن تراها الهائمة بدميتها ....
×
×
×

تجلس على الأرجوحة الخضراء في حديقتهم الواسعة المليئة بالورود الملوّنة وكان وقت العصر من نفس اليوم أي الجمعة وعلى كرسي جانبي يجلس (كرم) ويمد رجليه على أخرى ونظره ثابت على هاتفه مشغول بلعبته المفضلة بينما هي تلعب بخصلات شعرها بضجر من الهدوء القاتل ....تأففت وقالت:
" اووف....ما هذا اليوم الممل؟!....اوف"

أجابها دون أن يبعد نظره عمّا بين يديه :
" اذهبي لصديقتك تلك ولا تصرعينا بتأففك.."

قالت بضيق:
" ذهبت لقضاء عطلة الأسبوع في مدينة جدها .."

شتم بحنق لخسارته في لعبته الالكترونية وقال وهو يلقي الهاتف على الطاولة أمامه :
" اجلبي لنا شيء من المسليّات نأكله .."

ردت بانزعاج وعنجهية:
" لست خادمتك...اجلب انت..."

عند انهائها كلماتها خطر ببالها فجأة شيءٌ فقفزت صارخة بحماس تقايضه:
" سأجلب لك ما تريد لكن بشرط.."

سأل بفضول:
" ما هو؟ّ!.."

قالت بغرور مصطنع:
" تلعب معي لعبة الورق!!..."

نظر الى جهة باب المدخل ورآه بعيداً ففكر إن لم يوافق لن تجلب له ما يريد فهو يشعر بالارتخاء والكسل ولا حيل له للسير كما أنه لا مانع من ذلك لأنه أيضاً يشعر بالملل وسهراته الماجنة الممتعة تبدأ بالليل لذا قال من غير مفر :
" موافق...هيا اجلبيها واجلبي المسليات..."

أحضرت طلباته في الحال مع لعبة الورق وشرعا يلعبان سويّا بين الربح والخسارة فانضمت لجلستهما السيدة (سوزي) وهي تحمل فنجانها القهوة وتراقبهما بصمت وعند خسارتها في اللعبة الأخيرة ألقت أوراق اللعب بغيظ وزمجرت بضيق قائلة :
" هذه اللعبة تحتاج لمجموعة كما كنا نفعل بكندا ....لا يمكن هكذا..."

ضحك شامتا وقال وهو يرفع ذراعيه خلف رأسه يشبكهما ببعض ويعيد وضع احدى ساقيه على الكرسي :
" لا تتحججي ...اقرّي بخسارتك...سحقتك بجدارة .."

أما الأفعى التي كانت تترصد لحديثهما علّها تجد شيئاً تمارس عليه فحيحها وتنثر سمومها همست بمكر بعد أن جاءتها الفرصة لقدميها :
" اتصلا بصلاح وسأكون انا الطرف الرابع..."

شردت قليلاً تفكر وتتذكر أيام كندا ومتعة اللعب ثلاثتهم مع صديق رابع لهم ويبدو أن الفكرة راقت لها فهي تريد ان يمضي هذا اليوم الخانق كما أيامها لكنها تذكرت فجأة انها مرتبطة بآخر وارغمت على تغيير مجريات حياتها فهتفت بتردد :
" يا ليت....لكن سيغضب يامن ويفتعل لي مشكلة .."

دون ان تنتبه غمزت تلك لابنها فقال بصوت جدي ونصيحة اخوية مبتدعة لا تلائمه :
" ما يدريه بمجيء صلاح؟....ثم لا تقولي له ولا تجعليه يعتاد على رصد تحركاتك والتحكم بها ..يجب ان يكون لك استقلاليتك."

ولأننا متخاصمان والعناد والغباء يصاحبانها كما تسمح بسهولة للغير للتلاعب بها قالت بتحدٍ بعد أن حسبتها في عقلها :
" صحيح!...لست مجبرة على اخباره بكل شيء...ثم هو يعلم أنني لن اقطع علاقتي بصلاح حتى لو لم يعجبه الأمر ..."
وأكملت في داخلها " هل أتى هو ليهتم بي بنفسه وقلت له لا ؟...ما دام أنه يركنني على جنب حسب مزاجه لا يحق له التدخل بشؤون حياتي .."

اتصل (كرم) به ليأتي وبعد أن نجحا بالتلاعب بها نظرت لها الأفعى بنظرات تشكك ثم نطقت بفحيحها:
" هل تنوين الخروج ألمى؟!...ما هذا الذي ترتدينه؟...الا تشعرين بالحر؟!"

كانت ترتدي بنطال جينز طويل لونه اسود وقميص صيفي شيفون بإكمام طويلة باللون الأصفر الليموني فأخفضت عينيها تنظر الى ملابسها وهمست:
" فكرت بالتجوال قليلاً لكني لم أجد من يرافقني فبقيتُ على حالي..."

تبسمت وقالت بحنان مصطنع:
" اذهبي عزيزتي وبدّلي ملابسك.....الجو حار وأنت بالمنزل ....ارتدي شيئاً خفيفاً لتستطيعي اللعب براحة.."

أجابت بحيرة:
" لكن .!..سيأتي صلاح.."

ضحكت وقالت بخبث:
" صلاح معتاد عليك بكل حالاتك...هل نسيتِ؟!.."

اومأت لها توافقها ببراءة ثم نهضت متجهة الى الداخل لترتدي ملابسها البيتية الصيفية....بعد قليل عادت لمكانها تجلس متربّعة على الأرجوحة وهي ترتدي بنطالاً كحلياً قصيراً قطنياً ضيقاً ويصل لتحت الركبة بقليل وبلوزة قطنية حمراء ترسم جسدها وبأكتاف رفيعة جداً تكشف كتفيها ومنطقة الصدر وتسرّح شعرها بضفيرة جانبية بعشوائية وتضع طوقاً لونه أحمر لترفع غرتها عن جبينها.....وبينما هم يتناولون الاحاديث التافهة والعامة أقبل عليهم (صلاح) بحماس متلهفاً كمن دُعي لوجبة دسمة بعد جوع....كان هذا قبل غروب الشمس بدقائق ...بدؤا باللعب اربعتهم يتنافسون كفريقين يتبادلون بين اللعبة والأخرى...تارة هذا مع هذا وتارة هذا مع تلك...يعيدون ذكريات كندا وقهقهتهم تملأ المكان وهم يسخرون من بعض .....استأذنت (ألمى) منهم لتستخدم الحمام فاستغلت الأفعى غيابها وسألت مباشرة من غير مراوغة :
" عزيزي صلاح..."
بينما هو ينظر لها مستمعاً أردفت:
" هل ما زلت تريد ألمى لك؟!.."
احمرّ وجهه قليلاً ثم أجاب بغصة:
" أريدها حتى آخر يوم في عمري...لكن ما بيدي؟!.."

تبسّمت وقالت:
" إذاً يجب أن نفرّقها عن خطيبها المغرور ..."

نظر لصديقه ثم لها وسأل بفضول:
" كيف ذلك؟ّ!....لا اظن أنه سهل بالذات لأنهما يعقدان قرانهما..."

قالت بابتسامة خبيثة ماكرة:
" هي لا تعلم أنه سيأتي الليلة لوالدها...لقد أخبرني بذلك في الصباح.."

تدخّل ابنها متسائلاً:
" ومن اخبرك انها لا تعلم بقدومه؟!.."

اجابت بشماتة:
" عندما جاءا معاً كانت غاضبة وبدوَا متخاصمين ولو أنها تعلم لما احتاج ليطلب مني إعلام عاصي وكان اكتفى لتخبره هي وأنت تعلم بلقاءاتنا القليلة لا يوجّه كلاماً لنا ذاك المتعجرف وكأنه لا يرانا لكن هنا كان مضطراً..."

أمال زاوية فمه ضاحكاً بشماتة مثلها أما الآخر هتف:
" إذاً ؟!...ما علينا فعله؟!.."

قالت بدهاء:
" عندما تخبرني الخادمة بقدومه سأعطيك إشارة لتلعب بذكاء حتى توقع بينهما....أنا أثق بك.....يجب أن يراكما بوضع حميميّ معاً بالذات أنني انتبهت أنه لا يستسيغ لباسها العاري ذلك المتخلّف .."

ضحك (كرم) وهتف متفاخراً ومادحاً أفعالها:
" يا لك من ذكية يا أمي....أرجو أن نتخلص منه قريباً..."

~~~~~~~~~~~~~~~~~~

ما بالي محتارٌ ماذا ارتدي؟!...وقفتُ أمام الخزانة لأخرج شيئاً ارتديه للذهاب الى بيتها....شعوري كأنني رجلٌ طبيعيٌ دون مهمات ويريد الاستقرار وذاهب لطلب عروس !!....هل كنت أكذب على نفسي قبلهم وادّعيت انني مستاءٌ من الزواج القريب؟!....ها هو الخائن يحتفل بسبب تحديد موعد زفافنا !!...لا أتخيّل وأصدق أنها ستكون في بيتي وتحت سقفي بعد قرابة الشهرين والنصف!!...هذا يعني سأنام وأصحو على سمائي الزرقاء ....سأراها في كافة أوضاعها ...سأعيش فرحها وغضبها ...خجلها وجرأتها....سنفطر ونتعشّى معاً....سنخرج ونعود سوياً....سأشاركها في أجواء دراستها ...انا من سأكون المسؤول عن خطواتها ....ان احتاجت شيئاً ستطلب مني أنا ولن يكون ذاك النجس حائلاً بيننا....كم أتمنى حتى أن نقرأ القرآن ونصلي معاً....سرحت وحلّقت في السماء مع أحلامي الوردية لدرجة أنني تخطيت حدودي في الخيال وأنا أراها تنام في حضني أو أضع رأسي في حجرها وتداعب شعري بأناملها حتى أغفو في ملجئي الدافئ....وخيالي وصل بي إلى أبعد من ذلك !!....لكني صحوت من غفلتي فجأة بعد سماعي طرقات باب غرفتي .....يبدو أنه حتى الحلم محرمٌ عليّ..؟!!.....تمتمتُ مستغفراً من افكاري وقلت:
" ادخل.."

دخلت خالتي مستغربة لأني ما زلتُ في بنطالي القصير دون بلوزة وقالت بتوجس :
" ما بك عزيزي لم ترتدِ بعد ؟!.."

أشرتُ لها على الخزانة وقلت بتبرّم :
" احترتُ ماذا أرتدي ...جئتِ وجلبك لي الله ....هيا ساعديني حسب ذوقك .."

ضحكت بمكر وهمست وهي تبعدني بيدها من امام الخزانة:
" ماذا يا عريس ؟....منذ متى تحتار في اللباس ؟!...أم لأنه هذا يوم خاص ؟!.."

ضحكت بخجل رجولي وقلت متملصاً:
" يجب عليّ أن اتقن دوري ...أليس كذلك ؟.."

اومأت برأسها برضا وهي تضحك وتخرج بيدها قميص أسود بأكمام طويلة ثم ناولتني إياه هاتفة:
" ارتدي هذا ...أحبه عليك...الأسود يليق بكَ وخصوصاً عندما تحلق شعرك وتكون ذقنك مهذبة وقصيرة هكذا ..."
عادت تفتّش بين ملابسي بينما كنتُ أنا مشغولاً بارتدائه وأخرجت بنطال رماديّاً غامقاً متناسقاً مع القميص ...اعطتني إياه وولتني ظهرها خارجة وهي تقول:
" لا تتأخر في النزول ....ابراهيم ينتظرك فلا تنسَ أنه عليكما المرور بمحل الورد وشراء سلة من الحلوى الفاخرة...."

" حسناً... سألحق بكِ حالاً ان شاء الله فور انتهائي..."

رتبت ملابسي وانتعلت حذائي متأنّقاً ثم تعطرت ووضعت ساعتي في يدي ونزلتُ لمن كان بانتظاري فالواجب هو ان والد العريس من يُعلم اهل العروس بموعد الزفاف....قبل الخروج انحنيتُ قليلاً بجذعي لأقبّل الحنونة من جبينها فهمست برقة وحنان:
" وفقك الله بني ورزقك سعادة الدارين.."
×
×
×

انطلقنا بسيارة أبي الفضية وقدتها انا وفي طريقنا تناولنا ما أمرتنا به خالتي .........كانت مرهقة اليوم وأيضاً لم ترغب بمرافقتنا فلو أن الحال طبيعي وسأكون عريساً بالفعل لأتت من أجلي ولو حبواً لكنها تريد ان نبعدها عن الأجواء الكاذبة والخادعة ولا تريد أن تتواجد الا للضرورة القصوى عطفاً على سمو الملكة.....يبدو أن النساء مخلصات لذوات جنسهن ويرفقن في حال بعضهن !!...أو ربما لأنها أحبتها , ازدادت شفقتها عليها بسبب أنها هي المخدوعة الوحيدة بيننا ..!!... والحقيقة انها بالفعل مخدوعة بنا...لا تدري ما يدور حولها ومن خلفها ....تتصرف بنقائها وروحها البريئة ...إلى متى يا ترى سيستمر خداعنا لها ؟!....كلما جاء في ذهني هذا اليوم يبدأ قلبي ينبض نبضات مرعوبة يخشى المواجهة الحتمية وما سيؤول اليه حالنا.!!......وصلنا ساحة قصر العنكبوت وفتح لنا الحراس الباب.....انقبض فؤادي لمّا رأيت سيارة البغيض (صلاح) عندهم.....اوقفت سيارتنا واطفأت المحرك ثم ترجلنا منها وانا احمل بيدي باقة الورد الأنيقة الكلاسيكية باللونين الزهري العتيق مع السكري ويزينها سلسلة من حبات الخرز الذهبية أما أبي تكفّل بحمل سلة الحلوى الفاخرة ...بدأنا نخطو بهدوء نحو المدخل عبر الطريق المبلّط بأحجار خاصة فلفت انتباهي اضاءة قوية في احدى زوايا حديقتهم حيث تتواجد هناك جلسة عبارة عن طاولة بسطح زجاجي و يحاوطها أربع كراسي باللون الأخضر وأرجوحة بنفس اللون....لم يظهر لي مَن هناك بسبب شجرة كبيرة تحجب ما خلفها لكن صوت الضحكات الرجولية وصلني ليتبعه صوتها بغنج تقول :
" هيا اعطني ...لا تتغالظ ...لن العب معكم مرة أخرى ان لم تعطني !!.."

عند سماعنا مصدر الصوت , قطعنا طريقنا وأصبحت وجهتنا الحديقة نجتازها عبر ممر رفيع رخامي خاص للحدائق حتى كُشفت لي الصورة بأكملها وما لم أكن أتوقعه....دقيقة ضاعت من وقتي لأستوعب المشهد بأكمله قبل أي تصرف متهور!!....كانت تقف على الأرجوحة بشبه اللباس الذي ترتديه والذي يجب ان يكون تحت العباءة لأي امرأة تريد الستر لنفسها وتقفز بغنج وميوعة وهي تمسك قميصه من كتفه بيد والاخرى ترفعها تحاول التقاط بطاقة من يده المنصوبة للأعلى ومع كل قفزة لها يكشف عن بطنها وهي غير مكترثة لحالها أما البغيض يستمر باستفزازها ومشاكستها وسط ضحكاتهم وشتائمها حتى انتهى المشهد تشهق صارخة عندما شدّها من خصرها لتقع في حضنه ...!!
كنتُ أقف مكاني كجبلٍ بركاني ينتظر أن تأمره الطبيعة بالانفجار ليرشق حممه الملتهبة بعشوائية وتحرق الأخضر واليابس ...لم يكن لديّ الوقت لأتنفس أو حتى لأفكر ...أقفلتُ مخي والقيت المفتاح وكان وقتي فقط للهجوم والانقضاض عليهما لأسحقهما معاً....حاول أبي (إبراهيم) أن يمسكني من ذراعي ليمنعني لكني نفضت يده عني بعنف والقيتُ الباقة من يدي ودعستها وهجمت على فريستيّ فهتف من خلفي بصوت خافت :
" رحمكما الله يا ابن رائد ويا ابنة عاصي..."

وصلتهما كالفهد المسعور وأصبتُ هدفي بلكمة شديدة من قبضتي على وجهه وتحديداً على أنفه وشفته وبدأ دمه ينزف على الفور منه وتبعه من طرف فمه أما هي مسكتها وسحبتها بقسوة من ذراعها وهي تترنح بخطواتها وتتعثر باكية بعد ان صدمت بوجودي عندهم ....وصلتُ الباب الذي يطل على الحديقة وكان مفتوحاً لأن النجس يقف على عتبته فاجتزته وأنا أسحبها بغضب على مرأى ومسمع الجميع غير آبه لأحد منهم وكان مكانه مذهولاً وما زال لم يستوعب الموقف وماذا يجري ولا ادري ان شاهد شيئاً مما حدث!!...صعدتُ بها السلالم وفي أعلاه التقيت بخالتها التي تقف مندهشة بتوجس وتنظر للتي تبكي فحاولت الكلام قائلة بقلق عليها:
" على مهلك يامن....ماذا يجري؟!.."

زمجرت وأنا اغضن جبهتي مشتعلاً دون الالتفات نحوها :
" لو سمحتِ سيدة فاتن...لا تتدخلي..."

ولما وصلنا غرفتها دخلنا وصفعتُ الباب خلفنا واقفلته بالمفتاح وهي بقبضتي ثم دفعتها فترنحت ووقعت على الأرض وحاولت الجلوس وهي تنظر لي بخوف وسط عبراتها وهمست بصوت متحشرج :
" حصل من غير ارادتي .."

اندفعت منحنياً نحوها ومسكتها من ذراعها لتقف أمامي وصرخت بها وانا اهزها بقوة:
" كيف تجرئين على هذه الحركات الدنيئة؟....من يكون الحقير لتتعاملي معه بهذه الأريحية ؟!.... أم يروق لك حضنه أيتها الوقحة ؟!....ألا تخجلين مما ترتدين ؟؟...هل تتعمدين اغاظتي ومعاندتي !!....انظري لنفسك لا يسترك شيء....كاسية عارية وتتغنجين بحركاتك للغريب ..ألا تستوعبين ماذا تفعل حركاتك هذه بالرجل؟؟....ردّي عليّ....."

ارتفع صوت نحيبها وهي ترفع ذراعها كأنها تحاول حماية وجهها من صفعة او لكمة وتتوسل قائلة:
" قسماً حصل من غير ارادتي...كنا نلعب فاختل توازني ووقعت وارتدي هذا في البيت فقط"

مسكتها من ضفيرتها فأنا لم اعد أرى أمامي ومفتاح قفل مخي ضائع لا فرصة للتريث او التصرف بحكمة و رزانة ...أصبحتُ مجنوناً...لقد جننتني وطيّرت عقلي وقصفت قلبي.!!....الوقحة لا ولن تفهم أنها أوقدت نار غيرتي ....أكملتُ في صراخي:
" وهل ان اجتمع العالم بأسره عندكم ستظلّين عارية تحت مسمّى أنك في بيتك؟؟.....أتظنين نفسك ألمى الطفلة لتلعبي مع الشبان كالسابق ؟!.....ألا يوجد من يشرح لك هذا أم هذه حياتكم الحقيرة ....تعيشون بفوضى دون مبادئ وتدّعون انكم أبناء المجتمع الراقي ..تتبارزون بالعريّ والوقاحة.......من الأولى بدل أن تلعبي وتتمايعي اذهبي واقرئي عن دينك يا مسلمة...."

زفرت أنفاسي اخفف من كبتي وضغطي وناري واستطردت بصوت اقل حدّة :
"أنت خطيبة يامن إبراهيم الهاشمي...عليكِ صون هذا الاسم !!.."
هززت ضفيرتها وأضفت بخشونة :
" هل فهمتِ؟؟!"

تبكي بحرقة وأجابت بين شهقاتها:
" فهمت...فهمت...اترك شعري..."

تركت شعرها ورفعت سبابتي وعيناي المتأججة بنار الغيرة كفيلة بحرقها ونسفها عن الوجود وهتفت:
" أسحقكم تحت قدمي يا أوباش...لا تعلمون مع من تلعبون!َ.."

طرقات قوية على باب غرفتها الذي اغلقته فدنوتُ منه وفتحته فاندفع منه والدها يحتضنها ويحدّجني بغضب وحقد ولحق به أبي (إبراهيم) اقترب مني وامسكني وهمس يحاول تهدئتي بعد أن رأى عروقي البارزة التي اوشكت على الانفجار فتنهدت بقوة ناظراً للسقف ومسحت وجهي وقلت بصوت جهوري أنبّه والدها باحتقار:
" لا اريده الاقتراب منها عشرة أمتار....وقد أعذر من انذر ..."

فصرخت بجرأة استمدتها من تواجدها بأحضان حبيبها الوغد بعد ان كانت تحت يدي كالقطة المبلولة :
" أنا لا اريدك....اتركني لننفصل.....ولست أنت من تعلمني الاخلاق أو تربيني"

ثم رفعت وجهها برجاء لوجه أبيها وهمست باكية:
" أرجوك أبي لا أريده....لا أريد الزواج....قل له أن يتركني..."

وقبل أن ينطق كلمة هتفت آمراً بجدية وملامحي متجهمة :
" بعد شهرين ونصف سيتم الزفاف....استعدوا لذلك.....جئنا لإخباركم بهذا..."


جحظت أعينهما بصدمة لوهلة وقال بعدها بثقة:
" لم يكن هذا اتفاقنا...ما زالت بالتاسعة عشر من عمرها .."

أجبتُ بعزة وغرور:
" غيّرت رأيي....أريدها في بيتي بعد شهرين ونصف ....لا حجة ولا وجود لأي مانع "

هتفت بوجهها الملتهب احمراراً وسماءيها الملبدة بغيوم الشتاء الثقيلة وشعرها الأشعث وهي ما زالت محاطة بذراعيه:
" أنا غير موافقه....من حقي الرفض.....نحن لا نعيش في غابة لتقرر عني ..."

قلت ساخراً :
" هل تخشين الانقطاع عنه ؟!.."

تدخّل والدها قائلاً:
" صلاح ابن العائلة من قبل ان يرتبط بها يوماً....لا اعلم لمَ تنزعج من علاقتهما؟!.....هو من رافقها طوال سنوات مكوثها في كندا ولم يفارقها...لو كان شيئاً بينهما كما تظن لارتبطا ببعضهما في السابق قبل عودتها الى هنا ولما احتاج لإقناعها لتقبل به حينها..."

أجبتُ متهكماً ومتعدياً حدودي:
" وما ادراك انه لم يحصل شيءٌ بينهما في السابق.؟!.."

فتحررت من حضنه وانقضّت عليّ تدفعني بغلّ من صدري:
" أخرج من هنا....كيف تجرؤ ..على هذا؟!"

أعلم أنني بالغت لكن ما عساي أن أفعل؟!....أنا انصهر كالحديد من الداخل وقلبي في حالة ذوبان كالشمعة التي تشرف على انتهاء مشوارها وعمرها....أعشقها ويا ليتني استطيع منع النسمات ان تلمسها !!...وكيف بذاك البغيض الذي ارتمت في حضنه وأنا الأولى بهذا؟! ...هي لي أنا حتى لو لم اعترف لها بحبي ورغم ايماني بانتهاء علاقتنا في يومٍ ما...لي أنا ومن حقي وحدي !!...غيرتي أعمت بصيرتي لكن لا يهمني ...كان عليّ الانفجار لأربيهما كلاهما وأضع حدّاً لعلاقتهما الحقيرة .....هي من أشعلت الفتيل بي بلباسها وتقرّبها منه!...أهي ساذجة لا تعرف الحدود بين الجنسين اجتماعياً ودينياً أم أنه لا يفرق معها هذا ولا أمل يوماً أن تطبق شريعتنا وأنا الذي رسمتُ أحلاماً لآخرتنا قبل دنيانا.....ستتعبني وترهقني ....متى يا ربي أنتهي من هذه المهمة اللعينة ؟!....لا ينفع أن استمر بهذا الجحيم....سأفقد أعصابي وهي أمامي وليست لي في الواقع ....حالي كحال الصائم الجائع الذي ينظر لوجبة شهية ولا يستطيع تذوقها لكن الفرق الوحيد بيننا أنه ستأتيه الدقيقة لينقض على وجبته أما أنا وجبتي حرّمت عليّ ولن أتذوقها وفقط سأتعذب بمنظرها ورائحتها ....هذا فقط ما سينالني منها.....علاقة مزيفة تربطنا وستأتي ساعة أعود لهادي واترك يامن وبانتهاء يامن ينتهي كل شيء وستختفي من حياتي سواء بإرادتها أو الظروف ستجبرها حينها ...يا الله كم أعاني !!....

ساندها والدها بعد موجة غضبها من كلامي هاتفاً بحزم:
" لا أسمح لك بإهانة ابنتي...أنا أعرَفُ بتربيتي وإن لم ترها لائقة بك...يمكنك تركها.."


ثم وجّه كلامه لأبي(إبراهيم) بجدية وصرامة:
" سيد إبراهيم اراك صامتاً...ما هذه التصرفات التي يقوم بها ابنك وما هذه الاتهامات ؟!......لو سمحت علينا وضع نهاية لهذا !!....ابنتي ليست من الشارع ليعاملها بهذه الطريقة..."

اثناء حديثه قمت بسحب كرسي المكتب وقبل أن يرد عليه أشرت له ببرود هامساً:
" تفضل اجلس يا أبي..."
وأعطيته إيماءة بعينيّ كي يترك الكلام لي ثم توجّهت للأريكة الموجودة جانب النافذة وجلست عليها براحة سانداً ظهري وأضع ساقاً فوق الآخر رافعاً ذقني بتعالي وقلت بصوت متزن:
" بعد أن أعدت أمجاد شركتك تريد انهاء العلاقة...أليس كذلك؟!.."

أجاب بغروره الفارغ:
" أعدته بقوتي ونفوذي ...أمهلني شهرين وسأعيد المال بأكمله لك لتُرجع لي شركتي الأخرى والقصر...."

ضحكت حد السعال وأنا أحرك يدي لأبي هازئاً كمن يقول " ما به يهذي هذا؟" ثم ثبتّ ملامحي قائلاً بصوت قوي ثابت:
" احضر ملف الصفقة لو سمحت"

نظرا الى بعضهما باستغراب هو وابنته لكنه انصاع بفضول خارجاً يقصد مكتبه وعاد بعد دقائق يقلّب صفحاته بعشوائية وقال بتساؤل وهو يضيّق عينيه:
" ها هو الملف....ماذا تريد منه؟!.."

مددت يدي لأخذه وفتحت على احدى صفحاته متحدّثاً بصوت يمتزج به الجد مع السخرية:
" عند رؤيتك المبلغ المكتوب للصفقة لم تعد تهتم بباقي البنود الفرعية وبدأت توقع الأوراق دون التحقق والامعان بها لظنّك أنك ستسترد القصر وشركتك الأخرى مجرد إعادة المال لنا لكنك لم تنتبه لأحد الشروط وهو إذا أصريتم على الطلاق دون اتفاق من الطرفين سيكون لكم ذلك مقابل رحيلكم من القصر وتسليمي شركتك تلك في الحال دون مهلة زمنية ..."

بدأت حبيبات العرق تظهر على جبينه وحركة صدره زادت قوة بسبب تلاحق أنفاسه فرفع يده لقميصه يحاول أن يفك أزراره العلوية وقال بصوت أخفى به هزيمته:
" مستحيل....لا يفوتني شيء كهذا.. أنا عاصي رضا.."

أما المدللة الغاضبة كانت مصدومة وهي تستمع لحوارنا لكنها لم تتدخل ربما بسبب الضربة التي سمعتها أو أنها تثق بوالدها وقوته فعلّقتُ على كلامه قائلاً:
" لكل جوادٍ كبوة !!.."

ضيّق بين حاجبيه بغضب وعيناه تشع بالحقد وقال ناظراً للجالس أمامه:
" سيد إبراهيم ...ما هذا الذي أسمعه؟!....هل خدعتماني ؟!..."


تنهد وأسند ظهره للخلف وقال بصوته الجهوري الواثق:
" لم نخدع أحداً....لقد وضحنا كل شيء في الصفقة...ليس ذنبنا خطؤك وقلة انتباهك وقلة ادراكك أما نحن رغبنا بابنة جميلة لنا كألمى لتنير بيتنا .."

نظرَ لها بحنان فهو كخالتي يعطف عليها وأكمل كلامه:
"...وبكلمة منكم سيستمر الحال على حاله دون أي مشاكل أو شوشرة وكأن شيئاً لم يكن أو بإصراركم ستكون المحكمة ملتقانا ..."

قاطعته منفعلة وعيناها متجمرتان :
" ليس نحن من نفتعل المشاكل....ابنك مصاب بالانفصام سيد إبراهيم ..خذه وعالجه"

تدخّلت قائلاً بنبرة حادة:
" قفي جانباً والزمي حدودك.."

ارتفع ضغط النجس وضاقت أنفاسه والشحوب اعترى وجهه فانتبهت له وذعرت من مظهره ودنت منه تمسك كفيه هامسة بحنان ووجل:
" أبي...هل أنت بخير؟!..."

ما زال على وضعه وجبينه يتصبب عرقاً فقالت برهبة:
" أبي أجبني...أأنت بخير؟.."

لأول مرة يظهر ضعفه أمامها وكانت حالته واقعيه لا يمثل عليها وبالطبع بسبب ما سمع من صدمات ومما سيخسر بإصراره على الانفصال فهذا القصر بناه حجراً بحجر كيف يشاء وعلى ذوقه وكان أكبر أحلامه في حياته الماضية الفقيرة البائسة أن يمتلك قصره الخاص لحياته الأزلية التي توهّمها :
" سامحيني أميرتي لوما....هذه المرة والدك فشل بحمايتك !!.."

وتهاوى على سريرها من خلفه بوهن وأكمل بفتح قميصه وملامحه مكسورة ومما زاد رهبتها رؤية يده ترتجف من تلف اعصابه فجثت أمامه ووضعت رأسها في حضنه هامسة بألم عليه:
" لا تقل هذا يا أبي...كن بخير وإنسَ موضوع الانفصال....لم أعد أريد ذلك وسأكون قوية من أجلك...لا تقلق عليّ...أنا ابنتك...سأعيش وأموت وأنا أفتخر بكوني ابنة عاصي رضا وسأفعل ما يرضيك أنت...."

أدارت وجهها المتورّم من الغضب والبكاء نحوي وسماءيها تغشاها السحاب وتابعت وكأنها تتحداني أو لتريني مكانتي :
"المهم ان تعتني بصحتك ولن نسمح لأيٍّ كان بكسرنا ...."

وأعادت وجهها له ثم حوّطته بذراعيها هامسة برقة :
" أحبك أبي ولن أحب أحداً مثلما أحبك...أنت حبيبي وبطلي ومن دونك لا معنى لحياتي..."

وصلتني رسائلها وعلمتُ مكانتي عندها...فهمت أن لا قيمة لي في قلبها!!.....إذاً سيكون كلامها المسموم الرادع عن التعمق بعلاقتي معها كما تخيّلت أو تمنيت ....حماقتي في الحُب جعلتني أرسم أشياءً تجمعنا معاً !!...ومَن جعلني أحمقاً غير الخائن القابع بين أضلاعي ؟!....يا رب الهمني الصبر والجم قلبي عن الغرق أكثر في حبها....

حالته بدت سيئة لم أتوقع أن يُظهر تأثره فهو لا يمتلك الإحساس والمشاعر....قلتُ بهدوء بعد كلامها :
" قرار سليم...!!"
واقتربت من المنضدة جانب سريرها وصببتُ له ماءً من ابريق وكأس كان عليها ....أريده أن يهدأ ...ليس شفقة أو رحمة مني ....شعرتُ باللذة لحاله لكني لن أقتله هكذا ...يجب أن يذوق العذاب ألوان لذا عليّ المحافظة عليه قدر استطاعتي بعون الله حتى تحين الضربة القاضية....دنوتُ من الجالسة أمامه لأناولها الكأس لتسقيه فأصبحت السماء تحت أرضي عندما رفعت عينيها إليّ وهوى الفؤاد لسحرهما بعد أن لسعه بريقهما وسرى شيئاً في عروقي ليكذّب كلامي الفارغ ويؤكد ضعفي ويقرّ أنني ما زلتُ لاجئاً في سمائها وقلبي يأبى أن يتوب ويرتجع عن هواها....فمتى؟؟ متى سأنساها ؟!......ما زالت يدي ممدودة لا أشعر بها لأنها تلقي عليّ طقوس السحر من زرقاوتيها فهي أيضاً كانت مشتتة في أرضي كما أنا محلّقٌ بها ...لا أعلم أكانت ثواني أم دقائق بيننا....ما أدهشني أنني رأيت في وجهها البراءة والرجاء مع العتاب فقط...لم أرَ الحقد !!..أم أن هذه أوهامي التي أرجو ؟!... أخفضت رأسها دون أخذ الكأس مني بعد أن منع ضياعنا صوت أبي (إبراهيم) متنحنحاً هاتفاً:
" هيا يا ولدي لنتركهم يرتاحوا ..."

وضعته على المنضدة ولحقت أبي وعند خروجنا من الباب المؤدي للحديقة كانت الأفعى تهتم بكدمات ذاك البغيض فاقتربتُ منه متوعداً وانا اشهر سبابتي وأجزّ على أسناني:
" إياك والاقتراب منها وإلّا سحقتك كما تسحق النملة من غير أن نشعر بها..."

نطق ابن الأفعى قائلاً:
" تحكّم بخطيبتك ولا شأن لك به..."

اقتربتُ نحوه فقفزتْ والدته تفصل بيننا لتحميه قائلة:
" لم يقصد قول ذلك...لا تضربه.."

رمقتهم بنظرة ازدراء وبصقت جانباً بكُره ثم وليتهم ظهري مدبراً لمن ينتظرني في سيارته....

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

زارتنا السيدة (فاتن) في اليوم التالي من المشادات التي شهدها بيتهم واستقبلناها بكل ود واحترام ...كان مزاجي هادئاً في هذا اليوم أما البارحة لأول مرة تشهد ثورة غضبي ....في البداية خجلت ان تفتح الموضوع ولكنها أجبرت لتطمئن على صغيرتها وما ينتظرها في مستقبلها .....كنا نجلس في غرفة العائلة قبل الغروب أنا وخالتي وأبي (إبراهيم)....فقالت بهدوء:
" لم أتكلم مع ألمى في الموضوع وأرغب في الاستماع منك.....اخبرني لما وصلتما لذاك الحال ؟!.."

قلت بجدية :
" حتى لو كان ارتباطنا مجرد مهمة الّا أنني لن أسمح لها بالتصرف بهذه الحرية ما دامت تحمل اسمي ....يمكنها فعل ما تشاء ومع من تشاء عند انتهاء كل شيء..."

ثم شرعتُ بقصّ ما حدث وبعد انتهاء كلامي قالت:
" شهور طويلة لك وأنت معها ...ألم تكن كافية لمعرفتها يا هادي ؟!....ألا ترى أنها بريئة وتتصرف بعفوية دون نوايا خبيثة ؟!....أعلم أنها تتصرف بحرية مطلقة مع صلاح لكنها لا تراه سوى أخ وصديق....تلك الحرية الوحيدة التي تمتلكها ....والدها الوغد يكون صلباً معها بكل شيء الّا انه بهذه النقطة بسبب قلة دينه لا يهتم ....لم يرشدها يوماً للصح...."

قاطعتها قائلاً وأظن أنني جرحتها بفظاظتي :
" وأنت سيدة فاتن ....أين كنتِ وأين كان دورك بكل هذا ؟...كان أولى لكِ أن تتفرغي لتربيتها وارشادها مِن أن...."

لم أكمل كلماتي بعد أن انتبهت لنفسي فهزّت رأسها ونظرتها كانت منكسرة وأجابت:
" من أن أهتم بالأمور الخارجية ...هكذا تقصد...."

أشحت نظري بندم وقلت:
" أعتذر منك..."

تبسمت بوهن وقالت:
" أنت لم تكن معي لتعلم ما عانيت في سنواتها الأولى وأنا أوجهها للطريق الصحيح ....لكن صلاحيتي بالتدخل بها كانت الى حدٍّ معين ....وايضاً تعلم كيف أبعدها عنا في فترة بلوغها وهو الوقت الذي تكون في أمسّ الحاجة لأن يرشدها احد...هي نشأت في الغرب.....كيف تريد أن تتعلم قيمنا ومبادئنا الدينية ؟؟....كيف تحاسبها على ما لا تفقهه.؟!...أنا أثق بك وأعتمد عليك بهذه النقطة !....أنت لست مجبراً على حبها لكنني أعلم أنك رجل من ظهر رجل وستعاملها بمودة ورحمة وستمسك بيدها لتخرجها من دنيا الأخطاء والحرام......صدقني هي لا تستحق المعاملة العنيفة !!....كلمة طيبة تشتريها ...ها انتم حددتم الزواج وستعيش معها عن قرب وستغوص في شخصيتها أكثر....لم أطلب من احدٍ شيئاً في حياتي أما من أجلها جئت لأطلب منك هذا ....أنا أعزّكم وأكنّ لكم كل احترام لكن ألمى عندي أهم من نفسي وحتى أبي ..هي أمانة شقيقتي الغالية , فيها أرى روحها وشكلها ورغم سعادتي في قرب الأجل لألقى الأحبة بإذن الله الا ان ما يؤرقني هو لمن سأترك صغيرتي ؟....ساعدتكم من أجل الوطن وأبي ولن أكذب ان قلت وعلى رأسهم من اجلها هي...أريد أن أطمئن على مستقبلها اذا أراد الله لها طول العمر فوالدها إن لم يمت قريباً بالتأكيد سيأخذ مكانه الذي يستحقه في النهاية وهو السجن.... وحتى لو لم يكن هذا لا قدّر الله فإنه يعتبر غير موجود في حياتها الّا بالاسم والقليل من الاهتمام الذي لا يروي ظمئها واحتياجها لرجل يحتضنها ويشعرها بالحب والأمان وهذا ما تمنيته لها منك...أما إن كنتَ ستقسو عليها لن أسمح لك رغم مكانتك في قلبي ....فأرجو أن ترعاها بشهامة وأن تضع نصب عينيك دائما أنها ضلع قاصر لا أحد لها ولا ذنب تحمله كي تعاقب عليه فهي لم تختار بنفسها ان تكون ابنته كما لم تختار بنفسك انت لتكون ابن محيي الدين فلا تعايرها او تعاقبها بنسبها ودمائها وتربيتها وبُعدها عن الدين لأن دمائك ليست بقوتك امتلكتها فالله يقسم البشر باختلافهم كما يقسم الارزاق وله حكمة في ذلك فمثلاً أنت رزقك الله عائلة ملتزمة صالحة فنشأت على ذلك وأيضاً ليس باختيارك انما هذه نعمة الله فلا تتعالى عليها لانتسابها لأب عاصي وخائن وأنت لانتسابك لأب ملتزم ومخلص.......كل ما انت فيه هو توفيق وهداية من الله وحده...."

لم تخطئ السيدة فاتن بمعظم كلامها ..بل تعاطفت معها وشعرت أنها توصيني بها وتودعنا كأنها تحسّ بدنو أجلها لا قدّر الله....لكنها اختارت الرجل الخطأ ...هي لا تعلم بعشقي لصغيرتها وأن هذا سبب كافي لأفقد عقلي واتهوّر عندما يمس الشيء رجولتي أو غيرتي عليها .....أنا ذهبت لهم أمس بكل حماس وانشراح رغم الصراعات التي اعاني منها داخلياً بيني وبين نفسي وخارجياً بيني وبين مهمتي ومَن ينهاني عن التعلق بها ...!!....لكنها قتلت هذا الحماس وحولتني لوحش كاسر عند رؤيتي لها في ذاك الوضع....سأحاول أن اتخطاه وأنساه والأكيد انني لن انساه بسهولة !!....إذا كنتُ أشتعل منه عندما كان خطيبها قبلي فكيف وهي أصبحت ملكي رسمياً...هل سأسمح بذلك وأقف بارداً ...إن لم أحدث دماراً وأشعل الحرائق لن أكون هادي المتيّم بعينيها...!!

بعد ان انهت كلامها قلت أناقشها :
" كلامك على رأسي سيدة فاتن....لكن هذا سلاح الضعفاء أن يوكلوا أمر الهداية او الضلالة بالكامل الى الله وكأن لا ذنب أو يد لنا بهذا ....هو أعطانا العقل لنفكر ونسعى وأعطانا أعظم دليل في الوجود وهو القرآن ثم سنة نبيه والآن الأمر أسهل مما نظن...فمن يريد الهداية بحث بنفسه عن الأسباب التي توصله لها ومن أراد الضلالة يُغشي قلبه عن الحق وطرق الوصول للنور...والهداية تأتي من العمل الصالح كما أن الضلال يأتي من العمل السيء والقبيح....الله وضع المسببات لهذا لكنه لم يجبرنا عليها ......{{ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ }}....وابنة شقيقتك أصبحت بالغة ولو ارادت التقرب الى الله جاهدت وبحثت لكنها ربما لا تفكر بهذا اساساً....ولم تكن البيئة أو مكان نشأتنا سبباً قوياً لنعلّق عليه بعدنا عن الدين كأننا ضحايا .. فكم من أجنبي أعلن اسلامه والتزم بدينه وهو يعيش في بلاد لا تمت للمسلمين بصلة وعلى العكس بلاد تحارب الإسلام وتضطهده؟!! ..لكننا نحب اختيار السهل لننكر ذنوبنا....هداها وهدانا الله..."

تنهدتُ وصمت برهةً ثم غيرتُ مجرى الحديث هاتفاً:
" المهم اخبرينا كيف أنتِ سيدة فاتن وما هي خطواتك القادمة ؟!"

تبسّمت وقالت:
" الحمد لله على كل حال ....هذا ايضاً سبب قدومي !....بعد شهر سيجرون لي عملية صغيرة لأخذ عيّنة من الكتلة الموجودة في دماغي وسأخبر أهل البيت أنها عملية بسيطة بسبب وجود كيس ماء في رأسي.....انتم تعلمون انني لم ولن اخبر احداً عن وضعي وخصوصاً ألمى .....أما العلاجات القادمة سيقررونها بعد العينة ومعرفة نوع الورم وما أسعدني في ذلك انكما ستكونان بإذن الله متزوجان وحينها ستتوكل أنت مهمة اخبارها بطريقتك وهي بين يديك....فلن أقلق عليها لأنها ستكون بين أيدي أفضل وأروع ناس عرفتهم في حياتي....لأنني أخشى عليها من الانهيار!!"

تبسّمت وعيناها فيها الألم الذي تحاول اخفاءه وهمست ناظرة لخالتي:
" ستجد الأم الحنونة في مريم ..."

نقلت نظرها لأبي وأضافت:
" والأب الداعم والحامي في السيد إبراهيم.."

أعادت حدقتيها إلي وتابعت:
" وبك ستجد كل معاني الرأفة والإنسانية والرجولة ان شاء الله..."

تنهدت وأردفت مبتسمة بتمنّي:
" لن أطمع وأستبق الأحداث....لكنني حتى أنني أحلم بمستقبل زاهر لها بعد انجلاء الحقائق وهو ان تستمرا كزوجين وتستقرا في الوطن لتتذوق البيت الدافئ الحقيقي بعيداً عن التمثيل وهي تنال شرف أن تكون كنة للسيدة عائشة حفظها الله...فيا حظها حينها عندما تكون تحت جناح تلك الأم العظيمة....."

هربت ابتسامتها واخفضت رأسها تشرد في الأرض وبعد صمت ثواني قالت :
" لا اجبرك على شيء هادي ....لكني أطلب منك ان تحتويها وتعطيها الفرصة بعد انهاء مهمتك ولا تضع امامك دائما طريق الانفصال والفراق .....لربما يرق قلبك لها وتحبها .."

يرق قلبي وأحبها وأنا المعذّب من شدة حبها ؟!!....

رفعت رأسها مجدداً ونظرت نحوي هامسة :
" ستعصف وستنزف وستكره وستهرب ...ستضيع وستنكسر بعد معرفتها الحقيقة أنا متأكدة....وسأكون أول من تكرهني لأن جرحها من الأقرب أعمق وأصعب ....لكن أرجوك....كن الجدار الذي يوقف عاصفتها والضماد الذي ينهي نزيفها ...كن القلب الذي يبدد كراهيتها والملجأ الذي يستقبل هروبها....كن بوصلتها من الضياع وكن أنت من يجبر انكسارها....أرجوك أن تتحملها حينها ولا تقف ندّاً بند لها....ارفق بها وبيتمها وضعفها ....لطفاً هادي ....اعطي نفسك الفرصة لتحبها وستسعد بقربها ليس لجمالها فحسب لكن لنقاء قلبها وصفاء روحها ....هي فتاة محبّة ومطيعة لمن يفهمها ويرّبت على فؤادها .....أسعدكما الله ورضي عنكما ...!! "

كم خنجرٌ سيغرز في ضميري وقبله خافقي ؟؟!!....كفاني هذا....لست ملاكاً...أنا بشر...أحب وأجرح كما أنجرح....اعلموها بذلك!!....لا أعرف أين سترسو سفينتي التائهة في محيط مهمتي !!....لا أعلم أي قرار سألغيه أو أي قرار سأتشبث به.....فلتحيي ضميري يا الله ولتنصرني على من عاداني.....

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

اتفق صديقاي على اصطحاب عروسيهما لتناول وجبة الغداء في احدى مطاعم المدينة الساحلية التي تبعد مسافة ساعة عن مدينتنا ومن ثم للتوجه للمجمع الكبير الفاخر بها حيث يوجد هناك محل لأزياء العرائس يمتلكه مصمم من أشهر المصممين في الوطن كي تلقي نظرة عروستنا دنيانا علّها تجد شيئاً يعجبها لزفافها .....وصلوا موقف السيارات الموجود على الشاطئ وترجلوا من السيارة أربعتهم ثم توجهوا لمكان مخصص للقاطرات المعلقة ( التلفريك) حيث عليهم استقلالها للوصول إلى المطعم الموجود على رأس جبل هذه المدينة والذي يطلّ على الطبيعة الخلابة لها من الغابات الخضراء وصولاً لمنظر المياه الزرقاء في صورة تشرح الصدر وتفتح النفس .....نظرت ( دنيا ) للقاطرة ثم رفعت نظرها بتوجس لقمة الجبل المرتفعة والتي يفصل بينهما الشارع الرئيسي الكبير ثم بداية الغابات الكثيفة التي ترتفع تدريجيا مع تضاريس الجبل ....اقتربت من خطيبها وهمست :
" سامي.."

تبسم ناظراً بحنان وهمس :
" عيناه !!.....ماذا تريدين ؟!.."

قالت بخجل من نفسها :
" لا يمكنني ركوب هذه!!...أنت تعلم لديّ رهاب المرتفعات !"
أجاب بتشكك:
" أعلم...لكنك ركبتي الطائرة عند عودتك للوطن!!.."

اجابت هاربة بعينيها محرجة :
" كانت أمي معي وأمضيت الوقت وأنا أخبئ وجهي في صدرها وهي تقرأ عليّ ما تيسر من القران.."

تبسّم ونظر لرفيقيهما ولما رآهما مشغولان بعيداً عنهما مسك يدها برقه وحنان وقبّل ظهر كفها هامساً :
" وأنا هنا معك من بعد التوكل على الله....لا تخافي حبيبتي ولا تفوتي هذه الفرصة الساحرة ....تحمّلي مدة ربع ساعة فقط !!.."

اومأت موافقة بقلة حيلة لا تريد ان يسخر منها احد ....

اقترب منهما من كانا بعيديْن وقال ( بلال) :
" اشتريت تذاكر لأربعتنا ....أي واحدة ترغبون بها الجماعية أم الزوجية ؟!.."

لم يتردد الحنون بقول :
" الزوجية..!!.."

لعلمه بنقطة ضعف حبيبته ..لا يريد أن تقع بموقف محرج عندما يكونوا معاً بنفس القاطرة ..فهو لا يعلم بالضبط ما ردود أفعالها ...يخشى أن تحتاج حضنه وبسبب تواجدهما تخجل فتحرم من أمانها أو أنها تفوق توقعاته وبكل جرأة ترتمي على أرضها ويصبح شكلهما حميمياً وهذا ما لن يقبله غيرةً عليها واحتشاما..!!.....

هتفت بحماس وسذاجة صديقتها قائلة :
" لمَ لا نركب معاً ؟؟!...ممتع أكثر...أليس كذلك دُندن ؟!.."

ودّت لو ضربتها على دماغها هي في عالم وتلك في عالم ...انها لا تدري كيف تتملص من الركوب بها والواقفة أمامها تتشدق متفاخرة بالمتعة ؟؟...أي متعه تتكلم عنها وهم معلقون في حبال الهواء ؟!....قبل أن ترد عليها بكلمة نكزها برفق خطيبها وقال يجيبها :
" كلا سلمى...سنستقل الزوجية .."

لقد احترم قرار صديقه فبدا له أنه يريد بعض الخصوصية لنفسيهما وهو ليس متطفلاً ليكسر اختياره وثم لا مانع أن يختلي هو الآخر مع حبيبة قلبه ليشاكسها قليلاً...!!
استقلّ كل زوجين قاطرته لتبدأ رحلة المتعة للجميع الّا العذاب لشقيقتي الجبانة ....جميعنا لدينا نقاط ضعف أو شيء نخاف منه مهما بلغت شجاعتنا وصديقي المغامر لم يهزأ منها ومن جبنها هذا وعلى العكس يرغب باحتوائها بل تشجيعها لتتخطى حاجز الخوف ...!!...كانت القاطرة بشكل دائري ولونها أزرق يتواجد بها مقعد جلدي يشبه حذوة الحصان ....بدأت تتحرك ببطء وعلى عكس بطئها نبضات التي تجلس جانبه آخذة بالسرعة....أول حركة عفوية منها هي محاولة كمش بنطاله قرب الجيب بأناملها...تبسّم بحنوٍ ورفع ذراعه الأيمن خلفها يحيط كتفيها وبالأخرى مسك يدها المتشبثة ببنطاله ....ازدردت ريقها وأغمضت عينيها تشدّ عليهما بقوة وتشعر أن الذي يخفق في صدرها سيقع منها ولمح توهّج وجنتيها وكاد يسمع ضربات قلبها فأمال رأسه يتكئ بذقنه على كتفها ليقرّب فمه من أذنها وهمس :
" اهدئي دنيتي......اسحبي نفسك وازفريه بهدوء....هيا .."

استجابت له بصعوبة فأكمل بصوت هادئ صافي يملي عليها كلماته الحنونة:
" تخيّلي أنك فراشة جميلة تحلّق بخفة فوق المروج الخضراء المزيّنة بأزهار الربيع الملوّنة.... وتستمتعين بعبيرها ....وضحكات الأطفال الذين يلهون بينها تملأ المكان وتشعرك بالسكينة...!!.."

امهلها دقيقتين لتستشعر ما يقول ولاحظ أن أنفاسها هدأت بالفعل بعد لحظات , حتى أن قبضتها التي بيده ارتخت قليلاً...كانت تشد عليها لدرجة أن أظافرها تركت بعض الآثار على جلده لكنه لم يهتم لهذا......رفع نظره لعينيها فوجدها مغمضة بارتخاء ايضاً أي قلّ انفعالها ...أفلت يده الممسكة بها ثم نقلها لوجنتها اليسرى ليدير رأسها اتجاهه وهي ما زالت مغمضة ....اقترب أكثر وألصق أنفه بأنفها وهمس :
" ازيحي الستار عن شهديك وانظري لعينيّ..."

فتحتهما ببطء فشقّت ثغره ابتسامة وهي بادلته إياها ....كانا ما زالا في منتصف الطريق بعد ان اجتازا الشارع من تحتهما وأصبحا فوق الأشجار ومنظر البحر يبتعد عنهما رويدا رويداً....حرّك يمناه لتساعد يسراه بتحويط وجنتيها ثم قبّل جبينها وقال يساعدها على تخطي وجلها من النظر للخارج والأسفل:
" انظري للشمس كيف تتلألأ أشعتها على سطح البحر....لا تحرميني من رؤية تلألؤها في عينيك ....أريد أن أرى انعكاسها بهما فما أجمل لون العسل عندما تمدّه الشمس بنورها يا عينيّ الشهد..!!.."

طأطأت رأسها بعد ان عاد الاحمرار والتوهج لبشرة وجهها وسببه الآن الحياء من كلماته وليس الرهبة فأنزل يده من وجنتها لذقنها ورفع لها رأسها ثم أداره للأمام نحو البحر ورفرف فؤاده عندما أشعّت عيناها بعد مزج ضوء الشمس بلونهما ليغرق في العسل عشقاً.....بدآ بالاقتراب للمحطة وعليه استغلال الفرصة قبل الاختلاط بالناس ...فهل يستطيع مقاومة هذا الجمال ؟! أليس من حقه تذوق العسل الذي أغرقه بحلاوته ؟!.....كانت هي في وضع ساكن وانسجمت الى حدٍ ما بالمنظر متناسية خوفها فأعاد يديه مجدداً لوجهها يحاوطه وحرك لها رأسها برفق نحوه وقرّب شفتيه لشفتيها يقبّلها ويستمتع بحلو الشهد قبل أن تستقر قاطرتهما مكانها....!!
×
×
×

تناول الأصدقاء الغداء بأجواء لطيفة ومرحة وكيف لا تكون كذلك ورأس المرح والحس الفكاهي صديقي ( سامي ) بينهم ....؟!!.....تمشوا قليلاً حول المطعم ليلتقطوا صوراً لهم وسط المناظر البديعة ومن ثم عادوا للقاطرات للنزول الى سيارتهم وبعدها توجّهوا الى غايتهم وهو المجمع الكبير وتحديداً الى دار أزياء العرائس ....بعد أن وصلوا إليه دخلت الصديقتان تسبقانهما بلهفة عند رؤيتهما التشكيلة الواسعة من فساتين الزفاف واحدٌ أجمل من ألآخر وحتى انهما نسيتا رفيقيهما....لحقا بهما وجلسا في زاوية جانبية بها طقم أرائك فاخر من المخمل الخمري على شكل حلقة ....اقتربت احدى العاملات من الفتاتين وقالت بتملّق:
" مرحبا آنستاي ...هل ترغبان بالمساعدة ؟!.."

قالت (دنيا) مبتسمة :
" أريد أن أرى أحدث تصميمات السيد باسل كارم لفساتين الزفاف الخاصة بالمحجبات .."

تبسّمت مجاملة واومأت برأسها هاتفة :
" إذاً عليك الانتظار قليلاً ريثما ينتهي مع الزبونة ليريكم على حاسوبه طلبك ....تفضلا اجلسا هناك ..."

أشارت لهما حيث يجلس خطيباهما فاتجهتا نحوهما وجلستا بجوارهما من بعد مضيّ عشرين دقيقة وهما تسبحان بين الاقمشة والفساتين....
قال (سامي) :
" ما بكما أتيتما ؟!...هل اعجبك شيئاً دنيا ؟!.."

تبسمت وأشارت بحاجبيها للغرفة المفتوحة ويظهر بداخلها المصمم وهمست :
" ليس بعد !...يوجد زبائن قبلنا...ريثما ينتهي يأتي دورنا ليرينا صور تصميماته على الحاسوب !..."

هتف بمرح :
" قلت في نفسي لا يعقل أن بنات حواء ينتهين بوقت قصير...إذاً نحن في البداية!....أرجو أن لا تحتاري كثيراً فلا تنسي ورديتي تبدأ في السابعة وعليّ اللحاق بها .!!.."

تبدّلت ملامحها للعبوس ونهضت بعقلها الصغير وقالت بعزة نفس :
" لا حاجة للانتظار...يمكننا الذهاب!.."

رفع حاجبه وقال بريبة من مظهرها ونبرة هادئة:
" سننتظر ...لم أقل ألآن ورديتي ...ما زال لدينا الوقت..!...لكني أنبّهك فقط !."

لن تكون (دنيا) ان لم تعاند فقالت :
" لا استطيع الاختيار تحت الضغط....سنشتري من مدينتنا لاحقاً..."

نظرت اليها صديقتها وجحظت عينيها بإشارة منها لتصمت ولا تعاند لكنها لم تهتم لها فأكمل صديقي وهو يتحكم بهدوء اعصابه :
" دنيا....قلت لدينا الوقت ..!!.."

سحبت حقيبتها من جانبه تصمم على رأيها بالذهاب فمسكها فوراً وهو جالس مكانه وزجرها بنبرة حادة جرحتها :
" دنيااا...لا تعاندي وتلعبي بأعصابي !!.....لدينا وقت لتختاري وليس للدلال .."

احتقنت عيناها بالدموع وقالت :
" لا تصرخ بي واترك حقيبتي ...لا أتدلل ولا أريد أن اختار..!!"

لما رأته متشبثاً بحقيبتها نفضتها من يدها تفلتها وأدبرت صوب الحمامات فلحقت بها صديقتها في الحال أما (بلال) قال :
" ما بك سامي ؟!...ليس من عادتك !...تمهل يا صديقي ألا تعرف النساء وبرود اعصابهن وطول بالهن في التسوّق؟!....منذ متى لا تطيق صبرا ؟!.."

استغفر قائلاً بحنق :
" يا رجل لا أحد أصبر مني لكن لمَ لتفتعل مشكلة الآن من غير داعي ....قل لي بالله عليك ما خطئي بتنبيهها بوقت عملي ؟!.....هؤلاء الكائنات تركيبتهن منهكة!!...الكلمة التي تتوقع أن تخاصمك بسببها هي التي تضحكها والعكس صحيح ..اووف...!!"

قال (بلال):
" ليس خطؤك لكنها ايضاً هي عروس ومدللة والبنت في هذا اليوم تشعر انه خاص لها لا تريد ان يشاركها به أحد..!!"


رد عليه بملل من وضعه :
" ومن ذا الذي يشاركها في يومها ؟!...ها انا متفرغٌ من اجلها وأعلم انها متحمسة لاختيار فستانها ..كل ما هنالك ذكّرتها بورديتي!!.."



ضحك وقال:
" ألا تعلم يا صديقي أن عمل الرجل هو العدو اللدود للمرأة أو الأصح ضرّتها وكيف ان دخل بيومها الخاص ؟!.."

" ماذا تهذي يا صديقي ؟!.."

أكمل ضاحكاً :
" الفتاة ترى أن رجلها ملك لها وما بالك ان كانت عاشقة ؟! ...ها عندك أنا مثال... لو بيدها لوضعتني بإطار وعلّقتني أمامها ولا تترك لي المجال لأتنفس ولمّا أنشغل في العمل ولا أكلمها تبقى حانقة لوقت طويل بل أيضا العمل لا يسلم من شتائمها ويأخذ نصيبه...هكذا البنات غير واقعيات أو عمليات مثل الرجال ويعتقدن أن كل شيء يجب أن يمشي حسب أهوائهن ولا يحسبن حساب للمسؤوليات !.....يعتقدن اننا نقوم بتصوير مسلسل رومانسي ......وأنت بجلب سيرة العمل كمن مدحت لها ضرتها !!.."

تنهد ومسح شعره للوراء ناظراً للسقف وقال :
" صبراً يا الله.....وما يدمّر عقولهن الصغيرة غير المسلسلات الهابطة..؟!.."

أعاد عينيه لصديقه وأردف ساخراً مستنكراً بجدية :
" وعندما نكون دون عمل من أين سنحقق أمنياتهن ومتطلباتهن حضرات الملكات ؟!...أم ينتظرن أن تهلّ علينا السماء بالمال ونحن جالسون في احضانهن ؟!.."

زفر أنفاسه بضيق ثم أحنى ظهره متكئاً بمرفقيه على فخذيه بعد أن سحب هاتفه من جيبه ووضع على اسم زميله ثم اسند ظهره للخلف براحة ينتظر الرد....

" مرحبا أشرف...أأستطيع ان اطلب منك خدمة ؟!؟؟"

" بالطبع....تفضل"

" هل بإمكانك استلام ورديتي الليلية ريثما اعود للمدينة ؟!.."

" خير...اين انت ؟!.."

" في المدينة الساحلية مع العروس من اجل مستلزمات الزفاف !!.."

" على خير يا صديقي...لا تهتم وخذ راحتك...مبارك سلفاً...أنا سأكمل هذه الليلة وأنت تأخذ مكاني الليلة التالية !..ما رايك ؟؟!..."

" رائع...اشكرك....اكلمك لاحقاً....الى اللقاء.."

أرخى جسده بارتياح نافثاً أنفاسه بعد أن كان مضغوطاً وضائعاً بين رضا المحبوبة ومسؤولياته فقال لصديقه :
" اتصل لخطيبتك لتتركها ...سأّذهب وأراها ...ضربني وبكى ثم سبقني واشتكى ..."

بعد ان اتصل (بلال) بـ (سلمى ) نهض (سامي) قائلا:
" يا الله....إلى الجهاد في سبيل الحُب ....عجيب أمره هذا الحب... يسعدنا ويتعسنا في نفس اللحظة ..."

سار خطوتين ثم التفت اليه وأضاف:
" يمكنكما يا صديقي التجول ريثما ننتهي كي لا تشعران بالضجر.."

رمش له ضاحكاً برضى وقال مازحاً:
" كأنك متأكد أنها ستسامحك وستنسى ...أخشى أن تعود مطروداً أو بعينٍ زرقاء !!.."

غمزه ضاحكاً وهتف:
" أنا أدرى من أي وادٍ أُخرج ضفدعتي....اهتم انت بدجاجتك ولا تقلق علينا!!.."



ضحك بصوت عالٍ وقال:
" دجاجتي ؟!..وأنا بلبل...وخطيبتك ضفدعة ...ماذا بعد ؟!...أشعر اننا نعيش في مزرعة الحيوانات ....أخشى أن تكون أنت الخروف بيننا !!.."

نهره بمزاح هاتفاً :
" هيــه...لن أرضى بأقل من منصب الأسد ..."

اكمل بصوت خفيض يحذّره :
" اياك ان تذكر الخروف امامها ...لن تعتقني !.....اياك لأني سأنتف لك ريشك حينها أيها البلبل!!.."

تركه يضحك وأدبر ناحية الحمامات لينال رضا ضفدعته ...التقى بصديقتها خارجة فسألها :
" كيف هي الآن ؟!.."

ردّت بخجل :
" مستاءة وما زالت تبكي .."

تبسّم وقال:
" حسناً لا تقلقي عليها ...اذهبي لبلال.."

وصل الحمامات وكانت تقف بالردهة التي تربط حمام الرجال بالنساء حيث المغاسل والمرايا وتغسّل وجهها الذي كان شبيهاً بحبة البندورة من البكاء ...لمحته بطرف عينها وأكملت تجفف وجهها ويديها بعدم اهتمام....اقترب منها ومد يديه لكتفيها وحرّكها بلطف لتقابله وابتسم بحب وحنان وهمس :
" أيصح في يومنا المميز أن نتخاصم دنيتي ؟!.."

رفعت وجهها اليه وعيناها ما زالت تجّمع الدموع وقالت باستياء :
" أنا لم اطلب منك أن تأتي بنا الى هنا اليوم تحديداً....كان بإمكانك اختيار يوم يكون برنامجك صباحيّ....ألا يحق لنا بأخذ راحتنا دون تطفلات العمل خاصتك ؟!.."

ها قد جاء للنقطة المهمة التي اشعلتها ... يبدو ان صديقه صدق وعليه ذكر زوجته الأخرى المسماة مركز الشرطة بحذر أو الأفضل ان يعد للعشرة قبل ذكرها كي لا يقع في مأزق زوج الاثنتين ويفتح على نفسه باب المشاكل ..!!

أجابها باسماً :
" هكذا سارت الأمور معي ...لكن اطمئني بدّلتها للغد من أجلك ....أما أنا أتمنى أن تفهميني وتقدّري ظروف عملي يا دنيا ..ليس كل شيء بيدي!!....ألم نتفق على فهم ظروف بعضنا ؟!..."

هزّت رأسها مبتسمة بنعم فمد يده يمسح بظهر انامله قطرات الدمع العالقة على رموشها ثم مسك يدها يسحبها برقة ليتوجها للمصمم الذي ينتظرهما ....

بعد قرابة الساعة من الحيرة في اختيار التصميم الذي يعجبها اهتدت أخيرا لواحد واتفقوا عليه نهائياً فنادى المصمم :
" حمادة....اجلب المتر وتعال !!.."

جاء (حمادة )يحمل المتر ففغر صديقي فاهه بذهول من مظهره دون النطق بحرف...كان (حمادة) يرتدي بنطال جينز باهت اللون ممزق ضيق بخصر نازل ومن تحت يكشف حوالي شبر من الساق وبلوزة حمراء وبفمه يمضغ علكة ومقدمة شعره أطول من الخلف وكل ثانية يزيح خصلات غرته التي تسقط على جبينه بمياعة ....ظلّ صديقي يحدق به وظهرت غيمة فوق رأسه وهو يتخيل أن يستضيفه يوماً الى المركز علّه يمارس عليه أحب هواياته وهو صفع المجرمين وأمثال هؤلاء المتشبهين بالنساء والذين بدؤا بالانتشار في الآونة الأخيرة !!.......تلاشت الغيمة وانفجر ضاحكا درجة القهقهة عند سماع صوته الأنثوي يقول :
" لو سمحتِ يا آنسة قفي رجاءً..."

توّرد وجه خطيبته محرجة من ضحكته والتي تعلم أن سببها المتشبه بالنساء الواقف أمامها بينما كانت هي تحاول كتم ضحكتها وحتى انها تفاجأت من نفسها انها ما زالت متحكّمة بها دون أن تطلقها وتقع هي أرضاً من قوتها .....كان المصمم و(حمادة) ينظران له كأنهما ينظران لرجل معتوه وهو مستمر بالقهقهة وما زاد ذلك عندما كرر طلبه بصوته الناعم :
" من فضلك آنستي ...قفي لنأخذ القياسات!!.."

وقفت بتردد ويبدو ان صديقي لم يستوعب عمّا يتكلمون لأنه مشغول بضحكاته لكن ما إن عيناه لقطت دنوه من عروسه يبسط ذراعيه ليفتح المتر هبّ من مكانه ومسكه قبل أن يلامس المتر جسدها وغضن جبهته وقال بحزم :
" ماذا تفعل ؟!.."


ردّ عليه المصمم:
" حمادة المسؤول عن القياسات فهو محترف ودقيق ولا يخطئ أبداً..."

قال بانزعاج ساخراً :
" أريد امرأة أن تقيس لها ...لن يلمسها هذا أو هذه لا ادري ماذا اناديه. !!.."

حاول المصمم هضم كلماته وسخريته وقال:
" نعتذر يا سيد ...لا عاملات لدينا بهذا المجال !!.."

قال(سامي) باشمئزاز :
" كيف لا تضعون عاملات والمكان خاص بالنساء ؟...أي منطق هذا ؟!....هل تعتقد أن جميع الناس يحملون صفة الدياثة وعدم الغيرة على العرض ؟!....."

ردّ (حمادة) بمياعة بعد أن شعر أنه لم يتقبّله هذا الجبل المقابل له وظن أن بكلماته سيغيّر له رأيه:
" لن نأكل خطيبتك يا سيد.....سنأخذ فقط قياسات جسدها بدقة كي يليق بها فستان الزفاف ويبهرك كما سيبهر جميع الحضور..."

ألقى نظره اليها يتفحّصها وأضاف مجازفاً بحياته :
" مع أنها تلبس ملابس فضفاضة قليلاً الّا انها لن تتعبنا لأنه يظهر لي التناسق بجسدها في الطول والعرض والوزن ...مؤكد سيكون الفستان خارقاً عليها فأنا أجزم انها تمتلك جسداً انثوياً مرسوماً باتقان !"

لقد لعب بعدّاد عمره ذاك المسكين شبيه النساء فمع انتهائه لغزله بها كانت تلابيبه بين قبضة صديقي الذي سحبه من الغرفة بغيظ صارخاً به :
" اغلق فمك يا وقح وغض بصرك عنها وإلّا سأقتلع عينيك يا قليل الأصل والنوع ...كيف تجرؤ على التغزل بها أيها المخنّث المائع؟!"

شعر بتنمّل يده وعليه أخذ الجرعة الأحب عليه فصفعه على عنقه بقوة قبل أن يدفعه ويقع على الأرض.....كان في هذا الوقت المصمم يحاول تهدئته كلامياً ولا يريد أن يكبّر المشكلة وبعد تبادل الكلام قال (سامي):
" أنا سآخذ قياساتها ..."

لو بإمكانه لسحبها وخرج من هذا المكان الذي يحوي على اشباه النساء وهي الفئة التي لا يكره بحياته مثلها وبنظره أن تكون بنت مسترجلة أهوَن من ان يكون رجل مائع يمتلك انوثة أكثر من الانثى نفسها لكنه بغنى الآن عن اصطدامه بعقل ضفدعته الذي سيرهقه بدلاله لذا حاول تقبّل تواجدهما هنا على مضض فهي صرعته بهذا المصمم وهذا المحل الذي تتابعه على صفحات التواصل الاجتماعي...!!

حدّجه المصمم بريبة وسأل :
" اتستطيع ذلك؟!....لكن اعلم أن لا ذنب لنا بأخطائك .."

أجابه صديقي :
" لا تشعرني أنني أصنع مكوك فضائي ...كلها قياسات بسيطة !!.."

وشرع بالقياس على أمل النجاح والواقفة بين يديه كادت تختم القرآن وهي تقرأ وتدعو كي ينجح بأخذها بدقة ولا يفضحها أو يضعها محل السخرية يوم زفافها نتيجة قياساته الخاطئة ...!!

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

اسبوعٌ مضى على زيارتنا لهم واقترحت خالتي عليّ أن نسعى لتحضيرات الزواج كي لا نُحشر لآخر دقيقة وبما أن الفستان يكون بتصميمات خاصة ويحتاج لوقت حتى ينتهي فأرادت ان نبدأ به وبعد أخذ موافقتي اتصلت بالسيدة (فاتن) لتعلمها عن ذلك كي تجهّز نفسها سمو الملكة.......عادت (ألمى) من جامعتها مرهقة ودخلت الى غرفتها تتسطح على سريرها قبل تناول وجبة الغداء وحل واجباتها فلحقت بها خالتها ما إن رأتها وطرقت الباب ثم دلفت بهدوء وابتسامة مَحبّة ترسم على محيّاها وجلست جانبها وافتتحت الحديث سائلة برقة:
" يا ترى كيف تريد أميرتنا ان يكون فستان زفافها؟!.."

نظرت لها بيأس وأجابت:
" تقصدين كفني!."

تجهّمت ملامحها وقالت:
" لا تقولي هذا يا صغيرتي ...لمَ ما زلتِ غاضبة ومرّ أيام على المشكلة وأنت تعلمين أن احتكاكك بصلاح كشاب لا يصح وحتى لو كان صديقك وبالذات أنك ترتبطين برجل ؟!...صحيح ان رد فعل يامن كان عنيفاً لكن عليكِ أن تعذريه ...كيف سيتقبّل رؤيتك في حضن غريب ويقف يتفرّج؟؟.."

أجابت بضيق:
" لا ادري كيف وقعت بحضنه لكني متأكدة انني وقعت رغماً عني....خالتي انت تعرفينني وتعلمي جيداً انني لست من صاحبات هذه الحركات..."

اغمضت عينيها بأسى وتابعت :
" حتى عندما كان خطيبي لم يكن بيننا حركات حميمية ابداً...اذكر حضن واحد بريء وسريع...."

رفعت اهدابها وسلّطت حدقتيها اليها واكملت:
" لن اخجل منك خالتي....يامن وحده مَن سمحت له بلمسي ومن سمحت لنفسي بالتقرب منه!...لكنه لا يصدق ان هذا كان غصب عني ولم يكن له الحق بإهانتي !!.."


مدّت يدها تضعها على كفّ صغيرتها وقالت:
" ألمى يا ابنتي ....خطيبك رجل غيور لا يحب هذه الحركات وهذا التحرر والتصرف مع الغرباء....ديننا قبل مجتمعنا ينهانا عن اختلاط المرأة بالرجل الذي لا يربطه بها دم او علاقة شرعية.....صلاح يعتبر أجنبي عنك والإسلام لم يقبل أن تسير العلاقة بين الجنسين وفق الأهواء والغرائز بل وضع آداب وحدود لمثل هذه العلاقات لا يجوز الخروج عنها وصدّقيني هذا كله حماية لنا نحن النساء قبل الرجال خوفاً من التعرض للتحرشات والاعتداءات أو رمينا بالكلام السيء لكن الناس السطحيين والفارغين يدّعون أن هذه الضوابط هي أفكار رجعية وتخلف !!...لو سرنا على منهج ديننا لتفادينا الكثير من المشاكل والكوارث التي يعانيها مجتمعنا....أصبحنا نتشبه بالغرب وتركنا أعظم نعمة أنعم الله بها علينا وهي نعمة الإسلام التي طريقها يأخذنا الى السعادة في الدارين ويجنبنا الكثير من الكوارث او الأخطاء التي تحوّل حياتنا لنقمة ونحن لا ندري....عزيزتي يجب عليكِ تغيير تصرفاتك فانت أصبحت فتاة واعية تستطيع تمييز الصح من الخطأ..."

تبسمت بحنوٍ ووضعت يدها على وجنتها تحسس عليها واكملت:
" قريباً ان شاء الله ستصبحين زوجة وربّة بيت .."

غمزتها وقرصتها من خدها تداعبها وأضافت:
" وربما أم في المستقبل القريب..."

تزيّن وجهها باللون الوردي حياءً واخفضت اهدابها هروباً فاستطردت السيدة(فاتن):
" لو أنك رأيتِ فتاة ما تقع في حضنه ماذا ستكون ردة فعلك؟؟؟."

قطبت حاجبيها بانزعاج واجابت:
" أسحقها بالطبع أما هو إن كنت أثق به لن أعاتبه لذا كان عليه أن يثق بي لأنني لا أفكر بصلاح اكثر من أخ..."

" وهو لا يثق بصلاح ليلتمس لكما الأعذار بالإضافة لرفضة من تقاربكما المحرّم والخاطئ..."

ردّت على كلامها وتابعت:
" اجيبيني بصدق...ما هي نظرتك له وما هو شعورك اتجاهه؟!"

شردت قليلاً بوجهٍ شاحب ثم رسمت ابتسامة على شفتيها وقالت بحيرة:
" أصابتني عدوى الانفصام خاصته ....فأنا يتبدّل شعوري وحالي وفق حالته...مثلا عندما يكون قاسياً أنفر منه...أو ربما من تصرفاته وليس منه .."

ابتلعت ريقها وأكملت بخجل :
" وعندما يكون لطيفاً ومهتماً أرغب بأن التصق به ولا أتركه ابداً وأن أصرخ للعالم وأقول هذا الرجل ملكي أنا......لا أعلم ما هذا الانجذاب له ؟!...تعامله الرقيق والعطوف معي ينسيني حالات ثورانه وجنونه وغلاظته....بل يسحرني ويأخذني الى عالم خاص بنا وحدنا....حضنه لوحده خالتي حكاية أخرى وسأعترف أنني تمنّيت سابقاً أن نجتمع معاً في وقتٍ قريب لألتمس الدفء وأنا أنعم في احضانه كل ليلة......آه يا خالتي لقد ضيعني في مشاعري المتناقضة ....يبدو أنه عليّ التأقلم حسب نوباته المتقلّبة إذا كُتب لنا ان نكون من نصيب بعضنا ..!!.."



تنهدت وسألتها مستنكرة :
" هل ما زلت ترغبين الانفصال عنه حقاً بعد قولك هذا؟...لأني أرى أمامي فتاة عاشقة تتحدث.!"

شقت ثغرها ابتسامة وهربت من السؤال سائلة :
" لمَ سألتيني عن فستان الزفاف؟!.."


ضحكت بلطف واجابت:
" لأنك غداً ستذهبين ان شاء الله لاختياره...لقد اتصلت بي السيدة مريم واخبرتني بذلك.."

شعرت بدغدغة في قلبها رغم علاقتنا المتوترة لأن كل بنت تنتظر اليوم الذي سترتدي فيه فستان الزفاف الأبيض الخاص بها وحتى لو كان دون عريس وكيف ان كان عريسها هو حبيبها الذي ستجتمع به تحت سقف واحد بل على نفس السرير ولا يفصلها عنه شيء ؟!....

مع أن وجهها أعاد نضارته بسبب الاحتفالات في داخلها الّا انها سألت بتوجس:
" هل سيكون يامن موجوداً معنا؟!.."

اجابتها بصوتها السعيد:
" لديك الهاتف...بادري انت بالاتصال واسأليه..."

قطبت حاجبيها بتصنع وقالت بكذب:
" لا داعي لسؤاله...أتى او لم يأتِ....لا فرق!!.."

صمتت لوهلة واستأنفت سائلة:
" انت سترافقينني صح؟؟.."

أجابت بنبرة حزينة لم تستطع طردها فهي كانت متحمسة لهذا اليوم من اجلها الا ان الظروف جاءت عكس امنياتها :
" اعذريني صغيرتي...غداً لديّ فحص مهم من أجل عملية كيس الماء التي اخبرتك عنها..."

اكفهرّ وجهها وحملقت بالأرض حزينة ومتألمة على خالتها وأيضاً على وحدتها في يومها المميز غداً ثم همست وهي تمسك يد خالتها بقبضتيها :
" سلّمك الله لنا خالتي ...هل يمكنني على الاقل اصطحاب صديقتي ميار ؟؟"

أجابتها برضى:
" بالطبع...لكن الأفضل يجب استئذانهم احتراماً لهم.."
×
×
×

في الليل استلقت على سريرها واحتضنت دبدوبها سارحة في شكل فستان زفافها وكيف سيكون عليها وتمنت ان نختاره معاً لنمحو ما مررنا به ونبدأ أولى خطواتنا نحو الحياة الزوجية الأزلية وابتسامة روحها المتسامحة البريئة على ثغرها لم تفارقها حتى بعد ذهابها الى عالم النوم والأحلام الجميلة.....
" إبراهيم ....أين هادي ؟!..."

سألت خالتي (مريم) زوجها عند دخولها الى غرفتهما بعدما بحثت عني بينما كان هو يتجهز للذهاب الى عمله....فأجاب وعيناه على المرآة أمامه يعدّل ياقة قميصه:
" ربما ذهب للجري على الساحل..!!..ما بك مشوّشة ؟!.."

أجابت على الفور رافضة احتماله:
" ليس بالساحل ...هاتفه الخاص بيامن موجود في الغرفة ...لا يذهب من دونه !.."

رفع حاجبه بتوجس ثم سأل:
" أمس عندما اخبرتيه عن ذهابكم اليوم لدار أزياء العرائس من أجل فستان الزفاف ماذا كان رده ؟!...فأنت تعلمين تركتكما تتناقشان وذهبت للنوم.!..."

أجابت منزعجة :
" رفع ضغطي !!...عنييد ...قال لي لن يذهب وأن ما من داعي لذلك ولنتدبر نحن امورنا لكني صممت فأنهى الحديث دون ان يعطيني جواباً ..أخشى أنه اختصر ليهرب مني!!...سيحرجني أمام السيدة فاتن وألمى إن بقي على كلمته ...ما به أصبح قاسياً ؟!..يا ربي ماذا سأفعل؟!..."

أدار وجهه جانباً إليها وملامحه فيها العتاب وقال:
" تسألين لمَ أصبح قاسياً وأنت أحد أسباب قسوته ؟!.."

قطبت حاجبيها مستنكرة واجابت:
" لمَ تقول هذا ؟...ما هو ذنبي انا ؟!.."

حمل زجاجة العطر يرشّ على عنقه وأجاب يكمل ملامته :
" ألستِ أنتِ من اقترحتِ أن نجعل سليم يوقفه عن الانغماس في مشاعره لمصلحته ؟!...ألم تلحظي أنه تغيّر الى حد كبير منذ عودته وأصبح أكثر عصبية بغض النظر عن غضبه عليها الأسبوع الفائت في ذاك الموقف.....ابن شقيقتك عاشق مهما أنكر!! .... ردود فعله حينها وحميته عليها ليس لأنها مرتبطة باسمه فقط كما تبجح فهو يعلم كما نعلم انها تذكرة لدخول بيت العنكبوت ولا شأن له بتصرفاتها ان لم يحبها.....لكن المسكين يكتوي بنار الحب ويحرقها معه ولا يجرؤ على الاعتراف ليقينه انه واقع في العشق الممنوع !!...أصبح يراها عقبة في طريقه فلا حل لديه الّا الهروب منها .."

قالت بنبرة يتخللها الندم:
" أعلم أني كنت قاسية بهذا القرار لكن لحمايته ولم أتوقع انه سيخرج هذا عليها...ظننتُ أنه سيصبح أكثر حذراً فقط !!..."
تنهدت وتابعت:
" أين هو الآن يا ترى ؟!.."

"مؤكد ذهب للمعسكر...حاولي اتصلي على هاتفه الآخر !!.."

قال جملته وخطى خطواته القليلة اتجاهها ثم احنى جذعه يقبل جبينها مستودعها الله وأدبر خارجاً الى غايته ...

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

" أماه !!....خير ان شاء الله ؟!...ما بك تتصلين في هذا الوقت ؟!.."

وردني اتصال من أمي في العاشرة صباحاً بينما كنت أجلس على صخرة في أرض المعسكر سارحاً أتفكر في خلق الله سبحانه وتعالى بديع السموات والارض.......لن أخبئ أو انكر ان عينيها اللتين اشتقت لهما كانتا ضمن هذه اللائحة!!...كيف سأفصلهما عن السماء وهما السماء ذاتها؟!.......التفكر في خلقه هي من العبادات المحببة عليّ لأنها تخطفني الى عالم آخر في رحلة هادئة بعيداً عن ضوضاء الحياة وأعود منها بنفسٍ راضية وروحٍ ساكنة وقلبٍ صافي....

" اشتقتُ لك يا مهجة قلبي ...هل أزعجك اتصالي ؟!.."

ردّت بنغماتها الساحرة فقلت :
" أيزعجني اتصالك أمي وأنت نبض الحياة وسلم النجاة ؟!...أنتِ فقط مَن يحق لكِ كل شيء وأي شيء.... اؤمريني لأقول لكِ سمعاً وطاعة..."

ضحكت بحنية وقالت كلماتها التي توصلني الى عنان السماء :
" رضي الله عنك وأرضاك يا غالي ابن الغالي......اين انت الآن وماذا تفعل ؟!..."

" جئت الى المعسكر ...خرجتُ من البيت قبل صلاة الفجر .."

" متى ستعود للمدينة؟؟"

" لم اقرر بعد!!...ربما أبيت هنا الليلة....لمَ تسألين؟!.."

" أردتُ أن أرى الى أين وصلت تحضيرات عريسنا العزيز.."

نطقتها بلطافة فأجبتها مراوغاً بمرح:
"أنتِ اخبريني عن الأجواء عندكم واخبار الغليظ وضفدعته !!..."

ثم غيرت نبرتي للجدية:
" هل كل شيء على ما يرام ؟!...لا تترددي بسحب أي مبلغ تحتاجينه من المصرف من أجل تحضيرات الزفاف وجهاز العروس....لا أريد أن ينقص دنيانا شيء أمي ....هذا يوم السعد لها ولنا بإذن الله...لبّي لها كل طلباتها ...هذه صغيرتي وحبيبتي المدللة.."





ردت باستياء:
" ألا تكفّ عن تدميرها بدلالك المفرط ؟!.....بنيّ هذا خطأ وحتى لو أنعم الله علينا بهذه الخيرات يجب أن يكون لكل شيء حد وشقيقتك لا حدود لها ما شاء الله .......ستمسك بيت وستكون زوجة ..عليها تحمل المسؤولية وزوجها غير مجبر على تلبية متطلباتها التافهة أما جهازها ان شاء الله عندما تعود أنت لنا وتنتقل هي الى بيت سامي بالطبع ان شاء الله سنقوم بتجهيزها دون ان ينقصها غرض لكن الآن لا داعي لذلك.."

قلت:
" أمي... ما دام الله يعطيني الصحة والعمر والرزق الحلال لن أحرم شقيقيّ مما تشتهي انفسهما ..سأعوضهما عن كل ساعة حرما فيها ...أريدهما أن يتذوقا ما أنعم الله به علينا ....اللهم أدمها من نعمة واحفظها من الزوال .."

"آمين.."

أمّنت خلفي , صمتت برهة ثم همست :
" بني ما هذا الذي سمعته ؟!..كيف لا تذهب مع العروس لاختيار فستان الزفاف ؟!.."

لقد اتضح لي المخفي وراء الاتصال !!....يبدو أن خالتي استعانت بها لتوقعني أو تغلق عليّ جميع المخارج ...فهي تعلم أن كل شيء يهون بالنسبة لي عند كلمة من أمي...وحدها غاليتي التي ارتمي تحت قدميها من أجل رضاها...هي فقط دون البشر من لا اجرؤ على عصيانها او كسر كلمتها وخاطرها ....إنها أماه نبضي لأمضي في هذه الحياة....


أجبت:
" أمي لا رغبة لي في ذلك ...أهو ضروري تواجدي ؟!.."


قالت برقة تعاتبني:
" أنت لن تذهب لمعرفتك أن الشيء غير حقيقي لكن ما ذنبها وهي تظن نفسها عروساً طبيعية ككل العرائس ؟!....حرام عليك كسرها بعدم اهتمامك ...أنت تقتلها بالبطيء بنيّ...هل وضعتها ايضاً في خطة الانتقام ؟!...أتريد أن تذلّها ؟!....لمَ تتصرف بهذه القسوة ؟!..."

قاطعتها ولا إجابة لديّ:
" أمــي !!.."

أكملتْ :
." لا تقاطعني واسمعني ....أنا أتخيل شقيقتك مكانها حتى من غير مهمات لو أن سامي اعتذر عن مرافقتها لأقامت الدنيا وأقعدتها ...فرحة الفتاة في هذا اليوم لا تضاهيها فرحة وربما أهم من يوم الزفاف نفسه ...تحب أن تختار مع عريسها فستان ليلة العمر مهما ما مرّوا به من مشاحنات ...ستسألك عن رأيك ...ستتدلل عليك ...تطمح بأن تكون ملكة على عرش قلبك بفستانها الجميل ...تريد ان تبهرك وتسحرك ....أنت عندها تكون أهم من الناس أجمع ...لن تراهم ...سترى نظرتك إليها ..اعجابك بها ...لن تنظر للمرايا لتتأكد من جماله لأنك أنت مرآتها ...ابتسامتك تجعلها راضية عن نفسها...نظرة عينيك توحي لها ان كل شيء تمام وكأنك تقول لها اطمئني يا عروسي أنت فاتنة.!.....عزيزي هادي لا نعلم ما هي نهاية طريقكما وماذا يخبئ لكما المستقبل لكن اعلم ان ليلتها هذه لن تتكرر لأنه ان كانت نهايتكما سعيدة لا تستطيع إعادة هذه الأيام المصاحبة للزفاف وإن كانت الفراق ستكون المسكينة بقايا أنثى ...ستتحول الى رماد بعد حرقها حتى لو مضت في عمرها مع شريك آخر....ستفتقد الحياة بألوانها مهما زيّن لها مَن حولها أيامها..."

حتى مجرد ذكر شريكٍ آخرٍ جعل تياراً كهربائياً يجري في منابعي من غيرتي ...لا أستطيع تقبّل أنه سيأتي يوم ولن تكون لي بل ستكون في حضن غريب !!...كانت تلقي كلماتها وأنا اصغي بكل حواسي وجوارحي ....هي محقة لكني أخاف !..أخاف من أشياء لا استطيع البوح بها لهم ...اشياء تجثم على صدري وتشتت تفكيري ...!!

" لم أسمع صوتك يا ولدي ...اين ذهبت؟."

عند انتهاء جملتها تنهدت تنهيدة طويلة وقلت:
" معك أمي...كنت افكر!!.."

"بمَ؟!."

" لا شيء مهم أمي!!.."

تنهدت هي الأخرى وأضافت :
" ..{{ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى }}....مهما كنت تعاني وتواجه من صعوبات في مهمتك لا تظلمها حبيبي...لا تعاقبها وتحملها اثقال والدها!!.."

أين أنا في كل هذا ؟!...هل فكر أحدهم بمعاناتي ؟!..لمَ أنا الوحيد الملام والذي عليه أن يكون الجبل الصامد أمام الأعاصير ؟!...ألا يعلمون أنني اتعذب اضعاف اضعافها من عذابها ؟!...ألا يشعرون في تلك الكتلة التي تتفتت في صدري ؟!...هل يظنونني رجلاً آلياً من غير مشاعر وفي كبسة زر بإمكانهم التحكم بي كيفما شاؤوا....تزوجها يا هادي سأتزوجها...اتركها يا هادي سأتركها....قسم يريدني ان اكون لطيفاً في تعاملي معها وآخرون يريدونني أن أضع حداً لعلاقتي بها!!....على من ومن سأطيق؟!...أليس هذا سبباً كافياً ليجعلني منفصماً ,مهتز الشخصية في نظرها؟!!......وماذا عن الذي ينبض نبضة تلو الأخرى في عشقها؟!...ألا يحق له ان يختار ..ان يتمرد...ان يعصف ويهرب...ان يهدأ ويقترب ...!؟!

كلماتي وصلت حلقي وبدأت تخنقني ..أريد ان اخرجها علّني ارتاح ..ربما سأتحرر من جلد ذاتي ...يجب ان أُطلق آهاتي ...

" آااه أمي آااه..."

همست بحنوٍ:
" سلامتك يا قرة عيني من الآه....اخبرني بما يزعجك ويؤلمك ؟"

قلت في غصة بسبب بعدها عني:
" أمي...احـ...أحتاج حضنك...افتقد لمساتك ....متى أمي سأضع رأسي في حجرك وأنسى كل شيء وارتاااح.......انا تائه وخائف !!....تائه في افكاري وخائف جدا مما هو آت....أريد ان ارتاح امي...خارت قواي ..."

شددت قبضتي وضربتُ صدري نحو قلبي كأنها تراني وأكملت بألم وصلها عبر موجات صوتي:
" أريد نزع هذا الخائن أمي.....يرهقني ولا يرحمني ....أنا....أنا.."

وكذلك صوتها الذي استعد للبكاء وصلني بنفس الألم:
" أنت ماذا بنيّ؟...قل لي حبيبي ....أتريد ترك المهمة؟....ان كانت تقتلك تلك المهمة لا نريدها ..."

تحشرج صوتها وتابعت باكية :
"اتركها وعُد الى حضني وحسبنا الله ونعم الوكيل فيمن ظلمنا وشتت شعبنا ودمر وطننا...تعال الى حضن امك الوطن الذي لن يتخلّى عنك...."

" كلا أمي....إما أنا أو هو وحلفاؤه....سأتابع مسيرتي حتى آخر نفس في رئتي !!.."

سألت بصوت خافت حزين تجاهد لإيقاف بكائها :
" إذاً ما بكَ هادي؟...أشعر بك تتألم ...لستُ مرتاحة البال من أجلك !!...فضفض بنيَ عسى أن نضمد جراحك معاً.."

أغمضت عينيّ...سحبتُ نفسي بعمق وزفرته على مهل وقلت مستسلماً:
" أنا... أحبها ....أحبها أمي...!!.."

لم اتخيل أن اعترافي الأول سيكون لأمي وهي كانت أكثر من أخشاها وأخجل منها لأن حبيبتي ابنة قاتل قلبها...لكنني جازفت وأطلقت لساني ليعلن عن خيانة نابضي...


دقيقة هدوء من كلينا ثم ادهشتني برد فعلها قائلة بصوت أعاد حيويته:
" كنتُ أعلم بذلك....حدسي اخبرني!!...أنت لم تنسها منذ الصِغَر......لكن لمَ تخاف؟؟ ...إجعل قلبك يخوض التجربة وانتظر معه إلى أين المستقر!!...تعثر وانهض...حارب واستسلم...لا تحرم نفسك من هذا الشعور الفريد!!....ارخِ حبالك القاسية وفك قيود الغضب عنك....عِش هذا الشعور وكأنكما معاً في حياة سرمدية ودع كل شيء للقدر....لن تأخذ الا ما كتبه الله لك مهما هربت واختبأت....واجه بنيّ ما يأتي أمامك بنفسٍ راضية دون أن تفكر في الغد ....إن كانت ألمى من نصيبك لو اجتمع الإنس والجن لن يفرقوكما ...وإن لم تكن لك يوماً لا تجزع ولا تقنط من رحمة الله واسأل العوض منه وحده....عُد بني أدراجك واذهب معها ومن أجلها...المُحب هو الذي يعطي دون ان ينتظر المقابل ...إكرمها من فائض عطائك ...كن حازماً في قرارك واختيارك ...لا تتردد ولا تخشَ لومة لائم...انا معك وفي ظهرك..."

رباه على هذه الراحة التي تمدّني أمي بها ...كلامها بلسمٌ لجروحي ونورٌ لظلمة فؤادي....لكن رغم كل هذا الذي سمعته سأحاول الّا اخنع لقلبي فقلت :
" كلا أمي ...سأقتل قلبي وأدفن حبها المحرّم عليَ.."

تنهدت بأسى واحباط وقالت :
" حتى لو قتلت قلبك....أرجوك أن لا تقتل ضميرك !!....اذهب اليها.."

همست بعد لحظات شرود:
" حسناً أمي.....سأذهب..... من أجلك ومن أجل رضاك !.."

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

كيف سيكون لقائي بها ؟!...أما زالت مستاءة مني ؟!....

وصلتُ مدينتنا في ساعات العصر ...ذهبت لبيتي لأستحم ثم لأخذ خالتي لكنها باغتتني رافضة مرافقتنا..!!...هل تتعمد ابقاءنا وحدنا ؟!...على ماذا تنوي ؟!...كنتُ أظن أني سأتكئ عليها في هذا اليوم لأهرب قليلاً من سمائي ولكنها أحبطت مخططاتي .....وُضعت تحت الأمر الواقع وتوجهتُ لوحدي الى بيتها في سيارتي رباعية الدفع وفي طريقي اتصلت بها لأخبرها بقدومي ...عندما وصلت كانت في انتظاري مع صديقتها (ميار)...فاجأتني!!... كانت مستعدة ولم تجعلني أجف في انتظارها سمو الملكة كعادتها !!..أما وجود صديقتها أراحني ..لقد وجدتُ أخيراً من يحمل الحمل عني !!...ترجلتُ من سيارتي مبتسماً ونظارتي تحجب عينيّ ..ألقيت السلام ثم فتحت الباب الخلفي وأشرت بلباقة لصديقتها هاتفاً:
" تفضلي آنسة ميار.."

ركبت ولحقتها هي لتركب بجوارها لكني اوقفتها ممسكاً كفها برقة ومن هذه اللمسة التي كانت بعد حرمان ارتعشنا كلانا فالتفتت نحوي تسلّط عينيها... همست وابتسامتي لم تفارقني:
" مكانك بجانبي...ألمى.."

ثم سحبتها بلطافة محكماً قبضتي على كفها الرقيقة عكس سحبي لها الأسبوع الماضي بعنف واستدرتُ من خلف السيارة متوجها للباب الأمامي ...فتحته وقلت:
" تفضلي يا عروس.."

تقدّمت على استحياء بعد أن صبغ وجهها بالأحمر جراء خفقان قلبها السريع من كلمتي التي داعبتها من الداخل وركبت ثم اغلقتُ لها الباب وعدتُ مكاني منطلقاً لواجهتنا....بعد أن اجتزنا شارع حيهم ...تنحنحت صديقتها وقالت :
" من فضلك أنا سأنزل بعد قليل جانب المصرف المركزي..!!"

خلعت نظارتي وتطلعتُ في المرآة الامامية انظر لانعكاس الجالسة في الخلف وقلت:
" لمَ آنسة ميار؟!...ألن ترافقينا؟!..."

قالت بخجل ونبرة مرحة :
" ظننتُ أن السيدة مريم ستكون موجودة لذا وافقت...لا يمكـ.."

قبل ان تكمل جملتها وصلت رسالة لهاتفها فرأيت ابتسامتها الساخرة ومن نظرتها علمت أنها لم تكن سوى من التي بجانبي فبخفة سحبتُ هاتفها وقرأتها متقطّعة مع صوت وأنا انقل نظري بين الكلمات والطريق وهي تحاول سحبه مني:
[ سأريكِ أيتها اللئيمة ..حسابك عسير...أين ستذهبين وتتركيني لوحدي اواجه ذلك الزلزال؟!..]

ضحكت صديقتها وضحكتُ معها لكنها هي لوت فمها باستياء وقطبت حاجبيها بوجهها المحرج وقالت:
" لا تضحكا..."

اعطيتها هاتفها ...أخذته ومدت يدها بحنق لهاتفي الموجود بين كرسيينا وبدأت تعبث به تحاول فتحه ....فقلت :
" أربعة أصفار.."

حرّكت رأسها اتجاهي مع حاجبها المرتفع المتسائل فأكملتُ بعد أن رمقتها بنظرة خاطفة وبسمة :
" الرقم السري أربعة أصفار...افتحيه "

التفتت اكثر بجسدها نحوي وسألت باستنكار :
" يعني تقول لي أنه لا يهمك العبث بهاتفك الخاص ؟!.."

قلت بثقة:
" لا يوجد شيء أخفيه !!...اسبحي بين الرسائل كما تشائين لكن لا تلوميني ان شعرتِ بالدوار وانت تتنقلين بين الرسالة والأخرى...!."

أصابها الفضول فعدّلت جلستها وفتحته ...ظهرت صورتي أمامها على الشاطئ عاري الصدر وارتدي بنطالاً أسوداً قصيراً فقالت في سرها " مغرور , مغتر بعضلاته.."...... ثم سألت هازئة بخفوت :
" ألم تجد أجمل من هذه الصورة لك لتضعها خلفية لهاتفك؟!..."

أجبتها بهدوء:
" صورة ساحرة تجمع البحر مع السماء وقت الغروب لم يلفت انتباهك بها الّا صورتي البعيدة ؟!...انظري للجميل فيها كسحر الطبيعة واتركي البشع مثلي.."

اجابت في داخلها " المشكلة أنك القمر بها "..قبل أن ترد :
" معك حق !!.."

ثم التفتت للتي في الخلف قائلة وهاتفي ما زال في يدها:
" ابقي معنا ميار ....لن نتأخر !!.."

عضت شفتيها لتُسكتها وقالت :
" في المرات القادمة...اعذريني لن أكون مرتاحة!!...أشعر أنني مثل القطة السوداء بينكما .."

تبسمتُ قائلاً:
" وجودك لا يزعجنا آنسة ميار...على العكس ستكون ألمى مرتاحة اكثر معك..."

وأكملتُ مازحاً:
" فهي تراكِ فرقة الإنقاذ الخاصة بالزلازل والبراكين.."

قالت بمزاح ايضاً وكأنها معتادة عليّ:
" عليها أن تواجه غضب الطبيعة لوحدها كي تعرف كيف تتصرف عندما تكون وحيدة...ربما فرق الإنقاذ لن تكون دائماً مستعدة لانتشالها ...أليس كذلك ؟! "

قلت ضاحكاً:
" بلى...قولي لها هذا.."

تدخّلت مستاءة منا :
" هلّا صمتّما من فضلكما ؟!...كأنكما وجدتما فرصة لتتحفاني بثقل دمكما .."

قلت مازحاً ومادحاً:
" سامحك الله ...أنا ثقيل دم لا انكر لكنك تمتلكين صديقة ما شاء الله بروحٍ مرحة ...تذكّرني بأحد أصدقائي!!....لو لم يكن مرتبطاً لأشرت له عليها !!.."

جحظت عيناها بصدمة من كلامي ثم ومضت حدقتاها بلمعة غيرة أما الأخرى أخفت خجلها الظاهر على وجهها وقالت تكمل مزاحها :
" شكراً سيد يامن على الاطراء اللطيف...لكن أرجوك إن أشرت لعريس إليّ فليكن بصدرٍ رحب وخفيف ظل ....لا أطيق ضيّقي الخُلُق...سأهجّ منه في ساعتي الأولى...!!...."

أمالت زاوية فمها الجالسة جواري وحمحمت ساخرة كأنها تقول لي " أي لا يكون مثلك!!"....فقالت صديقتها مجدداً:
" قف هنا من فضلك !!.."

قلت بمروءة:
" أين بيتك لنوصلك على الأقل إليه ؟!"

أجابت بامتنان:
" شكرا لك ..سأشتري بعض الأغراض واتصل بأخي ...حينا ليس بعيداً من هنا !!.."

أوقفتُ السيارة جانباً لتترجل ثم عدتُ لأندمج في الشارع بعد دخولها لأحد المحلات ......الآن أصبحنا وحدنا !!.....قلت وأنا أقف أمام إشارة المرور الحمراء :
" تبدو صديقتك من أصلٍ طيب ...أهنئك على اختيارك الموفق!!.."

رمقتني بنظرة فيها شرارات الغيرة دون أن تعلّق وعادت تتفحص هاتفي من جديد وقالت بملل:
" هاتفك ممل ...لا تطبيقات جذابة به ...ورسائلك ترفع الضغط كلها عن العمل ومواعيد العمل ...وبعض رسائل الأصدقاء لكني لم أدخلها لأنني لستُ متطفلة .."

ضحكت وقلت:
" تقصدين لست مثلي!......على كل حال لا تدخليها لأن محتوياتها لن تروق لكِ...معظم رسائلهم وقحة أولئك الوقحين ..مثلاً عمر... ماذا سيخرج منه برأيك ؟!....أما الحقيقة أن رسائلك الملوّنة بالرموز التعبيرية هي وحدها من تزيّن هاتفي !!..."

تبسّمت بنشوة مسرورة من كلماتي ثم قالت:
" أتعلم ؟...اشتقت للخالة أم عمر ولأماني .."

مددتُ يمناي أضعها فوق يسراها وهمست بصوت رخيم :
" انسي الجميع الآن وقولي لي أي محل تريدين يا عروستي الذهاب إليه ؟!.."

هل اللمسات ساحرة لهذه الدرجة كي تستكين وتجيبني بكل عذوبة وببراءتها التي اعشق :
" في شارع النبلاء هناك دار أزياء المصمم إلياس عيسى ...هل سمعت به ؟!.."

غضنت جبيني وضيقت عينيّ أفكر وقلت :
" لا اذكر..."
ارخيت ملامحي واضفت مبتسماً:
" سنتعرف عليه الآن!.."

قبل دلوفنا الى المحل أوقفتها ممسكاً بذراعيها عند كتفيها وأدرتها نحوي وقلت بلطافة وأعيننا منسجمة ببعضها :
" لطفاً ألمى....اختاري أي فستان ترغبين به مهما كانت قيمته لكن ليكن ساتراً ....اتفقنا ؟!.."

أبقت عينيها عليّ لثواني شاردة ثم أنزلت أهدابها بحياء ورضى مع ايماءة موافقة برأسها وهمست :
" اتفقنا..!!"

دخلنا وكان المحل واسعاً بتصاميم داخلية فاخرة وأثاث أنيق ويعرض فيه فساتين للعرائس لا تعد ولا تحصى وما لفت انتباهي وجود قسماً خاصاً لكل ما يلزم العريس ايضاً وقبل مقابلتنا للمصمم بدأنا نتجول بين أركانه ونتفرج بعشوائية على المعروضات ثم توجهتُ لقسم العرسان وتبعتني وبينما انا اتفحص البدل سألتني :
" هل ستشتري بدلتك من هنا ؟!.."

أجبتها وأنا أمسك بواحدة أتفحصها :
" اشتري في أي وقت ومن أي مكان لا مشكلة لديّ لكني ابحث عن واحدة لصديقي اهديه إياها ليوم زفافه ...!"


قالت :
" لكن اصدقاءك متزوجون !!.."

قلت وأنا اعيدها مكانها :
" صديق في بلاد الأم !!.....سيتزوج قبلي !"

سألت بفضول:
" هل ستذهب لزفافه.؟!."

اتسعت عيناي مبتهجاً بعدما وقع نظري على حلّة لونها رمادي غامق آخر فخامة وكأنها صممت لتوأم روحي (سامي)...تخيلته يرتديها ..ستكون مبهرة وأنيقة عليه ذاك الأشقر بالتأكيد!! ...وهتفت :
" ها هي...وجدتها !.."

أدرتها إليها واردفت مبتسماً:
" ما رأيك بها ؟!.."

أجابتني مع انها كانت تنتظر اجابتي على سؤالها :
" جميلة وراقية ...فليرتدِها بالهناء !.."

أشرت لإحدى العاملات لتأتي وتخرج لي قياسه المناسب فكررت سؤالها :
" هل ستذهب لزفافه في تلك البلاد ؟!.."


نظرتُ اليها وقلت:
" اسمها بلاد الأم او بلادنا او الوطن....ألست من هناك ؟!.."

لوت فمها بحيرة وقالت بعدم اهتمام:
" لم اشعر يوماً بذلك ...نشأت هنا وفي كندا أما تلك لم ازرها مرة ولا أتوقع أن تأتي ساعة واذهب الى هناك !!.."

حافظت على ملامحي المبتسمة لكن في داخلي ثورة غيرة على الوطن الذي بدا لي أنها لا تهتم به ولا تعترف بانتمائها له وقلت :
" هل مكان نشأتك ينسيك انتمائك الحقيقي وأرض اجدادك ؟!...ألا تشعرين بالحنين لتتعرفي على بلدك التي يجب ان تكون جذورها متأصلة في دمائك كما جذورك متأصلة في ترابها ؟!.."

أجابت :
" الحنين يكون لشيء لامسته وفقدته....لشيء عرفته وأحببته...لشيء أصبح ماضيك وذكرياتك ...أنا لم تطأ قدمي تلك الأرض لأقول اني عرفتها وفقدتها وأحن لها ولكل شبر بها !!...و أبي رغم ذهابه عدة مرات بفترات متباعدة الا انه لم يفكر يوماً بأخذي الى هناك وأنا ايضاً لم اطلب منه.... أما الذي اعرفه عنها هو القليل والفضل لخالتي عندما تخبرني حكايا عن ماضيها هي وأمي وعن بيت جدي وتحكي لي عن بطولاته أيام الثورات ..!!..."
ازدردت ريقها وتابعت ببحة حزينة:
" ربما الشيء الوحيد الذي ممكن ان يجعلني أوافق على الذهاب الى هناك هو لأرى بيت أهلي الذي عاشت به أمي عروساً وحملت بي فيه.....يعني على أمل أن أشتم رائحتها في زواياه...هذا فقط لا غير!! ."

لقد ذهلت من كلامها !!...لا تفكر في موطنها الأصلي بتاتاً...لا اعرف هل ألومها على ذلك ام أشفق عليها لإضاعتها لهويتها ولذكرها سيرة أمها بغصة ؟!....
سألتها بفضول لأعرف القليل عن افكارها ورأيها بنقطة تهمني:
" وما رأيك ببطولات جدك ؟!..الا تفتخرين بذلك ؟!.."


ردت دون تفكير:
" قصص أكل الزمن عليها وشرب لا تعنيني شيئاً !..."

صدمتني وتابعت :
" لكن لأقول الحق بحقهم .."

تأملتُ مستمعاً منتظراً لتكمل وتنقذني من صدمتي :
" حسب روايات خالتي وصور جدي كانوا يبدون ابطالاً حقيقيين !!.."

شعرتُ بالاعتزاز والفخر قبل أن تقسم ظهري مضيفة :
" بخلاف ثوّار اليوم فأنا سمعت أبي يقول ان أولئك الأوغاد هم مخربون أشبه بالعصابات التي تتقاوى على الناس العزّل وتسلبهم ما فوقهم وتحتهم ويجعلونهم دروعاً بشرية لهم ويطمعون بالوصول الى الحُكم ليفعلوا في البلد ما يريدون حسب ميولهم ونواياهم الخبيثة ...اسأل الله أن يأخذهم ويريح الشعب من أمثالهم !!.."

طعنة وطعنة....وطعنة !!...تتحدث دون ان تفقه شيئاً وفقط تعتمد على ما غسل به دماغها ذلك النجس....آه يا نذل!!.....لملمتُ قلبي الممزق من طعناتها وقلت :
" وأنتِ ألا تتابعين الأخبار أو تبحثين لمعرفة الحقائق أكثر بنفسك ؟!.."

قالت بعدم اكتراث ولا مبالاة:
" كلا ...لا تهمني أخبارهم وأكره كل شيء يتعلق بالسياسة والحروبات ...لمَ لأتعب نفسيتي بهذه المشاهد والأخبار ؟.. ثم من قال أن الاعلام يوصل دائماً الصورة الحقيقية ؟!...ومع أني انا هنا في بلدي هذه أعيش بسلام وأمان الا أنني لا اهتم للمكان بقدر ما اهتم بمن يكون معي فيه... فالأرض الميتة لا تعنيني مثل الأرواح الحية."

غيّرت نبرتها وسألت :
" وأنت هل نشأت بداية حياتك في الوطن أم هنا مثلي ؟!.."

أجبتها بشموخ وبأنفاسي الصامدة من اجل الوطن :
" نشأتُ في رحاب الوطن وكبرتُ على عذب مياهه وخيرات ترابه ونقاء هوائه..!!"

" إذاً ما سبب قدومكم الى هنا ؟!...لمَ تركتموه وجئتم لهذه البلاد ؟!.."

سألتني فابتسمت مجاملاً وقرصتها من وجنتها برفق مجيباً :
" فقط ثلاثة أيام .!!"

همست بتيه بسبب اجابتي التي لا تمت لسؤالها السابق بصلة:
" ثلاثة أيام ماذا؟!.."

" سأذهب لبلاد الأم لحضور زفاف صديقي لمدة ثلاثة أيام .."

قلت كلماتي ثم بدأت اخطو أمامها مضيفاً لأقطع حديثنا ذاك وانهيه قبل أن تغلي دمائي:
" هيا لنرى المصمم !!.."
×
×
×

اخترنا فستانها وفق ذوقينا من كتالوج يضم آخر التصميمات لموسم الشتاء وخرجنا راضيين بعدما أخذوا قياساتها وبلطف من الله كانت امرأة من تقوم بهذا العمل فقد اخبرتني أمي سابقاً عن جنون صديقي النجيب ذو الأصل الكريم وما فعله بمحل فساتين الزفاف وخشيتُ أن يقع قياس جسدها على عاتقي أنا مثله..!!

بعد أن ركبنا سيارتنا سرت بطريق مغاير لطريق العودة فسألتني بتشكك وهي تستدير نصف استدارة بجسدها نحوي:
" إلى أين ذاهب ؟!.."

أجبتها بنبرة مرحة :
" أنا جائع...ماذا عنكِ؟!."

عادت لتجلس براحة وقالت بصوت خجول :
" يعني...قليلاً."

رمقتها بنظرة عاشقة سريعة مبتسماً ثم اتخذتُ وجهة معينة وبعد ربع ساعة دلفتُ الى احد شوارع هذه المنطقة الراقية والتي تبدو كأنها قطعة مستنسخة من أحياء إيطاليا بمحلاتها ومطاعمها ومقاهيها فهتفت بانبهار :
" هل هذا المكان موجود في مدينتنا وانا لا أعلم ؟!...يا الله كم هو مبهر وكأننا انتقلنا الى دولة وحضارات أخرى....ما هذا المكان ؟!"

أجبتها بحُب:
" هذا الحي يقطنه الإيطاليون...لذا وضعوا فيه ثقافتهم , عاداتهم وتراثهم وكل شيء يخص بلادهم ... "

" لمَ اخترته هو بالذات.؟!."

سألتني بينما كنتُ أركنُ سيارتي جانب أحد الأرصفة فأجبتها محدقاً بها هامساً بعذوبة بعد أن اوقفتها :
" في هذا المكان يوجد لي صديق إيطالي له مطعم خاص بمأكولاتهم التي تحبين !!.يعني اخترته من أجلك..."

برقت عيناها بانشراح وابتسمت بود ...ليس لأنها ستأكل طعامها المفضل بل لأنني اخترت من اجلها ما تحب وباعتراف مني فوصلها اهتمامي بها ...الاهتمام الذي تتمناه وترجو ان لا يختفي لأنه ان دلّ على شيء لن يكون سوى...الحُب!!...فهو لم يأتِ الّا من قلب يحبك ويريد سعادتك ورضاك!!...
فمن منا لا يريد أن يكون له رفيق يهتم به ؟!...يشعرنا اننا موجودون ؟!...يفعل ولو القليل... فقط...من اجلنا !!..
رغم أنها كانت لفتة صغيرة مني اتجاهها الّا انها استقبلتها بعناية وامتنان...!!
ترجلنا من السيارة وبدأنا نمشي ببطء وعند وصولنا الى مفترق بين أزقة هذا الحي , كان علينا اختيار الطريق المبلطة بأحجار الرصف الرمادية والتي تكون خاصة بالطرق المنحدرة وكانت طريقنا بالفعل مائلة ...فدنوت منها ورفعت ذراعي قليلاً لأفتح المجال لشبك ذراعها بي مع نظرة رؤوفة من أرضي تنادي بها على سمائها وهمست:
" امسكي بي كي لا تنزلقين...هذه الحجارة ملساء وانت تنتعلين الكعب!!.."

شبكت ذراعها بذراعي بقليل من التردد وهي ترفع رأسها إليّ مكنونة المعالم ولا اعلم ان كان ترددها حياءً مني أو انها تشعر بالرهبة خوفاً من حالات انفصامي !!....سرنا نزولاً وأنا أشير لها على الجانبين واشرح لها عن بعض المحلات حتى توقفنا أمام باب ضيّق حديديّ لونه بني لا تستطيع تخمين ما خلفه فهمستُ ضاحكاً:
" وصلنا..!!.."

قالت بتعجّب مع اتساع عينيها :
" هل هذا المطعم...؟!"

رفعت رأسها تتفقد أعلاه بسماءيها مستغربة , تبحث عن لافتة أو أي شيء يوحي لاسمه وعنوانه...فقلت مبتسماً وانا أدفعه لندخل بعد ان حررنا ذراعينا:
" لا تحكمي على الكتاب من عنوانه ...ادخلي وانظري بنفسك..!!"

ضحكت قائلة:
" أين هو العنوان أساساً لأحكم عليه؟!.."

دلفنا الى رواقه الضيّق المسقوف وعلى طول جانبيه قناديل صغيرة بإضاءة خافتة صفراء حتى وصلنا ساحة صغيرة مربعة وفي وسطها باب خشبيّ عريض على شكل قوس من الأعلى بلون الخشب الطبيعي ويزينه قطع من الحديد الأسود...فتحته فوقفت مدهوشة تنقل حدقتيها على كافة ارجائه من الداخل , تتعرف عليه معجبة بالتصميمات الإيطالية بطرازها القديم من اثاث الى تحف وغيرها وجانب طاولة الطلبات تجلس فتاة إيطالية ترتدي الزي التقليدي الخاص بهم وتعزف على آلة الأكورديون بكل هدوء واحترافية وما ان وقع نظرَ صديقي ( إدوارد) علينا فزّ من مكانه مبتهجاً برؤيتي وأقبل نحونا يصافحني ويحييني باللغة الإيطالية والتي لم أكن اعرف منها الّا كلمات عامة قليلة جداً وكانت عن طريقه.. وقبل أن يمد يده لها سألني بإنجليزيته المكسرة وهي اللغة التي نتداولها بيننا :
" هل بإمكاني مصافحتها أم ايضاً تطبق عليها أفكارك ومعتقداتك الدينية الخاصة بكم ؟!.."

ضحكت وأجبته وهي تستمع لنا :
" يكفيك كلمات ترحيبية ..!!.."

ضحك وأحنى ظهره قليلاً يحييها مع حركة بيده على طريقة النبلاء وقال لها بنبرته المرحة :
" عشيقك يصمم على ادخالي الى ديانتكم وأنا أصمم على ضمه لديننا ولا نعلم أيّنا سينتصر أيتها الأميرة الجميلة .."

زجرته قائلاً:
" قل زوجك ...ليس عشيقك ولا تتغزل بها أيها الأحمق!.."

انتصب واقفاً يرفع يديه باستسلام تمثيلي هاتفاً :
" اووه.. لقد نسيت أي عقل أمامي ..اعتذر!.."

ثم دعانا الى احدى الزوايا الجميلة المتطرفة وهي زاوية تضم طاولة دائرية مع ثلاث كراسي يحجزها من أجلي عند معرفته بقدومي بعيداً عن صخب الموسيقى احتراماً لرغباتي وسحب لها الكرسي لتجلس وقبل ان يذهب ويرسل لنا النادل ليرى طلباتنا انحنى يهمس في اذني يستفز غيرتي متعمداً:
" هل هكذا الجمال العربي يكون ؟!...بدأت أفكر بأن اغير هويتي قبل ديانتي !.."

نكزته بمرفقي على صدره المنحني اتجاهي وقلت له بضيق وحميّة :
" إدوارد...لا تتواقح وتتعدى حدودك....سأذهب حالاً"

لمَ جمالها يلفت الأنظار ؟!...ألِكي أبقى في محيط لهيب الغيرة ولا أبرح هذا المكان؟!...أيوجد أمل أن تحجب ليلها الطويل وبدرها المنير وسماءها الصافية وجسدها المثير عن الأخرين وتجعله ملكاً وحصرياً لي أنا وحدي ؟!..

انتصب وربّت على كتفيّ وهتف :
" أمزح يا رجل ...خذا راحتكما .."

وحيّاها مجدداً , استأذننا ثم انصرف لعمله وبعث لنا النادل وبعد ان اختار كلٌ منا وجبته وشرعنا في الأكل كانت تأكل بمتعة وهمست بسرور :
" كيف فاتني مكان مثل هذا ؟...حتى أنه أطيب وألذ من الذي كنتُ أتناوله في كندا...."



شقت ثغري ابتسامة عطوفة وقلت بحنوٍ:
" صحة وعافية على قلبك....فليبقَ هذا المكان خاص بنا وحدنا ولن نخبر به أحداً...ما رأيك؟!.."

كشفت عن لؤلؤها المصفوف بين شفتيها وضيقت عينيها بحركة نغشة منها وهي تومئ برأسها بقبول وهمست بخفوت :
" موافقة.."
ثم تابعت باسمة :
" هذا الكتاب الذي اهديتني إياه لا يكفيه عنوان ليعبّر عمّا بداخله من جمال .."

أمضينا وقتاً لطيفاً في هذا المكان الدافئ وكانت تتصرف بعفويتها التي عهدتها عليها أما انا كنتُ كتوماً أكثر وحذراً فيما يخرج مني عدا انها حازت على معرفة مكاني السريّ هذا والذي أخبرتها أنني أزوره أثناء سعادتي عكس البحر الذي أهرب إليه في ضيقي وغضبي !!...رأيت الفرحة في سمائها الصافية بعدما أشعرتني كأنها تحمل أسراراً مهمة عني والسبب طبعاً شخصيتي الغامضة معها ....فأنا لم أشركها يوماً بما احب وما أكره بشكل خاص وكل تصرفاتي معها كانت بصفة عامة !!.....ودّعنا صديقي ( إدوارد) وخرجنا في سبيلنا وما إن صدرَ نباحٌ قريبٌ من أحد الأزقة التي مررنا بها لم أشعر كيف أخذتني على حين غرة بحركة سريعة تحتضنني من الأمام وتحاوط خصري بقوة ووجهها تلصقه في صدري مرتجفة من ذلك الكلب وما كان مني الّا أن أدعم هذا الحضن بمحاوطتي لها وكأن الفرصة أتتني لألتمس سحر جسدها الذي تغلغل في جسدي ليبدأ ذلك الخائن خلف أضلاعي يترّنّم بنغمات العشق من أجل الفاتنة الخائفة بين ذراعيّ..!!...اتكأتُ بذقني على رأسها وهمست بصوتٍ خفيض ولهان:
" اهدئي أنا معك...لا تخافي ..هذا كلبٌ مربوط. !!.."
عند آخر كلمه اطمأنت وركد ارتجافها وبدأت ترفع رأسها صوب وجهي وهي ما زالت محبوسة في حضني والظلام حولنا وهدوء لا أنفاس للبشر الّا من صرصرة الجنادب الليلية مع اضاءات البيوت الخافتة والتي لا تُظهر للغير ملامحنا من بعيد ولم نكن نرى سوانا وأنا أحني رأسي لأقابل وجهها ثم أملته أكثر لألصق جبيني على جبينها وجعلت جنود أرضي تلامس جنود سمائها ثم أكملتُ هامساً بأنفاسي المتقدة إثرَ احتراقي:
" آاه.....كم اشتاقُ لكِ...يا ألمتي .."
ثانية وتسبقها أخرى وضربات قلبينا في سباق مع الحُب واللهفة لبعضينا وبينما أنا أعتصرها لأجعل جسدينا جسداً واحداً لم أعد أحتمل أن أحرم نفسي من تذوق رحيق شفتيها ...سأتذوقها وأذوب لا مفر ولا هروب!!...أغمضنا أعيننا نعطي لأنفسنا التصريح لنفعلها وما إن تلامستا حتى افترقتا بنفس السرعة كالبرق على صوتِ اللاهث من الجري مع انجليزيته الضائعة :
" من الجيد أني لحقتُ بك....لقد نسيتُ هاتفك على الطاولة ..!!"
دخلت بيتها بعد أن أوصلتها وصعدت السلالم ووجيب قلبها يزّفها اثناء طريقها لغرفتها وهي طائفة في عالمها تضع بطن أناملها على شفتيها اللتين تشقّان ابتسامة رغماً عنها ...كانت مغيّبة ...ذائبة !...ولجت لعشها ووقفت أمام المرآه ....أنزلت يدها عن فمها وحملقت في وجهها ذو الوجنتين المتوردتين بلون الحياء والحبور...لمعت عيناها برضى وتمتمت تسأل انعكاس صورتها بخفوت :
" ما هذا الشعور اللذيذ رغم عدم اكتماله ؟!...ماذا كان سيحصل بي يا ترى لو أنه لم يأتِ صديقه الإيطالي وينقذني من الخضوع بين يديه ومن أسرِ شفتيّ بشفتيه ؟!.....أكنتُ سأصبح بقايا ألمى من انصهاري ؟!....ماذا فعلت بي يا يامن من مجرد تماس سريع ؟!......"
جرّت قدميها لسريرها واستلقت تستعيد كل ما حصل معها اليوم وهي بين الفينة والأخرى تشد بلوزتها من جهة كتفها لأنفها تستنشق عطري العالق بها ثم غطت في نومها دون أن تنتبه لملابسها التي لم تبدلها .....

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

تمضي بنا الأيام وتأخذنا نحو مستقبلنا المجهول ...يقترب موعد زفاف شقيقتي وصديقي ومعه يقترب زفافي!!...وقبل يوم من عرسهما ها نحن نحطّ بطائرتنا مرةً أخرى بوقتٍ متقارب وبفضلٍ من الله علينا في أرضنا الطيبة لنملأ شُعبنا الهوائية بنقاء هوائها , وقد كان باستقبالنا (سامي) الذي لا يتنازل عن دوره هذا مهما كان مشغولاً.....وبعد الاستقبالات في البيت والترحيبات والأجواء التي تفوح منها رائحة الأفراح والتي أتمنى أن تبقى ديارنا عامرة بها التزمتُ بغرفتي لأرتاح أما خالتي انشغلت مع والدتي وشقيقتي ليفرغن ما في جُعبهن من حكايا لا تنتهي !! وبينما انا مستلقٍ على سريري اتوسد ذراعي الأيسر وشاردٌ في السقف ولم استطع النوم...دخلت أمي وزلفت مني بخطواتها التي تنبض بالحياة والتي تخبرنا انها ما زالت صامدة من أجلنا...التفتّ بوجهي نحوها وعزمتُ على النهوض لأعدّل جلستي فأسرعت بحركتها تحاول منعي وهي تضع كفيها على كتفي وصدري وهمست بصوتها العطوف:
" ابقَ بنيّ كما أنت ...جئتُ فقط لأراك ان كنت تحتاج شيئاً.."

اتكأت بمرفقي ارفع جسدي قليلاً ومسكت كفها أقبّله وقلت :
" سلامتك أمي...لا تعامليني كالضيف أو الغريب...أنا في بيتي !.."

جلست بتباطؤ جواري على طرف السرير ومدت يمناها تمسد وجنتي هامسة:
" بالطبع حبيبي أنت في بيتك...لم اقصد هذا...."
مدت يدها الأخرى وحاوطت وجهي بهما وعيناها تحصر الدموع وقالت:
" جئتُ لأعطيك حضني.!..منذ ذلك اليوم عندما طلبته وأنت بعيد وأنا أنام في حسرة كلما تذكرت المسافات التي تفرقنا وأنت بأمسَّ الحاجة لي بنيّ .."

اختنقتْ وأجهشتْ بالبكاء بين حروفها الاخيرة ففززتُ جالساً أمسك يديها أشدّ عليهما أحاول رفع معنوياتها وأنا الأحوج لها قائلاً بصوتي المبحوح اختناقاً:
" سامحيني أمي ...لو علمت أني سأفعل بكِ هذا لما نطقت حرفاً...ها أنا جئت وسأنعم في دفء حضنك...أرجوكِ لا تعذبي روحك وترهقي قلبك ..."

حررتُ يديّ وجذبتها من عنقها برفق لأضع رأسها على صدري وربّتّ على ظهرها وأنا أقبّلها من فوق حجابها طالباً الرضا:
" فقط ارضي عنا أماه ...رضاكِ هو وقودي لأؤدي واجباتي في هذه الدنيا ...اسأل الله ان يطيل في عمرك وأنت بكامل الصحة والعافية لتمدّينا من نبع حنانك .."

رفعت رأسها وكفكفت دموعها بكفيها وقالت بوجهٍ ضاحك لتهرب من آلامها وتحميني منها :
" جلبنا عبد المعين ليعيننا ووجدنا انه يريد من يعينه!! ....جئت لأساندك فقمت انت بمساندتي بنيّ..."

قلت وانا أتأمل وجهها المشعّ بالطيبة والايمان:
" أنفاسك أكبر سند لنا أمي.."

زحفت بجسدها وهي جالسة لتصل تقريباً منتصف السرير وابعد ثم كإشارة منها ربتت بكفها على فخذها وهمست بفائض من الحنان:
" ضع رأسك هنا على وطنك الذي يفديك بعمره لتحيا....أترك نفسك ولا تقيّد أي مشاعر تجتاحك....إن رغبت بالضحك فاطلقها ولا تبالي وإن شعرت بالبكاء فابكِ في بئر حضني الذي سيدفن في قلبه دمعاتك...خُذ مني سعادتي واعطني اوجاعك يا مهجة قلبي....هيا نَم يا صغيري ويا فرحة عمري لأعطيك الأمان عسى أن ترتاح.."

أملت جذعي براحة وحذر حتى وصل رأسي حجرها فمدت يداً تداعب بها ذقني وخدّي والأخرى تمسح شعري برقة فطلبتُ منها بعد لحظات من الصمت والسرحان وأنا أثبّت عينيّ الترابية بعينيها :
" أتذكرين آيات سورة الأنفال التي كان أبي يقرأها عليّ قبل النوم ؟!.."

ارتسمت بسمة على محيّاها ورمشت بعينيها تومئ بنعم وقالت:
" رحمه الله...أجل..كانت هذه الآيات يقرأها عليك بالليل قبل ذهابه للجهاد في المعارك راجياً من الله النصر..."

قلبتُ رأسي الموجود في حضنها وكذلك جسدي جانباً على يميني وأسدلت اهدابي باسترخاء وهمست:
" من فضلك...اقرئيها عليّ "

تنحنحت وبدأت ترتل مجوّدة بصوتها الناعم , مرهف الإحساس بعد البسملة:
"..{{ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ(8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ(12) }}..."

كيف غفوتُ وكيف تركتني أمي دون أن أشعر بعد أن دثرتني بغطائي؟!...حقاً لا أعي!!...لكن بالتأكيد هذا هو سحر الأمومة ولمساتها مع حضنها الآمن فحنانها يتسلل إلينا كنسمات الصباح العليلة ..كشعاع الشمس أول طلّاته من نوافذ البيت المكسوّة بالستائر الرقيقة !!....آه ما أروع حضنُ أمي!.....احفظها لنا يا رب ولا تحرمنا من لمسها وهمسها...
×
×
×

في آخر الليل بعد أن انتهينا من بعض الأعمال الخاصة بتحضيرات حفل الزفاف الذي سيقام في حديقة بيتنا الجبليّ غداً , اتخذ كلٌ منا غرفته وبعد وقت ليس بقليل ولأني غفوت في ساعات العصر ولم أشعر باحتياجي للنوم قصدتُ غرفة أمي لأرى ان كانت نائمة أم ما زالت مستيقظة !! ..فأنا اشتاق لها كثيراً وأريد أن أُشبِع عينيّ منها قدر الإمكان قبل الرحيل وايضاً لديّ كلاماً لها!!....طرقت الباب فقالت :
" من على الباب؟!.."

" هذا أنا أمي...أيمكنني الدخول ؟!."

" بالطبع أدخل ..."

دخلت ووجدتها كانت ترتدي منامتها , تجلس على سريرها وتمد رجليها والمصحف في يدها تضعه على مخدة صغيرة في حضنها وتقرأ منه المنجية من عذاب القبر *سورة الملك* فهذه احدى عاداتها منذ صغرنا ..تختم يومها بها!!....قلت بأدب :
" هل قطعت عليكِ خلوتك.؟!."

تبسّمت هاتفة :
" كلا عزيزي...فقط انتظرني لأنهي آخر آياتها .."

اومأت بعيني لتسترسل بقراءتها ثم دنوتُ من فراشها الوثير العريض الواسع وارتميت بجانبها مستلقياً على ظهري براحة ....انتهت من القراءة وأغلقت المصحف قبّلته ووضعته على المنضدة على يمينها وهمست بقلق وهي تدير وجهها ليسارها نحوي :
" لمَ لم تنم وغداً ينتظرنا يومٌ طويلٌ ان شاء الله ؟!.."

رفعت جسدي العلوي اسند ظهري لظهر السرير جالساً وأجبت :
" اكتفيتُ من نومة العصرية وجئت لأسألك عن دنيا !."

سألت بفضول وتشكك:
" ما لها دنيا ؟!"



تبسمت وهمست :
" لا تقلقي !...لكن أود أن اعرف ان وصيّتها على زوجها وأهله أم لا ؟!...أعترف أنني دللتها ولا أسمح لأحد بجرحها او توجيه أي كلمة تزعلها ...لكن أيضاً لا أريدها أن تخطئ بحق أي أحدٍ منهم وعليها صون بيتها وزوجها واحترام أهله !!..."

تنهدتُ بهدوء وتابعتُ:
" يعني أقول لو أنك تكلميها بهذا الموضوع وأنا متأكد أنكِ لم تقصري بهذا لكن من باب التذكير أمي .."

رسمت ابتسامة رضا على وجهها ومدّت يدها تربّت على ذراعي الممدودة بيننا وقالت:
" شقيقتك مدللة لكنها بنت أصول...مهما تدللت وعاندت فطرتها الطيبة تسبقها ومع ذلك وددتُ أن اطلب منك انت لتقوم بتوجيهها كأبٍ وأخٍ لها ....هي سمعت مني ما يكفيها والآن دورك بنيّ!!.."

صمتّ برهةً وقلت:
" حسناً أمي...سأكلمها في الصباح بإذن الله!!"

" ان شاء الله....والآن قل لي...ما وضعك مع ألمى ؟!.."

حروف اسمها القليلة جعلت قلبي يرقص عند سماعها...ألهذه الدرجة أشتاقُ لها ؟!...أم أن تلامس شفاهنا زاد من وضعي عشقاً وفي حبها غرقاً وهذا وأنا لم استطعمها جيداً بعد!!....فحالتي كالمسكين الظمآن التائه في احدى الصحاري ووجد كأس ماءٍ ليسدّ القليل من عطشه وما إن وصل الماء لطرف شفتيه حتى انزلق من يده وانسكب كله على الرمال ....عرف ملمس الماء لكنه لم يدخله لجوفه !!....وضعي كالمحتضر يبللون له شفتيه قبل خروج الروح ....ولكن لا الروح خرجت ليرتاح ولا الماء دخل ليرتوي....ماذا تفعل روحي بروحي ؟!....أيا ترى سنعيد تلك اللحظة بعمق أم انها كانت الطريق لارتكاب الخطيئة ونجانا الله منها ؟!....

" جيد وضعنا أمي...لا تقدم ولا تأخر.."

ضحكتُ وأملتُ رأسي احكّ عنقي مردفاً:
" تستطيعين القول ان الوضع مستتب حالياً على الحدود ما لم تثير حفيظتي لأقصفها !!..."

همست بصوت دافئ :
" هادي وأنت ايضاً اقترب زفافك ...على ماذا تنوي ولما تخطط في حياتك معها ؟!.."

شردت قليلاً أفكر وأنا اهزّ رأسي بحركة لا أعلم ثم أجبت :
" سأترك ذلك للأيام...فأنا خططتُ سابقاً للكثير ولكن مخططاتي دائماً تفشل عندما يكون الأمر متعلقاً بها !!....لكني ما زلت اؤمن بنهاية علاقتنا... كيف ومتى العلم عند الله !!.."

سألتني على غفلة :
" والأولاد ؟؟.."

جحظتُ عينيّ بذهول وسألت مستنكراً:
"عن أي أولاد تتحدثين ؟.."

أجابت :
" بعد شهر ستتزوجا رسمياً وستكون معك في غرفتك ...ألم تفكر بهذه النقطة ؟!....على ماذا ستتفق معها ؟!...وإن تم الحمل ما موقع الأولاد بينكما وأنت تضع برأسك نهاية لعلاقتكما ؟!.."

قلت بضيق:
" إلى أين وصلتِ أمي ؟!...طموحك عالٍ ....اخفضي سقف طموحاتك وارتاحي...بالطبع لن يكون أولاد بيننا .."

سألت باستياء:
" إذاً ماذا ستكون حجتك لتقنعها باستخدام حبوب منع الحمل ؟!....ها ؟...أجبني !!.."

ضحكت متنهداً وقلت رغم الأسى الذي ينتشر في داخلي :
" لا حاجة لأي مانع..."

رفعت حاجبها تسأل بتعجب :
" كيف ذلك؟!....لا تجننني !!.."

استدرت بجذعي العلوي جانباً وقلت مبتسماً بمرارة:
" ببساطة لأنه لن يكون علاقة بيننا كما تظنين...سنعيش منفصلين كل واحد بغرفة الى أن يشاء الله .."

" ماذا؟!...ما حجّتك لها؟!....هذا سيجعل زواجك مشبوهاً وستضع نفسك في الخطر!!..."

هتفت مستنكرة فأجبتها بهدوء :
" ستأتي الحجّة في وقتها ...لا تهتمي...وإن كان سيكون مشبوهاً سيبقى بيننا ولن تجرؤ على البوح عمّا يحدث في بيتنا لأنني سأشدد بتنبيهها على هذه النقطة ثم لا بد أنها ستخجل من ذكر مثل هذه المواضيع الحساسة لأحد !!....اطمئني أمي!!..."

ارخت ملامحها بيأس وتنهدت هامسة بحزن:
" لا تعليق لديّ حقاً...أتمنى من الله أن يختار الخير لكليكما !!.."

أمّنت خلفها وقلت بأدب ونبرة تحذيرية:
" هذا الكلام لا اريده أن يخرج من بيننا...فقط أنتِ من أطلعتك عليه ...من فضلك لا تخبري أيٍّ كان وحتى خالتي ....اعتبريه سري الذي فصحتُ عنه لكِ وحدك!.."



هزّت رأسها موافقة ثم غيّرت نبرتها السابقة وقالت:
" أرجو أن يصل السيد سليم وعمتك لبنى غداً في وقت مبكر لأننا دعونا بعض أصدقاء والدك وأريد أن يكون بيننا رجل كبير لاستقبالهم وتأدية الواجب في حقهم.."

فُتح الباب بقوة قبل أن أنبس ببنت شفة لها ليدخل الرجل الصغير الغاضب صارخاً لا يرى أمامه من شدة نعاسه :
" أمّـــي....تكلمي مع ابنتك المزعجة أريد أن أنام وهي لم تترك هاتفها تتكلم مع سامي ويزعجانني !!..."

كان ينام معها هذه الليلة في غرفتها لأن خاصته تنام بها خالتي فقلت :
" اذهب لغرفتي ونَم هناك..."

اتسعت عيناه متفاجئاً من صوتي فيبدو انه لم يلحظني عند دخوله من التصاق جفونه ببعضها ثم قال مستنكراً باندهاش:
" لمَ تسمحين لهادي النوم على سريرك وأنا لا ؟!...هل تحبينه أكثر مني ؟!.."

ضحكنا كلانا ثم أرهفنا السمع بصمت على صوت التي تنادي من بعيد حتى وصلتنا:
" شادي ....ايها الشبر ونصف اين انت ؟!...تعال لقد انتـ..."

قطعت كلمتها وجحظت عينيها بصدمة عندما ولجت إلينا ووجدتني مستلقياً جوار أمي وقالت بنزق :
" ما هذه التفرقة والعنصرية التي نعانيها في هذا البيت ؟!....لمَ سمحتِ لهادي بالنوم على سريرك مكان أبي ؟!..أم لأنه حبيب القلب سيدة عيوش ؟!..."

ظلّت أمي صامتة فقلت متباهياً بمزاح :
" أشمّ رائحة احتراق من الغيرة ....ما بكما عليّ ؟.."
وأكملتُ استفزهما ببرود :
" ربما أنتما تبللان تحتكما لذا أمي تمنعكما من النوم عليه لمَ هذا الحسد ؟!.."

ضحكت أمي وقالت:
" هادي لم يشاورني وارتمى عليه ...أتريدان مني أن أطرده ؟...ثم نعم يحق له كل شيء يفعله وأنا اريد أن أشبع منه ...أنتما في وجهي أربعة وعشرين ساعة ...كفاكما طمعاً أيها الشقيان.."

عبست (دنيا) بتصنع وهمست :
" وأنا ظننتُ أنكِ ستبكين عند خروجي من البيت لبيت زوجي !.."

رغم أن التفكير بهذا يجعل فؤادها يسكب عبراته لأنها لا تريد أن تتخيل أن ابنتها وحيدتها ستترك البيت يوماً لترسم حياة جديدة لها مع أناس جدد ولن يتبقَّى منها سوى الذكريات التي لا تعود الّا أنها منعت ظهور تأثير ما تفكر به على وجهها وفتحت ذراعيها باسمة هامسة بحنية :
" تعالا إليّ يا صغيريّ.."

وقبل انهاء طلبها تسابقا بالانقضاض والقفز نحونا ...صغيرنا من يساري على طرف السرير ودنيانا على يمين أمي في الطرف الآخر لأصبح أنا وهي في النصف...سحبتُ (شادي) وجعلته بيننا والتصقنا أربعتنا في بعضنا ...شقيقتي تتكئ برأسها على كتف أمي وتحتضنها من الخلف بذراعها وشقيقي يتوسد صدرها وأنا ألصق رأسي برأسها وبيميني أحاول حصر ثلاثتهم كأنني الدرع الحامي لهم ...مدّ أخي يسراه وسحب يسراي يحاول وضعها في حضنه وشد قبضته عليها بحب واشتياق فلحقته عروستنا بيمينها تضعها فوق قبضتينا تدعم تماسكنا ونبض الحياة الحنونة شرعت بتقبيلنا واحداً واحداً أينما تصلنا ودمعتان خانتاها انسابتا على نور وجهها بسبب المشاعر الدافئة الجياشة التي ملأت غرفتها وبيتنا ونحن حولها آمنون في منظر يعبّر عن رباطنا العائلي المتين ودمائنا الوفية التي تنضح بالحب والسعادة وتجعل انشراح في الصدور والشعور بالغبطة لمن يفتقد هذا التآلُف والوئام ....
هذه صورتنا اللطيفة الوديعة بقينا عليها ونحن نتناول أطراف الحديث نستعيد بعض السعيد من الذكريات مع صدق الضحكات ولم ندنُ من المؤلم منها كي لا نكسر او نشوّه نقاء ليلتنا التي نالت الصدارة كأجمل ليلة من ليالي عمرنا في سنواتنا الأخيرة من بعد رحيل أبي رمز العطاء والأمان...!!

~~~~~~~~~~~~~~~~~~

كنا في العاشرة والنصف صباحاً من يوم الفرح نتناول فطورنا الذي حضرته أمي وخالتي بأنفاسهما الطيّبة والهدوء يعم في المكان بسبب الكسولان اللذان أمضيا ليلتنا وهما يتسابقان في الثرثرة ...فها هو الصغير يتكئ بمرفقه على الطاولة مغمض العينين ويتوسد كفه وبين الدقيقة والأخرى ينتفض مجفلاً كلّما وقع راسه وأمي تكلمه ليصحصح ولكن لا حياة لمن تنادي أما عروستنا تدثر رأسها تخفيه متوسّدة ذراعيها على الطاولة وشعرها الترابيّ يتناثر حولها وكنتُ قد أبعدت صحن المُربى من أمامها قبل أن تغمس وجهها به وهي غارقة في أحلامها ...مددت يدي أداعب أذنها بإصبعي كي تنهض ولكنها لم تتحرك..!!... وبينما نحن بين الصد والرد لنوقظهم قرع جرس الباب فسبقتني امي لتفتحه ليدخل علينا عريس الزين فهاجمته قبل ان يلقي تحيته قائلاً بصدمة :
" يا فتّاح يا عليم يا رزاق يا كريم ....هل رايتنا بحلمك سيد سامي ؟!.."

وما إن قال :
" صباح الخير.."
حتى فزّت الماكرة , المخادعة عند سماع صوته الذي كان بمثابة جرس الإنذار وبدأت تلملم نفسها وشعرها الذي بدا كأنه مصعوق كهربائياً وفركت عينيها والواقف يصبّ جلّ نظره عليها معتبراً إيانا أننا سراب أو ظلال لأصنام فقلت وهما يتأملان بعضهما بهيام :
" لماذا جئت ؟!.."

يبدو أنني أكلّم نفسي فطرقت قبضتي بخفة على الطاولة مصدراً صوتاً للخشب مع اصطكاك المعالق بالأطباق فانقطعت لحظة هيامهما وعادا للواقع وأجاب :
" جئتُ لأخذك لنحتفل بتوديع العزوبية !!.."

جميعنا صوبنا بصرنا نحوه مشدوهين مما قال فهتفت أمي باستغراب بينما انا كنت أحاول قراءة نظراته وما وراء كلماته :
" هل أنت في وعيك عزيزي سامي ؟!...كان يجدر بكم ان تحتفلوا به قبل ليلة او ليلتين....منذ متى يحتفل به الناس صباحية الزفاف.."

أجاب بثبات يقنع الموجودين لكنه بالتأكيد لم يستطع اقناعي فمثل هذا لا يفوتني !!:
" تعلمين عيوش هادي جاء البارحة وبيتنا كان عامراً بالضيوف لذا لم يتسنَّ لنا القيام به وأريد أن اودع عزوبيتي مع توأمي ....لن نتأخر بإذن الله !!.."

تدخّلت خطيبته هاتفة بحيرة :
" كيف ؟!...ربما أمي تحتاجه بشيء....هل هذا وقته ؟!.."

دنا منها بجرأة وقرصها من أنفها بلطافة بالوسطى والسبابة هامساً دون ان يحسب حسابنا هذا الوقح :
" اذهبي لصالون تجميل العرائس يا جميلة واهتمي بنفسك من أجل ليلة عمرنا يا عينيّ الشهد ولا تفكري بشيء ....شقيقي رامي سيقوم بأي مهمة عن هادي تحتاجها عيوش وباقي اشقائي يهتمون بمتطلبات أهلي..!!.....اتفقنا حُبي ؟!.."

توهّج وجهها حياءً وحرجاً منه وما زاده احمراراً قولي بنبرة مازحة تخفي غيرتي عليها:
" أتعلم أنك وقح وغليظ لدرجة غبية ؟!...على الأقل احترم حميّة شقيقها الكبير!.."

رفع يده بلا مبالاة مع حركة بوجهه تدلّ على ملله من كلامي وقال :
" تعطيني دروس التربية في وقتٍ آخر ...هيا انهض حالاً !.."

أجبته بعدم اهتمام وأنا احمل كأسي الشاي لأشرب :
" لمْ أُنهِ فطوري بعد ثم سأبدل ملابسي البيتية .."

كنتُ ارتدي بنطالاً اسوداً رياضياً وبلوزة قطنيه خريفية رمادية ....

دنا اكثر مني وبيدٍ أخذ كأس الشاي مني ليضعها على الطاولة وبالأخرى يحاول سحبي وهتف :
" هيا لا ترفع ضغطي!!.."

سايرته متوجساً من حركاته وبعدما انتعلت حذائي الرياضي الأسود وصرنا خارج البيت مسكته من ذراعه رافعاً حاجبي بتساؤل:
" ماذا هناك سامي؟؟....اقلقتني !!"

قال بعجلة :
" في الطريق سأخبرك.."

هتفت بعدم ارتياح :
" لا اخبرني الآن او لن اتحرك.."

تنهد بيأس مني وأجاب:
" صديقي عُبيدة ضابط الجمارك في النقطة التي على حدودنا الشرقية يقع في مشكلة وعليّ مساعدته !!.."

قلت باستهجان :
" هل اخترت هذا اليوم لتساعده ؟!..الا تنتظر تلك المشكلة ؟!.."

تأفف وقال :
" رجال عصابات تهريب المخدرات خطفوا ابنه !!.."

" ماذااا؟!..متى وكيف ؟!"

سألت مصدوماً ليجيب:
" هذا الأسبوع الثاني ولا أي جهة رسمية تعرف بالقصة!!....فقط أنا وهو وأهل بيته وصديقي في مركز تل الصقور أشرف....تكتم عن الخبر حتى يجد مخرجاً..."

قلت:
" هل يبتزونه بمبالغ طائلة ؟!.."

قال:
" يا ليت !!...كنا قد حللناها مهما كلفنا من مال!....يريدون أن يوقّع على تصاريح لبضاعة جديدة سوداء لهم ستدخل من النقطة التي يعمل بها!!... وبعد يومين من رفضه لطلبهم الدنيء قاموا بخطف ابنه اثناء عودته من المدرسة ...لو هددوه لاحترس وحمى عائلته لكنهم بخباثة أظهروا له عدم اصرارهم ليباغتوه بفعلتهم الحقيرة !!.."

قلت مقترحاً الحلول :
" لمَ لا يسايرهم بالالتقاء بهم مدّعياً موافقته بعد ان تضعوا لهم كميناً ذكياً للقبض عليهم وارجاع الطفل ؟!.."

قال ساخراً بحنق :
" أيها الغبي ان فعلها هم ليسوا حمقى ليثقوا به بما انه ضابط ومعروف عنه انه شريف فسيعززون من رجالهم المتدربين ويحمون أنفسهم وسيحصل اشتباك مسلّح ويكون الكثير من الضحايا من طرفنا وربما الطفل اولهم حفظه الله !.."

قلت:
" اذاً ما العمل ؟!."

أجاب متنهداً:
" حالياً اعطاهم موعداً لبعد ثلاثة أيام من اليوم كي يلتقي بهم لكني لم أنم وانا افكر واخطط منذ أسبوع ونصف فقررت أن أقوم بالعملية بنفسي !.."

قلت معاتباً باستياء:
" وهل اخترت يوم زفافك لتفعلها ؟!...لمَ لم تفعلها من قبل او على الأقل بعد يومين من الزفاف ؟!.."

" اووف هادي...انا رسمتُ كل شيء وخططت له ليس عن عبث!!...الطفل موجود في المدينة الشرقية في فيلا رئيس المافيا عقاب صفوان وبعد تقصّي المعلومات عنه قمت بمراقبة بيته على مدار الأسبوع والنصف بمساعدة أشرف بشكل يومي عن طريق آلة التصوير الطائرة وتأكدتُ انه يوم الخميس يذهب مع عائلته برحلة استجمامية أسبوعية لبيتهم في المدينة الساحلية ويكون عدد الحراس في الفيلا أقل من باقي الأيام غير أن عبيدة يكون في عمله بهذه الأوقات لذا لن يشكّوا بأي حركة لأنه مراقب من قِبلهم ...فعلينا أن نتغدى بهم قبل أن يتعشوا بنا !!...وأنا لم أخبر عبيدة بمخططي وأردتُ أن أقوم به لوحدي وانقذ الطفل لأني أؤمن أن الشجاعة تغلب الجماعة وليس كما خدعونا وقالوا العكس !!....فاذا كانت الخطة محكمة بإذن الله وبعد التوكل عليه ستنجح!!..."

ركبنا سيارته لنكمل حديثنا عن الخطة فسألت:
" ما هي الأدوات التي معك والأسلحة ؟!.."

" كل شيء جاهز....المسدس الذي يطلق إبر منوّمة من أجل كلاب الحراسة الدقيق الذي يعمل بالإشعاع (MP5)والمسدس الكاتم للصوت مع ذخيرته ورشاش
وسماعة الأذن المخفية مع المايك ....وواقي الرصاص...يكفي هذا اليس كذلك ؟!.."

" ان شاء الله..أتمنى...وأنا ما وظيفتي ؟!.."

" ستجلس في السيارة وتنتظرني لتكون مستعداً للانطلاق حالما أحرر الطفل.."

" هيــه ..هل تسحبني لبلد أخرى تبعد عنا ساعة ونصف لأتولى القيادة فقط ؟!."

كان هذا حديثنا بالسيارة في ساحة منزلنا وقبل ان نجتاز البوابة الكبيرة حتى سدّ طريقنا صديقنا (أحمد) بسيارته ومعه (بلال)...فتمتم الغليظ شاتماً:
" من أين خرج لنا هاذان الأحمقان ؟!.."

ضغط على زامور السيارة ليبتعدا لكنهما لم يتحركا فاطفأ (احمد) محرك سيارته وترجلا وهي تغلق الطريق أمامنا وركبا معنا ثم هتف (بلال) :
" ما هذه الخيانة أيها الخبيثين ؟!...ذهبنا لبيتك سيد سامي وقال شقيقك رامي أنك اتيت للسيد هادي لتذهبا للاحتفال بتوديع العزوبية !!..أين نحنُ من ذلك ؟!.."

تطلعنا ببعضنا أنا وهو وكتمنا ضحكاتنا فأضاف (أحمد) :
" نظراتكما الخبيثة توحي أنكما تخفيا شيئاً...لن نتزحزح حتى تخبرانا .."

أجابه (سامي) ساخراً:
" اذهب يا ولد ..هذا الاحتفال للمخطوبين وليس للعازفين عن الزواج أمثالك "

فقال (بلال) متفاخراً:
" إذاً يناسبني أ.."

قاطعه الغليظ متهكماً :
" خذ الإذن من عروسك قبل أن تتبجح ....أنا لست مسؤولاً لأتحمل خطاياك "

سئمت من حديثهم التافه والوقت يمضي فقلت لأنهيه :
" سامي لا وقت لدينا ...هيا .."
والتفتّ للوراء قائلاً :
" انزلا لدينا مهمة ..!!."


رفع بصره لسقف السيارة ويديه داعيا :
" ياا رب ماذا اذنبت لأُبتلى بمثل هؤلاء الحمقى ؟!.."

فتح (أحمد ) الباب وقال :
" سأركن سيارتي ...انتظروني وإلّا قسماً لن أريكم وجهي إن غدرتموني وذهبتم..".

تأفف (سامي) وهتف :
" صبراً يا الله ....ماذا ستفعلان معنا ؟!...انا وهادي نكفي ..."

هتف ( بلال ) ببرود :
" اعطنا نبذة سريعة عن المهمة لنقيّم ان كنتما تكفيان ام لا .."

فأجبته أنا مختصراً بالشرح وبعد ان انتهيت قال للذي بجانبي وبثقة يربط حزامه:
" إذاً قُد السيارة وأنت صامت أيها الغليظ ...تقولان فيلا وحراسة مشددة ...من سيعطل لكَ آلات المراقبة أو يفتح لك الأبواب الكهربائية ؟؟,,,وربما تحتاجان لقطع الكهرباء عن طريق التحكم عن بعد يا ذكيين !!.."

صفع (سامي) جبينه وتمتم شاتماً نفسه :
" يا لحماقتي كيف فاتني هذا ؟!.."

أجاب (أحمد) شامتاً :
" أرأيت ؟! هذه نتيجة عدم العزوف عن الزواج ...أنت حالياً في المرحلة الأولى تشتت وضياع ...بعد شهر العسل فقدان جزئي للعقل....ومع الأطفال ان شاء الله تكون جاهزاً لحمل شهادة من مشفى الأمراض العقلية !......يا عم ...العقل زينة...اعطني حريتي اطلق يديّ !!.."

أضاف ( بلال ) ساخراً منه :
" سنتفهم وضعك يا ضابطنا النبيه ...أنت عريس ومرتبك من الزواج لن نؤاخذك !.."

زفرت أنفاسي بضيق وقلت بحزم :
" هلّا أغلقتم هذه السيرة ؟!...ألا تضعون اعتباراً لوجودي بصفتي شقيق العروس ؟!..."

تنهدت مستطرداً:
"هيا احمد تحرك وابعد سيارتك ....علينا انهائها باكراً فأنا لستُ متفرغاً وأهلي يحتاجونني !!.."

قال احمد بلباقة وهو يمدّ يده على كتفي :
" نعتذر يا صديقي ...كنا نمزح لنرطب الجو المتوتر !...حقك علينا!.."

اومأت برأسي راضياً وهمست :
" وأنا اعتذر يا صاحبي .... لكنني مضغوط جداً....المسؤوليات تنتظرنا وعريسنا أخرج لنا مهمة من تحت الأرض من حيث لا ندري!!.."

×
×
×

في طريقنا بدأ ( بلال ) يقوم بعمله ...لقد أنزل برنامجاً على هاتف (أحمد) ليربط السماعة للتواصل مع (سامي) من الداخل وبرنامجاً آخراً على هاتفه خاص بالاختراقات فهو وظيفته البقاء في السيارة ليتحكم بآلات المراقبة والكهرباء ويوجّه عريسنا الضابط حسبها ...كنا في منطقة الهدف في المدينة الشرقية بين الساعة الواحدة والنصف والثانية بعد الظهر ....اتخذنا مكاناً قريباً من الفيلا بين الأشجار المجاورة...وقبل أن يهمّ للنزول قلت له :
" اشرح لي من اين ستدخل وستخرج .."

بينما كان صديقنا بلبل يسابق الدقائق ويخترق الأنظمة الأمنية الخاصة بالفيلا شرع (سامي) بالشرح لي بدقة :
" سأدخل من الخلف وأعود من نفس المكان لأن اكثر الحراس يتواجدون في المدخل .."

وأكمل يشرح أشياءً أخرى وأنا كل تركيزي معه فقال ( بلال ) بعد قليل :
" نجحت...انظروا.!!..هناك غرفة بالطابق الأرضي يقف امام بابها حارسان ..."

قلب لنا هاتفه لنرى وكان مثلما قال وربما يتواجد الطفل فيها ولكن لا آلات مراقبة تُظهر ما بداخل الغرفة ويبدو انها للنوم خاصة بالضيوف لذا لا يضعون بها أنظمة امنية بخلاف باقي زوايا الطابق !!...الجميل أن في داخل الفيلا فقط هاذان الحارسان لكن لم نعلم إن كان داخل الغرفة غيرهم !!.....قلت لتوأمي :
" سامي أنا سأدخل.."

قال بسخرية:
" هل جننت؟!...ماذا تهذي ؟!.."

" لا أهذي ...انا اريد الدخول وانت ابقَ!.."

وهكذا بدأنا نتجادل مَن منا سيدخل حتى أنهى صراعنا عندما فتح بابه بعناد مصمماً وترجّل قاصداً صندوق السيارة يضع على جسده واقي الرصاص ويملأ الذخيرة ورفع لنا بيده التحية العسكرية متوكلاً على الله ثم بدأ يخطو بحذر مدبراً الى السور الخلفي ففتحتُ بابي ببطء كي لا يصدر صوتاً وهمست لمن معي اضع سبابتي على فمي:
" ششش...ولا كلمة.."

ثم خطوت خلفه حتى وصلته بخفة قبل أن يصل السور وباغتّه بضربة جانبية على رأسه من قبضتي كي يغمى عليه ثم أشرت لـ(أحمد ) ليأتي ويساعدني على حمله!! ...حملناه حتى وصلنا السيارة ووضعناه في المقعد الامامي جانب السائق !!.....لم يكن سوى بضعة أمتار التي ابتعدها.!!....خلعتُ مضاد الرصاص عنه وارتديته وأخذت الحزام الذي يعلق عليه أسلحته وحوطت خصري به ووضعت السماعة في أذني ثم همست :
" أحمد...استلم مقعد القيادة وكن جاهزاً للفرار عندما أعود ان شاء الله....بلال أنت ركّز ووجهني بدقة واستعد لإنزال مفتاح الكهرباء الرئيسي عندما اطلب منك....لا نريد أي خطأ ...علينا الخروج بإذن الله سالمين جميعنا مع الولد !.."

تسلقت السور بحذر وإذ بكلبٍ يستلقي على العشب في الحديقة الخلفية دون وجود حراس عنده ولما شعر بي هبّ وبدأ ينبح لكني بطلاقة اسكتّه بطلقة من مسدس المنوّم قبل أن يتابع نباحه ...قفزتُ وتدحرجتُ بجسدي حتى وصلت بلاط شرفة خلفية...انتصبتُ واقفاً واقتربت من بابها الزجاجي الموصد والذي يفتح لوحده عند الوقوف أمام العين خاصته والتي كانت فقط داخلية فهمستُ لـ(بلال) من السماعة ليخترقها ...بعد خمس دقائق نجح بالتحكم به وفتحه وكان هذا يؤدي للمطبخ الكبير الساكن من أي حركة وبينما أنا ألج متسللاً إليه تفاجأت بوجود خادمة فاحتجبتُ سريعاً بالبراد وهمست في داخلي " يا رب سامحني لا مفر "...ثم من مسدس المنوم الخاص للحيوانات أطلقتُ إبرة لتصيب عنقها وتحديداً على الوريد كي تفقد وعيها ...خرجتُ من المطبخ قاصداً رواق رفيع يصل الى بهو الفيلا وعليّ اجتيازه لأصل للردهة التي تضم أبواب الغرف الأرضية وبما فيها التي يتواجد بها المخطوف...همست لصديقي بقطع الكهرباء فالمساحة هنا واسعة ولا يمكنني السير بهذا الضوء القوي ...ثلاثة دقائق وحلّ الظلام في الداخل الّا من نور خافتٍ جداً للنهار يأتي من ستائر النوافذ السميكة...بدأت بلبلة في الداخل إثر انقطاع الكهرباء وكانت من الحارسين وظنّا أنه خلل او فصل القاطع الكهربائي واتجه أحدهما للخزانة الخاصة بمفاتيح الكهرباء وهو يسيرُ على كاشف الهاتف فاستغليّت ذهابه ثم بخطوات سريعة ووقت قياسي اجتزتُ البهو لأصل الردهة متوسطة المساحة واختبأتُ بعامود مزخرف من الحجر الطبيعي يلتصق بالحائط وشبيهه مقابلاً له...كان الحارس الثاني يعبث بهاتفه ينتظر صديقه الذي ذهب للكهرباء....اقتربت منهُ وهو شاردٌ بهاتفه وما إن نظر إليّ متفاجئاً حتى أعطيته ضربة شبيهه للتي ضربتها لعريسنا ولكن بحديد المسدس ويجب ان لا يقوم منها لمدّة ليست قليلة او أن يعاني ارتجاجاً بالمخ من قوتها ...!!...حركتُ قبضة الباب لأفتحه وإذ به موصد بمفتاح ..فكرت لثواني ثم خمّنت أن يكون بجيب أحد الحارسين...فتشتُ بجيوب الملقى أرضاً وبحمد لله وجدته وفتحت الباب ودلفت ثم ابتسمت بحنوٍ للوجه الملائكي النائم على السرير كان طفلاً ابيض البشرة وشعره بنياً ناعماً كثيفاً ...اقتربت اتأمله بانشراح.. وبرفق حملته أضع رأسه على كتفي واثبته بذراعي وبدا لي انه بالسادسة من العمر , كان ضئيل الحجم..!!....سرتُ بهدوء كأنني لا ألامس الأرض من تحتي ولما فتحت الباب ذُهلتُ كما ذُهل الذي يقرفص جانب زميله يحاول أن يعيد له وعيه وبخفة سحب مسدسه من ظهره عندما رآني ومع سرعة تصويبه نحوي كانت سرعة قدمي التي ركلتُ بها ما بيده توازيها فجثى على ركبتيه ليلتقطه وكنتُ بهذه اللحظة بيدي الحرة أسحب المسدس كاتم الصوت من حزامي وأفرغ أربع رصاصات منه في ساقيه ثم ركضتُ مدبراً عائداً بنفس الطريق الذي اتخذته بدخولي والولد في حضني يبكي مذعوراً وأنا أحاول كتم صوته وتهدئته ولما وصلت الحديقة بأنفاسي المتعاقبة قلت لـ (بلال ) بصوتٍ لاهثٍ :
" تعال لتلقف الولد مني ...هيا استعجل ..بسرعه "
مسّدتُ على شعره وقبلته هامسا برقة :
" لا تخف يا صغيري....أنا صديق والدك ...سآخذك اليه الآن...لكن عليك أن تتشبث بعنقي جيداً ولا تُفلتني ...مفهوم يا بطل ؟!.."

سكت عن البكاء يصغي إليّ ولم يعطني جواباً فكررت عدة مرات حتى اومأ برأسه بنعم مع ارخاء ملامح وجهه التي كانت مذعورة وهكذا بدأت تسلق السور ولكن بصعوبة من شدة حذري عليه كي لا يسقط مني ولما وصلت قمّته كان صديقي وراءه ينتظرني مستعداً لفتح ذراعيه , بسملتُ متوكلاً على الله وألقيته له ليلتقطه ويحتضنه وكان ارتفاع السور حوالي أربعة أمتار !!...نزلتُ المتران الخشبيان منه بحذر ولما وصلت الاسمنتيّ قفزت ولحقتُ بـ ( بلال ) حتى وصلنا السيارة وانطلق بنا ( أحمد) بأقصى سرعة إلى أن ابتعدنا عن هذه المنطقة زفرنا أنفاسنا ثلاثتنا بقوة نفرغ الضغط من صدورنا وانتقل للسير في اعتدال وعريس الهناء في سباته ....
×
×
×

ونحن في طريقنا استيقظ صديقي (سامي) وبدأ يتململ ويتحسس مكان الضربة ثم فزّ بتأهبّ بعد أن استوعب تواجده بالسيارة وبدأ يوزّع نظراته علينا ثم اتسعت عيناه مدهوشاً بعد أن وقعت على الصغير الجالس بيني وبين (بلال) في الخلف وارتسمت ابتسامة عريضة على وجهه وهمس وهو يمد يده ليصافحه :
" سند!!...الحمد لله على سلامتك يا بطل !...كيف حالك أيها الشرطي الصغير ؟!.."

تبسّم الولد وضرب كفه بكف سامي كالكبار وأجاب :
" أنا بخير عمي سامي !...لم أخف من أولئك الأشرار لأنني سأصبح شرطياً مثلكم والشرطي لا يخاف ....اليس كذلك ؟!.."

مسحتُ شعره مداعباً وأجبتُ عن صديقي :
" طبعا أيها الأسد سند...هم سيخافون منك !.."

بينما كنت أكلم الصغير رمقني (سامي) بنظرة غاضبة وقال معاتباً بجدية :
" لمَ غدرتني ؟!...لمْ يكن عليك فعلها هادي !...هذه وظيفتي أنا وأنت عرّضت نفسك للخطر !!...ماذا لو فشلت وحاصروك أو قتلوك ؟...ماذا سأفعل أنا حينها؟!...هل كنت تريدني أن أتشرّب حسرتك طوال العمر والندم يذبحني وتضعني بمواجهة عائلتك الذين لن يسامحونني أبد الدهر إن علموا بهذا ؟!....لا تفعلها مجدداً أو انني لن الجأ لك مرةً ثانية !!.."

أجبته مازحاً بصوت هادئ بارد ألطّف الجو بعد شعوري بانزعاجه الحقيقي من كلماته ونبرته:
" لا أريد لشقيقتي أن تترمل ليلة زفافها وتبكي دماً وألماً.."


قال بضيق من خوفه عليّ:
" وأنت؟..لمْ تفكر بنفسك؟!.."

قلت بضجر :
" ساامي...نجونا بفضل الله ...هلّا غيرت الموضوع وألتفتّ للطريق وأرشدت أحمد أين يتجه ؟!..."

زفرَ أنفاسه الحانقة عليّ , عدّل جلوسه وبدأ يرشد الذي بجانبه على طريق بيت ضابط الجمارك صديقه السيد عبيدة والموجود في الضاحية الجنوبية لهذه المدينة....ثلث ساعة وكنا أمام بيته....كان متوسط الحجم من البيوت الحديثة , له ساحة صغيرة ويوحي لأناس متوسطي الحال...دخلنا ساحته وقبل أن ينزل صديقي قام بالاتصال لوالد الطفل :
" مرحباً عبيدة ...لا أرى سيارتك باب المنزل أما زلت في العمل ؟!.."

"....."

" معي أمانتك !!.."

"....."

ضحك (سامي) وأجاب:
" هذه هدية زفافي لك ..."

"......"

" لم نفعل شيئاً....هذا الواجب يا صديقي !...مهما تجبّر أولئك الحثالة سنمرّغ انوفهم في التراب ونكسر ظهورهم .....بعد عودتي من إجازة الزواج بإذن الله سنبدأ بفض مضاجعهم وتفرقة خليتهم للامساك بهم أو تصفيتهم واحداً واحداً كتذكرة عبور للجحيم ليكونوا عبرة لغيرهم ..."

"....."

" بارك الله لك وان شاء الله ترى سند أوسم عريس .."

"....."

" حسناً...لا تقلق....نتكلم لاحقاً.."

أغلق هاتفه فسألته:
" ماذا قال لك ؟!.."

أجاب بارتياح:
" لو سمعت كيف تبدلت نبرة صوته الحزينة للسرور وبدأ يشكرني ويدعو لي ولكن لأن بيده عملاً ضرورياً لم يُطل بالكلام وطلب مني تسليمه لمَن في البيت...سيتصل بهم ويخبرهم ليفتحوا الباب .!!.."

تمطّى مرهقاً بنعاس ...لمس موضع ألمه مكان قبضتي متأوهاً ثم نظر لساعته وهتف:
" الساعة الآن الرابعة والنصف وما إن نصل ستكون السادسة ان لم نواجه أزمة مرور....يا الله هل سألحق أن اجهّز نفسي؟!.."

أجاب (بلال) شامتاً:
" برأيي اتصل بعروسك واخبرها انك كنت بمهمة لربما تصفح عنك وتعذرك ان تأخرت عن موعد الزفاف أستاذ سامي !!..."

تنهد سانداً رأسه على وسادة مقعده ومسح شعره للخلف ثم هتف بمزاح يخفي توتره وارتباكه:
" آاه ...يا رب سهل أموري....لا أريد أن أبيت هذه الليلة خلف الباب ...أنت أعلم بحالي ونيتي يا الله....استر علينا وعلى فعلتنا هذه .."

ضحك (أحمد) وقال بعد أن لمح باب المنزل يفتح نصف فتحة :
" هيا سامي ....فُتح الباب !.."

تطلّع صوب الباب وبثواني لاحت في باله فكرة وهتف بصوت خفيض متألم ابتدعه بخباثة :
" إنزل أنت احمد وسلمهم سند ...رأسي يؤلمني بسبب هذا النكدي ذو رأس الصوان ..."

نزل دون تردد وأخذ الطفل سائراً بهدوء فالتفت على الفور الغليظ نحونا وقال :
" ادعوا أن يتم الأمر .."

رفعت حاجبي بتساؤل وسألت بتعجب :
" لمَ تقول هذا ؟!..أي أمر؟"

ضحك بمكر وقال :
" ذاك العانس أحمد دائماً يتحجج أنه لا يريد الزواج لأنه لم يجد فتاة على هواه ....فهو يريدها خجولة جداً , مطيعة إن قال لها اللبن أسود ستقول صحيح , قليلة الكلام والزنّ وبنت أصل.."

اتسعت عيناي وقلت :
" هل ضربتي أثّرت على عقلك وبدأت تشبك مواضيع في بعضها ....ماذا تهذي ؟!.."

أجاب معتزاً بعقله الفذّ :
" يا مغفل ...تعمّدت ارساله ليقابل شقيقة عبيدة من أبيه ....هي الموجودة في البيت وستستلم الطفل منه....ما شاء الله تنطبق عليها مواصفات فتاة أحلام ذاك الأبله بالإضافة انها محجبة وجميلة جداً ....سند يشبهها الّا انها تمتلك عينين خضراوين تشبهان عيون القطط......متأكد إن رآها لن يبعد نظره عنها "

ضحكتُ لدهائه وقلت:
" يا رب أن تعلق صنارته ويجد من تستر عليه ....لكن من واجبي اخبار شقيقتي برأيك القيّم عن تلك الفتاة !.."

تأفف وقال بانزعاج ساخراً:
" هيـــه....لم تستكثرون عليّ الفرحة وتحسدونني لأني سأتزوج قبلكم؟! ...أتريدون زرع الفتنة بيننا ؟!.."

قاطعنا (بلال) مشيراً للخارج وهاتفاً:
" جاء أحمد...لنرى بركات تخطيطاتك أيها العبقري.."

جلس أحمد خلف المقود وشغّل المحرك بهدوء ونحن الثلاثة نحملق به ننتظر أي كلمة او تعليق منه فانتبه لنا وسأل مندهشاً :
" ما بكم تنظرون إليّ ؟!.."

ردّ الأشقر الغليظ:
" مَن أخذ الطفل منك ؟!.."

أجاب بعدم اهتمام :
" لا بد انها زوجة صديقك فأنا اوصلته ووليّت ظهري للباب احتراماً لحرمة البيت وقلت لها انا صديق سامي والسلام عليكم وتركتهما وجئت.."

سأله بغيظ:
" وكيف عرفت انها زوجته ؟!.."

قال وهو يلّف المقود يستدير ليخرج من الباب:
" يعني من ستكون بالله عليك؟...وما شأني أنا؟!...ثم بدل ان تضيع وقتك بالتحقيق معي حضّر اجاباتك للتحقيقات التي ستواجهها من القيادات العليا في مدينتنا مثل أهلك وعروسك وحماتك بسبب تأخرنا يا غليظ..!!.."

ارتمى بجسده للوراء على مقعده وسحب نفساً وزفره بقوة محبطاً يائساً قاطعاً الأمل بصديقنا عدو الزواج....

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

رفيقة دربي , حبيبتي , من كانت خير سند في الشدائد ...هي مهجة قلبي وقطعة من روحي ...هي الأم بعد الأم ....سنوات عشناها في حلوها ومرّها أذكرها ...لا انسى شقاوتها وضحكاتها ...كأنه البارحة!!...كم أصبحت الأيام سريعة ؟!...ما زلتُ اشعر بدفء أكتافي التي كنتُ أحملها عليها !!...منذ نعومة أظافرها تعلّقت بي ...كانت كالدرع لتحميني من تأنيب والديّ على اخطائي في طفولتي...حتى أبسط طعامها تشاطرني إياه!!...هي العطاء والوفاء ...هي العزة والكبرياء....أعيد أمامي شريط حياتنا منذ ولادتها حتى هذه اللحظة!!...في مثل هذا اليوم جاءت دنيتُنا الى هذه الدنيا ...دخلتْ البيت ودخلتْ معها الرحمة!...أتعجّب من الناقمين على هذه النعمة !!...ألا يدركون أي نعمة أغدقهم ألله بها ..كيف لا وهنّ الطريق الى الجنة ؟!...كم وصّانا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم عليهن وبأن نحسن تربيتهن لنفوز بجنّات النعيم؟! ....هنيئاً لمن رُزق بهذه الهبة العظيمة فهنّ البهجة والسرور التي لا حدود لها!!...إنهن المؤنسات الغاليات....فرفقاً بهن....يوم مولدها أبي الجبل الصامد اهتزت روحه واقشعّر بدنه بقدومها ....صورته عالقة في ذهني عندما حملها بين ذراعيه برقة وحنية وقرّبها لصدره ليؤذّن في اذنها الآذان الأول وهي ملفوفة بغطائها الأبيض الحريريّ وسطوعه وبهائه يعكس على وجهها...دمعتان تحملان العاطفة والمودّة سقطتا من مقلتيه أمامي فرِحاً بهذه الرحمة التي وهبنا إياها الله الوهّاب...قبّل جبينها الصغير ومدّها نحوي لأحملها قائلاً حينها * هذه امانتك يا هادي , هذه دنيتك ...تموت أنتَ لتحيا هي في هذه الدنيا ...إنها هي دنيانا *....وسمّاها (دنيا)....كانت كالحمامة البيضاء التي تنثر السكينة والسلام تحلّق في أركان بيتنا...كل زاوية لها فيها حكاية!...حكاية دفء وحكاية حنان...اختزلتُ من ذاكرتي سنين الهجرة لأقفز بالزمن واتأملها أمامي الآن وهي تقف على عتبة باب غرفتها بطلّتها البهية متمّةً التسعة عشر عاماً لتخطو خطوة أخرى في العمر , خطوة انتقالية تضعها في عش الزوجية !!..ترتدي فستانها الثلجيّ الناصع دون أي شائبة به مع حجابها الذي يضفي النور لنور وجهها ...طلّت علينا زهرة نيسان...طلّت لنرشّها بالعطر وزهر الأقحوان....دنوتُ منها رفعتُ الطرحة لأقبّل جبينها وبوجنتيها الورديتين طوقت خصري تحتضنني وارتفعت على رؤوس اناملها وقبّلت جبيني ثم شبكتُ ذراعي بذراعها وسرتُ بها نحو السلالم...كل درجة تطؤها قدمها تعزف في قلبي نغمة ...ألحان ما بين فرحتي لها وبها وما بين حزني لتسليمها لآخر يتحمل كافة مسؤولياتها ويرعاها....بين الدرجة والأخرى بدأت اوصي بها لتحافظ على بيتها وحياتها مع زوجها ...طلبتُ منها أن تحفظ سره وقرشه وتصون عرضه...أن تقف معه بالضراء قبل السراء...أن تكون خير معين له وتأخذ بيده إلى الجنة ...أن تكون زوجة تسرّ نظره وأمٍ تُحسن تربية أولاده ...أن تحترم أهله وتضعهم فوق رأسها وتجعلهم هم أهلها ...أن تدفعه ليصل أرحامه ...أن تكون ستراً وغطاءً له...وبعد نصائحي العديدة تنهدتُ برضا مبتسماً لها ثم حملتها بين ذراعيّ ونحن في منتصف السلالم الدائرية وهمست بشموخ رافعاً رأسي مفتخراً بها :
" صغيرتي دنيانا...كوني له البلسم للجراح وكوني أنتِ الوطن الذي يجري في العروق.....أريدُ أن أسمع منه...نعمَ الحسب والنسب ونعمَ الزوجة والصاحبة ابنة محيي الدين الشامي .."

أجواء الزفاف مع صوت الضحكات السعيدة التي تخرج من حديقة بيتنا ملأت الأرجاء ووصلت الى آخر الحيّ ...كان حفلاً بسيطاً في هيئته وبعدد المدعوين الذي اقتصر على قسم من أقارب صديقي وأقاربنا والجيران وبعض أصدقاء أبي ....كانت جلسة خاصة بالنساء في بهو منزلنا الواسع أما الرجال في الحديقة المزيّنة وبعد أن بدأ الضيوف بالمغادرة وبقي المقربون جداً بدا على صديقي كأنه يجلس على نار من توقه لعروسه فبين اللحظة والأخرى يلقي نظره الى مدخل البيت يريد أن ينادونه كي يخطفها ويهرب الى الشاليه في المدينة الساحلية والذي حجزته لهما اسبوعاً كاملاً هدية زواجهما.!!....عندما ظهرت على الباب شقيقته (بيان) تهللت أساريره وهي تلوح له ليدخل لعروسه فما كان مني الّا أن انحني لأحمله على كتفيّ وأزفه لها مع أهازيج الفرح والتصفيقات التي تترنم بها عماته وخالاته وشقيقتاه ووالدته حتى وصلنا الى المكان الذي تجلس به دنيانا بجمالها ونورها وأنزلته ليتقدم نحوها ويرفع طرحتها عن وجهها ثم ختم على جبهتها قبلته الدافئة وتقدّمت اخته (رزان) ومسكت يمنى العروس لتلصق رؤوس أناملها بأنامل يسراها كي ينقل العريس الخاتم من بنصرها الأيمن يودّع الخطوبة.. للأيسر يستقبل الزواج ..وكذلك فعلت له (دنيا) بالمثل مع ارتباكها وحيائها وهي تسمع من حولها يريدون منه أن يرقص معها لكنه فاجأهم عندما أمال جذعه قليلاً ثم حملها بين ذراعيه وفرّ هارباً للخارج من وسط النساء وطلباتهن التي لا تنتهي !!...لحقتُ به الى سيارته ولما أنزلها هناك وقفت بينهما أضع يديّ على كتف كلٍّ منهما وهمست لصغيرتي برفق :
" لا تنسي يا حبيبتي متى احتجتني أنا موجود ورهن اشارتك ....فليسعدك الله في حياتك الجديدة وليرضا عنك !.."

ارتمت على الفور في حضني وأجهشت بالبكاء وأنا أطبطب على ظهرها وأقبّل رأسها من فوق حجابها وطرحتها وقلبي اختلطت نبضاته بين الفرح لها وبين ذلك الشعور كأن شيئاً انتزع مني وآلمني ولكني لا أستطيع منعه لأنه الصح وهذا ما يجب أن يكون !!...كابدت وكابدتُ كي لا تهربُ دمعة الفرح والحنان من عيني لكنها كانت أقوى وغادرتني!! ....

كان (سامي) يراقبنا مبتسماً وعيناه تلمعان تأثراً بنا لكنه تنحنح وقال بغلاظة :
" أُغرُب عن وجهي لن تحتاجك وكفاكما ولولة ...كل دقيقة تُحسب من عمري ...لا أريد تضييع الوقت!!.."

حررتها ومسحتُ دمعتي وضربته بقبضتي على كتفه بخفة هامساً بضحكة خفيفة موصيّاً :
" هي أمانتك يا صاحبي ...أسلمك روحي وأنا أثق أنك آهلٌ لها.."

أعاد لي الضربة نفسها وهمس بصوت رجولي عاشق وواثق :
" إن لم يسعها قلبي أفرش لها روحي...لا توصي حريصاً يا أخي..."

تعانقنا أنا وهو بقوة من شوقنا لنودّع بعضنا لأنني سأرحل غداً إلى بلاد اللجوء ولن أراهما حين عودتهما....

×
×
×

أوقف سيارته قرب الشاليه بعد ان استغرقت طريقهما حوالي ساعة ونصف ...كانت نسمات الخريف باردة فأول ما نزلت (دنيا) احتضنت جسدها بذراعيها فدنا منها على الفور يلبسها جاكيت بدلته الذي خلعه اثناء القيادة...أخرج حقيبتيهما من صندوق السيارة وسارا نحو عشهما الذي سيمضيان به أسبوع العسل ....أخرج من جيبه المفتاح الذي سلّمه إياه (بلال) فهو من قام بإجراءات الحجز بطلب مني قبل قدومي للبلاد ...سمّى بالله ودخل بيمينه يجر ما بيده وتبعته عروسه ....كان الشاليه من الخشب وسقفه من القصب , ردهته متوسطة فيها أريكة الحُب وتلفاز ومنها باب لغرفة النوم ومطبخ صغير وشرفة تطل على البحر بمساحة رملية خاصة فهكذا كل شاليه له شاطئه الصغير المغلق الخاص لنزلائه كي يأخذوا راحتهم ويتصرفوا بحرية ....!!....فتح باب غرفة النوم فتفاجأ بالورود والشمع الاصطناعي المضاء ولمحَ على السرير صندوقاً صغيراً مغلّفاً ومربوطاً بالربطة الخاصة بالهدايا بشكل أنيق...وضع الحقائب جانباً ثم عاد للتي تطأطئ رأسها بحياء وارتباك خارج الغرفة ....دنا منها ومسك يدها قبّلها ثم همس بعشق مبتسماً وهو يسحبها برقة :
" تعالي انظري ما أجمل الزينة ولنفتح معاً الهدية...مؤكد انها من بلال ..."

سارت معه باستحياء دون ان تنطق كلمة ..أجلسها على طرف السرير وجلس جانبها وبدأ بفتح الغلاف عن الصندوق وما إن رفع الغطاء الكرتوني حتى قفزت بوجهه ضفدعة حقيقية أجفلته وكذلك شقيقتي والتي تبدّل وجهها الممتقع من المفاجأة لضحكات مرتفعة في الحال لما رأت ردة فعله الأولى فهي لم تره يوماً يهاب شيئاً ودائماً يتسلح بالشجاعة لكن هنا جاءه شيء لم يتوقعه على غفلة وما زاد اشتعاله البطاقة في قاع الصندوق والتي كُتب عليها ( مبارك عليك ضفدعتك يا ...) وبعد الـ (يا) كانت صورة خروف!! .....تمتم شاتماً يشد فكيّه بغيظ ثم مد يده لجيب جاكيته الموجود على كتفيها وأخرج هاتفه وبعث رسالة :
[ إن لم أنتف ريشك واصنع منه مخدة لعروسك يوم زفافك لن أكون سامي الأسد أيها البلبل الأحمق !]

رفع رأسه للتي ما زالت تقهقه وقال بحنق محرجاً:
" ماذا سيدة دنيا ؟!.هل تشمتين بي ؟!..فليُدم الله عليك هذه الضحكات."

وضعت كفها على فيها تكتم ضحكاتها فوصلته رسالة وكانت رداً من صديقنا :
[ اقلب البطاقة يا خروف ...هذه هديتي ]

قلب البطاقة وكانت الهدية عبارة عن حجز خاص لتناول العشاء الفاخر في اليخت بالموقع القريب من الشاليهات في الليلة التالية .....تبسّم وأعاد له الرسالة :
[ صحيح انها هدية جميلة لكنها لن تشفع لك عندي ...أضعت هيبتي يا غليظ ]

وأغلق الهاتف نهائياً كي يتفرّغ لأجمل ليالي العمر....
فتح باب الشرفة وحرر الضفدعة لتذهب للطبيعة ثم عاد ووقف إزاء عروسه الجالسة وعيناها في الأرض من لحظة القائه هاتفه جانباً فقد علمت أنه حان وقت الجد ولم تستطع السيطرة على ضربات قلبها الآخذة في الازدياد توتراً وخجلاً....مدّ يديه لذراعيها وأوقفها وبدأ يساعدها على خلع الحجاب الخاص بفستان العرس وهمس لها عندما شعر باضطرابها يزداد :
" سنستحم لنتوضأ ونصلي ركعتين شكر لله عسى أن يبارك لنا زواجنا وحياتنا !!.."

اتسعت عيناها بذهول وقالت من غير ادراك :
" ماذا تقصد بنستحم ؟!.."

ضحك وأجابها بحنية ليخفف من انفعالها:
" أقصد كلّ منا على حدة ...اطمئني دُنيتي .."

ساعدها بفك زر الفستان من الخلف مع سحب السحّاب قليلاً لتكمل هي ثم خرج من الغرفة واغلق الباب خلفه لتأخذ راحتها فهو لا يريد أن يربكها وعليه أن يكون رقيقاً وليّناً بمعاملته معها كي لا تخاف او تنفر ....
بعد ما يقارب النصف ساعة وهو ينتظر مستلقياً على الاريكة في الردهة فتحت الباب وكانت ترتدي منامة عرائسية وردية من الساتان بأكمام طويلة لأنها لن تجرؤ على ارتداء قمصان النوم من أولها ونادت بصوت خافت :
" سامي...لقد انتهيت....يمكنك الدخول!.."

قام من مكانه ولما وصل الواقفة على الباب ورائحة الصابون والعطر تفيح منها وشعرها الترابي ينسدل لتحت كتفيها بشبر والذي جففته بمجفف الشعر سريعاً, توقف وحاصرها بذراعيه على اطار الباب وقرّب أنفه يستنشق عبيرها وقال:
" انتظريني حُبي....سأستحم لنصلي معاً.."

عندما انتهيا من صلاتهما ودعائهما وأيقنت أن لا مفر من هذه الليلة اقتربت لحقيبتها اليد ومسكت العلبة الصغيرة وبحثت بعينيها عن قارورة ماء فرفع حاجبه بتوجس من الذي بيدها ...دنا منها وكانت مترددة تشدّ عليها ولا تعرف كيف تفاتحه فقال:
" ما هذا الذي بيدك ؟!.."

أجابت بتلعثم خائفة من ردة فعله :
" إنـ....إنه حُبـ...حبوب منع الحمل!!.."

" لماذا يا دنيا ؟! "

سألها بنبرة مستغربة فقالت بخفوت تبعد نظرها عنه :
" لا أريد الآن أطفال.."

قال بنبرة ساخرة يحاول التحكم بأعصابه :
" لم نتفق على عدم الأنجاب ..دنيا !"

تجرأت وثبّتت عينيها بحدقتيها المرتجفة بعينيه وأجابت:
" ولم نتفق على إنجاب الأطفال مبكراً ايضاً..."

" وأنا أين رأيي بالموضوع ؟!...هل الشيء يخصك وحدك ؟!....فأنت قررتِ وها أنتِ على وشك التنفيذ!!.."

ازدردت ريقها وأجابت وهي تشيح نظرها جانباً:
" لم أكن سأتناوله دون أن أُعلمك ...فقط قمتُ بتجهيزه وكنتُ سأخبرك في الحال!"

سأل بنبرة مجروحة :
" ما السبب للتأجيل ؟!.."

أجابت بثقة مهزوزة وعيناها عليه:
" ما زلتُ في الجامعة ولا أريد لأي شيء أن يلهيني عن الدراسة !!.."

ضحك ضحكة مبتورة ساخرة وقال:
" أتقصدين ستؤجلين الموضوع لحوالي ثلاث سنين ؟!.."

صمتت وهربت بشهديها فسحب العلبة من يدها وألقاها على الأرض وقال بعزة نفس وقلبه مطعون لأنه قرأ أن صمتها هو إجابة نعم لسؤاله :
" لا داعي له !!....سنمدد فترة الخطوبة آنسة دنيا "

ثم سحب مخدة عن السرير وخرج من الغرفة وصفع الباب خلفه !!....

لقد انتظر تلك الساعة التي تجمعهما ليضع كل لهفته وعشقه لها في هذه الليلة متمنياً ان يرزقهما الله بالذرية الصالحة فهو رجل محب للأطفال وليس بغريب عليه صاحب القلب الحنون أما هي صُفِع قلبها مع صفعة الباب وجلست بوهن على طرف السرير واغرورقت عيناها بالدموع وهذه المرة ندماً من نفسها ومن طريقتها الخاطئة بعدم اخباره بما يجول بخاطرها سابقاً بشأن حياتهما الأسرية ....تاهت بعمق ترتب أفكارها !!..اعادت بذاكرتها كل لحظة حلوة عاشتها معه وفجأة انقبض فؤادها عندما مرّ عليها يوم الحادث المشؤوم...وضعت يدها على صدرها ترّبت على نبضاتها المذعورة عليه خوفاً من فقدانه .. لن تسامح نفسها إن حرمته مما يتمنى !..لن تقبل أن ينام غضبان عليها ..تذكّرت وصايا والدتنا لها !!....تنهدت وبحثت سريعاً في عقلها كيف ستنقذ ليلة العمر وكيف ستراضي حبيبها الذي عدّت الثواني كي تكون بين أحضانه وتنعم بدفء أنفاسه التي تعشق؟!....نهضت عن السرير ودنت من حقيبتها وأخرجت قميص نوم أبيضاً جميلاً ارتدته بحياء بسبب تصميمه الجريء ثم سترت جسدها بعباءته وأخرجت علبة مساحيق التجميل تتزيّن له , تعطرت وخرجت للذي كان مستلقياً على الأريكة شارداً بانزعاج...وصلته وقرفصت جانبه ثم سحبت ذراعه الذي يتوسده ووضعت كفه بين قبضتيها الصغيرتين وقربتها لشفتيها تقبّلها آسفة وهو يحدق بها متعطشاً لقربها وهمست بنعومة :
" حبيبي.. لم أرِد اغضابك ...أعلم انك تتوق للأطفال وأنا مثلك وأكثر ..أريد جلب نسخة أخرى منكَ لدنيتي لكني خشيتُ أن يكون حملي مثل حمل أمي صعب وأخسر دراستي لذا اتخذتُ هذا القرار بغباء دون الرجوع لك ...أنا آسفة ولك ما تريد!...فقط ارضَ عني "

عدّل جسده جالساً وسأل بفضول:
" أتقصدين أنكِ غيرتِ رأيك بشأن تأجيل الموضوع؟!.."


تبسّمت بحياء واومأت برأسها ايجاباً فأردف:
" لمَ بدّلتِ قرارك بلحظات ؟!.."

قالت بعد ان استقامت واقفة ثم جلست بجواره تتكئ على كتفه الأيسر برأسها جانباً تنظر للأمام وتطوق يديها حول خصره :
" إن حصل وكان حملي صعباً أستطيع تعويض السنة الدراسية أما أيامنا الأولى معاً لا استطيع تعويضها اذا بدأناها بالخصام ولم نستغل لياليها الجميلة التي سترافقنا طول العمر وكذلك أنت تستحق كل السعادة يا من تنثر الورد في طريقي يا أطيب قلب وأجمل حُب !!.."

انشرح صدره لكلامها ..تبسّم وجذبها يجلسها في حضنه ويحاوط خصرها النحيل بذراعيه الضخمين وقال بصوت رخيم ينبض حناناً :
" اعدك سأكون جانبك دوماً ما دمتُ حياً...لا تفكري بالمستقبل المجهول وماذا يخبئ لنا ولا تستبقي الأحداث بشأن حملك ...اتركي كل شيء على بركة الله فمن يضع الضيق يضع معه الفرج ومن يضع الداء يضع الدواء وسيلهمنا حينها كيف نتصرف وكيف نجد الحلول إن كان الأمر صعباً اذا كتبت لنا هذه النعمة !....فكم من أزواج أرادوا تأجيل الانجاب بحجج كثيرة !!...منهم من يريد أن يعيش حياته الأولى بحرية دون مسؤوليات ومنهم بحجة حتى يصلح الحال المادي ومنهم ومنهم وعندما يرغبون بالإنجاب يصدمون من صعوبة إتمام الحمل ويبدؤون بالسعي والمعاناة وصرف المال توقاً ليرزقهم الله بالذرية.....لقد ظنوا ان الشيء بكبسة زر!!....نحن لا نشارك الله بعلمه وحكمته وعلينا تسليم أمورنا له فكله بيد الله وهو أخبر بتسييرها لنا ....!!....لا أريد أن نتبجح وكأن الشيء بإرادتنا وقوتنا وفضلنا فيعاقبنا الله بالحرمان ....سنتوكل على مولانا وندعو بأن يطعمنا الأبناء الصالحين المعافين هذا كل ما علينا حبيبتي !!.."

صمت برهةً تنهد وأضاف :
" ثم لمَ هذه الوساوس ...من قال ان كان حمل أمك صعباً حتماً ستكونين مثلها ؟!.."

غمزها ضاحكاً وتابع :
" أنا ابني مؤدب وحنون مثل والده لن يتعب أمه أما أنت وأشقائك كنتم مشاكسين تحتاجون لتربية لذا عذّبتم عيوش !!.."

ضحكت ودفنت وجهها في عنقه وشدّت باحتضانه كما يحتضنها ولم ينتظر ففزّ عن الأريكة يحملها هامساً قرب أذنها بأنفاسه المحترقة شوقاً والتي أدت لذوبانها :
" هيا يا عينيّ الشهد لنتذوق العسل ونستمتع به في خلية حُبنا .."

ودخل بها الغرفة وصفع الباب خلفه بقدمه ليضع أولى بصماته العاشقة على دنيته التي صبر حتى فاز بها وبقلبها .....

×
×
×

يومان والثالث كانا في سعادة لا حدود لها وهما ينعمان بالعسل معاً ويزدادا شغفاً وعشقاً لبعضهما..!!
في صباح اليوم الرابع خططا لمشوار في وسط المدينة الساحلية ...كان (سامي) قد تجهّز وجلس على الشرفة ينتظرها حتى تنتهي وبعد أن ارتدت ملابسها وحجابها لم تستطع اغلاق اسوارتها الذهب فتوجهت للمنتظر خارجاً ليساعدها ولكنها توقفت فجأة متسمرة مكانها من هوْل ما سمعت منه وهو يتكلم هامساً بالهاتف :
" آسف حبيبتي .."

"...."

" أعدك ان شاء الله أن يكون ذاك آخر خميس أتغيب به عنك!!.."

"...."

" أنا أشتاقُ لكِ أيضا.."

"...."

اطلق ضحكة خفيفة وقال :
"جميلتي مَلَأ...أنت تعلمين أن أنا ومالي لكِ ...فقط أطلبي وسأنفذ في الحال "

"...."

" حسناً...سألتقي بكِ يوم الخميس بعد انتهائي من عملي ان شاء الله.....اعتني بنفسك يا قمر سأغلق الآن.."

حاولت ان تلقط أنفاسها !!...وضعت يدها على فمها تمنع خروج شهقة منها ...عادت خطوتين للوراء ثم أسرعت لغرفة النوم وبدأت تعصف بها الأفكار ؟؟!...أي أفكار ؟!...هي متأكدة مما سمعت !!....لم تتخيل ولم يُهيأ لها !!...تقول في نفسها المصدومة " يا ربي ساعدني....من تكون ملأ ؟!...أهي عشيقته ؟!..لكنه ملتزم ولن يفعلها!!...إذاً...أيـ...أيعقل زوجته ؟! أم من ؟؟!...يا الله...ماذا سأفعل ؟!...هل خدعنا جميعاً وحقيقته ليست كما يبدو ؟!...ماذا يخبئ عنا ؟!...كيف سأتصرف معه ؟! وكيف سأواجهه بما سمعت ؟!...هل ان سألته سيجيب بالحقيقة أم سيراوغ ويكون اكثر حذراً ان كان يفعلها ويخونني ؟!!..."

سمعت صوت خطواته مقبلاً الى الغرفة فاحتجبت سريعاُ في الحمام وأقفلت الباب وجلست على طرف الحوض وبدأت تسكب عبراتها....طرق الباب هامساً:
" ألم تنتهي بعد حُبي ؟!.."

ودت لو تصرخ به وتقول لا تكذب وتناديني حبي لكنها قالت بمشقّة :
" خمس دقائق فقط....انتظرني في الخارج ."

" حسناً ...لا تتأخري!.."

جاهدت نفسها لتسترخي وغسّلت وجهها لتبرد توهجه الجليّ وخرجت له ولكنها خرجت بعد أن طفأ حماسها ولهفتها عليه وقررت ان تسايره مجبرة حتى ترسو على بر في قراراتها ونبضات الشكّ تخنقها .!!..وما متأكدة منه انها لا ولن تغفر للخيانة حتى لو ركع نادماً تحت قدميها !!....

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

" يكفي ميار ....لقد مللت....نحن متمكنتان من هذه المادة لا داعي للتكرار.."

نطقت (ألمى) جملتها بضجر لصديقتها التي جاءت لزيارتها في بيتها لمراجعة الواجبات الجامعية ....أغلقت تلك الكتاب ونهضت عن كرسي المكتبة تتمطّى رافعةً رأسها لفوق فلفت انتباهها على الرف في الأعلى الحجر الذي اهديتها إياه يوم ميلادها فوقفت بفضول على الكرسي وحملته بتثاقل سائلة:
" هذا الحجر الذي أخبرتنا عنه أليس كذلك ؟!.."

ردّت مبتسمة وهي تعدّل جلستها على سريرها تضع ساقاً فوق الآخر وتلعب بخصلات شعرها المتدلية على كتفها :
" بلى...هو....ما رأيك به ؟!...وما تحليلك للرسمة أيتها الفيلسوفة ؟.."

مسكته بحذر ونزلت عن الكرسي ثم جلست عليها تمعن النظر به وتتفحصه ولوت فمها بعدم معرفة وقالت :
" الرسمة متعوب عليها بلا شك ...مؤكد لها معنى عميق وعدم تفسيره لكِ عنها هذا يدل على سر..!!.."

" ماذا سيكون السر ؟...تقولين وكأنها أسرار دولة !!.."

همست بلا مبالاة فهتفت الأخرى سائلة بدهاء :
" هل تغزّل يوماً بعينيك ؟!.."

أجابتها على الفور حانقة بدلال:
" لا يتغزّل بشيء ...حائطي بخيل !..."

اسدلت اهدابها بقلة ثقة بنفسها وتابعت:
" أو أن شكلي لا يعجبه ولم يجد شيئاً بي يتغزل به !...لا أعلم.."

تأففت منها وقالت مستهزئة :
" بدأت الحماقة تأخذ مفعولها !....ثقي بنفسك يا بنتي ...أنتِ كالدمية المتحركة .."

ثبتت الحجر في حضنها وحررت يد تطرق بها على خشب المكتبة بنية طرد العين عنها كما يعتقد الجهّال ويستخدمونها من غير إدراك لمعناها ...وأكملت:
" زرقة عينيك كزرقة السماء وأظن أنه رسم العينين بالسماء كدلالة أنها عينيك أنتِ ."


سألتها فوراً حائرة :
" والخيمة ؟ والفتى ؟....لما ترمزان يا نبيهة ؟!...يعني هذا لو قلنا ان تحليلك بشان العينين صحيح !"

فكرت قليلاً وأجابت حائرة مثلها :
" هنا يكمن السر !!....لو أنه فقير لقلنا انه هو لكنه ما شاء الله زلزال محمّل بالثراء الفاحش!!..والفتى يبدو فقيراً او متشرداً "

قالت لها بسخرية :
" لو أنه يقصد نفسه لرسم رجلاً وليس صبياً يافعاً !!...أكثر ما يثير فضولي هو تلك الرموز كالطلاسم بلا معنى....ما تحليلك يا عبقرية زمانك ؟!"

أمعنت النظر بها ثم وضعت الحجر على المكتبة وتحركت بكرسيها تجرّها بعجلاتها حتى اقتربت من سرير صديقتها تلتقط عنه هاتفها , تفتحه سائلة :
" هل جربتِ البحث عنها في الشبكة العنكبوتية ؟!.."

اتسعت عيناها بتعجب وأجابت :
" يا لكِ من داهية ...لم يخطر في بالي اطلاقاً!!."

ضحكت بسخرية وقالت :
" عقلك لا يعمل وتتركينه في سبات عندما يتعلق الأمر بزلزالك الوسيم وفقط تستخدمينه بدراستك التي لا تطعم خبزاً ولا تبهج قلباً.."

حركت يدها بتكرار باسطة كفها للأعلى تحفّزها وأكملت بنفس النبرة :
" أفيقي يا بنتي واستكشفي عنه..."

رمشت عينيها بتواصل سريع ولوت فمها وغيرت صوتها متابعة تقلّدها :
" يحبني أم لا يحبني ؟...وحائط مغرور.."

أعادت صوتها لطبيعته وأردفت :
" هذا ما تفلحين به بما يخصه !!...عليكِ أن تفتحي عينيك وذهنك لما يدور حولك ..."

قذفتها بمخدتها مستاءة منها وقالت :
" يا ويلي ما هذا المذياع الذي فتحتيه ولم تغلقيه ؟؟!...خذي نفساً آنسة ميار !...ثم أنا لستُ فضولية مثلك ...ما يأتيني آخذه بترحيب والمخفي ليبقى مكانه ولا حاجة لي فيه."

تنهدت بارتياح ترخي جسدها للخلف على الكرسي وتضع هاتفها في حضنها وقالت :
" لو كنتُ مكانك وخطيبي بهذه المواصفات القاتلة والغموض المشوّق لجعلتُ من علاقتي مغامرة ومتعة ولا أشعر بالملل وأنا ابحث عن كل صغيرة وكبيرة تخصه ...لكن آااه لمن اشكي وأبكي والتي امامي تتهم ذاك الزلزال المدمّر بالحائط وهي أولى بحمل هذه الصفة ؟!.."

سرحت بأفكارها قليلاً ثم هتفت تعطيها تفسيرها الذي خطر ببالها هذه اللحظة بعد أن فتحت لها صديقتها ذهنها :
" أيعقل أنه يرمز بالعينين لعينيَّ وأن الفتى يمثل الفقراء وأنه واجبي النظر لهم ومساعدتهم ؟!.."

صفقت بيديها ضاحكة ومشجعة وقالت بمرح :
" حمداً لله عاد عقل ألمى للعمل ...تحليل منطقي ....لا يستبعد فأنت أخبرتنا كيف يهتم بهذه الفئة وأنه كان يعاتبك وينصحك بما يخصهم !!..."

حملت هاتفها مجدداً واستطردت :
" بقي علينا البحث عن الطلاسم أسفل الرسمة .."

نهضت عن السرير ثم اتجهت نحو الباب هاتفة :
" ابحثي أنتِ...سأطلب من لِيلي جلب الكعكة ومشروب الحليب بالشوكولاتة!!.."

تركتها لدقائق قليلة وعادت مع الخادمة التي تحمل طلبها ...وضعت الأخيرة الصينية على المنضدة جانب السرير وجلست (ألمى) مجدداً عليه وسألت بتهكم :
" أجل يا ملكة الشبكة العنكبوتية ...ماذا وجدتِ؟!.."

زفرت أنفاسها محبطة وقالت :
" يستخدمون الرموز في الخرائط أو لإيصال فكرة معينة وكانت الحضارات في الماضي تستخدمها وأشهرها الحضارة المصرية القديمة أي زمن الفراعنة !!...لكني أذكر أن جدي كان يقول في الحرب ابتكر الجنود والمقاتلين رموز لوضع خططهم او ارسال رسائل لا يستطيع أيٍ كان فهمها ان وقعت بيده ....أي شيفرة...نظرتُ لبعض الرموز ولم أجد أي رمز يشبه ما خطّ خطيبك ....اعتقد هذه مبتكرة !!..."

ضحكت واستأنفت مازحة :
" بقي أن نقول عن الزلزال خاصتك محارب ايضاً ..."

أكملت بضحكاتها :
" تخيلي تلك الوسامة في أرض المعركة يرتدي زي الجنود ويحمل سلاحه .....يا ويلي سيليق به !....أو يأخذونه ليمثل فيلم للكوماندو ...ما رايك ؟!.."

ردت مازحة بغيرة حقيقية:
" أتعلمين أنك تتغزلين بخطيبي بعينٍ وقحة ؟!...أنا لم أجرؤ على فعلها بيني وبين نفسي !.."

هتفت باستهتار ترفع يدها :
" لأنكِ معتوهة بكل بساطة أقولها !!..."

ردت عليها هازئة:
" أنتِ خيالك واسع ...بالطبع لن يتجنّد هنا فهذه ليست دولته وكذلك لن يتجنّد في وطنه ذاك لأنه يقيم هنا...إذاً لا داعي لجلب صور لمخيلتي لن تتحقق"

صمتت صديقتها برهةً ثم أشارت للموجود على المنضدة :
" هاتي لنشرب الحليب بالشوكولاتة نبلّ ريقنا...لقد جففته لي أنتِ وخطيبك !....الله يصبرني !.."

بعد ان انتهيتا من اكل الكعكة وشرب الحليب استدارت (ميار) بملل للمكتبة وبدأت تفتح أدراجها واحداً تلوَ الآخر فلفت انتباهها دفتر صغير خاص للمذكرات عليه قفل والمفتاح مربوط معه وغلافه شخصية (سالي) الكرتونية وهي تحمل دميتها فتناولته بفضول والتفتت للجالسة على السرير وسألت:
" ما هذا ألمى؟..يبدو قديماً!!..."
رسمت ابتسامة عريضة ولمعت عيناها بحنين قبل ان تمد يدها مجيبة:
" اعطني إياه وتعالي جانبي لأريكِ.."

انصاعت لها صديقتها فاستلقت (ألمى) على سريرها ببطنها تلوّح بساقيها للأعلى وفعلت تلك بالمثل جوارها وفتحته بالمفتاح الصغير وقالت والتوق للماضي يذبحها :
" هذا دفتر مذكراتي منذ ان تعلمت الكتابة والقراءة ..."

وشرعتا بتقليب الصفحات تنظران للرسمات والكتابات الطفولية لكنها تخطت الصفحات الأولى منه لتبقيها لنفسها فقط..!! ....كانت صديقتها تشير للكلمة الغير مقروءة وهي تجيبها بعفوية حتى وصلتا لمنتصفه فكانت رسمة بخطوطها البريئة لخيمة ملوّنة وكأنها ترمز لفصل الربيع يجلس على بابها طفل طويل وحوله ثلاث بنات صغيرات وتكتب بخط صغير جداً فوق كل شخص اسمه !!....تفتحت اساريرها وهي تحدّق بهذه الرسمة البريئة التي اعادتها الى عبق الماضي فعلّقت صديقتها مازحة:
" هربتُ من خيمة خطيبك على الحجر فتعثرت بخيمتك على الدفتر....ما لكم على الخيام ؟!...إن سئمتما من القصور اتركاها لي وارحلا.."

وأكملت سائلة:
"هيا اشرحي ما هذه الرسمة؟!."

وكأن الفراشات ترقص داخلها تدغدغها لمجرد فتح هذه السيرة فهمست بصفاء النفس ووجهها المزهر وهي تشير للولد:
" هذا هادي...حُب الطفولة ...هذه شقيقته دنيا وهذه صديقتها سلمى...وهذه أنا "


شهقت ضاحكة وقالت بتهكم:
" لكن هذه الخيمة تبدو كالقصر بسبب الوانها الزاهية وأنت قلتِ أنه كان يسكن بخيمة فقيرة!!.."

أجابتها مبتسمة بغبطة:
" لأنها كانت مزهرة بأجوائهم العائلية والترابط الذي بينهم فبَدَت أجمل من القصر.."

انتقلت الى صفحة أخرى ترسم فيها طفل كبير يحتضن طفلة أصغر منه لكن ملامحهما غير مفهومة أقرب للمتاهات والخربشات لقلة خبرتها بالرسم فسألتها مجدداً:
" ما هذه الرسمة الغير مفهومة يا ليوناردو دا فينشي ؟!.."

تنهدت وهمست :
" هذا المشهد الذي لم استطع التعبير عنه لا برسمة ولا بكلمات..."

ابتلعت ريقها , اسدلت اهدابها وأردفت:
" هو حضن هادي الحنون..."

أكملت بتقليب الصفحات حتى توقفت عند رسمة لدائرة مفتوحة يسقط منها قلب وقبل ان تسألها صديقتها شعرت بأسى ولمعت سماءها وهمست بغصة :
" هذا عقد من الذهب....صممته والدتي لي لتهديني إياه بعيد ميلادي الخامس!!...لكن القدر أراد شيئاً آخراً ..."

سقطت قطرة نقية من عينها مسحتها وتابعت :
" لقد أخذها القدر مني!!.....ولم يكتفِ بأخذها بل أخذ معها ذكراها الوحيدة ...هذا العقد!... اعطتني إياه خالتي عندما كنتُ بالثامنة ...يحتوي على ثلاث صور ...لي ولأمي ولخالتي .."

قاطعتها تستفسر متعاطفة معها:
" لمَ..أين هو؟!"

أجابت بصوت مخنوق:
" ضاع مني...لا ادري أين اوقعته !!...هل بالمخيم أم قبل ذهابي الى هناك؟!....ترك فراغاً مؤلماً في قلبي!!.."

تطلعت إليها بحزن مشفقة عليها وهمست تربّت على كفها الأيسر بيمينها :
" لا تحزني ألمى....لم يكن من نصيبك....عوضك الله بغيره.."

استقامت جالسة على السرير تضع الدفتر على فخذيها وتشدّ عليه بتوتر وقالت:
" لكنه من رائحة أمي...أي كان أغلى ما املك!!...لا بد أن احدهم وجده وباعه....كيف يستطيعون أخذ غرض ليس من حقهم ولا يعيدونه لصاحبه ؟!...سامحهم الله... "

سحبت الدفتر منها بمرح لتغيّر الموضوع من اجلها بعد ان خيّم الحزن على الأجواء وهذا اكثر ما تكره فروحها المرحة دائماً تبحث عن الأشياء الإيجابية وبطبعها تهرب من آلامها وحزنها الى عالم الدعابة كي لا ترهق فؤادها وهتفت:
" هيا نتابع لنرى ما في جعبتك من أسرار ..."

تابعتا بين الصفحات وثبتتا على احداها فيها كتابات قصيرة تعبّر عن استيائها بذاك اليوم الذي اهانت به (سلوى) الصغيرة وتجاهلي لها وكانت بين كلماتها شتائم لصغيراتي الثلاثة وسؤال استنكاري بحقد طفولي * لمَ هؤلاء يحظينَ برفقة ذلك الهادي وأنا لا ؟*......" كانت (ميار) تقرأ وتضحك تسخر منها:
" يا الهي غيّورة منذ طفولتك.."

فضربتها على كتفها محرجة وهمست:
" أصمتي...كنتُ طفلة صغيرة ساذجة.."

ضحكت وقالت:
" ما زلتِ كما أنتِ طفلة وساذجة بخلاف أن جسدك فقط نضج وتغيّر.."

ولحقت جملتها تسألها بجدية:
" أجيبيني بصراحة..."

ركّزت حدقتيها عليها وجلت أذنيها منتظرة السؤال فأضافت صديقتها:
" لو ظهر الآن هادي أمامك...ماذا ستفعلين ؟!.."

نبشت من مركز قلبها مشاعر صادقة لطفلة كانت مدفونة وأجابت بعد تفكير:
" صدْقاً لا أعلم..!!....اخبرتك ان له مكانة خاصة في قلبي لكن أي إجابة مني هي غير منطقية ...ربما هو متزوج او عاد لبلاده....فليبقَ ذكرى جميلة ومميزة في مخيلتي !.. والأهم أنا مرتبطة و..و.."

سألتها بمكر تضرب كتفها بكتفها :
" و..ماذا؟!.."

تورّد خدّاها بحياء ولامست شفتيها بأناملها شاردة بحُب فأمسكت بها في الجرم المشهود صديقتها النبيهة وهتفت باندهاش :
" أيتها الخبيثة ...هل قبّلك ولم تخبرينا بذلك ؟!.....ألم يكن من المفترض أن تنشري هذا الخبر على مواقع التواصل الاجتماعي لنبارك لك ؟؟!...يا عيني ...اشمّ رائحة حُب بجواري..."

استدارت للفراغ على يمينها هاربة من مواجهة عينيّ تلك وقالت :
" قبلة سريعة !!...جاء صديقه ولم نكملها !.."

" لم نكملها ؟!...يعني تجاوبتي معه ايتها الوقحة بدل أن تدفعيه أو تصفعيه لتظهري أنكِ لستِ متلهفة له وليتعذب حتى ينال منكِ !!....أم أن هذا سحر الزلازل لا تدركين بأي أرض تقفين ؟!.."

" يكفي ميار ....تعشقين هذه السيرة ...متى سترتبطين لتعتقينا قليلاً أنا ولميس ؟!.."

" اسألي خطيبك إن كان لديه صديق شاغر يتحمل لساني !...المهم أن يكون مزلزل ليزلزلني زلزلة ....أريده وسيماً وشخصيته رجولية بحتة ...إن قال لي اللبن أسود سأقول له بسبب هيبته ومَن الأعمى الذي قال غير ذلك يا زلزالي المدمّر لقلبي وأوصالي ؟!.."


ضحكت قائلة لها :
" قسماً مجنونة أنتِ..."

وفتحت على آخر صفحة خطتها يدها بعد عودتها من كندا وتكتب التاريخ عليها وكلماتها واضحة من أنامل فتاة ناضجة... بعد إتمام قراءتها شهقت (ميار) وهمست:
" يا لجرأتك يا ألمى ...افرضي وقع الدفتر بين يديّ خطيبك البركاني وقرأ هذا؟؟...لن يشفع لكِ أي تبرير وسيظن أنكِ كنتِ بعلاقة حقيقية وسيحرقك قبل أن يحرق الدفتر !!....برأيي مزقيها أفضل ولا تستهيني بغيرة الرجل لأنه سيراوده الشك دوماً أنك ما زلتِ تميلين لغيره ولن يصدقك حتى لو أقسمتِ"

ازدردت ريقها بوَجل ثم رسمت ملامح التحدي والعناد على وجهها وقالت :
" اولاً لم تكن علاقة وأنا أدرى بنفسي ثانياً هل سيحاسبني او يلاحقني على مشاعر لا نستطيع التحكم بها وأصبحت من الماضي ؟!...كنتُ طفلة وكتابتي مجرد تعبير عن مشاعر لاحقتني قبل ان اعرفه....لا حق له بذلك!......وهل أنا أسأل عن ماضيه ومشاعره وكم فتاة وضع في حضنه؟!....لن امزقها هذه ذكرياتي وأساساً لا يمكنه الوصول لدفتري....المرة الوحيدة التي دخل غرفتي وهو بمزاج عالي يوم جاء لشرح المادة لي والمرات الأخرى دخلها لتوبيخي لا يرى أمامه من غضبه !!.....ارتاحي آنسة ميار.."

أغلقت الدفتر وضمته لصدرها تنظر للسقف باشتياق وأكملت هامسة:
" أتعلمين ....قراءة الرسالة أحيا بي الحنين لزيارة المكان !!...سأحاول الذهاب لتفقد الوضع!.."

~~~~~~~~~~~~~~~~

تأففتُ من رنين هاتفي المتواصل وسحبته من جواري لأرى الطفيلي المزعج الذي يتصل في السابعة صباحاً فما كان غير السيد (ماجد) يطلب مني جلب هوية عروسي لأنه عليه القيام ببعض الإجراءات القانونية في الحكومة بشأن زواجنا الرسمي ...اضطررتُ على النهوض مستخدماً الحمام , مرتدياً بدلتي الخاصة بالعمل وكان لونها كحلي وقميصها سماوي ونزلتُ حضّرتُ فنجان قهوة من آلة صنع القهوة لأشربه في طريقي عوضاً عن الفطور لأني على عجلة كي ألحقها قبل الخروج لجامعتها...

×
×
×

لما وصلتُ بيتها كانت الساعة الثامنة فتلطخ صباحي بوجه الشؤم والدها وهو عازم على الخروج الى عمله !!...القيتُ عليه التحية الصباحية مجبراً فردّها لي بتعالٍ واضح بعد أن أصبح بيننا فجوة منذ ذلك اليوم واستأذنتُ منه للدخول اليها مِن كرم أخلاقي التي لا يستحقها فاستقبلتني خالتها التي كانت تتناول فنجانها القهوة على أريكة منفردة قريبة من السلالم وتبسّمت مشيرة لي بالصعود هامسة بعد التحيات والسؤال عن الأحوال:
" الساعة الثامنة ..لا بد انها تجهزت للجامعة...يمكنك الصعود!!.."

اومأت لها ايجاباً وعلى ثغري ابتسامة لطيفة ثم صعدتها بخطوات واسعة ...طرقتُ بابها عدة مرات برقة ولما لا من إجابة فتحته بحذر وهدوء وكانت الغرفة مظلمة الّا من بصيص ضوء خافت يخترق ستار النافذة يحتضنها بحنية وهي على سريرها فاقتربتُ منها وكانت تنام على بطنها تعانق مخدتها تحت رأسها وشلالها الأسود يحتل جوانبها بحرية والقسم الأوسط من جسدها مغطى بغطاء خريفي رقيق وحتى بهذا الفصل المتقلّب لا تتنازل عن اظهار جسدها فكان ساقاها مكشوفين بشكل مغرٍ لارتدائها منامة صيفية قصيرة وذراعيها كذلك !!...دنوتُ أكثر فأكثر سامحاً لوقاحتي باختراق خصوصيتها وتبسمتُ وانا اتأمل دميتي البريئة بعشق ثم أخرجتُ هاتفي والتقطتُ صورة لها بوضعها الفوضوي المثير لأشاكسها لاحقاً !!...أحنيتُ ظهري اتجاه وجهها ومسكت بأناملي خصلة من شعرها معذّبي وبدأتُ بتمريرها على أنفها وهي تهشّ بيدها لإبعادها كأنها ناموسة وأنا مستمر بمشاغبتي فكمشت ملامحها عابسة بضيق واستدارت للجانب الآخر جهة النافذة فتوجهّت لأفتح الستائر لتطرق الأشعة الذهبية بابها وتزيّن وجهها فقطبت حاجبيها وشدّت على عينيها بانزعاج وتمتمت قائلة بدلع وهي تعيد جسدها لوضعها الأول هاربة من الشمس:
" خالتــــي...اغلقي الستارة...محاضراتي تبدأ في الحادية عشر قبل الظهر.."

ثم سحبت الغطاء تدفن رأسها تاركةً القسم الذي أضنى أعصابي وأشعل حواسي من فتنته الحارقة كما هو.. مُشاع!!.. ليستفزني أنا ومشاعري أكثر وأكثر....أيا ترى عليّ اجبارها بعد الزواج على ارتداء اللباس الشرعي الكامل أمامي على الأقل في بيتنا ؟!...فهذه المحتالة النائمة عبارة عن حرب ضروس ستكون مقاومتي لها ضعيفة وخصوصاً بوجود ذلك الجاسوس الخائن الذي يعمل خلف قضبان صدري لصالحها..!!...آاه من قلبي..... كما صبراً آل ياسر صبراً يا ابن الشامي ....نفضتُ رأسي لأشتت أفكاري قليلة الأدب وبحثتُ بنظري عن حقيبتها لأخرج بطاقتها الهوية!!...لمحتها على المنضدة جانب سريرها ...اقتربتُ بهدوء منها فوقع نظري على دفتر برسومات كرتونية مع قفل!!...لا بد انه مذكرات الطفولة البريئة!....رسمتُ بسمة ماكرة بحُب وأخذته لأشبع فضولي بطفولتها وأخذتُ معه هويتها وأدبرت خارجاً دون أي همس ....

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

انهيتُ أعمالي في الشركة باكراً وقت الظهر ...قمتُ من مكاني أتمطى ثم أملتُ فمي ببسمة مائلة ثعلبية بعد أن تذكرت دفترها الخاص بطفولتها الذي تركته في سيارتي وقررتُ أن اذهب للساحل لأستمتع بالعبث به ومشاهدة ما يحتويه فالآن المزاج في القمة ومتفرغ للحركات الصبيانية !!.....وصلتُ الحافة الاسمنتية للبحر وجلست على المقعد الذي اتخذه دوما عند مجيئي لأغوص في عالمها مع سماع الأمواج المرتطمة بالحافة ورائحة المياه المالحة....فتحته برفق على أول صفحة التي تكتب فيها جملاً مبعثرة من اناملها الصغيرة وكانت ( أحبك يا أمي)...(متى سآتي إليك؟)....( لا أصدقاء لي أمي )..
(لمَ لم تجلبي لي أخوة ؟)....(وعدني ابي باصطحابي الى الملاهي)....( أبي لا يسمح لي باللعب مع أحد لكني أحبه )....( أم كرم دائماً تقول عني بشعة وتقول لا أصدق من يقول أنني جميلة !)..(هل انا بشعة يا امي ؟!)...(أم كرم تهددني بطرد خالتي).....( أخاف من زوجة أبي )...( أحب خالتي فاتن وهي تحبني)..(أحب خالتي سهيلة).... جئتُ بفضولي اخترق اسرارها فانقلب الشيء ضدي بعد أن شعرتُ لأول مرة بيُتمها منذ ان عرفتها فرغم انها اعترافات قديمة من قلب جاهل بريء الا انني تألمتُ لأجلها كثيراً....تباً لهذا الفضول الذي ساعد على تجذّر إحساس اكنّه لها في قلبي....!!
كنتُ أقلب الصفحات ووجهي يوزّع الابتسامات بسبب الرسومات التي اراها امامي والتي لا احتاج لمترجم او وقت لأدرك فحواها فهذا ما عشناه معاً ولينكر من ينكر ...!!
وصلتُ الرسمة الخاصة بالعقد الذهبي فضاق صدري وانقبض خافقي ....إنه الأمانة ....الأمانه التي اثقلتني ودمرتني ....أما آن الآن الوقت لإرجاعها؟؟!! ....ستعود لها امانتها بإذن الله ...هي بالحفظ والصون ....احفظها في خزانتي وأصونها في صميم قلبي !!....لكن لتنتهي مهمتنا اولاً وكل شيء سيعود الى مساره ...وكل مهاجر الى داره.....

" يا لها من غيّورة"

قلتها ضاحكاً بعد ان وصلت للشتائم الخاصة بصغيراتي ...انزلتُ عينيّ لأسفل الصفحة فأنبني ضميري من قسوتي معها عندما تجاهلتها رغم لهفتها عليّ حينها....لم أتوقع انني جرحتها لهذه الدرجة ولم افكر انها تتوق لتكون برفقتي مثل صغيراتي !!....آه حبيبتي لو الأمر بيدي لعوضتك عن كل دقيقة نزفتِ بها وجعاً من هذه الحياة ولكنتُ أقفلتُ عليكِ في بيتي وقلبي لتبقي لي وبي ومعي للأبد ما دمتُ أتنفس على هذه الأرض...!!
اعتقدتُ انني وصلت لآخر ما خطت يدها فأغلقته ثم بحركة سريعة من رأس ابهامي قلّبت الصفحات بعشوائية فانتبهت لوجود صفحة وحيدة عليها كلمات بعد صفحات عديدة فارغة ..!!...ثبتّ عليها ...نظرتُ للتاريخ ...كان تاريخ يوم مولدها وهو يوم عودتها من كندا...وكانت تكتب فيها ...

( عدتُ يا حبيبي وطلبت من صديقي صلاح ليأخذني الى أجمل بقعة زرتها والتقيت بكَ فيها لكني لم استطع البوح له بشيء لأنه كان ضد علاقتنا !!.....لقد جئت لأراك مع ان صورتك لم تغب عن خيالي وحضنك الدافئ لم يبرح من بالي !!..ما الذي يميزك لتفعل بي هذا ؟!.....قل لي كيف أصبحت ؟!....أتفكر بي وتشتاق لي كما أشتاقُ لك ؟!...أتعلم انك انت حبي الأول ولربما الأخير ؟!!....لا اعرف اين وصلت في حياتك لكني تأملت دائما ان يجمعنا الله معاً....سأقول لك سري الوحيد...أنا أحبك وغلّفت حبي لك في قلبي ولن يتزعزع ابداً مهما قابلت او عرفت غيرك ...وحتى لو لن تكون من نصيبي ولو أصبح لي احفاد ايضاً ....ستبقى مشاعري اتجاهك هي الأغلى يا من سكنت روحي ...ها انا ابوء بها على دفتري لأنني لا استطيع قولها لأحد فالجميع سيقف ضدي ولأنني لا يمكنني الوصول لك لأخبرك بها ....أم أن الأمل موجود بأن نلتقي يوماً؟!..)

" خائنة...خائنة"

نطقتُ بها بعد ان توغّر صدري مما قرأت !!..كدتُ ان امزق الورقة والدفتر كاملاً لكني منعت نفسي من فعلها!!.....وانا الذي كنت اعتقد انها أحبت ذاك البغيض (صلاح) سابقاً ليظهر انها استغفلته ايضاً؟؟!....من هذا الحقير الذي تعترف له بحبها بل تصرّ على الاحتفاظ به ؟؟....هل اواجهها بما قرأت أم ادفنه في مقبرة الالام التي تحتل قلبي ؟؟.....ليتني بقيتُ على الصفحات الأولى ولم اتعمق اكثر !.....ما بي ؟!...لمَ انزعجت ؟؟...ألست انا من تمنيت الّا تحبني كي لا تنهار ؟!...أم ان انانيتي تجعلني ان امنعها من محبتي وحب غيري ؟!.....زفرت انفاسي ماسحاً وجهي بيدي ومستغفراً !!....بدأت افكر بتروّي .....لا تتسرع يا هادي!!.....هذه كلماتها منذ سنة ...الا يمكن ان مشاعرها تغيرت ؟!.....لكن فضول الغيرة يقتلني !!....أود معرفة من سكن روحها وغلفته في قلبها ؟!....كيف ؟ كيف ؟؟؟.....يا الله دلّني على مخرج دون ان احطمها ودون ان اسحق أيّ أمل لمستقبلنا !!....أنا على يقين لو ثرت هذه المرة ستكون الضربة التي تكسر الجسر الذي يربط قلبينا مهما رممت او بنيت !!.....بينما انا اخوض معركتي وردني اتصال ...اخرجتُ هاتفي الخاص بـ(هادي) من جيبي وفتحته مجيباً:
" اهلاً سيد ماجد !!.."

" عليكَ الذهاب للمخيم بصورة عاجلة !.."

" خير ان شاء الله؟!"

" تقوم الجرافات والآليات بتنظيف وتجهيز الأرض التي اشتريناها مؤخراً لتوسيع المدرسة وبناء المستوصف الخاص للمباشرة بالمشروع "

" نعم اعلمني بذلك السيد خالد صباحاً....على خير بإذن الله...لكن لمَ عليّ الذهاب ؟"
" لأن لجنة التنظيم والبناء قامت بإيقافهم ويريدون الأوراق الرسمية والقانونية لرخص البناء !! .."

" خذها أنت من أبي إبراهيم ...موجودة في خزنة الشركة!!.."

" انا في طريقي للمعسكر والّا لم اكن لأطلب منك هذا.....هيا هادي اذهب واعطها للسيد خالد ...انه في الانتظار!!..."

تنهدت وقلت :
" حسناً ...أمري لله....سأذهب للبيت لتبديل ملابسي وسيارتي !.."

من عادتي عند ذهابي الى المخيم أقوم بارتداء ملابس متواضعة لا تحمل أي ماركة عالمية ثمينة وكذلك سيارتي رخيصة من الإنتاج القديم لأنني اذهب الى هناك بصفتي (هادي ) فحتى أبناء المخيم لا يعلمون بتقمّصي لشخصية (يامن) احتياطاً من أي هفوة او غدر ويعلمون ان دوري بالمساعدة والإعمار هو كوني وسيطاً بين المخيم ورجال اعمال اثرياء لا اكثر ولا اقل !!....

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

" وأخيراً انتهت محاضراتنا المملة والأهم أن اليوم هو الخميس "

قالت (ميار) كلماتها بعد ان وضبت كتبها في حقيبتها فتبعتها ( لميس) قائلة :
" هيا الحقا بي سأدعوكما لشرب شيء ساخن على حسابي !! "

هتفت (ألمى) :
" ما مناسبة هذا الكرم المفاجئ ؟!.."

تبسمت وقالت بسرور :
" زواجنا في مطلع الربيع انا وأمير...حددناه في الأمس !!"

" اووه ...العقبى لي "
هتفت ( ميار) بسعادة مع روح الدعابة ثم احتضنتها واردفت:
" مبارك صديقتي ...ليكن على خير!.."

فعلت (ألمى) مثلها ...عانقتها وهمست :
" مبارك لميس ...تستحقين كل السعادة ....أنتما أجمل عروسين وعشتما أجمل حُب .."

وكزتها (ميار) بمرفقها وقالت مازحة :
" هيـه ايتها العمياء ...أنهما عاشا اجمل قصة حب لا بأس سأمررها لكِ يا أم القبلات المبتورة لكن كيف تقولين أجمل عروسين ؟!..."

نظرت لصديقتها (لميس) باستخفاف وتابعت ساخرة :
" لا تؤاخذيني لميس ..صحيح انت جميلة وأمير يُعد وسيم ....لكن نحن نتكلم عن زلزال ثلاثي الأبعاد ..لا مقارنة بالتأكيد...وهذه الغبية كالدمية لكنها لا ترى نفسها ولا خطيبها !!..."

ضحكت (لميس) لكلامها فهي تعرف جيداً الروح الطيبة التي تمتلكها تلك لذا لا تزعل منها بتاتاً حتى لو شتمتها مع خطيبها ..!....

اعادت (ميار) نظرها لـ (ألمى) وأضافت :
" مؤكد الشهر القادم ستكونان انتما أجمل عروسين بزفاف يضج له الاعلام ....كم انا متحمسة ليوم زفافكما...يا إلهي !..."

طأطأت رأسها وقالت بخفوت ونبرة حزينة:
" لا تتحمسي...يامن لا يُدخل الاعلام بحياته ....سيكون زواجاً مثل باقي الناس وربما أقل...لأنه اخبرني ستكون جلسة هادئة بموسيقى خافتة وفقط لإشهار الزواج فهو لا تروق له الحفلات والضجيج !!....رسمتُ أشياء كثيرة ليوم زواجي منه وطارت في مهب الريح..... ليس بيدي شيء"

ربتت على كتفها بعطف وقالت بمرح:
" حسناً ...لنكون تحت أوامر السيد يامن ...لا يهم !!....نحن من نصنع السعادة وليست السعادة من تصنعنا ....سنلتقي معاً ونحتفل كصديقات باحتفال وداع العزوبية وسنقوم بكل شيء نحبه...نأكل ....نقفز...نصرخ....نرقص....افرغي طاقاتك وما يأتي في بالك معنا .....والسيد يامن عيشي معه الحب والرومانسية ....أرأيت ما اسهلها ؟!.."

تبسمت وردت عليها :
" سنرى ابداعاتك واحتفالاتك الجنونية ...لم يبقَ الا القليل !.."

تطلعت(لميس) لساعة يدها وقالت بحماس:
" الساعة الان الثانية والنصف ...هيا تحركا قبل ان يأتي أمير لاصطحابي في الثالثة !!.."

قالت (ألمى):
" ما رأيك ان تؤجلي دعوتك ؟!"

سألتها (ميار) بفضول:
" لمَ ...على ماذا تنوين ؟!..."
وتابعت:
" لا تخرّبي الدعوة...علينا استغلال هذه البلهاء "

هربت بعينيها واجابت:
" لديّ مشوار ...اخبرت السائق ان يعود لأخذي من هنا في الرابعة ...اما الآن سأذهب بسيارة اجرة لمشواري !!.."

رفعت حاجبها وقالت :
" أي مشوار ؟...ولمَ لا تذهبين مع السائق ؟!.."

ردت عليها بعد تنهيدة :
" سأخبرك لاحقاً عنه....لا يمكنني الذهاب مع السائق لأنه بالتأكيد سيخبر أبي !!.."

نقلت حدقتيها لـ(لميس) واستطردت :
" ماذا قلتِ لميس...أيمكنك تأجيل دعوتك ؟!.."

اومأت مبتسمة برضى وهمست :
" على راحتك ألمى ...إذاً ستكون الدعوة للفطور يوم السبت في المطعم الموجود خلف الجامعة !!.."

رفعت رأسها (ميار) بشموخ واعتزاز وهتفت بمزاح :
" المعنى الحقيقي لِـ...لعله خير!....ذهب المشروب الساخن ليعوضنا الله بفطور من العيار الثقيل...."

ضحكتا على كلامها ....وودعن ثلاثتهن بعضهن وراحت كلّ واحدة في طريقها....

انتهى أسبوع العسل أمس وانتهت إجازة صديقي (سامي) معه ليعود اليوم وهو يوم الخميس لعمله !!...لكنه عاد وشيء يجثم على صدره فمنذ اليوم الرابع لزواجهما وانقلبت زوجته العروس معه ...انها لا تعانده بشيء !!...فهو يعشق عنادها..ما بها تغيرت ؟!...كأنها مسيّرة ومستسلمة !!....والأصعب اين ذهب شغفها وما أطعمته إياه خلال الثلاثة أيام الأولى ؟!...لقد كانت تحرقه بعشقها أما باقي الأيام بدت باردة ..باردة بشكل قاتل !...تلتزم الصمت معه ولا تجيبه الّا على قدَر السؤال ....ثلاثة أيام لم يمل من ثرثرتها وغنجها معه !....كيف تبدّلت هكذا ؟!...أيعقل أن لهفة العشق لها مدة وتنتهي عند النساء ؟!....سأل نفسه أسئلة غبية وذكية ولم يهتدِ لسبب يكون عذراً لانقلابها المفاجئ!!...حتى انه راجع نفسه ان جرحها بكلمة دون ان ينتبه ولم يفلح ايضاً بالعثور على هذه!!....ذهبَ في الصباح الى عمله بعد أن جهّزت له ملابسه وأدخلت له الإفطار لغرفتهما كالزوجة المطيعة !...قبّلها من جبينها وعانقها ولم يشعر بحرارة جسدها !....أمضى يومه جسده في العمل وعقله عند التي سلبته منه ...سلبته منه حُباً لها وقلقاً منها وعليها !......نظر لهاتفه كانت الساعة الثالثة !!...انتهت ورديته ...حمل جاكيته الخاص بزي الشرطة ومفاتيح سيارته ...ودّع زملاءه وغادر المركز!!....لم ينسَ موعده مع حبيبته ( مَلَأ )...لم يأخذ شيئاً في طريقه لجميلته هذه ...هو يشتاق لها وهي تشتاق له وعندما يذهب اليها سيأخذها لشراء ما تريد ان كانت تحتاج شيئاً!!....سار في طريقه شارداً وسرعته معتدلة ولم ينتبه اطلاقاً لسيارة الأجرة التي تتبعه ....فلو كان (سامي) ذو النظرة الثاقبة وسريع البديهة في وضعه الطبيعي لأدرك ان هناك من يراقبه ويلاحقه !!....بعد حوالي ربع ساعة دخل على احد الأحياء ...أحياء تصرخ بالفقر ...تناشد ليعطف عليها أصحاب القلوب الرحيمة والأيدي السخيّة !!....والتي كانت تراقبه ذُهلت من وضع الحيّ المزري !!...وما علاقته به ؟!...تساءلت في سرها ..." أيعقل أن من يأتيها الى هنا من بنات الشوارع ويعاشرها مقابل مبلغ ضئيل ؟!.."...نفضت رأسها تطرد الوساوس القبيحة من عقلها واستغفرت ربها ....لامت نفسها ما بها أصبحت تتهمه بأشياء دنيئة لهذه الدرجة ؟؟!....لكنها ايضاً لن تكون طيبة حد السذاجة لتسمح بمرور المياه من تحتها تحت مسمّى انها تثق به !!......دخلت سيارته احد الأزقة الضيقة المليئة بالحفر والحجارة ومستنقعات صغيرة من مياه الصرف الصحي الراكدة .....رأته من بعيد يوقفها في شبه ساحة صغيرة ...ارادت الاستمرار للداخل اكثر فقال سائق سيارة الأجرة:
" اعتذر سيدتي...لا يمكنني الدخول أكثر...المكان ضيق والسيارة ستتضرر وهي ليست ملكاً لي !!.."

اومأت بعينيها خاضعه لأسبابه....دفعت له ما يستحق وترجّلت تمشي بخلسة وحذر خوفاً من الإمساك بها ....اقتربت أكثر فرأت غرفة طينية من الطراز القديم مدخلها له شرفة ضيقة مع سقف من الحديد الصدئ وبابها من الخشب مطلي بالأزرق السماوي والقشور والخدوش تملؤه ....كان زوجها يقف يطرقه بهدوء...حاولت الاحتماء والتخفي بجدار قريب يتيح لها الرؤية بوضوح !!...وضعت كفها على فمها تكتم شهقة غدرتها مع دمعة انسابت من خلية عسلها عندما فَتحت الباب طفلة تجلس على كرسي ذوي الاحتياجات الخاصة تتهلل أساريرها مبتهجة لرؤيته هاتفة :
" جدتـــي....جاء بابا !!.."

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

كنتُ أقف بانشراح مرتاحاً وأنا أرى التقدم في مخيمي الحبيب ....لقد قمتُ بحل الاشكال بفضل الله بعد أن أعطيتهم اوراقنا القانونية ليتابع بعدها العمّال بهمة ونشاط العمل في الأرض الجديدة لإعمار هذه البقعة الشريفة الغالية على قلوبنا ...المنطقة التي احتضنتنا بعد الهروب من غدر الحروب ...ملجؤنا الحنون الذي لم يطردنا عن ترابه رغم مرور السنين !!....بعد ان اطمأننتُ على مشروعنا تجولتُ فيه بين الوحدات السكنية حتى وصلتُ خيمتي ...دخلتها مبتسماً وارتميت بجسدي على الفراش الأرضي الوحيد بمخدته والذي استخدمه عند هروبي من مسرحيتي لواقعي...آتي لأرتاح واطمئن على الرعايا .....قابلتُ جارتنا الخالة ( فاطمة) فأصرّت أن تدعوني لشرب الشاي مع معجناتها اللذيذة ...لبيّتُ دعوتها بكل سرور وأخذنا الحديث وهي تسأل عن أمي وخالتي وبشّرتها بزواج شقيقتي!!....قمت من مكاني هاتفاً:
" لا يُمل خالة فاطمة ...لكن اعذريني عليّ الذهاب !!.."

اجابت بطيبة وكرم :
" رضي الله عنك بنيّ...لا تتأخر علينا وتعال دوماً لشرب الشاي معنا وسأصنع لك ما تحب كالسابق !.."

قلت بتواضع:
" حفظك الله يا خالة....سآتي بالتأكيد بإذن الله....شكرا لكِ على الاعتناء بخيمتي ....هيا استودعكم الله..."

منذُ أن ابقيت خيمتي على حالها اوصيتها على الاهتمام بها وكلما عزمتُ لإعطائها ما فيه النصيب اجر تعبها كانت تغضب مني وترفض رفضاً قاطعاً فتوقفتُ عن محاولاتي كي لا اجرحها ..!!

اجابت بوجهها الدائري الأسمر البشوش وهي تضع يديها على كتفيّ احدى بناتها الصغيرات :
" هذا واجبي بنيّ....لم افعل شيئاً....أمانة أن توصل سلامي لعائشة ومريم واخبرهما كم اشتقت لهما وبارك للمشاغبة دنيا بزواجها.."

ضحكت وقلت :
" أمرك خالة وسلّمك الله ...اوصلي سلامي لعمي خليل !.."

وليّتها ظهري وسلكتُ طريقاً آخراً بين البيوت مقبلاً للمدخل حيث أوقف سيارتي ....

×
×
×

بعد ان وصلتْ المكان المنشود ...دفعتْ لسائق سيارة الأجرة ....ترجّلت منها , تنظر بحُب وشوق لكل شيء وفي راسها هدف واحد ووحيد ....الخيمة 86 ...وصلت إليها ومشاعرها متضاربة بين اللهفة للمكان واصحابه وبين الرهبة والخوف إن علم والدها بقدومها الى هنا !!...قصاصات من الأوراق في دفتر مذكراتها أحيَت بها نبضات الحنين لزيارته ....كانت ترتدي نظارتها السوداء تظنها قبعة الاخفاء ....وصلت الى بيت الخالة(فاطمة)... ألقت سماءيها على بابه...رسمت ابتسامة طمأنينة لعدم خروج أحد فمشت خطوات قليلة حتى وصلت الخيمة ...خلعت النظارة لتبعد سوادها وتمعن النظر بالألوان الطبيعية التي يراها قلبها قبل عينيها ...ازاحت الباب القماشي بأناملها البيضاء الناعمة بكل رقة وكأنها تخاف ان تخدش قماشها او تترك اثراً عليها...حرّكت حدقتيها تنظر لكل زاوية ولما تبقّى داخلها....اغمضت عينيها تستشعر ما عاشته قبل حوالي أحد عشر عاماً....فتحت عينيها وابتسمت تكلّم نفسها وهي تنقل نظرها من مكان لمكان ..".هنا لعبتُ مع دنيا وسلمى....هنا كان يجلس حاملاً كتابه وأنا اتطفل عليه بأسئلتي ...هنا علّمني سورة النصر واهداني قلمه!!...".....دنت من الفراش الموجود حيرانة واكملت متسائلة داخلها.."...لمَ اشعر وكأن هذا الفراش فيه حياة ..كأن أنفاسه عالقة بها..." انحنت تمسك المخدة فأوقعتها في الحال قبل ان تقربها لأنفها وتشمّ العطر العالق بها والذي لم يكن سوى عطر (يامن) بعد سماعها الحركة خلفها والتي كانت من الخالة (فاطمة) وما إن رأت أن هذه التي جاءت الى هنا قبل سنة تبسمت وقالت مرحّبة بها :
" اهلاً بابنة الوزير...ما زلت اذكرك من العام الماضي.."

ردت عليها بابتسامة تجاملها وقلبها خفقاته مسرعة اضطراباً بعد ان اجفلت من دخولها المفاجئ فتابعت الأخرى:
" كيف حال السيدة فاتن؟...لم تزرنا هذه السنة وجاءت مكانها السيدة ايمان؟.."

اجابتها بهدوء واختصار:
" بخير....سلمتِ...كانت منشغلة آنذاك!!.."

تبسمت وقالت:
" الحمد لله.....أتبحثين عن شيء يا ابنتي ؟؟!.."

أبعدت عينيها مرتبكة وهمست:
" كلا...مررتُ من هنا صدفة وغلبني الفضول لزيارة خيمة السيدة عائشة !!..ما هي اخبارهم؟!.."

اجابتها على الفور:
" صحيح كنتِ قد سألتني عنهم سابقاً...ان كنتِ تحتاجينهم بشيء عجّلي والحقي بهادي...قبل خمس دقائق غادرنا...ستجدينه عند المدخل..."

اشارت للطريق التي أتت منه واستطردت:
" اسلكي هذا الطريق اقصر لأنه هو سلك الأطول...هيا اسرعي... مؤكد ستلتقين به !!..."
" حسناً سيد خالد ها انا عائدٌ إليكم .."

عندما كنتُ متجهاً لسيارتي الى مدخل المخيم , وردني اتصال من السيد (خالد ) طالباً مني أن اعيد له الأوراق التي تخص رخص شراء الأرض والبناء كي يطبع منها نسخة لتبقى معه ان احتاجوها لمثل هذه الحالات من العراقيل التي تواجههم.....عدتُ من منتصف الطريق وأنا أمشي أعبثُ بهاتفي واحمل الأوراق بيدي الأخرى ولما وصلت نقطة شبيهة بالمفترق بين البيوت ورفعت رأسي لأمضي في طريقي وقعت عينيّ على التي تقف مع الخالة (فاطمة)...أصابني الجمود من شدة الصدمة !!....ماذا تفعل هذه هنا ؟!....تواريت في زاوية احد البيوت قبل أن تلمحني جارتنا وتكشفني !!....كانت تشير لها نحو المدخل ولا اعلم ماذا تشرح وعلى ماذا ترشدها؟!...قتلني الفضول لأفهم قصتها !!...لم أتوقع بتاتاً أن تأتي لهذا المكان....يا ترى ما غايتها وما لها هنا ؟!.....مستحيل أن تكون السيدة (فاتن) من بعثتها !!.....فكرت وفكرت أريد ابعادها عن المنطقة .....الخطر يحاوطني !!....لو توقف الأمر عليها وحدها كان بإمكاني المراوغة لكن الخالة (فاطمة) ان رأتني ستهتف فوراً باسمي الحقيقي !!....تذكّرتُ الصورة التي التقطتها لها صباحاً وكذلك كنتُ قد صورتُ دفتر مذكراتها قبل قراءته لأستفزها واشاكسها فخطر ببالي الآن ارباكها بسبب رسالتها للحبيب كي تلتهي عني!!..لذا اول عمل قمتُ به هو ارسال الصورتين لها مع رسالة أخرى وأخبرتها عن أخذي هويتها والسبب وسألتها عن مكانها بحجّة أنني سأقلّها من حيث تتواجد...!!....

×
×
×

بينما جارتنا منشغلة بالشرح وصلت رسائلي الى هاتفها فرفعته بعد الرنين تتفحصه ولاحظتُ ارتباكها وبحركة عفوية نظرتْ يمنة ويسرة ثم جمعتْ أصابعها بإشارة توحي للواقفة معها بالانتظار ومشت خطوتين ثلاثة تبتعد ورفعت هاتفها لأذنها فظننتُ انها ستتصل بي لكن اتصالها كان لصديقتها :
" انقذيني يا ميار ..انا في مصيبة!!.."

ردّت بقلق:
" ما بكِ؟...ما الذي جرى؟"

اجابت بصوت مرتبك:
" يامن بعث لي صورة وانا نائمة في الصباح وصورة لدفتر مذكراتي!!...لقد أخذه!! ....وانا التي ظننتُ عند استيقاظي من النوم أن رائحة عطره في غرفتي مجرد هلوسات ليتضح انه كان بها بالفعل!!.....يا الله!... ويسألني عن مكاني يريد أخذي من حيثما أكون!!..انا في مصيبة."

تأففت صديقتها قائلة:
" فعلاً مصيبة!...ماذا ستفعلين؟!.."

قالت بضيق:
" مياار ...اتصلت بكِ لتعينيني لا لتسأليني!!.."


صمتت برهة وهتفت:
" مثلما قلتِ هذا من الماضي لا شأن له به!!.."

ردت مختنقة:
" لكنني خائفة!...لا تفاهم مع ذاك الحائط!!...كيف سيصدقني وقد أخبرتك بغيرته حفاظاً على اسمه وسمعته!.."

قالت:
" تشجعي ألمى أنتِ لست مخطئة لتخافي ...ردي عليه واخبريه بمكانك ليأخذك !!.."

قالت مرتبكة :
" أنا بذاك المخيم...يعـ...يعني مخيم هادي!!.."

" ما الذي أخذك الى هناك ايتها الحمقاء ؟!...إن كان سلاحك أن هذا من الماضي!! والآن ما سبب وجودك بهذه البقعة لو اكتشف أن صاحب تلك الرسالة شخص من المخيم؟!..ها؟...اجيبي!"

" لا توتريني ميار!!.....يا لسوء حظي !...كنتُ على وشك الالتقاء بـهادي فخرج لي يامن في المنتصف !!.."


قالت منزعجة من تصرفاتها:
" لو اخبرتني ان هذا هو مشوارك لمنعتك عنه ....غير منطقي تصرفك هذا ولحسن حظك وليس لسوئه عدم التقائك به وأنت مرتبطة بآخر......هيا اخرجي من تلك المنطقة ..اذهبي لمقهى او مطعم وكلميه منه فأنا أعرفك لو سألك وانت مكانك ستعترفين بسرعة دون داعي لصفعة!!..."

همست بوَجل :
" حسناً ميار ابقي معي على الخط ريثما أجد سيارة أجرة وسأكلمه وانا فيها كي لا اكذب!!.."
وتابعت سيرها متناسية من تركتها خلفها تتنظر انهاء مكالمتها ....!
×
×
×

بدأت تختفي عن أنظاري فتقدمتُ أكثر بخطواتي الحذرة اتأكد من رحيلها ولما اجتازت البوابة والهاتف ما زال على اذنها عدتُ للخالة ( فاطمة) وفور رؤيتها لي قالت وهي تنظر لطريق الخروج من المخيم ثم إليّ بملامح مبهمة:
" هادي... بنيّ!... لمَ عدت ؟....هل التقيت بابنة الوزير عاصي رضا ؟!.."

رفعتُ حاجبي بفضول وقلت :
" لمَ سألتقي بها ؟!.."

قالت بقنوط عابسة :
" مسكينة لا نصيب لها بلقياك ...هذه المرة الثانية التي تأتي وتسأل عنكم !!.."

قلت باستغراب :
" المرة الثانية ؟!...متى جاءت سابقاً؟!.."

فكرت وردت :
" تقريبا منذ حوالي سنة واربعة اشهر اعتقد .....جاءت برفقة شاب يبدو صديقها من الأثرياء حسب لباسه وحتى ابني أَيْهَم في ذاك اليوم جاء منبهراً بسيارته الحمراء باهظة الثمن التي كان يركنها جانب المخيم!!.."

ربطتُ المدة الزمنية التي أدلت بها مع يوم عودتها للبلاد وقد ذكرت بالرسالة مرافقة البغيض (صلاح) لها !!...اذاً البقعة في مذكراتها هي هذا المكان!!...زفرتُ أنفاسي مبتسماً بارتياح !...الغيرة أعمتني وظلمتها !....فهذا يعني جاءت حبيبتي لزيارة (هادي)!!...أيعقل ان كان له مكانة في قلبها لهذه الدرجة.!!....أأفرَح أم احزن؟!.....ليتني هادي !!.....ضحكتُ على نفسي من شعوري بالغبطة مني أنا ذاتي !!.....راق مزاجي.!...استأذنت الخالة وتوجهتُ للسيد(خالد) سلّمته الأوراق ثم اتجهتُ بحذر لسيارتي !!...وفي الطريق اتصلت بي لكني لم أرد عليها ....!!
×
×
×

.عدتُ الى بيتي وخبأت سيارة (هادي) في المرآب المغلق ثم استحممت وأخذت سيارة (يامن) التي يتواجد بها دفترها ...رفعت الهاتف متصلاً :
" مرحبا...كيف حالك؟!.."

أجابت باستياء سائلة لتتغدى بي قبل أن اتعشى بها:
" كيف تسمح لنفسك بدخول غرفتي بحرية وتصويري بذاك الوضع؟!.."

قلتُ ضاحكاً وبالطبع بسبب اطمئناني على الرسالة تلك ومن يكون صاحبها والّا لرأت ذاك الوجه الغائم العاصف:
" غرفة زوجتي أدخلها متى أشاء!!"

أعادت جملتي بصيغة وصوت متهكم فأكملتُ ضاحكاً :
" أين أنتِ؟!.."

قالت:
" في طريقي مع سائقي الى البيت !....لمَ تسأل ؟!.."

قلت:
" انتظريني في الخارج.. لن اتأخر انا قادم!!.."

وبعد عشر دقائق كنت باب بيتها وكانت تنتظر بالفعل ..القيتُ السلام وقلت وانا ارتدي نظارتي مبتسماً بمكر :
" هيا اركبي!.."

أجابت باستغراب :
" إلى أين !!.."

لم يكن يخطر في بالي مكان معين وكان هدفي رؤيتها ومشاكستها بدفترها قبل أن أعيده لها لكني تذكرت بدلتي الزفاف التي اخترتها وما زالت في المحل فهتفت:
" اخترتُ بدلة للزفاف ...اركبي لتخبريني رأيك بها !!.."

تهللت أساريرها لاهتمامي برأيها بشيء يخصني...رفعت هاتفها تتصل بخالتها تعلمها عن مرافقتها لي كي لا يقلقوا عليها وركبت بكل سرور !...خرجتُ من ساحة قصر العنكبوت والجبانة لم تسألني عن دفترها وكأن الصورة لم تصلها كتلك فقلت آمراً وأنا اتكئ بساعدي الأيسر على النافذة وسبابتي على فمي ونظري للأمام :
" احذفي صورتك تلك التي بعثتها !."

احمرّت وجنتاها احراجاً من وضعها المكشوف بالصورة وهمست بخجل:
" حذفتها !...ليس من حقك رؤيتي بهذا الوضع!...للناس خصوصيات !.."

قلت بمكر مدّعياً جهلي:
" أي وضع ؟! لم افهم !.."

حضنت حقيبتها ونظرت ليمينها للخارج واجابت :
" وضعي بذاك اللباس وانا نائمة !.."

رمقتها بنظرة سريعة ثم قرصتها من خدّها قائلاً بوقاحة لأكمل احراجها :
" سأراكِ بوضع أصعب قريباً ...يا قطة !.."

شدّت من احتضان ما بيدها واكتسى وجهها كله بالأحمر وتمتمت بحياء وعيناها ما زالتا في الخارج:
" قليل ادب!.."

تبسمتُ واخرجت من جيب بابي دفترها ومددته لها هامساً:
" خذي دفتر مواهبك ؟!.."

التفتت بسرعة جاحظة العينين وسحبته من يدي قائلة باستنكار:
"هل قرأته ؟!.."

" أيعقل أن احمله من غرفتك كل هذه الطريق لأنظر الى غلافه فقط؟!.."

أجابت حانقة تبلع ريقها:
" تتمادى في التعدّي على خصوصيات الغير!!...هل تسمح لي بفعل ذلك؟."

قلت ببرود لطيف:
" عندما رأيتُ غلافه غلبني الفضول لأرى ما في داخله من براءة!!...كنتُ أظن أنني سأرى خربشات طفلة ...ترسم فراشة!...تكتب اسمها وتزينه..."

صمتّ وهلة ثم خطفتُ نظري إليها وتابعت بجديّة مصطنعة:
" لا اعترافات حُب سيدة ألمى !!.."

وضعت يدها على فمها شاهقة بصدمة وجفّت دماؤها بعد أن سمعت كلماتي والتي لم تتوقع القائي لها بوجهها بوضوح دون أيّةُ تلميحات!!... ولمّا لم تنطقُ حرفاً قلتُ لها مبتسماً:
" لا تخجلي او تتوتري....أمرٌ طبيعي هذا أن نُحب....ورغم وقاحتك بالاعتراف إلّا أنه يعتبر بريء!!.."

ارتجفت حدقتاها ودماؤها التي جفّت انتشرت في سائر جسدها مرةً أخرى لتلوّن بشرتها فتابعتُ ساخراً:
" هل على الأقل وصلته رسالتك؟ أو بالأصح هل كان يبادلك نفس الشعور حينها ؟!"

زمّت شفتيها باستياء ثم زفرت بضيق هامسة:
" هل يمكنك تغيير الموضوع؟!."

قلت بابتسامة خبيثة:
" كلا...موضوعك أثارَ فضولي!.."

ردّت مندفعة :
" إذاً احكي لي اولاً عن بطولاتك مع البنات!.."

وتمتمت مضيفة بخفوت:
" لا بد أنك كنتُ من واحدة لأخرى متباهياً تظنُ نفسك وسيماً!.."
قلتُ بثقة وهدوء مبتسماً من كلماتها التي تفوح منها رائحة الغيرة:
" كانت واحدة منذ طفولتي وصباي .."

قاطعتني بنفس الاندفاع :
" ما اسمها؟..وما شكلها؟!.."

قلت:
" لا أدري إن كانت قمرٌ في كبد السماء أم انها هي الكون الذي يحمل السماء !!.....اسمها روح.... "

قصدتُ معنى اسمها (ألمى) وهو الروح....!!

استشاطت غيظاً من غيرتها وقالت وهي تجزّ على اسنانها :
" أنت وقِح!....كيف تجرؤ على التغزل بتلك أمام خطيبتك التي لا تُسمّعها أيّ كلمة حلوة ؟!...حتى لو أصبحت من الماضي..."

أوقفتُ السيارة فجأة فاهتز جسدها وتناثر شعرها على وجهها وصرخت قائلة:
" ماذا تفعل؟!...لمَ توقفت؟"

استدرتُ نحوها قليلاً ومددتُ كلتا يديّ برقة لأٌبعد الشلال الأسود الذي فاض على ثلوج وجهها وهي في حالة ذهول تحدّجني بسماءيها البراقتين وقلبها يتمرّد بخفقاته بين ضلوعها ورعشة باغتتها من لمساتي لوجنتيها الورديتين واقتربتُ أكثر من وجهها وهي تغمض عينيها مستسلمة لمصير شفتيها فهمست بصوتٍ رخيم لا يلائم نيّتي:
" أنتِ من طلبتِ أن أحكي عن بطولات الماضي مع حبيباتي...يا حلوة"

ثم حررتها معتدلاً بجلستي بعد ان عبثت بمشاعرها ودعستُ على الوقود مستمراً في طريقي فبدأت ترتب شعرها بارتباك وحاولت إخفاء حرجها بسبب استسلامها ثم قالت بجرأة متحولة لقطة شرسة :
" أجل كان يبادلني نفس الشعور وعشنا أجمل أيام معاً ...لن انساها."

قلت على الفور بجدية :
" ماذا ؟!.."

قالت ببرود وهي تسند ظهرها بعد كذبتها بانتصار مع ابتسامة ماكرة:
" جوابي لسؤالك في الموضوع الذي أثار فضولك!.."

حاولت كتم ضحكتي وهتفت بكل هدوء:
" جيد!...على الأقل اطمأننت أن مشاعرك لم تذهب سُدى!.."

ضاعت من جوابي البارد الذي فاجأها لأنه مخالف لغيرتي ولا يشبهني وبقيت على حالها تائهة بأفكارها...!!

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~




" جدتــي....جاء بابا "

استدارت بجسدها تلصقه بالجدار من خلفها وبدأت تنزلق على مهل حتى وصلت الأرض مقرفصةً ويدها على فمها تحاول منع خروج صوتها الباكي والذي تترجم على شكل دموع من شهديها ....جاء بابا !!...بكل ثقة ودون تردد قالتها الطفلة !...سألت في عقلها ... " لمَ فعلت بي هذا يا سامي ؟!...ماذا تخفي من ماضيك ؟!.."...أحسّت بحركة قادمة نحوها ....كان رجلان يسيران في الطريق فاستقامت واقفة تسحب الهواء وتمسح دموعها مع أنفها بظهر يدها....بعد ان اجتازاها بدأت تهفّ بكفيها على وجهها كي تبرد هيجانه ...شهقت وزفرت تنظّم أنفاسها .....استعادت رباطة جأشها وقررت خوض معركتها دون تأجيل...عليها فهم الصورة التي رأتها بعينيها !!....يجب أن تغوص في أغوار زوجها....أليس هذا من حقها وخصوصاً بعد أن سلّمته نفسها ليصبحا جسدين بروحٍ واحدة ؟!....استدارت جهة المدخل البسيط لهذه الغرفة الطينية وكان له درجتان مكسرتان ...صعدتهما وأقبلت للباب الأزرق ...ابتلعت ريقها مبسملة وطرقته !!....

" دُنْـ..يا ؟!"

قالها بتقطّع مشدوهاً لرؤيته لها بعد أن فتح الباب بنفسه وهذا دليل على علاقته الوطيدة بأهل هذا البيت !!...ركّزت حدقتيها الدامعة عليه تشدّ على شفتيها لتمنع ارتجافهما ....بقيا لثواني يحدّقان ببعضهما حتى سأل:
" ماذا تفعلين هنا دُنيا ؟!...كيف وصلتِ ؟!.."

قبل أن تجيب انتقل بصرها للتي جاءت بوجهها الضاحك تسحب كرسيها ذو العجلات هاتفة :
" مَن جاءنا بابا ؟!.."

حملقت بالصغيرة تحاول إيجاد أي رابط او ملامح توحي انها من دمائه ولمّا لم تجد لعب الفأر في صدرها غيرةً.." هل تشبه أمها ؟!!."...ثم تنحنحت تجلي صوتها المختنق وقالت دون لفّ او دوران :
" مَن هذه الطفلة ؟!.."

كان يمسك مقبض الباب بيمينه رافعاً حاجبه يحاول فهم وقراءة ما يجري أمامه !! ومع سؤالها التفت قليلاً ليساره ينظر للطفلة مبتسماً ثم أعاد عينيه للواقفة فكررت بصوت صارم نبرته مرتفعة :
" أجبني سامي ...من تكون هذه الطفلة ؟!.."

بُهتت ملامح الصغيرة وكأنها أثارت رهبتها وفور رؤيته لصورتها تلك أجاب دون تردد وباعتزاز:
" ملأ تكون ابنتي!.."

بحركة سريعة ولّته ظهرها لتمشي هاربة كي تنفجر بكاءً بعيداً عنه لكنه حوّط معصمها يوقفها وقال بصوت حازم خافت وهو يخرج مفاتيح سيارته من جيبه يمده نحوها:
" انتظريني في السيارة خمس دقائق .."

التفتت بوجهها المشتعل صوبه وما زالت توليه ظهرها وقالت بصعوبة :
" ارجوك...اتركني لأذهب ...سأنفجر لا يمكنني الانتظار!.."

هتف بجديّة وصوت خفيض مع ايحاءات بعينيه كأنه يريد أن تفهمه دون أن يوضح كلامه :
" دُنيا قلت انتظريني بالسيارة ولا تتهوري وتصعّبي الأمور بيننا..!!"

اطلقت ضحكة مكلومة هامسة مستنكرة:
" أُصعّب الأمور بيننا؟!.."

ورمقت(ملأ) بنظرة أسى فوجدتها تنظر لأنامل يدها المرتعشة في حضنها والارتباك يكسوها, مسدلة أهدابها فقررت أن تختصر من عنادها ولا تزيد الوضع سوءاً لذا استدارت نحوه تُظهر قوتها وسحبت المفتاح من يده هاتفة بجفاء :
" فقط خمس دقائق أنتظر ثم أذهب !."

بعد اختفائها عن بصره حيثُ يركن سيارته بساحة ضيقة جانبية بالطرف الآخر أغلق الباب وقرفص أمام الصغيرة مسك يديها وقبّلهما بحنان ثم بظهر كفه حسس على وجنتها وبالأخرى يحاول تهدئة رعشة يدها ولم يفلتها الّا أن استكانت فأقبلت جدتها تقف خلفها قائلة بحرج وقلة حيلة :
" سامي بنيّ ..هذه زوجتك أليس كذلك ؟!.."

رفع حدقتيه لها وهو على حاله وابتسم ثم رمشَ مع ايماءة برأسه يجيبها بنعم فتابعت :
" اذهب لها بنيّ واصلح اموركما....ليس ضرورياً اصطحاب ملأ اليوم....تعوضها لاحقاً ان شاء الله !.."

قال بثقة :
" كلا يا حاجّة أم توفيق !...هذا اليوم لملأ مهما كان !.."

فهتفت الطفلة برقة تخفي انكسارها وما مرت به قبل قليل:
" بابا !"

تطلّع عليها بنظرات كلها حنيّة وهمس :
" روح بابا...ماذا تريدين حبيبتي؟!.."

تابعت وكأنها فتاة راشدة :
" اذهب لزوجتك الجميلة ....حرام كانت ستبكي !...لا أريدها ان تكرهني اذا اخذتك منها !....سأنتظرك الخميس المُقبل أو أي وقت أنت تريده ...أرجوك بابا لا تكسرها!"

تبسّم بكل حُب لها وقال:
" ألن تحزني اذا ذهبت!؟.."

مسكت يمناه بقبضتيها الصغيرتين وقربّتها لشفتيها الرقيقتين تقبّلها باحترام وهمست تُطمئنه :
" أنا أحبك بابا واشتاق لك لكن سأحزن إن كرهتني خالتي دنيا ...أريدها أن تحبني مثلما أحبها !"

انتصب واقفاً ثم انحنى يقبّلها من جبينها وبيده بعثر لها شعرها مُداعباً وقال وهو ينقل نظراته بينهما :
" إذاً أعدكم أننا سنعوّض هذا اليوم بيومٍ أجمل بإذن الله..."

أخرج من محفظته نقوداً ورقية ثم مدّها للجدة بتواضع هاتفاً:
" لم اجلب شيئاً معي لأني نويت اصطحابكما لشراء ما تحتاجان لكن رأيتما ماذا حصل ....سأبعث لكِ سائق لتُملي عليه ما ينقص ويُحضِره لكِ !.."

هربت بعينيها مُحرجة ولم تمد يدها وهتفت بضعف:
" كثير هذا بنيّ...خير الله موجود !....لا تستمع للطماعة الصغيرة وتنفذ لها كل ما تطلب!...هكذا ستفسد تربيتها ولن استطيع السيطرة عليها لوحدي لاحقاً!..."

قال وهو يصرّ على إعطائها ما بيده:
" امسكي يا حاجّة ....ملأ فتاة مطيعة ولن ترهقك ثم ان شاء الله ريثما تستقر الأوضاع وانتقل الى بيتي ستكون معي حيثُ يجب أن تكون ودون اعتراض من أي جنس مخلوق!.......لتترعرع في بيت أبيها !.."

~~~~~~~~~~~~~~~~

" عملية أخذ العينة الأثنين المقبل أليس كذلك ؟!..أم الثلاثاء ؟!."

سألت السيدة (ايمان) صديقتها السيدة (فاتن) الجالسة امامها في شقتها وملامحها شاحبة تعتقد ان سببها ارتباكها من العملية فردت بوهن :
" أجل الأثنين من الأسبوع القادم ان شاء الله !.."

نبرتها جعلت صديقتها تقلق عليها أكثر فمدت يدها تضعها فوق كفها تربّت عليها لتساندها وهمست بعطف:
" على خير حبيبتي فتّون ....أنتِ قوية بإذن الله...لا تقلقي...اردت التأكد لأخذ إجازة ومرافقتك !.."

أجابتها بنفس النغمة الضعيفة:
" شكرا عزيزتي ...انا لا اقلق ولا افكر اساساً في نفسي....عقلي في أمور أخرى!.."

شدّت ملامحها بتأهب تسألها:
" ما هي هذه الأمور التي تشغلك ؟...انسي كل شيء وفكري بدعم نفسك!.."

ردّت بائسة:
" اقترب زفاف صغيرتي ....اريد فعل الكثير لها ومن أجلها لكني في صراع يصدعني !....لا أستطيع النوم وأنا أتقلب في فراشي تارةً ضميري يقتلني لأني أشعر أنني أخدعها وتارةً قلبي يبث الطمأنينة في جسدي أن ما فعلته الصواب!!....صدقاً تعبت !.."


قالت تحاول ان تريحها وتخفف من حمل همومها :
" لم تخدعيها ...أنتِ تجمعينها بمن تمنت منذ الطفولة وتهديها على طبق من ذهب عائلة دافئة فخر لمجتمعنا عوضاً عن عائلتها المفككة .."

همست بأسى:
" ليس كما تظنين!....نعم هي أحبت وتمنت دوماً أن يكون لها عائلة كتلك لكن بالطبع لن تفضلهم على والدها ولا أدري ماذا ستكون ردة فعلها حين يكشف الملعوب !!.."

زفرت أنفاساً أثقلتها وأردفت:
" ستكرهنا جميعاً وعلى رأسهم أنا !!....أخشى أن تؤذي نفسها!...هي لم ترَ شيئاً يسرّ بالها وخاطرها في حياتها لتتشبث بها خصوصاً بعد أن تُصدم بأقرب المقربين منها مثلي بسبب مساعدتي لهم ضد أبيها والأمَرُّ من ذلك استخدامها كورقة رابحة في المهمة أو حتى صدمتها عند معرفة حقيقة والدها المنحطّة !!....أي أن في الجهتين ستخسر ....لو فهمتني والتمست العذر لفعلتي ستحقد حينها على والدها.. ولو لم تصدّقني وتقف معه ستحقد حينها عليّ ..وبالنهاية ستخسر شخصاً من بين أغلى اثنين على قلبها!....أنا والبغيض!!....ألمى رقيقة , هشة ...لن تتحمل الصدمات وبسبب بعدها عن الدين لا استبعد أن تضر نفسها بعد أن تفقد عقلها لفقدانها احدانا !...آه يا ربي ساعدني !..."

لم تستطع الرد عليها ...ماذا ستجيبها وكل ما قالته وارد جداً وصحيح !!؟..ظلّت صامتة تحاول إيجاد كلمات تساندها لكنها أرهفت السمع تتطلّع على التي استطردت بعد هدوء قائلة بقلق :
" ينتابني بعض القلق من هادي مع ثقتي به واحترامي له !!.."

سألتها بحيرة :
" لمَ؟..وممَ ؟"

أجابت :
" هو تزوجها بسبب المهمة التي وكّل بها من أجل الوطن وتنقيته من الأوغاد ومعاقبتهم لكن بدخول مقتل والده في الموضوع يتغيّر الحال !!فمع معرفتي أنه لن يؤذيها شخصياً الّا أنني أظن أنه سيطلقها فور انتهاء وظيفته دون أن يعي أنها غارقة بحبه منذ سنين !!....أي ستزداد وحدتها في هذا العالم وأعود لنفس النقطة انها ستدمّر حياتها سواء بادراك او من غير ادراك !.."

شبح ابتسامة زيّنت ثغرها وهتفت:
" هل من المعقول بعد أن يرتاح باله بإتمام مهمته بنجاح أن لا يقع في حب تلك الدمية البشرية؟!...أنا انثى وأقرّ بجمالها الفاتن فكيف برجل تكون بين يديه ؟!...مستحيل أن يتركها واسأل الله ان تكون ابنة شقيقتك ذكية وتجلبه لصفها من البداية قبل وضع النقاط على الحروف وكشف الحقائق ليكون رباطهما متيناً!.."

همست باستسلام:
" أتمنى ذلك!!....فأنا أتشتت عند التفكير بصغيرتي!.."

نهضت السيدة (ايمان) من مكانها واتجهت للمطبخ تجلب عصيراً تبللان ريقهما ولما عادت تحمل الصينية وجدت ظرفاً يوضع على الطاولة فوضعتها عليها وجلست تحني ساقاً تحتها والآخر على الأرض بعد أن سحبته تغضن جبينها بتساؤل وهي تقلّبه :
" ما هذا المكتوب؟!.."

قالت بغصة والألم يذبحها :
" احتفظي به معك!..."

حدّجتها بنظرات وجِلة ثم سألت متسلّحة بالقوة :
" ماذا يحوي ؟!...لمَ تعطيني إياه؟!.."

أجابتها بتردد والدموع تترقرق في عينيها :
" إ...إذا أخذ الله روحي ...سلّميه لألمى!!.."

أصابها الوجوم فوق وجلها لكنها هتفت بحماس وتفاؤل يغطي وجعها عليها :
" لا تقولي هكذا!....سنستقر بأرض الوطن بعد ان يعاقب كل مذنب و ستفرحين بها وبأولادها وسنعيش معاً بإذن الله في سعادة لا تضاهيها سعادة ..."

برقت عيناها ببريق الأمل وابتسامة زارت محيّاها وقالت:
" يا رب.....لكنه أمانتك....احتفظي به!.."

~~~~~~~~~~~~~~~~

كانت تجلس تاركة باب السيارة مفتوحاً وتدلّي ساقيها للخارج ...تتكئ بمرفقيها على فخذيها مع انحناءة صغيرة بظهرها ...تتأفف وهي تنتظر !!...تنظر لساعة يدها مرةً وتفكر مرات وكل هذا خلال الخمس دقائق التي حدّدها لها !!..الدقائق اجتازت هذا العدد لكنها ستمهله الوقت الضائع ..لا بأس !!.....استقامت بظهرها تتطلع من النافذة الأمامية للسيارة بعد سماعها خطوات قادمة والتي لم تكن لغير (سامي)....عدّلت جلستها تدخل قدميها للسيارة وأغلقت الباب ...وصلها وفتح باب السائق وجلس جانبها وبما انه يعرف ردود فعلها وكيف ستنفجر كان أول ما توقعه ان تصرخ طالبة الطلاق فهذا طلب شبه طبيعي من امرأة اكتشفت خداع زوجها لها وكيف ان كانت التي يتكلم عنها هي (دنيا) المدللة الاندفاعية ذات الكبرياء المرتفع ؟!!...سحب المفتاح من بين مقعديهما وثبّته مكانه وشغّل المحرك بهدوء وثقة كأنه غير مذنب بتاتاً..!!...خرج من بين الأزقة الضيقة وهما صامتان وكأن القطط ابتلعت لسانيهما!!....هي تنتظر أن يبرر ويشرح وهو ينتظر أن تنفجر وتصرخ !!...يا ترى من سيكون صبوراً أكثر وهو ينتظر الآخر ؟!....بالطبع صديقي هو مصنع للصبر والمرأة لن تكون امرأة إن ظلّت محافظة على صمتها وسكونها وخاصة شقيقتي.....هذا يعتبر عيب في حقها !!...أليس كذلك ؟!...لكنه سبقها هامساً ببرود يصل درجات تحت الصفر كادَ أن يجمد نبضاتها ويصيبها بسكتة قلبية:
" هل تتجسسين عليّ وتراقبيني يا عينيّ الشهد ؟!.."

بربِّه!!...هل هذا وقت النغاشة والغزل ؟!...

قالت بحنق:
" مذنب وتتبجح؟!!...لا تضع أي لوم عليّ !!..."

أكمل ببروده :
" أهذا كان سبب تغيرك المفاجئ أيتها الضفدعة الجبلية ؟!.."

ردت على الفور بغيظ من بروده :
" أتريدني أن أرقص لك بعد ما سمعت ؟!.."

مال الى يمينه يقترب منها مبتسماً يشاكسها هامساً بصوت ولهان :
" يا ليت !!...ما رأيك أن نحتفل الليلة عسى أن نأتي بشقيق مستعجل لملأ؟!.."

دفعته بيدها ليبعد عنها وهتفت بصرامة :
" كُن جدياً وتكلم كرجل ....لا تخف او تتهرب من اخطائك وتخفيها خلف مزاحك الثقيل !.."

اعتدل بجلسته وتحوّل الى الجدية ثم توقف جانباً في الحيّ !...شدّ قبضتيه على المقود وملامحه أصبحت جافة وقال:
" ليس سامي من يهرب من اخطائه أو يخاف.. دُنيا!!.. لن ألومك بشيء لأنك ما زلتِ تتعرفين عليّ.!!...ومعرفة بعضنا بالزواج ستكون أصعب وتحتاج لوقت !!..دائماً السنة الأولى في حياة الزوجين تكون كالمسودّة للرواية...نكتبها ثم نعدّل اخطاءنا دون أن نقنط لننشر رواية جميلة وناجحة لحياتنا أو أننا نبقي الأخطاء كما هي لتندثر هذه الرواية دون أن يسأل عنها احد...الشيء بيدنا من بعد الله"



تنهّد بعمق وأكمل :
" هذه نقطة احفظيها ...إن أخطأت أصلّح خطئي واعدّله واعترف به ولا أهاب احداً....والدي بهيبته لم أخف منه يوماً منذ صغري !!...مشاعري اتجاهه هي حب واحترام فقط !!....."

شرد برهةً واستطرد:
" مرة في مراهقتي رغبت بتجربة طعم السجائر وكان هذا اكثر ما يكره والدي ويهددنا إن مسك احدنا سيذيقنا الويل ويتبرأ منا!!...كنتُ جاهلاً والشيطان أغواني !!....فجرّبت سيجارة واعترف انها راقت لي وقتها ومن أجل والدي أقسمت لنفسي الا افعلها مجدداً ثم رحتُ على الفور أخبره بذلك واعتذر مع علمي بردة فعله وأنه سيعاقبني عقاباً شديداً ....لكني كنت على يقين ان الخطأ خطئي ويجب مواجهة عواقبه مهما كانت !!...وما فاجأني يومها أن أبي احتضنني وقبّلني قائلاً..* أنت أسدي وابني الغالي...هكذا اريدك ! واجه اخطاءك مهما عظمت ....قل الصدق ولو على قطع رأسك !!...مداراة الخطأ تجرّ خطأ والخوف من المواجهة يضعف القلب ويولّد الجُبن!!...عدني بنيّ أن تبقى هكذا ولا يغيّرك الزمن!!....بقلوب الشجعان نحافظ على الأوطان...لن يخون ولن يبيع الّا من كان قلبه جبان ...*....."

نظر إليها مع امالة خفيفة نحوها وأردف:
" لذا يا زوجتي العزيزة لو نفرض أن ملأ كانت نتيجة خطأ ارتكبته لكنتُ أول شيء فعلته هو اخبار شقيقك بهذا ثم أنت دون تردد مهما كلفني الأمر ومهما سأخسر والأهم لم أكُن سأخفيها بهذا الحيّ البائس الفقير لأني لا أخاف الّا من شيئين اثنين ...اولهما خالقي ومن ثم خوفي الذي يلازمني وهو أن افقد الأحبة !!...أهلي وأنتم !.."

كانت تصغي له وفي داخلها تفتخر به وحتى بدأت ترتاح لأن أثناء انتظاره راودتها الكثير من الأفكار وكان من بينها شيء يقول لها الّا تتسرع لأن من اهدته قلبها وجسدها وروحها مستحيل أن يحمل صفة الخيانة !!. وغَدت شبه متأكدة أن ( ملأ) ليست منه ولكنها ما زالت غامضة بالنسبة لها ولم يوضح قصتها بعد فهمست سائلة :
" من تكون تلك الطفلة ؟! ولم تقول لك بابا ؟! وما دمت لا تخاف كما تدّعي لمَ اذاً تكلّمت بالهاتف هامساً بحذر كي لا اسمعك ؟!.."

تبسّم وأسند ظهره للوراء وراسه ثبّته على رأس الكرسي يوجهه مع بصره لسقف السيارة وأجاب :
"لو سألتِني حينها لأجبتك!!... لم أتكلم همساً خوفاً من أن تسمعيني...اطلاقاً !!.....إنما هكذا يجب أن أتكلم معها ...بهذه النبرة الهادئة الخافتة !!.."

صمت يستعيد كل شيء بذاكرته ثم لمعت عيناه بحزن وتابع بصوت موجوع :
" قبل أربع سنوات في بداية عملي حدثت جريمة قتل في الجهة الأخرى من الحيّ....جئتُ برفقة مجموعة من الشرطة بعد إخبارية وصلتنا من أحد الجيران ...كان عمر ملأ ثلاث سنوات ونصف ...والدها كان هاملاً مدمن مخدرات ووالدتها تعمل في البيوت لتستر على نفسها وابنتها ....جاءته الحالة يريد جرعته وكانت زوجته تخبئ القروش في خزانة المطبخ الصغيرة ولما أمسكت به متلبساً لأخذها... حاولت منعه مع التوسلات لأن هذا المال إذخرته لتشتري لملأ مستلزمات الروضة كملابس وحقيبة كي لا تنقص عنها شيئاً !!...تصارعا أمام الطفلة بين الصد والرد والصراخ وهي تغلق أذنيها لتخفف من حدة الصوت وتلتصق بالباب وانتهى الأمر به بسحب سكين وقطع وريد والدتها الرئيسي دون وعي!! ...دقائق استوعب جريمته بعد ان عاد لوعيه ووقع نظره على طفلته الباكية فبدون تفكير قتل نفسه بنفس طريقة قتله لزوجته!!....لما وصلنا كانا قد فارقا الحياة وكانت جدتها قد وصلت قبلنا بعدما اعلمها الجيران...كنتُ برتبة ملازم أول وصلاحياتي محدودة لأنه كان متواجداً مَن أعلى مني فأمر آنذاك بأخذ الطفلة لتسليمها للرفاه والشؤون الاجتماعية !!....لما اقترب احد العساكر لأخذها تشبثت بجدتها لأنها كانت الوجه الوحيد الذي تألفه من بيننا واصابها الصرع وجدتها تبكي على حال صغيرتها وعلى المشهد الدموي الذي امامهما وحتى لم تكترث كون ابنها مقتول لأن هالها منظر حفيدتها الوحيدة وشغل بالها.....كنتُ أقف جانباً وقلبي يتمزق عليهما ولا حول لي ولا قوة فالقانون فوق الجميع ...وما أوقف نبضاتي... عند مرورها من جانبي وهي بحضن الشرطي تتململ بقوة انحنت نحوي تمدّ يديها لنجدتها ومسكت برمز الرتبة على كتفي ونظراتها فيها الرجاء ومن قوة قبضتها خرج الرمز بيدها عندما سحبها ذاك متابعاً بطريقه للسيارة !....لم افهم لمَ اختارت ان تتشبث بي من دونهم ؟!!....كان سيادة النقيب هو الموجود ولم يرأف ويتركهما معاً بل أصرّ على ارسالها للشؤون لوضعها بدار الرعاية !!....وهكذا بعد ان انهينا التحقيقات في ملابسات الحادث وقمنا بتشميع المكان وعادت الجدة لبيتها مكسورة , اصابني الأرق ليلتها وانا استرجع مشهد الطفلة أمامي وطعنات موجعة اجتاحت جسدي وكلما اقلب جانباً أرى عينيها تلاحقاني ...تخيّلتها ابنتي وتيتّمت من بعدي ماذا سيكون مصيرها في دنيا الوحوش !!...لم تغب عني نظرات الرجاء بعينيها !!..انتظرت حتى اشرقت الشمس وخرجت من بيتي الى حيث ارسلوها وكانوا قد نقلوها الى احدى دور رعاية الأيتام فلحقتُ بها وإذ بهم يخبروني أنها فقدت قدرتها على السير من الصدمة !!...رافقوني لغرفتها لأراها فوجدتها على السرير ورمز الرتبة ما زال في قبضتها !! كأنها تلتمس منه الأمان !!.......قبل أن أتقدم نحوها أقسمتُ في سري أن أكفلها وأرعاها وأن يكون ثلث راتبي مهما صغر او كبر هو حقاً لها ....أعدتها لجدتها ولن أنسى فرحتهما وهما تحتضنان بعضهما ..."
لم تستطع امساك دموعها وهي تستمع له ...مدّت يسراها ومسكت يمناه بحنية وحب فالتفت ناحيتها مبتسماً ولمعة الحزن لم تفارق مقلتيه وهمست باعتزاز:
" أوَتسأل لمَ اختارتك انت لتتشبث بك ؟!...ألا تدري أنك نبع للحنان ومصدر للأمان ....وجهك يضحك وقفاك يضحك !!....ألا تعلم أن بكَ جاذبية تجبر الناس على حُبّك سواء أرادوا ذلك أم لا ؟!.."

جذب يدها لشفتيه يقبّلها بامتنان على كلامها ثم اعادها مكانها وحاصرها بيديه وأضاف :
" عرضتها على طبيب نفسي وهو يتابع حالتها الى يومنا هذا وهو من طلب منا ان نتعامل معها بصوت منخفض ولين لأنها تخاف من الصوت العالي... لذا أتكلم معها هامساً وبرقة وإلّا تبدأ يدها بالارتعاش دون ان تستطيع التحكم بها وهذا يؤخر من تقدّمها!!....ايضاً نأخذها للتمارين كي تعود للسير والحمد لله الأمل كبير ...لقد بدأت تتحسن عن قبل جسديا ونفسياً..."

سألت بشفقة :
" لمَ تناديك بـ ..بابا..؟؟"

"رحتُ لزيارتها مرة في بيتها بعد أن الحقتها بالروضة وعيّنت مرافقة لها تهتم بها فوجدتها هي وجدّتها تتحدثان ولم تنتبها لي ....سمعتها تشكو بحسرة لها أن جميع زملائها لهم آباء وأمهات الّا هي فلم أتردد حين ظهرتُ أمامها فاتحاً ذراعيّ لاحتضنها وهامساً ..* جاء بابا *...ليتكِ رأيت السعادة التي كانت تشعّ من كل خلية في جسمها بعد كلمتي تلك !...منذ تلك اللحظة ولم تناديني الّا بابا بل تفخر بي لمّا ازورها في مدرستها الآن أكثر من فخر الأولاد بآبائهم الحقيقيين رغم معرفتها من أكون بالنسبة لها وحتى طبيبها النفسي شرح لها الحدود في العلاقة حين تبلغ وتقبّلت ذلك ولكنها طلبت الّا احرمها مناداتي بهذا اللقب مهما وصلتْ مِن العُمر....لديها عقل كبير وذكية....ستكون امرأة رائعة في المستقبل بإذن الله وسأفتخر بها "

تبسّمت بانشراح لكلامه مع انها تألمت على الطفلة وكان سؤالها الأخير من موجة التحقيقات :
" إذاً لمَ أخفيت هذا ولم تخبر أحداً مع انه مسؤولية وليس بالشيء القليل وممكن ان يجلب الظنون حولك والشبهات ؟!.."

بسمل مجيباً :
"...{{ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }}..."

ثم تابع :
" لم أرد أن تعلم شمالي عمّا تنفق يميني ...رغبتُ أن يكون لي شيء بيني وبين الله ....وضعت حديث رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم أمامي وتمنيتُ أن أكون منهم (( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشابٌ نشأ في عبادة ربه، ورجلٌ قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)).."

تبسّم لها بحنان وقال وما زالت يدها محاصرة بقبضتيه :
" تمنيتُ ذلك سابقاً.!!..لكن لم يكن سيستمر اخفائي لأني نويتُ أن انقلهما لبيتي مستقبلاً في الطابق المنفصل الأرضي ...اذا أراد الله... لتكون تحت عيني فبالنهاية ستكبر البنت وتحتاج لرجل يحميها ولا يمكنني الاختلاء بها حينذاك واحتاج لامرأة ان تكون الوسيط بيننا...كنتُ قد نويتُ أن اخبرك بقصتها عند عودتنا لتكوني انتِ هذه المرأة بل خططتُ لاصطحابك عندها اليوم...لكن!!..."

حدّقت به بفضول وهمست:
" لكن ماذا؟!.."



ردّ بغصّة:
" برودك معي الأيام الأخيرة قتلني !!...لم تدري ما فعلتِ بي !...فقررت تأجيل الموضوع لحين أن أفهم أسبابك تلك !...وها هي كُشِفت لوحدها !..."

مدّ يده يمسد وجنتها بلطف وهمس بحُب:
" نحن في أول الطريق وسيكون اذا شاء الله مشوارنا طويلاً معاً....لم اغضب من تصرفك ولم انزعج من مراقبتك لي اليوم لأني أتفهم ما مررتِ به كأنثى ولو كنتُ مكانك لربما فعلت نفس الشيء....نحن بشر ونسيء الظن !...لكن عديني أن تواجهيني بما يختلج صدرك او يثير شكك....لا تعاقبيني بتغيرك معي!!..."

كانت يسراه ما زالت متشبثة بيدها اليمنى أما يمناه أنزلها من وجنتها لصدرها يضعها جهة قلبها وقال هامساً:
" لا تقتلي قلبك بالشك والظنون يا روحي ودُنيتي....هذا خُلق ليُعَمَّر بالإيمان ولينبض بالحُب....فقط ثقي بي يا حُبي ولن اخذلك ابداً بإذن الله .."

دمعة خائنة طردتها من عينها بعد أن خجلت من نفسها أمام حبيب عمرها الذي لا يمكنها ايفاءه حقه ولن تجد أي عبارات تصفه بها بل حسدت حالها على هذه العطيّة التي انعمَ الله بها عليها فانقضّت عليه تعانقه بقوة وحرارة في السيارة لتعوّض نفسها قبله مما حُرمت منه بما كسبت يدها وهمست باختناق وعبراتها تنساب على خديها :
" أعتذر حبيبي....سامحني وتحمّل غبائي واندفاعي....أنا لا استحقك سامي.."

طبطب على ظهرها مبتسماً وهي تخنقه بذراعيها اللتين تحاوطان عنقه وهمس بمرح:
" الضفدعة خُلقت لتكون لسامي وسامي لن تكون غيرك مليكة قلبه يا ابنة الأصل.."

بعد الأحضان التي لم يشبعا منها سألها بنبرة مرحة :
" هل أخبرتِ عيوش بشكوكك ؟!.."

ردّت بثقة:
" ليست دُنيا ابنة محيي الدين وعائشة من تفشي أسرار بيتها وتفضح زوجها مهما تهورت ....أساساً لمّا خرجتُ من البيت قلت لها أني ذاهبة إلى زوجي حبيبي.."

ضحكت وأضافت معترفة بخجل من فعلتها:
" لم اكذب عليها ....أنا جئت اليك....لكن لأمسك بكَ متلبساً!!..."

ضحك وهيأ سيارته للسير مجدداً فقالت بحنان وعطف :
" سامي...هيا لنعود ونأخذ ملأ....حرام لا بد أني كسرتها لأنني اخذتك منها !!.."

انشرح صدره لطلبها وهتف يرمقها بنظراته العاشقة :
" أتعلمين أنها تُحبك وأنها طلبت مني القدوم اليك كي لا اكسرك؟!....يبدو أنني أنا سأنكسر بينكما ايتها الشقيتين.."


ضحك وتابع:
" سنذهب إليها في مرةٍ قادمة ان شاء الله .....الآن علينا الذهاب لخلية حبنا لنرتاح يا عينيّ الشهد...فأنتِ تعلمين ما ينتظرنا صباحاً!!.."

قالت بتعب تضع كفها على جبهتها وهي تتخيل المشوار الطويل :
" يا الهي ...صحيح نسيتُ أننا سنذهب لمدينة عمتي لبنى لزيارة جدتي لترى الأشقر صهر محيي الدين ....تعبتُ من التفكير بالطريق !.."

قال بوجهه الضاحك:
" السيد سليم صمّم على استقبالنا عنده في البيت لنبيت ليلتنا ....لكنه لا يعلم أنني أكثر عناداً منه ..."

رمقها بنظرة سريعة مع غمزه وهمس بمكر وهي تنظر اليه:
" أيظن أن أيام عسلي انتهت؟!...هل أنا مجنون لأتقيّد في بيته ولا آخذ راحتي بالتهام العسل ؟!.....لذا حجزت بأحد الفنادق القريبة من حيّهم لنتابع حيثُ وقفنا !!.."

تورّدت وجنتاها حياءً ولاذت بالصمت تنظر الى الأمام تتهرّب من لهفتها عليه التي كانت أضعاف لهفته !!...

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

جاء يوم الأثنين وهو يوم موعد أخذ العينة من السيدة (فاتن) لمعرفة نوع مرضها الخبيث الذي اختار دماغها ليستوطنه دون رحمة بها او بصغيرتها التي كانت دائماً لها هي الأم والصديقة والشقيقة والتي جمّلت لها الحياة بروحها وحنيتها ووجهها البشوش ولم تنفك عن حمايتها والوقوف معها حيث عاهدت نفسها ان تساندها حتى آخر رمق لتعوضها عن يُتمها ووحدتها ....صدَق من قال أن الخالة هي الأم الأخرى !!....الله كريم معنا ...يأخذ ويعطي ...يوازن لنا حياتنا بكل دقة سبحانه !....ها هو أخذ والدة (ألمى) وكانت خالتها هي العوّض منه !!...لا يخفى علينا ان وضع السيدة (فاتن) غير مُطَمْئن بسبب وجوده بمنطقة حساسة جداً لكن علينا الّا نيأس من روح الله !!..وما المرض الّا ابتلاء من الله ليطهر به العبد ويكفّر عنه ذنوبه ولو تأملنا حكمة الخالق لتقبّلناه برحابة صدر دون جزع وقنوط ودون أن ننقم من نصيبنا !!..وكم أتعجّب ممن يقرنون هذا المرض بالموت فقط!!....فكم من مريض به تعافى بإذن الله ؟؟!....وكم من متعافي أخذه موت الفجأة ؟!...حين تأتينا الساعة لا تستأذننا...ولا يمكن لأيٍّ منا تغييرها ..!!
{{ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۖ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ }}
نسأل الله أن يرزقنا حُسن الخاتمة وأن يقبض أرواحنا وهو راضٍ عنا !!....

ويبقى السؤال !!...كيف سيعوّض الله تلك اليتيمة (ألمى) إن أخذ منها خالتها وانتهت مهمتنا بسجن والدها؟!....
سنترك كل شيء للزمن الكفيل بتضميد جراحنا ..!!
كانت السيدة (فاتن) تتابع حالتها المرضية في احدى مستشفيات المدينة المجاورة وقد اختارت خصيصاً الابتعاد عن مدينتنا الساحلية كنوع من الحيطة والحذر لأنها لا تريد ان تصل حقيقة مرضها لأهل بيتها وبالذات لابنة شقيقتها !......صديقتها الوفيّة لم تتركها وكانت هي من رافقتها لإجراء هذه العملية البسيطة والتي ادّعت أنها عملية لكيس ماء فقط !!....مكثت يومين في المشفى وعادت لبيتها ومدينتنا مع السيدة (ايمان) وعليها انتظار جواب العينة الذي سيحتاج من يومين لأسبوع لتخرج نتيجته !!....

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

يوم مُرّ وآخر يمُر ....ترحل الأيام ونقترب من ساعة الانتقام !!..

" ما آخر أخبار عريسنا ؟!.."

هتف بها السيد (سليم الأسمر) على الهاتف ونحن نجتمع كالعادة في شركتنا أنا وأبي (إبراهيم) والسيد (ماجد) فأجبته بدمٍ بارد:
" باقي أسبوع لأصبح عريساً...لا تستعجل!"

قال بجدية:
" ها نحنُ اقتربنا من هدفنا بعون الله ..."

قلت بهدوء وقلبي يصارع نبضاته المضطربة:
" يا رب....على خير ان شاء الله.."

تجمدتُ على مقعدي بعد أن فاجأني بجملته الجريئة :
" اجعلها تأخذ حبوب منع الحمل يا هادي !!...أنت بغنى عن الخوض بهذه المتاهات التي ستعيق طريقك !!...اتفقنا؟!"

حتى أبي (إبراهيم) كان حاله من حالي لكنه لم ينبس ببنت شفة !!...

بعد أن استوعبتُ جملته رددتُ بجدية وأنا أشعر بالغيرة عليها من هذه السيرة :
" سيد سليم لا داعي لهذا الكلام لو سمحت!...لن يكون شيئاً بيننا ...نقطة وانتهى!!..."

ضحك ضحكة استفزتني وقال بنفس الجرأة :
" أتصدق ما يتفوّه به لسانك يا ابن محيي؟!...أنت رجل هل ستستطيع مقاومة إغواء الأنثى ؟!...أتظن محاربة رغباتك وشهواتك مثل محاربة عدوك على أرض المعركة وخصوصا لعلمك أنها حلالك وكيف إن كانت جميلة حد الفتنة مثلما قالوا عنها ؟!.."

تنهّد بسخرية وأضاف :
" يا ابني هي زوجتك على سنة الله ورسوله ....لا تحرم نفسك منها !!...تمتّع بما هو من حقك لكن كُن حذراً بشأن الأطفال!!...إياك أن يتم الحمل وتضيع وتضيعنا معك!!....ولا تنسَ ان عدم اقترابك منها هو فتح باب الشبهات عليك !...لا تضمن أنها لن تشكوك لأبيها بسبب امتهانها وجرحها كأنثى وحرمانها من حقها كزوجة مثل باقي الزوجات..!! "

ما هذه الترّهات التي أسمع ؟!.....تهدّجت أنفاسي وانتفخت أوداجي ....ضربتُ بقبضتي الطاولة أمامي وصرختُ باحتدام من حميّتي عليها رغماً عني :
" كــفى!!.....مهما كانت أسباب ارتباطي بها فهي بالنهاية زوجتي .!!.."

أكملت بنفس وضعي المشتعل وانا انقل نظري بين الموجودين معي :
" أتفهمون ؟!....هي زوجتي يعني لا أسمح لأحد بالخوض بما يخصنا كزوجين ....وأنت سيد سليم مع احترامي لك كنتَ دائما تقول لا نريد ادخال جنس الحريم في هذا الأمر وأراك اكثر من تقسو عليها بحقد !!...ألم يكن الاتفاق عدم أذيتها ؟!...ألا تلاحظ أنك تؤذيها حتى بكلامك!!؟.....لن أخدعها بالمزيد وأتقاوى عليها ...يكفي أننا نعيّشها بكذبة كبيرة ستسحقها وتزعزع حياتها وستحرّم عليها ان تثق بأحد .."

زفرتُ أنفاسي ورفعتُ كفيّ على صدغيّ اضغط عليهما وتابعت بصوت اهدأ من قبل :
" لو سمحتم اتركوا هذا الأمر لي لوحدي ولا أريد أي تدخّل لأني لن اسمح بذلك البتة ...أنا أعلم كيف أحلّ أموري !!.."

ساد صمت قصير في غرفة مكتبي ومثله من الهاتف ثم همس بكل هدوء السيد (سليم):
" اعترف أنك تحبّها أيها الهادي..!!"

غضنتُ جبيني أترجم سؤاله ثم أجبته بكل ثقة ودون خجل , غير آبه لأيّ أحدٍ منهم :
" كلا...لا أحبها !....بل أعشق التراب الذي تسير عليه ....هي وحدها خاطفة قلبي!!.."

وأردفتُ ببرود ساخر:
" هل ارتحتم الآن ؟!......ما رأيك سيد سليم ؟!.."

هتفَ بصوت يائس:
" منه العوض وعليه العوض...هذا رأيي يا ابن محيي الدين!.."

~~~~~~~~~~~~~~~~~~

القلوب المحبة التي تترك اثراً غالياً علينا والتي تضيء لنا الحياة وترسم بسمة على شفاهنا وتكون بلسماً لروحنا هي من أعظم عطايا الرحمن فهي تأتينا إما بعائلة دافئة أو بولدٍ بار أو بصديقٍ مخلص وكانت السيدة( ايمان) هي مثال يحتذى به لتلك القلوب !!...لقد خططت كي ترسم جواً من الفرح مع ألأُلفة والمودّة لقلبيّ أعز صديقة لها مع ابنة شقيقتها الغالية عليها عن طريق دعوتهما الى بيتها للاحتفال بوداع العزوبية لتكون هذه الليلة ليلة من ليالي العمر التي تضع بصمتها في دفتر حياة أي عروس ولا تُنسى !.. ففيها يكون لقاء الأحبة وستكون لها من أجمل وأصدق الذكريات وهي ليلة حاسمة إذ تنتقل الفتاة من حياتها السابقة الخالية من المسؤوليات والمليئة بالدلال والحرية لأخرى تقلبها رأساً على عقب وتحوّلها من ابنة عابثة مدللة لا تهكل هماً الى امرأة ناضجة مسؤولة وربة بيت تحمل رسالة وتخوض مهمة من أرقى وأسمى المهمات والتي فيها إما ان تكتب بيدها من بعد الله النجاح وهي تبني اسرة بمستقبل مزهر وأولاد صالحين يكونون عوناً للوطن والدين أو الفشل باتباعها ما لا يرضي الله فينتج أولاد عالة على المجتمع ويكونون سبباً في تراجع وهدم هذه الأمة !!.....
لقد اتفقت السيدة (ايمان) مع السيدة (فاتن) على مفاجأتها بهذا الاحتفال دون اعلامها كي يكون صداه ووقعه على قلبها أجمل!!.... ...
وهل يوجد ما هو أروع من المفاجآت السعيدة التي تأتينا ممن نحب خاصة ؟!....
كانت (ألمى) طوال الأسبوع الخاص بيوم الزفاف شبه يائسة وتشعر بالملل وحتى أنها نسيت لقبها كعروس !!...فلا يوجد في بيتها أجواء فرح مثلما تسمع بين صديقاتها عن تلك الليالي المصاحبة للعرس وأنها عادة تكون مذهلة ومبهجة بل ربما تكون أجمل من يوم العُرس نفسه !!.....طلبت منها خالتها مرافقتها لبيت صديقتها بحجّة شرب فنجان قهوة ولم تطلب منها أن تتزيّن بل تركتها على طبيعتها !!....في طريقهما وهما في السيارة همست (ألمى) بنبرة حزينة :
" خالتي..!!"

ردت عليها بحنوٍ:
" ماذا يا قلب خالتك ؟!"

اسدلت أهدابها تخفي وميض الأسى بعينيها وتابعت:
" ألا يفترض أن نحتفل هذا اليوم مثل باقي الناس ؟!...لمَ لا يوجد لنا أقارب ومحبون يأتون إلينا ويقفون معنا بفرحنا ؟!..."

ابتعلت ريقها وأضافت :
" حتى صديقتي ميار قالت لي سابقاً أننا سنحتفل بوداع العزوبية وها هي لا حسّ ولا خبر منها ولمّا اتصلتُ بها كي تزورني في بيتي اعتذرت لأن عليها مشوار مهم !!..ولميس مشغولة مع خطيبها !!....ألم أقل لكِ أن الفرح محرّم عليّ؟؟......"

أوجعت فؤادها بكلماتها فمدّت يدها تربّت على يد المجاورة لها بعطف وهمست :
" تفاءلي خيراً بنيتي !!...سيعوضك الله بكرمه !!..."

مسكت كف خالتها واتكأت برأسها على كتفها الأيمن وظلّت شاردة بلَوعة طوال الطريق حتى وصلتا البيت المنشود...!!
بعد أن صعدتا الى شقتها وقرعتا الجرس طلّت عليهما السيدة (ايمان) بكل سرور هاتفة :
" أهلا بعزيزتيّ ...تفضلا أدخلا.."

دلفتا الى الداخل وكان الرواق شبه مظلم وكانت رائحة عطور منعشة تفوح بالأرجاء ....في منتصف الرواق قالت السيدة (ايمان) لـ (ألمى) وهي توقفها :
" انتظري ألمى .."
طاوعتها وهي تحدّقها باستغراب من طلبها ...غابت دقيقتين وعادت تحمل شالاً وغمّت لها عينيها وسط اندهاشها من حركتها ....مسكت بيدها كطفلة تعلّمها على السير وبدأت تخطو ببطء معها حتى وصلتا الى باب غرفة الضيوف البسيطة والسيدة (فاتن) تخطو خلفهما....توقفت السيدة (ايمان) عن السير وبعينيها أعطت إشارة لـ(ميار) كي تفجر العبوّة المليئة بقصاصات الورق الملوّنة اللامعة و لـ (لميس) كي تفتح المسجّل على الموسيقى الخاصة بالأفراح لحظة سحب الشال عن عينيّ الواقفة بجانبها لاستقبالها كما يستقبلون العروس في احتفالها....لقد اخذت رقميّ هاتفهما من السيدة(فاتن) ودعتهما لحفل صديقتهما مع أن (ميار) كانت تتجهز لتقوم هي بالاحتفال من اجلها لكن تغيرت كل التخطيطات بسبب السيدة (ايمان) التي أصرّت على ان تتكفل بكل هذا.!!......بقيت (ألمى) مكانها في ذهول ما إن رأت صديقتيها المقربتين والزينة والتضييفات بكافة اشكالها وانواعها من معجنات وحلويات ومشروبات والفواكه المنسقة على الطاولة باحترافية وجميعه من صُنع صديقة خالتها الهاوية لكل ما يخص المطبخ والطعام مع شموع تتوزع على الأرض وعلى المناضد حول الأرائك وحبل كهربائي من نجوم يصدر اضاءة بالوان متحركة تثبتّه على ستائر النافذة والورود الطبيعية بألوانها البهية الزاهية تُضع على الطاولة وعلى أطراف هذه الغرفة لتضفي الحياة داخلها ...حتى أن آلة تصوير بالصوت والصورة كانت مثبّتة في احدى زوايا الغرفة لتسجّل أحلى الذكريات..!!
رفعت كفيّها على فمها تكتم بكاء الفرحة ولكن دموع عينيها انسابت خارجة لتحتفل معها على خدّيها ....قفزت (ميار) عن الكرسي التي كانت تقف عليه بعد ان انهت دورها واندفعت تحتضنها بقوة ولحقت بهما(لميس) تحاوطهما وبدأن بوصلة بكاء الفرح مع القفزات الطفولية وخالتها مع صديقتها تصفقان لهن مع نغمات الموسيقى....انتهت الوصلة خاصة الصديقات واقتربت من صاحبة البيت وعانقتها متأثرة بامتنان هامسة :
" هذا كثير سيدة ايمان....لم أحلم بشيء كهذا ....يا لحظي بوجود صديقة مثلك لخالتي....الله يحفظكما لي !..."

ثم انتقلت لتعانق خالتها بكل حُب....جلسن جميعهن يتناولن ما لذّ وطاب من امامهن وهن يتبادلن الأحاديث بكل مرح ويشاكسن بعضهن ولكن مفاجأة السيدة (ايمان) لم تتوقف على هذا فقط !!....نهضت من مكانها ودنت من العروس أمسكت بيدها لتنهض معها هامسة :
" تعالي معي ألمى ...!"

غابتا عن الأخريات لدقائق عديدة وهن لا يفهمن سبب الغياب جميعهن !!....

اتسعت أعينهن وفغرن أفواههن بانبهار ما إن دخلت عليهن كالحورية بالفستان المطرّز وهو الزيّ الخاص لوطننا وكان لونه أبيضاً بنقوشات وخيوط قرمزية تنتشر عليه بإتقان ويغطي شعرها غطاء للرأس ينزل بانسياب كالطرحة ولونه وتطريزاته كالفستان !!..وسماءيها محاطتان بالكحل الأسود العريض ...لقد اقتنته السيدة (ايمان) خصيصاً لها كي تراها بالزي الوطني الذي تعشق فهي مخلصة لكل ما يخص بلاد الأم من عادات وتقاليد وحاولت احياء بعض هذه العادات بحفلتها المتواضعة كي تعيد رائحة الأعراس في الوطن الغالي وليشعرن كأنهن على أرضهن ولسن بين الغرباء في أرض الشتات !!....كانت نظرات السيدة (فاتن) لصغيرتها كلها دفء وحنية ...كان قلبها يرفرف سعادة من أجلها وعيناها تلمع ببريق أشبه ببريق الوداع !!...لقد وصلها جواب العيّنة منذ يومين وللأسف أخبروها أنه من النوع الذي ينتشر وعليها اجراء عملية أولية لاستئصاله ولها ان تختار أي مشفى تريد لأن مشفاهم ذاك لا يمتلك الإمكانيات الكبيرة لهذه الحالات الخطرة وقد اقترحوا عليها عدة مستشفيات في الخارج للسفر لها ولكنها ليست متفرغة الآن لنفسها وعليها الاطمئنان اولاً على غاليتها وبعدها لكل حادثٍ حديث بما يخصها !!....
.سحبت المستضيفة احدى الكراسي ووضعتها في منتصف الغرفة وأجلست العروس عليها هاتفة تشرح للتي لا تفقه شيئاً عن الوطن وتقاليده:
" من عاداتنا يا ألمى في الوطن أن تحتفل العروس قبل يوم الزفاف بالحنّاء ونحن هنا في هذه البلدة حُرمنا من هذه العادات الجميلة التراثية !!...لكنني أحببتُ أن أراك عروساً تمثلين الوطن وعاداته بيننا ....أنا أعلم انك لم تزورينه !!.....ربما يأتي يوم وتستقرين هناك ووقتها ستعلمين ما هو الوطن وكيف نعشق ترابه وكل شيء يخصه !! وسيكون هو الأغلى عليكِ حتى من أبيك وأمك!.....كوني مخلصة له لتنعمي بدفء أحضانه...أحبيه ليُحبك صغيرتي !!.."

جالسة تستمع إليها ببراءة مبتسمة ولا تعلم ما هذا الشعور الذي زارها اثناء كلام تلك عن الوطن !!...كانت كأنها شعرت بنبضة حنين وافتها للمجهول!....أنزلت حدقتيها تمعن النظر بفستانها الذي أبهرها كما أبهر غيرها ...بأناملها لامست التطريزات التي تزيّنه !!.... لم تفكر يوماً أن ترتدي مثل هذا النوع لكنها حقاً أحبته وشعرت أن دماءها تنتمي له !....كم كان مذهلاً عليها !!....كانت كالقمر والفستان زادها سطوعاً.....أَيا ترى لأنه جميل أم أن رائحة الوطن تضع بصمتها عليها ؟!....
أحضرت السيدة (ايمان) اصبعاً خاصاً من الحنّاء لتنقش لها على بطن كفها حرفيّ اسمينا وتزيّنهما بالقلوب والنقوشات الناعمة....جلست جوارها وقالت :
" لميس انقلي المسجل على الأغنية التالية......ميار هيا وجّهي آلة التصويرعلينا ووثّقي جمال أميرتنا ألمى .....فتّون تعالي اقتربي اجلسي وامسكي يد صغيرتك "

طبّقت كل واحدة منهن ما أملت عليهن لتصدح بينهن احدى الأغاني التراثية الخاصة بطقوس الحنّاء بصوت شجيّ مع الكلمات والألحان التي تبكي من يسمعها وكأن ابكاء العروس ومَن حولها هو ايضاً من الطقوس الواجبة والّا لن يتم الفرح إن لم تُغرق العروس الموجودين في دموعها ...

[[....حنّا يا حنّا العرايس يا هِيه
على إيد العروسة يا ماحلاه
عريسك عليكِ هالِمْبارك
محروس من الحسد الله يرعاه
يُمّا الليلة عندك تِوَدِّعيني
بكرا من الصبح ماشي لا تبكي
خايف يُمّا لا أزورك غريبِة
عين ما تطيق فراقك...لا والله
.
.
حنّا يا حنّا العرايس يا هِيه
على إيد العروسة يا ماحلاه
قولي لَبيّي لا يحزن علَيّي
روحي تدعيله يا رب يخليه
شوف الحنّا يا بيّي ع ايديّي
على العرايس فراق الأحباب!!
.
.
صبايا جبنا الحنّا نحنّي ست البنات
عروسة هيّو الحنّا تا يخفّف من الدمعات
حنّا يا حنّا هِيه يا حنّا الوداع
الليلة يُمّا عندِك بزورك ..وما برجع
.
.
حنّا يا حنّا العرايس يا هِيه
على إيد العروسة يا ماحلاه
حنّا يا حنّا الأخضر.... جابوه خالي وعمي
ودّعت خيّي وبيّي ..كيف اودع إمي؟
يا رفيقة يا رفقاتي ...ليش ما ودّعتِنا؟
صعب فراق الحبايب يا إم كف محنّا..
حنّا يا حنّا العرايس يا هِيه
على إيد العروسة يا ماحلاه ...]]....(من التراث الفلسطيني)

أنهت السيدة (ايمان) نقش الحنّاء وساعدت العروس على الوقوف ولحقت بها خالتها تمسك بإحدى يديها وبالأخرى تلوح بها مع الحنّاء المرسوم عليها وتتمايلان كلتيهما مع الأغنية برقة ونعومة ونظراتهما لبعضهما تحكي الكثير والكثير من الحب والحنان والاشتياق ....كانت (ألمى) بسماءيها الغائمتين تتأمل خالتها وكأنها تشعُر بانقباض في قلبها والمقابِلة لها ليست بأقل حال وهي تمعن النظر بها كي تسرق آخر الصور علّها تشبع منها في بُعدها عنها والواقفات يصفقن لهما دون التحكم بالعَبرات التي تنهمر من أعينهن لهذا المشهد الدافئ الممزوج بين البهجة والانشراح وبين الغُصة التي تجتاح العروس وأهلها للحقيقة الوحيدة وهي فراق الابنة وغياب أنفاسها عن أهلها والبيت دون عودة وان عادت لن تكون كما كانت فكل شيء سيتغير من لحظة دخولها بيت الزوجية.!!.....انتهت الأغنية وشدّت السيدة (فاتن) ابنة شقيقها لتعانقها وتلك تجاوبت معها ومن غير ادراك أجهشتا بالبكاء رغماً عنهما وهمست العروس باختناق:
" احبك خالتي...سأشتاق لكِ كثيراً...أرجوك زوريني دائماً ولا تغيبي عن حياتي يا من تنيرين عمري وسنيني ..!!.."
ومع كلماتها يزداد النحيب من الحاضرات وكذلك خالتها التي همست بصوت مهزوز:
" صغيرتي الحبيبة ....وانا احبك...سامحيني بنيّتي عن تقصيري فيما مضى وعن كل ما هو آتٍ....اعلمي أنني احبك أكثر من أي شيء في الوجود يا أميرة قلبي ...وثقي أنه كانت لكِ يوماً خالة تفديك بعمرها لتسعدي وأن كل شيء تفعله وفعلته هو من أجلك أنتِ فقط !!.....لأنك تستحقين الأفضل والأجمل والأغلى ....رضي الله عنك ورزقك سعادة الدارين ....أتمنى لكِ زواجاً مباركاً حبيبتي الغالية.."

ردّت بِشجا :
" كانت وما زالت وستبقى أغلى خالة ...أنتِ أمي بعد أمي...أنتِ من حملتِ همّي ...أنتِ التي حبها يجري في دمي....تعلمين كم أحبك وسأبقى أحبك الى آخر العمر.."
×
×
×

كُنت في هذه الليلة الساكنة الأخيرة قبل الزفاف جالساً في غرفة العائلة أشاهد التلفاز وبينما أنا مندمجٌ مع الأخبار أقبلت عليّ خالتي ترتدي ملابس الخروج مع أن الساعة تشير للتاسعة ليلاً وهي بهذا الوقت تنام عادةً....قلت لها :
" خير خالتي!!...الى أين؟!...ما بك ترتدين ملابس الخروج؟!.."

ردّت بنبرة مرتبكة فيها مرواغة:
" أريد منك أن توصلني لبيت السيدة ايمان !.."

سألت باستنكار:
" في هذا الوقت؟!...عساه خير؟!"

تبسّمت بحنان وقالت:
" كل خير بنيّ....يقمن باحتفال صغير لتوديع العزوبية من اجل عروسك والسيدة ايمان قامت بدعوتي.."

قلت مبتسماً بسخرية:
" أجل...تقصدين جنون البنات وتفاهاتهن !!...وما لكِ أنت هناك لتذهبي؟...الشيء يخصهن!!.."

ردّت بحنق مصطنع:
" لا تقل جنون بنات!!....والرجال يحتفلون ايضاً بطريقتهم الخاصة....أم انه عندما يصل الأمر لهم يكون عقلاني وللبنات يسمى جنون وتفاهات ؟!....هيا قم بدّل ملابسك ولا تؤخرني!!.."

قلت مبتسماً:
" لا حاجة لتبديل ملابسي...سأوصلك واعود فأنا لن انزل بالتأكيد!!.."



قالت آمرة بضيق :
" أتمنى ان لا تعاند مرةً.....قلت لك بدّل ملابسك يعني بدّل....لا اريد أن توصلني بملابسك البيتية!!...تعلم أني ارغب برؤيتك دائما متأنقاً.."

" خالتي....يا خالتي...انا في السيارة لا داعي لذلك!!.."

" هااادي..."

صرخت بغيظ مني فوثبتُ من مكاني بطاعة مازحاً واضعاً الوسطى والسبابة على جبهتي بتحية العسكر هاتفاً:
" أمرُكِ مولاتي....سأبدلها حالاً...كل شيء ولا غضبك الذي سيودي بي لتوبيخ من زوجك العزيز!!.."

ضحكت وكتّفت يديها بانتصار واقفة بشموخ:
" أحسنت...هيا استعجل!!.."
×
×
×

عندما وصلنا باب البناية التي تقطن بها السيدة (ايمان) ..قالت خالتي :
" هيا انزل وتعال معي !!..."

هتفت مستنكراً:
" نعــم؟!!...أين انزل خالتي؟!...ما بكِ؟...ما موقعي بين النساء؟!.."

قالت بمكر:
" وهل طلبت منك التأنق كي تبقى بالسيارة سيد هادي !!.."

قلت رافضاً:
" خالتي ...سهّل الله دربك....لن انزل بالتأكيد!!.."

أخرجت الهاتف من حقيبتها وقالت بوعيد:
" عائشة تنتظر مني هاتفاً واحداً لأخبرها برفضك !.."

" ماذااا...ما شأن أمي ؟!.."

يبدو أنني وقعت بين اتحاد نسائي واجتياح غاشم وسأسلّم نفسي أسيراً لمخططاتهن الماكرة ..!!

" هيا ولا تتعبني !!....السيدة ايمان من طلبت ذلك!....وصدقاً لا اعلم السبب!!.."

تأففت بزنق هاتفاً:
" اووف....ما هذا التسلّط ؟!.."

قالت ببرود:
" ششش...اهدأ...لنتسلّط مرةً عليكم ....فهذا دوماً من اختصاصكم وخاصةً أنت مع خطيبتك !!.."

رمقتها بنظرة جانبية ساخرة:
" وهل شكتني لكِ خطيبتي ؟!.."

" لا داعي لتشكي....المكتوب يقرأ من عنوانه.."

قالت جملتها وفتحت الباب تنزل مضيفة :
" هيا ...انزل!.."

أثناء صعودنا السلالم هتفت مستاءً وحانقاً :
" لقد خرّبتم عليّ ليلتي الساكنة...كنت انتظر برنامجاً أحبه وها انتم أفسدتم كل شيء !!.."

بعد قرع الجرس فتحت لنا السيدة (ايمان) الباب بتهلل وابتهاج ووضعت سبابتها على فمها هامسة بصوت خفيض:
" ششش....ادخلا وانتظراني هنا دقيقة "

ما لهما عليّ تريدان اسكاتي ؟!...هربت من (ششش) خالتي لأقابل (ششش) هذه ؟!...هل ابتَلع لساني واريحهما ؟!!..

قطبتُ حاجبيّ بفضول لطلبها الغريب ولحظات حتى جاءتني تحمل كيساً بيدها وقبل ان تخرج ما به تطلعت عليّ بخجل ورجاء :
" أعلم أنك لا تستسيغ هذه الأمور....لكن وغلاة والدك رحمه الله أن لا تفشلني !!.."

دقّ قلبي لذكرها غلاة والدي التي ما بعدها غلاة وقلت بحذر منتظراً طلبها :
" رحمه الله...تفضّلي سيدة ايمان قولي ما عندك!.."

أخرجت من الكيس الزيّ التقليدي الخاص بالرجال في الوطن وكانوا يرتدونه في الأعراس وله عدة قطع لكنها اكتفت بالعباية الفاخرة ولونها أسود وحوافها ذهبيه من النوع الفاخر وناولتها لخالتي لتلبسني إياها ثم أخرجت الحطّة (الكوفية) البيضاء وساعدتني خالتي بعقدها على رأسي بشكل أنيق ثم تقدمنا حيث تتواجد باقي العصابة !!.....وكانت هذه ايضاً من ضمن مفاجأة السيدة (ايمان) للعروس وهي جلب عريسها اليها كي تكتمل صورة الفرح بنكهته الوطنية !!..
أصبحتُ صندوق المفاجآت لسموّ الملكة!!....
دخلت خالتي قبلي وصافحتهن والجالسة بحياء لم تتوقع ابداً أن ترى عريسها أمامها هذه اللحظة ولو أمضت عمرها تفكر لم تكُن ستنتظر قدومي وما إن وقفتُ على باب الغرفة حتى وقع نظري على تلك الحورية التي اسقطت قلبي من جمالها وسحرها وأنا اراها بزيّنا الشريف بالإضافة لرسمة الكحل في عينيها التي خطفت روحي ولم تترك شيئاً يبقى ملك لي هذه الفاتنة التي جعلت كل خلية تهفو اليها حُباً وشوقاً ...أما هي بقيت مكانها مذهولة تحاول استيعاب ما يدور حولها وبعدها رسمت ابتسامة على محيّاها تهديني إياها انا وحدي فاقتربتُ منها لا أرى غيرها ولا أريد سواها ثم انحنيت أمسك يديها واسحبها برقة لتقف ازائي وعيوننا العاشقة تسبح في بحرنا وكأن الزمن توقف علينا والمكان أُفرِغ لنا ولا أحسّ أو أشعر بأنفاس غيرنا ...كنا كأننا وحدنا في هذا الكون نغوص في مشاعر الفرح والحُب بين اللمسة والنظرة...مددتُ يمناي خلف عنقها وجذبتها بلطافة لأهديها قبلة دافئة على جبينها جعلت الدغدغة تسري في منابعها تحمل اللهفة في دمائها وما جعلنا نقطع هذا الوصال والهيام هي المستضيفة التي نادت علينا تشير لنا للجلوس على كرسيين جانب بعضهما :
" تفضلا اجلسا هنا ..."
مسكتُ يدها بحنية ومشيتُ خطواتي اسحبها حتى وصلنا مكاننا ثم تفاجأتُ بالسيدة (ايمان) تضع اصبع الحنّاء بيد عروسي آمرة بضحكة مرح:
" اكتبي بالحنّاء حرفيّ اسميكما على كفّه وزيّنيهما....كنتُ سأفعل ذلك لكن بالطبع عريسك لن يقبل .."

جحظت عينيها بحياء وارتباك رافضة بهمس :
" لا اعرف ...لم اجرب سابقاً.."

تبسّمت ورمقتها بنظراتي المسحورة المُطَمئِنة وهمست بخفوت لها :
" ابدئي وانا سأساعدك!!.."

كانت تجلس على يميني فمددت يسراي اقربها منها , اضعها على فخذي ورأيت يدها المرتجفة تضعها على يدي فمسكتها بيميني لنكتب ونرسم معاً ما طُلب منا وبينما نحنُ منسجمان بلوحتنا وصلني صوت الحنونة بلحن شجيّ خافت وهي تصفق بهدوء وتبعنها الباقيات بالتصفيقات:

[[...قولوا لأمه تفرح وتتهنا ...ترش الوسايد بالعطر والحنّة
يا داري هنّا وابنيها يا بنّا ...والفرح النا والعُرسان تتهنّى
والدار داري والبيوت بيوتي واحنا خطبنا...يا عدوِّة موتي
يا بيّي (ألمى) لا تِكون عبوسي ...واسمح بوجهك واعطينا العروسي
يا بيّي (ألمى) لا تِكون طمّاعي...والمال يفنى والنسب نفّاعي...]]..(من التراث الفلسطيني)

ثم تبعتها بأغنية أخرى ولحن آخر مختلف:

[[...لا تطلعي ع الجبل ياختي بإيدا الحنّة
لا تطلعي ع الجبل ياختي بإيدا الحنّة
سبّل عيونه ومد ايده يحنّونه....غزالِ صغَيَّر وكيف اهله سمحوله
يا إمي يا إمي شدّيلي مخداتي.... وطلعت من البيت وما ودعْتِ رفقاتي
يا إمي يا إمي هَيْئيلي مناديلي....وطلعت من البيت وما ودعْتِ انا جيلي
سبّل عيونه ومد ايده يحنّونه....غزالِ صغَيَّر وكيف اهله سمحوله..]]...(من التراث الفلسطيني)

ما بهن النساء يترجمن مشاعرهن عن طريق البكاء ؟!...يفرحن يبكين !!....يحزنّ يبكين !!....لمَ نحن الرجال لا نشعر بحاجتنا للبكاء بمثل هذه المواقف ؟!....هل الذي ينبض داخلي صخرة متحجّرة ؟!...عديم الإحساس !!....لكن كيف لا يحسّ وهو الخائن الذي باعني بعد نبضة حُب من اجل عينيها ؟!....أليس الحب هو من ضمن قائمة المشاعر ؟!...
مع انتهاء النقش على يدي واغنية خالتي التي جعلتها تسكب الدمعات وهي تغنيها بإحساس من لُبّ الفؤاد ...رفعتُ عينيّ لأتأمل الفاتنة التي بجانبي وهمست لها :
" مبارك عروسي ....سلمت يداكِ"

رمشت بعينيها خجلاً وتبسّمت هامسة:
" ويداك.."

ثم وقفتُ مكاني مبتسماً وقلت بمرح:
" حسناً فعلتُ ما اردتم...شكرا لكم.....عليّ الذهاب اعذروني..."

قالت السيدة (ايمان) بكرم ونبرة مرحة بعد التهاني والتبريكات لنا من الحضور :
" إبقَ قليلاً وتذوّق من ضيافتنا ....لم تأكل شيء.."

تناولت بيميني قطعة من كريات الشوكولاتة وأكلتها مجاملاً لها ثم هتفت:
" ها أنا أكلت سيدة ايمان من اجل خاطرك....اريد اعفاء الآن لو سمحتن....لكن ارشديني الى الحمام لأغّسل يدي اولاً!!.."

وهكذا انتهت هذه الليلة المميزة بجمعتنا العَبِقة بشذى الوطن وعاداته ليعود كلّ منا الى بيته بحبور وسعادة ننتظر اليوم الأكبر....!!

~~~~~~~~~~~~~~~~

أشرقت وجوهنا مع اشراقة شمس الصباح ولكن تبقى اشراقتنا مختلفة عنها فالشمس لا تغيّر شعاعها ولا تبدّل نواياها ويبقى هدفها هو اضاءة هذا الكون بنورها وضيائها أما نحنُ البشر في كل يوم نشرق بشعور آخر وتفكير مغاير عن الذي قبله !!...مرةً نشرق مع الألم وتارةً نشرق مع الأمل !!....حالنا مثل الذي يمسك الوردة كثيفة البتلات ويسحب واحدة تلو الأخرى كضربة حظ تحبني او لا تحبني ؟! حتى تغدو قرعاء لم يتبقّ منها سوى ذاك القسم المسمّى المبيض لتكتب مع سقوط آخر بتلة على أي حظ نرسو !!....ربما بتلة (ألمى) الأخيرة لليوم كانت السعادة !!...أما أنا تركتُ الوردة عالقة بنصف البتلات لأني أخشى مما هو قادم في حياتي !!...لا أريد أن اعرف ما يخبَأ لي ولو كان عن طريق لعبة بلا فائدة !!....
كنت في صباح هذا اليوم أجلس مع أبي (إبراهيم) وخالتي (مريم) في الشرفة المغلقة بالزجاج المطلّة على الحديقة المكسوة بأوراق الشجر المتساقطة بدرجات مختلفة من الألوان والتي تمثّل حياتنا ...تكون باللون الأخضر وتبدأ تتغير للأصفر فالبرتقالي ثم بالنهاية لون يكون ما بين الأحمر والبني لتتلاشى بعدها مع الزمن دون ان تترك أثر !!...وهكذا حياتنا نبدأها أطفال برآء ومع الزمن كلما نتقدم في العمر تشوهنا شوائب الحياة التي تمحو صفاءنا وتبدّل ألواننا حتى نصل للنهاية المكتوبة علينا ومن ثم نصبح تحت التراب لا نعلم إن كنا ذكريات لأحدهم أم أن حتى هذه دفنت معنا!!

" أبي لا داعي لهذا.!!.....القصر كبير !!.."

قلت له بضيق فنظر لخالتي على يساره وتبسّم وهو يضع كفه فوق كفها هاتفاً بحنان:
" أنا وخالتك اتفقنا وهذا قرارنا نحن الاثنان...!!"

أكملت مستاءً من قرارهما:
" لمَ لا تستشيروني ؟!....ماذا سأفعل ببيت كبير كهذا ؟!.."

قال بهدوء:
" لتأخذ حريتك الكاملة دون قيود وخالتك لا تريد رؤيتها مخدوعة أمامها ولا تستطيع فعل شيء لها ثم نحن نحتاج للابتعاد قليلاً ولبيت صغير كنوع من التغيير وهو قريب من شركتنا !!."

هتفت محرجاً منه لأنه تنازل عن قصره الذي اعتاد عليه من اجلي واجل مهمتي :
" لمّ لتسكُن ابنة الوغد في القصر تنعم بكافة الرفاهية وأنتما تحشران نفسكما في بيت ضيق غير رحب ؟!.....أنا من سأنتقل لشقة أخرى !!.."



ردّ بحزم:
" هادي بنيّ انا قلت كلمتي ولا تراجع عن قراري....هنا بيتك ولا تضغط علينا من فضلك!!.."

أضافت خالتي:
" هكذا أفضل للجميع.."

صمتّ برهةً وقلت بجدية:
" إذا لترافقكما السيدة خولة ....لا احتاج لخدم!!.."

سألت متعجبة:
" كيف؟....من سيهتم بأمور القصر؟!.."

أجبت:
" فلتأتي من حين لآخر للتنظيف الأساسي.."

قالت:
" والطعام؟!...فأنا لن أكون معك لأطبخ!!.."

قلت ببرود:
" لتعتاد المدللة على صنع الطعام وأعمال البيت!!.."

همست بذهول:
" لماذا يا ولدي ؟!...أنا أجزم أن كأس الماء يأتيها لفمها....ما نيتك بهذا ؟!.."

قلت :
" انتهى عهد الدلال عند الوغد.....وليأتِ ويرى سموّ الملكة تعيش في بيت بدون خدم !!.."

هتفت جاحظة العينين:
" هل كنتَ تنوي هذا من قبل أم الآن قررت؟!..."

أجبت ببرود:
" حتى لو بقيتما معنا ...كنت سأجعلها تهتم بأموري التي أريد ومتى أريد وخاصةً اذا جاء لزيارتنا لأكسر غرورهم !!.."

تساءلت حائرة :
" ما ذنبها وأي غرور ؟!.."

أجبت :
" حتى لو كانت عفوية وبريئة الّا انها تحمل صفات الغرور والتفاخر أحياناً كونها ابنته وهذا لا يعجبني!...عليها أن تتعلم التواضع ولتعلم أنها مثلها مثل الباقي!!......ثم أنتِ تعلمين أنني أحب طعامك انت وأمي ولا افضّل طعام الخدم والآن دور زوجتي أن تقوم بهذا الدور !!.."

غمزتها بمرح:
" أليس كذلك؟!.."

حوقلت دون أن تنطق كلمة أما أبي (إبراهيم) قال :
" مسكينة!!...وقعت بيديّ الداهي وليس الهادي !!.."

هل قسوتُ عليها بقراري هذا ؟!...ربما نعم وربما لا !!....فالداهي يريد فعلاً أن يكسر أنفها قليلاً لكن الهادي يريدها أن تندمج بأمور الحياة لتتحمل مسؤولية نفسها بعد أن تخسر كل شيء حولها !!...إن وقعت من النعيم الى الجحيم على غفلة ستحترق وتتحول الى رماد ولن تساعدها حبال النجاة أما ان دخلت تدريجياً بقدميها وبحذر لهذا الوضع الذي سيؤول له حالها ستستطيع أن تصارع للبقاء ....يكفيها شرف المحاولة فممكن أن تصيب وتنجو !!...

~~~~~~~~~~~~~~~~~

صفّرت بإعجاب هاتفة :
" يا إلهي ....حوريّة فاتنة....ما هذا الفستان؟!....ماذا سيحدث عندما يجتمع الزلزال مع البركان هذه الليلة؟!.....ستقتلين الرجل!....ارحميه من جمالك!!!..."

أخذت نفَساً وربّتت بسبابتها على خدّها تدّعي التفكير وتابعت:
" هل ستنجبان لنا أطفالاً مثل الذين نراهم في الشارع أم نسخ فريدة من انتاجكما؟!...ها انا أنبّهك....عليكما احضار زلزال هاشمي صغير
مدمّر لأحجزه لنفسي فأنا أعاني من جفاف عاطفي !!.."

ضحكت بحياء وقالت وهي تتأمل فستانها بالمرآة:
" يكفي يا ثرثارة !!....صراحة لم أتوقع أن يكون الفستان الساتر بهذه الفخامة والأناقة!!.."

هتفت (ميار):
" يا لذوقه الرفيع ...جيد أنه اقنعك على هذا !!.."

أردفت (لميس):
" قمة الفخامة!!...ما اسم المحل ؟!.."

وكزتها (ميار) بمرفقها وقالت هازئة:
" لا يهم المحل أيتها الخرقاء....المهم صاحب الذوق ...أي مَن اختار هذا!!.."

استطردت باشمئزاز تمثيلي:
" وانتِ مَن اختارك انتِ تحديداً ماذا سيكون ذوقه غير الفساتين من عهد جدتي ؟!!..."

فردت ملامحها بفخر وأضافت:
" انظري....انظري...الخيوط فيه تصرخ رقيّ وثراء يا بنتي!!.."

ضحكت (لميس) لغلاظة صديقتهما ثم وجّهت نظرها بوجهها البشوش للعروس سائلة:
" ما هو شعورك ألمى ؟!.."

تورّدت وجنتاها وهمست بقلق:
" نصف مني سعيد ومتحمّس ونصف خائف ومرتبك !!.."

سألتها بودّ:
" ممَ ترتبكين ؟!"

أجابتها هاربة بعينيها خجلاً:
" أنت تعرفين قصدي!!....لا أدري ماذا سأفعل ..."

أسدلت أهدابها باستحياء وأضافت:
" نحن قبلة لم تكتمل لنا !....وكيف بذاك الشيء؟!...كيف سأتصرف؟!.."


ربتت على كتفها برقة وقالت:
" لا تخافي !!...اتركي كل شيء بعفوية وسيأتي وحده دون عناء.."

قاطعتهما الأخرى ساخرة:
" يا ابنتي هل تظنين انه سينتظر حتى تتصرفين سيادتك؟!....اذا كان هكذا سأتحول الى مومياء وانا انتظر الهاشمي الصغير !!.....لكني أثق بالزلزال وليس بكِ يا حمقاء !!.. خصوصاً البارحة رأيت كيف كانت عيناه تخترقك اختراقاً ...يبدو انه ولهان..."

طرقة على باب غرفتها لتدخل السيدة(فاتن) بأناقتها تتأمل صغيرتها بفستانها الساحر بحنوٍ واعتزاز وهمست:
" حماكِ الله ورعاك يا أميرتي الصغيرة...ما شاء الله ما هذا الجمال !.."

دقائق قليلة وهي غارقة بين اطراءات من حولها يتغنينَ بجمالها دلَف من الباب بهيمنته وحنانه الأبوي....يقترب ونبضاته ترتجف لفراقها فها هي صغيرته المدللة من تتربع على عرش قلبه ستتركه وكأن دخولها في حياته مثل رمشة العين لا يعلم كيف أتت لدنيته وهو منشغل بأعماله ثم ما لبثت أن تكبر حتى رحّلها الى كندا وما إن عادت حتى خُطفت منه بلمح البصر دون ادراك!!...وصل اليها وبريق عينيه يفضحه يستعد لهطول دمعاته الأبوية العطوفة!!...في هذا الموقف مهما كان الأب قاسياً أو جامداً لن يستطيع تمالك نفسه وهو يعلم أنه سيسلم ابنته لآخر وحياة مجهولة تنتظرها كفاكهة البطيخ لا نستطيع تخمين ما بداخلها قبل أن نفتحها ونتذوقها ان كانت صالحة ولذيذة أم تالفة وبدون أي طعم !!....مسك ذراعيها بقبضتيه عند كتفيها وهمس برفق:
" سامحيني على تقصيري بحقك يا أميرتي ومهجة قلبي....لا تنسي أن لكِ أباً يحبك وستجدينه متى تحتاجينه !!.."
ثم قرّب يبصم قبلته المُحبة الحنونة على جبينها فانحنت قليلاً بجذعها تقبّل يديه بلهفة وهي تبكي فاحتضنها يشدّ عليها بقوة وانهارت حصونه وأخذ يبكي لبكائها والواقفات شاركنهما بسكب الدموع في الموقف الأصعب على كل أب وأم وهو لحظة فراق ابنتهم عنهم..!!

ولجت اليهم زوجة أبيها هامسة بفحيحها :
" لقد وصل موكب العريس!!.."

حرر ابنته من حضنه ومسح دموعه واقتربت صديقتاها تعدلان لها الزينة التي فسدت من البكاء ثم دنت منها خالتها لتسدل الطرحة على وجهها ومشت العروس خطوتين تشبك ذراعها بذراع والدها ونزلا السلالم معاً بتبختر وحذر وأولئك يتبعنهما من الخلف وكانت المفاجأة لها عندما وصلت آخر درجة هو الهمس الحنون الذي وصلها ممن كانت تنتظرها جانباً:
" أسعدك الله في زواجك صغيرتي الغالية .."

رفعت رأسها ناظرة لمصدر الصوت ثم أفلتت ذراعها واندفعت تجثو أمامها تبكي وتعانقها وتلك جالسة على كرسيها الخاص وهمست بحُرقة:
" خالتــي سهيلة...أين أنتِ عني؟...اشتقتُ لكِ كثيراً...ما أجملها من مفاجأة!!.."

ردّت عليها وهي تمسح دمعاتها بيد وبالأخرى تربّت على ظهر صغيرتها:
" هذا يوم السعد والمُنى وأنا اراكِ تزفّين الى بيت عريسك!!.."

دنت منها خالتها تساعدها على الوقوف هاتفة :
" هيا يا ابنتي....عريسك في انتظارك!!.."

×
×
×

كنتُ أقف على مدخل بيتهم وأمسك بيديّ طوق من الورود الفاخرة ببهاء ألوانها وشذى عطرها ولمّا فُتح الباب أشرقت منه مثل شمس الصباح وسطعت مثل بدر الليل ومعها أشرق في قلبي الحُب وسطعت على ثغري ابتسامة العشق....كان فستانها ناصعاً كالثلج بكميّن طويلين من قماش الدانتيل الفاخر يرسم جسدها بإتقان ومصمم على شكل حورية البحر ويزيّنه بعض من حبيبات الكريستال الناعمة على منطقة الصدر والتي تتلألأ متراقصة بوميضها متأثرة من غروب الشمس المنعكس عليها .وليلها يُجمع بتسريحة ناعمة منخفضة مع خصل عشوائية تحيط بدرها ..اقتربتُ منها بخطى هادئة ثابته وعطرها يعبث بأحاسيسي ثم البستها طوق الورد كالعقد على رقبتها لينزل على صدرها ويكسر بياض فستانها ....رفعتُ برقة طرحتها عن وجهها وليتني ما رفعتها ...آاه من الملاحة والسحر الذي يشعّ منها!!....تضع زينتها لتضيء وجهها!!...وهل ينقص البدر اضاءة ؟!...كانت تسدل جفونها تحجب عن الأعين عينيها ورموشها الكثيفة في حالة استسلام ولمّا فتحتها تحولت فصول السنه كلها الى شتاء عندما أبرقت بسمائها على أرضي من حيث لا احتسب لتصيب قلبي وتشلّ أطرافي ...لتزهق روحي وتأسر مشاعري ....انها تفعل بي ككل مرة بإصرار!! ...تدخُل حياتي كالإعصار...لتُحدِث بها مجازر ودمار...رفقاً بقلبي يا فاتنة !!.....أنا مشرّد ضحية حرب !!...وطني يناديني وأرضي تشتاق لي ....أرجوكِ اعطفي عليّ واطرديني ...لمَ تكبليني وتقيّديني ؟!...ماذا تريدين مني ؟!...ماذا تستفيدين عندما لا ترحميني كـ(يامن) ولا تعتقيني كـ(هادي) ؟!...هل تتلذذين بعذابنا ؟! ....اخبريني الى متى يا حبيبتي ستبقيني لاجئاً في سمائك ؟!..

قيّدتُ كفها بقبضتي برفق وسحبتها بلطف لننزل معاً السلالم القليلة لمدخل قصرهم ...وصلتُ سيارة أبي الفضية الفاخرة المزيّنة بشريط ابيض من التل مع الورود الحمراء التي تثبّت على مقدمتها ...فتحتُ لها بابها وساعدتها على الركوب ثم استدرتُ للآخر وجلستُ جوارها وأشرتُ لسائقنا بالانطلاق الى قاعة الفندق المطلّ على البحر حيثُ سيقام حفل زفافنا!!...وباقي سيارات الأصدقاء لحقت بنا تزفّنا.... تشغّل مصابيح الغمازات وتصدح بالزمامير في الشارع ليعرف الجميع أن هذا موكب العروس وكان هذا ايضاً من ضمن العادات !!...
" هل نساؤهم يرتدين العباءة في الأفراح ايضاً؟؟.."

سألتني (ألمى) عندما رأت أصدقائي ونساءهم مقبلين نحونا ليهنئونا حيث نجلس على المنصة الخاصة بنا كعروسين فأجبتها وأنا انظر اليهم مبتسماً ابتسامة عريضة صادقة :
" لا حاجة ليتزيّنّ للغرباء....زينتهن وجمالهن لأزواجهن فقط!!.."

صمتت تنظر للفراغ تراجع في دماغها كلامي ولا اعرف أعجبها أم أرعبها وهذا لا يهمني الآن لأني وقفتُ أعانق من فتح ذراعيه وفمه في آنٍ واحد قائلاً:
" وأخيراً سنرى يامن محكوماً لامرأة !!.."

قلت له مازحاً:
" أنتم السابقون ونحن اللاحقون سيد عمر ..!.."

نظرَ للجالسة مكانها شاردة خلفي وهو ما زال يحتضنني وهتف:
" هيــه...سيدة ألمى.."

رفعت بصرها له فتابع:
" ما زال لديك الفرصة للهرب قبل ان تقعي مع هذا الهاشمي!!.."
ضحكت بخجل فأطلّت زوجته من خلفه تمد يدها لمصافحتها والمباركة لها وقالت بإعجاب :
" ما شاء الله على هذا الجمال...حفظك الله لنفسك ولزوجك!!.."

رمشت حياءً شاكرة ثناءها ففسحا المجال للذين بعدهما فاقترب (رامز) معانقاً لي وهاتفاً بمكر:
" الحمد لله لم يبقَ أحد أعزب في الشلة يتبجح علينا بحريته ....رأينا بكَ يوماً يا ابن الهاشمي !"

ضربته بقبضتي على كتفه ضاحكاً فأزاح جسده قليلاً يكشف مَن وراءه ولما رأيتها وحدها قلت:
" أين دميتي الشقراء؟...ألم تجلبا يارا ؟!.."

عبست بتصنع وقالت:
" اسأل صديقك..."

قال شامتاً بها لانتصاره:
" خيّرتها بين تركها عند جدتها أو القدوم للزفاف وحدي وتبقى هي معها في البيت لأنني لا اريد الجري خلف الأطفال وكأننا في الحضانة وتضيع هيبتي سُدى أمام الكم الهائل من هذا المجتمع الراقي"

ضحكتْ بصوت ثم وضعت يدها على فمها تمنع ما تبقّى من صداها فنظر اليها (رامز) قائلاً:
" اضحكي اضحكي سيدة ألمى...سيأتي هذا اليوم لنشمت بكما وأنتما تشاركان في سباق الماراثون خلف ابنائكم !!.."

مدّت زوجته يدها لتصافحها وتبارك لها وقالت :
" اسرعي واجلبي هاشمياً صغيراً لتربطي أبيه.....فمثل هؤلاء لا تعطيهم المجال للتنفس ولا تثقي بهم !!."

أجبتها مدّعياً الحزن:
" سامحك الله يا ريما ...هل تشبهينني بزوجك؟!.."

قالت وهي تنظر باشمئزاز مصطنع لزوجها:
" صحيح أنت لست مثلهم.."

ونظرت الى (ألمى) تستطرد بكلامها:
" زوجك وهو أعزب كان يغض البصر عن النساء عندما نخرج نزهات أما هؤلاء يتغزلون بهن بكل وقاحة امامنا ..!"

سعل بتصنع من خلفها (يزن) وقال ساخراً:
" هل أصبحتِ مثل عمر مذياعاً مفتوحاً ؟!...زوجتي حامل لا تستطيع الوقوف...افسحي لنا المجال!!.."

ابتعدت فتقدما يصافحانا فهمست (ألمى) وهي تضع يدها على بطن (لينا) زوجة (يزن):
" لقد برز بطنك!....كم هو جميل عليكِ الحمل!...هل عرفتِ نوع الجنين؟!.."

قالت لها وهي مبتسمة وتلهث مثقلة من حملها:
" بنت ان شاء الله .....العقبى لكِ ونحن نراكِ حاملاً ....مؤكد ستكونين أماً فاتنة!.."

قاطعتهما قائلاً:
" أحسنتما ...ستجلبون لي دمية جديدة!.."

قال (يزن):
" وأنت شدّ الهمة لنرى انتاجاتك من الدمى.."

تبسّمت مجاملاً فاقترب (عمر) مرةً أخرى وقال:
" أمي تبارك لكما وأوصتني لأدعوك للذهاب اليها غداً.."

شاركته زوجته (أماني) هاتفة:
" قالت ليجلب عروسه على العشاء غداً.."

نظرتُ للتي بجانبي ثم لهما وقلت:
" سلّمها الله وبارك بها .....اخبروها سنأتي حتماً في الأيام القريبة ان شاء الله...لا تتعب نفسها.."
غمزني مذياع الشلة قائلاً:
" أجل يا عم ...هل ستأتي لعشاء ام عمر ولديك عشاء أطيب وأهم الآن ؟!."

همست ببراءة ومن غير ادراك لنواياه خلف جملته :
" لا يوجد مثل عشاء الخالة ام عمر....أنا لا استطيع فقس بيضة !!...يعني لا مجال للمقارنة!.."

أطلق ضحكاته الخبيثة فرمقته بغيظ محذّراً ليصمت وينصرف وقالت زوجته :
" يا لكِ من بريئة ونقية....ابقِي هكذا ولا تجعلي شيئاً يغيرك!.."

وتبعت زوجها وباقي الشلة....!!
×
×
×

كان حفل زفافنا كبيراً يضم رجال أعمال ومعارف من الطرفين وكنتُ قد شددتُ على وضع موسيقى هادئة جداً ومنعتُ ما حرّم الله من المشروبات ليتفاجأ بعدم وجودها ضمن التضييفات أولئك الحثالة , النجِس وأصدقاؤه.!!... وعند انتهاء حفلتنا أقبل نحوي أبي (إبراهيم) هامساً قرب اذني:
" أنت مجبر لمصافحة الوغد ومعانقته وتقبيله ....عليك الترقيع عن أفعالك المتهوّرة لترطّب العلاقة الجافة بينكما !!.....لا اريد أي اعتراض ...تحمّل لينتهي كل شيء على خير !!.."


قلت منزعجاً:
" تكفي مصافحته!...لا استطيع معانقته وماذا ايضاً ؟!..تقبيله!...هذا هراء!.."

قال مصمماً بحزم:
" كبّر عقلك!...نحن لا نلعب هنا سيد يامن!...اختصر العناد وافعل ما أمرتُكَ به..."

يا اللــــه...الأمر شاق عليّ!!...رؤية وجهه يشعرني بالغثيان وكيف بتقبيله؟!....

مسكتُ يدها وسرنا نحو الطاولة التي يجلس عليها الوغد مع عائلته ...تقدّمت هي قبلي نحوه فوقف مقابلاً لها احتضنها وقبّل جبينها ثم قبّلت هي يده وهمست بصوت متحشرج:
" سأشتاق لك أبي...أنت تعلم كم أحبك وافتخر أنني ابنة لك!.."

افتخري يا مدللة !...سنرى الى متى ستفخرين به ؟!....

فسحت لي المجال وكابدتُ بعناء للاقتراب منه ...مددتُ يدي ثم عانقته وأنا احبس انفاسي ...اشعر أنني اعانق جيفة نجسة وقبّلته بوضع خدي على خدّه كي لا تلمس شفتاي بشرته !!...فهمس لي بنبرة غرور ورياء ونحن متعانقان:
" ابنتي امانتك !..وانا أعلم أني اسلّمها لرجل يصونها وانت اعلم ان خلفها أب يهدم الجبال لحمايتها!.."


همست في أذنه بثقة :
" زوجتي هي أنا ذاتي! وأنا أعلم كيف أحمي نفسي من بعد الله وانت اعلم انها بيديّ من ينزع روحه ليهديها إياها !.."

طبطب على ظهري ممتناً بنفاق فعدتُ خطوة للوراء ....استدرتُ اعانق ابي وخالتي وفعلت هي بالمثل ثم اقتربت خالتها تبارك لي من بعيد وتعانق صغيرتها هامسة:
" مبارك حبيبتي...كوني سعيدة دائماً"

وقفت زوجة أبيها ودنت منها صافحتها وعانقتها برياء هامسة قرب اذنها بفحيحها :
" مبارك ألمى!...أتمنى أن لا تعودي نادمة الينا !!....لقد خسرتِ من يعشقك...صلاح!.."

تحررتْ منها بنفور واستحقار دون ان تنطق حرفاً فدنا منها (كرم) ومدّ يده لمصافحتها وهو يبارك لكني سبقتها الفح كفه بقبضتي قائلاً بتعالٍ مع ابتسامة مائلة:
" شكرا كرم ....العقبى لك!.."

نظرت إليّ ببلاهة وهو باشمئزاز فاستدرتُ نحوها ومسكتُ يدها وقُلت للجميع رافعاً يدي ملوّحاً لهم:
" شكرا للجميع وليلة سعيدة ...سامحوني لأنه عليّ الآن أن اخطف عروسي !.."

سارت معي بخجل وكانت يدها ساخنة من ارتباكها ! ...ربما بدأت انفعالات ليلة الدخلة عندها ؟!!....عند وصولنا سيارة العروس المزيّنة نظرت للخلف حيث مدخل القاعة وقالت بقلق :
" ألن يأتي معنا السيد إبراهيم والسيدة مريم ؟!.."

فتحتُ لها الباب مبتسماً بمكر وأجبت :
"كلا.... انتقلا الى شقة قريبة للشركة.."

غمزتها وأضفت :
" ليعطونا حرّيتنا ..."

بُهتت ملامحها من الصدمة وقالت بتلعثم :
" كـ...كيف سيتـ...سيتركوننا وحدنا ؟!.."

قلتُ بوقاحة :
" لمَ ؟هل نحتاج هذه الليلة لعمّال مساعدة سيدة ألمى ؟! أم أنك تظنين نفسك تدخلين الى وكر الوحش وتريدين منهما حمايتك ؟!.."

دنوتُ من أذنها مردفاً بصوت ذائب لأذيبها :
" اصبري فقط يا قطة !!....وسترين المفاجآت !!.."

اسدلت اهدابها بخجل وتورّدت وجنتاها ثم جلست مكانها ولحقتها من الجهة الأخرى اجلس بجانبها وانطلق بنا السائق الى عش الزواج المزيّف !!....

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
غرفة كبيرة أشبه بالقبو ....دخان السجائر يملأ الأرجاء...مقعد وثير من الجلد الأسود وطاولة من الخشب المحروق....والحائط كأنه معرض للأسلحة من الحامض للحلو ومن الخفيف للثقيل...السلاح الأبيض والأسود.!!...جمجمة في الزاوية ورأس غزال مع قرنيّه في زاوية أخرى...ورجل سمين اربعينيّ أقرع بخدٍ مشطوب من ضربة خنجر من الماضي البعيد...اصابعه مدججة بالخواتم الذهبية الرجالية وفي عنقه سلسلة عريضة بحلقات متشابكة من الذهب الخالص...يفصل سبابة يسراه عن الوسطى سيجار عريض بلونه البني وفي الأخرى يلعب بالمسدس وعلى اذنه يثبت سماعة الأذن اللا سلكية ويتحدث مع احد رجاله بالطرف الآخر على الهاتف :
" متى آخر مرة تكلمتَ معه ؟!"

" قبل يومين وكان مشغولاً في التحضير لزفاف ابنته الذي يقام هذه الليلة.."

" هل حدّثك عن الصفقة خاصته ؟!.."

" أجل ...موعدها بعد خمسة أيام !...أرجو ان لا يخلف وعده كي لا يكون مجيئي للمدينة الساحلية سدى....!.."

" حسناً....تحمّل لخمسة ايام....في اليوم السادس التقِ به لتستلم منه أموالنا وإن تملّص او تحجج في اليوم السابع نفّذ ما أمرتُك به دون الرجوع اليّ.."

" الا يوجد بديل لذلك ؟!...قلتُ لك في السابق انك ستفتح على نفسك أبواباً أخرى انت بغنى عنها !.."

" الموضوع غير قابل للنقاش !!...لا يهمني أي باب يفتح ...المهم أموالي تعود لجيبي فأنا لا اعطي صدقات عن أرواح الفقراء!.."

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

انزلنا السائق في ساحة بيتنا ثم انصرف في سبيله....مسكتُ يدها برقة ثم صعدنا سلالم المدخل النصف دائرية ...حررتُ يدها واخرجتُ المفتاح من جيبي ...فتحته ودخلتُ مسمّياً بالله وكان البيت مظلماً...اشعلتُ الأضواء وهي ما زالت واقفة مكانها قرب الباب من الداخل والطرحة منسدلة على وجهها وتسلّط عينيها ارضاً....اقتربتُ منها...تأملتها للحظات...رفعت طرحتها مبتسماً بحب وحنان لها ...آاه الحمد لله ..اخيراً أصبحت في بيتي وتحت سقفي وأنا مسؤول عنها بالكامل !!...اعلم أنني احبها بأنانية !!.....لم ترفع نظرها إلي والارتباك يصاحبه الحياء يظهر جليّا عليها...حاوطتُ وجنتيها بيدي وقبّلتُ جبينها وهمست:
" مبارك عليكِ بيتك الجديد !.."

اومأت برأسها رداً على مباركتي دون همس...فأكملتُ وانا اشبك انامل يمناي بأنامل يسراها :
" هيا يا عروس امشي معي ...لنصعد الى الغرفة"

رفعت ستائر عينيها ونظرت نظرة غير مقروءة لي وقالت بداخلها .." هل حمل العريس لعروسه ليلة الدخلة في الأفلام مجرد خداع للمشاهدين ؟!...ظننتُ ان هذه حركة حقيقية تعيشها العروس في ليلتها الاولى!.."

وصلنا اول درجة للسلالم ولم تشعُر بنفسها الّا وهي بالهواء على ذراعيّ فشهقت متفاجئة وحاوطت عنقي بيديها مع باقة الورد الاصطناعية الصغيرة خاصتها التي تمسكها ودفنت وجهها بين صدري وعنقي خجلاً....صعدتُ بها السلالم وقلبي كأنه في سباق وانفاسي شبه لاهثة ليس لأنها ثقيلة فانا لا اشعر انني احمل شيئاً اساساً وليس لأني تعبتُ من صعود الدرجات إنما قُربها جعل الخائن يضخ الدماء بسرعة لسائر الجسد محتفلاً بحبيبته ومن شدة الضخ أرهق رئتاي فلهثت انفاسي ....ما هذا العذاب ؟!....ألا استطيع ان أكون بقربها هذه الليلة فقط ومن ثم تعود كما ولدتها أمها ؟!...فقط ليلة ارتوي منها !!...اشفي غليل سنيني العاشقة لها !!....وهي في احضاني ايقنتُ انهم ينتقمون مني بها وليس من ابيها بي !!.....صبرٌ من عندك يا الله !..انا اخوض اصعب المعارك...محاربة النفس والشهوات...معركة ستستنزف طاقتي ولا ادري ان كان هذا الجُهد الذي سأبذله يوصلني الى بر الأمان ام لا ؟!...والأصعب بالموضوع انني امنع نفسي عن ما هو حلالي ومن حقي !!...ليست شهواتي هي الشهوات المحرّمة والتي فيها عصيان لله حاشاه ...سأحرمها وأُحرمُ نفسي !!.. وحدّك يا الله الأعلم بنواياي من وراء افعالي وما أعاني!.....يا رب ان كان هذا ذنباً فسامحني وإن كان ابتلاءً فصبرني وان كان امتحاناً نجّني منه وإن كان عطاءً فبارك لي فيه ...!!
عندما اصبحنا في الطابق الثاني وهو طابق بجناحين كبيرين ...احداهما كان خاصاً بأبي وخالتي والآخر جُهّز لقدومها أما انا جناحي في الطابق الثالث....وقفتُ أمام الباب وأنزلتها عن ذراعيّ ولما فتحته تفاجأنا كلينا بالزينة الموجودة داخلها !!.....مؤكد هذه أفعال الخادمة (خولة) و خالتي (مريم)....هدية للعروسين السعيدين !!...كانت الأرض مفروشة ببتلات الجوري الحمراء والبيضاء وبينهم شموع جاهزة لإشعالها من اجل ليلة رومانسية !!....وقع نظرنا معاً على السرير حيثُ يوضع قميص نوم ناصع البياض كبيضاء الثلج التي تقف جواري... حبيبتي !!...توهّجت وجنتاها وأشاحت حدقتيها جانباً تهرب منه لشدة جرأته !!.....كان السقف مليئاً بالبالونات المملوءة بغاز -الهيليوم – بألوانها الأحمر والأبيض والذهبي ويتدلّى منها خيطان قصيرة !! ورائحة الغرفة تفوح بشذى الياسمين من زجاجة خاصة لتعطّر الجو!!....كان منظر الغرفة ساحراً جداً ويعبث بالمشاعر!!....ولجنا الى منتصفها وكانت خطواتها مترددة....تقدمتُ الى زاوية فيها طقم جلوس مصمم على شكلها من المخمل الجاف لونه ذهبي ومخداته بلون القهوة !!....خلعتُ جاكيت بدلتي والقيته عليه ثم ارتميتُ على الطقم أمدّ ساقيّ امامي ارضاً بارتخاء وبدأت احرر انفاسي بفك عقدة ربطة العنق التي خنقتني وقد ارغمني عليها أبي (إبراهيم) مستعيناً بالمصمم !!...فتحتُ اول زرين وهي ترنو اليّ مشدوهة فربتّ على المقعد جانبي كإشارة لها وهمست بلطف :
" تعالي الى هنا جانبي..."

جاءتني بخطى اسرع مغايرة لخطواتها المترددة وكأنها تهرب من شيء اليّ وجلست بسرعة حيث اشرت وكانت من لحظة لأخرى تخطف نظرها للسقف!!...عدّلت جلستي ...اخذتُ الباقة من يدها والقيتها على مدّ يدي فسقطت على السرير...املتُ نفسي بشكل جانبي لأظفرها جيداً ورفعتُ ذراعيّ ثم شرعتُ بفكّ طرحتها وهي خانعة ترخي ملامحها دون أي اعتراض...دنوتُ بجسدي اكثر منها وأصبحت كأنني اعانقها بسبب يديّ اللتين حاوطتاها ووصلتا الى شعرها من الخلف وانا اسحب مشبكاً مشبكاً ليتناثر ليلها في ليلتنا وبذات اللحظة استنشق أريجها من هذا القرب وبأطراف اناملي سرّحت مقدمة شعرها لأرتبه على وجهها واللون الوردي على خدّيها يعلن خجلها وارتباكها...مسكت كفيّها بحنية وسلّطت ارضي على القمر امامي وبقيتُ لثواني على هذا الحال ثم دنوتُ اكثر وقبّلتُ خدّها بقبلة طويلة كأني امتص رحيقها وانتقلت للآخر وانا اشعر بالحرارة التي وصلتْ لها ...حاصرتُ بدرها بكفيّ وداعبتُ انفها بأنفي ثم انتقلتُ لعنقها اسرق عبير عطرها الذي يحتل جسدها الممزوج برائحة الاناناس المتبخرة من شلالها الأسود ...كدتُ اسمع خفقاتها وهي بين يديّ اما خفقاتي تركتني وقفزت اليها لتتذلل وتنال رضا قلبها !!.....حررتها بكل هدوء مقصود....انتصبتُ واقفاً وقُلت بصوت جدي ثابت وهادئ:
" سامحيني !.....هذه فقط حدودي معك! وهذا ما استطيع اعطاءك إياه !..."

ارتجفت حدقتيها بصدمة صاحبتها لمعة ثم رمقتني بنظرة ضائعة وهي تضغط بأنامل كفها على اناملها الأخرى باضطراب وقالت بصوت مخنوق :
" مـ...مـ.. ماذا تقصد؟!.."

هربتُ بعينيّ الى الفراغ بعيداً عن عينيها وقلت :
" حياتنا الزوجية ليست كأي حياة تعرفينها !!.."

تابعت بنبرتها المختنقة:
" لا أفـ....أفهم!!...ماذا تعني ؟!.."

ابتلعتُ ريقي وشعرتُ بالمرارة بحلقي من صعوبة موقفي :
" أعني لن ننام لا على سرير واحد ولا في غرفة واحدة ؟!.."

لم تستطع السيطرة على جحوظ عينيها المصدومة !! لكنها تحكّمت بما كانت ستتفوه به وأسرته في نفسها " لماذا؟!..لماذا تفعل بي هذا ؟!...ما نيتك وما غايتك؟!.."...ظلّت تصارع افكارها...رفعت بصرها للسقف وهلة وانزلته مجدداً ثم تنحنحت لتجلي صوتها وتوازنه من غير اهتزازات وقالت وهي تقف منتصبة بشموخ وإباء لا يشبه ضعفها ولا براءتها :
" حسناً...هذا افضل شيء تفعله !....هلّا خرجت من فضلك ؟!...اريد ان انام !!.."

تفاجأتُ من ردة فعلها ....ظننتها ستبكي !...ستصرخ او تشتم ...ستطردني بفظاظة وتسألني بشفافيتها لماذا هذا القرار؟!.....هل يمكن انها تمنّت الّا أقربها ولم ترغب بي وجاءها قراري على طبق من ذهب؟!...أيعقل ذلك؟!....

لم اتحرك ساكناً فحدّجتني بنظرة رأيتُ فيها النفور وهتفتْ:
" هل عندك شيئاً آخراً تقوله ؟!...فانا متعبة وأريد ان انام !!...لو سمحت."

لم يعجبني هدوءها ...لمَ لا تثور وتضربني ؟!...ما بي حائر؟!....ماذا انتظر منها ؟!....شرّدت بها لحظات اتشاجر مع بنات افكاري ثم قلت بصوت هادئ محذّر :
" هذا الأمر سيدفن بهذه الغرفة!!...لا اريد ان يخرج من الباب او النافذة او على الهاتف!!...يعني ما بيننا سيبقى هنا وإياك ان يصل لأيٍّ كان!!...لا تودّين رؤية غضبي ...أليس كذلك؟!.."

رفعت زاوية فمها بابتسامة ساخرة مع صوت لضحكة مبتورة وقالت في سرها " هل سأفضح نفسي في خيبتي بك ومعك؟!...هل سأقهر اهلي بزواجي التعيس؟!...افضّل ان اموت هنا بمقبرتك هذه مع الآمي واسراري ولا اوجع ابي وخالتي عليّ بحقيقتك.."...
وقالت بعد ضحكتها المبتورة بتصنع:
" لا يهمني هذا الأمر كي اجعله قصة في حياتي !....اطمئن وتابع حياتك براحة سيد يامن !.."

صفعت جبينها بحركة تمثيلية وهتفت:
" اووه...آسفة!...اقصد يا... زوجي العزيز.."

وصلني تهكمها من وراء القوة التي ابتدعتها فتابعت دون أن اسمح لردها بالتأثير عليّ :
" ابتداء من الغد انتِ من ستهتمين بأمور المنزل من طعام واعمال التنظيف الخفيفة !....لقد صرفتُ الخدم!.."

استشاطت بانفعال مستنكرة :
" هل جننت؟!...مستحيل!....ما المناسبة.؟!."

قلت بهدوء:
" على العكس...هذا عين العقل!....والمناسبة انك زوجتي ولو بالاسم وانا لا احب طعام الخدم بما ان خالتي تركت البيت وهي من كانت تطعمني!.."

اشاحت وجهها بسموٍّ وهتفت بثقة وعجرفة ونبرة مرتفعة حادة لا اعلم لتستفزني ام هذا نبع من داخلها:
" أنا ابنة الوزير السابق....ابنة رجل الاعمال الشهير عاصي رضا ...مَن يعمل الخدم مِن اجلي تريدني ان اصبح خادمة ؟!.."

رغم اني لا اعرف نيتها لكن اسمه اشعلني فمسكتُ يدها وانا اصك على اسناني هامساً بغضب:
" لا ترفعي صوتك وتتبجحي باسمك !...عاصي رضا مثله مثل أي انسان ينام على قارعة الطريق...كلنا سواسية وكلنا أبناء ادم وحواء !!"

واكملت داخلي " خسئ وأن يُشبّه بأولئك الفقراء الشرفاء !!.."

حررتُ يدها واستدرتُ لأخرج فقالت من خلفي وهي تضع يدها الأخرى موضع قبضة يدي الثقيلة:
" انا لا اعرف في أمور البيت وستبقى بالجوع ان انتظرت طعامي الذي لن يعجبك !.."

قلت وانا اسحب جاكيتي ومولّيها ظهري اخطو نحو الباب:
" لو طبختِ تراب سآكله ...المهم من تحت يديك!...ستعتادين على ذلك"

توقفتُ قربه واستدرتُ نحوها ورفعت سبابتي مضيفاً :
" البيت كله ملكك وتحت تصرفك ...افعلي ما شئتِ...الّا غرفتي في الأعلى لا تقتربي منها وأنا غير موجود ولا تدخليها !!..."

قالت وهي صامدة على قوتها:
" هل اخبرك احد أني تواقة لرؤية متحفك ؟!....ارتع بها كما يحلو لك وارتاح!.."

خرجتُ دون تعليق واغلقتُ الباب بهدوء مخالف للبركان الذي في احشائي وسببه عذابي من قُرب الفاتنة وكذلك من تعاملي الجاف معها ..!

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

" ماذا تقول سليم؟!.."

سأل السيد (ماجد) باستنكار مَن كان على الهاتف فردّ بثقة :
" مثلما قُلت .....بعد أربعة أيام ليحضّر نفسه لهذه المهمة...اخبره بذلك !"

أكمل مستنكرا:
" سليم أتعي ما تقول ؟!...الليلة دخلته ....كيف سيترك زوجته من اجل رحلة عمل ؟!.."

هتف بصرامة :
" من زوجته ؟!....هل سندللها بشهر عسل ؟!...لا اريد غيره لهذه المهمة لأني اثق به !....يجب ان نقسم ظهر الخسيس بإحباط صفقته !...تلك الصفقة التي حسّنت من وضعه المادي بعد استعانته بتجار السوق السوداء !..فهو يعتمد عليها ليسدّ دينه لهم !!..وطبعا الأهم لمحاربة هذه الاعمال الحقيرة ووضع حد لها !!...ليعلموا ان الشعب ما زال لديه من يدافع عنه ولا يترك حقه !!..."

قال بغير رضا مقترحاً :
" سليم !...لا أقول لندللها لكن هذا تصرف غبي !...الا يثير الشبهات ؟!..أي عريس طبيعي يعود لعمله في اليوم الرابع من زواجه وبالذات لرحلة عمل فيها مبيت بدل ان تكون رحلة عسل ؟!..ها؟....كيف سيقنعها او يقنع والدها ؟!....جد بديلاً له"

قال واثقاً:
" والدها لا يحتاج لإقناع لأنه اكثر من يتصرف هكذا ولا يضع اعتبارا لأي شيء غير العمل والصفقات ....يعني سيفهمه ويعذره !!...وقلت لن يقوم بهذه المهمة غير هادي...فقط فهدنا الأسود هو الآهل لها ...لا حاجة لإضاعة الوقت!..."

واستطرد هازئاً:
" اما إذا كان يريد ان يأخذ إذن سعادة السفيرة ويطلب الرضا هذا حالٌ آخر !!...فبما ان الأخ أصبح عاشقاً سيتلقّى الأوامر من خاطفة قلبه "

تنهّد بيأس وأضاف :
" ليتني استطيع ازاحتها عن طريقه !!..اشعر انها أصبحت عقبة بعد ان سحرته وليست تذكرة دخول!!.."

أجابه مستسلماً:
" حسناً سأتصل به بعد يومين ان شاء الله...."

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

بعد ان صعدتُ غرفتي ...خلعت بدلتي العرس والقيتها على سريري ثم دخلتُ لأخذ حماماً بارداً يبرّد هيجان قلبي وروحي مع ان الجو نهاية الخريف وفيه القليل من البرودة....وقفتُ اواجه المرآه عند مغسلة اليدين وتأملتُ خيبتي ثم عاد شريط قربها أمامي.....انفاسها المضطربة بين الحياء والرغبة ...وجهها المنير...رائحة شعرها وعطرها...ملمس يديها ووجنتيها ....وعينيها ...وآااه ثم آااه من عينيها ...أنا حبيبتي يفصلني عنها بضع درجات أُحرِم نفسي منها ؟!....تعاقبت انفاسي لهفةً....صرعتني نبضاتي رغبةً....تمزقت روحي هياماً....اريدها بشدّة!....مسكتُ رأسي أحاول ان انهي هذه الوساوس التي تجتاحني ولكنها لازمتني كأنها تريد الانتقام مني ...وددتُ ان اطلق صرخاتي !!...لا استطيع التحمّل...تباً تباً لما اوقعوني به ....ضربتُ قلبي بقبضتي متمتماً...".تباً لك أنت ايضاً أيها الخائن النذل " ...عدتُ لأمسك رأسي وجرّتني قدماي لباب الحمام فتحته أودّ النزول اليها ....اجتزت خارجه بخطوتين ثم عدتُ الى وعيي وعدتُ ادراجي.....صفعتُ باب الحمام وذهبت للمرآة اللعينة التي عرضت شريط قربها امامي وبقبضتي ضربتها بغلّ لتتناثر شظاياها في كل مكان علّها تخفف من حدّة شغفي !...ثمّ استلقيت بحوض الاستحمام وجعلتُ الماء البارد ينهمر ليطفئ لهيب عشقي .....مرّت ساعة وانا مسترخٍ في الماء لأطرد الهواجس الشيطانية عني !!.....بعد وقت شعرتُ ان حالي تحسّن ورجع لي عقلي وأصبحتُ هادي الصابر على عذابه والمتحكّم بمشاعره ....قمتُ وجففت جسدي وشعري...تركتُ الحمام الّف المنشفة على خصري واخرجتُ بنطالاً قصيراً لأنام فبيتنا مجهّز بالتدفئة الكاملة المركزية التي تخرج من الأرض ولا حاجة للملابس الثقيلة.....استلقيت على الأريكة الخاصة بزاوية التلفاز وبدأتُ أعبث بهاتفيّ (يامن وهادي) وكان اتصالات عديدة يصاحبها رسائل غليظة من أصدقائي هنا وهناك ...ضغطتُ على اسم صهري الغليظ في هاتف (هادي) وكان الوقت متأخراً قليلاً فأجاب :
" ليس وحدك من يحتفل بهذه الليلة سيد هادي!....نحن ايضاً ما زلنا في العسل !..ما هذه الاتصالات المتأخرة !؟؟.....أيّْ...انتظري قليلاً .."

قلتُ ساخراً:
" هل ضربتك شقيقتي حاملة دمي صغيرتي اللبؤة ؟!.."

قال هازئاً:
" تقصد الضفدعة ...."

تابع يكلّم من بجانبه:
".قلت انتظري....كفاكِ نقيقاً ايتها الضفدعة....اصبري ستكلمينه ..."


قلت:
" اعطني شقيقتي وارحنا من غلاظتك ..."

" هاادي حبيبي ....ما أجملكما انت وعروسك ...قمران على الأرض"

هتفت بجملتها بعد ان ضغط على مكبر الصوت فأعاد كلماتها يقلّدها متهكماً أما انا صُدمت وقلت:
" أين رأيتنا ؟!....لم يكُن صحافة !!.."

اجابت:
" خالتي بعثت صوراً لكما على مجموعتنا النسائية ...يا الله على هذا الجمال الذي تمتلكه عروسك!!...اخيراً رأيناها ....وأنت حبيبي اوسم عريس رأته عيناي !..."

خالتي المكّارة اذاً لم تتنازل وقامت بتصويرنا دون ان ننتبه !!..." حسناً خالتي حسابك معي !!.." ..قلت في سري فصدح صوت الغليظ :
" لا تصدق الضفدعة ....تكذب!...انا أوسم عريس رأته وباعتراف منها ليلة دخلتنا.."

وصلني صوتها تقول له :
" اصمت أيها الأشقر...انا لم اكذب...نعم كنت اوسم عريس لأن هادي لم يكن آنذاك عريساً....أما الآن انزلك عن عرش الوسامة.."

ضحكت بخجل من غزلها بي وقلت :
" لا تهتمي للأشقر الغليظ شقيقتي الحبيبة...هذا من غيرته!.."

هتف مستنكراً :
" اراك متفرغاً سيد هادي!....لمَ لا تذهب وتكمل ليلتك وتتركنا نكمل ليلتنا؟!...اين عروسك عنك ؟!....كيف تتكلم براحة ؟!...انتبه يا سيد ولا تفضح نفسك!!..."

لا تذكّرني بها ...ارجوك صديقي...اريد ان الهي نفسي عنها !!....

وددتُ الاعتراف بضعفي لكني اجبته بتملّص:
" انا اكلمكما من غرفتي الخاصة!!....ما اخبار الجميع ؟!..."

قال :
" عيّوش أمضت الليلة تبكي لأنها لم تحضر زفافك وكانت تدعو لك بالتوفيق والسداد..... لكن اطمئن قمنا بحركات بهلوانية لنضحكها وقد انسيتها ان لها ابناً نكدياً يتزوج الليلة اما شادي مسك الهاتف وكان يتغزّل بعروسك ويسأل عيوش متى ستجلبان له بنت جميلة مثل امها تناديه عمي كي يشعر انه كبير وليس شبر ونصف !!.....ذاك الضفدع متشوّق للقب عم ولم يفتح سيرة للقب خال !!....عندما ننجب أسدي لن اسمح له بلمسه حتى يرى شحمة اذنه !!...هل فضّل بنت الأخ على ابن الأخت ؟!....ام ان الدماء تحن لبعضها ؟؟!.."

قلت ساخراً:
" انت ستجلب دمية من اين تثق بنفسك لتجلب أسداً؟!.."

ردّ بغيظ مصطنع:
" هـيه أنت...لا تنسَ جدي وأبي فعلاها من قبلي ثم جدي قال لأحفاده المتزوجين من يأتيه بحفيد اول ويسميه على اسمه سيهديه قطعة ارض في قريته الأم !!...فمعظم أولاد عمي انجبوا البنات....انا سأبذل جهدي!....ادعو لي يا صاحبي لآتي أنا بالأسد ولا تخف سأزوجه لدميتك التي ستجلبها لنا وسنعطيها الأرض مهراً لها......قل عن صديقك ونسيبك بخيل أيها النكدي !!.."

ضحكت ثم أكملنا الدردشة وأخذنا الوقت فهتفت شقيقتي باستغراب:
" أخي!!.."

" نعم حبيبتي!.."

ألقت اسئلتها في وجهي مستنكرة:
" لقد اطلت الحديث معنا!....اين زوجتك؟!...كيف تتركها كل هذه المدّة؟َ!....هذا غير لائق يا اخي بحقها!....اذهب وتفقّدها !!.."

أضاف (سامي):
" يا عيني على زوجتي المتفهمة!!....بالفعل هادي نحن نسينا انفسنا ونحن نثرثر.....اذهب لعروسك خوفاً من ان ترتاب لاختفائك عنها!!..."

رسمت بسمة جريحة على وجهي وهتفت انهي المكالمة:
" حسناً...اكلمكما لاحقاً.... تصبحان على خير!.."

×
×
×

كانت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل وانا على حالي استلقي على اريكتي بضجر والأفكار تعزق بي في كل الاتجاهات...فززتُ من مكاني متأهباً على حين غرة عندما تذكرتُ ان حبيبتي موجودة الآن وسط حقل للألغام!!....صفعت جبيني لأضرب عقلي الغبي !!....كيف نسيت هذا ؟؟...كيف غفلتُ عن هذه النقطة ونسيت عقدة طفولتها؟!....انها تخاف انفجار البالونات وغرفتها مدججة بها ؟!...لا اعرف كيف ركضت بخطى واسعة حافي القدمين وقفزت الدرجات مسرعاً حتى وصلت غرفتها ...طرقت الباب عدة طرقات ولا من مجيب!...فتحته ....لم تكُن تقفله !!...وقفتُ مكاني مفزوعاً من منظر الغرفة!!...اين ذاك الجمال الذي كان بها ويعبث بالمشاعر ؟!...سرقتُ نظري على أركانها....فوضى عارمة تحل بالمكان !....الورود مبعثرة...اغطية السرير على الأرض والفراش عاري من أي كسوة !!...المخدات كذلك طريحة ارضاً !....الشمعات الغير مستعملة ملقاة على الزرابي بعشوائية.....قميص النوم اللعين ممزق الى نصفين ؟!...ما هذا الغلّ؟!....كان خرير المياه المنبثقة بغزارة من الدُش يصدح في الأرجاء !....قصدتُ جهة الحمام وبهتت ملامحي لرؤية الفستان الثمين الفاخر تحول الى أشلاء لا تعد ولا تحصى تتناثر على اريكة موجودة قرب الحمام وعلى السجادة أمامها....تحوّل من أرقى وأجود أنواع الأقمشة الى قطع بالية لا تصلح لمسح احذية او اطارات السيارة المملوءة بالطين!!....يا الهي....ما هذا الدمار الذي خلّفته وراءها ؟!......هل حصل كل هذا وانا في الأعلى دون ان اشعر ما تواجه هنا؟!...دنوتُ من الحمام وطرقتُ بابه مناديا عليها بتوجس :
" ألمى...أأنتِ بخير؟!.."
طرقات اقوى وصوتي أعلى:
" ألمى ....اجيبيني ...هل كل شيء على ما يرام ؟!..."

علا وجيب قلبي ذعراً لأنها لا ترد فدفعتُ باب الحمام المقفل بقوتي ليفتح وهالني البخار المتصاعد داخله من سخونة المياه التي تنزل على حوض الاستحمام تندفع بقوة كي تصدر ضجيجاً يخفي انفجار البالونات ان حدث !!....وماذا ؟!...حبيبتي!.....حبيبتي تفترش الأرض ...تجلس بين كرسي المرحاض وحوض الاستحمام ..لقد حبست نفسها بالحمام هاربة من الألغام!!.....ترتدي روب الحمام القصير وشعرها اشعث ...تغطي اذنيها بيديها وتشد على عينيها وتهز رأسها بقوة وتبكي بوَجل وخوف !!....لقد دمّرتُ مدمّرتي من قسوتي !!....ما انا فاعلٌ بها ؟!...كيف تركتها لوحدها؟!....كيف سوّلت لي نفسي وكيف سمح بهذا قلبي ؟!...اغلقت الدُش وجثوتُ بسرعة امامها أحاول تحرير يديها عن اذنيها لتسمعني ...نفضتها لترد وهي على حالها ....صرخت بها لتصحو :
" يكفي...ألمى...اسمعيني ..."

ما زالت مستسلمة لخوفها ...بقوة حررتُ يديها ففتحتْ عينيها ودفعتني لكني وازنت نفسي كي لا اقع وهتفتْ صارخة :
" ابتعد عني...ابتعدددد ..."

شفتاها الملوّنة بالأحمر القاني ترتجفان....لم تستحم بعد ومساحيق الزينة تغطي وجهها ...والكحل يسيل على الجانبين يدمغ على بياض براءتها سواد فعلتي !!....همست لها :
" ما بك ألمى....لمَ كل هذا ؟!...."

صرخت :
" لا شأن لك...اتركني وابتعد عنييي !..."

تابعتُ مستنكراً:
" ما هذا الدمار بالغرفة ؟!...ولمَ فعلت هذا بالفستان ؟!...أكلّ عروس تفعل به هكذا ؟!..."

ضحكت بقهر وتهكّم وجفونها متورّمة من شدة البكاء وقالت بصوت مهتز :
" العروس الطبيعية عريسها من يساعدها في خلعه لأنها لا تستطيع وحدها فعل هذا لصعوبته....أما انا وجدتُ الحل الأمثل وهو تمزيقه ارباً بمقص وجدته بدرج خزانة الحمام لأني فشلت بخلعه!....المقص هو عريسي!.....كم انا ممتنة منه !....هل وصلتك المعلومة أم اعيد لك كلامي ؟!.."

قلت بعفوية وكأنني لم اتسبب بكل هذا:
" لمَ لم تطلبي مني ذلك؟ّ!.."

نهضت متكئة على حوض الاستحمام واجابت بنفسٍ عزيزة:
" أطلب من الجيران ولا أطلب منك أنت بالذات.."

ثم اعادت فتح الدُش وأشارت الى الباب هاتفة بحزم:
" اخرج واتركني من فضلك..."

وقفتُ منتصباً وهمست وانا امد يدي امسك ذراعها بلطف:
" تعالي معي!.."

نفضت يدها لتحررها من قبضتي وقالت:
" لن آتي معك لأي مكان ..."
وعلت نبرتها بحزم:
" اخرج لو سمحت !.."

اغلقته مجدداً ثم قلت بهدوء وانا اعيد قبضتي لذراعها:
" قلت تعالي معي...لنتحدث خارج الحمام ..."

وبدأت سحبها فبدأت تقاوم...تحاول ان تمسك بحنفية المغسلة وعادت تهز رأسها بعنف وتغلق عينيها ووصلت الى حالة هستيرية تتخبط مكانها!! ...افلتتْ يدها الممسكة بالحنفية وبدأت تضربني على ذراعي صارخة :
" لا اريد الخرووج...اتركنييي..."

جذبتها بسرعة لترتطم بصدري ثبّتها بذراعي من ظهرها الصقها بجسدي وبدأت امسد شعرها هامساً:
" ششش...اهدئي ألمتي....اهدئي...انا آسف..."

لم تستكين وحاولت المقاومة اكثر وشرعت تضربني بقبضتيها ...فعصرتها بين ذراعيّ بقوة وبدأت ابث من مساماتي اشعاعات تعطيها الدفء والأمان...ثم حملتها كالطفلة على يديّ واخرجتها من الحمام...جلست على أريكة الحُب الموضوعة بقربه واجلستها على حجري أضمها لصدري ...بذقني ابعدتُ شعرها عن أذنها وهمست تالياً آيات من القرآن تساعد على الارتخاء وتبث السكينة والطمأنينة !!...استمريتُ على هذا الحال مع اذكار الرقية حتى شعرت بارتخاء عضلاتها المنقبضة ...وفتور اعصابها ..وانتظام حركة صدرها التي كانت تعلو وتهبط بعنف.....نظرتُ لوجهها بعد مدّة كانت مغمضة عينيها براحة ....لقد ذهبت الى عالم النوم !!....نفثتُ أنفاسي المرهقة من مصارعتها وارخيت اعصابي بعد الجهد الذي بذلته واسندت ظهري للخلف وهي بحضني....والآن جاء دورُ أنانيتي !!...بدأت امعن النظر بتقاسيم القمر...كنتُ اتأملها بعشق ...يدٍ كانت مخدة لرأسها والأخرى برأس ابهامها حاولتُ مسح الكحل عن وجنتيها !!...ما أجملها وما ابرأها سبحان من صوّرها وأحسن صورها !!...كانت تترك فرجة يسيرة بين شفتيها المصبوغتين بالأحمر القاني ليظهر طرف ثناياها العليا ..وأنفاسها التي هدأت لسعتني.....لذيييذة بشكل لا يقاوم ولا يوصف!!...العشق اضعفني والأنانية دفعتني والرغبة اشعلتني لأميل بوجهي على وجهها مغمض العينين مستسلماً لإغراء هذا الثغر القابع بين يديّ ولم أعِ كيف التهمتهما برقة ضائعاً برحيقهما الذي صبرتُ اعواماً متمنياً رشفة منه.....أعلم أنني جبان واستغلالي !...اوقفتُ قبلتي العاشقة وأنا لم أشبع منها!!...عدتُ لأتأملها بحُب...وبسبابتي حاولت تعديل أحمر الشفاه الذي تبعثر على جوانب شفتيها بسببي !!....عصرتها مجدداً من شدة شوقي لها اريد إدخالها بين ضلوعي ثم وقفتُ مستقيماً لأضعها على فراشها العاري !....وضعتها واخذت مخدة عن الأرض احدى ضحاياها وعدتُ لأعدل نومتها ثم دثّرتها بغطائها وشرعتُ بإفراغ الغرفة من البالونات اترك سراحها من النافذة لتنطلق الى دجى الليل.....اذهبي وعانقي النجوم وابتعدي عن حبيبتي لتنعَم بالسلام .....!!

×
×
×

بينما كنتُ مستلقياً في وقتٍ متأخر على اريكتي في غرفتي أتذكر ما مرت به فينقبض قلبي ثم بعدها ابتسم بهيام مستلذاً من طعم شفتيها بعد ان ارتشفت رشفات مسكرة من رحيقها والنوم هاربٌ مني!!... شعرتُ بحركة قرب الباب ثم عطسة خفيفة ناعمة كنعومة صاحبتها ربما بسبب عطري المنتشر في الطابق!!.....نهضتُ من مكاني بسرعة وفتحتُ الباب قبل ان تدقّه وإذ بها مجفلة لمباغتتي لها ووضعت في الحال يديها على عينيها واستدارت بحركة سريعة بعد ان رأتني ببنطال قصير عاري الصدر ويبدو انها استحمت لأن ليلها مبلول ووجهها خالي من مساحيق الزينة وارتدت منامة طويلة خريفية بلون عسلي من الساتان بعد ان استيقظت من نومتها القصيرة!!...تبسّمتُ ابتسامة ثعلبية لبراءتها واتكأتُ بمرفقي على اطار الباب مائلاً بجسدي وهمست :
" لمَ أتيتِ؟!.."

قالت بهمس وظهرها ازائي :
" أتيتُ...لأنني.."

قلت بهدوء :
" اديري وجهك نحوي !.."

هتفت بخجل :
" ارتدي شيئاً .."

اجبتها ببرود:
" لا حاجة ..انا زوجك!.."

ثم مددتُ يدي على كتفها اديرها صوبي برفق فأخفضت رأسها حياءً وقالت:
" بعد أيام سيبدأ الموسم الشتوي للسنة الدراسية.....هل ستمنعني من الذهاب؟!.."

ضحكت بصوت مرتفع قائلاً:
" برَبك هل أتيتِ الساعة الثالثة والنصف بعد منتصف الليل لتساليني عن هذا ؟."

غضنت جبينها ورمقتني بنظرة سريعة ثم اخفضت حدقتيها للأرض وهمست مستنكرة:
" لمَ تضحك؟!...هذا شيء يشغل بالي!.."

قلت كاتماً ضحكتي:
" هل صحوتِ من النوم بسبب هذا؟!...اطمئني على كل حال ...بالطبع ستذهبين وتتابعين دراستك ان شاء الله !.."

أجابت:
" لم اصحُ بسبب هذا!..."

هتفت رافعاً حاجبي بفضول:
" إذاً ؟!.."

سألت بتردد:
" لـ...لمَ افرغت الغرفة من البالونات؟!.."
قلت:
" جمالها في السماء ...اذا بقيت بالغرفة سيذهب غازها وينقلب جمالها الى نفايات عندما تسقط ارضاً مجعّدة ...فقررتُ ان استغلها وهي في اوج عزّها ونضارتها واطلقها واستمتع بها ...لمَ تسألين؟!..."

اجابت بخفوت وحيرة:
" لا شيء!...فقط استغربت من اختفائها ثم تذكرت انك اتيتَ لغرفتي و..وحضنـ...يعني ...لا شيء!...لذا سألت!.."

تنحنحت واستطردت بنفس التردد السابق:
" رأيتُ حُلماً و...و.."

"و...ماذا؟..تابعي.."

تابعت دون النظر لوجهي:
" رأيتُ أنني اقف امام هاوية مظلمة سوداء لا نهاية لها فاختل توازني بغتةً وبدأتُ اصرخ لينقذني أحد !...وبينما أنا اتأرجح ودنوتُ من السقوط لم اشعر كيف ثبتّ مكاني ولم اقع عندما انتشلني صوت من الماضي يتلو عليّ آيات قرآنية تلاها سابقاً بصوت شجيّ حنون بالنبرة ذاتها والمشكلة أنني استيقظتُ وردّدت بعضها بطلاقة كأنني سمعتها في وقتٍ قريب !....قلت...يعني...ممكن ان يكون لديك تفسير لهذا ؟!...ما قولك ؟!.."

رباه...حمداً لله انها لم تكن في كامل وعيها وانا اتلو عليها بنفس النبرة الخافتة ما تيسر من الآيات التي ارددها لبث السكينة من فزع ووجل وما شابه ذلك !....أجبت وهي ما زالت تطأطئ رأسها خجلاً من مظهري :
" لستُ مفسراً للأحلام ...لكن أظن بما انها انتهت على خير ربما تكون رؤيا!!....ممكن ان تكون الهاوية هي ذنوب او فتن الحياة والقرآن والعمل به هو النجاة من الوقوع بهذه الفتن والذنوب !!....ربما رسالة لكِ...والله اعلم!..."

سألت ضائعة:
" لكن لمَ بالذات نفس الصوت الذي اعرفه من الماضي هو من قرأ عليّ وبنفس الآيات وليس قارئ مشهور؟!..."

رددت عليها:
" ممكن ان يكون صاحب الصوت ترك عندك بصمة وعشتِ معه موقفاً ما شبيه لحلمك وبقي في العقل الباطني لذا ربطتيه به !....لا ادري!..."

صمتت برهةً فقلت:
" هل انتهيتِ؟!.."

لم تجبني فشردّتُ قليلاً بحيائها الفاتن وجمالها الساحق ثم اضفت كي لا افعل شيئاً لا يحمد عقباه :
" ان لم يكن هناك شيء آخر اريد ان انام ...تبقّى ساعتان لصلاة الفجر!.."


ظلّت مكانها فهتفتُ بمكر لأحرجها :
" أتريدين الدخول معي الى غرفتي ؟!.."

هزّت رأسها بـ لا فهمست وانا أحاول ان اغلق الباب:
" حسناً ...تصبحين على خير!"

أوقفت اغلاقي للباب بكفها الرقيق وهمست بخجل متلعثمة :
" أشـ..أشعر بالجوع!.."

اجبتها مبتسماً بحنوّ:
" لديك المطبخ في الأسفل وفيه الجمل بما حمل ....تصرفي براحة !.....بالهناء والشفاء !..."

نظرت جانباً هاربة بسماءيها وهمست:
" لا اقصد طعاماً طعاماً !.."

رفعتُ حاجبي وسألت:
" ماذا اذاً؟!.."

اجابت:
" في مثل هذا الوقت أحب تناول البوظة!!.."

يا الهي !...بوظة ونحن على مشارف الشتاء !!...ما هذه الطفلة التي تزوجت؟!...كيف سأتحمل هذه البراءة والعفوية؟!....اللهم صبرني وأمدني بالقوة..!!

تبسّمت وهتفت:
" من اين سآتي لكِ بالبوظة الآن ؟!...لا نُدخلها بيتنا في هذا الفصل !...كلي أي شيء وغداً ان شاء الله سنجلب ما تريدين!..."

عبست ملامحها واستدارت بجسدها النحيل محبطة وسارت خطوتين ببطء وهي هامسة:
" حسناً.."

كيف لخائني المتيّم بها ان يسمح بهذا ؟!...عيب في حقه !...لم يطاوعني قلبي في هذه اللحظة فهتفت لها بلطف:
" انتظري.."
ثم دخلتُ غرفتي ارتدي بلوزتي البيتية واجتزتها نازل السلالم هاتفا:
" هيا اتبعيني!.."

توجهتُ الى المطبخ لأخرج ما احتاج من الثلاجة من حليب ومكعبات ثلج وموز وفراولة ...ثم تناولتُ الخلاط الكهربائي من الخزانة وشرعتُ بتحضير بوظة بيتية وهي جالسة تراقب مندهشة لينقلب السحر على الساحر وأُصبح انا خادمها ...عدّوا معي ما هي المهن التي سأقوم بها من اجل عينيها!...اصبحتُ رجل اعمال لأتزوجها...تحولّت لمربية أطفال لأنيمها .....الآن انا طبّاخ لأطعمها ...وما زال ينتظرنا المزيد من المهن !....فالقائمة لم تنتهي بعد !!....
بينما انا مشغول بتحضير البوظة اولّيها ظهري سموّ الملكة ...لا اعلم من اين استمدّت الجرأة لتسألني بوقاحة :
" يامن..!"

همهمتُ وانا مكاني:
" ها ؟!.."

أكملت:
" هل قبّلـْ..تني من فَـ..ـمي ؟!.."

يا ويلي ويا طول ليلي !!...الشكر لله انها لا ترى وجهي الذي تحوّل لحبة بندورة ناضجة مُحرجاً...ما هذا الامتحان المفاجئ الذي لم ادرس له ؟!......ادّعيت الثقة المصطنعة وأجبت دون الالتفات اليها مع ضحكة ساخرة:
" ما المناسبة ؟!...من اين اتيتِ بهذا ؟!.."

صمتت برهةً..وضعت اناملها على شفتيها ثم ردّت هامسة بضياع وتأنّي:
" لمَ شعرتُ بملمس دافئ .....على فمي .....وكأن... احداً....لمس شَفتيّ وانا نائمة؟!..."

قلت هازئاً:
" ربما هذا كان من ضمن حلمك واختلطت عليك الأشياء.."

يبدو انها اقتنعت لأنها صمتت وكأنها اُحرِجت من ظنّها ولم تفتح الموضوع مجدداً...انهيتُ ما بيدي وسكبتُ لها بكأس زجاجي شفاف كبير وزينته بسائل الشوكولاتة مع قطعة فراولة وغرست قشة عريضة واستدرتُ نحوها بحركة تمثيلية كالنادل وهمست :
" تفضلي سيدتي ...هل من طلباتٍ أخرى ؟!.."

قالت مبتسمة بامتنان:
" سلمت يداك...ألن تأكل ؟!.."

أجبت:
" انا لا آكل في هذا الوقت وخصوصاً هذه الأشياء ..لكن سأجاملك بالقليل.."

سكبت بكأس صغير واخذت ملعقة صغيرة وتناولت معها على مضض جالساً امامها...كانت ترتشف منه رشفة تلو الأخرى بمتعة وهي تطيل النظر في وجهي وكأنه جريدة وتقرأ منها مقالاً مهماً حتى انهت آخر ذرة فيه!!...أهي معجبة ؟!.. ثم قالت بسرور:
" طعمه رائع....يبدو انك ماهر بالمطبخ!.."

رفعتُ بصري اليها وقلت ببرود:
" ارجو ان لا تعتادي على هذا.."

نهضتُ من مكاني واستطردت:
" الآن دورك بتنظيف مخلّفات القصف الذي احدثته!.."

شهقت مستنكرة وقالت:
" ماذا؟!...الآن؟!..اريد ان انام....عندما استيقظ سأنظّف المكان!.."

قلت بهدوء :
" لا نوم قبل التنظيف!...في الصباح سيأتي والديّ لجلب صباحية العروسين ...هل تقبلين لنفسك باستقبالهما في بيتك بهذا الوضع ؟!.."

تأففت بنزق وتمتمت :
" ليتني لم اكن مفجوعة ....لقد وقع على رأسي طلبي الأحمق!!.."

اعدتُ الكرسي مكانها تحت الطاولة وهتفت:
" اقلقتِ نومي...سأنتظر في غرفة العائلة اقرأ ما تيسر من وردي حتى طلوع الفجر وانت باشري بالتنظيف!..."

تركتها وذهبت لوجهتي وبينما انا مسترسل في القراءة وصلتني أصوات الحرب العالمية الثالثة التي تحدث في مطبخ قصرنا....تارةً إناء يسقط والمسكين يتدحرج راقصاً حتى يستقر بمكان لا تصله أيدينا....وبعدها طبق زجاجي يفجر نفسه ليهرب منها متحولاً الى أشلاء على الأرض.!!....يبدو ان زوجته الكأس لم تتحمل فراقه فألقت نفسها خلفه ....مجازر تحدث دون رحمة !!...يا الهي!...قمتُ من مكاني وتوجهت لأرض المعركة خلسةً وبحذر كي لا يسقط سكين على قلبي او طنجرة على رأسي!...اتكأت على الحائط جانب باب المطبخ الواسع اكتّف يدي واشبك ساقيّ مبتسماً على الخرقاء اللذيذة التي امامي وانا أرى الحرب الطاحنة التي تخوضها ومنامتها هرب عسلها بعد ان اجتاحته الكثير من بقع الكلور وهي تقرفص تحاول لملمة ما تستطيع من شهداء الأواني ولما لمحتني قالت بوجهٍ قاتم محرجة:
" اعذرني...سأنظفه الآن...أين المكنسة؟!.."

اشرتُ لها على باب المخزن الخاص بالمطبخ وقلت:
" لا بد انها هناك.."

واستأنفتُ ساخراً لأشاكسها واحرجها:
" على هذا المعدل يجب اقتناء دزّينات من كل نوع بالإضافة لمنامات بديلة للتي تلونيها بالكلور!!.."

قالت بضيق:
" لا تسخر!....هذه المرة الأولى التي ادخل بها المطبخ يعني طبيعي ان احدث كوارث سيد يامن !....راقب بصمت او احضر خادمة!..."

شعرتُ بالانتصار عليها ولم يدم انتصاري عندما هتفت وهي قادمة تحمل المكنسة:
" على الأقل اعترفت أنني سببت دمار ولم انكر او اخجل !....وانت عندما تريد سرقة شيء ولا تريد الاعتراف بذنبك لا تترك اذاً اثراً في مسرح الجريمة !!.."

وتمتمت دون ان اسمعها:
" ايها الكاذب الجبان!!.."
واكملت بتمتمتها :
" انت من اجبرتني على احراجك كما احرجتني!.."

ضيّقت عينيّ غير مستوعب مقصدها وسألت بفضول :
" عن ماذا تتكلمين؟!...لا افهم !.."

مسكت عصا المكنسة تثبتها ارضاً بيدٍ وبشموخ وكبرياء وثقة وحدقتاها برقتا بدهاء عندما قالت بهدوء:
" احمر الشفاه خاصتي ما زال اثره على شفتك السفلى بعد سرقتك قبلة مني من غير اذني!...ام ان هذا ايضاً ضمن حُلمي مع ان الدليل الملموس موجود؟!.."

واستدارت تتابع عملها ببرود واعتزاز بنفسها اما انا تمنيتُ ان تنشق الأرض وتبلعني ...شعرتُ نفسي بحجم النقطة أمامها...اذاً هذا المقال الذي قرأته على وجهي!!....مسحت فمي بظهر كفّي بعنف وبالفعل ذاك الأحمر الشهيّ اللعين ترك بقايا على يدي فتمتمتُ شاتماً بغيظ وانا ادبرُ الى غرفة العائلة هارباً من فضيحتي وجريمتي:
" سحقاً يا احمق يا ملهوف...سحقاً للحُب الذي يدمر الهيبة... انتصرت عليك تلك بأسلحتها الانثوية وبعقلها الذي استهنتَ به !!...اصمد وقاوم ان كان بإمكانك ان تقاوم أسلحة الدمار الشامل أيها الغبي !!....واحد مقابل صفر من ليلتي الأولى والمشوار طويل للكأس !!...أين انت عني يا سيد سليم ؟!....تعال وشاهد ابن محيي الدين الثائر المهزوم امام عينيها والمخدّر من شفتيها...آاه....سحقاً لكِ يا مدمّرتي يا من ستتسببين بدنوّ أجلي !!..."

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

مرّ يومان على زواجنا وكانت الأوضاع بيننا شبه مستقرّة فاليوم الأول امضيناه بالنوم وكذلك زارنا أهلي وفي مسائه صممت خالتي على دعوتنا للعشاء في بيتهما وهكذا المدللة ارتاحت من تحضير الطعام وفي اليوم الثاني هربتُ منها دون ان اخبرها الى العمل كي لا انفرد بها ويزلّني الشيطان ! وعندما عدتُ بدت مستاءة من خروجي لكنها لم تعلّق وانا لم اهتم بالتبرير ودفنتُ نفسي بين مكتبي وغرفتي لأنشغل عنها ولا اضعف !!...كنتُ اتجنب الاحتكاك بها وفي اللحظات التي نتقابل كنتُ ليّناً ورقيقاً بمعاملتي معها !.....ورغم عذابي بسبب توقي واحتياجي لها الا انني اشعر بنشوة وسعادة غير مصدّق انها موجودة بين جدران بيتي ولي وحدي وهذا حالياً وحده يكفيني لأُفرِح سجين اضلاعي !!.....مع بداية اليوم الثالث جاءني اتصال من السيد(ماجد) يخبرني بانعقاد اجتماع طارئ في اليوم التالي ظهراً في معسكرنا على الحدود لإجراء مباحثات بشأن صفقة يترأسها الوغد (عاصي رضا)...لم اعرف ماهيّتها!!....لا بد انها خاصة بالأسلحة !!...ولأني اصبحتُ من القادة الرئيسيين في كتائبنا اختاروني انا لأتولّى احباطها والامساك بتلك العصابة المخرّبة....!!
×
×
×

في الصباح الباكر ليوم سفري جهّزت حقيبتي التي آخذها معي للمعسكر ونزلتُ الى المطبخ فوجدتها تصُفّ أطباق الفطور الخفيف على الطاولة...دخلتُ لها هامساً:
" صباح الخير..."

ردّت بابتسامة دون النظر اليّ :
" صباح النور.."

استقامت بوجهها البشوش تتطلّع عليّ وبسرعة بدّلت ملامحها تقطب جبينها سائلة:
" ما هذه الحقيبة التي بيدك ؟!"

أجبت:
" انا مسافر لعمل طارئ...ربما اعود غداً في الليل او بعد يومين!!.."

رفعت حاجبيها باندهاش هاتفة وهي تشير لنفسها:
" وأنا؟...ماذا سأفعل وحدي؟..."

اشاحت وجهها جانباً واردفت بامتعاض:
" لم أرَ عريساً يذهب لرحلة عمل في أسبوعه الأول!!.."

اعادت وجهها اليّ عندما قلت:
" ألمى!....كلانا نعلم ما بيننا ...لا حاجة لنعيش الدوْر وكأننا بالفعل عروسان !!.."

ابتلعت ريقها وهمست بغصة:
" انت وحدك تعلم ما بيننا...لا تجمع!...ثم انا لا أعيش الدور ومن حقي ان افهم ما يدور حولي"

دنوتُ منها عاطفاً عليها ...وضعتُ الحقيبة ارضاً...مسكتها من كتفيها وهي تنكس رأسها بخيبة وادرتها نحوي...بسبابتي رفعتُ ذقنها الناعم لتنظر اليّ وهمستُ:
" الى أي مدى يمكنك الصبر عليّ؟!..."

حدّقت بي بسماءيها بنظرات ضائعة ثم قالت:
" اعطني سبباً واحداً لأصبر عليك!...ولا تقل لي لأني زوجتك وهذا واجبي !!.."

هل أقول لها لأني متيّم بكِ وأريد الفوز بقلبك؟!...لا يمكنني ذلك!!.....

مسّدتُ وجنتها مبتسماً بحنان وهمست وانا اسرق شكلها بنظراتي العاشقة:
" لأن الصبر مفتاح الفرج!....الا تريدين الفرج؟!.."

رفعت يدها تبعد يدي عن وجنتها واشاحت وجهها هامسة بضيق:
" ليس جواباً مقنعاً..!.."

سألت بهدوء:
" ما المقنع بالنسبة لكِ وما الذي تريدين سماعه؟!..."

ولّتني ظهرها وهمست بكلمات لم اسمعها وكأنها تريد ان افهمها دون النطق بها...غضنتُ جبيني سائلاً:
" ماذا قلتِ؟...لم اسمع!...انظري اليّ وتكلمي!.."

تنحنحت واتكأت بيمناها على الطاولة وجازفت بعد مجاهدة نفسها هامسة وما زال ظهرها امامي:
" لا يذهب ظنك للبعيد عني....انا لا اريد هذا الشيء...لكن يومان وانا افكر بالسبب الذي يجعلنا متباعدين ولا نعيش حياة أي زوجين طبيعيين!!.."

قلت بفضول من خلفها مع ابتسامة ساخرة :
" وماذا استنتجتِ أستاذة ألمى بعد المباحثات القيّمة؟!"

قالت بتردد وصوت مهتز:
" وصلتُ لاحتمالين!....إما انك مخلص لأخرى لذا لا تريد لمسي ولا قربي وستعود اليها عندما تتخلص مني لأنني مهما تناسيت يبقى الواقع انني صفقة لا افهم هدفها !!..."

قاطعتها مستاءً لأجلها:
" احتمال فاشل ...احذفيه من قائمتك ثم انسي أمر الصفقة وهاتي بالآخَر لنرى!.."

ظلّت صامتة تشرد بالأرض امامها ...نظرتُ لساعة يدي وقلت بجدية:
" هيا ألمى ...عليّ الذهاب ...مشواري طويل....هاتي ما عندك!.."

سألت بحذر :
" ألن تغضب ؟!.."

اعطيتها الأمان قائلاً:
" مهما كان لن اغضب!!.."

ببراءتها المهلكة همست :
" اقسم انك لن تثور!.."

تأففتُ هاتفاً:
" ألمى ...هيا لا وقت لديّ!!.."

ثم استطردت:
" قسماً لن اغضب!....هيا ألمى.."

بصوتٍ خافت مرتبك همست حروفها التي جمّدتني:
" الاحتمال الثاني أن...أن...لـ...لديك مشـ...مشكلة....يعني....عـ...عاجز .!!.."

" ماذاا؟؟!!.."

هتفتُ بها مذهولاً فأكدت مرةً أخرى بخجل:
" نـ...ـعم...عاجز ..!.."

وأنا مكاني وخطوة واسعة تفصلنا ..انحنيت بجذعي صوبها امسك يدها المركونة على الطاولة وسحبتها بخفة فاستدارت بحركة دائرية شاهقة وارتطم ظهرها بصدري ومعصمها اسير قبضتي احاوط بطنها بذراعها الذي اشده للخلف ودفنتُ وجهي بين عنقها وشعرها قرب اذنها وجعلتُ انفاسي تحرقها وهمست مغمض العينين وهي مثلي مستسلمة لناري:
" لا تحرضيني ولا تستفزّي رجولتي !!...أتريدين ان اثبت لكِ الآن استنتاجك الفاشل مثل الذي قبله يا حلوة ؟!...لقد لعبتِ في منطقة الخطر !...لا تعيديها ...الّا اذا كنتِ ترغبين بذلك!...اتفقنا يا زوجتي الذكية؟؟."

بكوعها ضربتني على بطني بغلّ من حيائها فحررتها وقالت وهي تنظر اليّ:
" تفكيرك عقيم...قلت لك لا تظن أني اريد ذلك ولا أنام واحلم به !!...لكن علاقتنا كزوجين غير طبيعية ومن حقي ان ابحث عن الأسباب...."

دنوتُ منها فعادت الى الخلف ...اقترب وتبتعد حتى أصبحت الثلاجة خلفها تسد طريقها ...حبستها بين ذراعيّ الممتدتان على الثلاجة وانحنيتُ اقرب وجهي من وجهها وأنفاسي الملتهبة حُباً تلفحها ثم رفعت يدي وبظهر اناملي حسستُ على خدّها وهمست بصوت رجولي رقيق:
" لا ترهقي عقلك الجميل بالتفكير الخاطئ....حافظي عليه من اجل دراستك فقط...أما الأسباب اتركيها للزمن!.."

عدّلتُ وقفتي منتصباً وجذبتها لحضني اعطيها الحنان والأمان ومسّدتُ شعرها هامساً بعد ان قبّلتُ رأسها:
" عليكِ ان تعلمي شيئاً واحداً....أن ما افعله بنا هو لمصلحتنا وخاصةً من اجلك انتِ فقط!....قليل من الصبر ألمى ...فرج الله قادم بإذنه.."

حررتها مبتسماً متأملاً سماءيها بظمأ الغرام وقلت:
" يمكنك الذهاب في الليل الى بيت اهلك لتنامي هناك ريثما أعود!!.."


همست بتيه:
" لكن ماذا سأقول لهم وانا اعتبر عروس تعود اليهم بعد يومين ؟!.."

همست بحُب اطمئنها:
" لا تقلقي...سأتصل بوالدك واخبره فهو اكثر من يفهم طبيعة عملي ."

رمشت بعينيها برضا وسألت مشيرة الى الطاولة:
" الن تتناول فطارك؟!"

قرصتها من خدها وقبّلتُ اصبعيّ اللذين لامساها قائلاً:
" سامحيني....كلي انت صحة وعافية .."

ثم استدرتُ وتناولت حبة زيتون وهمست مع غمزة لها:
" هذه من اجل يديك التي حضّرت السفرة الشهية.."

اردفت وانا أقف باب المطبخ وهتفت من قلبي لمدمّرته:
" استودعك الله الذي لا تضيع ودائعه.."
تبسّمت ببراءة وقبول وهمست:
" مع السلامة...انتبه لنفسك!.."

وخرجتُ بصدرٍ منشرح بعد رؤيتي ابتسامتها ورضاها ومن الآن بدأتُ اشتاق لها ولعينيها ...

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

وصلتُ المعسكر برفقة السيد(ماجد) في ساعات الظهيرة ....مررنا نطمئن على رعايانا وعساكرنا القدامى والجدد ثم اتجهنا الى الغرفة الخاصة بالاجتماعات لنرى نوعية الصفقة التي قدمنا لأجلها...!!.....تبادلنا احاديث عامة وخاصة بأعمالنا بالمعسكر وبعدها بصوته الجدّي الأجش قال وهو يلصق حاجبيه من رداءة ما سينطق به رئيس الجلسة القائد ( زهير رابح ):
" وصلنا منذ أربعة أيام عن آخر أعمال عاصي رضا....صفقة بمنتهى القذارة..."

كنتُ جالساً العب في قلم امامي على الطاولة المستطيلة الكبيرة ولما سمعتُ اسم الوغد رفعتُ حاجبي ناظراً بتأهّب وهتفت بتهكم :
" ما الغريب عليه؟!....اعماله كلها قذرة !!.."

بدأ يشرح لي بشكل مفصّل عن عمله الأخير وبعد نقاشات كثيرة قلت باستحقار:
" اذاً لهذا استطاع بسرعة الوقوف على رجليه مجدداً ذاك اللعين!!...أخذ قرضاً من تجار السوق السوداء لوثوقه بهذه الصفقة الغنية بمئات الآلاف من الدولارات وحاول التستر بصفقات الاستيراد والتصدير!......فليزد من رصيده ذلك النجس عديم الشرف!.."



قال بإصرار القائد ( زهير رابح ) :
" علينا الإمساك بالعصابة لتسليمهم لشرطة الوطن كي يقرّوا عن أسماء زعمائهم ليتم القبض عليهم في الداخل فالسيد سليم الأسمر واللواء جمال والضابط سامي الأنيس هناك في حالة تأهب واستعداد لهذه المهمة !...والسيد سليم صمم عليك لتمسك زمام هذه المهمة بالكامل من هنا !...أرجو ان توفّق بذلك!....هذه اخطر من السلاح والمخدرات!...صفقات تقشعّر لها الأبدان ....نحن نثق بك يا سيادة القائد هادي !.."


وقفتُ ضارباً الطاولة بكفيّ بتحدٍ وعزيمة وهتفت وانا أجز على اسناني بغيظ:
" بإذن الله سنقضي عليهم واحداً واحداً وسنقطع الرأس الكبير في نهاية المطاف مهما عَلا واستكبر.....إما أن اعود رابحاً او لا أعود!..."

كان يجلس جواري السيد (ماجد) فتبسّم وربّت على ظهري بفخر وقال:
" ستعود رابحاً بإذن الله...لم يختر السيد سليم فهدنا الأسود عن عبث "

سألت:
" هل تتبعتم خط سيرهم وأي طرق سيسلكون ؟!.."

أجاب القائد ( عبد الله يونس ) :
" بلال استطاع اختراق هاتف احد السائقين بعد ان حصل عليه من جاسوسنا على الحدود في الداخل وهو الآن يتتبعهم خطوة بخطوة ويتواصل مع عنصرنا شريف العمري هنا......في آخر الليل ان شاء الله ستكون معنا خارطة رحلتهم وأيُّ الطريقين سيدخلون!!.."

هتفت راجياً:
" آمل ان يتخذوا الطريق الشبه جبلية ...فالتصدّي لهم منها وايقافهم أسرع ودون ضحايا منا لسهولة إخفاء عناصرنا ان حدث اشتباك مسلّح !!..."

قال القائد ( زهير رابح ) :
" أتوقع هذا سيكون خيارهم لأنهم سيخرجون من النقطة الشمالية الأقرب للجبل لسهولة المعاملات هناك فأنت تعلم التسيّب والإهمال الذي تعانيه تلك النقطة بسبب انعدام الرقابة من دولتنا العزيزة إن لم يكن هذا متعمداً من أصحاب المناصب في حزب عاصي الذين يعيثون فيها فساداً من اجل مصالحهم الشخصية..."

هتف السيد (ماجد) :
" انهيار الاتفاقية والهدنة أصبح وشيكاً وان لم يسيطر جنود الدولة على الوضع ربما تعود الحرب بسبب مطامع حزب الوغد فبعد ان ضعُف سابقاً بإحباط تلك الصفقة الكبرى بدأوا يتخبطون فيما بينهم ولحماية أنفسهم شرعوا بمهاجمة حزب الثوّار بحماقة ومن غير ادراك وهذا لا يبشّر بالخير...!...والخلاص من هذا كله يكون بالإمساك بالخسيس عاصي رضا فرباط حزبهم كعقد لؤلؤ بخيطٍ مهترئ إن قطعناه وسقطت الحبة الأولى ستتبعها الأخريات بسهولة من غير جهد !!.."

زفرتُ انفاسي هاتفاً:
" إذاً على بركة الله اعزائي..."

انتهى الاجتماع بعد ساعتين وتوجهنا للغرفة الخاصة بالطعام لنتناول وجبة الغداء ثم بعدها اخذ كلّ منا غرفته للاستراحة وفي المساء التقينا لرسم الخطة التي سنسير عليها لإحباط الصفقة...!!
×
×
×

في فجر اليوم التالي نشرنا قواتنا الخاصة بين الأشجار في الطريق الشبه جبليّ بعد ان تأكدنا من خارطة سيرهم.... وكان أشبالنا يتخفّون بأغصان مليئة بالورق ملتصقة بأجسادهم لتمويه الأعداء..!!....
كنتُ انا قائد هذه المجموعة لأوجههم وارشدهم حسب الخطّة التي وضعتها بإحكام.....كنتُ ارتدي لباسنا الأسود الخاص بكتيبة ( الفهد الأسود ) حيث يطرّز اسمها على جهة القلب باللون الأبيض ...وفي وشاحي الليلي اتلثّم ومع دقات الخامسة والنصف فجراً تجهّزنا لتنفيذ الكمين الذي رسمناه بعد ان وصلت شاحنتان كبيرتان مغلقتان الى المنطقة التي حاوطناها من كافة الاتجاهات ...خرج قسم من قواتنا واغلقوا الجهة الأمامية والخلفية بمراكبنا العسكرية رباعية الدفع الضخمة كي نشلّ حركتهم ولا يحاولوا الهروب ...فنحن نسعى قدر الإمكان ان لا يكون خسائر بالأرواح وان هربوا سيكون خيارنا الوحيد اطلاق وابل من الرصاص الحيّ لنقضي عليهم نهائياً لكننا نجاهد لاتخاذ الامكانية الأولى وهي القبض عليهم بسلامة للاستفادة منهم للوصول للرأس الأكبر!!.....تقدّمتُ ورشاشي على ظهري ومسدسي على خصري بخطى واثقة مهيمنة صوب الشاحنة الأولى وبإشارة بإصبعي مع كلمة يتيمة وصوت جهوري آمراً السائق:
" انزل.."

ترجّل منها ينزل سلّمها بركبتين مرتجفتين ذعراً فأشرت الى الخلف بنفس النبرة الصارمة الجهورية:
" افتح الباب الخلفي حالاً.."

حاول التنصّل والهروب مرة ومرتان لكن لصبري حدود مع أولئك الحثالة فما كان مني الّا ان اهديه لكمة بقبضتي المكسوّة بكفوف سوداء واقية باطنها معدنيّ فارتدّ للخلف فاقداً توازنه وبصعوبة ثبّت جسده وانصاع مجبراً ليفتحه ونقاط من الدماء بدأت تسيل من زاوية فمه..!!....لحقتُ به واصبحتُ بين الشاحنتين وقبل ان يفتح الباب سحبت مسدسي بطلاقة واطلقتُ رصاصتي التي لا تضل طريقها بتوفيق من الله في منتصف جبهة مرافق السائق في الشاحنة الأخرى بعد ان لمحته يشهر سلاحه نحوي لأرديه قتيلاً ككلبٍ ضال بلا أصل ولا هوية !!...ثم عدّلت وقفتي بحذر بشكل جانبيّ وعدتُ بنظري منتظراً فتح باب الشاحنة ولمّا رأيت الكم الذي بداخلها تسمّرت مكاني!!....فتيات بمختلف الأعمار كالزهور وصل عددهن بالشاحنة الواحدة ما بين الخمسة وعشرين والثلاثين فتاة منهن الراشدات ومنهن القاصرات!!..منهن متزوجات ومنهن أرامل ومطلقات والأكثر أبكاراً...اقشعّر بدني مما رأيت وبغضب بركاني قبضتُه من تلابيبه صارخاً:
" الى اين تأخذ هؤلاء ؟!.."

أجاب مذعوراً وهو يرتجف بين يديّ:
" لا شأن لي سيدي...تلك الفتيات احضرناهن برضا أولياء امورهن !.."

زمجرتُ هادراً كالرعد:
" كيف برضا اوليائهن ؟؟!..لا تكذب!.."

اخرج ورقة من جيب قميصه بيده المرتعشة وكانت تحتوي على تواقيع اوليائهن ولم تكن مزيّفة بالفعل ولكن هذا بعد اقناعهم بتوظيفهن اما بشركات في هذه الدولة او بالمصانع والحياكة والزراعة والخدمة في البيوت..!!....تلك الحرب اللعينة اعادت اقتصاد بلادنا الام الى سنوات كثيرة للوراء ويلزمها أعواماً وأعواماً حتى تعود وتزدهر...لقد انتشرت البطالة وتضاعف الفقر وهؤلاء البسطاء يحتاجون لكل قرش لتمويل عائلاتهم الكبيرة والغارقون امثالهم يتعلّقون بقشة أمل , فيأتي أولئك حقراء البشر , النجس يقنعونهم بتشغيل بناتهم دون ان يعلمونهم بالحقيقة الوحيدة وهي...استغلالهن من قِبَل رؤساء الأموال بصفقات اقل ما يقال عنها دنيئة وهي التجارة بأجسادهن وبيعهن للنوادي الليلية وبيوت الدعارة وليس هذا فقط !...انما لما يسمّى بزواج المتعة لفترة مؤقتة من الوافدين لهذه البلاد من شتّى بقاع الأرض ففور انتهاء مصالحهم بها, يلقونهن الى الشارع بعد ان تلاعبوا بالدين على مزاجهم وعبثوا بشرف البريئات!!..ومنهن من تصبح اماً ويبقى ابنها من غير نسب يُذكر!!.....فهم يحللون لأنفسهم هذه النوعية من الزيجات والأدهى انهم يجدون من يساندهم من شياطين الانس الذين يرتدون ثوب العفة والوقار والشريعة فمثلهم من يحاولون تشويه الإسلام لكن خسئوا وليموتوا بغيظهم لأن اسمه سيبقى طاهراً مرفوعاً , شامخاً مهما حاولوا وتجبّروا عليه ومها افتروا واختلقوا ما ليس فيه ..!!
بعد ان افرغنا الشاحنتين من الفتيات...تقدّم سائق الشاحنة الأخرى نحوي وهمس بخباثة وغباء يجازف بعمره محاولاً اغوائي ورشوتي :
" انتم تتواجدون بمنطقة مقطوعة كالصحراء القاحلة دون نساء!!....ما رأيك بإطلاق سراحنا مقابل توزيع الفتيات على عناصركم ؟!.....أنت شاب بدمٍ حامٍ ستأخذ واحدة فاتنة وعذراء تبرّد نارك وكل مرة تأخذ عذراء غيرها ولن نخبر أحداً بهذا...اسألني انا جرّبت سابقاً ..متعة لأبعد الحدود!!....ما قولك ؟!.."

اجبته بلكمة اوقَعَته على تراب الطريق وقفزت فوقه اكمل لكماتي وبعد أن اوشكتُ على القضاء عليه ولم اترك مكاناً لم يتورّم بوجهه ...وقفتُ وبحذائي الصلب ضربته على المنطقة الحساسة لأقضي على مستقبله هذا الحيوان النذل كي لا يتبجح مرة أخرى ببطولاته!!..

في صفقاتهم هذه يكون السعر الأغلى للعذراء وان كانت جميلة يرتفع أكثر ...!!..

قبل ان نجري اتصالات مع الطرف الآخر في وطننا لتسليم ضحايا نذالة البشر...اقتربتُ من فتاتين تتشاجران وثالثة تبكي بصمت تبدو ابنة أربعة عشر سنة.....سألت بلطف الباكية :
" ما بكِ اختي ؟!.."

لم ترد عليّ...فوجّهتُ كلامي للمتشاجرتين :
" هيـه!!...انتما ...ما بها تبكي ؟!.."

قالت احداهما :
" تبكي لأنكم افسدتم علينا العمل !!.."

معظمهن لا يعلمن نوعية العمل الذي كان بانتظارهن !!...

سألت بفضول:
" وانتما لمَ تتشاجران ؟!.."

ردت ذاتها :
" لأنها توسلت لهذه ان تجد لها عملاً فوافقت على الفور !!.."

قلت:
" وهل هذا سبب لتتشاجري معها ؟!.."

اجابت باشمئزاز:
" لأنها ستجعلها تعمل بالفاحشة!!..."

نظرتُ الى الأخرى شزراً بعد ان اثيرت حفيظتي مما سمعت وهتفت بصوت قاسي :
" ما الذي اسمعه ؟!...كيف تجرئين على هذا ؟؟....أشكري ربك لإنقاذك من الجحيم الذي كنتِ ستذهبين اليه بدل ان تسعي بنفسك له...."

ضحكت بمياعة ودنت مني ...بدت لي انها ابنة عشرين عام ومن بنات الشوارع....استغفر الله!!....مع اقترابها ابتعدتُ ورفعتُ يدي اوقفها لأضع مسافة بيننا فهمست بدلع مصطنع :
" ما بك أيها الفهد الأسود؟!...انا لا آكل الفهود !...أنا امتع البشر !.."

صرخت عاصفاً بها بعد أن تأججت نيران الغيرة كونها ابنة وطني :
" اصمتي والزمي حدودك وأدبك ...الا تخجلين مما تتفوهين به ؟!...الا تشفقين على اهلك الذين تعبوا لتصلي لهذا العمر ؟!..."

صفقت يديها ببعضهما مع ضحكة قوية ..لكنها كانت ضحكة من أعماق الخذلان والقهر والإكراه ....برقت عيناها بالحقد وامتلأت مقلتاها بالدموع وقالت بصوت جاف مهتز :
" اهلي ؟!..كيف يكون الأهل ؟!..هلّا شرحت لي ؟!.."

قلت بازدراء :
" اهلك الذين انجبوك وربوك ...الذين يحرمون انفسهم ليطعموك ويكسوك !!...أهذا جزاء المعروف ؟!...ان تنكريهم وتشوّهي شرفهم وسمعتهم ؟!.."

صرخت من قاع بطنها ترفع سبابتها بصوتٍ أجش :
" ماذا تعرف لتدافع عنهم ؟!....اخبرني !!.....اهلي من باعوني وزوجوني لرجل يتعاطى المخدرات مع معرفتهم بهذا ليتخلصوا مني وانا ابنة سبعة عشر !!....اهلي الذين كنتُ اهرب اليهم من بطشه وطغيانه متوسلة لهم ليحموني فيخرج لي اخي ويركلني للخارج في الليالي ويتركني لكلاب الشوارع !!....أهؤلاء هم الأهل ؟!...أهذا هو الأخ الذي اتكئ واستند عليه ؟!...وفي ليلة من هذه الليالي بعد ان حرمني اخي من الدخول لبيتهم وجدني شلة شبان وأنا اختبئ عند حاوية نفايات فأخذوني عنوة بعد ان كتموا صوتي !!.....ولو لم يكتموه.!..على من سأنادي وبمن سأستنجد؟!....وضعوني في غرفة مهجورة وتناوبوا على اغتصابي دون رحمة !! وبعد الانتهاء مني القوني في حيّ اهلي ....اولئك اهلي الذين تدافع عنهم !!...مشيتُ الى بيت المسمّى زوجي وانا انزف فعلم أنني تعرضت للاغتصاب....ولأنه صاحب نخوة وستر وغطاء لي كما يقال عن الزوج !....لاحت في باله فكرة تأتيه بالأموال!!....ولم تكُن سوى بيعي للرجال بثمنٍ بخس !....وعندما علم بهذه الصفقات التي ستدرّ عليه الدولارات بعثني اليهم ....بالطبع هذه ليست المرة الأولى لي !!...وعند اول عمل لي هنا في هذه البلاد واستلام أجري....ذهبتُ الى طبيبة لتنزع رحمي !!....كي لا انجب أولاداً لا يعرفون من هم اباءهم ولا انجب أولاداً لهذه الدنيا الظالمة المليئة بالذئاب البشرية....وتقول لي أهلي ؟؟!....ماذا تعرف عن الظلم والاضطهاد ....ماذا تعرف عن ضعف المرأة ؟؟...ماذا تعرف عن الجوع والعراء ؟؟!...ماذا تعرف عن بقايا امرأة تموت في الحياة لم يبقَ بها غير النفس ؟!...لا ماضي جميل اتذكره ولا حاضر آمن اعيشه ولا مستقبل مزهر انتظره ....ماذا تريدون مني ؟!..."

شعرتُ وكأنني اتلقّى لسعات من دبابير هجمت عليّ!!...ماذا سأقول وبماذا سأدافع؟!...كان قلبي يصرخ الماً ودمائي تثور حميّةً عليها ....ان لم يكن الأهل مصدر الحنان والاحتواء والأخ هو السند والأمان لمن تركوا هذا ؟!...اذا لم يكن الزوج الستر والغطاء الى من تلجأ من بعد الله ؟!....يا الله ما هذه الكوارث التي اشاهد والمصائب التي اسمع والمحن التي نعيش ؟!....أهؤلاء بشر بيننا ؟!...ام حيوانات في غابة للوحوش ؟؟!.....ابتلعتُ ريقي وحاولتُ ان اثبت مكاني بقوة وقلت بفضول :
" عشتِ مصائب لا تحتمل ...اعانك الله!!....وبما انك تعلمين حق المعرفة ان هذا ظلم واستبداد وفظاعة....لمَ تحاولين تدمير الاخريات ؟!...اليست هذه انانية ؟!.."


ردّت بغصة تخنقها:
" كانت تبكي وتشتمكم لأنكم حرمتموها من العمل الذي لا تعرف حقيقته !...أتت الى هنا متحمسة لتعمل وتقبض النقود !...اتعلم لماذا ؟!.."

سألت بفضول:
" لماذا ؟!"

اردفت:
" لأن والدها الحنون الذي لا يشبه والدي أصيب في وعكة صحية مؤخراً واتضح انه يلزمه زراعة كبد !!...كبده لا يتناسب مع افراد عائلته !!.....أعلمهم الطبيب بوجود كبد ملائم وان عليهم جمع الأموال من اجل اجرائها ...فشقيقها الشهم ترك مدرسته وبدأ يعمل بالبناء وامها الطيبة تعمل في البيوت وهي أتت الى هنا من اجل العمل بعد ان تركت مدرستها ايضاً !!...هي وشقيقها من الطلاب المتفوقين !!...لكن والدهم اهم بالنسبة لهم لأنه افنى عمره من اجل سعادتهم وكي لا ينقصهم شيئاً رغم وضعه المادي السيء!...عمل ليلاً ونهاراً ليجلب لهم مستلزمات المدارس...اطعمهم من احسن الطعام كي لا يكونوا اقل من غيرهم ولكي لا يكون لهم حجة بتردّي العلامات !!...فبسببكم توسلت لي لأجد لها عملاً لتحصل على المال لعملية ابيها فوافقت , أما تلك لأنها تعلم طبيعة عملي فأهانتني لذا تشاجرنا ....انا اقترحت هذا شفقة عليها أي لمصلحتها لأن والدها يستحق الحياة بخلاف والدي الذي حتى انه لا يستحق الموت.. !!"

تبعثرت حروفي وضاعت الكلمات ...لا يمكنني السؤال ولا حتى الإجابات....كابوساً حقيقياً أعيش...مآسي في وطني يعيشها أبناء ملّتي ....ارشدنا يا رب ...اعنّا على محو الظلم....وحدك قادر يا الله ان تبدل حالنا لأحسن حال !!

كانت هذه حكاية من حكايات أولئك البريئات المضطهدات ....سمعت لأخريات وانا احبس الآهات وبعدها قمنا بالاتصال بشركائنا في الوطن ليستلموا منا الضحايا مع المجرمين وجثة مرافقهم النذل بشكل قانوني من النقطة القريبة....ثم هاتفتُ صديقي بشكل مستعجل :
" سامي!!.."

" اجل هادي!.."

" سأكتب لك بعض العناوين لفتيات ..اريدك الاهتمام بهن بشكل خاص!.."

" كيف؟!.."

" واحدة اسمها نيروز اهتم بأن تسجن زوجها بعد ان تطلّقها منه وقم بتربية والدها وشقيقها بشكل مناسب....كثّر من صفعاتك ولا تحسب العدد!!...وحقق لتصل للأنذال الذين اغتصبوها!!...وجد لها عملاً نظيفاً"

قال مازحاً يخفي قهره واشتعال نخوته:
" يا ويلي !!...لدينا عمل مكثّف!!....وماذا بعد؟!.."

" فتاة أخرى قاصر اسمها براءة ....اسحب من المصرف أجر عملية والدها وارجعها هي وشقيقها للمدرسة وجد عملاً بسيطاً شريفاً لوالدتها يعيشون منه ريثما يتماثل للشفاء الأب!!..."

هتف منتظراً:
" أيوجد شيء آخر؟! .."

اجبت متنهداً:
" حاول قدر الإمكان إيجاد عملاً مقبولاً لأولئك الفتيات جميعهن!...لا نريدهن ان يتخذن طريق الحرام !!....ارجوك صديقي ..انا اثق بك!...ستجد لجميعهن ما يرضي الله....أحمد سيساعدك فهذا من ضمن اختصاصه!!.."

" ابشِر يا صاحبي ....لا شيء مستحيل!.."

انهيت مكالمتي ثم عدتُ للفتاة ( نيروز) وناديتها جانباً فأتت بخطاها المائعة فقلت بجدية وصرامة :
" اعدلي مشيتك اولاً..."

لما وصلتني نظرتُ جانباً وهتفت :
" اعلم ما مررتِ به !....انت ضحية لأناس ظلموك!....لكن بإمكانك ان توقفي الظلم وتبدئي من الصفر!....لا تكوني ضحية نفسك وتندمين يوم لا ينفع الندم .....توبي الى الله ...اغتسلي وانطقي الشهادتين لتشعري كأنك ولدتِ من جديد....تحجبي واسجدي لخالقك ....اطلبي منه العون والثبات...اسأليه العوض في الحياة وبعد الممات....لا تقنطي من رحمة الله !!....ستعودين الى بلدك انسانة أخرى نظيفة....صديقي الضابط سيهتم بشؤونك ويوصلك الى بر الأمان بعيداً عمّن آذوك....سيجد لك عملاً تسترزقين منه.....لكن عديني الّا تعودي لهذه الطريق !....ارجوك...انا اغار عليكِ كأنك شقيقتي...انتِ اختي في الإسلام ولا اريد لك الشقاء في الدنيا والعذاب بالآخرة!!....اضحكي للحياة وستضحك لكِ...تعلّمي القرآن...ساعدي ايتام ..افعلي الخير وستجدين نفسك تحلقين في السماء وكأنك لم تشقي ولم تبكي يوماً..."

مدّت يداها لتمسك يدي تقبّلها بامتنان وهي تبكي متأثرة قائلة:
" اسعدك الله في الدنيا والآخرة ....يا حظ شقيقتك ان كانت لك ويا حظ زوجتك او من ستتزوجك!...فليحفظك الله يا اخي ....الآن شعرت ان لي أخاً ولو لن اراهُ مرةً أخرى!!....صدقني اخي لم اكن هكذا ....انا فطرتي طيبة لكن دمروني!.."

كنتُ قد ابتعدتُ بسرعة قبل ان تلمسني وبعد استماعي لها همست:
" استغفر الله اختي ...لم نفعل شيئاً...هذا اقل الواجب وليتنا منعنا حدوث هذا من قبل لكنه أمر الله وحكمته التي لا نعلمها !!.."


تنهدتُ واردفت:
" حسناً اختاه...عودي الى صديقاتك....اذهبن في أمان الله ....سيوصلكن أصدقائي الثوار !.."

الى اين وصل بنا الحال؟؟...اين الضمير الإنساني؟!...كيف يجعلهم الجشع وحب مال الحرام ان ينسوا ما لديهم من بنات من الممكن ان يُعاقبوا بهن ؟!....لقد كان (عاصي رضا) احد النماذج الرئيسية لمثل هذه القصص!!...لجأ الى هذه الصفقات التي تغدقه بالأموال ليعيد امجاده المزيّفة الواهية غير مدرك للحقيقة وهي امتلاكه ضلعاً قاصراً لا يدري ما تخبئه لها الأيام!!....يكفيه أن يبقى اسمه في المقدمة عسى ان ينال ما صبا اليه دائماً وهو ذاك المنصب الذي يجاهد دوماً بإحراق الأخضر واليابس والميّت والحيّ آملاً بالحصول عليه... !!

انتهى يومي العصيب الكئيب لكن من سيطفئ من صدري النار ويوقف اللهيب ؟!...

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

وصلتُ بيتي في الليلة المصاحبة ليوم المهمة ...لم أرغب بالبقاء هناك...لقد توغّر صدري وكنتُ مصعوقاً مما رأيت وسمعت ...كنتُ كجمرة نار مشتعلة أو حتى حممٍ بركانية ملتهبة!!....لم أتمنى سوى أن اسحق الحقير بيديّ ...ازداد كُرهي وحقدي وهذا أثّر على مزاجي ونفسيتي ...تمنيتُ من الله لأجلها ان لا اجدها أمامي هذه اللحظات كي لا اؤذيها بغضبي فلمجرد رؤيتها ممكن أن تسكب الوقود على ناري إذا لعب الشيطان بعقلي كونها ابنة الوغد ودماؤه مهما بغضت او رفضت تجري في عروقها !!....اشمأززتُ منه وممّا يخصه ....لا اعرف من أي طينة ملوّثة جُبل هذا النجس !!....دخلتُ البيت بشعور مخالف لما خرجتُ منه ....ثلاثة ايام وأنا انجرف وراء عاطفتي لأغرق وأغرق وأتنفس هواها واطوف في سمائها ...كانت تقتلني دون رحمة بعفويتها وفتنتها وانا أحاول الاحتجاب عنها !...كانت تؤلمني بسبب وضعها بيننا...لم تعارض ولم تقاتل ...تستسلم لقدرها وتمشي مع التيّار سامحة له بإلقائها حيث يشاء!!....لا تتمرد ولا تخاصم!!...طيبة القلب ونقية النفس...شفّافة الروح وبوجهٍ بشوش !!.....
كنتُ طول الطريق اضع صورتين أمامي ....هي تنعم بالرفاهية والدلال والاهتمام وهنّ اما اجبرن من اوليائهن او استسلمن بإرادتهن من اجل قرش يوفرنه لعائلاتهن دون معرفة ما كان ينتظرهن من عذاب واغتصاب وهنّ اللواتي يعشن ويمتن ليحافظن على شرفهن الذي لا يمتلكن غيره في هذه دنيا البشر الغير منصفة لهن على عكس قريناتهن بنات عديمي الشرف!!.....ما زال الغضب يسيطر عليّ والضيق يجثم على صدري ....ولجتُ الى المطبخ وبدا البيت ساكناً فلا بد انها في أحضان النجس أما رائحة عطرها اللعين تعبق بالأجواء!!..وضعتُ هاتفي على الطاولة ودنوتُ من آلة صنع القهوة لأتناول فنجاناً يخفف الصداع الذي لازمني في رحلتي !!....اتكأتُ على السطح الرخامي بكفيّ منحني قليلاً من الوهن في جسمي ومن تعبي ....ارتجّ هاتفي الصامت من الرنين فاستدرت لأرى الاتصال الوارد وكان من خالتي (مريم)....لم ارغب بالكلام لكني مضطرٌ للرد كي لا تقلق:
" أجل خالتي؟!.."

" الحمد لله على سلامتك بنيّ.."

" سلّمك الله.."

" اتصلتُ لأتأكد من وصولك للبيت...لقد اتصلت بي زوجتك كثيراً لأنه بالطبع هاتف يامن مغلق وقد قلقت عليك لأنها لا تصل اليك !...سأتصل بها واطمئنها لتعود الى البيت ان شاءت !!.."

هتفت بضيق لا اريدها الآن أمامي:
" لا حاجة خالتي ! .....فلتبقى في قصر العنكبوت!.."

" لا يصح بنيّ....هاتفي لم يصمت ووعدتها عند معرفتي بوصولك سأخبرها بذلك.."

تأففتُ غير راضٍ وقلت:
" خالتي لطفاً....اريد ان استحم وانام لا حاجة لرجوعها في هذا الوقت!!.."

اردت ان احميها من نفسي وغضبي ...أنا أدرى بحالي وردود افعالي عندما يعكّر صفوي !!...

قالت باستسلام:
" حسناً بنيّ فقط سأخبرها انك عدت وسأطلب منها البقاء هناك...ليلة سعيدة !.."

" ولكِ خالتي !.."

استدرتُ عائداً لآلة القهوة وكان ماؤها يغلي ...ضغطت على زر لتُسكب القهوة فأبى أن يعمل!!...لا بد انه تعطل !!...هل حركاتي العدوانية عطّلته ؟!...حاولت وحاولت ومن قهري الباطني صرختُ صرخة زلزلت البيت ودفعتُ بذراعي كل ما أتى امامي وموجود على السطح الرخامي ليكون ضحية اشتعالي وكانت الآلة ضمن القتلى ودمغت من مائها المغلي بقعة على ذراعي تاركة اثراً احمراً مكانها!!...سحبتُ قدميّ بتثاقل ولم استطع الصعود لغرفتي فاتجهتُ الى غرفة العائلة وارتميتُ على الأريكة التي لا تتسع لطولي وإذ بلعنة عطرها تلاحقني فها هي بدأت تحتل زوايا بيتي والأغراض ....مسكتُ المخدة المربعة من تحت رأسي وألقيتها للبعيد لأبعد رائحتها عن محيطي وحاولتُ ان اسرق غفوة تساعدني لأكمل طريقي للأعلى !!....
×
×
×
لم تصبر للصباح بعد ان اعلمتها خالتي بوصولي ومع انها طلبت منها البقاء هناك الّا انها عاندت وأتت فأحضاننا الأخيرة ما زال تأثيرها قائماً عليها !!...ولجت الى المطبخ فشهقت بذهول مما رأت من كوارث ...التفتت بحركة سريعة خارجة منه قلقاً عليّ واتجهت للسلالم وعند اول درجتين لمحت طرفي في الغرفة التي بابها يواجه السلالم....عادت ادراجها قافزة بهلع ولما رأتني مستلقياً على الأريكة اضع ساقاً على الأرض والآخر يجتاز ذراعها من فوق ويداً على جبيني احجب الإضاءة الخارجية للغرفة عني وكانت الأخرى على صدري ...دنت مني بحذر بعد ان اشعلت الضوء...وصلت وجلست القرفصاء ثمّ مدت يدها تهمس بحنان :
" يامن...يامن....هل أنت بخير؟!.."

فتحتُ نصف عين بكسل على همسها وشذى عطرها الذي يعاند ويرفض مفارقتي ...ثواني قليلة حتى استوعبتُ من وأين انا ونهضتُ مفزوعاً قاطباً حاجبيّ ارمقها بنظرات لم تستطع ترجمتها لكنها كانت نفوراً ....تبسّمتْ وهي تقف منتصبة هامسة بصوت مُحب خجول :
" حمداً لله على سلامتك!.."

وبنفس اللحظة مدّت اناملها البيضاء الرقيقة الناعمة وحسست مكان البقعة الحمراء على ذراعي هامسة بألم على حالي:
" يبدو حرق!...هل لديك دهوناً خاصاً له؟!.."

انتفضتُ قائلاً بجفاء:
" لا تلمسيني!!.."

أجفلت وأغلقت قبضتها تعيدها جانب جسدها ورفعت حاجبيها هامسة بتساؤل:
" لماذا؟..هل تؤلمك؟!.."

اشحت وجهي جانباً وانا امسد ذراعي وقلت بغلظة:
" لا تؤلمني!...اذهبي لغرفتك!.."

ابتلعت ريقها وقالت وهي تقترب وتمد يدها مجدداً :
" انها حمراء!...اين علبة الادوية لأبحث عن دهون؟؟!"

نفضت يدها عني وقلت بنبرة حادة جارحة :
" قلت لا تلمسيني....الا تفهمين عربي ؟!...اذهبي لغرفتك وتجنبيني !!.."

عادت للخلف بوجل وتكدّست عيناها بالدموع وقالت بصوت مختنق :
" ما بكَ؟!...ماذا حصل؟!.."

اجبت بقسوة:
" لم يحصل شيء...هكذا انا... مجنون...هل ارتحتِ؟!...الستُ منفصماً؟!..الستُ حائطاً؟!....هذا مزاجي ....اختصري واذهبي لغرفتك !!.."

اجهشت بالبكاء لكنها ظلّت مكانها تحارب بما تمتلك من قوة:
" لمَ تفعل هذا ؟!...ما ذنبي أنا ؟!...ان فشلت في عملك لمَ تخرج هذا عليَ ؟!...لمَ لا تفصل بين أمور عملك وبيتك ؟!...كُن عادلاً وانصفني !....اذهب لمن جعلك تصل لهذا الحال ولا تتقاوى عليّ !!....اذهب واخرج غلّك فيه ولا تجعلني لقمة مدفع عندك!.."

ضحكتُ ساخراً بأسى موجوعاً ونهضت من مكاني...اقتربت منها مسكتُ ذراعها وقلت :
" هل أذهب لمن جعلني في هذا الحال ؟!..أأنتِ متأكدة ؟!.."

حاولت افلات ذراعها وقالت بقوة بينما سماءاها تهطلان الامطار بغزارة :
" أجل اذهب !....ام أن قوتك عليّ ولا تستطيع مواجهته ؟!.."

نفضتُ يدها مكبّلاً بلساني مشلول اليدين مطعون القلب وزجرتها هاتفاً:
" انصرفي الى غرفتك....لا اريد رؤيتك امامي ؟!...لمَ اتيتِ؟!.."

حدّجتني والنيران تشتعل بعينيها ثم ولتني ظهرها بعزم ولكنها لم تتجه صوب السلالم انما الى جهة المدخل وصفعت الباب بقوة خارجة ....فلحقتُ بها على الفور وكانت عند الدرجة الأخيرة للمدخل...مسكتها وقلت :
" اين تذهبين ؟!.."

ردّت:
" لا شأن لك !...الا ترغب بعدم رؤيتي ؟!...سأعود الى بيت أبي الذي يأويني !.."

انتفخت اوداجي وتصرفتُ بهمجية هادراً بها ... لا اريد سيرته:
" قلتُ لك اذهبي لغرفتك لا لبيتكم اللعـ...هيا ادخلي !!.."

زفرتُ انفاسي التي اثقلتني واستغفرتُ ربي من تصرفاتي ..اخفضتُ من حدّتي وقلت بنبرة بين القسوة واللين :
" تعالي معي....قلت لكِ تجنبيني لمَ العناد ؟!!.."

ارخت جسدها وظننتُ انها خضعت لكنها وقفت منتصبة ازائي وهتفت بكبرياء:
" لا اتوسّل منك الحب وكلماته ....ولا العطف ولمساته ....اريد فقط ان تريني ما مكانتي عندك؟...حتى لو انني خارج هامش حياتك لا تتردد وقلها بأعلى صوت....قل لي انتِ لا شيء ..."

اختنق صوتها وعاد يرتعش للبكاء واكملت تواجهني بعينيها المحتقنة :
" قل لي اكرهك...قل لي انت مصيبة وأجبرت على الزواج منك دون رغبة مني...قل لي ارتبطتُ بكِ من اجل صفقة ومع انتهاء المدة والصلاحية ينتهي كل شيء !....حتى لو كان ردك موجعاً سأتحمل ...لا تعتقد اني ضعيفة!...انا واجهتُ الصعب....انا فقدتُ أم....كبرتُ وحيدة....تغرّبتُ طفلة لا سند لي ... ارتبطت دون حب...انا مسيّرة وفق اهوائكم ...لا كيان لي ولا اعتبار!!.....لن تقتلني الحقيقة !!...فقط انطقها......الصمت والاخفاء يخنقاني ويقتلاني..!!.."

الحقيقة؟!...ما هي الحقيقة سوى مشردٌ وجد في عينيك الملجأ...وفي انفاسك الحياة...قلبه أصبح ملك يديك...روحه تعلّقت بروحك....لم يعلم معنى الحب الا معك ...يتمنى ان يلقى حتفه بين شفتيك.... يا مدمّرتي أتسأليني عن الحقيقة ؟!....حقيقتي انا ضحية عشق ووحدكِ المتهمة بقتلي!!...

بقيتُ محدّقاً بها لا اعلم ماذا اجيب؟! وماذا أقول ؟!..وكيف ابرر ؟؟!...كلماتها قطّعت شراييني وضيّقت أنفاسي ومزّقت روحي ....لم استطع الّا قول بصوت شبه ضعيف وأنا أقف امامها بصفتي الثائر المهزوم:
" لا إجابة لديّ !!.."

امالت زاوية فمها بابتسامة ساخرة وعيناها كالجمر وسط الثلوج وغابت السماء من امامي وكله بيدي ثم همستْ بتحدٍ وعجرفة مهددة :
" اذاً لا سلطة لك عليّ...لا تتدخل بي!....لا تقترب مني ولا تلمسني....سأعيش كما كنتُ أعيش من قبلك !....حتى تجد إجابة لسؤالي ما مكانتي عندك؟!....ابحث في موسوعة قلبك وفي الشبكة العنكبوتية في عقلك ...كلمات سهلة بسيطة اجعل لسانك يرددها...* من تكون ألمى بالنسبة لي ؟ *...علّك تجد طرف خيط يرشدك وعندما تخبرني بنتائج بحثك سنرى الى أي اتجاه سنذهب بعلاقتنا المسمومة !!....واقصى ما استطيع تقديمه لك هو ان أحاول التمثيل أمام عائلتينا والناس !....لا بد ان هذا ما تريده مني !...ليروا زوجا اليمامة السعيدين !!...أليس كذلك؟! .."

قلت بعزة نفس وغرور مكابراً كي اداري انهزام فؤادي:
" بلى هو كذلك...خير ما فعلتِ....أحسنتِ!.."

وقبل ان استدير لأدخل مرّت هي من جانبي بشموخ تتجه للمدخل ومع النسمات المعطّرة بعبيرها اغمضت عينيّ استنشقها وكأنني لستُ انا من كنتُ قبل قليل ابعد رائحتها عني !.... ألم اقل مجنون ؟!...قسماً أنا عاشق وعشق حبيبتي العدوّة وعدوّتي الحبيبة هو من اوصلني لدرجة الجنون !!...فهل يحاسب المجانين بما يفعلون ؟!!....
×
×
×

مرّ يومان علينا ونحن على اتفاقنا كلّ منا يعيش حياته بانفراد وحتى الطعام لا نأكله معاً وانا اهرب للشركة كيّ اتلافى الالتقاء بها أما الوغد بعد احباط صفقته حاول التماسك كي لا يفضح نفسه ولم يستسلم لأن اعوانه اعلموه بإصلاح الوضع خلال يومين وحتى لم يُنشر خبر الصفقة بصحيفة السيدة ( ايمان ) لأن السيد (ماجد) لم يخبرها بكافة المعلومات فالتحقيقات في الوطن ما زالت جارية وعلى حسبها سيكون النشر قريباً!!......كنت في اليوم التالي في شركتي وهو اليوم الأول لها بالجامعة وفي تمام الساعة الثانية بينما كنتُ في اجتماع مصغّر مغلق وردني اتصال من هاتفها وصراحةً توجستُ خيفة !!..ترددتُ قليلاً أرد ام لا ؟!...غروري المساند لعقلي يمنعني من الرد كي لا تظن اني ملهوف عليها وعشقي المساند لقلبي يدفعني للرد غير آبه لكرامته !!...رجحت كفّة قلبي فمسكتُ هاتفي وهو يرن بتواصل وإصرار لا يصمت واتخذتُ زاوية في مكتبي بعد ان استأذنتُ الحاضرين وهمست بجدية وكأنني غير مشتاق :
" أجل ؟!...ماذا تريدين بسرعة انا باجتماع ؟!.."

وصلني الصوت الباكي بذعر والذي لم يكُن سوى لصديقتها (ميار) هاتفة بتلعثم:
" سـ..يد يامن...الحق ألمى ....خـ...ـطفها رجال وألقوا حقيبتها !!.."
وصلني الصوت الباكي بذعر والذي لم يكُن سوى لصديقتها (ميار) هاتفة بتلعثم:
" سـ..يد يامن...الحق ألمى ....خـ...ـطفها رجال وألقوا حقيبتها !!.."

كطلقات الرصاص انصبت الكلمات في اذني!!..... لا اعلم كيف استدرت واستعجلت اسحب مفاتيحي عن الطاولة دون أن انطق باي اعتذار من الموجودين في الاجتماع....توجهتُ الى مدخل الشركة مسرعاً فشركتنا من طابق واحد أرضي ولا معوقات امامي من سلالم ومصاعد وهذا أروع ما فيها !!...لم يأخذ معي الأمر ثلاث دقائق حتى وصلتُ موقف سيارات الشركة الموجود امامها مباشرة وما زالت الباكية على الهاتف تواصل شهقاتها المذعورة بعد ان طلبتُ منها ان تنتظرني حيث كانت في شارع الجامعة !!...ليتني املك طائرة في هذه اللحظة !!...ليتني جعلتُ من نفسي حارسها الشخصي !!...ليتني لم اجرحها ولم ابكيها !!.... وليتني ....لم أحبها لهذه الدرجة !!......سيارتي السماوية انطلقت في مهب الريح لتبحث عن سمائي !! وقلبي يخفق بشدة مرعوباً من حقيقة واحدة .....أن يخسرها!!....أي أنجاس تجرؤوا على لمسها ؟!...أي انذال كتبوا نهايتهم بأيديهم؟؟!.....زوجتي حبيبتي لم استطع حمايتها ؟!...مَن حميتها من نفسي المعذبة العاشقة عندما كانت بقربي كوريدي الا أتمكن من حمايتها من حثالة البشر الذين استطيع سحقهم تحت حذائي كالذبابة الجريحة ؟!...لكن من ألوم ؟! ...من؟؟!...ووالدها أساس البلاء والشقاء ...ها هي ابنته تتلقى نتائج قُبح اعماله !!.....هل ستتأذى ؟!....لا ...ارجوك يا رب الطف بها واحفظها ...أنفاسي تستودعها عندك يا من لا تضيع ودائعك.....هي امانتك يا الله ...ردّها اليّ كي تقرّ عيني ولا أحزن !!...لا تعاقبني بذنب الوغد....كُن الحامي لها والسند..!!
حاربتُ بغضبي من وقف أمامي...اريدهم ان يخلوا الطريق علّني أصل الى محبوبتي ...اجتاز هذا وذاك ...لا يفقهون شيئاً عن هذا المصارع الذي واجهوه ....ألا يدرون أنني انا العاشق المجنون ؟!.....
قسماً برب الكعبة ان فقدتها لن اسمح للذي خانني من اجلها ان ينبض نبضة حب لغيرها .....نبضاتي ملك لحوريتي وروحي لن تعشق سواها ......سأحرق مَن كان السبب ومن وضع النتيجة إن قتلوها أو آذوها !!.....تمالكي يا مليكة قلبي ...إن لم أقلّب تراب أرضي لأراك ولم أزجر السحب عن سمائك لتريني لن استحق ذاك اللجوء....سآتي فداءً لعينيكِ......فانتظريني!!....
وصلت باب جامعتها حيث تقف صديقتها ...على ظهرها حقيبتها وحقيبة حبيبتي تحتضنها بذراعيها ووجهها يعتريه الوجوم...ترجّلت من سيارتي تاركاً الباب مفتوحاً وركضت نحوها منفعلاً وسائلاً اريد سماع كل الإجابات بأقل من ثانية:
" ما نوع السيارة وما لونها ؟!..هل رأيت نمرتها ؟؟!...كم كانوا ؟!...كيف أخذوها ؟!...اي اتجاه انصرفوا ؟!..هيا اجبيني !!.."

أجابت بشفتيها المرتجفتين ووجهها الشاحب وهي تكمش جسدها تشد على الحقيبة:
" سيارة (...) فاخرة جديدة لونها أسود وزجاجها اسود ...لم استطع رؤية من بداخلها ....."

مدت يدها الممسكة بهاتفها وتابعت وهي تريني ما سجّلت عليه :
" استطعت تسجيل اول ثلاثة ارقام فقط من السيارة لكنها غريبة تابعة لدولة (...).."

تقصد دولتنا الأم....!!
وأشارت للاتجاه الذي ذهبوا اليه.....

قلت بغيظ :
" كيف اخذوها من بينكم بسهولة ؟!.."

اجابت:
" عندما اخذوها كان جميع الطلبة قد اختفوا عائدين الى بيتهم !!.."

سألت بضيق :
" وأنتما ما تفعلان لهذا الوقت ومحاضراتكما تنتهي في الواحدة ؟!.."

طأطأت رأسها وأجابت بتردد:
" كانت ألمى حزينة وحتى انها..."

" انها ماذا؟..انطقي!.."

هتفتُ بجدية فأردفتْ :
" قالت لي انها تشعر بشيء يخنقها , يضغط على صدرها ولا ترغب بالعودة الى البيت !!.."

من غيري الحائط الذي يضغط على صدرها ويخنقها ؟!...حبيبتي لا ترغب برؤيتي ولا رؤية بيتي !!..


شددتُ فكيّ بغيظ وتمتمت:
" أحمق!."

وأضفت سائلاً بقلق:
" هل خدّروها ام ماذا ؟!.."

اجابت :
" كلا...جاء رجل طويل القامة أقرع وغير ملتحٍ ...يضع حلق في احدى اذنيه ويرتدي جينز اسود وبلوزة سوداء ومعطف خريفي بذات اللون يخفي تحته مسدسه ...اقترب منا بهدوء ووجّه كلامه اليها قائلاً وهو يكشف عن سلاحه بحذر * تعالي معي من غير شوشرة لنستضيفك عندنا ايتها الفاتنة ريثما يأتي والدك او ستخسرينه *..ذعرت من رؤية المسدس ومن تهديدها بوالدها فانصاعت معه دون تردد وعندما اقتربت لمنعها دفعني بخفة وهددني كي لا اخرج صوتاً وأخذ حقيبتها منها وألقاها ارضاً..."

" السافل!!.....هيا تعالي معي من فضلك...سنذهب لوالدها .."

قلتها بغلّ واستدرتُ بسرعة وانا اسحب حقيبة (ألمى) من يدها واسبقها لسيارتي....ركبت معي وانطلقتُ بها ثم ضغطت على اسم الوغد لأعرف عن مكان تواجده....
" سيد عاصي اين انت؟!.."

ردّ باستغراب :
" خير؟!...في الشركة!..."

قلت باقتضاب:
" حسناً ...انتظرني لا تبرح مكانك!!.."

انهيت المكالمة متخذاً وجهتي وبعد مرور ربع ساعة كنت أمام شركته...ترجلنا أنا و(ميار) ...كنتُ سريع الخطى وهي بخطى متهالكة بسبب ما مرّت به ..!!...صعدنا المصعد ونزلنا في طابقه اللعين....أعلم انه السبب بكل هذا !!...لكن لا استطيع مهاجمته ....لا اريد أن أشتّ عن مهمتي الأساسية وأن ادخل في متشعبات كثيرة ...عليّ التروّي بهذه المسألة ...ان هاجمته سيحاول الانكار وسيأبى ان يدلي بمعلوماته بعجرفة فهو لا يحب ان يُشعِر أحد باحتياجه للمساعدة وكذلك الوضع هنا حسّاس وحرج.....إنهم زعماء المافيا وعصابة السوق السوداء...لا مزاح ولا تفاهم معهم!!...لا يسامحون أحداً بأموالهم ويفعلون المستحيل ليستردوها وأنا لن أجازف بألمتي بالطبع ومُجبر على أن أتحمل نجاسته لنتعاون في انقاذها فأنا احتاج لكل ثانية من وقتي ولا يمكنني اهداره عبثاً..!!
وصلنا مكتبه وفتحت بابه بوجهٍ ساخط دون استئذان تحت استهجان سكرتيرته ...دلفنا ووقفتُ أمامه وسط جموده من تصرفي ومحاولته المحافظة على هدوئه منتظراً لألقي ما في جعبتي !!...القيت حقيبة ابنته أمامه وألقيتُ معها جملتي :
" تفضل...حقيبة ابنتك الغالية!!.."

ضيّق عينيه ومدّ يده يلمسها لا يفقه شيئاً فأردفت بحنق ونبرة مشمئزة:
" خُطِفت ألمى...سيد...عاصي"

وقف مصروعاً كمن مسّه تياراً كهربائياً هاتفاً بصدمة:
" ماذا تقوول ؟؟.."

تطلعتُ على المرتجفة جانبي وأشرت لها قائلاً:
" اخبريه بسرعة ما رأيت وما سمعتِ.."

بعد ان اخبرته بكل شيء...القى جسده للخلف على كرسيه الفاخر وتمتم بغيظ يجزّ على اسنانه :
" الأوغاد لم يعطوني الفرصة اذاً.."

وسرعان ما حاول تبديل نبرته ليذنّبني معه قائلاً:
" ابنتي تسعة عشر سنة وهي في حمايتي ....لم يستطع ان يقترب منها أحد .....اتعلم لماذا ؟!.."

قلت قاطباً حاجبي وبصوت جاف :
" لماذا ؟!.."

أجاب بجفاء معاتباً :
" لأني لم اغفل عنها يوماً...منذ صغرها والحرّاس بشكل رسمي يرافقونها أما عندما كبرت وبدت تظهر انزعاجها كنتُ ابعث وراءها حارسين بالخفية دون ان تدركهما !!...لم يجرؤ أحد على مس شعرة منها !!...وأنت سيد يامن ؟!...رجل أعمال ابن رجل أعمال ولا بد أن لك أعداء ....كيف تسمح بخروجها دون اتخاذ وسائل الأمان لها ؟!...هي زوجتك وابنتي والأنذال يترصدون لنا !!....كيف تغفل عن هذا ؟!..ظننت ان شيئاً مثل هذا لا يفوتك.."

قلت بضيق ونبرة حادة :
" لا وقت لديّ للنقاشات والعتاب والبحث عن الأسباب !!...أريد زوجتي الآن !!...ستتصل بهم وتفهم ما يريدون حالاً!!....لن انتظر أكثر من ذلك !....أخشى أن يأخذونها الى دولتنا الأم..."

نظرتُ لصديقتها ثم طلبتُ منه وانا أحاول ان اخفي تقاسيم وجهي الباغضة له :
" لو سمحت....اطلب من سائقك ان يوصل الانسة ميار لبيتها ..!"

قالت بحياء:
" لا حاجة سيد يامن...سأستقل سيارة أجرة!!.."

أشرت لها بالجلوس على الأريكة خلفها وهمست بلطف:
" آنسة ميار...تفضلي اجلسي حتى نرى السائق ...هو من سيوصلك لا جدال !!.."

انصاعت محرجة فضغط الوغد على زر لتدخل سكرتيرته وطلب منها الاتصال بالسائق وبعد خمس دقائق نادت عليها لتذهب اليه حيث ينتظرها عند مدخل الشركة !!...استأذنتنا بأدب فشكرتها وعدتُ لأتابع حديثي معه هاتفاً:
" اعطني الرقم خاصتهم الذي بحوزتك..!!.."

قال بتردد وشبه انكسار واضحاً لي :
" الزعيم يجدد ارقامه بنفس اليوم !!....لكن اتصل بي من يومين المرسال خاصته ....ورقمه ما زال معي!!....سنجرب!.."

قلت بعجلة وسعير النار يحرقني:
" هيّا استعجل...سيخرجونها من هذه البلاد ونحن مكاننا...لقد كانت وجهتهم الشارع الشمالي الذي يتجه للشارع السريع نحو الحدود !!.."

ردّ بنبرة فيها الثقة:
" لن يخرجوها !....سيارتهم هذه يدخلون ويخرجون بها عن النقطة بشكل قانوني ...لن يخاطروا وهي معهم !!...كل حركة لهم محسوبة ودقيقة!!.."

اقف أمام الثعلب الماكر الذي لا يخطو خطوة دون حساب أبعادها !!....كدتُ أصفق له !!...يحفظ تاريخ حياتهم ويهتم بتحركاتهم... !!...

حاول الاتصال برقم المرسال فتبسم ناظراً اليّ:
" ها هو يرن!.."

عبست ملامحه ووضع الهاتف بخيبة على الطاولة هامساً:
" انتهى الرنين ولم يردّ..!.."

وقبل أن أنطق كلمة علا هاتفه بالرنين بعد ان عاود ذاك الاتصال فردّ في الحال وهو يضغط على مكبر الصوت وقال بغضب :
" أيها النذل الحقير ...كيف تتجرأ على خطف ابنتي ؟!.."

ضحك باستفزاز وأجاب ببرود:
" سيد عاصي ..لا تتبجح وأنت من تحتاجنا !...اعتبر تلك الدمية ضيفة عندنا الى حين جلب أموالنا..."

كنت اصغي وانا اجزّ على اسناني بغيظ وعند نعتها بالدمية هدرت هاتفاً:
" اصمت يا سافل واعطني زوجتي اكلمها ...!.."

بنفس الأسلوب المستفز أجاب:
" اووه انا اسف ...لم اعلم ان زوجها يسمعني !....على كل حال اطمئن ها هي جواري مرتاحة في نومتها بعد التخدير وستنتظر معنا حتى يأتي منقذها البطل السيد الوزير ويدفع دينه ...!.."

ثورة تحدث داخلي خوفاً وغيرةً عليها كونها بين رجال نجس ولا اعلم كيف ينظرون اليها لكني تمالكتُ اعصابي كي اسايرهم قائلاً بثبات:
" ما هو المبلغ الذي تريدون ؟!....أنا سأجلبه حالاً بنفسي..."

قال بسخرية ودناءة :
" كان في البداية ستمائة الف دولار وبعد أن أخلّ بموعده أصبح سبعمائة وخمسون ألف دولار ....لكن بما أنه دخل على الخط بيننا ابن رجل الأعمال الشهير السيد إبراهيم الهاشمي سنترك القرار للزعيم بالمبلغ الذي يريده !!...انتظروا اتصالنا !..."

هتفت بسرعة:
" لحظة لا تغلق.....خذ رقمي لنتواصل!.."

قال مع تهديد مبطّن :
" ابعثه برسالة نصية من هاتف حماك .....وقبل ان ترهق نفسك سأخبرك بأن ترتاح ولا تحاول تتبعي من الهاتف لأنه طراز قديم أما بالنسبة للشرطة فلا بد انك ذكي كفاية حتى لا تدخلها بيننا فأنت في النهاية تحتاج عروسك التي ما زال نقش الحنّاء على يدها ..أليس كذلك؟!.."

أجبت بهدوء مع ان العواصف تجتاحني:
" بالطبع لن ادخل الشرطة...ليس ابن إبراهيم من يترك ثغرة للإعلام ليشهروا به وبحياته الخاصة يا سيد!......ما اسمك ؟..لا احب ان اتواصل مع شخص مجهول!.. "

أجاب ببرود:
" الجوكر...يكفيك هذا!.."

أغلق الخط ..بعثنا رقمي له وبدأت أجول في غرفة الوغد متوتراً ...افكر وافكر ثم سألت:
" ما المبلغ الذي بحوزتك الآن ؟!.."

قال:
" في الشركة مئتي الف دولار وفي البيت مئة وخمسون الفاً أما باقي اموالي في المصرف لكنني لا استطيع سحب دولاراً واحداً منه لمدة شهر ..!"

تطلعت عليه بلا مغزى ثم قلت :
" انا ذاهب الآن ...ان وصلك أي شيء اعلمني بالحال وان اتصل بك غير الجوكر اعطه رقمي ليتواصل معي !!...."

ثم وليته ظهري مدبراً من غير سلام !...

×
×
×

استقليتُ سيارتي وقصدتُ شركتنا لأخبر ابي (إبراهيم ) بالموضوع فوجدت هناك السيد (ماجد) صدفةً وبعد التحية مع وجهي المتجهم قال أبي (إبراهيم):
" ما بك بنيّ؟!...اخبروني انك خرجت من الاجتماع عاصفاً واتصلت بك ولم ترد!!....وجهك مكفهر!!....اجلس واخبرنا لنرى !.."

نظرتُ للجالس وترددت ...وضعتُ يدي على خصري والأخرى مسكتُ جبيني ناظراً لإحدى الزوايا لأتخذ قراري ..اخبره ام لا ؟!...فأنا لم أرد ان اشرك احداً بالأمر وخصوصاً مَن يعارضوا اهتمامي بها وهما السيد (ماجد) والسيد (سليم) لكني ما زلت احتاج للثواني فقلت بعد أن خطفتُ نظرة سريعة اليه ثم ثبتّ بصري على أبي :
" خُطفت ألمى من قِبَل رجال العصابات بسبب النجس ولن يحررونها الّا بعد دفع دينه !!.."

تحرّك الجالس باستعداد مستخدماً كافة حواسه وهو يراقب كلامي اما ابي (إبراهيم) قال مصدوماً:
" يا للمصيبة!....مسكينة !....ما العمل الآن ؟....وكم هو دينه ؟!.."

أجبت محاولاً التظاهر باللا مبالاة امام الآخر:
" سبعمائة وخمسون الف دولار !!....وليست هنا المشكلة !.."

ركّزا الاثنين بإصغاء تام بينما قال أبي :
" أيوجد مشكلة أكبر من هذه ايضاً ؟!"

قلت بخجل منه مع قلق شديد عليها :
" عندما تحدثت مع السافل الذي خطفها يبدو انه طمع بالمزيد كوني ابنك وسيخبر زعيمه ليقرر ما هو المبلغ النهائي وهذا ما اخشاه !!...لا اعلم الى اين سيصل جشعهم لاستغلالنا !....أخشى ان يكون فوق طاقتي فأنت تعلم صلاحيتنا في اليوم محددة بالنسبة لكمية سحب الأموال من المصرف غير انه في هذا اليوم يغلق باكراً وعلى جثتي لن اتركها تنام ليلة بينهم !.."

تدخّل الصامت قائلاً:
" والنجس ما وظيفته ؟!...لمَ لا تتركه يكسر دماغه ويبيع نفسه لينقذها ؟!.."

رمقته بنظرات حانقة وقبل الرد عليه قال على الفور مَن فهم مقصدي وهو أبي الروحي:
" اطمئن بنيّ...لا يهمك شيء وأنا موجود بإذن الله .....اعلمني بالمبلغ الذي تريده عند معرفتك به لأعطيك إياه ! .."

نظرتُ له بامتنان وتبسّمتُ هاتفاً:
" ربي يحفظك لي ....هذا ديني وسأعيده لك ان شاء الله!.."

تبدّلت تقاسيم وجهه للاستياء وقال :
" ما هذا الكلام يامن ؟!...لا تكرره !....أنت ابني... أفهمت ؟!...مالي كله فداكَ....أنت اكثر من تعلم انك وخالتك اصبحتما كل حياتي !...لا تزعلني منك!.."

استدرتُ حيثُ يجلس وانحنيت أقبّل جبينه هامساً:
" كم انا محظوظ ...رزقني الله والدين ...واحداً أنجبني وربّاني رحمه الله وآخراً كفلني وساندني وآواني ...أطال الله بعمرك ومدّه بالصالحات أبي.. !.."

ربّت على ذراعي بحنوٍ وقال :
" أنت ستلتقي بهم أم ستسلّم المبلغ للوغد وهو بدوره سيعيدها؟!.."

أجبت في الحال:
" أنا طبعاً ان شاء الله........لن أثق به حتى لو كانت ابنته لأنني لا أظنه يمتلك القوة الكافية لحمايتها!!...فممكن ان يضعوا له كميناً ويأخذوا المال دون تحريرها..."

صمتّ برهةً ..ابتعلتُ ريقي وتابعت:
" أنت تعلم...اولئك نجس سفلة لن نثق بنواياهم.. خصوصاً....أنها....يعني....جميلة ! .."

احتلتني وساوس كثيرة ...اقلق عليها ودمائي تغلي !..أخشى مضايقتها والتحرّش بها ...رجل شريف لن يصمد أمام حُسنها وفتنتها وكيف بالحثالة الذين لا يمتلكون ذرة دين او ضمير؟!....حماها الله لي وأعادها سالمة الى حضني ....!!

سعل يجلي صوته السيد (ماجد) ثم قال بجدّية قاطباً حاجبيه :
" لن تذهب وحدك!.."

رفعتُ حاجبي وقلت باستنكار:
" عفوا؟!!......انا لن اخاطر بها !...هم ليسوا اغبياء وسيكونون متيقظين لكل حركة عند اللقاء وسيعلمون إن كان معي أحد !.."

ازدادت جديته وبدا على وجهه عدم الرضا وقال بصرامة وهو يخرج هاتفه :
" لنتصل بسليم ونسمع رأيه ...!"

اقتربتُ منه وهتفت بغيظ وانا اسحب هاتفه من يده :
" ما دخل السيد سليم الآن ؟!...ها اخبرني ؟!...استطيع ان اقرر عن نفسي انا لست طفلاً امامكم وهذا الشيء لا يخص مهماتكم !!.."

رسم ابتسامة مع ان داخله مقهور وهتف:
" أنت استلمت مهمة كبيرة...وافقت عليها ولم تعارض اذاً عليك ان تتمها للآخر بعد مشيئة الله ....عليك ان تحافظ على نفسك قدر الإمكان ...انت لن تخاطر بها ونحن لن نخاطر بك !....."

ضرب قبضته بذراع اريكته واخفض رأسه للأرض وتمتم من بين اسنانه:
" هذا ما خشيناه..."

قلت بانزعاج :
" ما الذي خشيتموه ؟!"

حدّق بي بتحدٍ وقال :
" أن تقع بحبها!....هل تنكر ان هذا جعلك تتصرف بتهور دون ان تفكر بعواقب قراراتك ؟!..."

علا صوته واستطرد:
" ها أنت تريد الذهاب وحدك وهذا ما لن نسمح به !...إما توافق على التعاون معنا لنحميك من بعد الله ..او..."

هتفت بنبرة حادة:
" او ماذا ؟!.."

" أو تتنحى عن مهمتك الكبيرة ولنرى غيرك يقوم بها !.."

قالها ببرود ليستفزني واشاح وجهه يميناً حيث يجلس ابي (إبراهيم) وعند فتحي لفمي لأتحدث قاطعني الأخير هاتفاً بصرامة :
" ماجد معه حق !...لن تذهب وحدك ..المسألة ليست فقط مهمتك تلك إنما لن نلقي بك الى التهلكة ونجلس نتفرج بنيّ...حماك الله.......سنرى ما يقترح علينا سليم !...اجلس بهدوء ولنتصرف بحكمة ......سنتصل به الآن ريثما يتصلوا بك السفلة..!"

جلستُ أمام السيد (ماجد) على الأريكة الأخرى ووضعت هاتفه امامه ثم همست بعدم رضا:
" تفضلا....اتصلا به....لكن اعلما ...ان حاول منعي كلياً.. لن استمع لأحد وسأتصرف بنفسي !.."

اتصل السيد (ماجد) به وبعد لحظات رد مع التحيات وأعلمه اننا نجتمع معاً .....يبدو كي يأخذ حذره الموجود في الطرف الآخر ولا يشتمني براحة !!...وبالطبع لم يتوانَ عن إخباره بالقصة كاملة لأتفاجأ برد السيد (سليم) الهادئ هامساً:
" هادي محق!...دائماً ضع نصب عينيك ان عدوك اذكى منك ولديه إمكانيات اقوى....لكن هذا لا يعني الاستسلام او التهوّر .....لذا عليكم تجهيز مجموعة من اصدقائكم الثوار بملابس مدنية لحمايته..."

</