📌 روايات متفرقة

رواية لاجئ في سمائها الفصل الثالث 3 بقلم الحان الربيع

رواية لاجئ في سمائها الفصل الثالث 3 بقلم الحان الربيع

رواية لاجئ في سمائها الفصل الثالث 3 هى رواية من اجمل الروايات الرومانسية السعودية رواية لاجئ في سمائها الفصل الثالث 3 صدر لاول مرة على موقع التواصل الاجتماعى فيسبوك رواية لاجئ في سمائها الفصل الثالث 3 حقق تفاعل كبير على الفيسبوك لذلك سنعرض لكم رواية لاجئ في سمائها الفصل الثالث 3

رواية لاجئ في سمائها بقلم الحان الربيع

رواية لاجئ في سمائها الفصل الثالث 3

تجلس على طرف السرير المكسو بغطائه الصوفيّ المُحاك حياكة يدوية بلونه الكموني تلوح بساقها بالهواء بينما تراقب بسماءيها حركة خالتها بضجر وهي تعيد توضيب خزانتها بعد أن كانت منهمكة منذ الصباح بتعزيل ملابسها التي تنوي التنازل عنها للمحتاجين فتأففت قائلة:
" يا الله يا خالتي....لقد استغرقتِ وقتاً طويلاً بهذا....كنتُ أودّ أن نذهب لنتناول مشروباً ساخناً بإحدى المقاهي بعيداً عن الأفعى حتى يعود أبي من عمله !!.."

دون أن تنظر اليها وضعت آخر قطعة بكيس بشكل مُرتب بعد أن عطّرتها برائحة طيّبة كسابقاتها اقتداءً بالسيدة عائشة رضي الله عنها عندما كانت تعطّر الدراهم قبل التبرّع بها وأجابت بهدوء مع ابتسامتها الحنونة التي لا تفارقها عندما تكون صغيرتها في محيطها :
" اجلسي بصمت يا مشاكسة ...هذا بدلاً من ان تساعديني !!.."

" آه خالتي أنت تعلمين كم أنني أكره ترتيب الأشياء فلولا أن يامن حرمني من وجود الخادمات أول زواجنا لكنتُ الى الآن لا أرتب سريري .....لقد حاصرني ووضعني تحت الأمر الواقع !!.."

" من واجبي أن اشكره إذاً ويا حبذا لو انه يربيكِ من البداية بما لم استطع أنا فعله.."

أجابت وهي تزمّ شفتيها بعبوس طفولي:
" خالتي لمَ أشعُر أنه خطف حبك لي مني ؟!.."

هزّت رأسها وابتسامتها ترافقها وقالت:
" هل تغارين من زوجك ايتها الشقية ؟...يجب أن تفرحي لأنه حصل على حب خالتك بل تفخرين بذلك !!...ليس كل صهر ونسيب يكون محبوباً عند أهل زوجته ..!!"

لم تُجب بل شردت قليلاً بالموضوع الذي ستفتحه مع والدها حال عودته من عمله بعدما ذكرت أمامها أن يكون الصهر محبوباً عند أهل الزوجة....!!.."

" أين شردتِ صغيرتي ؟؟!.."

" أنا معك خالتي !!.."

ردت عليها ثم وقفت تتمطّى في مكانها ....ألقت نظرة على ملابس خالتها المرتبة بشكل أنيق بينما كانت تزلف نحو النافذة ....ابعدت الستارة قليلاً ونظرت الى الأمطار الخفيفة ثم أعادت عينيها لخالتها وهي تقول:
" خالتي أنت فنانة في ترتيب الملابس وكأنك تعملين في أحد المحلات الراقية ...اعملي حسابك فور عودتك من ألمانيا أن تزوريني لترتبي لي ملابسي ...أخشى أن يفتح زوجي يوماً الخزانة وتنهال عليه ملابسي وأفضح....عليه أن يرتدي خوذة على رأسه قبل فتحها!!..."

تنهدت واضافت:
"..آه لو أنك رأيتِ النظام في خزانته....قسماً منظمة أكثر من حياتي !!...كيف لرجل أن يكون بهذا الترتيب والعناية بأغراضه الخاصة؟!.....لولا العيب لطلبتُ منه أن يرتب ملابسي !! لكني لن اعطيه الفرصة ليسخر مني بسبب الفوضى التي أعيشها ..!!....لا تنسي سأنتظرك .....مؤكد لا تودّين لصغيرتك أن تقع في موقف لا تحسد عليه مع حائطها المغرور.."

" يا بنت !!...احترمي زوجك ....أما زلتِ تنعتينه بهذا اللقب ؟!...لو كنتُ مكانه لقصصتُ لسانك ...يجب على الزوجة الّا تتعدى حدودها بما يخرج من فمها لزوجها....عليها احترامه صغيرتي.."

"اوه خالتي هذا نوع من الدلال ....لا تظلميني!!.."

هتفت بجملتها وهي تضحك بدلع متهرّبة من خطابات خالتها ثم غيّرت الموضوع متابعة:
" أرى أنكِ انتهيتِ.....هيا لنذهب للخارج الآن !!.."

تنحنحت السيدة (فاتن) وقالت:
" صغيرتي اعذريني....عليّ الخروج لمشوار مهم وبعد عودتي ان شاء الله سنرى ماذا سنفعل !!.."

سألت بفضول:
" ما هو هذا المشوار ؟!."

" ممم...عليّ المرور الى المخيّم....سأبعث ملابسي هذه للسيدة فاطمة كي توزّعها على اللواتي يتوافقن مع مقاسي ثم إني أحتاج الحديث مع السيد خالد بشأن الجمعية....سأسلمه شؤونها الى حين عودتي بإذن الله....فأنا لا أعلم مدة مكوثي هناك بالضبط!!."

جحظت عينيها غير مصدقّة ما سمعت وكأن هذا ما تحتاجه الان بسبب ضجرها وسألت مشدوهة:
" المخيم المخيم ؟؟!...يعني مخيم أمي ؟!.."

" أجل صغيرتي !!.."

صفقت بيديها مسرورة وهتفت:
" يا للروعة....سأرافقك!!.."

" وإن رفض زوجك ؟!.."

هزّت رأسها يمنة ويسرة بـ لا وردّت واثقة:
" كلا كلا لن يرفض .."

وأردفت:
" الحمد لله أنني على ذمة رجل مسؤول عني هذه اللحظة فلو كان الأمر متوقفاً على أبي لمنعني الذهاب الى هناك مؤكد...أما يامن رأيت بنفسي اهتمامه واحترامه للفقراء!!.."

تبسّمت برضا وهمست:
" حسناً اتصلي به وخذي الإذن حالما أجهّز نفسي.."

×
×
×

" ياااه خالتي منذ أشهر لم أزره !!.."

" تقصدين منذ سنوات ..!!"

بعفوية مطلقة قالت:
" ذهبت اليه منذ حوالي ثلاثة اشهر تقريباً..!!.."

اتسعت عيناها بصدمة....خشيت أن يكون الموضوع نفسه يشغل بالها الى الان وسألت بتوجس:
" من أجل ماذا ذهبتِ ؟!.."

هربت بعينيها للنافذة بجانبها وتمتمت بعد أن استوعبت أنها كشفت نفسها :
" لا شيء.."

" ألمــى!!..لا تتملّصي"

نهرتها بحدة فأدارت وجهها نحوها بتوتر معترفة :
" حسناً...ظننتُ أنني سأجد عائلة السيدة عائشة ..يعـ..يعني أم..أم هادي لأطمئن عليهم!!..ليس إلّا.."

اسندت ظهرها للخلف مستسلمة محوقلة وهمست:
" آآه ..أما زلتِ هناك ؟؟!!...لا اعرف ماذا سأقول لكِ صدقاً؟؟....لكن لا تعيدينها كي لا يغضب زوجك إن علم نواياك !!"

أسدلت أهدابها بامتعاض فتحتها وردّت:
" أخذني الحنين خالتي لتلك البقعة وأصحابها ... لمَ تبالغين لهذه الدرجة ؟!..أناس عرفناهم بالماضي وكانوا لطفاء جداً.. ما الخطأ بذلك ؟!..... "

اشرأب عنق السيدة (فاتن) لتتطلع على الساحة فور توقف سيارتها أمام المخيم دون أن تردّ عليها ..!!

بعد أن ترجلتا من السيارة ونزل السائق يفتح الصندوق ليتناول الأغراض التي جلبتها خالتها ....توقفتا أمام البوابة الكبيرة حيثُ يزيّنها صورة والدي مع الاسم فتأملتها للحظات ثم هتفت مستنكرة بتعالٍ :
" لا أعلم لماذا سميّ المخيّم على اسم هذا ؟؟!...محيي الدين الشامي!!.."

اطلقت ضحكة هازئة مبتورة وأضافت:
"..كان من الأولى أن يسمّى باسم أمي ...اليس كذلك خالتي ؟!..."

انزعجت من اسلوبها المتهكّم وأجابت:
" ليس كذلك !!....أمك رحمها الله كانت تأتي على مدار ثلاث سنوات لمساعدتهم قدر استطاعتها وأنا أكملتُ بفضل الله من بعدها ....لكن ماذا فعلنا غير تقديم الطعام والملابس والعلاجات وفرص عمل البسيطة جداً ؟!..وفقط كنا نخصص يوم واحد بالسنة !!....لا مجال للمقارنة....أتعلمين من هذا ؟؟!.."

لوت فمها بعدم اهتمام أقرب للازدراء:
" ها هو يُكتب القائد الشهيد محيي الدين الشامي ....من سيكون هذا وما الذي قدّمه يعني ؟؟!......هيا خالتي....شخص مات وشبع موت ما سيهمني من سيرته ؟!...لمَ أشغل بالي بجثة لا تعنيني قابعة تحت التراب ؟! ...أكاد أجزم أن حتى أهله نسوه ولا يتذكرونه .."

" هذا يكون حماكِ الحقيقي حبيبتي "

فقط لو أنها تستطيع قولها لها بكل اريحية ...تشفق عليها كونها المخدوعة بالقصة والأدهى بسببها !!...لكنها ملجمة عن الاعتراف بالحقيقة ومجبرة على الاستمرار بهذه التمثيلية حتى موعد لا يعلمه الّا الله.....

ردّت بحزم مقهورة من جهلها ومن عدم اكتراثها بما يخص موطنها الأصلي:
" يجب أن يهمك من يكون وتاريخه.....اقرئي عن بلادك وابعدي الجهل عنكِ....كان القائد محيي الدين رحمه الله من أكبر القادة في الثورة والذي دافع حتى آخر رمق بحياته عن أرضنا وشعبنا وديننا.....كان يقود الثوّار ويقاتل بائعي الوطن ومن قبلها كان عميداً في الجيش قبل اكتشافه خيانة الأنجاس آنذاك....حافظ على الحدود من المخرّبين الذين كانوا سيستولون على الأراضي هناك ...فعل الكثير مما لا يفعل غيره!!...وهب نفسه وعائلته وماله فداءً للوطن!! ...وتقولي لي من سيكون ؟!...ترحّمي عليه أفضل لكِ من الكلام الفارغ!!..."

وأضافت في سرّها.." ويلك يا صغيرة إن سمعك هادي تتكلمي عنه بصفاقة وبهذه الطريقة الغير لائقة !!....سيعمل منكِ عجيناً وسنترحم عليكِ!!..أرجو الّا تقعي بشرّ حماقتك!!.."

" حسناً ...وماذا فعل لهؤلاء ليطلقون اسمه على المخيم ؟؟!.."

" بماله وأموال اصدقائه المقربين عُمّرَ هذا المخيم ....انظري للوحدات السكنية ....انظري للمدرسة والعيادة الطبية ....زوري الأرامل اللواتي يدفعون عنهن الكهرباء دون أن يسألوهن عن قرش واحد....قاموا بتأسيس جمعيات لتمدّهم بالمؤونة والغذاء على مدار السنة....يعطون منحاً للطلاب الجامعيين ويقومون بتوصيات من أجل المتخرجين...يحاولون قدر الامكان مساعدتهم لنيل حقوقٍ كمواطني هذه الدولة.....المخيم أصبح وكأنه كيان مستقل بحد ذاته....طموحهم بشأنه لا ينضب والأهم انهم يسعون جاهدين حتى هذه اللحظة دون كلل أو ملل عسى أن يعيدونهم للوطن.....كل هذا التطور حدث من بعد فضل الله.. بفضل اصدقائه ...و...وابنه!....لذا قرر اصدقاؤه تسمية المخيم على اسمه!!...وهذا أقل الواجب بحقه بنيتي!!...رحمه الله.."

×
×
×

انتهت زيارتهما للمخيم بعد ساعتين من الزمن ....سلّمت السيدة فاتن على المقربات منها من النساء كالخالة (فاطمة) وغيرها.....سارتا بين أزقة البيوت بينما كانت السيدة (فاتن) تلتقط بعينيها كل زاوية وكل حجر...تمر من جانب عجوز وتحييه باحترام ...تصطدم بطفل وتمسح على رأسه...توزّع ابتساماتها بوجهها البشوش ومع كل هذا الّا أن شعوراً بعدم الرضا كان يصحابها ....أيا ترى أدت الأمانة على أكمل وجه.؟!.هذا جل ما يؤرقها !!....هكذا من يترعرع على العطاء يظن أنه مقصرٌ مهما سعى وقدّم..لا يزكّي نفسه ولا يفتخر بإنجازاته أو يمنّ بعطاياه..وهو يعلم علم اليقين أنه هو من يحتاج هذه الصدقات ليجدها عند بارئه وتكون له سبيل السعادة في الدنيا والفوز بالآخرة وليس الفقراء هم المحتاجون حقاً لمساعداته وإنما وضعهم الله سبباً لاختبارنا !!.....
توقفت خارج البوابة....تأملت الصورة فوقها ...وضعت يدها على قلبها ثم تنهّدت كأنها تهبهم رائحة أنفاسها الطيبة وابعدت عينيها جانباً بأسى لتنزل دمعة تعانق ابتسامتها ...مسحتها قبل أن تنتبه لها التي سبقتها بخطوتين متجهة للسيارة....تمتمت بصوت محشرج وكأن أوتارها الصوتية تحارب الّا تخرج بنغمة باكية :
" سأشتاق لكم....سامحوني على تقصيري بحقكم.....إما أن تنتظروني....وإما أن تذكروني بدعاء من قلوبكم النقية !!.."

ثم استدارت قاصدة سيارتها تسير بتثاقل ..تجرّ قدميها جرّاً..يا الله تشعر وكأن روحها ستنتزع في هذه البقعة....وكأنها تأبى ترك هذا المكان ...ما هذا الانتماء وهذا الوفاء؟...لطالما كانت هذه الأرض بناسها كنموذج مصغّر يحمل عبق الوطن بالنسبة لها...لطالما انتظرت العودة راغبة بسجدة على أرضه وبضمة أخيرة تحت ترابه...لقد حرمها بلادها بسبب جشعه...لم يتبقَّ لها من عائلتها سوى شقيقتها لذا اضطرت لمرافقتها وبعد موتها لم تستطع ترك أمانتها الصغيرة خشية من ضياعها بسبب جشع (عاصي) وأنانيته وجرائمه التي لا تغتفر ..لأنها كانت تؤمن أن زواله قريب لا محالة مهما طغى وتجبّر كزوال الشمس ساعة الغروب ..هذه قوانين الكون لا اعتراض عليها ...كل ظالم سيحاسب بأفعاله إن في الدنيا أو الآخرة...ما طار طائرٌ وارتفع الّا كما طار وقع...لا تتكبّر فالله أكبر!!...وكذلك خشيت أن تتركها لزوجة أب ما هي الّا مجرد أفعى رقطاء بصورة آدمية !!......ألقت نظراتها بكل حب وحنين آملة بالعودة إليهم بأسرع وقت ولم تدرِ أنها لربما كانت الزيارة...هي زيارة......الوداع..!!.."


~~~~~~~~~~~~~~~~~~~


تجتمع العائلة حول مدفأة الحطب التي تحتل زاوية غرفة العائلة في قصر العنكبوت بجو شتوي يوحي للبعيد بدفئه لكن صقيع العلاقات المزيفة والقلوب الحاقدة على بعضها هو من ينتشر في الأرجاء...!!.....تجلس(ألمى) جوار خالتها برباطهما الوحيد النقي الصادق وتتناولان الفشار من نفس الطبق!!...أما (عاصي رضا) كان منشغلاً بتقشير حبة برتقال ومع انتهائه منها مدّ يده لصغيرته ليطعمها على مرأى زوجته الأفعى التي كانت تفيض غيرتها الواضحة من نظرة عينيها فهي التي لم تنعم يوماً بكأس ماء من تحت يده.....هي تعلم أنها مجرد صورة زائفة أمام مجتمعه المنافق وأن لا قيمة لشأنها عنده....حتى علاقته الحميمية بها أصبحت في الآونة الأخيرة باردة وغير طبيعية لدرجة أنها باتت تشك بخيانته لها !!....وماذا يريد من امرأة إن غفلت يوماً عن وضع زينتها ستغدو كسائقه الأمين أو كالمومياء فمنذ ارتباطه بها الى يومنا هذا وهي تلاحق العمليات التجميلية التي زادتها بشاعة لدرجة أنها باتت لا تتعرّف على شكلها الأساسي غير أن قباحة روحها تنعكس عليها ايضاً !!....جشعه ربطه بها دون أي فائدة ترجى !!...كانا مثل طنجرة ووجدت غطاءها ولكن شخص مثله يستطيع الزواج بامرأة في سن ابنته ...ليس لوسامته وحسناته إنما لمكانته الاجتماعية في عين أقرانه وكثرة أمواله!!..والأوفر له أن يستمتع ويفرّغ رغباته دون أن يتزوج ودون أن يدخل بمسائل شائكة ومعقّدة ما دام أن قائمة الحلال والحرام ليست موجودة في جدول حياته..!!... وأيضاً رغم تقصيره بابنته الّا انها تحتل الصدارة على سلّم اولوياته العائلية وليس عنده فقط بل عند خالتها التي تتحول الى لبؤة من أجلها ولم تكتفِ بنيل قلبيّ هذين بل ذاك البغيض(صلاح) احتلّت قلبه ولم ينل من عشقه لها الّا السجن ...ما زال موقوفاً تحت التحقيق حتى اصدار الحُكم ووالده يبذل قصارى جهده ويحاول فعل المستحيل لإثبات براءته بأي وسيلة!!..ولم تنسَ أنها حصلت على زوج ثري ووحيد أهله ومستعد أن يشعل حرباً من اجلها !!.. .كل هذا يجعل حقدها يزيد على (ألمى) يوماً بعد يوم ....كانت تراقب بحسد جليّ وتدور بين أروقة عقلها!!. ...تشتمها بسبب حُسن حظها وحُسن شكلها وكيف نفدت من فعلٍ شنيع !! فها هي لم تتأذى لا نفسياً ولا جسدياً يوم حادثتها وسرعان ما عادت للحياة وكأن شيئاً لم يكن!!..تقول في سرها.."..البغيضة!!..كالقط بسبع أرواح!!.."....لقد سعت بخطتها الأخيرة كي تكسر غرورها وعنفوانها هي ووالدها ..تريد أن تراها بقايا أنثى...أن تعاني صدمات نفسية!!..انتظرت اللحظة التي ستعلو بها راية شماتتها...لكن دون جدوى!!....وصلت بجشعها وهي تفكر حانقة عليها ...ماذا لو مات (عاصي) ؟...بالطبع النصيب الأكبر لها من الورثة ولن تحصل هي وابنها الّا على فتات فقط....إن حصلت !!.....ضحكت في سرها ساخرة من نفسها.!!...وهذا ما لن ترضاه اطلاقاً ....وعليها أن تضمن مستقبلها وابنها معها!!....بالتأكيد ستفكر لاحقاً أما الآن خرجت من جلستها الشيطانية مع نفسها لتبث القليل من سمومها في هذه الجلسة هامسة بفحيحها:
" غداً اجازة...ما لنا لا نرى زوجك!؟..لمَ لمْ يأتِ لزيارتنا؟!.."

تسأل وكأنها مهتمة حقاً ..!!

قضمت من قطعة البرتقال وهي تنظر الى التلفاز منحنية الى الأمام ..متكئة على مرفقيها وأجابتها بفمها الممتلئ بنعومة:
" هو يفضل قضاء وقته مع أهله ليلة اجازته..."

نصبت ظهرها وتطلعت عليها مردفة بثقة:
" يعني كما فعلت أنا !!.أقضي وقتي بينكم..."

أكملت الأفعى بسمومها:
" ألا تلاحظين أنه لا يزورنا بتاتاً؟!....حتى من ايام الخطوبة لا يهتم ....لا أعرف كيف تسمحين له بتجاهل أهلك؟....المفروض أن تضعي قيمة لنفسك وتجعلينه يقوم بواجبه اتجاهنا سواء بالحُسنى أو.."

قاطعتها السيدة (فاتن) قبل أن تكمل جملتها:
" عليكِ احترام زوجها وخصوصياته ....تتدخّلين بأمور لا تخصك!!.."

ردّت الأفعى:
" هي لم تدافع عنه وأنتِ ما شأنك؟."

وأكملت في سرها.." من الجيد انك غداً ستنصرفين الى ألمانيا من أجل مؤتمراتك الفاشلة!!...عسى أن يكون ذهاباً دون عودة لنتخلّص منكِ أيتها العالة!!..."

أجابتها وهي تجذب صغيرتها لتضمّها إليها:
" لي كل الشأن عندما يتعلّق الأمر بألمى.."

صرَخ من لم يشارك حديثهن وهو واثباً من مكانه كأن دبوراً لسعه:
" كـــفى....اووف...لا تتركون أحداً يرتاح في هذا البيت...!!."

وخرج مغتاظاً متجهاً الى مكتبه ليحل بعض الأمور سريعاً ثم ليطير الى شقته المستأجرة حيثُ تنتظره بها ....عشيقته القريبة لسن ابنته !!....
وبينما كان واقفاً يلملم أوراقاً تخصه التفت للتي دخلت بهدوء من خلفه بعد أن همست:
" أبي...أريد اخبارك شيئاً.."

مدّ يده بحنان يضعها على كتفها هاتفاً:
" أجل صغيرتي لوما....أسمعك!..."

بعد أن أفرغت ما في جعبتها تركته وعادت الى غرفة العائلة لتسلّم على خالتها....الوقت متأخر نسبياً وحان موعد عودتها الى البيت!!...لمّا لم تجدها صعدت تلحقها الى غرفتها ..طرقت الباب ثم فتحته تلج الى الداخل سائلة:
" كنتُ ابحث عنك...لمَ صعدتِ الى غرفتك؟!.."

أجابتها بملل:
" لقد تركتيني مع الأفعى لوحدي وغبتِ عني...لذا صعدت!!.."

دنت منها تجلس على السرير جانبها... تضع ساقاً تحتها والآخر تهزّه على الأرض وابتسمت هامسة:
" أجل ذهبتُ لأخبر أبي شيئاً يهمه وله علاقة به....سمعته من زوجي !!.."

بهتت ملامحها بعد شعورها بانقباض قلبها...ما هو يا ترى الشيء الهام ؟! وسألت بثبات :
" ممم هل ستخبرينني ما هو هذا الشيء؟؟!!.."

رفعت ساقها ألآخر وكمشت جسدها وهي تنزل ببطء لتضع رأسها في حجرها هامسة:
" داعبي شعري اولاً..."

هزّت رأسها وابتسامة عطوفة على ثغرها رغم ارتباك نبضاتها وقالت:
" متى سيستلم هذه المهمة عني زوجك؟!..هل عليّ أن اوصيه بفعل هذا لكِ وهو يضعك في حضنه؟!.."

حلّقت الفراشات في صدرها لتدغدغ روحها وهي تتخيّل المشهد ثم همست بحياء:
" خالتــي...كفى!.."

" حسناً كفى....اخبريني الآن عن الشيء المهم"

تنهدت وهتفت وهي مسترخية بين يديّ خالتها:
" اولئك الأوغاد الذين يقفون ضد أبي ويسمّون بكتيبة الفهد الأسود ...اتضح لي أن يامن يعرفهم ...لقد سمعته صدفة عندما نزلتُ للمطبخ في ساعة متأخرة لآكل شيئاً...وقد كان غاضباً !!.."

بالكاد استطاعت ابتلاع ريقها وكان من الجيد أن التي على حجرها لم ترَ تلوّن وجهها الذي بدا عليه الذعر وهمست بصوت مختنق:
" أجل صغيرتي...تابعي...ما بهم ؟!.."

تململت تضبط جسدها لتمدّه براحة وشرعت تحكي لها ما سمعت..!!


~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~


بعد خروجي من بيت أبي (ابراهيم) وركوبي سيارتي لاحظتُ أن رسائلاً صوتية عديدة وصلت هاتفي الخاص بـ (هادي) والذي تركته بها وما أثار رهبتي أنها جميعها من السيدة (فاتن)...إذاً لنرى فحواها!!....فتحتُ لاستمع للأخيرة وكانت:
[ هادي أرجوك...لا تغضب منها....لقد فعلت ذلك بحُسن نية ]

ازداد قلقي من فحوى الرسالة التي لم أفهم ماهيتها....مما أغضب وممن يا ترى؟؟!!...حقاً لم أفهم ماذا تقصد!!...اوف... لأستمع لغيرها وأرى !!... حركتُ الشاشة للأعلى لأبدأ من البداية وكانت:
[ هادي احذر...ألمى سمعت بعضاً من حديثك عن كتيبة الفهد الأسود وأخبرت والدها بذلك ]
لوهلة...تجمّدت الدماء في عروقي..وتوقف نبضي!!.يا ترى ما الذي سمعته بالضبط ومتى ؟...كيف لم الحظ وجودها ؟؟!..وماذا قد فهمت أصلاً؟...زفرتُ أنفاسي بقوة....عدتُ بذاكرتي أحاول تذكّر ما بدر مني البارحة بمكالمتي الوحيدة بهذا الشأن !!.....رباه....لا تضيّع لنا تعباً !!....انتقلت لأخرى :
[ لحُسن حظنا أن ما فهمته أنك تقف ضد الفهد الأسود مثل والدها وفقاً لجملتك الآمرة بأن يدمّروا الكتيبة!!...طبعا أنا لم أفهم مغزى كلامك لكني متأكدة أن وصلها بشكل خاطئ...قدر الله ولطف بنا على الأقل بعدم فهمها لكونك منهم ]

تباً لها...تباً لها....عقلها الصغير سيوقعني بالهاوية!!...بل تباً لحماقتي ..منذ متى لم آخذ حذري بهذه الأمور ؟!.....آآه يا زوجتي الجاسوسة الحمقاء...

وكانت آخر رسالة سمعتها طويلة :
[ افعل شيئاً أرجوك واصلح فعلتها...لا نريد المزيد من الخسائر بالأرواح....ثق أنه لن يواجهك بالمسألة كي لا يوقع ابنته بمأزق نقلها لكلامك والأهم أنه لن يتسرّع وسيفكر بتروّي قبل أن يسألك بطريقة ملتوية....أنت تعرفه ذكياً وليس مندفعاً ويبحث عن المسألة من كل الجوانب رغم أنه مؤكد سيُسعد بما أن صهره عدو عدوّه لتتكاتفا وتتعاضدا كما رغبت ابنته فأنت بالنسبة له مصدر قوة في السوق والمجتمع وهذا يخدم مصالحه.....لقد كان هدفها من وراء ذلك كله هو سد الفجوة بينك وبين والدها وايجاد قاسماً مشتركاً يجمعكما لتتقاربا أكثر....فقد أخبرتني كم هي منزعجة من علاقتكما الجافة المكهربة والتي ترى بها عدم تقبلكما لبعضكما وخاصة شعورها أنك تكرهه لكنها تجهل السبب !!....المسكينة تبحث عن ذرة أمل لتوطّد علاقتك بأبيها ]

طموحك عالٍ يا مدللة...ألا تلحظين أي درجة وصلت بكرهي لوالدك ؟!...ألا تدركين أنني أعدّ الثواني من يوم معرفتي الحقيقة كي أمسك به لينال أشد العقاب ؟!....مسكينة!!...لو تعلمين أي دناءة والدك منغمس بها ؟...لو تعلمين الحقارات التي قام بها ليصل الى مطامعه؟....والدك جمع كل مصطلحات اللغة العربية التي تصف الشر!!...إنه عبارة عن شيطان خبيث...حقود...نجس....خائن...عاص� �...نذل...ومجرم يا صغيرة !!...نعوذ بالله منه ومن شر اعماله!!......باع الوطن وباع نفسه ....ولا استبعد يوماً إن كنتِ أنتِ وهو في دائرة الخطر... أن يبيعك دون تردد !!..لن أشكّ بهذا أبداً.....أعلم لِكم هو مؤلم حبيبتي بأن تعرفي هذه الحقائق ....لكنها ستنجلي يوماً ما لنعلّي رايات الحق ونطمس رايات الباطل بإذن الواحد القهّار...!!....اتركي نواياك الطيبة داخلك ولا تحلمي بما لا ولن يتحقق .....فأنا وهو كالشمس والقمر لا يمكننا أن نجتمع معاً بذات اللحظة حتى الأزل ولو ركع ذليلاً آسفاً تحت حذائي..!!

صحيح أن عدم ربطها لي بالكتيبة كان كخروجنا لنتنفس من تحت الماء الّا أن صعوبة الأمر ومقدار الكارثة التي ممكن أن تحلّ لن تتغير فما وصله من كلامي واستطاع ربطه بالمنطق هو أنني كطرف آخر عدوّ للثوّار وأريد مسحهم والتخريب عليهم اثناء محاولتهم احباط الصفقة الكبيرة التي ستتم بداية الشهر أي بعد يومين رغم عدم علاقتي بها فهو يعلم تماماً لمن تابعة ولكن الذي استنبطه أنني ربما أكنّ الكره لهم بسبب تدخّلهم في بعض أعمالي الغير قانونية المربوطة بالوطن حسب اعتقاده فهكذا الخونة والأوغاد يظنون أن الجميع يسير على خطاهم ولا يؤمنون بوجود الشرفاء ولهذا طلبت تدميرهم وقد فهم من خلال ما نقلت له ابنته أن الثوار علموا بالصفقة القادمة وسيترصدون لها كالعادة وهنا تكمن مهمته بتحذير أصدقائه لانكشاف مخططهم وبهذا إما أن تؤجل الصفقة تمويهاً لكتيبة الفهد الأسود حتى موعد آخر وإما أن تكون مواجهة مسلّحة عنيفة ستودي بالكثير من الأرواح من كل الأطراف..!!

×
×
×

[[ أهلاً بكم في موجز الأخبار....لقد اعلن المتحدث الرسمي لوزارة الداخلية الحالية عن نجاح عناصر من جنود الدولة ومخابراتها وبمساعدة جيش الثوار وتحديداً الكتيبة الخاصة بالفهد الأسود والمتواجدين على الحدود بالقبض على عصابة تخريبية مدسوسة من جهات خارجية هدفها زرع الفتنة بين التابعين لحكم الدولة و التابعين لحكم الثوار من أجل اشعال الحرب بينهم واشغالهم في بعضهم مما يخدم طرفاً ثالثاً مجهول الهوية والذي يسعى لمسك زمام الأمور سياسياً واقتصادياً..]]

أُغلِقَ المذياع مع اغلاقي لمحرك سيارتي أمام بيتي وتنهّدتُ مبتسماً وهامساً:
" لقد فعلها أبطالي البواسل...أشبال الفهد الأسود.."

في حدود الوطن الداخلية مع هذه البلاد جيش كامل من كتيبة الفهد الأسود يسيطر على تلك المنطقة وهي التي كانت تحت حماية أبي وجنوده في الماضي وقد أكمل على نهجه تلامذته المخلصين والذي يسيّرهم الآن عن بعد دون التواجد بالميادين السيد ( سليم الأسمر) أما الحدود الخارجية لها أي الداخلية لبلاد اللجوء تتنوّع الكتائب والفصائل وبغض النظر عن اختلاف انتماءاتنا الّا أن هذا لا ولن يؤثر بإذن الله على اهدافنا السامية والتي تنحصر تحت اسم واحد متفق عليه وهو الوطن الذي يجمعنا مهما تباينت وتضاربت آراؤنا ..فمصلحته تأتي قبل كل شيء وفوق الجميع..!!

فتحتُ باب البيت بعد هروبي من الأمطار الغزيرة محتمياً بمعطفي الذي استخدمته كالمظلة عند نزولي من سيارتي وكان الوقتُ متأخراً وكنتُ متحمساً لأشاهد إعادة المقابلة الخاصة بالمتحدث الرسمي لوزارة الداخلية في وطننا إذ أنني لم أشفِ غليلي من موجز سريع متناسياً المصيبة التي اوقعتنا بها سفيرة النوايا الحسنة!!....أساساً ستكون في سابع نومة وعليّ أن اتظاهر وكأن شيئاً لم يكن وأنني أجهل انجازاتها وجهودها الجبارة في اصلاح ذات البين!!...وعند اغلاقي لباب المدخل وإذ بضجيج صاخب يزعجني ..مصدره غرفة العائلة حيث كنتُ أنوي التوجه ...!!...وقفتُ على عتبة بابها ....يا الهي...ستُثقب طبلية أذني لا جدال !!....
هل أصابها الطرش؟!....كانت ترتدي منامتها السكرية الدافئة بأزرارها التي على شكل حبة التوت وتشاهد مسلسلها المفضل منذ طفولتها....كرتون(سالي)....وتتن اول من الطبق الساكن في حجرها حبّة من الكستناء المشوية!!..ليتني الطبق لألامس جسدها وليتني الكستناء لأغوص بين شفتيها!!.....دمّرت الكائنات وجالسة ترفّه عن نفسها تلك الجاسوسة الحمقاء!!......لم تكن بصورة مغرية إنما ساحقة لروحي التي تعشق براءتها وعفويتها ...تقدّمتُ نحوها متسللاً كي لا تحس ....أصلاً كيف ستحسّ ومكبرات الصوت الخاصة للأجواء السينمائية تصدح في زوايا الغرفة.؟!....لو أنها وضعت أغاني لظنّ العابر من أمام منزلنا أنه نادي ليلي خاص بالمنطقة !!...استغفر الله....بخفة ومهارة لص محترف سحبتُ جهاز التحكم من يدها وجلستُ على الطاولة في اللحظة التي انتفضت مجفلة وهي تضع كفّها منتصف صدرها هامسة:
" يا أمي....متى جئت؟؟!."

أجبتها بتهكّم بينما كانت عيناي تركّزان على التلفاز لأبحث عن قناة الوطن بعد أن اخفضتُ الصوت:
" لو لم يصبك الطرش لعرفتِ متى جئت ...ما هذا الصوت الصاخب الذي يصل الشارع ؟!.."

زمّت شفتيها بالطريقة التي تحفّزني لالتهمهما لها ولم تجب بل سألت بقلق:
" أين كنت ولمَ تأخرت؟!..أهلك ينامون باكراً"

اووه....يا حلاوة....لقد بدأنا بالأسئلة الروتينية للزوجة النكدية..!!....صدقاً رقص قلبي ...زوجتي تفتقدني!!......عفواً زوجتي الجاسوسة نسيتُ أخذ إذنك..!!

قلت ببرود وأنا ضائع اتابع بحثي بين القنوات الكثيرة والتي معظمها بلا فائدة ويجب افراغ نفسي لحذفها:
" هل اشتقتِ لي يا قطة ؟!.."

ردت بعفوية ونبرة خوف:
" كلا...كنتُ خائفة من صوت الرعد لذا رفعتُ التلفاز ريثما تأتي!!.."

متى سنحل مشكلتها مع الأصوات؟؟!...يبدو أنه عليّ المباشرة بعلاجها بعد أن تستقر حياتنا ان شاء الله!!...غداً سأتركها مع اولادي ..كيف ستتصرف حينها ؟!...هل ستتركهم وتهرب لتختبئ بجبنها لتجعلهم مثلها ضعفاء ؟!...يا ويلي إن جاء ابني ناعماً مثلها ويخاف من كل شيء....سأكسر رأسه ورأس أمه معه...هذا ما ينقص !!...أما ابنتي حبيبتي دميتي فلتكن نسخة عنها كي تُخرِج هي الأخرى ما تبقّى من عقلي!! ...آه منكم احبائي....كم أتشوق لرؤيتكم أمام عينيّ وبين يديّ !!.... أملتُ زاوية فمي بابتسامة جريحة لوصولي الى البعيد البعيـــد متخطياً حدود المعقول!!....متى يا ربي سأرى هذا اليوم ؟!!..أو هل سياتي من الأساس؟!.....
نفضتُ عني اليأس بعد تذكري الآية الكريمة..
{{ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ }}

عليّ عدم الاستسلام للهموم والأحزان والتشاؤم وأن أضع أملي كله بالله سبحانه وتعالى فهو صاحب الفضل والرحمة والكرم....وسأنتظر يوم اللقاء الأبدي بها بروحٍ راجية وبهمّة عالية ونفسٍ راضية ....يااا رب !!

لمّا رأتني لم أعلّق على جملتها تذكّرتْ أنني قاطعتها وسط اندماجها بالمسلسل فقالت حانقة وهي تهبّ من مكانها تدنو مني لتسحب جهاز التحكم الذي ابعدته عنها :
" هاته ...لمَ أخذته مني ؟!"

وقعت عيناي على طبق الكستناء البعيد فأشرتُ لها بحاجبيّ وهتفت:
" هاتي حبة كستناء لأعطيه لكِ.."

بكل طاعة وحماس نفّذت طلبي وما إن قضمت أولها وابتلعته رغماً عني قلت باشمئزاز دون ان انهيها كلها:
" يع ..كيف تأكلينه هكذا؟....ما زال نيئاً !!.."

بملامح محرجة أجابت:
" لم اصبر عليه حتى ينضج بعد سماعي اشتداد الأمطار ...لقد أخرجته من الفرن قبل أن يداهمني الرعد وانا بالمطبخ وهربتُ الى هنا عند التلفاز..."

ضحكت وقلت:
" جبانة..!!.."

قالت في سرّها وهي تتأملني .." ..تباً لضحكتك.." ثم كررت طلبها وهي تمد يدها:
" هيا اعطني جهاز التحكم..!!.."

رفعتُ حاجبيّ بـ كلا وقلت وانا ابعده عنها لأشاكسها:
" ان استطعتِ أخذه....مبارك عليك !.."

دنت مني أكثر وأصبحت شبه ملتصقة تقف بين ساقيّ بقلة ادراك منها بينما كنت أبدله من يد ليد وهي تتمتم مغتاظة:
" يا الله منكَ...اعطني...سينتهي مسلسلي !.."

قلت وأنا اتابع حركاتي :
" أوَتظنين أنك تشبهين سالي حقا؟!.."

لقد اخبرتني مرةً أن والدتها كانت ستسميها (سالي) لأنها تشبهها...!!

لا داعي لبذل جهد لاستفزازها وهذا ممتع جداً لمشاكستها ..إنها تثور بسرعة البرق ...ليت عقلها ايضاً يستوعب ما يدور حولها بسرعة البرق !!...فها هي قد توهّج وجهها فوراً بحمرة الغضب وهتفت وهي تعاركني لنيل الجهاز:
" لا احتاج شهادتك....يكفيني رأي أمي رحمها الله!!.."

ومع انتهاء جملتها بحركة خفيفة من ساقي دفعتها لتقع جالسة عليه وساقيها محاصران بين ساقيّ وتستند بيديها على كتفيّ ووجهها يعلو وجهي بقليل فهمستُ لها بصوت رخيم وهي بهذا القرب:
" أنتِ أجمل منها ....يا قمري..!!.."

ازداد التوهّج على وجنتيها بسبب ارتفاع حرارتها وتسارعت نبضات قلبها ...لقد تفاجأتْ!!...كان غزلي الأول الصريح لها دون مراوغة واختباء!!.... رفعت احدى يديها تفكّ الزر الأول من منامتها لتحرر أنفاسها المشتعلة تأثيراً مما سمعت ومن تواجدها على حجري وبدأت تهفّ بكفها على وجهها علّها تبرّد من سخونتها فقلتُ بمكر :
" هل أعجبتك الجلسة على حجري يا ألمتي؟!.."

فزّت واقفة مبتعدة وهي تشتمني محرجة:
" أنتَ وقح....لم انتبه!.."

ومع الاضاءة القوية التي اخترقت النافذة بفعل البرق ليتبعها دويّ الرعد قفزت عائدة الى ملجئها متشبثة بعنقي وتدفن وجهها على كتفي!! ...عادت الى حضني الذي ما إن اجتاحته موجة قطبية من البرد حال تركها له حتى انقلب بجزء من الثانية الطقس عنده ليسوده الجو الصحراوي الحارق...شديد السخونة !!....ماذا تفعلين بي أيتها الجاسوسة الصغيرة ؟!!...لم أتحمل ولم أطق صبرا...ضممتها بتملّك يهدد لاستسلام جسدينا وحسيس أنفاسي مع أنفاسها تحوّل لعزفٍ يطربُ قلبينا ...رفعتُ يدي أمسّد على شعرها حتى وصلت مستوى عنقها وأمسكته بحُب عنيف لأبعدها عني وأرى وجهها...وبظهر أنامل يدي الأخرى حسستُ على خدّها حتى توقفتُ عند مقبرتي المتواجدة في ثغرها ثم مررتُ ابهامي برقة لأرسم حدود شفتيها بينما نظراتي العاشقة الولهانة لم تفارقها...ثواني تأملتها ثم جذبتها من عنقها نحوي لألتهم رحيق هاتين الورديتين المغريتين!!...ثواني تتبعها ثواني ...كنتُ مستلماً القيادة وهي خانعة بلذة ومن لهيب ناري تعاني....حررتها ذائباً ..مخدراً وهمست لاهثاً :
" قتلتني يا فاتنة ..!!.."

كان حالها أسوأ من حالي...كانت مستسلمة صاغرة...تطوف في عالمها حتى همست بعذوبة صوتها:
" حرام عليك!...لمَ اخترت هذه اللحظة لتفعل بي هذا ؟!.."

أجبتها هامساً بينما كنتُ أنقل عينيّ المسحورتين براحة على وجهها:
" بل حرام عليكِ بمَ تفعلين بقلب زوجك...ارأفي بالمسكين!."

انتصبتُ واقفاً احملها على ذراعيّ كطفلتي المدللة وهمست:
" أظن أنه آن الأوان يا ألمتي لنتمم زواجنا..... وتصبحين حقاً زوجتي!!.."

وطار حماسي وتحوّل هيجاني من الرغبة للنقمة على حالي وقد هُدمت أركاني لما تململت في حضني لتنزل حتى وصلت ثابتة بقدميها أرضاً ونكست رأسها بحياء هامسة لتبشرني :
" ألم أقل لك لمَ اخترت هذه اللحظة ؟!.."

صمتت برهة...ابتلعت ريقها وتابعت مطأطئة رأسها حياءً ومسدلة أهدابها هروباً من رؤية ردة فعلي:
" يامن أنا...يعني أنا آسفة.... لديّ عذر...دورتي الشهرية!!..."

تمتمتُ حانقاً على حظي العاثر وأنا أحدّج بها رغم يقيني بـ عساه خير لكن ما هي الّا مشاعر تتحكم بنا وتغيّب عقولنا:
" سحقاً ليامن وغبائه وسحقاً للدورة الشهرية المتطفلة اللئيمة .."

ووليّتها ظهري خارجاً لأصعد الى كهفي البارد لأطفئ حرائقي وأنا اكمل بشتائمي بعيدا عنها:
" وسحقاً لكِ ولمن وضعك في طريقي من ألأساس.....لمَ تعبثين معي إذاً؟..لم تقتربين مني يا ساحرة وتستفزين رغباتي؟...أنا وصلتُ آخري في مقاومتك !!..طفح الكيل عندي وانكسر الميزان....اللعنة على اللعنة التي تلاحقني بكِ...اوووف....سحقاً لكل شيء يقف في طريقي......"

مررتُ كفي على شعري عند صعودي السلالم ثم مسحت وجهي علّني أهمد من ثورة غضبي على حظي وتمتمت:
" استغفرك ربي وأتوب إليك.."

إذاً عدوٌّ جديد أُضيفَ الى قائمتي!!......دورتها الشهرية !!....يجب أن تحمل في أسرع وقت لتغيب عنها تسعة شهور على الأقل!!....ضحكتُ للفكرة بعيدة المدى....لكنها راقت لي....سأفعلها ان شاء الله لاحقاً وقريباً...بل قريباً جداً.....نفذ صبري عليها!!

أما هي كانت صامدة مكانها بعد ردة فعلي ...رفعت كتفها ولوت شفتيها وهمست للهواء:
" ما ذنبي أنا ليغضب؟!..هل أنا دعوتها لتأتي ؟!.."

نظرت لجهاز التحكم على الطاولة....انحنت تحمله لتضع على مسلسلها وجلست مكانها متابعة بحديثها مع الفراغ:
" ثم هل فطن اليوم ليراني زوجته ؟!...أكثر من شهر عنده وأنا أتوق للمسة وهمسة وهو لا يبالي.....فليتحمل نتيجة غروره حائطي الوسيم!!.."

ضحكت وتذكّرت صديقتها (ميار) فحملت الهاتف لتبعث لها الرسائل وتبشّرها بآخر المستجدات...
[ هل أنت نائمة ؟!..]

[ كلا يا حمقاء...أنت تعلمين أن هناك من سرق نومي منذ أسبوع تقريباً]

[ باركي لي..!!..( مع رمز تعبيري المفتخر)..]

[ هل فتحتما الطريق للهاشمي الصغير ؟!... ( مع رمز تعبيري المصدوم)..]

[ لقد قال لي أنني أجمل من سالي وقال عني قمر...لا أصدق....قد تغزّل بي أخيراً بعد شهور من القحط والجفاف...( رمز السعيد مع قلوب)..]

[ أهذا هو يا غبية ؟!...ظننتُ أنكما اجتمعتا أخيراً وسننتظر الهاشمي المرتقب!!..( رمز الغاضب)...]

[ آه صديقتي ...الدورة الشهرية البغيضة حالت بيننا لكني متأكدة أن هذا سيكون أقرب مما تتصوري....لقد اعترف بنفسه أنه لم يعد يتحمل !!...( رمز الخجول)...]

[ وكأنك أنت من تتحملين يا ملهوفة!....لكن لن ألومك لأنه صعب مقاومة سحر الزلازل ]

[ وأنتما أين وصلتما في موضوعكما؟!..]

ثواني وأرسلت لها صورة ذاتية فردّت (ألمى)..
[ يا الهي هل تحضنين لفحته وأنتِ نائمة يا معتوهة ؟!..وتقولين عني الملهوفة!؟!...أشك أنكِ أنت من ستدخلين عليه ليلة الزفاف يا وقحة !!..أعانه الله...]

[ آااه يا صديقتي منذ اسبوع وأنا أتنفس عطره الخارق..]

[ كأن الرجال يتعمّدون سحرنا بعطورهم !!.اليس كذلك ؟!....المهم لم تجيبيني ...ماذا حصل بشأن موضوعكما؟...قلتِ لي أنه اخبرك أن تنتظريه بعد اسبوع !!..]

[ أجل...ألاحظ كثرة الهمس منذ ثلاثة ايام في بيتنا....وأنا متأكدة أنه كلّم شقيقي وعائلتي يتناقشون الموضوع فيما بينهم قبل اخباري به...فأنا لا استطيع كشفه وعليّ ادعاء جهلي التام بالمسألة مثلما اوصاني!!....اتظاهر بالبراءة والغباء وانتظر....واكيد لن يأتي قبل أن يسمع كلمة ترحيبية من شقيقي قصيّ!!...اسأل الله ان يأتي بما فيه خير للجميع!!..]

[ ميار هل أنتِ متأكدة أنه يمكنك الابتعاد عن اهلك والعيش في دولة أخرى ؟!..ألن يكون صعباً ؟!..]

[ أكيد ليس سهلاً...لكن برأيي رجل حقيقي يصونني ولا يحرمني أهلي ولا التواصل معهم ولا يشعرني بغربتي ويكون الحامي لي ومصدر الدفء والأمان ويمسك بيدي لنسير معاً على طريق الصواب في بلد بعيدة أفضل بكثير من أشباه رجال يطوفون حولك وسط أهلك ولن تشعري بالأمان معهم!!.....كم فتاة تزوجت غريبة وعاشت بسعادة وكأن أهله هم أهلها؟...وكم فتاة كانت قرب أهلها سواء بزواجها من ابن عمها او خالها او احد الجيران وحياتها جحيم لا تحتمل وعاشت بغربة الظُلم والاضطهاد وعلى العكس لو بقيت عزباء معززة مكرّمة وحتى لو ظلّت وحيدة من بعد أهلها أفضل من العيش تحت رحمة ذَكر لا يرحم ولا يمتّ للرجولة بصلة!!...وأنا أثق بحدسي ان شاء الله....أشعر أن أحمد هو مَن سيكون أماني وسعادتي وطوق نجاتي في هذه الحياة ....]

[ على خير عزيزتي ميار...لكن الحقيقة أنني أنانيه وأطمع بان تكوني بقربي دائماً...لا أعلم ماذا سأفعل من بعدك ؟!...أرجو الّا تنسيني ونبقى على تواصل طول العمر إن تمّ الأمر !!..]

[ من قال أني سأتركك يا معتوهة ؟!...وعلى العكس هكذا تصبح علاقتنا أقوى....صديقتان متزوجتان من صديقين...كم هو رائع!!.... لن نسمح للمسافات أن تفرقنا حبيبتي ألمى....!!..]

انهت حديثها الالكتروني مع صديقتها وصعدت الى غرفتها هروباً من مداهمة الرعد لها ...كي تحتمي بسريرها تحت لحافها....تبسّمت بحُب ورضا وهي تسترجع بشرود الحركات اللطيفة التي حصلت بيننا...وضعت يدها على صدرها كأنها تربّت على دقات قلبها المبتهجة بحماس بعد ان لاح في بالها قراري بإتمام زواجنا ...توّردت حياءً وهي ترسم الصورة المستقبلية لنا...همست في سرها ...." ...أخيراً سنتشارك سريراً واحداً كأي زوجين طبيعيين ...أخيراً سأنام وأصحو وهو جانبي ولن أخاف من أي شيء حتى لو قامت القيامة !!..سيكون هو ملاذي واماني ...لن أكون وحيدة بعدها لأصارع مخاوفي التي لا يعلم بها أحد! !!....آآه جاء الوقت لأنعم بدفء احضانه في لياليّ الباردة ...جاء الوقت الذي سأجد به من يستمع لي وأنا أبوح له بأكبر أفراحي وأدنى أحزاني آخر الليل!...سأذوب كل ليلة بعطره مُسكري...وسأسرق منه أنفاسه لتكون لي وحدي !!...سأستحق كل هذا لأني صبرت ولم أجزع...رباااه لو لم يكن لديّ عذرٌ بغيضاً لكان الآن ينام جواري وكنتُ أنا أتأمله هذه اللحظة براحة وأقبّل له رموشه وحاجبه الذي اتعذّب توقاً لملامسته وتقبيله...وماذا عن التحام ظهري بعضلات صدره دون أن تحول بيننا الملابس الوقحة !!...يا ويلي....سيغمى عليّ من مجرد التخيّل بالإحساس بها.!!.....من الجيد أن لا أحد يستطيع الاستماع لأفكارنا المنحرفة...هذه نعمة!!..والّا لفضحت امامه !!..."...
ونامت دون أن تشعر بنفسها....!!


~~~~~~~~~~~~~~~~~~


الثامنة صباحاً في بهو مطار العاصمة جاءت لحظة الوداع بين السيدة (فاتن) وصغيرتها ...كنا نقف جانباً أنا وخالتي (مريم) والسيدة (ايمان) ونراقب... ألسنتنا صامتة وأرواحنا تتكلم وقلوبنا تتألم ونحن نرى هذا المشهد المروْع بين اثنتين هما كروح بجسدين ..كانت اللتان بجانبي تسكبان العبرات عليهما فهكذا الاناث يعبرن عن مشاعرهن!!....أما انا كنتُ صامداً رغم تعاطفي وشعور بشع يلازمني أدّى لانقباض فؤادي.....!!
ما أصعب الفراق !!...والأصعب اخفاء الحقائق ....فبينما كانت (ألمى) تعانقها لم يكن في فكرها الّا المؤتمرات التي اعتادت عليها خالتها...كانت تبكي تهدر دموعها بسخاء لفراقها ..دموعاً تروي الحقول...ماذا لو انها كانت تعلم بالحقيقة ؟!..ماذا ستكون ردة فعلها حينها ؟؟!!..هل الدموع ستكون طوفان والهدوء سيكون بركان بعد معرفتها بخسارة من كانت لها الأمان ومن أغرقتها بحنان ليس بعده حنان ؟؟!....رباه لا استطيع تصوّر حالتها وأنا الذي سأتلقّاها وحدي بعد أن تعطيني السيدة(فاتن) الاشارة لإخبارها !!...لا اريد أن افكر بالموضوع الآن...فمجرد التفكير يؤرقني ويؤلمني!!...أسال ألله أن يعينني على تخطيه بسرعة وقتها!!....شعور متعب ومرهق ويستنزف الطاقات أن لا يكون لك حول ولا قوة بحل الأمور...وماذا بإمكاننا أن نفعل بما كتبه الله علينا؟!...لا اعتراض على حكمته!!....هذه أقدارنا !!.....بينما كانت خالتها تشدد باحتضانها بوجل... بفقدان الأمل.... بفراق لم ترغب به قط !!.....أساساً متى سرنا جميعنا وفق رغباتنا ؟!....كانت ملامح الأسى تعتريها وشهقاتها التي تلت سكبها لدموعها مدراراً كانت كسكاكين تغرز بأجسادنا...!!...كانت تبعدها عنها تارةً لتتأمل كل خلية فيها كأنها تريد طباعتها بذاكرتها ثم تعود وتعانقها وتقبّل شعرها وتقاسيم وجهها...تقبّل عينيها وتهمس بصوتها المتحشرج المخنوق:
" سأشتاق لهاتين العينين...سأشتاق لهاتين السماءين !!.."

مسّدت شعرها ..استنشقت رائحته الأناناسية وقبّلته مرة أخرى ثم رفعت وجهها الذي اختفى لونه خلف ستارة بلون الدماء وبملامحها المنهزمة المستسلمة لمصيرها وجّهت كلامها إليّ:
" عزيزي يامن....صغيرتي أمانتك!!...ضعها في عينيك ..."

أمسكتْ يدها وسَحَبَتها نحوي تقربها وتابعت بعد أن داعبت لها شلالها الليليّ أمامي بابتسامة مترددة مكلومة وكانت كأنها ليست على الدنيا وكأنها ليست الانسانة القوية الشامخة الصبورة التي نعرفها .....صدقاً لم أرها قط بهذه الحالة :
" انظر....ألمى تحب أن أداعب لها شعرها...في غضبها وفي فرحها...في حزنها ووحدتها....فقط افعل مثلي !!...لا تبخل عليها لطفاً..."

قلت بصوت ثابت أخفي اضطراب مشاعري:
" ألمى في عينيّ سيدة فاتن ...لا توصي حريصاً....وأنتِ لا تتأخري علينا وعودي بأسرع وقت لتكملي مهمتك معها....فأكيد هي تفضّل أن تفعلي هذا لها وليس أنا بيدي الخشنة .."

وألقيت نظري لسمائي مضيفاً بابتسامة عطوفة:
" أليس كذلك ألمى ؟!.."

تورّدت وجنتاها حياءً بينما كانت تكفكف دمعاتها وهزّت رأسها بـ نعم دون أن تخرج صوتها .....عادتا لتتعانقا مجدداً ولم يفصلهما عن بعضهما الّا السيدة (ايمان) وهي تفكّ ايديهما هامسة :
" هيه أنتما....هيا...كفاكما عناقا....علينا التقدم أكثر من أجل الاجراءات كي لا تفتنا الطائرة!!.."

وغمزت (ألمى) مستطردة بمزاح:
" أنتِ يا صغيرة لديكِ زوجك ...اذهبي وعانقيه حتى الصباح لا احد يمنعك واتركي فتّون لي..!!....أعانني الله عليكِ وعلى خالتك ايتها المدللتين!!.."

ودعناهما متمنيين لهما السلامة وخرجنا الى موقف المطار ومن هناك عادت خالتي وهي مع سائقنا الى المدينة الساحلية بعد أن اخبرتهما بضرورة ذهابي لمقابلة عمل ولربما تحتاج لغيابي يومين وقد كان السيد (ماجد) بانتظاري خارج المطار بعد اتفاقنا للذهاب الى الحدود إثر طلبي المفاجئ والذي يجهل اسبابه وما كان الّا لأرقع عن أفعال جاسوستي الصغيرة !!...لتلافي القدر الأكبر من الكارثة القادمة الينا..!!


~~~~~~~~~~~~~~~~~~


بجهود جبّارة حرصتُ على اخفاء الطريقة التي عرفتُ بها كيف وصل للوغد(عاصي) عن ترصد (الفهد الأسود) لعصابة الأسلحة الدولية من اجل احباطها....لا يمكنني فضح فعلتها الحمقاء بل مستحيل ولو على قطع رأسي...لا ينقصني الضغط مجدداً على علاقتي بها من قِبَلِ السيد(سليم) والسيد(ماجد) وخصوصاً بعد قراري النهائي بالمضي في زواجي مهما واجهنا نهاية الطريق!!..أساساً ماذا ستفيد معرفتهم بهذا بعد ان وقعت الواقعة ؟!.....كانت هذه المرة اليتيمة التي أخفي عن القادة في المعسكر خبراً مثل هذا....أي مصدر معرفتي!!...لكني مقتنع أنه لا يهم ممن عرفت والمهم أنه وصلهم بالنهاية!!..هذه ليست خيانة لهم إنما اغلاق باب للمشاكل بغنى عنه...والأكيد بإذن الله سأتعلم أن اكون اكثر حرصاً وتيقظاً ما دام الجاسوسة البريئة تنام تحت سقفي ...!!....رغم أنني لم أنْوِ التدخل بهذه الصفقة والمهمة مثلما اخبرت السيد(ماجد) الّا انني بطريقة أو بأخرى وجدتُ نفسي داخلها وكان هذا نابعٌ عن شعوري بالذنب اتجاههم بسبب حماقة زوجتي....اجتمعنا وقمنا بتغيير الخطة التي وضعوها بالكامل وقررنا أن نتحد مع كتيبة (النسور) لتمويه الأعداء...فما يعرف على مر السنين ان تلك الصفقات كانت دوماً من اختصاص (الفهد الأسود).....رسمنا الخطة سوياً بإحكام وكان علينا التعاون لنتصدّى لأعداء الوطن والانسانية!!...

×
×
×

أشرفتُ على المهمة عن كثب دون المشاركة العملية بالعملية....كانت وظيفتي توجيههم عبر الاجهزة اللا سلكية ....نحن نمتلك اسلحة واجهزة متطورة لذا كان كل عنصر يثبّت آلة تصوير خاصة به على خوذته الواقية لتوثّق الاحداث وكان هذا يساعدنا لنراقب كل صغيرة وكبيرة عبر الشاشات الكثيرة في غرفة المراقبة الحديثة في مقرّنا ..وكأننا نتواجد معهم على أرض المعركة!!.....لم يلغِ الاوغاد صفقتهم لأن الخبر وصلهم متأخراً ففضلوا خوض اشتباك مسلّح محاولين اجتياز الحدود بعربدة رغماً عنا لإيصال الأسلحة...!!....حدثت معركة عنيفة استمرت لساعات طوال...اضطررنا إمدادهم بالمزيد من أشبالنا ...فقد كان اولئك يتراوحون ما بين الثلاثين والاربعين وغْداً وأسلحتهم آخر طراز.....لا يدخل الانسان حرباً دون أن يخسر أكثر مما يربح...وما الخسارة الأعظم من أرواحنا الغالية التي وهبنا الله اياها امانة ؟؟!....مع غروب الشمس تم احباط الصفقة بالحصول على جرحى بإصابات متفاوتة من كلا الطرفين وعلى سبعة جثث من العصابة والامساك بخمسة وهروب الآخرين.....وببالغ الحزن والأسى فقدنا أربعة عناصر من (النسور) واثنين من أشبالنا وثالثهم كان قائدنا الشهم ليسمو اسمه بين القمر والنجوم في أعالي السماء القائد المغوار الخلوق ( عبد الله يونس ) شهيداً مع موكب الشهداء.....رحل الغالي تاركاً خلفه زوجة حامل وابنة في عامها الرابع.!!....
أمثالنا حين نضع قدمنا في المعسكر وننطق القسم نضع أمامنا الكفن والعلم لنكون على يقين أن طريقنا نهايته إما الموت في سبيل الله ثم الوطن على أرض المعركة وإما تكون النهاية رافعين العلم ليرفرف بحرية على قمم المجد والإباء بعد أن نذوق النصر والقضاء على الأعداء.....هكذا حياتنا تمضي بين تضحيات وهِبات ...نسقط ونعلو ...نُهزم ونربح...وما أجمل أن يكون خلفنا أهل يدعموننا ولا يثبّطون من عزيمتنا ...ما أروع أن نجد زوجات ينتظرن عودتنا بقلوب صابرة ووجوه بالحق ناضرة.!!...
في كل مرة تودّع الزوجة فارسها المغوار وكأنه لن يعود وكأن هذه الساعة الأخيرة لهما معاً....تُرسل معه حبها ودعواتها....فمنذ ارتباطها به وعدته أن تبقى على العهد وألّا تُخلف الوعد.....وهكذا كانت زوجة بطلنا (عبد الله يونس ) مثلها مثل المئات ...صبرت واحتسبت ورضيت بقضاء الله....إنا لله وإنا اليه راجعون!!..

×
×
×

مفاجآت كثيرة لم ننتظرها تعطنا اياها الحياة ....من كان يعلم أن الشخص الذي تولّى مهمة انقاذها من عصابة تجار الاعضاء البشرية هو نفسه الذي وشت عنه دون قصد منها وبنيّتها النقية وعقلها الصغير البريء ليصبح في لحظة جسداً ننتظر أن نواريه الثرى ؟!...أيا ترى هل سأجد الفرصة يوماً لإخبارها بهذا ؟!...لا لأعذّبها بتأنيب ضميرها بل لأريها الأعمال الحقيرة لوالدها ...لأثبت لها أن كل نفس يتنفسه والدها هو سمٌّ للآخرين وأن كل يوم يمر عليه يكون به حراً طليقاً هو خطر على البشرية ......هل ستستمع وتكون عادلة بحقنا كلنا أم ستنكر بغباء بعد أن تُعمى بصيرتها ؟!....لا أحد يتوقع ردة فعلها وقراراتها.....لكن أرجو من ربي أن يريَها الحق حقاً ويرزقها اتباعه ويريَها الباطل باطلاً ويرزقها اجتنابه.....!!.....أمضيتُ يومين بالمعسكر بعد أن شيعنا جنازة ابطالنا الأبرار لنواريهم الثرى بمقبرة الشهداء الحدودية سائلين الله لهم الرحمة والمغفرة ونحن نحتسبهم عنده من الشهداء وراجيين لذويهم الصبر والسلوان....!!
تركتُ (هادي ) بآلامه وأحزانه مع رفاقه واصدقائه وعدتُ مع السيد (ماجد) الى مدينة اللجوء الساحلية وأنا أحمل شخصية (يامن) رجل الأعمال الذي لم يعش أي بؤس أو مآسي وإنما أكبر همومه هي صفقة مربحة تدر بالمال أمام مجتمعه الزائف....!!
" آااه"

تنهدتُ بعمق لأطرد همومي....!!
حمامٌ دافئ وفراش مريح هو جلّ ما أتمناه لحظة دخولي بيتي كي ألملم خلايايَ المبعثرة وأعيد ضبط أعصابي واراحة عضلاتي.....البيت ساكن فالجاسوسة المدللة تنام عند خالتي (مريم) ..لقد أوصيتها عليها لتأخذها عندهم رغماً عنها.....فبعد رحيل خالتها الى ألمانيا مؤكد لا ترغب بالمكوث في بيت العنكبوت وخاصة أن والدها يتنقل بين المدن ولا يعود الا بساعات متأخرة!....هل ستذهب الى جحر الأفعى (سوزي) بقدميها ؟؟!...كلا بالطبع!!.....ولا أريدها البقاء في بيتنا حتى لو استعانت بالخادمة الوفيّة السيدة (خولة)...فبعد حادثة البغيض بتُّ لا أؤمِّنُ عليها أيّ أحد...أقلق عليها وتشغل بالي!!....اللعنة عليه كاد يدمّر مدمّرتي ويدمّرني معها !!....ضغطتُ على أسناني بغيظ بعد أن جاء في بالي هذه اللحظة....لو اني مزقته ارباً ارباً ذاك الحقير.!!....بالمناسبة ...عليّ اعلامكم...لقد اتصل بي والده السيد (رائد السيد) قبل يومين......طبعا هذا جاء بعد حديثه مع صديقه.....حماي المبجّل!!....ذاك الكريه العاصي (عاصي)....ظناً منه أن له كلمة عليّ كوني صهره ولكن لم ينله الّا الخيبة به!!.....حاول بكل عجرفة وغرور رشوتي واغرائي لأتنازل عن القضية...أراد بيع الماء في حارة السقاة.!!..هل سيخدعني بالمال الذي ادفنه به بفضل الله ؟؟!...بعد أن باءت محاولاته بالفشل ارتدى قناع الذل والمسكنة وتوسّلني لدرجة كان بها سيبكي من أجل ابنه الوحيد....ها هي نتائج سوء التربية!!....ابنٌ يسوّد وجه والديه ويهينه وينزل قدره!!... فلينم ويحلم وعليه أن يتغطّى جيداً....أنا هادي أساعده لتبرئة ابنه المجرم ؟؟!...لينتظر ويتلقّى نتائج أفعاله سواء هو أو ابنه !!...نجوم السماء أقرب له..!!
وبعد محاولاته اليائسة قرر انتظار قرار المحكمة الذي سيصدر بعد شهر على نية العودة الى استراليا ليعود الى اعماله هناك بعد أن كانت هذه البلاد أشبه باللعنة عليهم وكأن وجهيّ (عاصي) وزوجته كانا نذير شؤم لهم !!...
صعدتُ غرفتي ودلفتُ الى الحمام ...خلعتُ عني ملابسي لأتحرر وملأت حوض الاستحمام لأسترخي داخله وأدخلتُ معي هاتفي الخاص بـ (يامن) لأراجع أعمالي....فتحته فقفزت رسالة صوتية من ألمتي هامسة بعذوبة:
[" يامن!..متى ستعود؟!...أنا انتظرك في بيت والدك!.."]

عدتُ لها بمثلها:
[ " أنا في البيت....أتودين العودة أم البقاء هناك لأن الوقت متأخر"]

بعد قليل رجعت بانشراح ظهر في طيّات صوتها..:
[ " حقاً عدت؟....الحمد لله على سلامتك!....أريد العودة ...هل ستأتي لتأخذني ؟!.."]

حقيقةً كنتُ مرهقاً وفكرت بالقيادة واحبطت وانا افكر بالمشوار ...يا الهي ذهاباً وجيئة!!.....بما أني سألتها عليّ تحمّل اندفاعي والذهاب لإعادتها لبيتي....وربما.....لحضني!....من يعلم؟!...لا أحد يعلم!!..

[ "حسناً يا قطة...سأنهي حمامي وأصلي ومن ثم آتي ان شاء الله"]

[ " حسناً...انتظرك...رافقتك السلامة " ]

×
×
×


كانت غرفة النوم الخاصة بالضيوف في شقة أبي(ابراهيم) بأثاث عصري وتصميم تركي والتي تحوي على سرير زوجي ظهره مخمل رمادي فاتح وخشبُه درجات أغمق وأريكة جانبية سوداء تزيّنها ثلاث مخدات رمادية عليها نقشات وخزانة خشب كلون السرير...ارسلت رسائلها لي وهي تحبس نفسها بها فقد كانت تشعر بالخجل وهي بين ابي وخالتي ولم تكن تخرج الّا بعد دعوة الأخيرة لها للطعام والتسلية وما شابه ذلك....كانت تخشى ازعاجهما وتشعر أنها متطفلة عليهما بمكوثها في بيتهما رغم أنها استطاعت من يومين استشعار ورؤية اهتمامهما بها وتوجيبهما لها .....!!
خرجت من غرفتها بحبور لتبشّر خالتي بعودتي والتي كانت بالمطبخ منشغلة بتحضير طعام العَشاء المتأخر لهذا اليوم وكان أبي (ابراهيم) في المسجد ليصلّي العِشاء....
" سيدة مريم...يامن على الطريق !.."

سكبت الصلصة البيضاء داخل الصينية التي تحوي على المعكرونة بمختلف اشكالها والممزوجة بشرائح رفيعة من صدور الدجاج والفطر المقطّع وهتفت بسعادة بينما كانت تصفّ مربعات الجبنة الصفراء على الوجه قبل ادخالها الفرن:
" يبدو أن ابني حماته تحبه ....سنكسبه على العشاء معنا..!!"

اقتربت منها بعد أن لمعت عيناها بحنين لوالدتها التي خطفها الموت قبل أن تشبع منها ومن حنانها كونها حماته وهمست:
" كانت ستحبه لو كانت بيننا....لأن خالتي فاتن تحبه.. وهي وامي كانتا تتفقان على كل شيء....هكذا حكت لي خالتي!!.."

التفتت نحوها تهديها نظراتها العطوفة بعد أن لامست حزنها الدفين وخاصة وهي تعرف وضع خالتها الصعب ورفعت يدها تمسّد على وجنتها بحنوٍ وهمست:
" ونحنُ نحبك صغيرتي...أي أنا وعمك ابراهيم....لم يرزقنا الله بابنة لتكوني أنتِ ابنة لنا .....تأكدي من ذلك حبيبتي!!.... "

لقد شعرت أن واجبها إغداقها بالحنان والطمأنينة وقد نبع كلامها من صميم قلبها ...لا تمثيل ولا خداع...فها هي الحقيقة...هما يحبانها ويتعاطفان معها وعندما تكون المشاعر صادقة تصل للطرف الآخر بسلاسة كنسمات ربيعية لطيفة تبرّد الروح المتعطشة للاهتمام والحنية ...لذا بعفويتها الفطرية ونقاء سريرتها واحتياجها مع هروب دمعتين كانتا أسيرتا رموشها الكثيفة ارتمت لتحتضن الواقفة قبالتها وكأنها معتادة عليها وعلى هذا القرب وهمست برقة وبراءة:
" وأنا احبكم...سيدة....خـ...خالتي مريم "

طبطبت على ظهرها وشدت باحتضانها ولم تستطع منع عبراتها من مفارقة مقلتيها ولم تفلتها حتى تحررت منها بنفسها هامسة بابتسامة وهي تمسح وجنتيها لتخفي بكائها :
" بماذا اساعدك خالتي ؟!.."

ردّت عليها لتشعرها أنها ببيتها ولتدخلها بالأجواء العائلية مع المزاح:
" رتبي الأطباق والشوَك والسكاكين على طاولة السفرة خارج المطبخ....فبما أننا ازددنا نفراً هذه لن تكفينا وخاصة ما شاء الله أنت ترين بنفسك الأب وابنه بجسديهما الضخمين ...لن يتركا لنا مكاناً أنا وانتِ!!.."

ضحكت بحياء وبدأت تنفذ مهمتها ولما قرع الجرس اندفعت بحماس لتفتحه وابتسامتها المشرقة تنير وجهها .!!...ومع ظهور أبي (ابراهيم) يحمل علبة فيها كنافة للتحلية بعد الطعام خبُتَ حماسها محرجة وردت بتردد بعد القائه السلام :
" وعليكم السلام عمـ..عمي...إبراهيم "

غمرته السعادة لسماعه لقبه الجديد فهي لم تنادهم يوماً الّا بالألقاب الرسمية فمدّ ما يحمل نحوها وقال يمازحها:
" خذي هذا بنيتي...اعلم أنني خيبتُ ظنك....فتحتِ على أمل أن تجدي ابني الوسيم فاصطدمتِ بالعجوز القبيح..."

تلوّن وجهها وتناولت منه ما بيده وهمست بتلقائية وصوت مختنق من حيائها:
" لا تقل هذا عمي....أنت وسيم ويليق بك أن تكون شقيق يامن وليس أباه.."

ضحك يجاملها وقال بمزاح مختلطٍ بالحنان:
" رضي الله عنكِ بنيتي....سأصدق نفسي...هذا قوليه أمام مريم ولا تقوليه أمام ذاك الغيور.."

اومأت برأسها ورمشت بعينيها توافقه وأغلقت الباب خلفه فقال وهو يولّيها ظهره متوجهاً للجلسة المفتوحة في الشقة:
" الوسيم خاصتك يصفّ السيارة في الموقف....لقد وصل اطمئني!!.."

رفرف قلبها وبدأت ترتب ملابسها وشعرها بعشوائية وصارت تحوم قرب الباب منتظرة بشوق وما إن قرعت الجرس حتى فتحته بسرعة لتستقبلني متهللة الأسارير تسلّط سماءيها على وجهي وظلّت واقفة ببلاهة تسدّ المدخل بجسدها النحيل وذراعها الرقيقة التي تسندها على اطاره الى أن قلت بهدوء:
" هل سننتظر كثيراً؟!.."

أنزلت يدها وأرخت جسدها ثم اخفضت رأسها بخجل وهمست:
" حمدا لله على سلامتك..."

لتلحق بكلماتها على حين غرة قبلة ناعمة تدغدغ بها خدّي وقلبي بعد أن جالت بعينيها يمنة ويسرة لتتأكد من خلو المكان وهي ترتفع على رؤوس اصابعها ...فحاصرتها فوراً بذراعي الذي حوّط ظهرها لأجذبها اليّ حتى التصق جسدها بجسدي ثم طبعت قبلة دافئة على جبينها وهمست:
" سلّمك الله لي يا ألمتي "

بقيتُ محاصرها فبدأت تتململ تحاول التحرر محرجة وخجلة لشعورها بالحركة خلفها مصدرها خالتي التي كانت تنقل الطعام وتهدينا ابتسامتها الحنونة بعد أن رأتنا متقاربين ولمّا لم تنجح بالهرب مني وضعت كفّ يسراها على كتفي خاضعة وتطلعت عليّ بحياء ورجاء بوجنتيها المحمرّتين وهمست:
" يامن...اتركني...لقد فضحتني....ماذا سيقولان عنا؟!.."

ارتسمت ابتسامة على ثغري ودعمتُ ذراعي الأيسر الذي يحيط ظهرها بالأيمن وهمستُ وأنا أتأملها بحُب :
" سيقولان زوجان مشتاقان لبعضهما ...أم أنك لم تشتاقي لي ؟!.."

نسيت نفسها ومكان تواجدها ورفعت يمناها لتضعها هي الأخرى على كتفي هامسة بعذوبة ورقة بعد أن أذبتها بأنفاسي وهمساتي وحرارة جسدي:
" بلى...اشتقتُ لك...بل اشتقتُ كثيراً..."

يا الله...كانت كمن تنتظر حتى أفتح لها الطريق لتبوح بمشاعرها اتجاهي ....كم كنتُ فظاً غليظ القلب معها....!!...سنموت جميعاً ومع أننا نعلم أن هذا آتٍ لا محالة الّا أننا لا نترك أذية بعضنا وبأصعب وأشدّ طرق الأذى ...لمَ لا نعطي أنفسنا الفرصة لنعيش بسلام ؟؟!!..لمَ نستسهل خوض الحرب والخصام؟؟!!...
من اهتمام بسيط صدر مني أطلقت العنان لنفسها....ما اغباني كيف حرمتُ نفسي قبل حرمانها من العيش لحظات دافئة هنيّة.....كنتُ في غفلة وصحوتُ منها وكل هذا بسبب مخاوفي من مصير علاقتنا التي لربما ضخّمتها وهوّلتُ من حجمها دون داعي.....زارني الأمل وسأتشبث به ولن أتراجع ابداً....سأصدقه وأصدّق حبي ونوايا قلبي....ألمتي لن تتركني وستفهمني....إن كان اليوم أو غداً...ألمتي كانت وستكون دوماً لي ....وسنعيش معاً كأننا في دنيا الخلود...!!
اجتمعنا على مائدة طعام العشاء ولمّا رأيت ثلاثة أنواع بأطعمة مختلفة من المعكرونة قلت مازحاً بينما كنتُ أشير بيدي وأجول في نظري على الأطباق:
" معكرونه ...ومعكرونه.....وأخرى معكرونة....يا الهي....هل جئت من سفري لتملؤوا معدتي بالعجين ؟!...ما كل هذا ؟...ألم يكفِ نوعاً واحداً..؟؟.."

ردّت خالتي ضاحكة:
" هذا اليوم الثالث على التوالي أحضّر معكرونة لها فأنا علمت أنها اكلتها المفضلة وأن الأكل الايطالي بشكل عام عشقها..."

أشارت لأحد الأنواع وأردفت:
" هذا طبخته أمس وقمتُ بتسخينه مجدداً.."

حدّجتُ التي تجلس جواري من فوق لتحت وقلت متهكماً:
" من يراها يظن أنها تعاني من مجاعة ولا يدرون أنها تأكل أكل غير صحي وبكميات تكفي لعشرة أنفار.."

وضعت شوكتها في طبقها بانفعال ورمقتني بنظرتها الغاضبة التي تأتي بعد استفزازي لها وسألت مستنكرة:
" أنا يا يامن آكل كميات تكفي لعشرة؟؟...حرام عليك...سيصدقونك الآن !.."

تدخّلت خالتي لتهدئتها مع ابتسامة ترسم على محيّاها:
" لا تهتمي لما يقول بنيتي وتابعي طعامك"

بعبوسها الطفولي همست لها:
" أخبريه ألّا يتدخل بطعامي يا خالتي ...أنا لا اتدخّل بطعامه!!.."

لسماعي كلمة خالتي انشرح صدري....هذا دليل على أنها بدأت تنخرط بيننا وتشعُر بالألفة والقرب من عائلتي....كم أسعدني هذا الأمر...حمداً لله.!!

اقتربتُ منها هامساً قرب أذنها:
" إذاً لا تترجيني بمنتصف الليالي لأطبخ لكِ معكرونة ادوارد صديقي الايطالي !!.."

فعلت بالمثل واقتربت تحرقني بأنفاسها وهي تهمس:
" بتُّ أعرف مكانه....سأذهب وحدي ....لا تمنّ عليّ.."

ضحكتُ وعدّلت جلستي ثم وجّهت نظري وسؤالي للذي يراقبنا صامتاً:
" أبي ...هل ضحكتا عليك وخدعتاك بالعجين ؟!.."

ضحك ضحكة جهورية وأجاب مفتخراً :
" مريوما طبخت لي على الغداء ورق العنب وقطع من الدجاج المحمّر.....أنت تعلم لو لم تفعل لوضعتها وفوقها زوجتك وتغدّيت عليهما....لا مزاح بالطعام عندي!.."

شهقتُ مصدوماً وقلت:
" خيانة...ورق عنب؟!.."

ثم نظرتُ لخالتي معاتباً:
" سامحك الله....هل بسرعة نسيتِ أنها أكلتي المفضلة؟؟!....لمَ لمْ تتركي لي حصّتي ؟؟!..."

بابتسامة حنونة شقت ثغرها أجابتني:
" أيعقل يا عزيزي ؟!...لقد وضعتُ لك جانباً نصيبك بعلبة كبيرة لتأخذها معك وتتغدا عليها غداً إن شاء الله ..."

تنهدتُ بارتياح وضحكتُ وقلت ممتناً:
" أجل ...هكذا عهدتك خالتي.....لكني أريد أن آكله الآن وليس غداً..."

ثم همست لزوجتي:
" بعد انتهائك من طعامك ....سخّني لي عشقي ...أي ورق العنب!..."

تململت لتقوم بالحال فأوقفتها خالتي قائلة:
" اكملي طعامك....سأسخنه أنا حالاً في الفرن الموجي (ميكروويف).."

انهينا طعامنا..تناولنا الكنافة وبعدها احتسينا الشاي مع إكليل الجبل...وقفتُ أتمطّى ..كنتُ اشعر بجسدي مرهق ...والحقيقة كنتُ مرهقاً ومنهكاً نفسياً ايضاً....من قلة النوم ومن الحزن في عمق فؤادي على رحيل صديقنا القائد وعناصرنا ولكني تمكّنت من اخفاء هذا واستمريّت بمسرحيتي كـ(يامن)...!!
قالت خالتي(مريم):
" لو أنك تبقى هنا الليلة....الوقت متأخر والجو ماطر وعاصف في الخارج....وبيتنا الآن ادفأ من القصر....ما رأيك؟!.."

أجبتُ متثائباً:
" ومن قال أنني لن أبقى ؟!...في الحقيقة خرجتُ من البيت وانا عاقد النية على ذلك....سيغمى عليّ من التعب والنعاس ولا حيل لدي لمحاربة أزمة المرور في الشارع!!.."

وقفت (ألمى) متفاجئة واقتربت مني مشيرة بعينيها على ملابسي:
" ألهذا جئت بملابس البيت ؟!.."

كنتُ أرتدي بنطالاً اسوداً رياضياً على جانبيه خطين ابيضين وبلوزة سوداء يكسر سوادها شعار الماركة الابيض في منتصفها ..!!

قرصتها من خدها وأجبت بمداعبة:
" لهذا يا زوجتي!!.."

تورّد وجهها وهربت بعينيها خجلاً من أهلي...!!.....

×
×
×

دلفنا الى غرفتنا او الأصح غرفة الضيوف لننام....سبقتها متجهاً نحو السرير وارتميتُ عليه واضعاً كل ثقلي من شدة اجهادي....وقفتْ أمامه عند موضع القدمين وسألت ببراءة:
" وأنا؟...أين سأنام؟!.."

وضعتُ ذراعي على جبيني لأحجب الضوء عن عينيّ واجبت بخفوت:
" السرير بحجم عائلي....يمكننا النوم عليه مع اولادنا إن اردتِ!."

قطبت حاجبيها ...يبدو أنها لم يعجبها جوابي !!...وقالت في سرها...." كيف سننام هكذا جوار بعضنا على طول؟...نحن لسنا معتادين!!...يا الله اشعرُ بالحرج...على الأقل من باب الذوق كان عليه انتظاري لأنام أنا اولاً ثم اسمح له بمشاركتي السرير....لكن ماذا سأقول وزوجي...حائط...حااائط..."...تبس� �مت وتمتمت دون ان اسمعها:
" حائطي المغرور الوسيم "

دخلت الحمام لتبدل ملابسها.....ارتدت منامة قطنية خمرية والتي كانت ببنطال ضيق وبلوزة متسعة بعض الشيء....دنت بخطوات مترددة الى جهة اليسار من السرير...فكّرت قليلاً....ووضعت احدى مخدتيها في منتصفه بعد أن ابعدت الغطاء قليلاً....جاسوستي تبني جداراً عنصرياً فاصلاً بيننا!!...لم تفقه المسكينة كمية العتاد التي بحوزتي من مدرّعات ومدافع لأنسفه إن رغبت باحتلالها !!...دسّت نفسها تحت الغطاء والتصقت بالطرف الأقصى من السرير مستلقية على جانبها الأيسر تتوسّد يدها وشردت بستار النافذة المقابلة لها.....جحظت عينيها بذهول واحمرّ وجهها بالكامل عندما سألتها بغتةً ومن غير مقدمات ودون ان احرك شيئاً بي وذراعي ما زال على جبيني:
" هل انتهيتِ منها أم لا..؟؟!."

بصعوبة حتى ازدردت لعابها وتملّكها الغباء سائلة بصوت مختنق رغم معرفتها فحوى سؤالي :
" انتهيتُ من...من ماذا ؟؟!.."

" الدورة الشهرية..!!.."

كادت تقع وهي تدنو اكثر من حافة السرير هاربة من شدة خجلها مني وأجابت بنبرة خفيضة:
" ليس بعد!.."

" آه أجل...حسناً...هل كلمتِ خالتك ؟!"

" كلمتها ظهراً....كانت تتنزّه هي والسيدة ايمان في احد المجمعات الكبيرة الموجودة في مدينة فرانكفورت..!!.."

حبيبتي !!...تظنّ أن خالتها تتنزّه بينما كانت تخضع لفحوصات شاملة قبل اجراء العملية التي ستكون بعد ايام قليلة !!....لقد تعاونتُ مع صديقي الألماني (آرثر) والذي يقيم في هذه المدينة وهو الذي أخبرني عن شهرة ونجاح هذا المشفى المتخصص بالأورام الخبيثة ومنها ورم الراس لذا كان اختيارنا وتوجهنا الى هناك ..!!..وبالطبع (ألمى) تجهل كل هذا وكل هذه الاجراءات !!......
آمل أن يتم كل شيء على خير وأن تعود لنا سالمة معافاة ولصغيرتها اليتيمة ..!!..

" جـيد....أتمنى أن توفق في رحلتها وتعود بالسلامة .."

" شكراً لك.."

" العفو...لكن من الأولى أن تقولي ان شاء الله او يا رب يا ألمى.....يا حبذا لو أنك تعتادين على هذا الكلام الذي يريح القلب....ارفقي دائما بحديثك اسم الله ...رطّبي لسانك بذكره ولا تنسي أن كل شيء يجري معنا هو بمشيئة الله وارادته وليس بقوتنا ...علّقي كل شيء سيحصل بالمستقبل الذي نجهله به وحده لأنه كله مقدّر ومكتوب عنده.....اتفقنا ألمى ؟!.."

بالنعومة التي تزيّن صوتها ردّت بطاعة وقبول:
" اتفقنا....ان شاء الله .."

تبسّمتُ راضياً منها منشرحاً لأجلها واستدرتُ لجانبي الأيسر اتأمل شلالها الليليّ الذي ينساب على مخدّتها بشكل مبعثر وهمستُ بنبرة مرحة:
" غداً الأعمال تنتظرني ان شاء الله أي أنني لا استطيع الانشغال بكِ بعد أن تسقطين من السرير إذا آذيت نفسك...ككسر عامودك الفقري...او عنقك او يدك مثلاً.....لذا اقتربي للمنتصف وابتعدي عن الطرف فها انتِ ما شاء الله وضعتِ مخدة ونصبتِ مضادات الصواريخ.....لن أفعل لكِ شيئاً !!...هيا يا قطة...اقتربي!!.."

تحركت مكانها واقتربت بضع سنتمترات ضئيلة وكأنها لم تتزحزح فمددتُ يدي وسحبتها على غفلة بعد أن ألقيتُ المخدة أرضاً وحاصرتها من بطنها بذراعي حتى الصقتها بصدري وهمست :
" نامي ولا تتحركي....أريد أن انام !!.."

تململت وهمست :
" هلّا تركتني لو سمحت ؟!...لا استطيع النوم بهذا الشكل !!.."

حررتها فابتعدت قليلاً واستلقت على ظهرها شاردة بالسقف ولم أدرِ كيف نمت وكيف هي نامت ؟؟!!...

في الصباح استيقظت قبلي فوجدت يدي الضخمة مركونة على خصرها الأيسر لأن وجهها ازائي.....لا يمكنها اتهامي لأني كنتُ مكاني وهي التي التصقت بي من غير وعي وادراك اثناء نومها ...لمّا رأت أنها داخل حدودي امتقع وجهها حرجاً...ارادت التسلل والهروب قبل أن امسك بها ....عدّلتْ نومتها لتصبح على ظهرها فغدت يدي على بطنها...استرقت النظر إليّ لتتأكد إن كنتُ نائماً وبيديها الاثنتين حاولت ازاحة ذراعي المصبوب بثقله عليها ...حاولت جاهدة الزحف وهي ترفعه ولما تململتُ لأقلب على بطني...عجّلتْ بحركتها بتهور حتى أضحت على الأرض تسقط على مؤخرتها مع اصطدام كوع يدها بخشب السرير!! ...فتحتُ نصف عين بعد أن تأوهتْ وقلت:
" ماذا استفدتِ من هروبك سوى مؤخرة مضروبة يا قطة ..!!...أرجو أن لا يترك سقوطك الحر آثراً وبقعاً زرقاء على جسدك يا بيضاء الثلج !!..فنحن نحتاجه نظيفاً وبجودة عالية قريباً.....لا يمكننا ارجاع البضاعة بعد مدة.. "

غضنت جبينها وكمشت ملامحها من وجعها وحرجها وتمتمت تعتقد لم اسمعها وهي تمسّد كوعها:
" يا الله كم أنّه رجلٌ وقحٌ وقليل أدب....وحائط بلا احساس...يثرثر بدلاً من أن يساعدني ويداويني..!!.."

" سمعتك!!...أنا لديّ طرق خاصة بالعلاج وما متأكد منه أنك لا تريدين معرفتها ولا تجربتها هذه الفترة !!....يعني انهضي بهدوء واستخدمي الحمام لأني اريد الدخول ...هيا يا حلوة !!....علينا العودة الى البيت حالاً لأجهز نفسي !!.....لا يمكنني التأخر عن الشركة ....لديّ موعد مع احد العملاء المهمين !!.."

×
×
×

أصرّت خالتي علينا لنتناول الفطور معاً....أفطرنا وعدنا الى البيت ومن بعدها اوصلتها لجامعتها وتوجّهتُ الى شركتي....أنهيتُ أموري كلها بحلول العصر....قبل دخولي القصر وصلتني رسالة على هاتف (هادي)...فتحتها ولم أكن اعلم أنها ستكون من أجل مهمة هي من أصعب المهمات التي وُضعت على عاتقي ...

[ السلام عليكم هادي...أنا ايمان ....خرجت نتائج فحوصات فاتن....الحمد لله على كل حال....ادعوا لها وكثّفوا الدعاء....حالتها شبه ميؤوس منها لكنهم سيجرون لها العملية بكل الحالات لربما تسرق أياما او شهوراً أخرى من عمرها حسب التقديرات الطبية وبالطبع كله بيد الله .....المهم هي تبعث لك سلامها وتقول لك ...يمكنك الآن اخبار ألمى بحقيقة مرضها .....سهّل الله أمورك ...نحن نعلم أننا نسلّمك دوْراً يفوق طاقتك وقدرتك على تحمل ردود أفعالها ولكننا نثق أنك ستجتازه بإذن الله....كان الله في عونك....سلام ]

يا مغيث اغثنا....تقطّع قلبي على هذا الخبر الأليم....مسكينة سيدة (فاتن)....كنتُ اتمنى أن يفاجئونا بأخبار سارة وليس بشيء يغمّ البال ....يا الله...ما لنا غيرك يا الله....!!
ستبقى آمالي في خالقي كبيرة.....رحمتك يا رحيم.....!!....

نفثتُ أنفاسي بقوة كأنني أطرد ضعفي ....سمّيتُ بالله مستعيناً به...فتحتُ الباب وولجتُ بعد أن تسلّحت بالقوة والصبر والهدوء التام عكس العواصف والأعاصير التي تدور في داخلي.....وجدتها في غرفة العائلة تفتح التلفاز وتفترش الأرض قرب طاولة الجلسة هذه وتفرد عليها كتبها ودفاترها وكان هاتفها على أذنها تكلّم صديقتها بينما بيدها الأخرى ترسم خربشات مع اطلاق ضحكات بسعادة من ثغرها الرقيق.....تألمتُ من أجلها....ستتحول هذه السعادة الى كارثة والضحكات الى صرخات ....ألقيتُ التحية فاستدارت بوجهها البشوش وهمست للتي تكلمها:
" أكلمك لاحقاً ميار.."

ثم ردت على تحيتي:
" وعليكم السلام....اهلاً.."

تبسّمتُ مجبراً...كنتُ أحثُّ قدميّ حثّاً لتتقدّم...جلستُ بهدوء ...وهي تراقب تحركاتي دون أن تنبس ببنت شفة....تنحنحتُ هامساً بصوتٍ لم استطع السيطرة على اهتزازه :

" أريد التحدثُ معك في موضوع هام إن كنتِ شاغرة ..!!.."
" أريد التحدثُ معك في موضوع هام إن كنتِ شاغرة ..!!"

من قال لهم ليعطوني هذه المهمة الشاقّة؟!...الأمر ليس هيّناً ابداً....أنا مضطربٌ ومتوترٌ بشدّة...لا استطيع قراءة ردود افعالها وكيف سأتصرّف معها !!....لكني مجبرٌ....عليّ القاء ما على عاتقي وبعدها لنرى ماذا سيحدث؟!!...الموضوع أثقلني ويضغط على صدري... يجعلني غير قادرٌ على التنفس!!.....مددْ من القوة والصبر يا الله...!!....

ما إن قلتُ جملتي حتى عدّلت جلستها باستعداد وتأهب.. تحدّجني بفضول وهمست:
" أقوم بحل وظائفي فقط !!...أي موضوع ؟!.."

زفرتُ أنفاسي على مهلي بينما كنتُ أبعد أرضي عن مواجهة سمائها.!!....لغة العيون تكشف الكثير !!....مؤكد ستفضح توتري..لذا تنصّلت من تلاقي النظرات.....امتحاني صعب !!.... نابضي ينبض بشدة !!!....ما بالي قلقٌ لهذه الدرجة؟؟!....اهدأ يا هادي....اهدأ.....هذا لا يساوي شيئاً عند ما ينتظرني في المستقبل القريب....بل اقرب مما اتصوّر!!....هناك بالضبط سيكون القلق الحقيقي....وموت قلبي!!....

قلت متهرّباً لأشتت انتباهها وهي تتفحصني كبرج المراقبة في ساحة السجن :
" كيف هي أمور دراستك؟!..هل كل شيء على ما يرام ؟!.."

ضيقت عينيها بتفحّص وقالت بدهاء بعد ان كانت مركّزة معي تربّت برتابة بالقلم على شفتيها الورديتين الساحقتين:
" وجهك يوحي بكلام لا يمتّ بصلة لسؤالك أم أنني مخطئة؟!.."

حككتُ مؤخرة عنقي وتنحنحتُ أجلي صوتي فتابعتْ بذكائها الذي يعود اليها من حين لآخر مع ابتسامة ماكرة لا تشبه براءتها قبل أن اتفوّه بحرف:
" قرأتُ يوماً عن لغة الجسد وكانت احداها أن لمس العنق يدلّ إما على توتر صاحبه أو محاولة الهروب من موقف ما أو الكذب....أيّ حالة منهم أنت؟ّ!.."

أجبتها بابتسامة مائلة بعد أن استعنتُ بالشجاعة قبل أن أُهزم امامها:
" وتدلّ ايضاً على وجود ناموسة متطفلة لدغتني !!...ألا يمكن ذلك؟!.."

تبسّمت تكشف عن لؤلؤها الناصع بين شفتيها وقالت:
" الجو بارد ..من أين سيخرج الناموس؟!."

احنيتُ ظهري نحوها لأقرّب وجهي لوجهها الساحر ..غمزتها وهمست:
" لأن الجو بارد ...أرادت المتطفلة دمي الحامي....الحامـــي يا زوجتي!.......ليت الآخرون يشعرون بدمائي الحامية"

أشاحت وجهها جانباً مع ابتسامة خجولة وتمتمت:
" غليظ!.."
ثم سرعان ما مسحت ابتسامتها تعود للجدّية سائلة وهي تقوم من مكانها متكئة بيدها على الطاولة:
" أجل اخبرني... ما هو الموضوع الهام ؟!.."
ومع انتهاء سؤالها كانت قد جلست جانبي تلتفت بإمعان نحوي !!....

برأيي أن محاولاتي لقمع القلق سيضاعفه ....ربما هذه مجرد مخاوف تافهة تهيج أعصابي عبثاً!!...
تنحنحتُ مجدداً وقلت وانا اتكئ بذراعيّ على فخذيّ وأطبق كفيّ على بعضهما دون النظر اليها :
" ما هي اخبار خالتك؟!.."

تطلّعتُ عليها مستمراً بوضعي وتابعت بهدوء:
" هل كلمتيها اليوم؟!.."

رفعت حاجباً بتساؤل وبهُتَ لون وجهها قليلاً وقالت:
" ليلة البارحة سألتني ...ما بك تسأل الآن؟!...أهناك شيء؟!.."

هززتُ رأسي رافضاً بتهرّب وأجبت:
" كل خير ان شاء الله !...فقط اردت الاطمئنان !!.."

مدّت يدها تمسك معصمي وهمست بصوت بدا مهتزاً بينما دقات قلبها آخذه بالتسارع:
" يـ...يامن اشعر أن بفمك كلام غير هذا....!!.."

عليّ أن انطلق نحو الحرية بعيش اللحظة وإطلاق سراح الحقائق مهما كانت مؤلمة وقاسية ....إلى متى سأداري؟!....سوف نجد الطريق الى الراحة في همسات الواقع الذي نواجهه ....هي ضربة واحدة ستؤلم...وستأتي ساعة ويزول ألمها.....الهمها الصبر والسلوان يا كريم يا رحمن....!!
سحبتُ انفاسي ثم زفرتها بتمهّل واسندتُ ظهري لظهر الأريكة مع امالة بسيطة نحوها ثم حاصرتُ كفّ يسراها بين كفيّ علّني استعين بسحر اللمسات الدافئة وقلت ناظراً لعينيها:
" أتعلمين لمَ ذهبتا الى ألمانيا ؟!.."

رغم انها كانت متأكدة الّا أن جوابها اختبأ خلف شحوب بشرتها:
" بالطبع...ستشاركان في مؤتمر خاص بشؤون اللاجئين والذي سيمتد لأيام !!.."

ابتلعتُ ريقي وابعدتُ حدقتيّ عنها هارباً الى البعيد هامساً بهدوء :
" لم تذهبا لمؤتمر..."

لم اعطها المجال لأي استفسار عندما تابعتُ بنبرة أضعف بعد أن غدرتني حبالي الصوتية وكأنها تسعى لـ ألّا تسمعني :
" ذهبتا للعلاج..."

استلّت كفها من بين يديّ وهتفت مستنكرة :
" علاج؟؟!!...أي علاج؟؟!...لِمن؟!.."

انها تقف أمام مفترق يأخذها لأحد السبيلين ....سبيل الجزع والقنوط.....أو سبيل الصبر والإيمان....!!...يارب اختر لها ولا تخيّرها....

أجبت باختزال:
" لخالتك.."

هبّت واقفة تطالعني بنظرات ضائعة قاطبة الحاجبين:
" لقد انتهت خالتي من مسألة أكياس الماء منذ فترة ...وهي تتمتع الان بصحة جيدة....لا بد أنك فهمت بشكل خاطئ!!...مع من تحدثت ؟!..."

رفعتُ رأسي أرنو إليها بعطف ثم مددتُ يمناي أمسك يسراها قائلاً بلطفٍ وحنوٍ:
" ستتحسن بإذن الله ....لا تقلقي....فقط ادعي لها..."

نفضت يدها لتحررها من قبضتي وعلا صوتها بحدّة :
" تتحسن من ماذا؟!....هي تحسنت بالفعل!..."

اخفضتُ رأسي أرضاً وتابعتُ بهدوء ظاهرياً عكس الانتفاضة في باطني:
" لديها ورم......ورم سرطاني في دماغها وذهبت لاستئصاله ومتابعة العلاج الكيماوي !...و...هي في مرحلة متقدمة من المرض....شفاها الله وعافاها"

ضحكة خفيفة في البداية ثم اطلقت العنان لأخرى وعيناها تسيل دموعاً من شدة الضحك ...استمرت تضحك وتضحك دون سيطرة كأن ذبذبات صوتي اوصلت لها كلماتي بمعنى آخر وبعد انتهاء هذه الوصلة تحوّل وجهها للوجوم كأن تياراً صعقها وضاقت أنفاسها ثم قالت:
" أتعلم أن هذه أقبح مزحة أتلقّاها من أحد ؟!...."

عادت للضحك وقالت وهي تحرّك يدها أمامي تنهاني عمّا تفوّهتُ به بينما أنا كنتُ أراقب كل حركة وردة فعل لها مصدوماً من أثرِ صدمتها:
" أرجوك لا تعيدها....دمها ثقيل ولا مزاح بهذه الأشياء..!"

ولمّا رأتني لم اغيّر شيئاً من ملامحي ولم أنطق أي حرف واستمرّيتُ على حالي بدأت تخفف من حركاتها وكأنها بدأت تعود لوعيها ...تسمّرت مكانها تضيّق عينيها بتركيز دون أن تزيحهما عني لتقتنص ضحكتي او لتستمع لاعترافي بمزحتي متشبثة ببقايا أمل من النكتة التي اطلقتها عليها....ليتها نكتة يا (ألمى) بالفعل!!.. وعندما لم تجني أي بصيص من رجائها ارتجّت حدقتيها داخل عينيها وعادت الغيوم تتجمع في سمائها ثم جثت أرضاً أمامي تمسكني من ياقتي تحاول هزّي بينما الكلمات تخرج منها مرتجفة بعشوائية :
" أنـ..أنت تكذب !!.."
" تكذب ..!!.."
" هذا غير صحيح "
"" قل لي ....أنك تمزح"

بقيتُ على حالي أنظر لعينيها مستسلماً تاركاً لها المجال لتفعل بي ما تشاء ...أريدها أن تفضفض ...أن تفرغ غضبها...وأن تصرخ....ولتكسر...أجل تكسر رأسي لن اعترض...سأفديها به المهم أن ترتاح ....لتفعل أي شيء ...اي شيء يخفف عنها...أي شيء لا يقتلها ويقتلني معها .....لها كامل الحرية الآن..!!....

احتقن وجهها وصارت تطالعني بنظرات حارقة تحرقني وكأنني مذنب لكنها تابعت بهدوء:
" خالتي ليست مريضة....أتفهم؟!!.."

تهزني بصورة أقوى وأعنف وتكمل بصوت خفيض مغاير لحركتها :
" هذا كذب...لا يمكن ...مستحيل..."

ارخت يديها وحرّكت رأسها يمنة ويسرة تبحث عن أماني وآمالٍ سقطت على الأرض وتاهت منها...تبحث عن حقيقة لا تريد سواها وهي أن هذا كذب....وقفت بتباطؤ ووهن ....جالت مرةً أخرى بزرقاوتيها المحروقتين في ارجاء الغرفة....اغلقت اذنيها بكفيها وبدأت تهز رأسها بجنون متمتمة:
" مستحيل ...مستحيل....خالتي لن تتركني !!.."

دقيقتان وسكنت حركتها الجنونية ثم عادت للجلوس أرضاً مثلما كانت أثناء دخولي وأمسكت القلم المرتجف مع ارتجاف يدها لتتابع حل واجباتها وهي تطأطئ رأسها في دفترها بينما تهمس بخفوت:
" لن تموت خالتي ....لن تتركني وحدي!!....كذب"

لكن خلاياها العصبية خانتها ولم تتح لها المجال لتثبيت يدها لتكمل فألقت القلم بغل على الطاولة ووثبت كالملسوعة شاتمة بحنق:
" اللعنة...اللعنة على كل شيء!!.."

وبدأت تجول في أرجاء الغرفة مثل الفرس الهائجة التي تحتاج لترويض وتشدّ قبضتيها جانباً تغرز اظافرها بباطن كفيها مستطردة بحنقها:
" اللعنة....اللعنة على هذه الحياة الكريهة.."

وقفتُ بغضب منزعجاً من كلامها ونهرتها بحزم :
" هــيه ألمى...لا تلعني الحياة....الحياة والموت من الله ...لا تتعدّي حدودك وانتبهي لما تتفوهين به...عليكِ أن تصبري وتحتسبي لأي بلاء يصيبك !!...ما بكِ فقدتِ عقلك ؟!....استغفري وحوقلي "

...كانت ثائرة...ثورة غضب...ناقمة حد الجنون ...مشتعلة وتنفث لهباً ....وتتحرك بعدوانية دون سكون !!..تمتمت بكلمات لم أتمكن من فهمها ....لا بد أنها شتائم وماذا سيكون غير هذا ؟َ!..... ...اقتربت منها من خلفها وحاصرتها بذراعيّ فبدأت بهياج أكبر تحاول تحرير نفسها وبقبضتيها الصغيرتين تضرب يديّ المكبلتين لها على بطنها ....احنيتُ رأسي لأقترب هامساً بأنفاسي في اذنها:
" اهدئي ...لن تتركك ألمى......ستشفى بإذن الله ....اهدئي فقط..."

علا صوتها درجة وازدادت همجية بحركاتها ...تركلني مرة بقدميها وتحاول ضربي مرة بيديها :
" لن اهدأ ...اتركني....اتركني....لا استطيع التنفس انت تخنقني !!.."

لم الحظ أنني كنتُ احاصرها بقوة لدرجة ضغطتُ على رئتيها ...ارخيت يديّ ثم أدرتها نحوي وامسكتها قرب كتفيها وقلت بهدوء وانا اهزّها بخفة ووجهي يقابل وجهها وانفاسنا تختلط ببعضها:
" هذا كله لا ينفعك ولا ينفعها ...اهدئي !!...بالله عليكِ اهدئي."

بكفيها ابعدت يديّ عنها ثم تابعت بنبرة حادّة دون بكاء فالمياه تبخّرت من جسدها ثم دفعتني من صدري لتكمل بضربات عليه بقبضتيها:
" لن اهدأ...أنت كاذب....لا يمكن لخالتي ان تتركني....هي وعدتني بعد وفاة امي أنها ستكون معي طول العمر....خالتي لا تنكس وعدها....ذهبت لمؤتمر وستعود....هل سمعت؟.....أتفهم؟.."

هي تضرب ثابتة بقوة وانا احاول السيطرة قائلاً:
" هذا أمر الله ليس بيدك او بيدها ..."

مسكتها من رسغها ومشيتُ خطوة مردفاً:
" تعالي لنغسل وجهك ولتشربي الماء عسى أن تستكيني وتسترخي ونتكلم براحة..!!.."

حررت نفسها مني باحتدام وقالت:
" اتركني...لا اريد ان أشرب ولا أن اعمل أي شيء !!.....مزاحك ثقيل لا يطاق !!.."

أغمضتُ عينيّ متنهداً وتمتمتُ مستغفراً ربي ثم استدرتُ مواجهاً لها بصلابة كي اضع حداً لجنونها....عليها أن تصدّق شاءت ام أبت ...يكفي!...وصرختُ بها بحدّة:
" يكفي.!!....افهمي ما اقول لكِ.....أنت لستِ صغيرة.....جنونك هذا لا يأتيك بنتيجة ولا يغير أي حقيقة !......أنا قلتُ لكِ هي مريضة وكلنا معرّضون لهذا....لم اقل ستتركك ...لم اقل ماتت !.....عليكِ أن تكوني أقوى من أجلها !!...اذا انهرتِ هي ستنهار...قوّي ايمانك.!!.."

اذناها معي وجسدها مرتعش....قلبها يحتضر وروحها تصرخ....أنفاسها متعاقبة بالكاد تكابد للصمود.....نظرت اليّ....نظرات لوم وعتاب....نظرت اليّ بتيه وضياع....نظرات ضعف واحتياج....شفتاها تهتزان تحاول عضهما كي يستكينان...فكاها يصطكان تفقد السيطرة عليهما....غربت الشمس عن سماءيها واحتلّتهما السُحب المثقلة بأمطار كانون....حركة صدرها مضطربة...تلهث...تلهث...ثم ولتني ظهرها راكضة صاعدة السلالم هاربة من الحقيقة الى كهفها لتحتجب عن دنياها المريرة...دنياها التي تأخذ منها كل شيء تحبه منذ طفولتها..!!


~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

علاقتهما ساكنة وجميلة ....متفاهمان لأبعد الحدود كأنهما خلقا ليكملا بعضهما...مرّ أكثر من عام على خطوبتهما دون السماح لأي مشكلة صغيرة كانت او كبيرة أن تؤثر على سير حياتهما...قسوة الزمان والمعاناة التي مرّت بها بطفولتها سواء من فقد أب الى فقر وهجرة لم يصنعا منها الّا فتاة خلوقة...قنوعة..مطيعة...مُحبّة ...عزيزة نفس كأمها ...متواضعة دون أن يُخدش كبرياؤها...رزقها الله رجلاً يضعها في عينيه ويخبئها في جبّ قلبه ..عشقه لها يجري في دمائه....مخلص لامرأته...متدّين يخاف ربه بأهله وبها ...لديه فائض من الحنية ولا يقل عنها بعزة نفسه وكبريائه....منذ عقد قرانه عليها ومصاهرته للعائلة أقسم أن يكون داعماً وعوناً وعضُداً لهذه الأرملة وابنتيها...لا يفرّق بين أهله وبينهن....يرى نفسه المسؤول عن الجميع...لا يتذمر ولا يشكو...يهب بحب وعطاء غير آبه لتعبه...ضحكات أهله وخطيبته تنسيه أي مجهود يقوم به...رجل في زمن قلّ به الرجال!!....في البداية استأجر شقة لأهله وأخرى لأهلها وبعد أن استقر في عمله وطوّر وضعه المادي اكثر اشتراهما لتصبحان ملكه ليتبعهما لاحقاً شراؤه لشقته الخاصة التي سيبني بها حياته مع من أنارت له حياته وتعمّد ان تكون بنفس البناية ايضاً كي لا يبتعدا عنهم لأنه هو السند الوحيد من بعد الله لأهليهما وهي روحها في الدنيا أمها واختها وكذلك لتهتم باهله في غيابه...!!
دعاها لتناول الغداء معاً في أحد مطاعم مدينتنا الجبلية بعد انتهاء دوامها من الجامعة !!...يغرقها بدلاله ...كيف لا وهو يسعى دوماً لتعويضها عن البؤس الذي لازمها في بدايات عمرها ؟!.....
بينما هما جالسان ينتظران وجبتيهما أخرج من جيبه علبة ذهبية صغيرة ومدّها نحوها مبتسماً والحقول الخضراء في عينيه تفيض عشقاً وهياماً وتشعرها ان حياتها معه هي ربيع في كل الفصول...هكذا هي علاقتهما فعلاً...لا اعاصير الشتاء ولا نيران الصيف ولا تقلّبات الخريف....فقط ربيع مزهر يشرح الصدر ويبهج الروح!!...فتح العلبة أمام نظرها وقال بصوت رخيم وهو يتأمل تقاسيم وجهها :
" تفضلي حبيبتي هذا الخاتم لكِ ...أتمنى ان يعجبك!.."

لمعت عيناها الدعجاء بحياء وحُب وهمست دون ان تمد يدها:
" ما المناسبة بلال؟!...لمَ تكلّف نفسك؟!...الشهر الماضي اهديتني اسوارة ثمينة..."

أسدلت اهدابها تداري خجلها وأردفت:
" زفافنا بعد اشهر ان شاء الله وانت تحتاج لكل قرش...لقد اغرقتني بهداياك ....حقاً ما من داعي لهذا حبيبي!.."

رد عليها بحنوٍ:
" ذهبتُ لشراء دولارات للشركة من محل الذهب لأن المصرف كان مغلقاً فوقع نظري عليه واعجبني.."

مدّ يمناه يمسك يسراها برفق وتابع:
" اردتُ ان اراه يحيط اصبعك.....لا يغلى عليكِ شيئاً يا شمس حياتي!.."

أخرجه من العلبة والبسها اياه ثم مطّ جسده نحوها قليلاً ورفع يدها يقبّلها بكل رقة وأضاف هامساً:
" مبارك حبيبتي.."

تورّدت وجنتيها وسحبت يدها تضعها بتوتر على حجرها من حيائها وهي تنظر يمنة ويسرة هامسة بدلال:
" بلااال ...نحن لسنا وحدنا...ماذا تفعل؟!.."

ضحك وأعاد ظهره للخلف يسنده....هذه المشاكسة تكاد تفقده عقله !!...حياؤها في الخارج يذيبه وجرأتها بغنج وهما لوحدهما يقتله !...كم يعشق رؤية لون الورد الذي يزيّن وجهها واللمعة التي تضيء سواد عينيها....كم يهيم بدفء أنفاسها والرقة في صوتها .؟!....يعدّ الثواني متلهّفاً لليوم الذي ستكون به تحت سقفه وبين احضانه....يا الله ..لا ينفك من شكر ربه في العشيّة والابكار على الهبة التي وهبها له...انفطر قلبه وهو يبحث عن فتاة تكون سكناً له وتؤازره في الاعتناء بأهله...فوالده ضعيف الجسد ذبحه مرض السكري وشقيقته تحتاج لشقيقة ترشدها ووالدته امرأة امضت حياتها لخدمة زوجها دون كلل وهي ليست منفتحة في امور الحياة فهو من تحمّل مسؤوليتهم في عمر صغير...أنعمَ عليه الكريم بهذه البريئة النقيّة...الرقيقة البهيّة.... لم يعد يتحمل المزيد !!...متى سيغلّفها في حضنه ؟!.....حبه لها يتضاعف ورغبته بها تنمو بكثافة !....لديه وفرة من العشق ويريد أن يفرّغه بالمكان الصحيح وللوحيدة التي تستحق...حبيبته ( سلمى) فقط ...لا أنثى سواها!....
جلب النادل السلطات ووجبتيّ الطعام وشرعا يتناولانه بكل هدوء لتمضي دقائق قليلة وتكسر خطيبته حاجز الصمت هاتفة بتردد:
" بلال.!!."

" ماذا حبيبتي ؟!.."

سعلت تستعيد صوتها المرتبك وقالت:
" أنت تعلم أن هذه الفترة بدأنا بشراء لوازم الجهاز !!..

والدتها تعمل من حين لآخر في بيع المعجّنات والحلويات للمناسبات وقد فتح الله عليها هذا الباب من الرزق...لكن له مواسمه وليس على مدار السنة ومن عملها البسيط تدخر المال لأجل جهاز ابنتها لتشعر انها قدّمت ولو أقل القليل لها حفاظاً على ماء وجهها أمام خطيبها ...والسبب عزة نفسها التي لا ولن تتخلّى عنها مهما كانت ومهما وصلت!!..

ردّ واثقاً بمودّة:
" أجل!....وقلتُ لكِ سنذهب معاً لاختيار ادوات الكهرباء ولدفع المبلغ المطلوب !!.."

" لكن ادوات الكهرباء مسؤولية العروس !!.."

" نحن لا نشبه البقية حبيبتي ولا تعنينا هذه العادات....بيتنا واحد وجيبنا واحد...أليس كذلك؟!.."

سكتت دون ان تجيب ثم ابتعلت ريقها بعد برهة وقالت:
" أنا....يعني أقصد....لا اريد أن تدفع أنت ما يخص جهازي !!.."

تغيّر لون وجهه الأسمر واصبح قاتماً بعض الشيء وضيّق عينيه قائلاً:
" ما هذا الهراء سلمى؟....قلت لك جيبنا واحد !.."

رمقته بنظرة خارجها القوة وداخلها الخوف وقالت بنفسٍ عزيزة :
" جيبنا واحد عندما نتزوج بلال....أنت لستَ مجبراً على تحمل كافة تكاليف البيت والزواج وأهلك وأهلي .....يكفي أنك أصرّيت على دفع اقساط جامعتي بعدما رفضتَ أن يقوم بهذا أخي هادي ومصاريف بيتنا انت تهتم بها ...هذا كثير!"

" سلمـى....لا أحد مسؤول عنكم غيري !.. "

ردّ عليها ثم نهرها بجدّية وتابع:
" لمَ تفتحين هذا الموضوع الآن ؟!...ما يخص جامعتك منتهي وبالنسبة للجهاز والتكاليف لم اشكُ لكِ ولا اسألك ان كنتُ مجبراً او لا ....كل شيء متفق عليه ...انت تعلمين ان والدتك كانت مصممة على بيع قطعة الأرض في قريتكم وأنا منعتها ومع هذا هي تعمل في صنع الحلويات وغيرها رغم أنني اعترضتُ من اجلها لأني اريد راحتها الّا انها تصرّ لأنها ترى بهذا منفساً لها!!..سلمى ....فضل الله علينا كبير ووضعنا فوق الممتاز الحمد لله ....لا نحتاج لبيع أراضي ولا لغيره وأعيد وأكرر يقع كامل المسؤولية عليّ..!!."

" أنا غير موافقة...أنت لستَ مجبراً...أريد أن اعمل!!.."

" ماذا؟!.."

سألها مصدوماً وأضاف مستنكراً بغيظ:
"تعملين ؟؟!...أين وكيف وأنت ما زلت في سنتك الثانية ؟!.."
واستأنف ساخراً بقهر ومستنكراً:
" لستَ مجبراً...هذه جديدة!.."

أطرقت رأسها لحجرها ودقات قلبها اصبحت غير منتظمة رهبةً واجابت:
" دنيا.!!....يعني عندما أخبرتُ دنيا أنني ارغب بالعمل أشارت لي على محل بيع اكسسوارات وهدايا يقع بين حيّنا وحيّهم...اسمه ( روميو وجولييت) يضعون اعلاناً لطلب عاملة تعمل فترة المساء!....وقالت يدفعون مبلغاً مرتفعاً على الساعة...لأنها ساعات المساء !!...حتى أن صاحب المحل سألها إن كانت ترغب بذلك لكنها رفضت لأنها حامل."

" سأعتبر أنني لم اسمع هذا !."

انفعلت قليلاً فارتفع صوتها رغماً عنها :
" ستسمع بلال...هذا ظُلم...من حقي أن يكون لي استقلاليتي وقراراتي ....لا أرغب ان اكون عبئاً على أحد!.."

احتقن وجهه وأحنى جذعه اتجاهها قليلاً وهمس من بين اسنانه باحتداد:
" اخفضي صوتك ولا تتكلمين بسخافة!!....من قال انك عبئاً على أحد؟!.."

سخنت دماؤها غيظاً ومع الغيظ خوفاً من غضبه وقالت:
" انا اقول عن نفسي ...لا احد يقول !...انا جادّة بالموضوع وعليك ان تفهمني ...اريد ان اعمل من أجل جهازي فقط حتى نتزوج ...لم اقل سأستمر لبعد ذلك.."

وجم وجهه اكثر والسخط يتعاظم داخله وقال وهو يلقي الشوكة من يده بعنف مصدرةً رنيناً في طبقه بعد أن سُدّت شهيته وعاد للخلف جالساً بشكل جانبي:
" لا قبل ولا بعد.....انتهينا من الموضوع!....هذا ما ينقصنا ان ترتمي في محل لغريب يلقي اوامره عليك كيفما شاء والله اعلم ما هو سلوكه وطباعه ...على جثتي!!... لن تعملي "

هي حانقة وغاضبة أجل....لكنها (سلمى) الرقيقة الحنونة التي لا تنام دون ان تطمئن على اكله وشربه ونومه لأنها تعلم كم انه مهمل في نفسه ولا يكترث لصحته عندما يكون غارقاً في اعماله ومسؤولياته لذا قالت بهدوء بعدما رأت توقفه عن الأكل:
" بلال نحن نتكلم...لمَ أنت تكبّر الموضوع لهذه الدرجة ؟!....لطفاً تابع طعامك وسنتكلم لاحقاً!.."

رمقها بنظرة دون مغزى ثم اشاح عينيه عنها وقال بصوت أجش:
" لا اريد أن أتسمم...لم يعد لي رغبة بذلك....تابعي انتِ!.."

انتصبت واقفة وقالت بصوت مختنق وهي تغالب دموعها:
" وأنا كذلك....أريد العودة الى البيت من فضلك!.."

هبّ من مكانه وأخرج محفظته من معطفه ثم ألقى عدة ورقات من المال على الطاولة وظلّ واقفاً للحظات حتى سارت أمامه ليتبعها محاولاً كظم غيظه الى أن وصلا سيارته ومرّت دقائقهما في السيارة على صوت انفاسهما الثائرة ولسانيهما الصامتين ولما وصلا موقف العمارة بقي هو على مقعده خلف المقود يشدّ بقبضتيه عليه عاقداً الحاجبين منتظراً نزولها دون ان ينطق حرفاً فقالت بصوتها الرقيق المستعد للبكاء:
" ما بك لم تطفئها ؟!...الى اين انت ذاهب؟!.."

" انزلي انت!...هذا من شأني ليس من شأنك!.."

ابتلعت ريقها تسقي غصة جافة وافتها وهمست بوهن ونبرة متحشرجة:
" ليس من شأني يا بلال ؟!.....حسناً كما تريد !....لكن اعلم أنني مصممة على العمل"

لم يتطلّع عليها ورغم غضبه من اصرارها الّا أن قلبه يتمزّق من الحشرجة التي بصوتها ولكنه لن يضعف ويضمّها وعليها ان تفهم انه غير راضٍ بتاتاً عن قرارها الغبي..وأعاد في سره مغتاظاً..."..تريد أن تعمل ؟..هذا ما ينقص!!...لا ومصممة ايضاً"..
لمّا لم يعِر كلماتها أيّ اهتمام استدارت منكسرة تغلق الباب بهدوء ومشت خطوات عديدة بصعوبة بعد أن تضاعف وزنها فوق الأرض من ثقل همها حتى وصلت مدخل البناية ثم التفتت لسيارته التي ما زالت مكانها كما عوّدها فهو هكذا لا يذهب قبل ان يطمئن على دخولها البناية خوفاً وحرصاً عليها ليس لوجود اعداء او ما شابه بل لأنه يجاهد لتغليفها بعشقه الأخّاذ حتى لا تمسّها نسمة هواء ولا قطرة ماء دون رضاها ...لقد اعتادت ان يكون (بلال) هو اباها الحنون وأخاها الغيور ...صديقها الوفي وحبيبها المتيّم والابن المتعلّق بها....رجل يحمل كل الأدوار في حياتها ....لأنه لم يعاملها الا بهذه الصفات حسب الموقف الذي تحتاجه به ولم يتخلّف يوماً عن مهمته معها !!....اعادت وجهها للدرجات القليلة أمامها وصعدت وهي تمسح دمعة خرجت كعصارة قهر من صميم فؤادها..!!

~~~~~~~~~~~~~~~~~~

ما إن اختفت عن بصري حتى تحركتُ مسرعاً الحق بها خائفاً عليها ....كان ما يؤرقني هو عدم صراخها ...هذه ليست ردود فعل طبيعية لها...اشعر انها تخنق نفسها بابتلاعها صرخاتها....وصلتها ووجدتها تكمل سيرها العاصف في الغرفة من غير هدى وهي تفرك قبضتيها ببعضهما فهمستُ منادياً لأطمئن انها ما زالت في دنياي وليست بعالم آخر :
" ألمى.."

توقفت مكانها وانا مكاني ثم بدأت تجرّ قدميها ببطء متجهة نحوي...وجهها مصعوق وبدأ صدرها يهتز بعنف من محاولتها لاستنشاق الهواء بعد أن أضاعت أنفاسها أما عيناها توحي بأن السماء انقرضت عن الوجود...لا أثر لها... لقد اختفى لونها من تفجر ينابيع ظلّت محاصرة داخلها وهمست بتوسل ورجاء كانت كطعنات موجهة لخافقي وأنا ارى شفتيها ترتجفان وتضم يديها الى صدرها:
" أرجوك ...اخبرني انها مزحة...قل لي أنني اعيش كابوساً...قلبي لا يتحمّل...ارجوك ارأف بحالي!...ارحني بكلمة تعيدني الى الحياة..."

" ألمى...لمَ تهولين الأمور لهذه الدرجة ؟!...كل شيء مقدّر ومكتوب !!...علينا ان نرضى بما كتب الله لنا..."

اتسعت عيناها تنذر عن غضب قادم اليّ...اكفهرّ وجهها وتعاقبت أنفاسها وهتفت بصوت مختنق باكي لم تتعمده :
" قلت ارحني...لمَ تصمم على كلامك....لــــمَ؟؟!.."

لاذت بالصمت تمرر ثواني وهي تحاول ادراج الكلام الى عقلها وما إن استوعبت الأمر حتى شرعت بقبضتها ضرب صدرها عدة مرات بينما كان قلبي من يتلقّاها لا قلبها وروحي تئن على اوجاعها وهي تقول:
" تباً لقلبي اللعين....لماذا يحب ؟..لماذا؟؟...حبه قاتل ....ما إن يحب أحداً حتى أفقده...يتلذذ في عذابي بأخذ أحبتي مني!...ماذا فعلت وما ذنبي ؟!.."

واتجهت بعدوانية الى طاولة الزينة ثم بحركة عنيفة عاصفة أزاحت كل ما كان عليها من عطور وصندوق يحوي على اكسسوارات وادوات تجميل وتابعت باكية بنشيج يمزق الكبد:
" الجميع يريد قتلي بتركي وحيدة وقبلهم قلبي...!!"

اقتربتُ منها لأضمها لصدري هاتفاً بحنوٍ:
" اهدئي ألمى!!...لن يتركك أحد"

فدفعتني بقوة وهتفت بزعيق:
" لن اهدأ... ابتعد عني!.."

وأكملت بهستيرية وهي تحاول ابعاد ياقتها التي تخنقها عن عنقها تارة ثم تحرّك أطرافها ورأسها في كل الاتجاهات تارة أخرى بينما لم تتزحزح من مكانها كأنها تضلّ عنوانها :
" لا استطيع التنفس...كل الدنيا تجثم على صدري.....اشعر اني اريد الصراخ وفقط الصراخ.. احتاج ان اصرخ حتى يخرج وجعي....حتى يعتقني كي أتنفس...فقط أتنفس.."

قلت بهدوء:
" إن كان هذا سيريحك..اصرخي كما شئتِ.."

فأطلقت أول صرخة من عمق القهر في جوفها والتي صداها شق روحي بينما هي تتهالك تدريجياً أرضاً حتى وصلَتها بركبتيها جاثية على حطام زجاج العطور ومخلّفات ما ألقت على الأرض من اغراضها وكأنها تجثو على حطام فؤادي ووجّهت وجهها لفوق كي توصل صرختها للأعلى :
" آآآآآآآه.."

ثم انحنت بانكسار تخبط بقبضتيها البلاط غير مهتمة للشظايا التي تجرحها فقرفصت من فوري امسك يديها لأمنعها هاتفاً بحزم قلقاً على حالها:
" توقفي...ألمى....توقفي ...لقد آذيتي نفسك....انظري لجروحك...."

ردّت من قعر الألم والوجع ولم تجد هذه اللحظة سوى شلالها الليلي ليحتضن وجهها:
" عندما تصبح جروحنا كثيرة سنفقد حاسة الألم...وبهذا سأجعل ألمي غير أليم.....وأنا تألمت بما فيه الكفاية.....لا اريد المزيد ...لا اريـــد....آآآه..!!.."

استقمتُ قاصداً المنضدة لجلب مناديل ورقية متمتماً:
" يا مجنونة.."
ثم عدتُ اليها لأمسح قطرات دمائها النازفة التي شعرتُ بها تنزف من عروقي وبعدها ساعدتها على الوقوف فابتعدت عني خطوة وقالت بوهن:
" انا متعبة جدا.."
ماذا عني يا سمائي ؟!...أنا متعب أضعاف تعبك...متعب منكِ وعليكِ...أنتِ صرختِ مرة بينما آلاف الصرخات تحارب للخروج مني.....آآه يا ألمتى آآه....سأواسيك وأنا ابتغي من يواسيني....سأعطيك السلام وأنا أرتجيه....سأحملك على كفوف الراحة وأنا المرهق...سأعمّر حصوناً تحميكِ وأنا الواقف على خط الخطر.....سأبني لكِ بيتاً وأنا لا بيت لي لأني المشرّد اللاجئ...لاجئ يا ألمى ...لاجئ في سمائك...!!

همستُ لها فاتحاً ذراعيّ عسى أن أكون بلسماً لفؤادها:
" تعالي اليّ لأحمل عنكِ تعبك.....تعالي الى حضني....هو ملكك وحدك....تعالي الى بيتك لترتاحي.!!"

كانت نظراتها ضعيفة واهية والسماء ما زالت مختفية من عينيها ....لم تقوَ على التقدّم ولم تجرؤ للاستسلام....وربما لا تصدّق كلامي وأني أعلن عن حضني بيتاً لها !!
فلم أصبرُ حتى تعطيني قرارها بل أقبلتُ نحوها احيطها بذراعيّ واشد باحتضانها وهمست بحرارة أنفاسي قرب اذنها بعد أن زمّلتُ وجهها بصدري قرب نابضي وقبّلتُ رأسها برفق بينما كنتُ بيدي أمسد شلالها الليليّ:
" سيمضي كل شيء ...فقط اهدئي وارتاحي.."

عادت تبكي بنحيب يرجف اوصالها واوصالي معها وتقول بصوتٍ مبحوح وهي مستكينة ضعفاً بين يديّ:
" لا يمضي سوى الزمن .."

تابعتُ بهمساتي الدافئة لها أنثر الأمل:
" كلا....والألم سيمضي....كل سوء سيمضي بإذن الله.."

قالت وهي تسكب عبراتها واليأس يستحوذها:
"الدنيا مثل السم تقتلنا بالبطيء.."

شددتها اليّ أكثر كأني اريد أن اخبئها بقلبي من عذاب الدنيا وأنا المُعذّب وهمست بنغمة عاطفية جارفة:
" إن كانت الدنيا سمّ عندك...اسمحي لأكون أنا الترياق لكِ.."

هتفت بصوت مهتز هزّ اركاني:
" سأموت......سأموت معها..."

" لا تفعلي المى....لا تقوليها..."

قلتها بحدّة وحزم وأنا احتضر من اوجاعها!! ....الموت حق.. أجل...لكن مجرد عبور طيف ذكريات الأحبة الذين خطفهم الموت يخنقني ....ولا أريدها أن تكون ضمنهم لا أتخيل!!....جعل الله يومي قبل كل أحبتي ....صعب عليّ أن أتشرّب حسرتهم..!!

ارتخت شيئاً فشيئاً بين أحضاني بينما ضربات قلبها تكابر لا تهدأ...تتمرّد لترهقها زيادة....تقف ضدها لا معها!!....وكأن كل الكون اتفق ليكون عدواً لها!!.....طاقتها أُستُنزفت وجوارحها شلّت فسلّمت اوراقها للسقوط من يديّ كالماء المنساب من اناء مثقوب لكني لقفتها وحملتها بخفة على ذراعيّ احميها بصدري ودنوتُ من سريرها أضعها عليه بكل رقة ولطف.!!...لم تتحمّل ابتعادي عنها بعد شعورها بالسكينة والأمان الذي أمَدّها به جسدي فهمستْ من غير ادراك وهي تتشبث بعنقي وتجذبني لها أكثر وعيناها تحاربان للهروب الى النوم لكنها تأبى الخنوع لهما:
" حبيبي!!...ابقَ معي وضمني....لا تذهب "

لم تلبث أن نطقت جملتها حتى لبيّتُ رجاءها بطاعة بعد أن خلعتُ حذائي هامساً بحنية وكأنني كنت أنتظر هذه الدعوة!!...فكلمتها تلك داعبت قلبي وسط الألم ...وطلبها أنعش روحي ...:
" من عينيّ ...لكِ ما تشائين.."

اسندتُ ظهري لظهر السرير وسحبتها لحضني لتتوسد صدري....صدري الذي رسمتُ حدوده وطناً لها لتكون السلطانة بل الملكة التي تحكمه وتتربّع على عرش قلبه !!..مليكة قلبي أنا.....كنتُ احيطها بذراعٍ ويدي الأخرى أرفعها أداعب وجنتها بأناملي مداعبة دافئة بينما هي تضغط عليّ بتملك متابعة ترثي حالها:
" لمَ نعيش المآسي..؟!.. لمَ كل شيء في الحياة ضدي ؟!...على ما سأحبها؟!....أنا لا ارى غير الآلام....طريقي مسدود دائماً...لقد ضاق الفؤاد من الأحزان...!!"

أجبتها بهدوء وعيناي تسرح بالفراغ أمامي:
" لو غديتِ مكسورة الجناح لا تجعلي شيئاً يعيقك للتحليق في هذه الحياة...سلّمي شراعك في البحر مع تيار المياه لتصلي بأمان...لا تنقمي على حظك أو تعاندي بحماقة كي لا تغرقي في أعماق اليأس والقنوط..... املئي فؤادك بالأمل...هناك نور لا ينطفئ....نور من الله يضيء ظلمة الفؤاد...!!.."

بنبرة حزينة وعينين منطفئتين وقلبٍ مكلوم سألت:
" كيف؟!..هل من خلاص ؟!.."

" اسلكي طريق القرب الى الله سيذهب كل ما تشعرين به....بالقرآن نهتدي ...ولا يردّ القدر الا الدعاء....بالصلاة راحتنا وانشراح صدورنا...بها تنار حياتنا وتنجلي عنا الهموم.!!....كل ما دون ذلك هو ضلالة وظلام...وسنين عمرنا ستكون مجرد ركام ...الجئي الى بارئك الذي بعينه يحرسك ولا ينام.....سبحانه من أعزّنا بالإسلام "

استطردت وما زال اليأس يستولي عليها ويغزوها:
" لقد احترق كل شيء داخلي وما زال يحترق...و... وسيحترق من جديد...وسأصبح رماداً.."

تنهدتُ مشفقاً عليها محترقًا معها وهمستُ من لبّ قلبي وأنا احتضنُ وجهها بكفي وأحرّك ابهامي على خدّها بحنان:
" سأرمم ما احترق منك ..وسأخمد الذي ما زال يحترق.. ولن أسمح لاحتراقك من جديد بإذن الله ....وإن لم أفعل !!....حينها سأرمي نفسي معك في النار لنشتعل معاً...ولنتحول كلانا الى رماد لربما هذه النهاية التي ستجمعنا مع بعضنا دون بعد وخصام......كوني أكيدة....ألمى يا حبيبتي !!.."

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

ساعة من الزمن قضاها متجوّلاً في سيارته بين أزقة الحارات دون مستقر لأي عنوان.!!...تائه في أفكاره وما حدث بينهما قبل قليل...نيران تشتعل في صدره...ليس معتاداً على تعنتها واصرارها معه لهذه الدرجة ...هو يعشقها حتى النخاع ولا يريد حرمانها من أي شيء....حتى وإن رغبت بالعمل في المستقبل داخل نطاق دراستها لن يرفض بل سيشجعها ....لكنه لا يتقبّل فكرة تواجدها في محل يملكه رجل غريب كي تعمل من أجل بضعة قروش لا تسمن ولا تغني من جوع وفقط عناداً تحت مسمّى كبرياؤها وعزة نفسها !!....هل أنقص عنها يوماً شيئاً ؟ هل طلب منها يوماً شيئاً؟!...كلا...انه مستعد لنزع قلبه من اجل ان يهديها اياه...هو لم ولن يشعرها ولو للحظة بأنه يصرف عليهم...!!....من أين خرجت له بهذا الموضوع الآن وباقي شهور قليلة على زفافهم ؟؟!....لمَ لا تستوعب ان علاقتهما من الأساس لا تشبه أحد لتاتي الآن وتضع نفسها كأي عروس طبيعية تحمل هم ومسؤولية الجهاز وتوابع بيت الزوجية ؟!...ارتبط بها حاملاً عهداً ووعداً على نفسه بأن يفعل المستحيل ليكون ابناً واخاً وصهراً واباً لهذه العائلة الصغيرة ولن يكون مجرد رجل يسد فراغ .!!...وهو معها في المطعم تلاشى تعبه لملقاها أما الآن الارهاق نهش جسده وأصبح منهكاً أضعاف أضعافاً .....زفر لهيباً ينبئ عن النار المضرمة داخله خارجاً من براكين أفكاره وضرب بقبضته المقود بسخط متمتماً..."...لن تعملي يا عنيدة حتى لو اضطررت لتأجيل زواجي.."....أدار سيارته بحنق بعد أن استدلّ على عنوان ...لعلّ وعسى أن يريّح باله...!!
×
×
×

كتم ضحكاته الساخرة ورسم الملامح الجدية على وجهه ثم أذِن للطارق بالدخول....فدلف يرفع يده لجبينه بتحية السلام العسكري هاتفاً:
" احترامي سيدي.....السيد بلال يريد مقابلتك إن كنت متفرغاً."

نظر بتوجس للجالس مقابلاً له دون النطق بحرف !!...ليس من عادة صديقه أن يزوره لعمله دون ان يكلمه هاتفياً اولاً..!!....ثم أعاد عينيه الجادتين بهيبة ورزانة لعنصره وقال بايجاز:
" ليدخل..!!..."

ولَج بوجهه المكفهرّ من غيظه وحاجباه يكادان يلتصقان ببعضهما من كشرته وألقى السلام كإسقاط واجب ثم ارتمى بجسده على الكرسي الآخر بنزق دون ان ينتظر رد التحية ليقول له مستضيفه بسخرية وكل برود وهو على مقعده يحركه يميناً وشمالاً بتسلية :
" ما به بلبلنا أكرمنا بزيارة وهو عاصف ؟!..."

وأشار بيده للآخر مردفاً بلا مبالاة هازئاً منه ومادحاً نفسه بتصنع:
" هذا الغراب المنحوس يحترق منتظراً الرد على طلبه في تلك البلاد لذا يأتي اليّ كي يستفيد من خبراتي بما أنني متخصص بالصبر على ما يخص أمور الخطوبة والزواج وترويض العقول الصغيرة وأنت ما لك ؟!..من نتفَ لك ذيلك.."

انتبه (بلال) لكلامه ولم يعره اهتماماً بل وجّه سؤاله لصاحب الشأن بصوت جدّي:
" صحيح أحمد....لقد تخطيّت الأسبوع والنصف دون جديد ؟!...ألا أخبار لديك ؟!..ماذا حصل ؟!..ابشِر يا صديقي."

ردّ بهدوء بينما داخله ثورة من التوتر والترقب :
" في الأمس هاتفني شقيقها قصيّ...واعتذر عن تأخرهم بالرد وطلب مني الصبر يومان آخران لأن والده سيسافر لمدينة جده ليشاوره في المسألة احتراماً له فهو كبير العائلة ولا يفعلوا شيئاً دون رضاه........وها أنا عليّ الانتظار !!..."
وأضاف بنشوة وابتسامة خفيفة تزينها لمعة الحب في عينيه:
" يبدو أن الحصول على ابنة كمال زيدان ليس بالسهل !!..."

قال (بلال) ليناصره ويخفف من حدّة قلقه:
" عساه خير...كل تأخيرة فيها الخيرة بإذن الله....ثم ستكون المتعة أكبر بعد جهد وطول انتظار....اسأل الله لك هداة البال والزوجة الصالحة !!.."

أمّنَ خلفه وتبعه الغليظ مثله ثم أضاف الأخير:
" أجل وأنتَ ما بك دخلت وكأن الشياطين تتراقص أمامك ؟!.."

تنهّد بعمق وأرخى ظهره للخلف وأجابه محركاً رأسه برفض :
" تشاجرتُ مع خطيبتي !!..."

" لااا....مؤكد أصبتما في العين !!.ماذا جرى ؟!..."

واستطرد واثقاً بشموخ وتعجرف مصطنع:
" طبعاً لستُ أنا من حسدك......قبل أن تتهمني!."

أجابه ناظراً للأرض بانزعاج:
" أنت تعلم أن الشخصية الهادئة عادةً اذا غضبت مرة تغضب بقسوة والشخصية المطيعة إن عاندت تعاند بحماقة واصرار ومن حظي أن خطيبتي المطيعة جاءتها حالة العناد النادرة اليوم وتصمم على العمل من أجل جهاز البيت !!....وطبعا أنا لا اريد ..."

كان (أحمد ) ناصتاً لهما دون تدخّل فهو ما زال يفتقد الخبرة بهذه الأمور وسينتظر حتى يعيش اللحظة أما سيادة (العقيد) لم يرق له هذا الكلام وخصوصاً أن تلك مربوطة بزوجته وتأثيرهما كبير على بعضهما لذا قال في الحال:
" ايّاك أن تقبل حتى لو ضربت رأسها بصخرة....ها أنت مثل الباب وواجبك تلبية حاجياتها ...اعاننا الله على عقولهن الصغيرة !!.....أساساً ما هو العمل الذي ستعمله وهي ما زالت تدرس ؟!.."

أجاب بغيظ وازدراء :
" محل لبيع الهدايا .!!...زوجتك من ارشدتها عليه لأن صاحبه سألها إن كانت ترغب بالعمل عنده وهي رفضت لأنها حامل!!.."

كان يصغي له بكل هدوء وببرود ولما أنهى جملته اتسعت عيناه بصدمة وقال باستنكار وامتعاض طارقاً بكفه سطح مكتبه :
" يا سلاام....هل يريد أن تعمل لديه ضفدعتي أنا؟!...أنا ؟َ ...أنا سامي أسمح لزوجتي العمل عند الغرباء ؟!...."

وأردف بتمقّط واستهجان من بين اسنانه بعد أن تأججت شرارة غيرته:
" لا والله كثّر الله خيرها .. ماذا ؟!..رفضت لأنها حامل.!!....جميل....حقاً جميل يا ابنة الشامي....سأكون ممتناً لابني اذاً....ما اسم المحل ؟!.."

" (روميو وجولييت ) الواقع بين الحارتين.."

سأل مشدوهاً :
" تقصد المحل الذي يصبح لونه أحمراً بأحمر بذاك اليوم من شهر شباط ويؤدي لأزمة مرور خانقة بسبب توافد المراهقين والحمقى والحمقاوات عليه لشراء هدايا حبهم الكاذب المزعوم؟!.. "

ردّ باقتضاب:
" تماماً...هو!."

تطلّع الى ساعته الفاخرة التي تحيط معصمه وهتف ببرود:
" اوه لقد انتهى دوامي منذ ربع ساعة ...سأبدّل ملابسي وأنت اسبقني لسيارتك لنذهب بزيارة سلميّة ونجعله يغيّر اسم محله لـ ( هتلر) طوعاً ..لا كرهاً أكيد......قال (روميو وجولييت) قال!!..."
تنهّد مستطرداً بخباثة:
" نحن قادمون سيد روميو لنغرقك بالأحمر!!.."
قال (أحمد) بهدوء وعقلانية بعد قرار صديقه الذي لم يستسغه:
" أأنت جاد سامي ؟!...ليس من حقك هذا ...هو طلب عاملة والقرار لكما تسمحا لهما بالعمل أم لا وبدلاً من أن تهددا ما لا ذنب له امنعا خاصتكما....لأن هذه بلطجة !!.."
وأكمل ضاحكاً بسخرية:
" أم انكما لا تقويا عليهما وستخرجان غلّكما بالمسكين؟؟!...لم أعهدكما خِرافاً أصدقائي!.."

" من يتكلم ؟!....سلاماً على القهوة سلاماً....بأي نكهة كانت حينها أخبرني يا شيخ أحمد ؟!...."
وتابع متحدياً باستهزاء:
" سنراك قريباً ان شاء الله مع ابنة زيدان وهي تجرّك بالميدان لتضمك مع باقي الخراف....لا تتبجّح بكلام أكبر منك يا أحمق!.."
وأردف متفاخراً:
" سأبقى الأسد بينكم جميعاً...لا يوجد عندي امرأة تتحكّم بي.."

قطع وصلة العظمة خاصته رنين هاتفه فرأى أنه اتصال من زوجته!!...لقد وقع في الفخ !!....لم ينتهِ بعد من تبجحه وإن رد على الفور سيسخران منه لذا قرر أن ينتظر قليلاً حفاظاً على هيبته بينما عيناه تنجذبان لا ارادياً لاسمها...انتهى الرنين ثم عاد من جديد فقرر الردّ ..تنحنح مستأذناً:
" تعلمان....أخشى أن يكون شيئاً مهماً..!."

اومآ بابتسامة..!!

قال بعد رد التحية ومعاتبتها له:
" اتصال واحد فقط لم أرد عليه يا حبيبتي لأني منشغل قليلاً.."
"..."
كرر باستعطاف وهدوء:
" واحد فقط والمرة الثانية أجبتُ في الحال دُنيتي!!.."
"..."
" أجل ما زلتُ في المركز !!."
"..."
" زارني صديقاي لذا تأخرت..!"
"..."
" لديّ مشوار صغير فقط وسآتي بعدها إن شاء الله.."
"..."
" كلا ...لن اتأخر على العشاء بإذن الله..."
"..."
" دنياا...قلت لن اتأخر حبيبتي!.."
"..."
" حسناً سأكلمك لاحقاً أو ابعثي ما تريدين برسالة نصية!...سلام حُبي.."

رفع رأسه فوجد زوجين من العيون يحدّجانه فقال وهو يتنقل بنظراته بينهما:
" ما بكما تنظران اليّ ببلاهة..؟!...أهناك شيء على وجهي ؟!.."

فقال (أحمد) وهو يسند ظهره للخلف ويضع ساقاً فوق الآخر بأريحية:
" سلامتك..... أردنا فقط أن نستفيد ولو القليل من دروسك يا ...أسدنا!!.."

وأضاف (بلال):
" نصيحة لوجه الله ...لا تخرج فترة عيد الأضحى.."
وغمز مستأنفاً بضحك:
" فهمك كفاية!!."

وما إن انتهى من كلامه حتى ألقى على أحدهما محفظته والآخر لوحة مكتبه الأسمية شاتماً بحنق:
" اغربا عن وجهي ايها المغفّلان..!!....أسد رغماً عنكما "
×
×
×
افترق (أحمد) عنهما وتوجّها معاً الى هدفهما ولما وصلا دلفا المحل يدّعيان أنهما من الزبائن...كان (سامي) يمرر عينيه على كل شيء متأهباً وبنظرات ثاقبة لا تليق الّا برجل شرطة!!...المحل كبير ومبهِر وحتى للحظة شدّتهما البضاعة الراقية فيه!!....ربما يعودان في ظروف أخرى ويشتريان للدجاجة والضفدعة من هنا لكن الآن ليس وقته !!...وقع نظرهما على زاوية توضع بها طاولة المحاسبة ومن خلفها فتاة غير محجّبة ترتدي ملابساً ضيّقة !!...وبينما هما يتجوّلان بين الرفوف لفتَ انتباههما وجود فتاة أخرى محجبة بملابس عصرية ضيقة...تبدو زبونة !!...و..جميلة.!!...وتزامناً مع اقترابها للمحاسبة خرج رجل أربعينيّ من غرفة داخلية كان متوسط الطول دون لحية وشعره أسود كثّ...يظهر أنها صبغة !! ..واستقرّ بجوار فتاة المحاسبة يمثّل التفتيش بأوراق أخرجها من الدرج!!......حسناً هما لم يأتيا لمصاهرته ...ولا يريدان نقد شكله !!...اكتفيا بالمراقبة بخباثة وهما يحملان اغراضاً يتفحصانها بعبث وعشوائية دون تركيز!!....ذو النظرات الثاقبة أي سيادة (العقيد) وظيفته قراءة الأعين ولغة الجسد....لمح عينيّ الرجل تمسح بصفاقة جسد الزبونة...بدأ الدم يغلي في عروقه !!...كزّ على أسنانه هامساً للذي بجانبه:
" أرأيت كيف ينظر اليها ذاك الدنيء؟!.."

أمسك (بلال) بذراعه مجيباً:
" رأيت يا صديقي رأيت!!...اصبر لنرى ماذا بعد .."

اقتربا أكثر كي يتمكّنا من سماع الحديث....ليس بنية استراق السمع إنما ليعرفا نواياه أكثر فأكثر..!!....سألت الزبونة بنعومة عن سعر سماعات أذن لا سلكية من الإصدارات الأخيرة فردّت الفتاة:
" هذه الحديثة أي آخر انتاج....سعرها ثلاثمئة !!.."

" يا الهي سعرها غالي...ألا يمكنك تخفيضه قليلاً !!.."

" آسفة يا آنسة....لا تخفيضات على الجديد !!."

لوت فمها بانهزام وفشل ووضعتها على الطاولة بيأس هامسة:
" حسناً ...لا نصيب!....سعرها مرتفع جداً!."

وقبل أن تستدير تبسّم الرجل هاتفاً بصوت رخيم ابتدعه:
" عفواً آنستي...لا يمكنك الخروج من عندنا وأنتِ غير راضية!...ضعي السعر الذي ترغبين به !.."

ضحكت وقالت مازحة:
" إذاً سآخذها بلا شيء..!!.."

ضحك برياء قائلاً بمزاح:
" مقدمة لكِ آنستي....لا يغلى على زبائنا الطيبين شيء!!.."

تبسّمت قائلة:
" شكراً...أنا امزح بالطبع.."

وأخرجت من محفظتها ورقة من فئة المئتين وأردفت:
" هل تكفي هذه ؟!.."

أخذها بلباقة ورقيّ تصنّعه ومجيباً بهدوء مع ابتسامة خبيثة:
" تكفي يا آنسة...المهم أن ترضي عن محلنا!...ومؤكد لا نرغب بخسارة زبونة محترمة مثلك "

بعد خروج الزبونة اتفق (سامي) مع (بلال) أن يأخذ نفس النوعية من السماعات ويذهب للمحاسبة واستمر هو بالمراقبة وعند سؤاله عن سعرها أجابت الفتاة بنفس إجابتها للزبونة وعند محاولة صديقنا المفاوضة على السعر قال الرجل كلمته الأخيرة بتباهٍ وغرور بينما كان يتخطّاهما عائداً أدراجه لغرفته:
" عفواً يا سيد...هذا سعر نهائي لا يمكننا التلاعب به ...تستطيع أن تذهب لأي مكان آخر ولن تجد أرخص منه !!.."

أنهى (بلال) مسرحيته مدّعي القبول والاقتناع ثم أعاد ما بيده لمكانه وعاد للآخر بعد أن اختفى ذاك الرجل عن الأنظار ليأتي دور (العقيد) الذي توجّه للغرفة مستشيطاً غضباً بسبب تلاعب البغيض بالسعر حسب أهوائه وصِنف زبائنه إذ أنه استنتج بعقله أن للنساء معاملة خاصة هدفها المعاكسة والتحرش والوقاحة وفتح الباب من غير استئذان وتبعه صديقنا وما إن تعمّقا الى داخلها أكثر حتى هالهما ما رأيا أمامهما .!!....
كانت غرفة صغيرة فيها مكتب من الخشب الفاخر خلفة كرسي جلديّ وثير يتناسق مع التصميم وعلى المكتب حاسوب نقال وزاوية على يسارهما تحتّلها جلسة من الجلد الأسود الأصلي الثمين ويعلّق على احد الحيطان شاشة كبيرة مقسّمة لمربعات عديدة تظهر اركان المحل من آلات المراقبة الخاصة ....ولكن ليس هذا ما صدمهما !!...إنما وقفا بذهول أمام شاشة أخرى مقابلة للجلسة كالسينما تُقسم لنصفين أحدهما لآلة مراقبة تسلّط فقط بكل وضوح مقصود وحقارة على مفاتن العاملة لديه من الخلف والأخرى من الأمام على منطقة الصدر ليستمتع على راحته بالنظر لأجساد العاملات لديه والذي يختارهن بدقة وفق جمالهن ذلك المريض !!....الى هنا طفح الكيل والذي زاد اشتعاله اشتعالاً وهو يتخيّل أن زوجته وصلت الى هنا ببراءة لتشتري وكان هذا يتفحّصها بوقاحة وسفاهة بل يعرض عليها العمل لديه.!!...برزت عروقه وتهدّجت أنفاسه وبخفة توجّه للذي كان مكانه يصرخ معترضاً على اقتحامهما خصوصيته واجتثّه بغل عن كرسيه ثم لكمه عدة لكمات وهو يستجوبه عمّا رآه ولولا تدخّل (بلال) لفضّ النزاع لاستمرّ حتى ورّم له وجهه اكثر وافقده أسنانه وكسر أنفه ومعه أطرافه !!..كان ذاك البغيض يستغيث وهو يلهث بعد أن حرره ليسقط أرضاً وشرع بالمناداة بوهن على الفتاة للاتصال بالشرطة ظناً أن هذان قاطعا طريق او رجال عصابات فقتل له (سامي) آماله ونداء الاستغاثة بعد أن أخرج بطاقته الخاصة بتعريفه كشرطيّ برتبة عقيد وألصقها في وجهه ثم تبعها بهاتفه الخاص بالعمل للاتصال بالمركز لإرسال دورية تقبض على المتهم من أجل مباشرة التحقيق معه فيكفي هنا شهادة رجل شرطة نزيه!!... وخلال انتظارهم طلب (سامي) من (بلال) الدخول الى نظام الآت المراقبة في الحاسوب لفحص باقي التسجيلات المرئية والتأكد من افعاله المشينة لأخذها ايضاً كأدلة موثوقة !!....جريمة التحرّش شائعة وليس بالضرورة أن تكون فقط ايذاء جسدي فهي ممكن أن تكون اشارات وايحاءات مشبوهة أو تلفّظاً جريئاً ودنيئاً وتلميحات حد الابتذال أو أفعالاً اتجاه شخصاً آخراً والتي تمسّه بشكل خاص وتخدش حيائه والعقاب قانونيا يختلف بدرجاتها ..!!....وعلى النساء أخذ الحيطة والحذر وأن لا يأمنَّ لأيٍّ كان والأهم أن لا يصمتن إن اشتبهن بمثل اولئك المرضى حفاظاً على أنفسهن وبنات أمّتهن...فالتغاضي عن مثل هذه الأمور يوصلنا لنتائج وخيمة جميعنا بغنى عنها..!!
×
×
×
بعد أن اطمأنا على استلام رجال الشرطة للمتهم وحتى الفتاة لاستجوابها وقاموا بإغلاق المحل عاد الصديقان للسيارة وفي طريقهما قال (سامي) بهدوء:
" تذهب وتأخذ دجاجتك لترى بعينيها أن المحل أغلق والأهم هو أن تقصّ لها ما حدث بالضبط لتستوعب أين كانت ستقع ولتفهم أن خوفك عليها دائماً هو لمصلحتها وليس مجرد سيطرة ذكورية كما تعتقد اولئك المخلوقات !!.."

تبسّم (بلال) بانتصار وهتف:
" أكيد....هذا ما سأفعله بإذن الله !!.."

عبس مجددا مرتاباً :
" وماذا إن خرجت لي بمكان آخر؟!..لأنها كانت جادة جدا ومصممة ؟!.."

تنهّد وأرخى جسده لظهر الكرسي بعد أن أمالها قليلاً للخلف وأجاب بمكر وهو شارد بالطريق:
" أنا أعرِف...النساء مثل طائر نقار الخشب ينقرن بالرأس حتى يحصلن على ما يردن .."

استدار نحوه وارتسمت ابتسامة ثعلبية على مبسمه متابعاً بكلامه:
" لذا عليك يا صديقي أن تجلب الكرة الى ملعبك ولتضع اللعبة وفق قوانينك أنت لأنها لا تحلّ عنك بطلبها ولن تقف عن الزنّ بأذنك!!.."

رمقه بنظرة عابرة قبل أن يعيد عينيه الخضراء الى الأمام وسأل بفضول:
" كيف هذا؟!..ماذا تقصد؟!."

وضع ذراعيه تحت رأسه وزفر بتمهّل وأجاب ضاحكاً:
" عيّنها مساعدة خاصة لك في الشركة !!.."

قطب حاجبيه برفض وهتف مستنكراً:
" هل أنت جاد ؟!...لا تعلم شيئاً عن سيرورة العمل!!...ماذا تهذي يا صاحبي؟!."

" وهل أنت ستنتظر لتعلم شيئاً؟! ما لكَ وعلمها؟!.ليس هذا الهدف!....اولاً هكذا تكون تحت نظرك...دلل نفسك يا أحمق !!...لن تعمل عند غريب وثانياً وهو الأهم لا تعطها المجال لتتنفس !!...اي ارهقها بطلبياتك وخاصة المراجعات البيتية كي لا تجد وقتاً للدراسة او حتى الترفيه وهكذا ستسأم وحدها من اول اسبوع وستندم على اللحظة التي فكرت فيها بالعمل !!....هل تعتقد المدللات أن العمل يأتي بسهولة وبساطة مثلما يشاهدن البطلات في مسلسلاتهن اثناء قيامهن بعملهن وهن آخر شياكة ودلال وراحة ؟!....اجعلها تعيش الواقع المتعب والحقيقة المرة!!....وعليك أن تكون جاداً وصارماً يا بلبل في العمل يعني أرجو الّا تخدعك دجاجتك وتوقعك أسير قفصها ...احذّرك ....لا تقل سامي لم يقل لي!!.."

تهلل وجهه بابتسامة رضا ماكرة بعد أن راقت له الخطة وقرر تنفيذها بعد عودته الى البيت كي يقطع عليها الطريق....والأهم من ذلك انشرح صدره لأنه سيصلح الوضع بينهما فهو لا يقوى على زعلها والابتعاد عنها !!...لا ينام قبل أن يأخذ جرعات من صوتها الرقيق وهي تغرقه بهمساتها الحنونة على الهاتف وطبعاً إن كان متواجداً عندها يسرق قبلة من ثغرها الذي بات يدمنه منذ أن أذاقته اياه بنفسها ورضاها حين اضطرت لإسكاته هروباً من توبيخه لها في الماضي....!!
الهدوء والطمأنينة اللذان أحلّا علينا ونحن نحتضن بعضنا أرسلانا الى عالم آخر بعيداً عن الفواجع التي عشناها ...فبعد نعتي لها بحبيبتي ورغم انتفاخ جفونها اثر ما مرّت به من بكاء وآلام رفعت رأسها دون كلام ورمتني بنظرة وابتسامة كفيلتان بإيقاعي شهيداً في سبيل عينيها وغريقاً في رحيق شفتيها فما كان مني الّا ان اشكرها بقبلة سريعة كالبرق... دافئة كشمس الصباح... ناعمة كالماء... قبلة بصمتها على باب مقبرتي وكأني اخبرها بها....انتظري قريبا احتضان جثتي لأني سأموت عشقاً معك وحدك أنتِ....وحدك يا روحي وجنتي ...!!
×
×
×
لم أعِ عن حالي الّا وأنا استيقظ من نومي قبل أذان العشاء بساعة فوثبتُ من مكاني عن فراشها الخالي منها وتنقلتُ بعينيّ باحثاً عنها ليثبت بصري في النهاية على طقم المخمل في الزاوية الخاصة للتلفاز في غرفتها حيث وجدتها تجلس هناك و.....قرآن ؟!!....قرآن بين يديها تقرأ منه بصمت !!!....كيف هذا؟!..ماذا تفعل المجنونة ؟!...أليس من المفروض أنها ما زالت في فترة الحيض؟!!...يا الهي !!...ألا تعلم أنه لا يمكنها مس المصحف الشريف دون طهارة؟!...نهضتُ بطلاقة متجهاً نحوها فرفعت سماءيها في اللحظة التي وصلتها وسحبته منها بأدب وسط اندهاشها وقلت معاتباً برفق:
" ألمى كيف تحملين القرآن وأنتِ لديك عذر ؟!..."
وسمّيتُ تالياً بتجويد:
"..{{ إِنَّه لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ . فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ . لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُون}}.."


ردّت باستغراب مختلط بحياء وهي تمدّ يدها:
" أعلم أنه لا يمكنني مسّه اثناء الدورة...لكني انتهيتُ منها اليوم واستحممت!!....هاته!!."

غضنت جبيني بتساؤل وقلت:
" استحممتِ؟!.."

وأضفتُ مشيراً ليديها:
" هل اكتفيتِ باستحمام عادي ودون ازالة طلاء الأظافر ؟!.."

تطلّعتْ ببلاهة لأنامل يديها ثم مدّت قدميها تنظر لأناملها الأخرى المطلية بالوردي وأعادت سماءيها لأرضي هامسة بقلة ادراك:
" ما دخل طلاء الأظافر ؟!...وماذا تقصد باستحمام عادي !!؟.."

تبسّمتُ بحنوٍ وهززتُ رأسي نافياً لجهلها بأبسط أمور الدين....تنهدتُ ثم وضعتُ المصحف على الطاولة ودنوتُ منها أجلس جوارها بهدوء ....استدرتُ اليها وأمسكت يديها الرقيقتين برفق وهمست بودّ:
" ألا تعلمين شروط الاغتسال ؟!.."

اومأت برأسها اشارة (لا) فأكملتُ:
" الغسل واجب للمرأة بعد انتهائها من فترة الحيض او النفاس ومن شروطه أن يعمّ الماء الطاهر كافة البدن دون وجود حائل.."
واستطردت:
" طبعاً يوجد ايضا الغسل من الجنابة !!.."

قالت:
" ماذا يُقصد به ؟!.."

غمزتها وأجبت مبتسماً ابتسامة خطيرة بتسلية:
" ذاك سأشرحه لكِ لاحقاً.....انسي الآن"

ثم رفعتُ احدى يديها وحسستُ على اظفرها باسماً ببراءة وأضفت بينما هي مصغية لي كالطفلة المطيعة:
" مثلاً طلاء الأظافر يعتبر حائلاً لأنه يعيق وصول الماء الى الظفر وبهذا لم يتحقق شروط الاغتسال مهما أغرقت نفسها المرأة في الماء وحينها لن تكون طاهرة لا للصلاة ولا لقراءة القران والصوم..."

أطرقت رأسها ناظرة لأناملها التي تلعب بهم على فخذيها وهمست بخفوت:
" لم أكن أعلم هذا!...ظننتُ أن الاستحمام وحده يكفي !"

آه سيدة (فاتن) شافاكِ الله....كيف غفلتِ عن نقاط مهمة مثل هذه ؟!...أم أن همومك كانت أكبر ؟!....لن أظلمك فالله وحده يعلم ما كنتِ تعانين في بيت العنكبوت !!....ويبدو أن واجبي الآن ارشادها لأسس ديننا من الصفر.....لربما اصطفاني الله من أجل هذه المهمة !!....
يا رب اجعل كل حرف سأعلّمها اياه صدقة جارية عني وعن والديّ...

قلت بحُب:
" عليك الآن اعادة الاغتسال بالطريقة الصحيحة....سأكتب لكِ على ورقة كيفية الغسل...ضعيها في الحمام حتى تحفظينها !!.."

ثم فززتُ من مكاني متجهاً الى طاولة الزينة وقبل أن اوصلها التفتّ اليها وحرّكتُ سبابتي بمزاح وهتفت:
" لكن علينا اولاً ازالة الطلاء عن أناملك يا صغيرة .."

ظلّت مكانها ترمقني بنظرات كأنها تحاول سبر أغواري !!...وصلتُ غايتي ...فتّشتُ درجها وأخرجت مزيل الطلاء مع قطع من القطن ولمّا عدتُ اليها وقفتُ مقابلاً لها ..تطّلعتُ عليها بعين قلبي ورسمتُ ابتسامة رمز حبي ثم جثوتُ أمامها ...وضعتُ من السائل المزيل على القطن وبرقة لا متناهية اسندتُ احدى كفيها على بطن كفي بعد أن سحبتها بلمسات ساحرة وما إن شرعتُ لإزالته حتى جذبت يدها لصدرها رافضة بشهقة اعتراض خجلا قائلة بعد أن أدركت الموقف الذي هي به:
" ماذا تفعل ؟!...اعطني انا سأمسحه!!.."

اهديتها ابتسامتي الحنونة مع لمعة عينيّ العاشقة وهمست بحنوٍ وصوتٍ رخيم دافئ وأنا اعيد يدها ليدي:
" كلا ألمتي...أنا من سيزيله....سأزيله لأطهّرك....وسأساعدك لتزيلي ذنوبك وذنوبي معك بإذن الله....ومثله سأزيل الآمك رويداً رويداً لنزرع مكانها وروداً تُزهر في حديقة سعادتنا.....سعادتنا أنا وأنتِ!......فقط اسمحي لي ولا تعاندي..."

رمشت خاضعة مستسلمة...ولمّا انتهيتُ من يديها ...رفعتُ احداها وقرّبتها لشفتيّ أقبلها بتحنن ولين بينما عيناي تحكي لعينيها قصة خيانة قلبي من اجلها فارتعشَ جسدها ضائعاً بين النظرات واللمسات ليتبع الرعشة رجفات وقشعريرة هزّت بدنها عندما انحنيتُ قليلاً وأمسكتُ قدمها الحليبيّ الناعم ووضعته على فخذي لأتابع مهمتي بمسح الطلاء فكمشت اناملها لشعورها بالدغدغة وفشلت بسحب ساقها وغمغمت هاتفة محتجة وهي تكاد تنصهر خجلاً:
" كلا يامن.....أنا سأكمل رجاءً....حقاً هذا غير لائق بحقك"

" ششش....استرخي فقط ...لا اريد شكاوي....أنا أفعل لزوجتي ليس لغريبة ألمى.."

اتكأت للخلف صاغرة ثم سرعان ما شدّت رجلها مرةً أخرى بعد أن داعبتُ قاع قدمها برؤوس أناملي لأثيرها وهتفت متغنجة:
" يامـــن!!....يا الله.... لا تفعلها مجدداً..."

حتى قدمها شهية مثل كل شيء يخصها ...بدت لي مثل قرص الجبن !!....من يراها لا يظن انها تسير بها على الأرض...كل النعومة موضوعة فيها !!....آآه فقط لو الظرف مناسب يا حبيبتي....لأريتُكِ ماذا سأفعل بكِ بعد عذابي وصيامي عنك شهور وسنين !!....كم كنتُ أحمقاً وأنا أهدد وأندد... أتوعد وأتبجّح ...أحمق...تباً لحماقتي التي كانت ستضيعك من يدي..!!...حتى لو تخلّيتِ عني يوماً سأعيش من بعدك ساعة على ذكرى طعم الشهد من شفتيكِ ...ذكرى ليلتنا القريبة التي سأذوب بها بين يديكِ!!...وبعدها سأسلّم روحي لترقد في سكون ما بعده سكون...!!
فأنتِ من ربحتِ الحرب على قلبي يا حمامة السلام....أنتِ من أطلقتِ الورد لعقلي من بندقية الانتقام...!!

تمّت مهمتي ضد الطلاء بكل حب ومهارة ....تنهّدتُ واغلقت علبة المزيل وبينما كنتُ منشغلاً بلملمة الفوضى التي احدثتها همستْ بعذب صوتها:
" يـ...يامن!"

همهمتُ مجيباً رافعاً نظري اليها:
" ها؟!."

عضّت باطن شفتها باستحياء وقالت:
" شكراً .....يا حنون.."

بابتسامة حانية ورمشة عينين خفيفة اومأت راضياً من كلمتها ثم قُلت:
" آن الأوان لأنفذ كلمتي التي اعطيتك اياها في احد الأيام.."

تطلّعت بفضول تضيّق مقلتيها فأردفتُ:
"اغتسلي واستعدّي لأعلمك الصلاة.....قلت لك منذ مدة اثناء جولتنا مع الأصدقاء أني سأعلّمك اياها لاحقاً.....وقد تأخرنا كثيراً.....المهم...لن يفيدنا الندب الآن!...فأن تصل متأخراً خير من ان لا تصل ابداً..."

تهللت أساريرها وبرقت عيناها بسعادة شقت طريقها من بين أوجاعها لترسم شعاعاً يضيء بالأمل كتربيتة أم على قلبها...!!
وهمست بطاعة:
" حاضر...من عينيّ....سأستعدّ حالاً.."
×
×
×
عدتُ اليها بعد أن توجهتُ الى غرفتي للوضوء وصلاة المغرب وكنتُ قد كتبت لها عن كيفية الغسل ....كانت ترتدي منامة دافئة بلون فيروزي تنافس السماء في عينيها..!!....هل أصبحت أكثر بهاءً أم أنني أراها كذلك بعد أن زيّنتها الطهارة ؟!....اقتربتُ منها وهمست راسماً ابتسامة تعبّر عن انشراح صدري بها :
" نعيماً.."

أسدلت أهدابها تهرب من نظراتي التي تكاد تلتهمها وردّت بينما كانت تعبث بياقة منامتها كالطفلة وتستدير مكانها يمنة ويسرة بنصف استدارة :
" أنعَمَ الله علينا وعليك.."

" هل لديكِ شيئاً ترتدينه للصلاة ؟!.."

حرّكت رأسها نافية محرجة وتمتمت:
" كلا..لا يوجد عندي.."

وضعتُ كفي على جبيني شارداً أفكّر بحل وقلت:
" سأرى إن تركت خالتي خلفها أسدال صلاة !!"

ووليّتها ظهري مدبراً لغرفة أهلي المتواجدة في نفس الطابق ولما دخلتها كانت قد لحقت بي....لم أجد أسدال على المشجب فقلت:
" سأرى إن كان هناك شيء في الخزانة."

كانت فارغة تقريباً الّا من بضع قطع لن تفيدنا!!....
" ممم...يبدو أنني حصلتُ على شيء أخيراً.."

أخرجتها وهتفت وأنا افردها لأتفحّصها:
" هذه عباءة بيتية قديمة.."

نظرتُ لـ(ألمى) ثم اعدت نظري لما بين يديّ قائلاً:
" حسناً ستكون واسعة عليك لكنها تفي بالغرض حاليا ريثما نشتري اسدال صلاة لك.."
مدّت يدها مبتسمة توافقني وارتدتها أمامي...كانت واسعة كثيراً...ضحكتُ فتمتمتْ عابسة:
" لا تضحك سيد يامن!!.."
وضعتُ يداً على فمي اكبتُ ضحكتي وأخرى رفعتها أمامها هاتفاً:
" حسناً حسناً....آسف لن اضحك.."

فتّشتُ عن حجاب او أي غطاء للرأس ولمّا لم أجد سألتها:
" ألديكِ وشاح يمكنك لفّه كحجاب؟!.."

رفعت حاجبيها اجابة بكلا وردّت:
" لا استعمل الأوشحة الرقيقة...لديّ فقط من الصوف والريش ..صعب استخدامهما للشعر!!.."

فكرت وفكرت حتى اهتديت لحل خطَر في بالي....لا حل سواه...لن يؤثر!!....طلبت بودّ:
" اذهبي لغرفتك سآتي في الحال .."

ثم تركتها صاعداً السلالم بخطى واسعة قاصداً غرفتي لأتناول ما جاء ببالي...غادرتها نازلاً ودلفتُ الى غرفتها ...وجدتها تنتظر واقفة بشرود ولمّا مددتُ ما بيدي غضنت جبينها وهي تمسك به وقالت :
" ما هذا ؟!...يشبه الوشاح الخاص بالثوار...كنتُ قد رأيتُ جدي يرتدي مثله في صوره عندما كانت ...خـ...خالتي.."

وأكملت بصوت خفيض متحشرج:
" كانت تخرج الألبوم... لتروي لي عن بطولاته.."

نجحت بإمساك نفسها عن بكاء قاهر كان سيخرج منها لكنها لم تستطع منع بضع قطرات انسابت على وجنتيها!!...اقتربت منها أكثر ومسحتُ بلطف بابهاميّ الدموع ثم أخذته مجدداً منها ووضعته على كتفي قائلاً بينما كنتُ استدير خلفها لأربط شعرها على شكل كعكة:
" أجل يشبه وشاح الثوار...اشتريته من اجل رحلات الصيد في الشتاء...لألثم وجهي من صفعات البرد.."

واكملتُ في سري.." وصفعات الغدر والخيانة.." ...
وبعد ان نجحتُ بلف شعرها الغزيز الناعم أدرتها ازائي وبهدوء أسدلتُ الوشاح على رأسها لأحجب شعرها...وأنفاسي ترتطم بجبهتها بينما هي صاغرة ترفع عينيها تتأمل تقاسيم وجهي ولمّا ثبّتّه عليها...أمسكتُ احد طرفيه بعفوية ولثّمتها فسطعت سماءها الزرقاء الصافية من وسط ثلوج وجهها المحاط بليل وشاحي الحالك...لتصعقني مجدداً بسحرها وتأسرني في فتنتها....تباً...أنا أدمنتها!!..بل إني احترق شوقاً....تمهّل يا قلبي واصبر قليلاً....قسماً ما عدتُ استطيع حرمانك ولا حرماني قربها....فقط ايام قليلة أداوي بها جرحها ثم سنغرق في بحري وبحرها لنطفئ لهيب النار المشتعلة من حبنا....صبرٌ جميل والله المستعان...!!....أملتُ ظهري قليلاً وقبّلت لها عينيها كتصبيرة أسدّ بها جوعي إلى حين موعد أكلها والتهامها ....أجل التهامها !!....كلها على بعضها...!!.
×
×
×
باشرتُ بتعليمها الصلاة ولا داعي أن اقول أن تلميذتي ذكية استيعابها سريع فانا من اول يوم عرفتها اكتشفتُ نباهتها ...والإرادة فعلت المستحيل...فهي حقاً كانت تريد...ألمتي لأول مرة ترغب بالصلاة عن قناعة وكان السبب مرض خالتها....ألم يجعل الله لكل شيءٍ سببا ؟!.... وبالطبع كل شيء سار على ما يرام لأننا أخذنا دروسنا متباعدين.. ...فهكذا لم تَضِع هائمة في عطري كدروسها الجامعية!!...
صلّت العشاء من خلفي وبعدها طلبتُ منها ارتداء ملابس الخروج لنتعشّى في المطعم..!!

~~~~~~~~~~~~~~~~~~

مع اشراقة يومنا التالي لم تذهب للجامعة بل زارت بيت العنكبوت لتعطيهم الخبر الأليم قبل توجه والدها لشركته وقد ظنّت أنها ستجد التعاطف والشفقة على خالتها على الأقل منه !!...مؤكد لم تنتظر دمعة سخية من الأفعى!!... لكن ظنونها خابت بعد أن أنهت حديثها وهم يجتمعون على مائدة الفطور عندما نفض يديه ناهضاً من مكانه عاقد الحاجبين ناظراً لساعته سائلاً باستياء:
" هل أصبح زوجك أقرب لها منا كي يكون أول من يعلم عن مرضها ؟!.."

ردّت بحزن:
" لأن هدفها كان أنا...اخبرته ليعلمني بطريقته ...قلت لك وضعها صعب وخشيت من ردة فعلي!...أنت تعلم ماذا تعني لي وماذا أعني لها !!...اختارت زوجي لتوصيه عليّ ابي."

غمغم غير مهتم بحالتها إنما غروره المسيطر:
" حسناً حصل ما حصل..!!....لكن تصرفها لم يعجبني ليكن بعلمك وعلمها.!!...سنين تعيش تحت سقفي وتأكل من خبزي وفي النهاية تنكر الجميل وتعاملنا كالأغراب !!...على كلٍّ...لا يوجد شيء بوسعي افعله غير تمنياتي لها بالشفاء.....من أجلك أميرتي لوما....فقط من أجلك لأنه لا يوجد كائنٍ من كان على هذه الأرض يهمني غيرك يا صغيرتي!!.."

أنهى كلامه القاسي دون مراعاة لعشرة عمر قضاها مع شقيقة زوجته الأولى ولا مراعاة لمشاعر زوجته الحالية التي كانت تستمع لاعترافه الصريح الدنيء الذي يؤكد به أنها لا تعني له شيئاً سوى صفقة خاسرة ...صفقة خاسرة خسر هو بها منصباً لطالما انتظره ومالاً كرشوة دفعه وهي بالذات خسرت كرامتها وانوثتها ....خسرت كيانها وحياتها....لِكم تفنن بإذلالها ؟!...وآخرها اكتشافها خيانته لها والتي لم تجرؤ على مواجهته بها!...فهي تعلم علم اليقين أن مصيرها سيكون....مشرّدة متسوّلة في الشارع ابتغاء لقمة تسد رمقها!!....إذاً لتصمت مهما تُهان ...من أجل ابنها !!...لأنها بالنهاية هي أم حتى لو كانت أفعى!!...

بعد أن أتمّ كلماته لابنته وجّه أوامره لزوجته قائلاً بتأكيد وبساطة :
" بعد شهر ونصف سنعود الى البلاد للاستقرار هناك !!....بدأتُ ارتب اوراقي ....ليكُن الجميع على علم !!..."

شهقت ابنته مصدومة من قراره وقالت باستعطاف :
" أبــي!!....وأنا؟!....كيف ستبتعد عني ؟!...لمَ هذا القرار؟."

ردّ بصوته الخشن:
" أميرتي أنتِ الآن لديك زوج مسؤول عنك وأصبحتِ تابعة له !!.....أما أنا قررتُ ترشيح نفسي للانتخابات القادمة من أمام الكواليس وليس من خلفها كالسابق...فأنا واثق من النجاح هذه المرة ...فقد كثُرَ حلفائي وداعمي الحزب وهم من أكبر رجال الأعمال والسياسيين!!...."

وأردف بنبرة مغايرة خافته أخرجها بحنوٍ بعد أن رفع يده يربّت على كتفها:
" ثم متى اشتقتِ لي تعالي وزوريني....لن يمانع ابن الهاشمي !!...وسأحاول اقناعه لاحقاً هو ووالده ليقفا في صفي.....ربما حينها سيأتي ويستقر هو الآخر في الوطن!!....خصوصاً إن اغريته بمنصب ما في الحكومة.....لا تدري!."

بل هو لم يكن يدري أن هذه أضغاث أحلام...وأوهام بأوهام....فلينتظر كابوسه الحقيقي القادم إليه بإذن الله....!!

ومن قال أن فاقد الشيء لا يعطيه ؟!....لقد عانقته بدلال وكل حنان....الحنان الذي رغم انها تفتقده وخاصة حنانه الابوي الّا أنها لديها فائض منه ما يكفي جميع احبائها لكل العمر ثم همست برقة صوتها:
" حبيبي أبي...اشتاق لك دوماً يا أغلى رجل في الوجود..!.."

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

لم ينم ليلاً ولا نهاراً السيد (سليم الأسمر)..المهمة شبه منتهية ....والترشيح للانتخابات على الأبواب....يحرص على ادارة كل شيء بإتقان دون ترك هفوة تعيدنا عقوداً الى الوراء....جالساً على كرسيه الوثير منهمكاً لا يشعر بالراحة....كيف سيرتاح والقلق يتضاعف مع اقتراب الموعد ؟!..موعد استقبال الوغد (عاصي رضا) على أرض الوطن ولكن سيكون استقبالاً حافلاً بالأدلة الاجرامية....أجل!!...وثائق مصوّرة للاختلاسات التي قام بها من خزائن الدولة وبيعه للوطن والتجارة بالأسلحة الممنوعة دولياً من تحت الطاولة ...أصبح كله بين يديه الآن...وكذلك الشريحة التي تحمل تسجيلاً مصوراً لغدر رجل شريف بتكتيك إجرامي!! ...والملف الخاص بالمشفى !!....
لقد استطاع صديقي (سامي) مع نخبة من المحققين اثبات صحة الموجود بالملف الطبي بعد بلوغهم لملفات الأرشيف الخاص بالمشفى القديم وبعدما تمكّنوا من الوصول لمسؤول المختبر الذي اقرّ معترفاً اثر موجة اجتاحته من تأنيب الضمير.... فقد أخبرهم انه فعل هذا تحت التهديد ولم ينكر انه قبض المال من أجل التزييف ووافق على ادلاء أقواله أمام المحكمة بعد فتح القضية ليشهد أن (عاصي رضا) هو مجرم.. !!..ولكن الأمر سيظلّ سرياً حالياً وبحذر شديد حتى وقت كشف الحقائق..!!...فكان هذا الملف الذي حصلتُ عليه من خزنته دون تخطيط بمثابة كنز يحمل نسختين من المشرحة...احداها مزورة يثبت فيها أن موت (صبحي ياسين النجار) والد السيدة (فاتن) كان نتيجة سكتة قلبية تعرض لها..!!... والأخرى أصليه تقرّ وتثبت دون أدنى شك أن الموت كان نتيجة نقص الأوكسجين بسبب اختناق متعمّد بفعل فاعل!!...

~~~~~~~~~~~~~~~~~

مرّ يومان من بعد معرفتها عن مرض خالتها....واظبت بهما على أداء الصلاة بتشجيع مني!!....لكني انشغلتُ عن الاهتمام بها هي نفسها قليلاً بسبب أعمال متراكمة عليّ.!!...وفي هذين اليومين استجمعت قواها وكلّمت خالتها هاتفياً ...كنتُ اترك لها الخصوصية ولكن قلبي كان دوماً يرافقها فقد كنتُ أنتبه لها دون أن تحسّ أنها تجاهد بكل مشقّة كي لا تبكي معها وأظهرت لها دعمها وقوتها الزائفة مع أنها تعيش داخلها حروباً وثورات تكاد تزهق روحها وكانت فور اغلاقها للهاتف تنهار باكية بحرقة وتغرق بين عبراتها...كان نحيبها يمزّقها ولا يرحمني معها !!....
في عصر هذا اليوم وبينما أنا منهمكٌ في أعمالي داخل مكتبي البيتيّ جاءتني بزيارة مفاجأة بوجهٍ شاحب وعينين بدتا لي ناقمتين وكأنها تحوّلت ...حتى ظننتُ لربما حالة الانفصام التي تكتسحني بدأت تكتسحها ايضاً.!!..لقد كنا متفقين ومتحابّين ...ما بها تطالعني كأني سرقتُ منها ثروتها أو قتلتُ لها احداً ؟!...نطقت أخيراً بحدقتيها المهتزّتين بجزم:
" أريد السفر لخالتي !!.."

بكل هدوء أجبت وأنا اسلّط نظري عليها من مكاني:
" لا داعي...أنتِ تكلمينها متى شئتِ وأي وقت فأنا مشغول جداً لا يمكنني السفر!.."

بحدّة وعتوٍّ قالت:
" لم اطلب منك مرافقتي....استطيع الذهاب وحدي!.."

بنفس الهدوء همست وأنا اخفض نظري للأوراق أمامي:
" سنتكلم لاحقاً بالموضوع...اذهبي الآن لأني مشغول!!.."

بخطوتين اقتربت من مكتبي وطرقت بكفيها الطاولة وقالت حانقة دون رفع صوتها:
" سأحجز عن طريق الهاتف....اهتم انت بعملك لن اشغلك وسأدفع من بطاقة أبي!....أنا اريد رؤية خالتي....لا يمكنك منعي من الذهاب!.."

القيتُ القلم من يدي مستغفراً ثم مددتُ جسدي نحوها ممسكاً بمعصميها وقلت من بين أسناني بخفوت ولم أنتبه وأحس أني آلمتها:
" تكلّمي معي بأدب...ولا تهددي...تمام؟!...وإياك ثم إياك ان تحجزي تذكرة من ورائي ولا تتبجحي بمال والدك...عندما أموت اذهبي وخذي منه ما تشائين!!!.."

انكمشت تقاسيم وجهها وأنّت هامسة:
" أنت تؤلمني....حرام عليك!...اترك يديّ!!..."

حررتُ معصميها مستاءً من نفسي...لم أقصد ايلامها!!...لكنها استفزّتني بأسلوبها وذكرها للحقير الآن!!...وتمتمت دون النظر اليها :
" اعتذر.."

عادت للخلف خطوة بينما كانت تمسّد بكفها احد معصميها وتنتقل للآخر وهمست بأسى:
" كيف تصبح هكذا قاسياً؟!....نفسي أن أفهمك !!....أين الحنية التي تغرقني بها ؟!...."

انتصبت ترفع كتفيها بشموخ وأضافت بثقة بينما أنا مصغٍ لها:
" أتعلم ؟!...كنتُ اقول عنك منفصماً بسبب تقلّباتك...لكني غيّرت رأيي...لا يمكن لإنسان مريض مضطرب أن يحمل كل الحنان والأمان الموجود على الأرض داخل حضنه.!!...أنت حقيقتك مغايرة لما تظهره لي من قسوة أنا متأكدة أنك تخفي شيئاً خلف قسوتك!!...تهرب من حقيقة !!....ربما تحمل سراً كبيراً!!.....تحيّرني !!...عقدت صفقة مع والدي بإرادتك وارتبطت بي....لكني لا أراك متفق معه وحتى....حتى واثقة أنك لا تحبّه...الاحظ تكهربك عند ذكري له !!....ولا أعلم السبب حقاً !!....كم تمنيتُ أن اجمعكما معاً في قلبي ؟!...لكن لا محالة....تأبى شخصياتكما أنتما الاثنان أن تساعداني على ذلك !!.."

تقدّمت نحوي مجدداً وانحنت لتقترب مني أكثر وقالت:
" كن قاسياً كما شئت.....لكن قلبي يخبرني أن حقيقتك الوحيدة هي التي أجدها في حضنك...في الأمان الذي أعيشه على صدرك...الطمأنينة التي التمسها بين يديك......لذا مهما عاملتني بفظاظة وخشونة بقشرتك الزائفة هذه... لا يمكنني الّا مسامحتك!!.."

ثم ولّتني ظهرها بهدوء واختفت من أمامي بثبات ولم استطع اللحاق بها لأن كلماتها جففت دمائي وشلّت أطرافي...!!....أيا ترى حدسها جعلها تنطق بهذا أم نباهتها ؟!.....اوف....يارب انزل سترك عليّ وامدّني بالقوة من عندك !!.....لأني بتّ أخشى أن تكشفني !!.....ظهر لي أنها ليست سهلة!!..
×
×
×
في ساعات المساء على طاولة العشاء تناولنا طعامنا وصمت رهيب بيننا ...كلٌ سارح بعالمه وأفكاره فوردني اتصال كنتُ انتظره ..فتحت هاتفي مجيباً:
" أجل....ماذا جرى معك؟!.."
"..."
" حسناً...أشكرك....رجاءً ارسل لي التفاصيل برسالة نصية!."

انهيتُ المكالمة...وابتسمتُ ناظراً للتي أمامي تأكل بهدوء وببطء دون شهية وعيناها على طبقها شاردة ..فاجأتها هامساً بعطف ومحفّزاً:
" انهضي وجهّزي حقيبة السفر!.."

رفعت رأسها ترنو اليّ واتسعت عيناها بصدمة وسألت بتعجّب:
" الى المانيا؟!!...وافقت على سفري لألمانيا؟؟!.."

اتكأتُ بمرفقيّ على الطاولة شابكاً أناملي وتطلعتُ عليها مرسلاً من عينيّ اشعاعات عشقي وقلت:
" بل سأسافر معك وسنصل قبل دخولها الى عمليتها بإذن الله!!...طائرتنا في الثانية بعد منتصف الليل!!....هيا استعدّي!.."

نهضت بحماس غير آبهة للكرسي الذي وقع خلفها من قوة دفعها له وبكل عفوية وتلقائية استدارت تعانقني من ظهري مع انحناءة بجذعها لتقبّل خدّي هامسة:
" ألم اقل لك حنون؟!....شكرا...شكرا لك!."
×
×
×

في الثامنة صباحاً كنا في الفندق بألمانيا بعدما استقلينا سيارة اجرة وعند طاولة الاستقبال سألت بشفافية مستغربة بعدما علمت بحجزي لغرفتين منفصلتين مقابلتين لبعضهما :
" لمَ حجزتَ غرفتين؟!...كانت تكفي غرفة مشتركة!."

تبسّمت بوهن من قلة نومي وأجبت:
" لتأخذي راحتك....أنا سأتابع اشغالي من هنا ولا افرّق الليل عن النهار فيما يخص العمل!...لذا حجزت اثنتين لأني لا اريد ازعاجك!.."

اومأت على مضض وقد لاحظت الانزعاج البادي على وجهها ....فحياتها لا تعيشها أي زوجة في الوجود...!!....بقي القليل يا زوجتي!.....وعدٌ مني سأعوضك!...فأنا نفذ صبري أكثر منك!... أولاً سأعطيكِ دروس في فنون الحُب...ومن ثم سأتمّم زواجي منك لأختم عليكِ براءة عشقي...!!
×
×
×

توجهنا الى المشفى المتخصص بالأورام السرطانية بمدينة فرانكفورت وهناك استقبلتنا السيدة (ايمان) بعد اتفاقنا معها ....دخلت (ألمى) بخطى حذرة وجلة...مرتبكة من لقاء سيجمعها مع خالتها بعد غياب عدة أيام ولكن غياب ليس كسابقيه....فكان هذا الغياب الأشدّ ألماً وقهراً مرّ عليها وكأنه دهر..!!....كانت السيدة(فاتن) مستلقية على سريرها شاردة في السماء الملبّدة بالغيوم من النافذة الكبيرة في غرفتها ولمّا أحسّت بالحركة التفتت لتقع عيناها على صغيرتها فتفتّحت أساريرها وكأنها عادت الى الحياة من بعد موت!!...كم كان تأثيرها ايجابياً عليها هذه الساحرة؟!...فهي عاشت وصمدت من أجلها ...عاشت صابرة فداءً لها....تحمّلت كي لا ترى دمعاً في عينيها.....فتحت ذراعيها المربوطين بأجهزة ومحاليل استعداداً للعملية للتي تتقدّم ببطء ترفع قدميها بتثاقل عن الأرض من شدة اضطرابها وقلبها يخفق وجعاً وشوقاً...تعلّقاً ورهبةً....شعرت أن الطريق لنبع الحنان طويـــل لا نهاية له...ارتمت في حضنها اخيراً بعد ان وصلتها مجهشةً بالبكاء ...تعتصر خالتها بذراعيها الصغيرين ..تحاول ادخالها الى جوفها لتحميها من الخطر...تخشى عليها من الزوال!...وانهارت في هذه اللحظة حصون القوة التي كانت تظهرها لنا السيدة (فاتن) وهي تقابل نحيب ابنة شقيقتها ببكاء مضاعف وكأنها تخرج ألمها الذي حصرته داخلها ايام وشهور ...ألماً استطاعت السيطرة عليه لليالي طوال وهي تدّعي القوة والعزيمة!...هذه الحصون التي بنتها لتحمي صغيرتها غدت هشّة ...هُدمت بعد رؤيتها لها منهارة..هزيلة...شاحبة...لا نور ولا ضياء ينير وجهها!!....قطعت هذا الوصال الأليم من كانت تقف محايدة جواري تسكب دموعها عليهما وهمست بمزاح بعد أن مسحت وجهها:
" كفاكما بكاءً ....جعلتماني أبكي أمام السيد يامن وأضعتما هيبتي وشخصيتي!!"

كنتُ مكتّفاً يديّ ومتكئاً على الحائط فقلت:
" اتركيهما سيدة ايمان ...لا ضرر من البكاء....عسى أن ترتاحا..!!.."

اومأت مبتسمة توافقني بصمت وبعد لحظات بالكاد ابتعدتا عن بعضهما ثم شرعت تمسّد على رأس خالتها من فوق الحجاب الذي يحيط وجهها بعشوائية وهي تسألها عن أحوالها وإن كان شيء يؤلمها فأجابتها بحنانها المعهود:
" كنتُ بخير والآن أصبحت بأفضل حال بعد رؤيتي لكِ صغيرتي!!.....لا أصدق هذه المفاجأة ولم اتوقعها لأني أعلم انشغال زوجك!!.."

ثم أطلّت برأسها تنظر اليّ لأن صغيرتها تحجب بيننا وهمست بامتنان:
" مهما قلت ..لا أستطيع شكرك يا يامن....عزيز والله....لن أنسى أفضالك عليَ ومعي!!.."

تبسّمتُ بلطف رجولي هامساً:
" الفضل لله وحده....وعلى الرحب والسعة سيدة فاتن...آمل أن أخدمك بالأفراح وظروف أجمل من هذه..!"

استأذنتُ خارجاً لأتيح المجال لهن بأخذ راحتهن قبل الافتراق للعملية فشرعتا بقصّ عليها ما قدّمتُه من مساعدات للسيدة (فاتن) مثل مكالمة صديقي ليرافقهن وليتكفّل بجميع الاجراءات من مشفى وسفر وفندق وكل شيء يخصها بسبب اختلاف اللغة!!....وكيف أنني سعيتُ مستعيناً به لإيجاد أطباء أكفّاء ومن أمهر الموجودين في ألمانيا من أجلها..!!...وبعد أن انتهيتا من اخبارها نظرت الى الباب وسألت بخفوت متفاجئة:
" لمَ لم يخبرني بكل هذا؟!.."

أجابتها خالتها:
" هذه الشهامة بنيتي....كي لا تشعري يوماً أنه يمنّ عليك....يفعل الخير بالخفاء والمهم أن تفهمي وتقدّري هذا!!..."

تبسّمت ممتنة بمحبة:
" كنتُ أظنه مغروراً وحائطاً بلا احساس في البداية....لكنه فعل أفضل ما يفعله لي....وهو الاهتمام بكِ حبيبتي خالتي...!!..."
×
×
×


في الحادية عشر قبل الظهر جاء الممرضون لنقل السيدة (فاتن) لغرفة العمليات ولحقنا بها ثلاثتنا حتى وصلنا الباب الرئيسي الواسع وهي ما زالت متشبثة بيد خالتها لا تقوى على تركها وافلاتها وكانت تبكي وتهمس متوسّلة راجية فدنوتُ منها لأزيحها لأنها تعرقل عملهم وضممت كتفيها بذراعي امنعها من اللحاق بهم ولأحاول احتواء ارتجافة جسدها!!......أُغلِق الباب بإحكام ليبقى في الداخل الأطباء والممرضون والمعدّات الطبية مع مريضة سلّمت نفسها لهم متوكلة على الله ليبدأ مشوار طويل وساعات كثيرة من مهمة صعبة لأمانة كبيرة توضع بين ايديهم وعلى صوتِ نغمات الأجهزة يجاهدون لإثبات مهارتهم وتفانيهم لأسمى مهنة انسانية وبجو لا يخلو من التوتر بسبب عملية مصيرية لجزء مهم وحسّاس بل ألأهم وهو دماغ الانسان...!!
×
×
×
انتهت العملية بعد ساعات شاقة قضيتها بمواساة (ألمى) التي كانت تبكي بنشيج وأنا احثّها على الدعاء لها في هذه الأوقات ولم أنسَ مواساة السيدة الصامدة (ايمان) والتي آزرتني لنخرج زوجتي من حالتها المهزومة ...!!....
ولمّا قابلنا الأطباء كانت المفاجأة الكبيرة لنا جميعنا....عندما نطق قائدهم باللغة الانجليزية وبثقة كبيرة :
" حقيقة كانت معجزة لنا ....تبيّن أن الورم ليس كما ظهر بالصور الاشعاعية....لقد كان بحجم أصغر واستطعنا استئصاله دون مسّ خط الخطر....وبعد أن تستجمع السيدة قواها سنباشر بالعلاج عن طريق الأشعة اولاً وثم ننتقل للعلاج الكيماوي...."

وانهى المقابلة هاتفاً:
" استطيع الآن تهنئتكم بسلامتها مبدئياً لأن الأربعة وعشرون ساعة القادمة تكون في حالة غير مستقرة.."

وأضاف ضاحكاً بمزاح:
" لقد قضيتم هنا ساعات طويلة ووقتاً صعباً....يمكنكم الذهاب لترتاحوا .."

كانت الفرحة لم تسعنا حينها وأكثرنا كانت هي التي ارادت أن تصرخ بسعادة والاحتفال بمهرجانات لا نهاية لها ....نسينا كل التعب من خبر جميل كان بلسماً لنا وأنار الظلام في افئدتنا ولأننا لم نأكل شيئاً قمتُ بدعوة السيدة (ايمان) معنا لتناول العشاء في أحد المطاعم القريبة الراقية احتفاءً بسلامة السيدة (فاتن) رغم معارضتها بالبداية لأنها لا تريد تركها .....انتهت ليلتنا بعودتها لصديقتها حيث تمكث كمرافقة لها بالمشفى ونحن عدنا ادراجنا لفندقنا.....!!
×
×
×
يومين آخرين امضتهما في المشفى معهما تذهب وتجيء بينما انا كنتُ اتابع اعمالي في الفندق ....في صباح اليوم الثالث رافقتُها للاطمئنان على خالتها التي بدأت تستعيد صحتها رويداً رويداً بعد ان تجاوزت مرحلة الخطر وضُبطت قيمها.!!...ولكنهم ما زالوا يمنعونها عن ترك السرير نظراً لحساسية العملية !!...
توجهنا الى مقهى المشفى نتناول مشروباً دافئاً انا وهي فقلت:
" استعدّي للسفر صباحاً.."

هبّت معترضة:
"مستحيل....لن اتركها....سافر انت!!.."

بدأت موجة العناد وهي مصرّة أن تبقى معها لأيامٍ أخرى فقلت بحزم:
" لا تستطيعين التغيب عن الجامعة.....كما ان مشوار خالتك في العلاج طويل....ستمكث اشهراً هنا ومعها السيدة ايمان.."

ردت منفعلة:
" السيدة ايمان لديها اعمالها وأنا اولى لأكون مع خالتي....هي ليست مجبرة.."

قلت:
" اطمئني....السيدة ايمان رتبت كل شيء قبل قدومهما وهي تتابع عملها من هنا.....لا حجة لديك!!.."

انهينا كلامنا دون أن نرسو على قرار ودون رضا من كلينا....عدتُ الى الفندق وهي توجّهت اليهما حانقة ولمّا انتبهتا لحالتها ومزاجها المكهرب سألتاها عن سبب عبوسها فحكت لهما أسبابها...!!..لم تؤيدا قرارها وعارضتاها.....جاهدت خالتها لإخراج صوتها المبحوح من حلقها الجاف تحسم المسألة:
" ألمى!!...انتهى الكلام...ستعودين الى بيتك مع زوجك !!

غضنت جبينها وزمّت شفتيها بضيق دون أن ترد فقالت السيدة(ايمان):
" لقد ترك أعماله وتفرّغ من أجلك وأجل خالتك....عليك ان تكوني ممتنة لا ان تغضبيه.....لا تكوني طماعة صغيرتي.....وستتواصلين معنا أولاً بأول..!!.."

استسلمت بالنهاية هاتفة بملل:
" حسناً ...كما تريدان!.."

وبّختها السيدة(فاتن) بحنية:
" كما يريد زوجك وليس كما نريد نحن....أصبحتِ كبيرة وصاحبة بيت وما زلتِ تجهلين مسؤولياتك وواجباتك أمام زوجك حبيبتي!.."

ردّت بدلال:
" خالتــــي...لا تقولي هكذا!!.."

ربّتت السيدة (ايمان) على كتفها حيث كانت تجلس مجاورة لها وهمست ترشدها:
" هيا أخرجي ألمى وأخبريه بقرارك بالعودة معه ليرتاح باله !!.."
×
×
×
زفرتُ أنفاسي براحة كبيرة وكأنني أزلتُ حملاً عني بعد أن هاتفتني بالعدول عن رأيها....لم أكن سأجبرها على ذلك ...لكن الحقيقة أنني لم أرغب بالعودة بدونها !!....كيف سأمضي أيامي في البيت وهو خالي منها ومن أنفاسها ؟!...من أين سيأتي النور إليّ وسماءيها غائبتان عن أرضي ؟!!......الحمد لله ...ستعود معي ألمتي !!....اطمأن قلبي فاتخذتُ قراري ....قراراً لا محيص فيه ولا إدبار !!... فأنا أعلم ميعاد عودتها للفندق يكون عادةً في الثامنة مساءً!!...والآن نحن في الظهر !!...أي لديّ الوقت الكافي والحرية الكاملة!!......رفعتُ هاتفي متصلاً بصديقي (آرثر)....لبدء التنفيذ...!!...

~~~~~~~~~~~~~~~~~

دخلت غرفتها لتستحم وتزيل آثار رائحة المشفى عنها ولتستعيد طاقتها من أجل تحضير أغراضها للسفر في صباح يومنا التالي!!. ...دنت من طاولة الزينة وخلعت معطفها الطويل الذي يصل تحت ركبتيها والوشاح الصوفيّ الذي كان يعانق عنقها ووضعتهما على الكرسيّ الخاص بها ...بدأت تخلع اكسسواراتها فوقع نظرها على انعكاس الخزانة في غرفتها ليلفت انتباهها غطاء الملابس بلونٍ اسود معلّق عليها...غضنت جبينها بحيرة وتساؤل ثم التفتت للوراء لتتأكد مما ترى!! ....زلفت متمهّلة ثم امسكت بطرفه مستغربة وجود شيء لا يخصها وقد علمت من الغطاء انه سيكون قطعة من الملابس ...لوهلة!!...ظنت أن خطأ ما حصل من طاقم الفندق....استدارت لتتجه للهاتف على المنضدة جانب سريرها كي تكلّم اصحاب الشأن فوجدت صندوقاً فاخراً خاصاً بالهدايا يوضع ارضاً ....ازدادت حيرتها وغلبها فضولها....قرفصت تفتحه فاتسعت عيناها بانبهار من الحذاء الفضي اللامع المرصّع بحبيبات كريستال ناعمة مدفون ببتلات من الورد الأحمر....اخرجت احداهما تتفحّصه وتمتمت وهي تشعر بالغبطة دون أن تسمح لنفسها بانتعاله!!... :
" يا ترى من صاحبة الحظ التي تحظى برجل له ذوق رفيع يهتم بها ويفاجئها هكذا ؟؟"

انبهارها بالحذاء جعل فضولها يزداد لتلقي نظرة على الملابس المكسوّة بالغطاء والتي باتت متأكدة انه سيكون فستاناً لا غير فانتصبت واقفة مستديرة ودنت منه بحماس مبتسمة ومسرورة لأجل غيرها!!.....فتحت السحّاب ومعه فغرت فيها بذهول وجحظت عينيها وارتدّت للخلف خطوة تمعن النظر به هامسة:
" يا ويلي ....ما هذا الجمال؟!.."

ضحكت وتمتمت هازئة من وضعها:
" للحظة توهّمت أن الهدية تخصني من حائطي ...لكن مع رؤيتي لهذا تأكدت انها ليست لي لأنه مستحيل ان يشتري لي فستاناً عارياً لهذه الدرجة..."

اقتربت منه مجدداً لتغلق السحّاب وبينما هي منشغلة بتوضيبه جيداً داخل الغطاء وقعت منه بطاقة فانحنت بسرعة لتلتقطها وما إن قرّبتها لعينيها صُدمت من الكلمات المكتوبة عليها :
[ سأكون ممتناً لو تكرّمتِ عليّ بارتدائه من أجلي يا سمائي.......زوجك يامن]

عادت قراءته مرة ومرتان...لا تصدّق أرادت أن تتأكد أنها لا تحلم !!....لم تسمع مني يوماً وصف عينيها بالسماء وهي تعلم الآن أنني اقصدهما!!.....بدأ قلبها ينبض بشدة متأثراً......أصدر هاتفها نغمة ورود رسالة ما...ظلّت ممسكة البطاقة بيسارها وخطت تأخذ الهاتف عن سريرها فوجدت:
[ انا بانتظارك لنخرج...اخبريني في حال انتهائك وارتدي معطفك الطويل فوق الفستان واغلقيه جيداً....ولا تنسي الكعب..]

ارتسمت بسمة جميلة على ثغرها وحرّكت رأسها يمنة ويسرة هامسة للفراغ بضياع:
" هل يعاني من الحمى؟!...منذ متى يسمح لي بالخروج بهذه التصاميم؟!..."

تنهّدت بعمق وأردفت متمتمة:
" صدقاً لا افهم نيتك ولا هدفك !!....أمرك محيّر يا زوجي!!.....الى أين ستأخذني يا ترى؟! .."

وأضافت بلا مبالاة:
" حسناً لنفعل ما تريد ونرى.....فالفستان يستحق مهما كانت المغامرة !!.."

بعد أن استحمت ارتدت الفستان والحذاء ومررت يديها من فوق لتحت على سائر جسدها بإعجاب وخيلاء وهي تتطلع على صورتها بالمرآة وهمست:
" يا الهي كم هو ساحر.....و مغري!!....لم أرتدي مكشوفاً لهذه الدرجة سابقاً.....أنا خجلتُ من نفسي !!......ما به جنّ زوجي؟؟.."

لوت فمها وهي تنظر لطاولة الزينة وقالت في نفسها ..." ماذا لو كان سمح لي بجلب عطري من اجل هذا الفستان!؟...سامحه الله ...أيعقل هذه الروعة دون عطور ؟!..".....حاولت جاهدة أن تسرّح شعرها وترفعه للأعلى بما يناسب تصميم الفستان وبعد ان أتمت مهمتها بوضع لمسات خفيفة من زينة الوجه...حملت هاتفها وخرجت قاصدة غرفتي ....طرقتان خفيفتان لتجدني أمامها افتح الباب بلهفة اخفيتها تحت ملامح الوقار والرزانة ....جُلتُ في عينيّ على تقاسيمها الفاتنة راسماً ابتسامة حُب بينما كانت هي تتفحّصني بين الاستغراب والضياع والإعجاب من هيأتي بلباسي الرسميّ والذي كان عبارة عن بنطال أسود مع قميص أسود دون جاكيت!!...حسناً سأسمح بمدح نفسي.!!...لقد كنتُ في كامل الأناقة ....وأل....وسامة!!....ثبّتت سماءيها على وجهي ثم أسدلت اهدابها وسحبت نفساً لتسرق رائحة عطري وما إن أوشكت على الزوال من الوجود حتى فتحتهما بثانية محرجة متوهّجة الوجه عندما انحنيتُ هامساً بأنفاسي الدافئة قرب أذنها:
" لا تتركي نفسك الآن.. ما زال الوقت باكراً....احتاجك بوعيك...لأنه علينا الذهاب لمكان ما !!.."

سحبتُ الهاتف منها فور انتهائي من كلماتي وأدخلته الى غرفتي فقالت باستغراب وهي تاركة يدها بنفس وضعية مسكها له:
" لمَ أخذته ؟!...لربما يأتينا اتصال مهم !.."

غمزتها ضاحكاً وهمست بلهو:
" ستفهمين لاحقاً..."

ثم اغلقت الباب ووضعت البطاقة في جيبي فقالت:
" أين جاكيتك ؟؟...الجو بارد!!"

لم اجبها...اكتفيتُ برسم بسمة ومددتُ يدي أمسك يدها بتملّك وشعرتُ بالرعشة الطفيفة التي اجتاحتها....تنحنحتْ وهمستْ بصوتٍ أبح من اختناقها بينما كنا نسيرُ بتمهّل في رواق الطابق:
" إلى أين سنذهب؟"
تبسّمتُ وأجبتُ بنبرة هادئة :
" ستعرفين بعد قليل ...مشوارنا قريب!!.."

صعدنا الى المصعد وضغطتُ على زر يوصلنا لطابق علويّ فقالت باستغراب:
" ألن نخرج من الفندق؟؟"

" كلا.."

" هل يوجد احتفال ما في الطابق العلوي؟!.."

" أجل.."

لما وصلنا كان الهدوء يعمّ في المكان واضاءة خفيفة بين الغُرف الشاغرة...سألت بتوجس:
" أأنت متأكد أنه يوجد احتفال هنا؟....ما هذا الهدوء؟...لا يوجد أي أثر لبشر أو لموسيقى!!.."

وقفتُ أمام غرفة مرقّمة بـ (216) ...أدرتها نحوي من كتفيها وهمستُ بصوتٍ رخيم وروحٍ هيمانة وقلبٍ ولهان بخطاب إما يكون خطاباً للوداع أو يأخذنا الى عالم كله عشق وضياع:
" اسمعيني ألمى..."

حجبتْ سماءيها عني مسدلة الستائر عليهما بحياء بينما دقات قلبها ترسل سلاماً معظّماً لقلبي من شدّتها وهمهمت:
" ها؟!.."

تابعتُ بصوتي العاشق مشيراً لباب الغرفة:
" لكِ القرار ....وسأرضى به مهما كان!!....سأفتح الباب الآن وأمدّ يدي ....إن أمسكتِ بها ستدخلين معي الى بحرٍ لجيّ مليء بالأمواج من فوقه ومن تحته....أمواج لطيفة تدغدغنا مرة وأمواج عاتية تسحبنا للأعماق مرة أخرى...أعماق نجهلها كلانا لكن سنتقبّلها دون جزع أو سخط دون عتاب أو ملامة...سنعوم داخلها بقناعة منّا دون تأثير من أحد!!...القرار قرارنا وحدنا !!....وحدنا يا ألمى!!...وإن أعرضتِ عن مسك يدي ...سأغلق الباب وأدفن البحر للأبد كي لا أسمح لنفسي الانغماس فيه!!....وسأعيدك الى حيث تنتمين !!...سأعيدك كما استلمتُكِ...هذا وعدي!.."

أخرجتُ البطاقة الخاصة بهذه الغرفة وفتحته نصفه ثم خطيتُ خطوة واحدة والتفتّ إليها مادّا يدي برفق شابكاً عيناي بعينيها هامساً بهمس اشبه بالرجاء:
" هل تقبلين أن تغوصي معي في بحري الذي يخبئ تحته براكين قابلة للانفجار من الممكن أن تحرقنا نيرانها معاً بعدلٍ وانصاف دون أن تفرّق بيننا أو أن ترحم احدنا؟!.."

لا أعلم إن كان الزمن توقف بي فعلاً وأنا انتظر قرارها ...!!...أتريد أن تعذّبني ؟!..أتريد أن ترديني قتيلاً في غربة فوق غربتي ؟!...كنتُ سارحاً سابحاً في زرقة عينيها بينما أجراس الخطر ترنّ في قلبي !!....شعرتُ أن أعمال شغب انتشرت في سائر جسدي !!....كل حواسي تتمرّد لتحدث انقلاب على مشاعري ....جميع شعيراتي تجاهد لإسقاط منصب الحُب في ميدان تحرير روحي....امشِ يا زمن وامضِ نحو الحرية قبل حدوث ثورة تزعزع خلايا مخي !!...حرية تزرعها في فناء قلبها وتسطّرها في دفتر حُبها....حرية تحميني من الأسقام والجنون... تنشلني بها من جحيم الأرض لأطير واحلّق في سماءيها ....اعتبريني طائراً جريحاً حبيس قفص ضيق ويرجو الانطلاق ليرفرف في الهواء الطلق !!...حرريني في حبك ولا تحرريني منه !!....امسكي بيدي لنكسر قيود الحرب والانتقام ولننطلق معاً نحو الحرية..!!..بعيداً عن الجميع!!.....مشاعر ثقيلة جمّة راودتني وجثمت على صدري....تلاشت بلمح البصر لحظة لامست يدها يدي هامسة:
" سأغوص معك في البحر لأنك طوق نجاتي ...سأمشي معك على الجمر لأني أثق أن النهاية ستكون أمان.!!...الأمان الذي أجده في حضنك حين تضمد لي حروقي وكل جراحي ..."

بابتسامة حانية جذبتها لتدلف معي فتسمّرت مكانها مما ترى!!.....كانت الغرفة واسعة مليئة بالشموع الصناعية ويوزّع على زواياها ورود منسّقة بعدة أشكال واحجام وغطاء السرير ناصع البياض في منتصفه منشفتان بيضاءتان مصممتان على شكل بطتيّ الحُب تحيطهما بتلات الجوري الحمراء....وجهاز كهربائي صغير على طاولة الزينة يصدر اضاءة خافتة هادئة تتبدّل الوانها من دقيقة لأخرى بين الأزرق والأحمر والبرتقالي وتنتشر منه أبخرة برائحة الأناناس التي أعشق..!!...وعند بابها الزجاجي أريكة العشق وجوارها طاولة دائرية متوسطة ينتصفها شمعدان فضي يزيّن مائدة العشاء ويحمل شمعة طويلة تعطي نوراً ناعماً يريح الأعصاب!! ....وفي منتصف الغرفة حوض استحمام بلونه الأبيض وجوانبه من خشب الصندل مع درجتين...كان محاطاً بشموعٍ حقيقية ملونة ذات رائحة خفيفة ومليء بالماء والصابون وعلى سطحه تطفو بتلات منوّعة من الورود...!!....سحبتها ممسكاً بيدها الساخنة بسبب ما رأت من مفاجآت...كانت مضطربة ونبضاتها تتسارع.....وقفتُ بها أمام المرآة ووقفتُ خلفها ملتصقاً بها ...لحظات نتأمل أنفسنا لتخفض بعدها رأسها باستحياء متهرّبة من نظرات عينيّ.....أدرتها برقة ازائي ولم تتجرأ على مواجهة وجهي ....لقد علمت أنه آن الأوان !!....حررتُ زنار معطفها ثم شرعتُ بفك أزراره واحداً تلو الآخر بكل هدوء وثبات وأنفاسها الحارة تلسعني...ولما ازلتُه عنها عدتُ خطوتين للخلف منبهراً مسحوراً بصنع الخالق......حورية امتلكت كل الفتنة التي على الأرض.!!.....جلبتُ العذاب لنفسي بنفسي لأحترق بنار حُبها فوق احتراقي بفضل هذا الفستان الذي زادها اثارة فوق اثارة!!....كان سماوياً ضيقاً يصل لمنتصف فخذيها ...يكشفُ نحرها وعلى صدره حبات كريستال شبيهة باللتي على الحذاء لترسل وميضاً وتصهرني معها !!....واكتافه تحتضن عنقها بكل اجرام ....أما ظهرها كان مشاعاً لا يحجبه أي قماش دخيل ..فاسحاً المجال لقبلاتي الظمآنة المتعطشة للمسها.!!...دنوتُ من طاولة الزينة وحملت علبة من المخمل الكحلي وهي فقط تراقب بتوتر كل حركاتي...فتحتها لأخرج اسوارة فاخرة من الألماس مع خاتمها هدية قبولها لي....ألبستها اياهما وهي مستسلمة مع ابتسامة سرور تشرق في ليلتي على مبسمها....رفعتُ يدها وقبّلتها بينما عيناي ترسل ومضات هائمة بها الى عينيها وهمست:
" أعلم أن الألماس يغار من جمالك ...لكني أحببتُ أن أهديه لكِ .."

حررت يدها من يدي وهمست بصوتها العذب ووجنتيها المتوهجتين:
" سلمتَ يامن.."

شبكتُ أناملها بأناملي واتجهت بها نحو مائدة الطعام ...لا بد انها لم تأكل شيئاً وهي منشغلة مع خالتها !!....ولمّا انتهينا من الطعام قامت من كرسيها ومرّت من جانبي فبحركة مني مع همسة أضحت جالسة على حجري:
" الى اين تذهبين ؟!.."

بصوت مرتبك خجلاً:
" سأغسّل يديّ وفمي....اتركني"

" لا تتأخري..!!"

برقة شلّتني قالت:
" حاضر.."

لمّا عادت إليّ قمتُ من مكاني واتجهت الى المنضدة واخرجتُ من درجها عطراً ودنوتُ منها فهتفت متعجّبة:
" عطري؟!....كيف؟!.."

ضحكت وأجبتها بينما كنت أنثر رذاذه عليها:
" طلبته من هنا ....هل هو حكر لك سيدة ألمى ؟!.."

ألقيتُه على السرير من ورائي بعدم اهتمام ثم اقتربتُ منها وحررتُ شلالها ...ضممته بيدي وقرّبته لأنفي استنشقه بوَله ثم تركته بغلّ عاشق ولهان وحاوطتُ خصرها من خلف ظهرها ودفنتُ وجهي بين عنقها وشعرها وهمست:
" فاتنتي الصغيرة.."
".ماذا فعلتِ بي؟!."
." ما هذا الجمال الساحق ؟!"

أدرتها نحوي وقبّلت عنقها ثم انتقلتُ لوجنتيها وهي صاغرة بينما حركة صدرها وأنفاسها تفضح رغبتها وعند باب مقبرتي التي تحتلُ ثغرها أدليتُ باعترافي قبل السقوط في حفرتها مسلّطاً أرضي على سمائها:
" آه لو تعلمين يا مدمّرتي ما وضع قلبي منذ أن عرفك..!!...اختلّت نبضاته !!...خانني من أجلك...تمرّد عليّ....وكتب في أعماقه حُبك!!....بتّ أعشق وجودك في كل أوقاتي ....حبك يتغلغل بين حنايا الروح كالماء الذي يشقّ طريقه بين الصخور....عشقي لكِ فاق الجبال وعدد ذرّات الرمال....كل يوم جديد يولد بي الحب من أجلك...يتكاثر ولا يموت!!....أشتاق لكِ في كل لحظة ....لو تكلّم القمر ونطقت النجوم لوَشت عني كم اخبرتها عن مدى حبي لكِ....لو أصبح للسماء لسان لفضحت مناجاتي لها في الليل والنهار عنكِ....أنت يا من تسكنين قلبي أحبك.....وحبي لكِ ...يفوق عمر يامن!!....قسماً بمن رفع السماء يا سمائي..!!..."

وانهيتُ كلامي دامجاً ثغري بثغرها متلذذاً برحيق الحُب من شفتيها مستمرّا باحتراقي واحراقها دون أن نعدّ الثواني وبين الفينة والأخرى اعطي لها المجال لتتنفس ثم أعود بحُب أعنف وأقوى....أخرج شوقي لها دون خوف من شيء يكسر ليلتنا ثم حملتُها على ذراعيّ بحركة أذابتها ووضعتها على السرير برقة ثم همست ووجهي يعانق وجهها:
" سلميني نفسك يا حبيبتي ولا تقاومي....لأهديك ليلة من أجمل ليالي العُمر.."

اومأت بقبول جريء وهي تعانقني وتجذبني نحوها ثم قبّلت شفتيّ قبلة خفيفة وهمست:
" أنا لكَ يا حبيبي....افعل ما تشاء !.."

فعدتُ لأقطع أنفاسي بأنفاسها وهي تتجاوب معي بهيام ذائبة بين يديّ لنغوص معاً في بحر حبنا نشفي غليل شهور وسنين ....نختمها في هذه الغرفة التي جمعتنا بعيداً عن كل الحقائق في مكان غير وطني وبلادها تلك وعلى فراش الهوى والغرام بكل شغف ولوعة لنسجّل أول يوم في حياتنا الزوجية الحقيقية دون أن نبالي بأي نتائج سنحصل عليها من بعدها ..!!
×
×
×
تختبئ تحت اللحاف تشدّه بقبضتيها عليها وأنا احاول رفعه ضاحكاً بصوت مرتفع أتسلّى بها من خجلها بينما كانت تشتم بكلمات عشوائية...فجذبتها نحوي وجعلتها تتوسد صدري العاري وبعد أن هدأت من حيائها...عبثت بإصبعها تمرره على صدري وهمست بشجن:
" يامن.."

" روح يامن!!."

بعبوس طفولي وصوت رقيق قالت:
" هل أصبحنا حقاً زوجين ولن تقسو علي مجدداً ..؟!.."

داعبتُ وجنتها بإبهامي وقبلت أعلى شعرها وقلت:
" أقسو على نفسي قبل أن أقسو عليكِ...!!.."

تابعت سائلة:
" هل ستتخلّى عني يوماً..؟؟!.."

" أتخلّى عن عمري ولا أتخلّى عنك!.."

وأضفتُ بتوجس وريبة:
" وأنتِ ...هل يأتي يوماً وتتركيني؟!.."

لاذت بالصمت شاردة...ثم رفعت وجهها لترى وجهي...أرسلت شهباً من سماءيها وأجابت واثقة وهي تضربني بإصبعها على أنفي:
" إن لم تعطني سبباً عظيماً .....لن أتركك "
ليلة ولا في الأحلام....كانت أجمل مما توقعت أو تخيّلت...حقاً إنها ليلة العُمر!!.....شعرتُ بحمل ثقيل ازيحَ عن صدري بعد اتمام زواجي منها.....كم كنتُ ظالماً لها ولنفسي؟!...أفضتُ عليها من نهر حبي بسخاء دون حسبان بينما كانت هي تطعمني من سحرها الفتّاك الذي لا يُشبع منه حتى لو قضيتُ عمري أتذوق حلاوته...!!...

" اغمض عينيك!!.."

قالتها بنبرة فيها الحياء وهي ملتصقة بي....تتكئ بساعدها الأيسر على صدري بينما بسبابتها تداعب تارة شفتيّ ومرةً تمررها على حاجبي المصاب ووجهها يقابل وجهي فسألتُها بفضول بعدما تأوهتْ بنعومة لأني عضضتُ لها اصبعها :
" لمَ أغمضهما؟!"

زمّت شفتيها وهمست بدلع:
" أريدُ أن أنهض من مكاني لأستحم وأنت تعيق طريقي بهاتين العينين اللتين تلتهماني !!....لا تترك لي المجال لأتنفس.."

رفعتُ زاوية فمي بابتسامة مائلة وهمست بهدوء متسائلاً دون تعليق على جملتها... كي لا ننسى انفسنا:
" كم أصبحت الساعة الآن يا ترى؟!....فبما أنه يوجد واحدة سلبت عقلي وأنا انتظرها نسيتُ ساعة يدي..!!"

بعبوس ودلال بينما هي مستمرّة بحركة اصبعها لامتني :
" كيف سنعرف الوقت سيد يامن وأنت لم تجلب هواتفنا؟!.."

بخفة مسكتها من كتفيها ألفّها وأثبتها على ظهرها وحاصرتها بنصفي العلوي بشكل جانبي وقلت وأنا أتأمل من فوقها الفتنة التي يحملها وجهها:
" المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين..!!.....اخذتُ الحيطة والحذر كي لا يأتينا اتصال يفض مضجعنا ويخرّب ليلتنا كالسابق سيدة ألمى الهاشمي!!.."

عانقتني بذراعيها وهمست بغنج:
" أقنعتني!!.."

ثم رفعت رأسها متشبثة بعنقي تأخذ الدعم مني حتى باغتتني بقبلة ناريّة ولما افلتتني همستُ بتحدّي بعدما ارتفعت حرارة دمائي:
" هل أنت على قدْرِ هذه الحركة يا صغيرة؟!.."

بابتسامة لعوب يخالطها الحياء دفعتني بكفيها من صدري وقالت بعد أن استجبتُ مبتعداً عنها مرتمياً على ظهري عائداً لمخدتي:
" لا تتحداني يا طماع !!..أنا لم أقصد بها الّا شكرك على تفكيرك المنطقي !.."

" العفو....تعالي كل يوم.... لن أمانع إن كنتِ ستشكرينني بهذه الطريقة!!."

قلتها مازحاً بتسلية ثم مددتُ يدي ليميني على المنضدة كي آخذ جهاز التحكم الخاص بالتلفاز وفتحته فهمستْ:
" هل سنشاهد فيلماً؟."

تبسّمت بوقار وأجبتُ بهدوء جاد وعيناي على الشاشة:
" كلا حُبي.....سأبحث عن احدى القنوات التي تضع الساعة لأرى إن كان لدينا متّسعاً من الوقت من أجل استعمال حوض الاستحمام الدافئ الذي يرخي العضلات ويريح الأعصاب !....فأنت تعلمين علينا تجهيز حقائبنا لأننا سنخرج باكراً لنمر أولاً على خالتك نسلّم عليها ومن ثم الى المطار !!...."

رميتها بغمزة سريعة واستأنفت قبل أن اعيد وجهي للتلفاز:
"أنا أخشى أن ننسى أنفسنا ونحن غارقان بالعسل يا عسل !!.."

ولمّا وجدتُ أن معنا ما يكفينا من الزمن ألقيتُ جهاز التحكم وهمست لها وأنا ارفع جذعي وأعدّل جلستي باسطاً كفي لها:
" هيا معي الى الحوض..!!.."

تشبّثت بالغطاء تستر نفسها حتى وارت كتفيها أكثر وقالت تكرر طلبها محرجة بوجنتيها المتوهجتين واللتين لم اعلم إن كانتا خجلاً أم من ثورة الحُب التي عشناها:
" اذاً أدِر وجهك وأغمض عينيك!!.."

ضحكتُ وقلت:
" كأني لم أركِ يا قطة!!.."

ضربتني بقبضتها على عضلات ذراعي وتمتمت مستنكرة بجسارة مختلطة بالحياء:
" أصمت... لقد خدعتني وجعلتني كالمغيبة أما الآن أنا في وعيي لن أسمح لك!!.."

استدرتُ نحوها ومددتُ يدي أبعد خصلة تمرّدت على وجهها ثم مررتُ ظهر أناملي برفق على وجنتها محدثاً قشعريرة لذيذة على سائر جسدها وهمستُ ناظراً بحُب إليها:
" هذا سحر الحُب حبيبتي... أن تنسي الدنيا وما فيها وفقط تستمتعين به وتعيشينه بقلبك واحساسك دون السماح لعقلك أن يرهقك من التفكير!!...الحُب هو أن ندمج نبضات قلبينا لنغني على ايقاعها أغنية مذهلة تميزنا نحن فقط .... نحكي بها عن انصهار روحينا.... ونعبّر بها عن مشاعرنا الصادقة الشغوفة المندفعة بالتقاء جسدينا ... "

~~~~~~~~~~~~~~~~~~

ارتدى بنطاله وقميصه وزرره بعشوائية وخرج من باب الغرفة دون أن يلتفت للتي ما زالت على السرير وكان معها قبل قليل يفرغ بها رغباته المحرّمة !!.....فهو هكذا بعد ان يحصل على ما يريد لا يلتفت خلفه !!..ينظر للجميع بدونيّة ويرى نفسه فوقهم ولن يجرؤ أحد على مواجهته أو سؤاله ما دام يشتريهم بأمواله السوداء!!...عند عظمة المال يصمت الجميع!!...هذه أسمى معتقداته النتنة الراسخة في عقله النجس!!......قصد أريكة رمادية اللون قريبة من النافذة في شقتها المرتفعة الموجودة بإحدى العمارات الحديثة التي يسكنها اصحاب الأموال والمناصب في المدينة الساحلية!!....أزاح الستار الأبيض قبل أن يجلس ليقع نظره على المنظر الساحر من الأعلى متنهداً سارحاً بالبحر بعد أن تخطّى الميناء واضاءات الشوارع محلّقاً بأجنحة أحلامه لما وراء البحار والجبال.....إلى مسقط رأسه ودولته الأم ...رسم ابتسامة منتشياً بعد أن زيّن له خياله المنصب المنتظر !!.....جلس على الأريكة باسترخاء فلحقت به بعد قليل عشيقته ابنة السابعة والعشرون عاماً بلباسها الفاضح حاملة علبة السجائر وجاورته بجلوسها بميوعة وبضحكات لا تناسب الّا العاهرات أمثالها ثم سحبت سيجارة بشفتيها من العلبة بحركة مغوية وأشعلتها باحترافية لتضعها بفمه بعد أن أخذت نفساً طويلاً منها فقبلها دون تردد لكنه لم يتنازل وينظر اليها او يشكرها.!!.....نال مراده والآن مرتاح !!..هل تظن نفسها شيئا يهمه؟...هل تعتقد أنه يضعها بخانة البشر أو يعطيها أي قيمة تذكر؟....باعت نفسها وجسدها بعد أن وضعها برأسه غير متحكّم بشهواته ...وبالطبع....رزمة نقود صغيرة لمثل اولئك كفيلة لتركع عند قدميه وتكون رهن اشارته.....باختصار جارية رخيصة!!.....مالت نحوه تداعب ياقته واثقة من نفسها دون ان تنتبه لملامحه التي لا تخفي اشمئزازه وتقززه منها.!!....حاولت اثارته من جديد فأبعدها عنه ضَجِراً ....استجابت لرفضه تعدّل جلستها.......سحق سيجارته بالمطفأة وهي ما زالت في منتصفها .....نظر لساعته عاقد الحاجبين بجدّية ثم هتف بكل راحة:
" لملمي أغراضك خلال اسبوع لأسلّم الشقة لأصحابها!!....انتهى وقت المرح!!.."

" كيف؟؟...ماذا تقصد؟.."

رمقها بنظرات يحتقرها من فوق لتحت ثم أبعد وجهه مجدداً ناظراً الى الأمام وقال:
" أقصد ابحثي عن مصدر جديد للمال وإنسي سيدك عاصي رضا.....أنا سأرحل من هنا !!.."

خفق قلبها مضطربة وتعاقبت أنفاسها وقالت متلعثمة:
" لـ..لا يمكنك ذلك...مستحيل!!.."

انتصب واقفاً بحزم وقال بتعالي وتجبّر بعد ان اطلق ضحكة ساخرة:
" ما هذا.. لا يمكنك ذلك؟....من أنتِ لتقرري يا..."

وقطع جملته دون أن يكمل...يبدو أنّ ذرة ضمير وافته من غير قصد كي لا يجرحها أو الأصح ....أن بسبب تعجرفه استخسر فيها حرق طاقته بالكلام!!.....وقفت أمامه وتكدّست الدموع بعينيها ثم مدّت يدها تمسك كف يسراه وقرّبتها لبطنها قائلة مترددة برجاء مصحوباً بالأمل:
" كـ...كنتُ أود مـ...مُـ..مفاجأتك....أنا حامل بابنك!!..."

نفض يده من بين يديها بعنف متكهرباً واستدار يقابلها جاحظ العينين بعد أن أراعه ما سمع منها ثم صرخ مستنكراً:
" ماذااا؟؟.."

مسكها من ياقتها التي تكشف أكثر مما تستر بعدوانية وهزّها بشراسة متابعاً بصرخاته:
" ألا تأخذين احتياطاتك؟؟..كيف تجرئين على عدم تناول حبوب منع الحمل وأنا حذرتك؟؟.."

بتلعثم وخوف أجابت:
" نسيتُها مرة واحدة فقط من غير قصد....أُقسِم لك... صدقني !!.."

" قالوا للص أقسم فقال جاء الفرج....هل سأصدق قَسَماً يخرج من فم عاهرة؟؟.."

قالها متهكّماً بغيظ ودفعها لتقع على الأريكة خلفها واستطرد مشهراً سبابته بلا مبالاة بينما بيده الأخرى يحاول تعديل أزراره:
" من الصباح الباكر تذهبين الى طبيبة النساء لتجهضيه....هذا ما ينقصني ....ولد في هذا الوقت ...وماذا؟...من ساقطة !!.."

أجابته من بين عبراتها وبكائها من اهانته لها وهي تحاول استعطافه:
" لا تكن قاسياً....أنا في سن ابنتك !!...ثم هكذا تأتيها بأخٍ بدلاً من أن تبقى وحيدة.....و..وايضا الجنين قلبه بدأ ينبض ودُبّت به الروح..."

مال بجذعه نحوها وقبض شعرها بغل وهزّها وملامحه قمة الازدراء كأنه يلملم القمامة وصاح بقسوة وتغطرس:
" إياك ايتها الفاجرة أن تقرني نفسك بابنتي !!...احذّرك!....أنا لم آتها بأخٍ من زوجتي ...حتى اهديها شقيقاً من مومس ابنة شوارع...أتظنين سأقبل بذلك؟؟ !!...ابنة عاصي رضا تبقى أميرة قلبه ولا أحد يشاركها لأنها هي هدية من حبيبتي الوحيدة وجوهرتي الحسناء الشريفة كريمة......أفهمتِ؟؟....."

وأضاف بدناءة دون ذمة او ضمير:
"وحتى لو كنتِ على وشك الولادة ستجهضينه...لا أريد أي نجاسة.!!...طفل لقيط اعطيه اسمي أنا!! ..."

حرر يده بقرف عنها وانتصب واقفاً بسموٍ وعظمة وأردف:
" في الصباح سأبعث لكِ سائقي ليرافقك حتى عيادة الطبيبة .....أريد أن أرى بعينيّ أوراقاً تثبت اتمام عملية الاجهاض!!..."

ابتعد قليلاً عنها فوقفت تتوسّله وهي تدنو لتجثو أمامه أرضاً باكية ممسكة بيده:
" أرجوك لا تتركني....ولا تقتل ابني....أنا اريده !....لا تحرمني اياه"

ركلها برجله لتقع للخلف كأنه يبعد جيفة حيوان عن طريقه وهتف:
" قلت كلمتي النهائية وغير قابلة للنقاش!!....أنت وظيفتك كانت واضحة من الأساس....فقط لتمتعيني أنا حتى اسأم !!...فقط لتلبّي رغباتي!!.....ليس لتنسجي اوهاماً أسريّة بخيالك وعقلك النجس هذا يا رخيصة........هل ظننتِ سأخضع لهذه المفاجأة.؟؟....انها فاجعة!!..."

حاولت التعنّت باستماتة مدّعية القوة بينما داخلها تهشّم كالزجاج من قسوة كلامه وفظاظته وسيل الإذلال والانتقاص الذي اغرقها به واستقامت بوقفتها وقالت:
" حسناً أنت ستتركني....لكن لا يمكنك اجباري على اجهاضه بقسوتك هذه وتجبّرك....أنا اريده...هذا ابني....اذهب أنت ....أصبح هو أملي في الحياة..."

انقضّ عليها هائجاً....يدٍ يمسكها بها من كتفها والأخرى أنزلها بشراسة دون رحمة بصفعة على وجهها صداها رنّ بأركان الشقة ليتبعها ساحباً اياها من شعرها بكل خشونة وعنف حتى أوصلها الغرفة الشاهدة على أفعاله ومعاصيه ثم دفعها لتسقط بكامل جسدها على الأرضية الرخامية الباردة ونهرها بحزم وصلابة هادراً:
" ابدئي من الآن بلم اغراضك ....والخيار بين يديك... إما أن تجهضي بإرادتك عند طبيبة أو أنا افعلها لكِ الآن بيدي دون أن يرف لي جفن ودون ان التفت خلفي!!.."

واستدار خارجاً لتهتف من خلفه تضع نفسها بخانة المظلومة منه وهي التي ظلمت نفسها بعدما أخذت هذا الطريق نهجاً لها واختارت نمطاً لحياة مليئة بالحرام والذنوب حباً بالمال الأسود الذي لا يدوم:
" منك لله يا ظالم ....منك لله....تجبّر وتكبّر....ستقع في حفرة معاصيك يوماً ما.....أتمنى أن اشهد على هذا اليوم أيها السادي الطاغي ...المستبدّ العاصي!!.."

×
×
×

دلف الى غرفته بعد منتصف الليل فتفاجأ بزوجته مستيقظة على غير عادتها....."...أوه...إنها ترتدي قميص نوم جريء جداً لا يليق في سنّها !!.."..قالها في سره ثم أمال زاوية فمه بابتسامة ساخرة واتّجه للحمام دون النطق بحرف بعد أن خلع قميصه والقاه على أريكة جانبية !!....استغّلت غيابه وانقضّت على القميص تتفحّصه ودماؤها تغلي غيرةً!!.....قربته لأنفها ولم تفتها رائحة العطر الأنثوية الصاخبة و....شعرة حمراء متوسطة الطول لا تمت لها بصلة!!....تأكدت من خيانته فوق تأكدها!!...قررت أنها لن تستسلم ولن تسمح لأخرى بأخذ ما هو من حقها!!....لن تواجهه بخيانته بالطبع ...هي بغنى عن فتح أبواب الجحيم بيدها....!!...لكن من حقها أن يرضي أنوثتها التي ترغبه بعد حرمانها لأسابيع...أسابيع؟!...تساءلت.. أهي أسابيع أم تخطت الشهرين؟!!....لم تعُد تدري فكل أيامها غدت متشابهة!!......خرج من الحمام مرتدياً منامته وبمنشفة صغيرة يجفف شعره...دنت منه بدلع مصطنع وحاوطته من الخلف متكئة برأسها على ظهره تلتمس حرارته وكفاها على صدره....شعر بيديها كأنها أشواك الصبّار تنخز جسده...أو خلية نحل كاملة هجمت تلسعه !!.....تحرر منها وسار نحو السرير ليضطجع مكانه.....تنهّدت بالخفية ولحقت به واتخذت مكانها هي الأخرى....استدارت نحوه وبدأت تداعب وجنته وعنقه لتثيره ....فتأفف مستديراً إليها وقال بكل برود وباقتضاب:
" أريد أن أنام... أنا متعب !!.."

حاولت أن لا تخرج الحشرجة التي كادت تسيطر على صوتها وهمست تخدع نفسها بنفسها:
" كل يوم تأتي في هذا الوقت متعباً !!....أنا سئمت!...ألا تشتاق لي؟!....ما بك لا تبالي ؟!....هل كبرت ولم يعد لك رغبة بهذه الأشياء ؟!...."

حدّجها بنظرة استخفاف وامتهان وهتف بكلمات صريحة حد الوقاحة نزلت كماءٍ صديد عليها:
" أنتِ من كبرتِ يا مدام ولم تعودي تشبعي رغباتي كرجل....!!...انظري لتجاعيد عنقك!....تنفقين المال لشدّها دون جدوى!!....ولّى زمانك!...ما عدتُ أكتفي بكِ!!...."

فكّت أصفاد القوة التي ابتدعتها سامحة لعبراتها أن تسكب أمامه وهمست بصوت مهزوز:
" أنتَ عديم المشاعر!....أناني!....لا ترى الّا نفسك ولا تستجيب الّا لرغباتك وشهواتك!!..."

ضحك بتبختر وتعجرف وأكمل هازئاً يمنّ عليها:
" عليكِ أن تشكريني لا أن تتبجحي لأني لم اعطِ مكانك هنا على هذا السرير لفتاة عشرينية تلبّي احتياجاتي الذكورية ..."

ولّاها ظهره وتابع متمتماً بحقارة:
" هيا....هيا اطفئي النور ونامي ولا تشغلي بالك ولا تنسي أخذ دواء الضغط خاصتك!...كأني متفرغ لكِ..!.."

وخلد للنوم بكل أريحية وبلا تأنيب للضمير ودون أن تهتز شعره منه ودون أن يحس بالنار التي اضرمها بقلب زوجته حلاله وروحها التي تحتضر والتي لم يعرف النعاس طريقاً للوصول الى عينيها المنتفخة من شدة البكاء...!!

~~~~~~~~~~~~~~~~~~

بينما كنا مسترخيين في ماء الحوض وهي تحتضنني وتسند رأسها على كتفي سألتها بمداعبة :
" لم أسمع منك كلمة أحبك يا بخيلة!...أم أنك ستنتقمين مني؟!.."

رفعت رأسها بوجهها الرطب من البخار الذي يحيطنا متصاعداً من الماء الدافئ وبشعرها المغمور فيه حتى نصفه ثم رسمت ابتسامة رقيقة على ثغرها وأجابت:
" ألم يكفِكَ أنني سلّمتك نفسي لتتأكد من هذا؟...ثم أنظر الى عينيّ وستخبرانك كم أحبك !!.."

مدّت يدها تحسس على ذقني بحركاتها اللعوبة التي توصلني حد السخونة وتابعت حائرة:
" أنا أحببتك...لا أعرف متى وكيف ؟!...لا تسألني!!...لكني أتساءل حقاً....أنت !....متى أحببتني لهذه الدرجة ؟!...وما الذي أحببته بي اولاً؟!.."

شددتُ عليها بذراعي الذي يلتف على عنقها وبيدي الأخرى داعبتُ أناملها الرقيقة بأناملي ...قبّلتُ رأسها بحنوٍ وقلت:
" أخبرتك!....حبي لكِ يفوق عمر يامن ....أي أحبكِ قبل ولادة يامن!!.."

رفعت رأسها تتطلّع عليّ بعدم فهم ثم أفلتت يمناها الرقيقة من يدي ووضعتها على عضلات صدري لتلسعني بلمستها ونعومتها وهمست بتيه:
" كيف هذا؟...اشرح لي!.."

" آه يا مدمّرتي !....لأن هادي متيّم بكِ من قبل أن يصبح يامن!!...غارق في عشقك لحظة اقتحامك المخيّم وحياته معاً....لحظة ترككِ للعقد الذهبي كي تهبيه سماءك لاجئاً بها ....في اللحظة الذي دق قلبه أول دقة خيانة معلناً عن ولائه لكِ..!!..".....
كم وددتُ أن يكون تفكيري مسموعاً لها عسى أن يرتاح ضميري !!....هذه هي الوصمة الوحيدة التي ترهقني وتزهق روحي من أجلها...وصمة خداعها بحقيقتي!!....

أجبتها مراوغاً:
" لأنك قدري الذي كُتبَ على جبيني قبل أن أولد يا حبيبتي ...هذا قصدي!.."

" وما اول شيء احببته بي ؟!.."

" عينيك....وآاااه ثم آه من عينيك..... يا حاملة أجمل سماء!!.."

×
×
×

رغم هذا الفائض من الجمال وروعة الحدث الذي عشناه ليلة أمس الّا أن جملتها الوحيدة أربكتني وظلّ صداها في عقلي يرافقني حتى ونحن في الطائرة بعد توديعنا لخالتها.. * إن لم تعطني سبباً عظيماً...لن أتركك!!..*....انسابت بسهولة من بين شفتيها لكنها اقتحمت أذنيّ كصبّ الرصاص لحظتها!!....هذه إشارة كي أستعدّ.....أجل!....ما الأعظم من السبب الذي تعيشه ؟!....مخدوعة بزوجٍ لا شيء حقيقي يملكه سوى قلبه الذي أحبها وأسكنها فيه...!!.....هل هذا كافي ليشفع لي عندها؟!......نفضتُ وساوسي وعدتُ لأرض الواقع !!...لن أسمح لشيء بتعكير صفوي وسأحافظ على رونق وبهاء الليلة التي قضيناها معاً في الغرفة (216)....لقد أمضينا وقتاً فيها يُحسب بالساعات لكن على قلبينا كان كرمشة عين!!.....جعلتها مدللتي وأثبتّ لها أنها مليكة قلبي وملكي أنا وحدي!!.........وأخيراً بصمتُ حُبي على ألمتي..!!

×
×
×

عهدٌ قاسي أخذته على نفسي منذ سنوات طوال لحظة دخولي هذا القصر ....قصر الانتقام!!.......كان عهدي أن لا أنام على سريري مرتاحاً الى حين القبض على الوغد (عاصي رضا)....لم أخلف عهودي يوماً ولن أخلف.....كان هذا جلّ ما يؤرقني عند دخولنا البيت.....ماذا سأفعل وكيف اتصرف؟؟...لقد اصبحنا زوجين حقيقيين!!....زوجين؟؟......شبح ابتسامة ارتسمت على محيايّ وأنا اتذكر ليلة العمر ....هل ألمتي صارت زوجتي قلباً وقالباً؟؟...هل كسرتُ السور العالي الذي كان بيننا؟؟....أيمكنني الاقتراب منها متى شئت ؟؟...هل تحررتُ بعد أن كنتُ مكبّلاً بأفكاري الخاطئة ؟؟...كانت حقيقة وليس حلماً !!....بل أجمل حقيقة عشتها من سنوات!!......آه الحمد لله .....لن أفكر في الغد...سأحسبه بعيداً...بعيداً جداً... وسأعيش يومي فقط بحلوه ومرّه.!!...
كلا...لن يكون مراً...لن يكون!... أي مرّ وحبيبتي الحلوة أصبحت لي جسداً وروحاً؟؟!...
كم حاولتُ اقناع نفسي بهذا....ولا أعلم إن صدّقتُ ما تفوّهتُ به أم لا؟!......فالعاصفة قادمة لا ريب!!...

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

" اخبريني بالتفصيل الممل يا ابنة المحظوظين !!.."

بعد وصولنا الى البيت في ساعات بعد الظهر تركتها وتوجهتُ الى الشركة من فوري فلم تتوانَى عن الاتصال بأعزّ صديقة لتبشّرها بالحدث الذي كان مرتقباً والأعظم الذي حصل معها....!!

" انتظري!!...لا أريد أن أعيد كلامي.....أحاول ادخال لميس للمحادثة لكنها لا تستجيب!!.."

" لميس هاتفها في التصليح لقد وقع وكُسرت شاشته !!.....سنخبرها لاحقاً....هيا غرّدي يا ابنتي... أكاد أتفتت لأسمع كيف تكون مفاجآت الزلازل.!!؟.."

هتفت بمكر:
" لمَ آنسة ميار؟....هل لتطمئني على مستقبلك تحت الأنقاض؟!...."

سحبت نفساً طويلاً على الهاتف بهيام فسألتها:
" ماذا تفعلين يا حمقاء؟!.."

" على سيرة الزلازل....أخذتُ جرعة الاوكسجين من لفحته!!.."

ضحكت بنعومة من أفعال صديقتها المجنونة وشرعت تقصّ عليها ما حدث دون زيادة أو نقصان بينما كانت تلك تعلّق إما بشهقة منبهرة أو بتنهيدة ذائبة وبعد انتهاء قصة ألف ليلة وليلة وسماع التعقيبات والإطراءات همست (ألمى) بتشكك:
" لمَ موضوعك أنتِ طال لهذه الدرجة ميار؟!...ألا جديد؟!.."

" غداً ان شاء الله الرد النهائي عند عودة أبي إلينا....ادعي لي يا صديقتي !...أكاد أجن من الانتظار!....أشعروني كأنني صفقة تبادل أراضي بين الدولتين!!..."

أطلقت ضحكة خفيفة لكلام صديقتها فتابعت الأخيرة بحماس:
" لكني مرتاحة الحمد لله....أتعلمين لمَ؟!.."

"لمَ؟!."

" لأن والدتي تقف في صفي بالإضافة لقصيّ!!......لو ترينها كيف تفتخر به وتمدحه....صحيح هي مرة واحدة التي رأته بها....لكنها تقول يكفي أنه شاب ملتزم يخاف الله ومن يخاف الله سيخافه في بنات الناس وستُسعَد من تكون شريكته..!!.."

غيّرت نبرة صوتها ضاحكة وأردفت معتزّة:
" والأهم أنها متباهية بأبناء بلدها الأم فهي لطالما مدحت شجاعتهم...رجولتهم... ونُبل أخلاقهم .....حتى أن شقيقتي غارت على زوجها بعدما رأت حماس أمي لأحمد ....وقالت لها بالحرف الواحد * أرى انحيازك له بوضوح وهو لم يرتبط رسمياً بابنتك بعد أم لكونه ابن بلدك التي تتفاخرين بها؟!!..*....."

سكتت برهة فهمست (ألمى) بفضول:
" أين ذهبتِ؟.....ماذا تفعلين؟!.."

ردّت متمتمة:
" بعثتُ لكِ صوراً....اعطني رأيك بصراحة!.."

شهقت مدهوشة بعد فتحها للصور:
" هل تحجبتِ يا معتوهة.!؟؟.."

" كلا يا غبية!...هذا تدريب على لفّ الحجاب!...ما رأيك؟....يليق بي أم أصبحتُ كالعجوز الشمطاء؟!.."

قالت مستنكرة تذكّرها بالماضي:
" ماذا سيدة ميار ؟!....أتذكرين عندما قررتُ تغيير نمط لباسي من أجله فسخرتِ مني ؟!.....أراكِ الان تتدربين على الحجاب بعدما طلب منك!!.."

" صحيح!!...كنتُ تافهة وآخذ كل شيء بسخرية!!.....لن أنكر !....لكن من يوم ما تعرّفت عليه ووقع في طريقي وتابعت صفحته بدأت أفكاري الرجعية تضمحلّ....ثم أنتِ قررتِ تغيير لباسك حينها عن غير قناعة وفقط من أجله أما أنا بدأت أرسخ الشيء في عقلي واربطه في الدين شيئاً فشيئاً وهو كان سبباً للفت انتباهي فقط أي اتجاه أسير.....والدليل أنني لم اتحجب بعد ولن أتحجب الّا وأكون راضية بقراري مئة بالمئة دون رجوع ودون اجبار من أحد!!....يعني عندما يأتي مع أهله لن أكون محجبة وليروا حقيقتي اولاً....فإما يتقبلوني هكذا بما فيهم هو طبعاً أو...."
استطردت بصوت خفيض مهتز مما ستنطقه وكأن روحها ستحتضر خشية من مجرد التفكير بهذا القرار بعد أن استولى على قطعة أرض في قلبها اعجاباً به:
" أو لا نصيب لي بالارتباط بهذا الزلزال....شيخنا الوسيم!.."

همست داعية بطيبتها ونقاء سريرتها من أجلها:
" يا رب أن يَفرحَ قلبك مثلما فرَح قلبي حبيبتي ميار....أنت تستحقين كل شيء جميل لأن روحك جميلة!.."

وأضافت تبدي رأيها:
" أما بالنسبة للصور سأكذب إن قلت غير لائق بكِ.!!...خصوصاً الألوان الفاتحة الزاهية تناسب كثيراً بشرتك الخمرية..."

شكرتها بتواضع ولطافة:
" هذا من ذوقك صديقتي الحبيبة ....إن شاء الله نرى محاولاتك قريبا !!....ألم تحاولي لف الحجاب بشكل أنيق بينك وبين نفسك بعد أن بدأتِ بالصلاة ؟!.."

أجابتها بصراحة:
" كلا لم أفكر!....أساساً ما لديّ فقط هو أسدال صلاة اشتراها لي !....ثم عليّ أولاً الالتزام بالصلاة وبعدهاااا لكل حادث حديث!....."

استأنفت بارتياح هشّ قابل للانكسار أي لحظة فهي لا تعي أن الراحة الحقيقية باتخاذ شرع الله وتطبيقه:
" أشكر ألله أنه لم يجبرني حتى الآن على ارتدائه!....أشعُر بصعوبة الأمر!!....يا الهي !....كيف سأقيّد نفسي به!....سأختنق وخاصةً في حرّ الصيف!..."
{{ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ }}

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

كالنحلة تعمل بنشاط دون كلل أو تبرّم....هذا اليوم الثالث لها بعد أن عيّنها خطيبها مساعدة له !!.....ما إن تنتهي من دوامها في الجامعة حتى تستقلّ بسرعة من غير تأخر سيارة أجرة وتطير الى الشركة وتحديداً الى عملها الجديد إن لم يذهب ويصطحبها بنفسه !!...لا تهتم لأكلها ولا لشربها ....ستثبت له كم أنها جادّة وعلى قدر المسؤولية التي منحها اياها....لا سنها ولا دراستها سيعيقانها عن العمل الذي وافقت عليه بسعادة !!......مشكلة صغيرة ووحيدة واجهتهما واضطّر القبول على مضض هي عندما قالت له قبل استلام منصبها ....* على شرط...لن يعلم أحد أنني خطيبتك!!...لا أريد أن يعاملوني بصفتي عروس المدير!...أرغب أن نكون سواسية كموظفين نعمل عندك! *....ورغم أنه حذّرها بأنه لا يرحم من يتقاعس عن عمله وهو غير مسؤول عن ردود فعله ازاء الأخطاء ما دام اختارت أن تُعامل كموظفة الّا أنها أصرّت على رأيها..!!....أجل هو سيعطيها فرصة!...فرصة للتجربة لا ضير بذلك!!....سيصبر وسيرى الى اين المستقرّ مع تلك العنيدة المتحمسة!!....
في أول يوم لها تفاجأ الموظفون لرؤية موظفة صغيرة وجميلة تُعيّن كمساعدة عند مديرهم المتديّن الصارم إذ أنه على مدار سنوات كان معظم العاملين لديه من فئة الذكور بمختلف أعمارهم أو سيدات متزوجات تخطّين الثلاثينات !!.....لكنهم تقبّلوا الوضع بعدما عرفوا أنها ابنة أحد أقربائه البعيدين!!....لجأ للكذب بعد سنوات بسبب العنيدة !!.....مضت هذه الثلاثة أيام وهو يشتعل من نار غيرته بعدما كان يلاحظ نظراتهم الفضولية عليها أو التحجج بأي شيء يخص العمل لفتح باب النقاش معها بل منهم من أصبح كريماً وفيّاضاً بتقديم المساعدة إن استعصى عليها أمراً.....لم يعد يركّز بعمله وأصبحت تلك الصغيرة العنيدة شغله الشاغل....ذاك المدير الذي لم يكن يتزحزح عن كرسيه وهو منصبٌّ ومنكبٌّ وغارقٌ بكل تفاني وجدّية في اشغاله غدا شاغراً هذه الآونة....!!.....ثلاثة أيام قضاها جيئة وذهاباً بين غرفته الخاصة والغرفة التي يتواجد بها مكتب للمساعدة والذي تعمل عليه السكرتيرة في فترة الصباح ثم تنتقل بعد استلام (سلمى) مكانها الى قسم الأرشيف ...! بالإضافة لأخرى أربع مكاتب لموظفين آخرين ...امرأة اربعينية وثلاثة رجال شباب هم بمثابة ذراعه الأيمن في أعماله !!....أما الباقون يوزّعون على غرف أخرى تفصل بين غرفته وغرفة (أحمد) الذي يتنقل بينها هنا في المدينة الجبلية وبين غرفته في فرع شركة العاصمة على مدار الأسبوع....!!.....كان في هذا اليوم ينتظر اتصالاً مهماً والذي تستقبله هي في البداية قبل أن تقوم بتحويله له على الهاتف الأرضي !!....مرّت ساعتان من السكينة وكلٌّ منشغلٌّ بما بين يديه حتى انفتح باب غرفته ليخرج منها مستشيطاً غضباً يثير رهبة من حوله وصرخ باحتدام منتفخ الأوداج :
" من منكم يُشغل الهاتف منذ ساعتين ؟!.."

لقد اتصل به صديقنا (أحمد) على هاتفه الخاص ليخبره عن الهاتف المشغول في قسمه بعد تلقيه هو الاتصال المنتظر..!!

تبادلوا النظرات التائهة بين بعضهم بتساؤل ولم يلقَ أي اجابة فكرر بصرامة ونبرة أشدّ بينما وجهه يعتريه الوجوم بسبب أهمية الاتصال المرتقب:
" افحصوا هواتفكم لأرى من منكم لم يغلق السماعة جيداً بعدم اهتمام......هيا أنا أنتظر!.."

ساد صمت رهيب قبل أن تكتشف الخائفة المرتجفة من غضبه أن هاتفها هو المقصود وأنها هي صاحبة الجريمة وعرفت أنها ستجرّ للمقصلة لكنها تشجّعت كي لا يأخذ أحد ذنبها ونهضت من مكانها بينما ركبتاها كادتا تصطكان ببعضهما وخفقات نابضها تزداد مسرعة من شدة توترها وكسرت الهدوء بصوتها الناعم المهزوز وهي تهمس قابضة طرفيّ فستانها بيديها بوجل مطأطئة رأسها:
" أ....أنا آ...آسفة...سـ....سيد بلال.....لم أنتبه!...أنني لم اغلق هاتفي جيداً.."

استدار ناحيتها مشدود الفكين ..عاقد الحاجبين وحدّجها بنظرة قاتلة أخفت خضرة عينيه قبل أن يقترب ويصفق بكفيه سطح الطاولة مما أدّى لانتفاضها مجفلة مرعوبة مع انقباض في قلبها وهتف بصلابة لم ترها قط على بلبلها الوديع :
" رائع يا آنسة.....رااائع....ألم أنبهك على هذا الاتصال بالذات.؟؟!....ها؟...اجيبيني !..."

علا بنبرته واضاف:
" ما هذا التسيّب وقلة المسؤولية ؟!....اتصال انتظرته اسبوعاً كاملاً من أكبر زبائن شركتنا والذي يعبد وقته عبادة ولا يسمح بمثل هذا الإهمال ؟!....ماذا سأجيبه الآن ؟!...هل سأقول له ...عفواً.. الآنسة لم تنتبه...اعذرنا ؟؟!..."

لم تجبه بشيئاً وكانت مصغية صاغرة بلا حول ولا قوة منها بعد وابل البهادل الذي أطلقها عليها....فاستوعب قسوته ومن تكون التي أمامه !!....لاحظ حركتها وهي تعض شفتها السفلى لتسيطر على ارتجافتها وأنفها الذي احمرّ وهي تكابد الّا تبكي بينما على زاوية احدى عينيها الدعجاء التي تخفيها مسدلة عليها اهدابها السوداء الكثيفة الطويلة تتأرجح قطرة ماء من براءتها !!....يا اللــه!!....ماذا فعل؟!....ما به جنّ لهذه الدرجة؟!.....هل الاتصال فعلاً من أجج نيران سخطه أم عنادها الذي وضعه في موقف لا يحسد عليه من حميّته عليها وغيرته الشديدة وهو يراهم يلتهمونها بأعينهم ؟!....لكن هذه حبيبة قلبه....إنها (سلمى) الناعمة الرقيقة !!....كيف سمح لنفسه أن يتمادى بتوبيخها وأمام الجميع..." تباً لك ايها الأحمق الأرعن !!...".....شتم نفسه في سره ثم استقام بوقفته يضغط على صدغيه بإبهامه وسبابته مستغفراً وبدّل نبرة صوته من فوره هامساً بلطافة صدمت الجمهور الذي كان يشاهد المسرحية:
" أعتذر...الحقي بي الى مكتبي لو سمحتِ!.."

واستدار يسبقها الى غرفته!!....دلفت بخطى واهية محرجة ومرتبكة بينما كان هو يتطلّع للخارج من النافذة القريبة من طاولة الاجتماعات المستطيلة يضع يده في جيبه شامخاً بوقفته وهمس دون النظر اليها يوليها ظهره:
" اغلقي الباب خلفك!.."

استجابت مذعنه ووقفت في وسط الغرفة وهمست برقتها وصوتها المتحشرج:
" حقاً....أنا آسفة...سامحني إن خرّبت عليك عملك!!...لن أعيدها!.."

لم تلمه أو تعاتبه لأنها من البداية وافقت على أي تصرف يبدر منه وقد حذّرها من هذا ومن عدم تسامحه في العمل بما أنها أرادت أن تُعامل كما الجميع !!...هي مجروحة أجل....قلبها ينزف دموعاً بلا شك ...اضطربت معدتها وجلاً لن تنكر....لكنها رغماً عنها ستتقبّل ولن تكون كالطفلة تغيّر رأيها حسب الحالة التي تعيشها..!!

التفت بكامل جسده إليها ....تشوّش فكره وهو يتأملها واقفة تطرق رأسها أرضاً وتشبك يديها أمامها ...وجنتاها متوهجتان انفعالاً....كم تشبه طالبة الابتدائي المذنبة...؟؟!!....سحقاً.....تكاد تبتلع شفتيها الورديتين الصغيرتين الممتلئتين وهي تعضهما بتوتر!!....لقد أغرته بحركتها التلقائية تلك!!...ألا تدرك ماذا تفعل به فوق الحنان الجارف الذي أحسّه بعدما وبّخها ؟!...ألا تعي أن هذا المكان اللئيم هو الذي يمنعه عن التهامها هذه اللحظة..؟!...هو يستطيع السيطرة على ملامحه بكل ثبات إن قبّلها الآن....لكنه أصبح خبيراً بردود أفعالها هي !!...ستذوب...سيكتسي وجهها بالكامل بلون الدم...ستتلعثم في كلامها...ستخلط الأمور في بعضها دون وعي....وببساطة!...مستعدة أن تعترف بعفويتها إن سألها أحد ماذا حصل لها ؟!..أي ستنكشف وتُفضح وهذا ما لن يسمح به بحقها هي بالذات!!......نظر الى الساعة التي تحيط معصمه....تمنى أن يمر الوقت بسرعة لينتهي الدوام ويطبق عليها أفكاره المنحرفة التي صدعت دماغه وداعبت روحه ودغدغت قلبه.....لكن لا مانع الآن من حضن بريء سريع كاعتذار عن فظاظته ...تقدّم نحوها بثقة وثبات....مدّ اصبعه لذقنها الناعم ورفع وجهها هامساً بحُب:
" انظري اليّ حبيبتي!!.."

لبّت نداءه برقة...بسطت ليل عينيها على مروجه الخضراء....فتابع بحنية:
" هل شمس حياتي زعلانة مني ؟!.."

هزت برأسها يمنة ويسرة اشارة (لا) وهمست وهي تصمّ فمها همسة كاد ان ينهار من نعومتها:
" هَأ.."

أحاط بكفيه وجهها وطبع قبلة دافئة على جبهتها تمنّاها بشدّة أن تكون على شفتيها ثم الصق رأسها يدثّره على كتفه وهو يحيط ظهرها وهمس:
" أعلم أنني كنتُ قاسياً بردة فعلي ....لكن حقاً هذا اتصال مهم ....وكم تمنيتُ اثناء ثورتي أن لا تكوني أنتِ من بينهم كي لا يطولك غضبي الّا أن نصيبك اوقعك معي هذه الساعة..!!....أرجو أن تنتبهي لهذه النقطة حبيبتي....معظم أعمالنا تقف على اتصال!!...."

وأكمل بنبرة مرحة:
" سأعترف....لقد أبليتِ بلاءً حسناً اليومين السابقين وصراحة لم أتوقع أن تستوعبي ماهية عملك في هذه السرعة.....يبدو أنني سأحجز لكِ مقعدا بيننا من الآن لحين تخرجك يا حضرة مدققة حسابات شركتنا المستقبلية!!."

كلماته التشجيعية التي أخرجها من فمه بدفء كان لها وقع عجيب عليها مما جعلها تنسى ما حصل قبل قليل فطوقت خصره بتملّك عبثت بمشاعره التواقة لها...فهما منذ ثلاثة أيام لا يلتقيان الّا اثناء العمل وكله بسبب هذه العنيدة المنشغلة!!.... وهمست بنعومة كلمات لا صلة لها بالموضوع:
" كم أحبك يا عمري أنتَ...كم اشتاق لك .."

رفعت رأسها المحاصر على كتفه وتابعت معترفة:
" أنتَ لا تعلم ماذا تفعل بي وأنا أراقبك بينما تكون غارقاً في عملك بجدّية.!!....أغار من لوحة المفاتيح وأنت تمرر أناملك عليها باحترافية كالعازف الماهر...فكم رغبتُ...."

تحرّكت قليلاً حتى استدلّت على كف يده وقرّبتها لشفتيها تقبّلها بلين وعشق وأضافت:
" بتقبيل هذه اليد..!.....كم تمنيتُ لو استطعتُ تدليك كتفيك عسى أن ترتاح من تعبك....وكم تشوّقتُ لاحتضانك..!!"

رفعت يديها الصغيرتين الرقيقتين لتضعهما على وجنتيه برقة وهمست من قلبها:
" الله لا يحرمني منك.....يا أجمل هدية وهبني اياها ربي..!!.."

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

بسط الليل رداءه على مدينتنا الساحلية في بلاد اللجوء لتكون هذه أول ليالينا ونحن زوجان في قصرنا......سأثير الشبهات لا محالة !!...لا يمكنني الاستقرار بغرفتي او غرفتها كروتين حياة نتخذه من الآن وصاعداً.....العهد يلجمني!!...لن انقضه مهما كان.....تناولنا عشاءنا بهدوء ....كنا متعبين من السفر ولم نرتح في النهار !!....قررتُ ترك الأمور على فيض المولى ولن استبق الاحداث....صعدنا السلالم بينما كنتُ احيط ظهرها اقرّبها اليّ باستحواذ ولاحظت نظراتها التي بدت كأنها تراقب خطواتي القادمة بشأننا دون ان تنطق حرفاً....وصلنا طابقها فارخيتُ يدي عنها لأحررها مني...أدرتها لتواجهني ثم بذراعي الأيمن جذبتها من أسفل ظهرها والصقتها بجسدي أجول بنظراتي على وجهها هيماناً بها ...اقتنصتُ قبلة من ثغرها فتجاوبت معي وهي تعانقني ....أفلتّها وهمست:
" تصبحين على خير حبيبتي ..!!.."

تطلعت عليّ بتيه وانزلت يديها عن عنقي سائلة:
" ألن تأتي الى غرفتنا لننام....يعني الى غرفتي؟!....اقصد لأننا أصبحنا زوجين حقيقيين الآن..!...أليس من الطبيعي أن ينام الزوجان على سرير واحد؟."

ارتبط لساني ولم اهتدِ لأي اجابة...ماذا سأجيبها ؟!...فكرتُ قليلا وقلت في نفسي.."... لا بأس من ليلة لن يضر..."...تبسّمتُ بحنوٍ وقلت:
" بلى حبيبتي!...لكني لم اعتد بعد...لذا سيأخذ بعض الوقت مني حتى استوعب ماذا اصبحنا...اصبري عليّ!!..."

وحاوطتُ كتفيها وسرتُ بها الى غرفتها ...وقفتُ الى جانب السرير وخلعتُ بلوزتي بخفة وبقيتُ عاري الصدر مع بنطلون قماش بيتي كحلي !....فشهقت قائلة وهي تخلع عباءتها البيتية القصيرة الدافئة:
" هل ستنام هكذا ؟!.."

ضحكت وقلت:
" لا أنام الّا هكذا.."

همست باستنكار:
" لكن الجو برد!!.."

" حتى ولو....التدفئة المركزية تخنقني!!.."

أجبتها بابتسامة فمدت ذراعها ببراءة تمسك كم منامتها الصوفية السميكة هامسة باستغراب:
" انظر ماذا ارتدي من شدة البرد....هذه...واخرى واحدة تحتها...وقميص بأكتاف رفيعة داخلي...وطبعا العباءة التي خلعتها"

ضحكت وغمزتها مضيفاً بخباثة :
" نسيتِ أخرى قطعة يا قطة!!.."

وتبعتها بوقاحة معترضاً:
" سيخرج علينا الصباح حتى اصل هدفي الذي أرجو بهذه الحصون التي تضعينها عليكِ...يا ويلي!....ما كل هذه الطبقات؟!.."

تبسّمت بحياء تهرب بعينيها عني وتمتمت:
" وقح!....تعلم هذا أليس كذلك؟!.."

ضحكت ورفعتُ الغطاء لأندسّ تحته ففعلت بالمثل بعد أن خلعت خفيها وكان لديها الطاقة للثرثرة بينما أنا النعاس يأكلني...فما إن أغمض عينيّ حتى تفطن لشيء تحكيه..!!....لستُ معتاداً على هذا!!...سيتغير نظام حياتي مع هذه الساحرة الصغيرة!!....تنهدتُ وسحبتها اليّ وخنقت وجهها بصدري أوقف ثرثرتها مكبلها بذراعي وحرارة أنفاسها تحرقني وهمست مغمضاً العينين:
" نامي يا صغيرة....سيدلف الفجر وأنتِ تثرثرين....لا تضطريني لصيانة لسانك بطريقتي التي بتّ تعرفينها!.."

تململت لتقلب نفسها فحررتها وجذبتها مجدداً اليّ الصق ظهرها بصدري وقلت قبل أن أغط بالنوم:
" على فكرة.....أشعر أنني احتضن خزانة الملابس!....لا ترتدي كل هذا مرة ثانية والّا لمزّقتهم عليك ولن تجدي خيطاً يسترك..!!.."

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

قررت شقيقتي دعوة ( ملأ ) الطفلة اليتيمة التي يكفلها زوجها الى الغداء في بيتنا الجبليّ....كان (سامي) يتابع حالتها مع اطبائها ولقد تخلّت في الشهر الأخير عن كرسي العجلات وانتقلت لاستعمال عكازين يساعدانها على السير!!.....حالتها آخذة بالتحسن يوماً عن يوم والسبب من بعد الله هو الاهتمام ومتابعة وضعها الصحي دون اهمال من صديقي الذي كان يخصص وقتاً لها ليرافقها بنفسه الى مواعيد العلاج الخاصة بها...!!.....هذا أول يوم تزور به عائلتنا لتتعرف عليهم....دخلت البيت بمساعدة صديقي واستقبلتها والدتي و(دنيا) بكل ودّ وحبور...اجلستها شقيقتي على مائدة الطعام حيثُ كان الصغير (شادي) يسبقهم متخذاً مقعده عليها!!..... أمسك به (سامي) متلبساً وهو يطالعها بجرأة يتفحّصها كأنها جاءت من كوكب آخر...اقترب منه وصفعه على عنقه ثم انحنى يحذّره دون أن يسمعه غيره:
" هيــه أيها الضفدع...ما بك تنظر لابنتي بعينين جاحظتين ؟!.."

ردّ عليه دون أن يزيح نظره عنها:
" أتَعرّف يا سامي...أتَعرّف....أهو ممنوع؟!...."

وجّه عينيه إليه مردفاً بهمس خافت مستاءً:
" ثم لا تصفعني مجدداً أمامها...لم أعد صغيراً....صرت في الحادية عشر!..."

همس بأذنه :
" اذاً تناول طعامك وانت تنظر لطبقك!..."

نهره وجلس جوار زوجته ولمّا تأكد (شادي) من استقراره عندها...حمل طبقه واقترب ليجلس جانب (ملأ) ثم التفت إليها مادّا يده:
" أهلاً ملأ....أنا شادي!.."

مدّت يدها بجسارة دون خجل تصافحه وصدمت الجالس مقابلاً لها وهي تقول:
" أهلاً بك شادي.....اسمك جميل!....بابا سامي حدّثني عنك.."

عدّل جلسته رافعاً كتفيه بشموخ وقال:
" هل أخبرك عن المرات العديدة التي فزتُ بها عليه بلعبة الحرب الإلكترونية والفيفا ؟!.."

بكل براءة أجابت:
" كلا لم يخبرني بهذا !!.."

تطلّعت على (سامي) ثم اعادت نظرها الى يمينها نحو (شادي) وأكملت بعفوية:
" عندما جلب لي مدرّسة خاصة لموضوع الرياضيات لأني استصعبه قال لي.*.. أريدك أن تفهميه من الأساس كي لا ترسبي فيه مثل الضفدع شادي...*.."

اشتعل شقيقي من الداخل محرجاً ثم رمق صديقي بنظرة حارقة وهو يطحن ضروسه من الغيظ وقرر أن يردها له بطريقته ولن يسمح له بالتغلّب عليه...فنهض من مكانه ببرود تمثيلي ومدّ يده يضع لها قطعة من لحم الضأن في طبقها وهمس بلطف ناظراً إليها:
" تفضلي يا وردة كلي من هذا ...أمي ماهرة في صنعه...وريثما ننتهي من الطعام سآخذك الى حديقتنا لأريك دجاجاتي وأحكي لكِ عن الخروف المحترف في غسل الأواني..."

نظرت إليه بقلة فهم وهمست سائلة بروحها البريئة:
" أيوجد خروف يستطيع غسل الأواني..؟!.."

رمى صديقي بنظرة وابتسامة ماكرة .!!....أما الآخر كان ينصت قسراً ويجز على أسنانه لكن زوجته ما إن لاحظت تبدل ملامحه حتى كبّلت له يده من تحت الطاولة بحركة لعوبة وكيد نسائي تهدئه وهي تكابد ألّا تُخرج ضحكتها بينما تابع شقيقي لضيفتهم:
" يوجد يا صغيرة....سأريكِ إياه لاحقاً.."

وبعد الانتهاء من طعامهم ...نهض شقيقي عن كرسيه وجلب احد العكازين ثم مدّ لها يده اليمنى هامساً دون أن يعير الأشقر المقهور أي اهتمام وهتف:
" هيا معي لآخذك جولة في احضان حديقتنا ..."

قالت له:
" لا استطيع بعكاز واحد!.."

تبسّم وهمس لها بحنية ولباقة موروثة في العائلة وكأنه رجل ناضج بعد أن ألقى غمزة سريعة لـ(سامي):
" امسكي بي لتتكئي عليّ أنا.... يا جميلة..."

هتفت والدتي بعطف:
" انتبه لها بنيّ خوفاً من أن تنزلق من الأرضية الرطبة!....على مهلك!.."

مال بجذعه يهمس لزوجته بضيق:
"من أين له هذه الحركات ذاك الضفدع الوقح؟!...."

ردّت بابتسامة شامتة:
" من بعض ما عندكم يا زوجي !.."

ولمّا خرجا دون أن يستأذنا من الجبل الذي غدا كالعهن المنفوش لا رأي له ولا هيبة تابعت(دنيا) هامسة له قرب أذنه بكل برود أحرقه:
" افتح بيتك سيد سامي.!!....قريباً ان شاء الله سنجلب جاهة ونأتي لطلب يد ابنتك!..."

يبدو أن قصة حب بريئة ستهلّ على بيتنا قريباً......أيعقل أن شقيقي مثل أخيه؟!....سيعيش الحُب منذ الصغر!.....

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

في يومنا الثاني عدتُ الي البيت باكراً وكانت قد سبقتني بعد انتهاء دوامها من الجامعة....تناولنا الغداء معاً ثم انتقلنا لغرفة المعيشة لنحتسي الشاي ....كانت تقلّب المحطات وتتأفف لشعورها بالملل فقلت بهدوء:
" ما بها الحلوة تتأفف؟!...أهناك شيء؟!.."

القت جهاز التحكم بنزق وأجابت عابسة:
" عدتُ الساعة الثانية عشر ظهراً من الجامعة ولم استطع النوم ولم أجد شيئاً أتسلّى به.....أشتاق لخالتي...كنتُ كلما أضجر أذهب إليها !...ماذا سأفعل الآن؟!.....فمؤكد أنت سترتاح قليلاً وبعدها ستعتكف في مكتبك من أجل العمل!.."

ارتسمت ابتسامة حانية على وجهي وسألتُ:
" أتريدين أن نتنزه قليلاً ...مثلا نجوب الشوارع في السيارة؟!.."

برقت عيناها بسعادة كالطفلة وأجابت:
" يا ليـــت !!....المهم أن نكسر حاجز الملل!.."

تفحّصتُ لباسها بجولة سريعة من عينيّ وقلت:
" اصعدي لغرفتي اجلبي مفاتيح السيارة السماوية....موجودة على المنضدة جانب السرير ولا داعي لتبديل ملابسك!....لن ننزل لمكان!.."

كانت ترتدي ملابس رياضية ضيقة بلونٍ بنفسجيّ فاتح ترسم جسدها..!!.....صعدت تنفّذ طلبي من فورها مبتهجة ثم عادت وهي ترتدي جاكيتاً ابيضاً قصيراً من الصوف فوق ملابسها ومدّت يدها تسحبني من يدي قائلة بلهفة:
" هيا اسرع...الدنيا تمطر!....أحب أن تقود بسرعة تحت المطر!.."

انفرجت شفتاي بابتسامة عطوفة كابتسامة الأب لطفلته وسايرتها بحركتها حتى خرجنا من البيت..!!

×
×
×

دعستُ على الوقود تحت المطر عند وصولي شارع الساحل السريع وهي تصدر كلمات تحفيزية بحماس كلها اثارة لأسرع أكثر !!...وبعد مضيّ بعض الوقت دون عنوان يُرجى....قصدتُ سهلاً مفتوحاً لا زرع فيه وتوقفتُ بدايته وهمست آمراً برقة مع ايماءة برأسي:
" هيا انزلي!.."

نظرت ببلاهة الى الخارج وفتحت الباب تترجل دون أن تسأل فانغرست قدمها الأولى بالوحل من غير ادراك فتأففت قائلة بضيق:
" يا الله أين جلبتنا؟!...أنظر ...اتسخ حذائي!.."

ثم تناولت من الدرج امامها منديلاً واحنت ظهرها وبدأت تمسحه وهي تثبت قدمها على الحافة للخارج فهتفتُ ساخراً:
" ليس سوى طين!! ....لمَ تتضايقين لهذه الدرجة بينما أنا الأحق بذلك خوفاً من اتساخ سيارتي؟!.."

عقدتها ضد اتساخ ملابسها من أي نقطة خارجية ما زالت تلازمها كما زارتنا من سنوات في مخيمنا ...حريصة بشكل مَرضيّ على ممتلكاتها!!....هذا الوضع لا يعجبني!...اريدها ان تمشي مع التيار وأن لا تقف عند كل صغيرة وكبيرة كي لا تُرهق نفسها في الحياة!!......أجابتني بزهوٍّ وشموخ:
" أنا هكذا تعودت!...لا أحب أن اتسخ وأقرف من كل هذا...!.."

قلت بهدوء بارد كبرودة الطقس:
" هذا طين وليس نفايات.....نحن خلقنا منه وسنعود إليه...لا تتكبّري عليه!.."

زفرت باستياء هامسة:
" اوه اتركنا من هذا...لمَ جئنا الى هنا؟!.."

حركتُ رأسي محوقلاً يائساً منها ثم نزلت من السيارة وقلت وأنا احني جذعي لأراها:
" هيا انزلي وتعالي عندي!.."

انصاعت بعد تردد يسير واقبلت نحوي تخطو بحذر وملامحها منكمشة من شدة اشمئزازها من الوحل وهمست بفضول بعد ان وصلتني:
" ها قد أتيت...ماذا تريد؟!"

أشرتُ لها الى الداخل وقلت:
" اجلسي ...هذا اول درس مجاني لتعليم القيادة يا قطة.."

كدتُ أقع على طولي بعدما قفزت متشبثة بعنقي تحتضني صارخة:
" شكرا.... شكرا حبيبي....كم أنت مذهل!....لا أصدق أنني سأحقق أمنيتي!......اللــــه ....أخيراً"

حوطّت خصرها بقوة أشدّ عليها وهمست بخباثة وأنا مسلطٌ حدقتيّ على وجهها الفاتن:
" ابتعدي عني قبل أن اغيّر رأيي وأعود بكِ الى البيت حالاً....لا تختبري صبري عليك بعد رحلة ألمانيا!.."

استجابت لي ببسمة ماكرة ثم جلست على مقعد القيادة وعدّلتْ الكرسي بما يناسب طولها....كانت أساريرها متهللة وصدرها منشرح والدنيا لا تسعها وعندما عزمتُ لأشرح لها عن الدوّاسات أوقفتني واثقة:
" أنا أعلم النظري لكني لم اطبقه عملياً.."

بدأت تتحرك ببطء وبعد تشجيعي لها صارت تزيد في سرعتها وتدور في الحقل والابتسامة الواسعة لم تفارق محيّاها ولمعة الفرح لم تنطفئ من عينيها وبينما نحن مندمجان بسعادة وردني اتصال وكان من أبي (ابراهيم) يطلب مني الذهاب إليه على الفور في الشركة من أجل توقيع مهم!!.... تبادلنا أماكننا ثم شرعت هي بتنظيف حذائها أما أنا ضحكتُ لهوسها بنظافة ممتلكاتها ثم أكملتُ لأشرح لها ما خططتُ من أجلها:
" تحدّثتُ مع معلمة قيادة من أجلك!...ستبدئين بعد يومين ان شاء الله ....والأسبوع القادم ستبدئين دورة سباحة عند مدربة محترفة!....لقد ألحقتُكِ بنادي السباحة الأكبر في المدينة!....وستتفرغ لإعطاء دروس خاصة من اجلك انتِ فقط حبيبتي!..."

" حقا يامن؟!....هل أنا في حلم؟!....لا اصدق....لطالما تمنيت هذا"

سألتني متعجبة مدهوشة بعذب صوتها بينما كانت تقبض بيسراها وتشدّ على يمناي المركونة على ناقل الحركة بيننا بامتنان وصلني عبر تلامس يدينا ....فحررتُ يدي امسّد وجنتها بحنان وأنا انقل نظراتي بينها وبين الشارع الذي عدتُ لأندمج به وهمست بحُب:
" بل صدّقي....لستِ في حلم حبيبتي!...اسأل الله ان يعطيني الصحة والوقت لأعوضك عن كل شيء فاتك...عن كل شيء ترغبينه....أتمنى أن أحقق لك كل ما حلمتِ به!.....أريدك أن تركّزي في دروس القيادة لتحصلي على الرخصة بأقصر وقت لتستلمي هديتك....."

سألت بلهفة وحماس:
" قل لي...ما هي؟!.."

قرصتها من خدّها وأجبت مستبشراً وفرحاناً بها ومن أجلها مستمراً بملامسة وجهها برفق وليونة:
" أي سيارة تشيرين إليها ستكون ملكك....مهما كان نوعها وثمنها!!.."

مسكت يدي التي كانت تتحسس وجنتها برقة وقرّبتها لشفتيها تقبّلها ناظرة اليّ نظرات مليئة بالحُب والاجلال:
" أحبك ....يا حنون.....أنتَ رائع..!!...."

وأكملت بصوت خفيض مهتز:
" فعلت وتفعل لأجلي ما لم يفعله أبي.."
قدموا الى هذه البلاد ثلاثة أفراد منذ سنوات بعدما لعبت في عقلها صديقتها وأقنعتها ليستقروا فيها لتكون باب السعد لهم ...وها هما الآن يعودان اثنان فقط يحملان حقائبهما معهما وروحان تحتضران داخل جسديهما في مطار استراليا بعد أن اصدر الحُكم فيما يخص ابنهما ( صلاح رائد السيد)....وقد حكمت المحكمة على البغيض المتهم بالسجن لستة أعوام فقط بسبب عدم اتمام جريمته ومع دفع غرامة مالية مرتفعة !!....وهكذا ضاع مستقبله الذي رسم له الكثير طامحاً في الوصول الى العُلا باسمه مع أموال أبيه القذرة...!! .....
لقد جاؤوا بعظمة وأبهة وعادوا بانكسار يحملون فضيحة سببها ابنهما الوحيد ووجهيّ الشؤم عليهما ( عاصي وسوزي ) كما ادّعيا فيما بينهما لتنتهي علاقة واهية ضعيفة بدأت بالمراءاة والنفاق والمداهنة ونشأت بأموال الحرام وكل ما هو باطل فهُدمت بغمضة عين!!....

~~~~~~~~~~~~~~~~~

لديه ساعة حتى تبدأ ورديته الصباحية فقرر زيارة صديقيه في الشركة!!...دلف بشموخ وهيبة تشبهان منصبه ومظهره الرجولي !!....ألقى السلام على الموظفين وسار بينهم متجهاً الى القسم الخاص بـ( بلال) وما إن اقترب من غرفته حتى طلّ عليه ذاهباً منها صديقنا (أحمد) بصورة وهيأة جديدة لا تشبهه !!...خرج عاصفاً ..بدا كأن تياراً صعقه ...كان ساخطاً ووجهه الابيض محتقناً بالدماء الساخنة...اصطدم بكتفه ولم يتنازل أن يعتذر أو أن ينظر ماذا أحدث من خلفه..!!...هوى قلب (سامي) لقدميه مما رآه...تساءل بنفسه متخوفاً وقلقاً.."...سترك يا رب!....هل هذا أحمد؟!.."....شرد قليلاً بطيفه وملامحه متوجسة....تنهّد وقرر الاستمرار في طريقه ليصل (بلال) وبعد التحية الجافة تبعها بفضول فيه الرهبة:
" ما به أحمد؟!....مظهره أقلقني!...لم يعرني أي اهتمام وكان هائجاً..."

جلس غير مرتاح وتابع:
" لم اشأ اللحاق به حتى أفهم منك!....لا تقل لي أنه حصل شيءٌ بينكما لا قدّر الله!!.."

اتكأ بمرفقيه على مكتبه يشبك أنامله ببعضهم ووجهه كان مكفهراً ...زفر أنفاسه وهزّ رأسه محوقلاً وأجاب بامتعاض:
" اتصل شقيقها قصيّ......وافق جدها على الزواج......لكن..."

قاطعه نافراً متوجساً خيفة:
" لكن ماذا؟!.."

أكمل (بلال) بصوت مكلوم من أجل صديقه:
" وافق على الزواج من ابن عمها الكبير!......أي لا نصيب....انتهى حلم أحمدنا..."

ردّ مغتاظاً:
"هل رآها الآن ذاك العجوز الخرف ؟!...تباً له....لا بارك الله فيه!.."

وبعد ثلث ساعة من تبادل الحديث قام من مكانه تاركاً الآخر ليكمل عمله قاصداً وجهةٌ أخرى....!!

×
×
×

دعس بقوة على الوقود في سيارته الفضية رباعية الدفع متوجهاً الى الأعلى ...إلى المكان الأحب على شلتنا.....إلى تل الصقور وشجرة الخروب حيث ملتقانا....فهو يعلم علم اليقين أن هذا المكان الذي سيتجه إليه صديقنا كي يفجر غضبه!...كي يصرخ براحة !...وليلقي الحجارة بقوة علّها تخفف من كبته!......وصل الى الهدف وتنهّد بعمق بعدما لمحه جالساً على الصخرة ...عيناه سارحتان في المنظر أمامه....أما روحه تحتضر بل تحولت الى أشلاء وقلبه اختفى خلف البحار ....مع من سرقت نبضاته!!.....ترجّل من سيارته وسار ببطء نحوه !...لا يطيق أن يرى صديقه في هذا الحال!...ذاك رمز الصبر والهدوء والعقلانية لا يستحق أن يعيش شيئاً يؤلمه ولا أي سبب يكسره....إنه الصديق الملتزم الراضي بما كتب الله دون جزع او سخط !!....لكن في النهاية هو....إنسان!!......نعم إنسان يحمل بين ضلوعه قلباً وفي حناياه مشاعر !!....لم ينظر لامرأة قط بالحرام....قارب على السابعة والعشرين وهو عازفٌ عن الزواج رغم الجهود التي كان يبذلها مَن حوله ليفرحوا به!!.....وفي يومٍ لم يتوقعه اصطدم بالتي سرقت قلبه دون استئذان !!....عرف على يدها ماذا يعني أن يخفق الفؤاد خفقات الاعجاب والحُب!!....تأمل الكثير وكان واثقاً أنها ستكون حلاله لا يعلم لمَ؟!.... شيء داخله ينمو ويقنعه أنها وحدها هي مالكة القلب ومفتاحه !!....هي من كسرت القفل دون أدنى مجهود منها!!...بلمسة معطرة بنكهة القهوة !!...وبهمسة ناعمة محملة بالعتاب.....وبدمعة نقية تصرخ بالضعف والاحتياج قلبت له كل موازينه ليرجو الله أن تكون شريكة العمر!!........دنا منه وجلاً وجلس جواره دون أن ينبس بكلمة....حمل حجراً وألقاه الى ما تطال يده وتبعه بثاني وثالث ولما حمل الرابع سحبه منه ذو العينين الفحميتين اللتين تحولتا الى جمرتين ملتهبتين وألقاه بغل ليتخطّى النقطة الأقصى التي وصلها (سامي)....أطلق ضحكة مائلة مؤلمة من الجرح الذي ينزف داخله وقال بهدوء يعارض الإعصار الذي يدور بين احشائه:
" إن كنتَ جئت لتواسيني ....ارتح يا صديقي!....ليس أحمد من يستسلم للأحزان ويضر نفسه أو الآخرين وليس أحمد الذي يسخط على قدره.!!....أجل...أردتها لا أنكر...بل ربما أحببتها!!....انفعلت وشعرتُ بالأسى بالطبع...اعترف بذلك..."

وبقبضة يده وصوت تحوّل للخشونة ضرب جهة قلبه مردفاً بينما بريق الألم في عينيه يفضحه:
" لأني أحمل قلباً تغيّرت دقاته من أجلها ....فأنا لستُ جماداً يا صديقي !!..."
وعلت نبرته:
" وربي لستُ جماداً....أنا أحس مثلكم ولي رغبات!.."

نهض من مكانه بإباء وشموخ رافعاً رأسه ناظراً الى البعيد وتابع بنبرة صارمة ثابته دون اهتزازات:
" لكن قسماً ولتشهد على قسمي أنني سأجاهد بكل ما اوتيت من قوة وبكل جوارحي أن أنساها ولن آتي بسيرتها لأنها ستكون زوجة لآخر!....فلن أكون رجلاً من ظهر رجل إن سمحتَ لنفسي بالتفكير بها وهي ليست لي!.....هذا قدري ونصيبي !!....اسأل الله أن يعوضني كل خير ....يا صاحبي!.."

وبكل هدوء خُلِقَ في شخصيته الراكزة الرصينة همس لصاحبه:
" هيا يا صديقي....لنعد ونتابع أعمالنا....الحياة لن تتوقف أبداً ما دام خلف أضلاعك هناك كتلة تنبض مهما كان جرحها غائراً وأليماً ..!!."

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

بخطوات سريعة واسعة دلفت الى الشركة لاهثة لتصل مكتبها في الوقت المناسب....تأخرت اليوم في ايجاد سيارة أجرة!!...قالت في سرها بعدما استقرّت خلف مكتبها ..."..آآه الحمد لله وصلتُ في وقتي تماماً..!!..".....لقطت أنفاسها واتجهت الى الحمام لتغسل وجهها وتعدّل حجابها ولما عادت الى كرسيها رنّ هاتف المكتب !!....إنه مديرها يطلب منها جلب ملف ليوقع عليه ومن ثم تبعثه الى أحد الموظفين في القسم الآخر!!.....ولجت إليه بطاعة ولم يخفَ عنه الاحمرار الذي يلّون وجهها من الضغط الذي عاشته !!....بعد التحية الرسمية تقدّمت نحوه وانحنت قليلاً لتضع الملف أمامه....أصدرت معدتها صوتاً تفضح جوعها!!....فاليوم بالذات كل شيء جاء معاكساً معها.....استيقظت متأخرة ولم تتناول فطورها....واستغّلت استراحات الجامعة لتنهي واجباتها دون أن تهتم في طعامها....فهكذا منذ أيام لا تجد وقتاً خاصاً لها وخافت أن تخفق في الدراسة فيلومها خطيبها لذا ظنت نفسها البطلة التي يمكنها أن تقوم بكل شيء دون زلة وستثبت للجميع واولهم هو ان باستطاعتها الدراسة والعمل كما زعمت !!....آخر محاضرة كان المحاضر سمجاً وتلهّى كثيراً فتأخروا في الانصراف ولما أسرعت لتلقف أي سيارة أجرة في طريقها حال بينهما حظها العاثر حتى الدقيقة الأخيرة جاءها فرج الله.....الساعة الآن الرابعة !....لو صامت كان أفضل لها !!......سمع خطيبها نداء معدتها لكنه ادّعى بغير ذلك خشية احراجها...!! ومن داخله يتفتت قهراً عليها فهو لاحظ النحول الذي المّ في وجهها وجسدها من اهمالها بحالها هذه الفترة !!....واسى نفسه بأنه يمكنه الصبر عليها وليرى أين ستصل ؟!....أنهى توقيعاته وتركها تذهب ليتابع عمله ..!!....عادت الى مكتبها بعدما تخلّصت من مهمتها !!....أخرجت من حقيبتها اصبع شوكولاتة صغير تسدّ به رمقها.....خرج (بلال) من غرفته فوقع نظره على ما بيدها....اقترب منها وقال بهدوء بينما في داخل نفسه ودّ لو جرّها لتذهب الى البيت وتنهي كل هذه المهزلة التي وضعت نفسها بها :
" أنا ذاهب الى مكتب أحمد....إن سأل عني أحد اتصلي بي على الخاص!.."

رمشت بعينيها مع ايماءة برأسها بمعنى حاضر ....انحنى اتجاهها وهمس بخفوت حازم عاقد الحاجبين وقلبه يتقطّع عليها لعلمه بجوعها:
" امسحي طرف فمك!..."

ثم استقام وتابع سيره لهدفه!....راقبت خطاه وهي تمسح بظهر كفها زاوية فمها وتسأل نفسها .." ما به جديّ لهذه الدرجة؟!...أيعقل أنه منزعج لأني آكل اثناء الدوام ؟!...غبية سلمى!....معه حق !...ما هذا التصرف وكأنك في جولة مدرسية ؟!.."...اخفضت بصرها لاصبع الشوكولاتة....غلّفته من جديد وأعادته الى حقيبتها...!!....مرّ الوقت وهو لم يعُد بعد....كانت منكبّة ترتب أوراقاً انتهت منها في دوسية !...رفعت رأسها على صوت صفير صحبه همس إعجاب:
" هل جنّ سيد بلال ؟!....ماذا جرى له ؟!....وأخيراً بدّل سكرتيرته العجوز بتحفة فنية !!.."

أنهى جملته وجلس على الكرسي أمام مكتبها يتكئ بمرفقه عليه وهو يلوّح بمفتاحه واضعاً ساقاً فوق الآخر بكل جرأة وتابع بجسارة حد الغلاظة :
" أغيب وأغيب لآتي وأجد سكرتيرة صغيرة....و...جميلة !..."

غمزها وأضاف:
" أتعلمين كم كابدتُ لاقنعه بجلب فتاة جميلة تكون واجهة لمكتبه لكنه كان يأبى ولا يستسيغ الحديث كله ....لا أعلم كيف غيّر من افكاره !!...هذا هو الكلام المضبوط!..."

كانت تستمع صاغرة !...هكذا يهيأ له من الخارج أما باطنها براكين بدأت تفور على حافة الانفجار عبارة عن خليط من ...الغيظ منه....الخوف من خطيبها....الاحراج من الموظفين !!.......صفع جبينه وعدّل جلسته بتأهب ثم مدّ يده ليصافحها هاتفاً:
" اوه يا آنسة...نسيتُ أن اعرفك على نفسي.....أنا مهدي سلامة ....من اكبر زبائن الشركة !!...وأنتِ ما اسمك؟."

وضعت يدها على صدرها هامسة بصوت مخنوق بالكاد اخرجته بينما وجنتاها متورّدتان بفعل التفاعلات التي تعيشها:
" عفواً يا سيد....لا اصافح الرجال!.....أنا سلمى"

ضحك ضحكة مصطنعة بعدما أعاد يده لفخذه وهو يشدّ بقبضته محرجاً من افشالها له وقال :
" حسناً....يبدو أنك يا صغيرة ما زلت خاماً....ستحتاجين لوقت حتى تغيّري مبادئك لمجاراة هذه الحياة...."

كان يدور الحديث بينهما ولم يلحظا الواقف بالقرب منهما فالرجل كان يوليه ظهره بينما شاشة الحاسوب الكبيرة حجبته عنها فلم تراه.....تهدّجت أنفاسه وكانت النيران تستعر في جوفه دون رحمة...برزت عروقه وتوغّر صدره...وتحفّزت عضلاته في سائر جسده للهجوم بينما روحه تحتضر من غيرته!....دقيقتان اثنتان عاش بهما صراعات أثارت حفيظته...حاول كبح جماح نفسه وحاول دحر شعلة الغضب عنه ليتصرف بلباقة ولكن أبت دماؤه أن تبرد ورفضت أعصابه الاستسلام .....للصبر حدود!!....والثائر الأسمر نفذ خزّان صبره!!...تمتم شاتماً بخفوت.." تباً لك يا سامي وتباً لاقتراحاتك!...بَئِس من استمع لنصائحك ايها الغليظ!!...".....وبخطوات واسعة مشى حتى وصلها دون أن يحيّي ضيفه ومال بجذعه قليلاً ليمسك يدها بتملّك ظاهر للعيان بينما بخضراوتيه يرمي الجالس نظرات شزر وسحبها ثم بيده الأخرى أخذ حقيبتها وسار امتاراً قليلة وهو يرفع حاجبه ويرمي الجالسين بنظرة كالصقر المستعد للانقضاض على فريسته ثم ناولها حقيبتها وأشهر سبابته أمامهم جميعا بحركة تحذيرية ونبرة رجولية صارمة هاتفاً:
" قبل أن أسمع أي كلمة تخصها من فم أي أحد....هذه خطيبتي وستكون زوجتي بعد خمسة أشهر....اياكم والتلفظ بأي كلمة خارج الطريق!..."

وتابع مسيرته وقبل أن يختفي عن الأنظار أشار لأحد الموظفين آمراً بخشونة:
" خذه الى مكتب أحمد لينهي عمله معه!.."

×
×
×

مثل سكون القبور وأكثر كان الحال في السيارة....لم تجرؤ على قول شيء!...حتى أنها أخفت ارتباك أنفاسها المتعاقبة بمهارة !!....ولو جُرحت لن تنزل دماؤها...لقد جفّت!!....كانت تحاول استعادة نبضات قلبها الراحلة وجلاً!...عصفت بها الأفكار عمّا ينوي فعله يا ترى؟!!.....بسبب سرعته من المفروض أن يصلا سريعاً ولكن بسبب توقف دقات قلبها شعرت أنها تسير على طريق بلا نهاية...!!....وأخيراً توقفت السيارة باب البناية !.....تطلّع عليها بنظرات خالية لا تستطيع ترجمتها وبكل برود لم تتنبأ به همس وهو ينحني بجذعه قليلا اتجاهها ليرى باب العمارة من نافذتها رافعاً حاجبيه وناظراً للخارج ومشيراً بإصبعه:
" هيا يا حلوة ....لعبنا مع بعضنا وسررنا جداً في خدماتك التي لن أنكرها !!.....جرّبتِ العمل يا قمر......انزلي من غير شوشرة....استحمي بماء دافئ لترخي اعصابك ....تناولي طعامك براحة لتستعيدي صحتك ....راجعي دروسك ثم اخلدي للنوم باكراً كي لا تتأخري على فطورك في الصباح.....وآه أجل....ملعقة واحدة لن تشتري بعد الآن وسنذهب غداً ان شاء الله لننهي كل ما يخص الجهاز..."

فرجت شفتيها لتتكلم فوضع سبابته على شفتيها يسكتها مضيفاً:
" وإياكِ أن اسمع أي اعتراض والّا لهدمت هذه العمارة فوق رأسك.....هيا حبيبتي ....الله معك!..."

~~~~~~~~~~~~~~~~~~

توالت الأيام علينا برتابة والحُب يجمعنا والسكون والأمان يزيّن بيتنا!!....كنتُ أتركها بعد أن تنام في بعض الليالي بسبب عهدي وأهرب الى غرفتي وفراشي الأرضي وفي أيام أخرى كنتُ أتحجج في العمل بمكتبي حتى تشرق شمس صباحي بعيداً عنها لأتنفس العذاب وحدي!!....لم تتذمر ولم تسألني !...علاقتنا الحميمية أجمل ما يمكن أن تكون...يوماً عن يوم وساعة عن ساعة نتعلّق في بعضنا ونزداد عشقاً وهياماً وتشتعل رغبتنا ويتضاعف شغفنا لنكتب على جسدينا وبروحينا المتيّمتين قصة حبنا....لقد كانت بين يديّ تجد انوثتها الكاملة.!!..مع كل دقة من قلبي وكل نفس من حبي وكل لمسة من شفتيّ كنتُ أعزف عليها ألحاني لأسجّل لها ترنيمات العشق وأنا ذائبٌ بها !!...كنتُ أشبعها برجولتي وكنتُ أغدقها بعطفي وحناني...كنتُ الأمان لها وحلمها الجميل ومحقق الأماني!!....العلاقة الجسدية بيننا لم تؤرقني البتة فأنا أعلم أنها لم تزر الطبيبة لتنظيم دورتها وقد أعلمنا الطبيب في السابق أنه لن يتم حمل بسهولة إن لم تنظّمها!!....أي أنني لا أخشى حدوث حمل هذه الفترة!!....فرغم توقي وشوقي لتهديني ابناً من جوف رحمها الّا أنني صابرٌ حتى يستقر حالنا وحتى أعلم الى أين الوصول....فموعد الامساك بالوغد والدها أصبح قريباً !...إما أن تسامحني لنبدأ ببناء أسرة حقيقية وإما أن تهجرني وتحرمني قربها ومن أطفال لا أريدهم الّا منها هي وحدها!...حبيبتي ألمتي...زوجتي الفاتنة!!....كانت هذه الفترة مثابرة على دروسها القيادة وتدأب على تعلّم السباحة دون كلل أو كسل!...ما زالت تحتاج لإرادة وعزيمة أقوى لتواظب على الصلاة دون اخفاق باحداها !....في الأوقات القليلة التي كنتُ أجد نفسي متفرغاً بها شرعتُ بتعليمها أحكام التجويد من الأساس ابتداءً من مخارج الحروف!...فحبيبتي ناعمة وكل أحرفها تخرج رقيقة وناعمة مثل نعومتها وعليها أن تميز المفخم من المرقق!....كم ضحكتُ وهي تحاول تقليدي وأنا ألقّنها ولكن رقتها تقف لها بالمرصاد وتعيق عليها التطبيق بالشكل الصحيح !!.....أعطيتها كلمة أشبه بالوعد أنني سأساعدها على حفظ القرآن مثلي!...بدأت معها من جزء عمّ ليتسنّى لها قراءة قصار السور في صلاتها!!......مرّ ما يقارب الاسبوعين من بعد اسبوعين على زواجنا الحقيقي ليصبح شهراً على ولادة حبنا الأزليّ.!!... طلبوني بالمعسكر بشكل عاجل لتسوية بعض الأمور....فالانتخابات آتية ومعها تأتي أعمال الشغب والفساد واشعال الفتنة ...ثم مواجهات فحرب!!...علينا أن نكون على أهبة الاستعداد !!....سافرنا أنا وأبي (ابراهيم) هذه المرة للحدود وتحديداً للمعسكر وكالعادة بحجة أعمال شركتنا التي لا تنتهي وبقيت هي مع خالتي لمدة اسبوع!!....هل أكذب ؟!...إني اشتاق لها حد الجنون!!...أشتاق للمسها وثرثرتها ....اشتاق لضم جسدها على صدري....اشتاق لارتشاف الرحيق من شفتيها ....وأشتاق للتحليق في سماء عينيها !!....أيا ترى ألمتي تشتاق لي بنفس قوة اشتياقي؟!....تبسّمتُ للسؤال الذي راودني وأنا عائدٌ الى بيتي بعدما أوصلت أبي (ابراهيم) لشقته .....لقد انهى عمله هناك أما أنا مهمتي لم تنتهي فكان عليّ احضار ملفاً مهماً يخص صفقة أسلحة قانونية!...وخارطة برموز مشفرة !!....جئتُ لمدينتنا الساحلية من أجل ساعات آخذ بها أوراقي ثم للعودة الى الشمال على الحدود دون تأخير بقرار ليس من خياري !!....إنما مجبرٌ على هذا فجميع القادة هناك بانتظاري !!.......كان الوقتُ ظهراً عند ولوجي الى البيت!!...أخذتُ من خزنة مكتبي في الأسفل ما احتاج لصفقتنا العسكرية!...ثم صعدتُ لأخذ الخارطة من الخزنة التي في غرفتي!!....لكن عند وصولي طابقها كانت رائحة عطرها تفيح في الأرجاء!!....فغلبني الشوق لأكحل عينيّ برؤياها قبل استمراري لغرفتي!!.....كنتُ أنوي فعل ذلك عند نزولي!....لكن خائني الوفي لها هو من تحكّم بتحركاتي.....دلفتُ الى غرفتها وكانت خالية منها ....وصوت المياه المنهمرة من الدش تأتي من الحمام!!.....ساحرتي تستحم!......جلستُ على طرف الفراش واضعاً ساقاً فوق الآخر ومتكئاً بكفي للخلف وبيدي الأخرى ألوّح في مفاتيحي بتسلية أمضي وقتي منتظراً خروجها وما إن فتحت الباب والبخار يلحق بها حتى شهقت متفاجئة وتهللت أساريرها مبتهجة لملقاي !!....أهديتها ابتسامتي العاشقة وهمست :
" نعيماً حُبي!!..."

مشت بكبرياء وشموخ عابسة بتصنع بعد الابتسامات التلقائية التي وزعتها ومسحتها في الحال ثم اجتازتني حتى وصلت طاولة الزينة وهي ترتدي روب الحمام السكري القصير وتلف شعرها بمنشفة بذات اللون....شدّتها عن رأسها لتحرر ليلها ونفضته ليتراقص بكل الاتجاهات ومعه تراقص قلبي ودغدغ الهوى روحي ....بدأت تسرّحه دون أن تنطق كلمة!....وقفتُ واقتربتُ منها حتى صرتُ خلفها وشبران يفصلانا فهمستُ لها مكرراً كلامي الذي لم اسمع رداً عليه:
" قلت نعيماً حبي....."

تنهدت بهدوء وأردفت دون مراوغة أو تملّص:
" أنا سأعود حيث كنت...جئتُ من أجل أمر ضروري...!!.."

تابعت بتسريح شعرها وهي تزمّ شفتيها ثم اغتصبت ضحكة ساخرة وتمتمت:
" ظننتُ أنك اشتقت لي بعد أيام.....تبيّن أنني مخطئة!.."


كان عبوسها لأني لم اكلمها اسبوعاً وكانت فقط تأخذ اخباري من خالتي التي تتواصل مع زوجها!! .....ضممتها من الخلف واتكأت برأسي على كتفها براحة...استنشقتُ عبير الأناناس من شعرها بانتشاء مغمضاً العينين وهمست بخفوت وصوت ذائب:
" بلى...اشتقتُ لكِ واشتاقُ لكِ دائماً..."

حاولت فك ذراعيّ وابعادي عنها وهي ما زالت عابسة وقالت:
" كاذب!....من يشتاق لا يغيب عن محبوبته كل هذه المدة ودون اتصال!.."

قلت وأنا اشدّ باحتضانها:
" صدقيني غصباً عني!.."


انهيتُ جملتي ولم أعلم أنني بين يديّ محتالة ماكرة صغيرة فلم اشعر بها الّا وهي تلقي المشط على سطح الطاولة وتتحرر مني على غفلة مستديرة لتحيط وجنتيّ بكفيها بتملّك وترتفع على رؤوس أناملها ثم تكبّل شفتي بشفتيها بقبلة عنيفة لثواني تقطع بها أنفاسنا وتفجر براكين رغبتي بها وبعد أن اسقتني من حلو كأسها أفلتتني ثم دفعتني من صدري لأرتدّ للخلف من لحظة ضعفي وقالت متغنجة وبدلال سحقني وأشعل مشاعري المشتاقة لها وهي تعود للمرآة توليني ظهرها لتتابع تسريح شعرها وتعلّمني أول دروسها في العشق على منهاج أبجدياتها:
" هكذا يكون الاشتياق..!!.."

ولكن قبل أن تلمس يدها المشط أصبحت بجسدها النحيل على ذراعيّ لألقي بها على السرير نكمل قصة حبنا بوَله ولوعة نطفئ بها حرائق الغرام والهيام ونروي ظمأ شغفنا وما كان هذا الّا ليزيدنا اشتعالاً على اشتعالنا ولتكن عوضاً مما فاتنا وزاداً لحرمان يقبل نحونا وبصورة أروع وأمتع من سابقاتها !!...

×
×
×

بعد أن اغتسلتُ في غرفتي لوجود ملابسي هناك....عدتُ اليها ثم قبّلت جبينها مستودعها الله وهمست بمودة ومحبة:
" سأنهي عملي وأعود إليك يا سمائي بإذن الله....اذهبي لبيت أهلك أو عودي عند أهلي"

ثم أضفت أذكّرها:
" غداً ان شاء الله ستكون سيارتك البيضاء التي اخترتِها في الساحة..."

اشتريتُ لها السيارة لتجدها فور استلامها الرخصة....تبقّى ثلاثة دروس وبعدها ستجري امتحان القيادة!!....وأنا واثق بعد ارادة الله أنها ستنجح من أولها!!....فحبيبتي سائقة محترفة!....

اومأت موافقة بابتسامة ورضا والفرحة تنبض في قلبها ثم احتضنتني وهمست:
" في أمان الله.....سأشتاق لك يا نبض قلبي !.."

وتركتها خارجاً قاصداً الحدود...!!

×
×
×

عند وصولي الى منتصف الطريق تأففتُ حانقاً اشتم نفسي!...هذه هي احدى خسائر الحُب....تنسيك من تكون وأين ذاهب ؟!!.....تذكرت أنني لم آخذ الخارطة المشفرة المهمة!....لا وقت لديّ للعودة!...نظرت الى الساعة....ما زالت الثالثة عصراً....تزاحمت الضغوطات في دماغي !!.....كيف سأتصرف وأنقذ نفسي؟!..ماذا سأفعل؟!....قررتُ في النهاية المجازفة!...أو كلا لا تعتبر مجازفة فكله مشفر ولن تفهم حرفاً....دعيتُ أن تكون في البيت!...فهي عادةً تخرج وقت العصر!...جرّبت حظي واتصلتُ بها :
" أما زلتِ في البيت!؟.."

أجابت بفضول مستغربة:
" أجل....لمَ تسأل؟!."

قلت دون مماطلة:
" نسيتُ ورقة مهمة أريد أن تصوريها وتبعثيها !!.."

قالت:
" حسناً...أين هي؟!.."

عدت لأشتم حالي بيني وبين نفسي لوقوعي بهذا الموقف مضطراً وأجبت:
" مفتاح غرفتي في درج المكتب!....اصعدي اليها ...في غرفة الملابس داخل الخزانة المغلقة يوجد خزنة!....سأبعث لك الرقم السري ....افتحيها واخرجي الملف الأصفر.....صوري لي منه الورقة الزرقاء فقط!!...اتفقنا حبي؟!..."

أجابت بهدوء:
" حسناً حبيبي...سأصورها حالاً لا تقلق!.."

بعد أن اغلقتُ الهاتف منتظراً رسالتها....تعاقبت أنفاسي وخفق قلبي بشدة....صفعتُ جبيني...يا لحماقتي ويا لغبائي!!....ماذا جرى لي؟!...ماذا فعلتِ بي يا ابنة (عاصي)؟!....ما هذا الغباء الذي ارتكبته؟!.....يا الهي استر عليّ ولا تجعل فضولها يغلبها لتراه!!....أرجوك يا ربي....ليس وقته الآن!!....ليس وقته.....بقي القليل فقط!!....لا استطيع مجابهتها والسيطرة عليها من بعيد!....عليّ أن اركز بالمهمة التي بيدي اليوم!!.....كنتُ أقود السيارة واشعر أنها لا تتقدم رغم سرعتي!...كأنها تقف مكانها وعجلاتها تلتصق على الاسفلت من هول الافكار التي راودتني.....!!.....يا الله!!.....من يأتي بالدب لكرمه غير أحمق مثلي؟!...تباً للمهمات والأوراق التي وضعتني في مأزق أنا بغنى عنه هذا الوقت ولا أحسد عليه!!....استمريتُ في القيادة وعيناي تنجذب للساعة بين الثانية والأخرى!....ما بالها عــقارب الساعة علقت مكانها؟!....هل من المحتمل أنها رأته وانشغلت به؟!...زفرتُ أنفاسي محوقلاً واستسلمتُ لقدري وما هي الّا لحظات نشلتني من الغرق في عمق محيط فكري عندما رنّ هاتفي بورود رسالة اليه وقد نجحت في تصويرها! ولمّا لم تعلّق بأي كلمة بعد سؤالها ..
[ هل هذه هي الورقة؟!]

بعثتُ لها قلباً احمراً امتناناً لها فزارتني بعدها نفحات من الطمأنينة عندما ردت على قلبي بقلب مماثل له...!!

×
×
×

أما من كانت في الغرفة بدأ فضولها يدفعها لتلقي نظرات مسروقة بعفوية على خزانتي ولم تأبه كثيراً للخزنة التي ما زالت مفتوحة!...أرجعت الورقة الزرقاء للملف بعد انتهاء مهمتها التصويرية والتفحصية ثم أعادته الى الخزنة!....لمحت كيساً من المخمل الرمادي مركوناً في زاويتها ....دارت معركة بين فضولها وضميرها!...تمدّ يدها للداخل مرةً حباً بالاستطلاع ثم تخرجها وتعيدها اليها قابضة عليها ....لم تستطع القرار ولا الفرار...لحظات قليلة خاضتها بمعركة قصيرة قاطعتها نغمة رسالة وصلت لهاتفها ففتحتها لتجدها من السائق خاصتهم يخبرها بها أنه ينتظرها في الخارج!!....اغلقت الخزنة والدولاب مستسلمة لاختيار قدرها الذي لم يشأ لها أن تعلم ما هذا الكيس وعلى ماذا يحوي !!...

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

جسدها أصبح هزيلاً...شعرها بدأ يتساقط....غثيان يلازمها....أوجاع لا تنفك عنها....التعب والإعياء يحاصرانها....كل هذه أعراض تعيشها السيدة (فاتن) بعد العلاج بالكيماوي ....!!....أما صديقتها السيدة (ايمان) تقف معها بمحبة ووفاء الصداقة لتؤازرها ....تمسك يدها...تربّت على آلامها...تقرأ القرآن فوق رأسها....ثم تخرج مبتعدة عنها كل يوم بعد خلودها للنوم.....لتتخذ ركناً تمارس فيه خلوتها ...تناجي به ربها...تسأله الشفاء والرحمة بجسد حبيبتها .....ثم تنهار باكية مستسلمة لاحتضار روحها عليها ..!!...

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

قررت (رزان) شقيقة صديقي الأشقر زيارة (دنيا) في بيتنا الجبليّ....لم ترها منذ مدّة واشتاقت لها ورغبت في الاطمئنان على كنتهم الغالية زوجة الغالي!.....قبل الذهاب إليها مرّت على بيت أهلها الموجود في حيّنا فتفاجأت بوجود خالتها وابنتها (أريج) عندهم.!!....جلست قليلاً معهما ثم استأذنت هاتفة لوالدتها :
" أمي أنا ذاهبة لأرى دنيا....لقد هاتفتها وأخبرتها أنني ارغب بزيارتها....سأترك جود وجوري عندكم....أنتِ تعلمين أنهما مشاغبان وسيرهقانني وأنا أريد الجلوس برأس هادئ..."

ثم تطلّعت لضيفتيهم مضيفة بأدب:
" من بعد اذنك خالتي....لو علمت أنكما عندنا لأجّلتُ زيارتي....غير لائق الاعتذار لها بالدقيقة الأخيرة....لذا استميحكما عذراً ....سأحاول ألّا اتأخر لأعود اليكم ان شاء الله.."

اومآ لها برضا وقبول مع ابتسامة لطيفة فقالت والدتها وهي تنهض من مكانها:
" انتظري....سأضع لكِ من المعمول الذي صنعته اليوم لتأخذيه في طريقك.....شقيقك يحبه !..."

بعد قليل عادت تحمل علبة تضعها في كيس فأدلت باقتراحها بطيبة قلب:
" ما رأيك عزيزتي أريج أن تذهبي معها ؟!....أنتن صبايا في نفس العمر...ستسأمين بيني وبين أمك!.."

كأنها نزلت باقتراحها من السماء!!....هبّت من مكانها بدلع وهي تنفض رأسها لتبعد شعرها الأشقر الذي التصق في وجهها وهتفت:
" بكل سرور خالتي....!!.."

×
×
×

استقبلتهما برحابة وكرم ووجهٍ سموح رغم عدم استلطافها لتلك الشقراء ....أليس المحبة من الله؟!...وهي بصريح العبارة...لا تحبها !!......ومع ذلك قامت بالواجب لأنها تربّت على الكرم وحُسن الضيافة والأصالة والتي لن تتخلّى عنها مهما يكون ضيفها...!!....كانت ترتدي بنطال جينز أزرقاً غامقاً خاصاً بالحوامل مع بلوزة وردية ضيقة تبرز بطنها الصغير جداً.!!....لقد أصبحت في الشهر الثالث وقريباً سيعرفون نوع الجنين !!....كم تواقين لهذا اليوم سواء هو أو أهله وأهل بيتنا!!....ما يأتي من الكريم نعمة!!...لكن صديقي يتمنّى ومتلهف أن يكون بكره ولداً سائلاً الله له تمام الصحة والعافية والصلاح!!.....بعد أن استقرتا على الأريكة في غرفة الضيوف سألتها (رزان):
" أين خالتي عائشة ؟!...اشتقتُ لها !.."

أجابت (دنيا) بلطافة:
" ذهبت عند الخالة أم سلمى !!.."

كان (شادي) يلعب في جهاز الألعاب الالكترونية في غرفة العائلة القريبة من غرفة الضيوف ويضع سماعات الأذن ليتواصل مع اصدقائه عن بُعد !!....مرّت ساعة من الزمن وهن يتبادلن الأحاديث الخاصة بالفتيات مثل الاهتمام بالموضة والجمال وكانت قريبة صديقي تحاول أخذ الساحة بمدح نفسها والتباهي بذوقها وخبرتها في الملابس والمحلات الشهيرة!....كانت شقيقتي تسايرها وتحاول هضمها مهما تبجّحت أو قالت...!!...فهي ضيفتها واكرامها والتبسّم في وجهها فرضٌ عليها !!....بعد قليل طلبت شقيقة صديقي بخجل منها:
" عذراً دنيا....احتاج لاستخدام الحمام !!.."

ارتسمت ابتسامة جميلة على محيّاها وهمست بلطف:
" تفضلي معي...."

ارشدتها وعادت الى ضيفتها الأخرى ....مدّت عليها من طبق الفواكه ثم جلست مكانها فسألتها بجرأة وهي تلعب بشعرها:
" متى يعود ابن خالتي الأشقر ؟!....اشتقنا له..."

شرارة من الغيرة كادت تشعلها لكنها سيطرت عليها هامسة وهي تسند ظهرها للخلف مع ابتسامة مصطنعة:
" حبيبي سامي الله يرضا عليه...اليوم ورديته مسائية...يعود في التاسعة ليلاً..."

استمرّت بأسئلتها عنه دون خجل وببزاغة أقرب للوقاحة وتخطّت الحدود لدرجة وضع نفسها في محل الاشتباه بينما المستضيفة تكابد للمحافظة على هدوء أعصابها وهي تجيبها أجوبة قوية بحذر دون أن تهينها إنما كانت تقصدها وذات معنى أشبه بقصف جبهة بطرق ملتوية كي لا تخرج عن أدبها مع ضيفتها.!!......أجل تحدّت نفسها ألّا تسمح لها باستفزازها مهما حاولت وستسايرها للنهاية ....!!....وبعد قليل وفي لحظة غير متوقعة ولم تكُن في الحسبان دلفت اليهما (رزان) شقيقة صديقي وتسمّرت مكانها بجمود عندما رأت وسمعت ابنة خالتها الشقراء (أريج) تفزّ من مكانها وتشير بسبابتها لصدرها وصوتها مهزوز ....مرتجف يحارب للبكاء هامسة بضعف:
" أنا يا دنيا تطرديني من بيتك ؟!...أهكذا تتصرفين مع ضيوفك ؟!.."

شهقت الواقفة تضع يدها على صدرها سائلة بصدمة:
" ماذا؟!...طردتك؟!....لا يعقل !!...دنيا لا تفعلها..."

وبينما كانت شقيقتي مكانها مذهولة ومرتابة من هول ما سمعت تابعت الشقراء كلامها لابنة خالتها:
" يا ليت توقف على هذا يا رزان...كنتُ سأسكت...لكن...لكن كرامة ابن خالتي هدرت!..."

اختنق صوتها عند آخر كلمة فغطت وجهها بكفيها وأجهشت بالبكاء لتقترب منها المصدومة وتضع يدها على ظهرها بتوجس وتنقل نظراتها فيما بينهما وهمست:
" اخبراني ماذا جرى؟!....بالله عليكما....ماذا تقولين؟!..."

لم تستطع شقيقتي اصدار أي كلمة ولم تقوَى على ابتلاع ريقها واكتفت بالمشاهدة صاغرة رغماً عنها....لقد اختفت قوتها التي عهدناها عليها !!....فأكملت الأخرى بصوت ملسوع وهي تناظر (رزان) بينما وجهها غدا كحبة البندورة من احمراره :
" تصوّري عندما طردتني قلت لها أنا أدوس بساط ابن خالتي ولن يرضى بهذا اطلاقاً فقالت لي أنا المسؤولة عن هذا البيت ....هذا بيتي أنا وليس بيت ابن خالتك !!.."

أصابها الخرس فوق صدمتها مما سمعت عن كنتهم المحبوبة الغالية !!.....جميعهم يلاحظون عدم تقبّلها لابنة خالتهم وقد ظنوا أنها غيرة عابرة بسبب قربها من شقيقهم لكن أن يصل بها الحد لتتصرف معها بدناءة هذا ما لم يتوقعوه...!!...هزّت شقيقة (سامي) رأسها بأسى وأمسكت ذراع قريبتها بعد أن أخذت حقيبتها عن الأريكة وقالت مدهوشة بعدما أصبحت شبه متأكدة مما نطقت به (أريج)بما أنها لم تدافع عن نفسها ولم تنكر وهي تعرفها أنها شجاعة ولن تسمح لأحد بالافتراء عليها وتأخذ حقها بأسنانها مهما كان الواقف ازاءها !!....اذاً صمتها هو اشارة لصدق أقوال تلك !!...:
" لم نتوقع منك هذا دنيا!....غريب!....ماذا جرى لكِ؟!.....على كل حال شكراً لكِ....حقاً شكراً....سلّمي على الخالة عائشة ونأسف إن ازعجناكِ بزيارتنا في بيتك....بيتك أنتِ.!!.."

وخرجتا دون أن تتبعهما وبعد أن صفعتا الباب استوعبت ماذا دارَ في بيتها....تعاقبت أنفاسها وشحب وجهها وتسارعت نبضات قلبها ذعراً اتقاءً ومهابة من أن يصل هذا لزوجها...!!...بحثت عن هاتفها بسرعة فوجدته مختبئاً بين أطباق التضييفات....سحبته بخفة واتصلت به ولم يستجب لها لأنه مشغول!!....حاولت دون يأس مرات عديدة وقد كان الجواب أنه مشغول!!..طالت مكالمته ولم يرد!!......نفثت أنفاسها المتأججة من غضبها ورهبتها ثم ارتمت على الأريكة محبطة تنتظر منه معاودة الاتصال!!...دقائق أم ساعات التي مرّت عليها ....لا تعلم!!....عقلها أرهقها من الوساوس التي اجتاحتها....لقد صوّر لها الشيطان اشياء كثيرة!....لكنها تثق في أشقرها!....سيفهمها وسيقف في صفّها لأنها وحدها دنيته!!....لم تنتبه للواقف عند اطار الباب خارج الغرفة يراقبها خائفاً عليها ومما سيحدث!....لأنه ببساطة... استمع لهما !!....لقد مرّ بالصدفة من أمام الغرفة متجهاً للمطبخ فاستوقفته نبرات صوتيهما التي تدل على مشاحنات لا مزاحات!!....توارى في عامود عريض لمّا عادت (رزان) إليهما فلم تلحظه...!!....حقاً مصدوم من شقيقته!...هذه ليست (دنيا) التي يعرفها!!....لم يجرؤ على الاقتراب منها خوفاً من انفجارها به...لكن خوفه الأعظم من الانفجار الأشد خطورة....أي من ردة فعل زوجها!..!....دعا ربه في سرّه أن يلطف بها ودعا أن تعود والدتنا الى البيت لتفادي أكبر قدَر ممكن من الدمار الذي سيخلفانه وراءهما إن تواجها هذه الساعة!!....دقائق جرّت دقائقاً خلفها لتمضي عشرون دقيقة على الحدث فيُسمع صرير العجلات إثر توقفها بقوة بعد دعسه بغل على المكابح عند دلوفه الساحة !....فتح الباب ووقف على عتبته ثم زأر كالأسد بصوت جلجل البيت بأساساته:
" دنياااا..!!.."

قرر مواجهته ليصبّ غضبه عليه حماية لشقيقته فوقف مقابلاً له فسأله بصوت جهوري جاف:
" أين شقيقتك؟!.."

ردّ عليه بعد ان ازدرد ريقه:
" اسمعني سامي أنـ....!.."

قاطعه هادراً:
" شاادي....قلت اين شقيقتك؟!..."

وقبل أن يجيبه طلّت عليه من باب غرفة الضيوف تمشي بوهن هامسة:
" أنا هنا..!.."

انقضّ عليها كالنمر ومسكها بخشونة من ذراعها وصرخ بها:
" ما هذا الذي سمعته؟!...كيف تسمحين لنفسك؟!....هل تمنين علينا في بيتك؟!...."

اخفض نبرته لوهلة مستطرداً:
" حسناً أنت محقة...هذا بيتك!!.....ولكن ليست ابنة محيي الدين وزوجة سامي مَن تطرد ضيوفها مِن بيتها....."

وهزّها بغضب وبنبرة أعلى حادة لو تجسدت أمامها لجرحتها وأراقت دماءها:
" هل تفهمين ؟!.......ليست زوجتي التي تتصرف بوقاحة وغرور مع من داس بساطها..!!"

ثم دفعها لتترنّح وتستند بالحائط خلفها وأشهر سبابته قبل أن يستدير:
" غداً صباحاً ان شاء الله سأتصل بشقيقك لنجد حلاً بشأن سكننا !!....الذنب ليس ذنبه وانا من اقترحت مكوثي هنا ....لكن خابت ظنوني!!....خابت جداً يا ابنة الشامي!!....أنام على قارعة الطريق في عز البرد ولن أقبل بتاتاً بأن تمنّ عليّ امرأة في بيتها!.....ما عاش من يمسّ كرامتي يا حرمي المصون!......عزّ نفسك تجدها!!...."

لحقت به تمسكه من ذراعه باكية وهتفت بصوت مرتعش:
" سامي اسمعني!..."

نفض يدها عنه واستمرّ حتى وصل الباب وقال بحزم:
" لا تنتظريني ...لن أعود الليلة!.."

فصاحت برجاء وعبراتها تنساب بغزارة على خدّيها والدنيا أظلمت في عينيها بعد أن تلاشى لون الشهد منهما من كثرة المشاعر المؤلمة التي تعيشها:
" لا تذهب!....أرجوك ابقَ واسمعني..!.."

رمقها بنفور واستهجان وهموم جمة تجثم على صدره ثم خرج صافعاً الباب ولم يتنازل للنظر خلفه....!....لو توقّف الأمر على أقوال ابنة خالته لكان له تصرف آخر أما شقيقته التي يثق بها أكثر من نفسه هي اخبرته بلسانها !!...فهنا طار عقله وفقد صوابه وتأججت النيران داخله تلتهم احشاءه وقودها الكرامة ثم الكرامة ثم الكرامة...الى أن يلقط أنفاسه الأخيرة!!....

×
×
×

سمعت همهمات غير مفهومة عند اقترابها من المدخل...هفت قلبها!!...إنه قلب الأم الذي يشعر في صغاره من بعيد!...أسرعت لتفتحه بقلق فهالها منظر ابنتها التي تهالكت أرضاً على ركبتيها وكأن روحها في مرحلة الاحتضار .!!..تمسك بطنها باكية بألم ومرارة بينما الصغير يمسك كتفها مرعوباً عليها ويحاول تهدئتها وهي تصرخ وتئن من قسوة أوجاعها:
" أي....بطنـــي....بطــني....أماا اه.....يا ربي...سأفقد جنيني!..."

هجمت عليها تجثو جوارها تمسكها بوجل والوجوم يعتريها وتسأل بضياع:
" اسم الله عليكِ يا ابنتي !!....ما بك؟!...ماذا جرى!!..."

تستمر بنشيجها المصاحب للآلام:
" بطني أمي....سامي....بطني...لا أتحمل الوجع!..."

نظرت بسرعة لابنها وهتفت تعجل في حركته:
" بسرعة شادي...اتصل بسامي...هيا تحرّك بنيّ....الهاتف في حقيبتي!!..."

أخرجه بيديه المرتجفتين ووضع على اسمه وانتظر الاجابة!!...نغمة الانتظار طالت !....ردّت السكرتيرة الالكترونية!!....عاد ليتصل من جديد!!....لا اجابة من الطرف الآخر....صوتها يخبو ضعفاً تارة ثم يرتفع بصرخة تارةً أخرى عندما تعود آلامها ....تكاد تفقد وعيها وأمي تحاول تصبيرها والهائها عن اوجاعها....(شادي) يكرر محاولاته في الاتصال دون يأس !....مددت أمي ابنتها على الأرض ووضعت رأسها على حجرها وبدأت تمسّد شعرها وتقرأ عليها من الآيات ما يأتي في بالها دون تركيز....تشتت عقلها من قلقها عليها!!.....كمشت نفسها وأمسكت بطنها وصيحاتها تهز الأركان وتهز قلبيّ الخائفين عليها!!...تسكن قليلاً ثم تصرخ.....قطعت تلاوتها وصرخت به:
" اتصل بالإسعاف صغيري....اسرع....سترك يا رب....الطف بها يا رب..."

لقد فقدت الأمل بصهرها واضطرت للجوء للإسعاف....لأن بينها وبين نفسها علمت أن هذه علامات ولادة!!.....وبما أنها ما زالت في شهرها الثالث اذاً لن يكون هذا سوى.....اجهاض الجنين وانتهاء الحمل وضياع الحفيد والابن المنتظر...!!...

~~~~~~~~~~~~~~~~~~

في ساعات الصباح مع أول اطلالات الشمس التي ترسم لنا حياة في يوم جديد يحمل في جنباته الكثير بسطت اشعتها الناعمة على مساحات الارض الشاسعة التي بدأت تكتسي بالبراعم الخضراء دخلتُ بيتي عائداً من مهمتي!!....توجهتُ من فوري الى مكتبي لوضع ملفات في الخزنة كانت بحوزتي!!....ولأني على علم لوصولي في هذا الوقت الباكر وليقيني أنها في بيت والدها بعدما هاتفتُ خالتي وقت قيام الليل وسألتها عنها وكانت قد حدّثتها في الليل وأخبرتها انها في بيت العنكبوت فتأكدت من عدم تواجدها وجعلني هذا أن أهملُ نفسي واتكاسل فلم ابدّل ملابسي السوداء الحالكة الخاصة بالثوار!!.... وبينما أنا منشغلٌ بتوضيب الأوراق أولي ظهري للباب سمعتُ حركة خفيفة اختفت في الحال!!.....يبدو أنه هيأَ لي!...عادت مرةً أخرى فأرهفتُ السمع .....ظننتها من قططي الجميلة الصغيرة في الخارج !!...تابعتُ بعدم اهتمام ليعود الصوت من جديد فالتفتّ التفاتة خفيفة بحذر مستعداً لوجود أي دخيل في بيتي فوقع نظري على الباب حيث تقف قطة بشرية تحمل سماءين محتقنتين بدموع الغضب وحاجباها منعقدان بكراهية ووجهها شاحب شحوب الموتى!!...كلا ليس سماءيها ما لفتتا انتباهي ولا الشحوب الذي يعتريها!!.....إنما الشيء الذي يتدلى ويتأرجح يمنة ويسرة وهي تمسكه بقبضة يدها ولمّا استوعبتُ ماهية هذا الشيء وأنه ليس سوى عقدها الذهبي استدرتُ مذهولاً ..مصدوماً....بل محتضراً ومقتولاً بعينين متسعتين من حجم الكارثة لتشهق مفزوعة وتعود خطوتين للوراء كأن قوة دفع دفعتها وجعلتها أن تُسقط ارضاً ما كانت تحمل بيدها بعدما سلّطت عينيها بحركة لا ارادية وانجذاب قوي صوب صدري حيثُ يدمغ بالأبيض...

[ كتيبة الفهد الأسود ]
لو كان رجلاً آلياً لما تحمل العمل كل هذه الساعات !!....فمنذ تركه لمنزلنا ولدنيته عاد الى المركز ولعمله الذي كان من المفترض ان ينتهي أمس في التاسعة مساءً لكنه ضاعف ساعاته لتكون حُجّة له بعدم عودته الى البيت !!....ظلّ طوال الليل يعمل ويفكر في مشكلته ....فلا استطاع اتمام عمله ولا استطاع حلّ معضلته....!!....نظر الى ساعة يده وكانت تشير الى السابعة والنصف صباحاً...أنهكه التعب ونال منه لكنه لن يسمح لنفسه بالسقوط!!.....نهض عن كرسيه وحمل هاتفه الخاص بالعمل ثم دنا من النافذة .....ضيّق عينيه لحظة اقتحام اشعة الشمس لهما عند شدّه الخيط الجانبي ليرفع الستارة الذهبية المتحركة!!....شق النافذة ليستنشق هواءً بارداً نقياً....تنهّد بعمق وليت تنهداته أراحته وليت الهواء برّد النيران في قلبه!!....وضع على اسم لأحد عناصره على هاتفه ورفعه لأذنه ينتظر الاجابة !!..
" احترامي سيدي...!!."

" صباح الخير بشار..!.."

" صباح النور سيدي....اؤمرني!.."

" ما الوضع عندك؟!.."

" كما هو سيدي.....البيت ساكن لا حركة فيه وطوال الليل كان ضوء خفيف داخلي فقط دون أي اضاءة خارجية!!..."

سأل بنبرة خافتة مرتاباً:
" كيف هذا؟!....لمَ لم تقل لي ؟!.."

" لم اشأ ازعاجك سيدي !...لم أرَ أي شيءٍ مشبوه!!..."

" وشادي الصغير ؟!....هل خرج للمدرسة؟!.."

" كلا سيدي....لم يخرج أحد....يبدو أنهم نيام!!..."

" حسناً...اغلق!.."

أغلق الهاتف بقلبٍ منقبض بعد كلامه مع عنصره الذي أرسله كحارسٍ في الليل عليهم ..بدأ القلق يضغط عليه!!....ليس عادتهم عدم اضاءة ساحات البيت !! وكذلك لا يتأخر أو يغيب الصغير الّا لسببٍ ما !!....زفر أنفاسه الحائرة ثم وضع على لائحة الاتصالات الأخيرة والتي كانت معظمها صادرة الى شقيقه ( مؤنس ) الذي أخذ منه سيارته البارحة عصراً وكان قد نسي (سامي) هاتفه الخاص بها حتى انتهى شحنه ولم ينتبه شقيقه ليعيده له وكل محاولات الاتصال به فشلت بسبب سوء التغطية في المكان الذي ذهب اليه مع اصدقائه للمبيت!!.وهذا أدى لاشتعال صديقي والحنق على اخيه فهو لم يترك هاتفه يوماً وشاءت الصدف أن يحصل هذا معه بعد الشجار بينه وبين زوجته..!!....اعتصره الغيظ والخوف في آنٍ واحد!!...تمتم شاتماً:
" تباً لك أيها الأحمق مؤنس !!...الحق على الذي سلّمك سيارته !!..."

تأفف ونبضات قلبه تتسارع بين ضلوعه !!....وتساؤلات كثيرة تبارت لغزو عقله....ماذا لو احتاجوه ولم يجدوه؟!....ماذا لو حصل لأحدهم شيء وهو كالمغفل جالس في مكانه ؟!....ماذا لو غضبت منه حماته التي لم يزعلها ولم تزعله يوما؟!...هو حزين على ما حصل ولم يرغب بالوصول لهذه النقطة لكن غيظه منها يعادل حزنه !!....يعلم أنها لم تحب يوماً قريبته وهو غير مهتم بأن تحبها أصلاً إنما يريد أن يبقى شأن زوجته وحبيبة قلبه مرفوعاً في عائلته بحُسنِ تربيتها وأخلاقها وسمعتها الطيبة ولا يريد أن تفعل شيئاً يرمونها به ويعايرونها.!!.....دائماً يحرص للحفاظ على صورتها التي عرفوها بها ولم يتوقع أن عدم محبتها أو بالأحرى كرهها وغيرتها من ابنة خالته يجعلها أن تتمادى في تصرفاتها معها لدرجة أن تهينها بشكل مخزي بالإضافة أن تتبجح في ملكية بيتها بكل غرور دون أن تعمل حساب له وكأن ما قالته شيئاً لا يستحق كل هذه ردة الفعل!!......لم يربط الشيء بالهرمونات وأفعالها البتة ....!!....هذا شيء أعظم من أن يتهم به تلك الحالة التي تجتاحها من حين لآخر....!!....قرر المجازفة للاتصال بحماته رغم خجله منها لأنه لأول مرة تمر ساعات كثيرة دون أن يطمئن عليهم كعادته وليس لأنه مخطئ فهو لا يرى نفسه هكذا...!!...حاول وإذ به مغلق !!....يبدو أنه اليوم العالمي لإغلاق الهواتف على حظه!!.....فهو لا يعلم اين هي وأن بطارية هاتفها نفدت ولا شاحن في ذاك المكان معها !!.....موجة من الرهبة غلّفته !!...قرر الاتصال بزوجته...رن ورن ولا من مجيب!!...سيطر عليه الاضطراب الشديد وازداد وجله وسخنت دماؤه!!....توجه الى مكان جلوسه ثم أخرج من درج مكتبه مفاتيح سيارته الخاصة بالشرطة وخرج مسرعاً للذهاب الى بيتنا الجبليّ للذين تركهم خلفه !!.....أزمة مرور تعيق سرعته لأن هذه الأوقات تكون الحركة نشطة بسبب توافد الناس للعمل والطلاب لمدارسهم..!!.الطرق تعج بالأمواج البشرية !!...هل أتى يوم الحشر؟!.....كان بسبابته ينقر برتابة على المقود...من يراه يظنه طرباناً على اغنية ما ولا يعلمون أن اعصابه ثائرة في منابعه وهي التي تسيّر حركاته..!! والاشارة الحمراء البغيضة لم تتغير ...هل تتفاخر بلونها ؟!... أما المشاة يقطعون الممر كقطيع الأغنام دون نهاية ودون راعي ينظّمهم!!....لمَ كل شيء اليوم يقف ضده؟!!....وبينما هو في حالة الانتظار الممل القاهر استرجع في عقله مهاتفة شقيقته له والنقاط التي أثارت حفيظته!!..:
\\\..." أخي بالله عليك لا تغضب منها....لكن افهم لمَ تصرفت هكذا مع أريج؟!.."

" ماذا قالت لها بالضبط؟!.."

كان يسأل بهدوئه المعهود في البداية وكان واثقاً بكلام شقيقته على أساس أنها شاهدة على كل حرف ولم يعرف أن التي بجانبها هي من كانت تملي عليها ماذا تقول وأن (رزان) بطيبتها تصدق وتنقل له الكلام وخصوصاً أن دموع التماسيح لها النصيب الأكبر في التأثير للعطف عليها والوقوف معها !!... :
" كانت تحكي لها عن طفولتنا جميعاً ..نحن أي أنا وأنتَ وباقي أخوتي وبنات خالاتي وعلاقتنا ببعضنا وكيف تربينا معاً وكم كنا مقرّبين وكيف كنتَ أقرب صديق لأريج وتدافع عنها ولم تسمح لأحد بأذيتها وأن مشاغل الحياة ابعدتنا فقالت لها دنيا *.. لمَ اذاً لم تتزوجي سامي ما دامت علاقتكما قوية لهذه الدرجة ؟..*...فنهرتها أريج عن هذا الكلام الغير لائق بحقكما وقالت لها..* علاقتنا قوية برباط الدم الذي يجمعنا فنحن أخوة لا أكثر وعيب أن يصدر منكِ هذا الكلام...*.....فردت عليها دنيا..* ..ليست واحدة مثلك أنتِ تعلمني أنا ابنة محيي الدين ما هو العيب ومن فضلك من غير جلبة اخرجي من بيتي *...ولما قالت لها أريج أنها تدوس بساطك وأنك لن ترضى بهذا فأجابتها ..*...أنتِ تعلمين جيداً كما الجميع يعلم أن هذا بيتي أنا وليس بيت ابن خالتك وهو يسكن هنا لفترة مؤقتة !!....اخرجي..*.."

سألها مغتاظاً مما سمع ومما صدر من زوجته وبدا صوته الصافي خشناً:
" وماذا حصل بعدها ؟!.."

أجابت:
" عندما قررنا الخروج من بيتهم لم تحاول الاعتذار أو ايقافنا وظلّت صامتة تتفرج !.....لو أنها اعتذرت لحللنا كل شيء دون اعلام احد بما حدث....لكنها صدمتني ....لم تحرك ساكناً وتركتنا نخرج دون ان توصلنا للباب!!....أرجوك أخي....افهم منها لمَ تصرّفت هكذا...لكن دون شجار لطفاً!!... حقاً لم نتوقع منها هكذا سلوك!!...انا محرجة من خالتي....ستتضايق المسكينة.."...\\\

هو استمع لكلامها بثقة بها ولم يدرِ أن هذا كله لم تشهد عليه!!.. وإنما ما كان الّا مجرد تلفيق وبهتان من قريبته الشقراء التي أكملت في تأليف ما أرادت بعد خروجهما من منزلنا لتأخذ راحتها بالافتراء دون أي رادع يكذّب أقوالها وخاصة بعد استمتاعها برؤية ردود أفعال مَن صدّقتها!!....كم حاول في الماضي التغاضي عن حركاتها المشبوهة معه من أجل خاطر والدته وخالته !!..هو يعلم بأن قلبها يميل له لكنه لم يعطها يوماً أي أمل ولم يبنِ لها أحلاماً !!....لو لم تكن (رزان) موجودة لتأكد أنها ما هي الّا الاعيب دنيئة منها لكن سكت الكلام عند شهادة اخته الخلوقة!!.....

قاطع شروده بمكالمة البارحة التي حدثت مع شقيقته صوت زامور السيارات من خلفه لتنبيهه على تبدّل الاشارة الضوئية للأخضر....شدّ قبضته على المقود بعد أن بدّل وضع ناقل الحركة للسير ونظر بالمرآة الجانبية ثم دعس على الوقود لينطلق مسرعاً حانقاً ومتمتماً:
" يا حمقاء تباً لكِ....لمَ تغارين من واحدة لا أراها اطلاقاً ؟!...ألا تثقين بعشقي لكِ ؟!...من يبدّل العسل بالعلقم يا عينيّ الشهد؟!..."

تنهّد بقوة لينسى أو يتناسى ثم نظر لساعة سيارته ولكن أبى عقله ترك ما آلمه فتابع في سره يلومها....
" أحقاً تقسّمين الاشياء بيننا ؟...هذا لي وذاك لكَ ؟!..هل أصبح الآن البيت بيتك أنتِ ووضعتني على الرف ؟! هل غديتُ في نظرك كالدخيل؟!.....خذلتِني بتصرّفك القبيح هذا يا دنيا!!..."

ونطق بصوتٍ جريح:
" خذلتِني فوق ما تتصوري!.."

×
×
×

أعطى أمره لعنصره بالعودة الى المركز وما إن أوقف سيارته في ساحة بيتنا وقبل أن يترجل حتى لمح بالمرآة سيارة أجرة تقف خارج البوابة الكبيرة !!...ركّز بصره ليرى من الزائر الصباحي ؟!...جحظت عيناه بذهول لمّا رأى أمي وأخي ينزلان منها !....هدر قلبه بين ضلوعه مرتاعاً عند ولوجهما الى الساحة وحماته تحتضن ابنها بوهن !....لم يأخذ منه الأمر ثواني حتى أصبح يقف أمامهما !!....تملكته الهواجس والوساوس .....تطلّع عليهما بملامح مرتابة متسائلة وقابله شقيقي بنظرات عتاب مخذولاً أما حماته التي أخذ منها التعب ما أخذ بسبب سهرها وانصهار اعصابها على فلذة كبدها حررت يدها التي تحضن ابنها ثم اقتربت منه بابتسامة شاحبة وهمست بحزن:
" سامي!!...بنيّ!..أين كنت؟!...اتصلنا بك عدة مرات ولم نستطع الوصول اليك !.."

ازداد قلقه وتسارعت نبضاته بوجل وكذلك استغرب هدوءها معه وقبل ان ينطق حرفاً اخفض عينيه ناظراً للصغير بتساؤل صامت فأومأ له الأخير بحركة حاجبيه لفوق بأنها لا تعلم بما حدث ...نبهه رغم حزنه على شقيقتنا وغضبه منه ....لقد حاول مداراة ما حدث بعقلانية تفوق سنه خوفاً من تفاقم الوضع ومن مضاعفة الحزن على والدتنا التي تضع نسيبها في بؤبؤ عينها ولبّ قلبها !!...لا يريد أن يُحدِث بينهما شرخاً لا يُرَمم و(دنيا) حالتها لم تسمح لها آنذاك بشرح ما حصل بينهما فقد انشغلت في اوجاعها ولمّا أخذ (سامي) الاجابة أعاد حدقتيه للواقفة أمامه سائلاً بشك:
" خيرٌ أمي!!....أين كنتما في هذا الوقت الباكر ولمَ لم يذهب شادي للمدرسة ؟!..."

فركت يديها ببعضهما بتوتر بعد أن أسدلت أهدابها لتخفي الدمع في عينيها وهمست:
" كنا في المشفى !!.."

" المشفى ؟!!!.."

ألحق كلمتها المجيبة بكلمته المستنكرة والتي رافقتها الرجفة في صوته ثم جال بعينيه عليهما بنظرات تفحصيّة سريعة وابتلع ريقه مردفاً عندما تأكد أنهما سليمان:
" دُ...دُنيا !...اين دنيا ؟!.."

التفت للخلف مشيراً بعينيه ورأسه نحو البيت واستطرد وهو على نفس الوضعية:
" في البيت دنيا ....أليس كذلك ؟!.."

أعاد وجهه إليهما بعدما شعر أن الصمت طال من كليهما وكرر سؤاله فسقطت دمعة من احدى مقلتيها وأجابت بخفوت:
" لذلك اتصلت بك.....دنيا في المشفى منذ البارحة !!.."

" ماذا؟"

قالها متفاجئاً ثم أمسك بقبضتيه طرفيّ كتفيها برجاء وهمس يواسي حاله:
" لم يحصل شيئاً !....أليس كذلك أمي ؟!..."

وأردف:
" لمَ لمْ تتصلي بي على هاتف العمل ؟!..."

ردّت بأسى على حال ابنتها:
" اتصلنا بك على هاتفك الخاص ولمّا لم تجب لم يكن معنا الوقت لمحاولات أخرى..."

اختنق صوتها بين طيّات الوجع على مهجة قلبها وهي تكمل :
" لذا اضطررتُ لطلب الاسعاف !..وبعدها انتهى الشحن من الهاتف ."

لم يسعفه اتقانه التمثيلي الذي يستخدمه لإخفاء الخوف...التوتر...الحزن عن ملامح وجهه ولم يستطع السيطرة على نبرة صوته التي فضحت تمزق احشائه رعباً عليها :
" ما بها دنيا ؟!...ماذا حصل ؟؟!.."

بخفوت مهيب أكمل تائهاً:
" دنيا.!...ابني !!.."

برجاء مميت همس :
" اريحيني أمي.."

ثم بشق الأنفس جاهد ليخبئ بكاء قلبه مكرراً رجاءه:
" بالله عليكِ ...اريحيني!!...قولي لي لم يحدث لهما أي سوء وأنهما بخير..."


~~~~~~~~~~~~~~~~~~


" مـ...ماذا؟!.."

اهتز قلبها بين أضلعها خيفة ثم ازدردت لعابها وهي تُرجع يديها لخلفها ..تلتصق بإطار الباب وكأنها ترجو منه الأمان بعد سؤالها الاستنكاري ثم حَشرَت نفسها أكثر لتلصق كعبي قدميها كما يديها وأردفت بتلعثم تطالعني بعينيها اللتين تحولتا من حالة غضب الى ذهول وخوف:
" كـَ...كـتيبة.....ألـ...فهد...الأ سود ؟!!.."

ضغطت على شفتيها مرتبكة ضائعة وأكملت:
" مـَ...من...أنت؟!....أنا...أنا ...لا أفهم شيئاً!.."

أنهت جملتها ترفع يديها تحيط رأسها قرب صدغيها وهي تطأطئه للأسفل ناظرة لموضع العقد الذهبي وقد ظننتُ أنها نظرات ضياع بينما كانت تركيز لتربط الاشياء ببعضها ثم همست بصوت خفيض وهي تهز رأسها برفض:
" كـَ...كيف ؟!...يا الله...مستحيل.....أبـ...أبي...ال فهد الأسود ؟!.."

تحرّكتُ من مكاني خارجا من خلف المكتب مقترباً منها وعينيّ المصعوقتين لا تحيدان عن عينيها التائهتين وبالكاد أفلحت باخراج كلماتي التي لا معنى لها ولا منفعة ارجوها منها:
" اهدئي ألمى...ليس كما تظنين!.."

ولما وصلتها رفعت يدها كدرع تحمي نفسها صارخة بحقد إثر الصراعات الداخلية التي كادت تزهق روحها:
" قف عندك ولا تقترب مني !! ..."

ثم رمقتني بنظرة جارحة وبحركة سريعة انحنت تلتقط عقدها الذهبي تشدّ عليه بقبضتها والسلسلة تنساب من بين أصابعها وهي تهز يدها لتعود تقاسيم الغضب بشكل مبالغ على وجهها وعلا صوتها :
" من أين حصلت على هذا ؟! ....من أنت وكيف وصل إليك ؟!..."

قلت بقوة فاشلة احاول تدارك الموقف باستماتة وانا على حافة الانهيار :
" ألا يمكن أنني اشتريته من محل الذهب...مثلاً ..لأهديك اياه ؟!.."

قالت ساخرة بغيظ تكشف كذبتي التافهة:
" سبحان الله !...شاءت الصدف أن تشتري شيئاً يعود لي دون أن تعرفني مسبقاً ؟؟!.....طفلة أمامك تظن باستطاعتك الهائها بقطعة حلوى أو كذبة بيضاء ....أليس كذلك؟!..."

وصرخت تستوجبني بثقة:
" كُن رجلاً وأجبني من أنت ......من أنت وكيف وصل هذا لعندك ؟!.."

" ألمى !!.."
" ألمى..."

همست اسمها بهدوء وانا اقترب منها فانحرفت جانبا مبتعدة وصاحت بي:
" ماذا ألمى ألمى ؟!...لا تقترب وأجب هيا ....."

واستطردت بنفس النبرة وهي تشير بعينيها على صدري وتحديدا على المكتوب عليه [ كتيبة الفهد الأسود ]..":
"..أرني شجاعتك واخبرني عن هدفك الذي بتّ أعرفه !!.."

ثم ضحكت باستهزاء وازدراء وأكملت ناظرة بتحدي وسموم كراهية تكاد تقطر من وجهها :
" أجل...بتّ أعرف لأي حثالة ومجرمين تنتمي....أيها ...."

وباستصغار واحتقار وهي تلوي شفتيها أردفت:
" أيها الفهد الأسود!!..."

دنوتُ منها دون أن اشعرها عن الحرب الضروس التي تشتعل داخلي ...ما زلتُ أسيطر على سكوني المزيّف ومددتُ يدي لها قائلاً:
" ألا يمكن أنك تظلمينهم بادّعائك هذا ؟!.."

هتفت من بين أسنانها بكراهية وضغينة:
" لا تلمسني...ثم أي ظلم تتحدث عنه ؟!....هؤلاء لا يعنوني شيئاً الآن..!!"

ورفعت الذي تمسكه بيدها متابعة:
" بقدر ما يعنيني هذا الذي اضعته منذ سنوات !!..."

وبجسارة وشموخ استقامت ثم قابلتني بتحدي وجسدينا يكادان يتلامسان والصقت عقد القلب الذهبي امام عينيّ وهتفت:
" لن تتحرك قبل أن تخبرني عن عقدي !!.."

بقيتُ مكاني صامتاً محاولاً التحكّم بكل خلية اهتزت في جسدي ولكن صمتي أجج النار داخلها فبقبضتيها ضربت صدري ضربة تلو ضربة وقالت بصوت غاضب يمتزج معه البكاء بعد أن تجمّعت الدموع في عينيها وأنا اعلن استسلامي لضعفي دون أن أنبس ببنت كلمة :
" هيا...قل....لمَ أنت صامت؟!"
" هيا أجبني....من أنت؟!.."
" لا تصمت!.."
" اخبرني كيف وصل إليك ؟!.."

هي تضرب وتصرخ بينما كنتُ محافظاً على سكوتي وصمودي:
" تريدون أذية ابي بي أليس كذلك ؟!.."
" أنتم أعداء أبي يا أوغاد !!.."
" اخبرني ....اخبرني أين وجدته ؟! "

" اخـ...ـبِرني.."

قالت كلمتها الأخيرة ثم انهارت حصونها وقوتها وانزلقت جاثية عند قدميّ وأنا لم استطع انزال نظري إليها لأني ما عدتُ أحتمل رؤية أوجاعها فهمستْ همسات واهية وهي تتكئ بإحدى كفيها على الأرض الرخامية بينما الأخرى تقبض العقد بقوة كأنها تخاف فقدانه من جديد ونكست رأسها حتى كاد يلتصق بصدرها :
" كسرتني ...بل...قتلتني !.... قتلتني....."

استأنفت متوسلة وهي بأقصى ألامها وضعفها:
" أرجوك قل لي من أنت وماذا يفعل هذا معك ؟!...قسماً سأموت...أنعشني باجابتك !!...لمَ أصابك الخرس؟!....أو.....أو هذا ما تريده....قتلي..بلى....تسعى لقتلي."

وبقلة حيلة رفعت رأسها إليّ ولم تلحظ دمعة نزفت من روحي كادت تفضح بكاء خائني عليها فأخفضتُ رأسي إليها بلا حول ولا قوة مني بعد أن تاهت كلماتي لتتلاقى الأعين الموبوءة بوباء الغدر والخداع وهمستْ:
" صحيح....تريد حرقي لإحراق أبي عليّ.....يا لغبائي ...انجلى كل شيء "
وبنظرات شزرا تشع غلاً رمقتني وهتفت وهي تجز على أسنانها:
" الآن فهمت.....لن تسمح باحتراقي الذي وعدت أو أن يحرقني أحد لأنك توليّت هذه المهمة لتعيش متعة نثر رمادي بنفسك!!....يا.....يا...حقاً لم أعد أدري بماذا أناديك ؟!....فأنت مجرد أكذوبة اقتحمتْ حياتي !!..."

وبعد كلماتها التي كانت كطلقات رصاص على روحي استوعبتْ الموقف الآن أكثر فبقوة وافتها هبّت منتصبة ثم سحبت هاتفها من جيب بنطالها الجينز الخلفي وبدأت تنقر عليه رقمها السري متمتمة بحماقة قلقاً عليه:
" أجل...ابي....يجب أن يعرف حالاً...أبي !!.."

ولم تدرك كيف سحبته بخفة من بين يديها هاتفاً بقسوة بعد أن استعدتُ قوتي ووعيي متحدياً نفسي على عدم الضعف مهما كان من أجلها:
" كلا يا صغيرة.....لن يعرف والدك شيئاً !!..ما زال الوقت باكراً على هذا..."

هجمت عليّ تحاول سحبه مني فرفعتُ يدي للأعلى ابعده عنها وبدأت تقاوم وتجاهد لأخذه وأنا ازيحه هنا وهناك فمسكت ياقة بلوزتي بغل وحدقتاها ترتجّان بقهر وتشدّ على فكيها بنقمة ونفور وصرخت بأنفاسها المتوهجة:
" اعطني هاتفي..."

أجبت ببرود لاسع وأنا أسلّط أرضي التي جفت من هول ما أعيش هذه اللحظة على سماءيها المحتقنة بالدموع:
" لن أعطيك....لا تحلمي!!....إن اخطأتُ بالوثوق بكِ لن أسمح باستمرار هذا الخطأ.....لن أسمح أن تهدمي ما بنيت!!.."

هزتني وصرخت وهي تفلت احدى يديها لتعود تقفز للمحاولة من جديد بأخذه مني:
" ستعطيني...أتسمع ؟!..."
" هيا اعطني اياه..."

وثارت حركاتها بجنون وهي تجاهد للحصول عليه متابعة بصريخ يتخلله البكاء:
" لن أسمح لك بأذية أبي....سآخذه ....اعطني!.."

بنبرة مع نظرة حادتين قلت:
" ارتاحي...لن تحصلي عليه ولو على جثتي!....لا حاجة باستهلاك طاقتك سدى!..."

بدأت تضرب بهستيرية الى حيث تصل يداها بعد أن استفززتها بجوابي!! ...تارة لكمات وتارة تخدشني بأظافرها على عنقي وعلى كفيّ كالقطة الشرسة وهي تبكي وتشتم:
" سآخذه يا مخادع...."
" اعطني اياه يا سليل المجرمين...."
" اللعنة عليكم يا أوغاد.."
" تباً لك وتباً لسذاجتي...!!.."

تتابع بحركاتها العنيفة العدوانية وأنا كنتُ أتلقّاها صابراً وكأنني جماد والله وحده يعلم أي طعنات وأي طلقات وأي حرائق أعيش داخلي الى أن شعرتُ بعنقي ينزف مع نحري وأعلى صدري بعد أن نجحت في تمزيق بلوزتي لتضع فوق جروحي الملح وهي تتابع بحقد بدا كأنه كان دفيناً وظهر على السطح :
" قل لي ماذا تريدون منا يا خونة .؟!.."
" أخبرني ماذا تريد من أبي ؟!........أجل رأيت عدم محبتك له ....عيناك كانت تفضح حقدك لكني كنتُ أكذّب نفسي ببراءة وحُسن ظن بك....وها أنت لم تكن سوى ...سـِ...ـوى....نذل....حقير... ستلحق الضرر بأبي أنت وأعوانك الخونة!!.....أعلم عن كرهكم لأبي وتربّصكم له يا حاقدين."

" كـفـــــــى!!!.."

زجرتها منفجراً من قعر الألم بصوت هادر بعد أن ألقيتُ الهاتف ارضاً وأمسكتها من ذراعيها قرب كتفيها بخشونة وفظاظة ثم أرجعتها للخلف حتى ألصقتها للحائط أحشرها فاختفى جسدها الضئيل بجسدي الضخم وأكملت بصوتي العالي الجارح ونظراتي القاتلة وبأوداجي المنتفخة وعروقي البارزة بعد أن صعقتني وأضنت أعصابي:
" أتريدين معرفة الحقيقة..؟!..."
" هل أنتِ قادرة على سماعها...؟!.."
" أتستطيعين تحمّلها كما أنا تحمّلتها ؟!.."
" قولي لي يا مدللة !!.."

وصرخت أكثر بصلابة وبغضاء:
" هيا اجبيني يا ابنة عاصي..."

ثم حررتها لاهثاً عائداً للوراء وسط ذهولها ورهبتها بعدما استوعبتُ ضغطي لها بقسوة على الحائط وقلت بصوت هادئ ابتدعته وبعينيّ الحمراوين بينما أنفاسي متهدجة:
" استعدّي للحقيقة يا سموّ الملكة !.."

وانحنيتُ ملتقطاً هاتفها مجدداً بشاشته المكسورة عن الأرض ثم انتقلتُ لتفكيك بطارية الهاتف الارضي اللا سلكي الموضوع على مكتبي وقلت وانا خارجٌ من الغرفة مشهراً سبابتي:
" انتظريني دقيقة!.."

لقد انتهى كل شيء وجاءت اللحظة التي انتظرتها بخشية وألم من شهور ارتباطي بها وسنين عشقي لها......صعدتُ مشتعلاً بقفزات واسعة السلالم لابدّل بلوزتي سريعاً ثم عدتُ اليها خلال لحظات وكانت ما زالت مكانها تسند نفسها على الحائط شاردة بالأرض بضياع ..اختفى لون الورد عن شفتيها وانتفخت جفونها....ريقها جف وهي تلهث وصدرها يعلو ويهبط انفعالاً...كانت الأرض تميد من تحتها والسماء تسبح بالضباب...التفتت اليّ بتوتر بعد دنوّي منها...غدت محطّمة كما خائني محطّم معها.....أحكمتُ قبضتي حول معصمها وسحبت منها العقد وسحبتها خلفي خارجاً غير آبه لخطواتها المتعثرة الصغيرة التي لا تجاري خطواتي الكبيرة حتى أركبتها سيارتي السماوية وركبتُ منطلقاً الى هدفي الوحيد....!!


~~~~~~~~~~~~~~~~~~


كانت تخبره عمّا حدث دون أن تلحظ ابيضاض مفاصله من ضغطه على قبضتيه بسخط من نفسه !!....لم ترَ عروقه التي برزت على صدغيه وهو يصك على فكيه !!.....لم يتوقع أن ردة فعله معها ستوصلها لهذا الحال !!....أجل هو غاضبٌ منها وحانقٌ عليها لكن الخوف الرهيب والندم القاتل الذين تلبّساه الآن سحقا كل المعادلات !!......بعد أن انتهت من التفسير له عن كل ما حصل مع زوجته ورغم الارهاق الذي يلمّ بها مرتسماً بالسواد الذي تحت عينيها من سهاد ليلها أرقاً وقلقاً على ابنتها الّا أنها لا تريد أن ترتاح وصغيرتها ترقد هناك بعيداً عنها.....لذا قررت العودة معه الى المشفى فقالت وهي تكابد لجعل جسدها يتحمّل كل ما تمر به :
" انتظرني بنيّ....سأعود معك ....دقيقتان فقط ..ٍسأضع منامة مريحة وبعض الاغراض لدنيا في حقيبة فهي لن ترتاح بارتداء لباس المشفى خاصتهم!..."

نطق هامساً ببحة خفيفة رحمةً بها:
" ما رأيك أن تبقي وترتاحي أمي ؟!...أنا سأتولّى أمرها بنفسي...لا داعي لمجيئك !!.."

ارتسمت ابتسامة تشع حنيّة مع لمعة عطف تخص الأم في عينيها وهمست:
" كلا بنيّ.....راحتي في الاطمئنان على ابنتي ....ثم عليك أن توصلني وتعود الى هنا لبيتك لترتاح ...فأنت عملت لورديتين كاملتين والارهاق واضح على وجهك وعينيك !!.."

رفع نظره الى البيت من خلفها.!!....أحقاً هذا بيته الذي نفته منه حبيبته؟؟!....إنها لا تدري بالشعور المزعج الذي يعتصره من الداخل هذه اللحظة ولا تدري أن كل ذرة في جسده تؤلمه بعد أن هُدرت كرامته كرجل على يد دنيته التي حبه لها يجري في وريده والتي لم تضع له شأناً وكأنه رِجل لكرسي في البيت أو تحفة متروكة جانباً يغطيها الغبار !!....ودّ لو يصرخ ويقول .." ما عاد لي دخول لهذا البيت !!...إنه ليس بيتي !.."....ودّ أن يحكي لها عمّا يعذبه وودّ أن يشكو لها عن تمادي ابنته لكن الظروف منعته من فتح بابٍ آخر للمواجع....!!...همس بصوت ثقيل متعب فالنعاس لم يكحّل جفنيه الليلة الفائتة:
" حسناً أمي...سأنتظرك لنذهب سوياً....لا أشعر بالنعاس!....هيا ادخلي ولا تتأخري أرجوك...."

بابتسامة حانية تركته وولجت الى البيت ليقترب منه الصغير هذه اللحظة وعيناه تتكلمان عنه فسأله (سامي) بفضول ونيران متقدة تحرقه بين الغضب والاضطراب على زوجته وتفقده صبره على الانتظار :
" لمَ لم تخبرها بما حصل ؟!.."

أمال زاوية فمه بشبح ابتسامة ناظراً اليه جانباً حيث يقف على يمينه وأجاب بجسارة تجري كالدماء في عروقه:
" برأيك هل الوقت مناسب لأحكي لها عن بطولاتك ؟!.."

غضن جبينه بغيظ لم يخمد من البارحة وقال بحدّة:
" بطولاتي أم وقاحة شقيقتك ؟!..."

رفع صوته غيراناً عليها بينما رجفة براءة العمر لم تتركه :
" شقيقتي ليست وقحة!!...واخطأت أنت بعدم استماعك لها..!!.."

استدار منحنياً صوبه وهاتفاً:
" ما كان داعي لاستماعي لنفس الاسطوانة ...شقيقتي اخبرتني كل شيء!!.."

اطلق شبه ضحكة ساخرة وقال:
" ألا يمكن أن تكون الاسطوانة التي استمعت لها مزوّرة أو كلها خدوش ؟!.."

" رزان لا تكذب ابداً....اصدّقها أكثر من نفسي !.."

زجره بجديّة فهتف (شادي) هازئاً:
" صحيح ...شقيقتك لا تكذب يا حضرة العقيد !...."

تنهّد وأردف مثبّتاً عينيه بعينيه بكل إصرار وثقة مرتفعة تفوق سنه:
" هي لن تكذب لو أنها كانت موجودة أثناء ما دار بين دنيا وقريبتك....لكنها كانت في الحمام وجاءت في النهاية عند صمت أختي...ولأنها نقية صادقة تصدّق كل ما يقال لها ....تظن أن الجميع مثلها!....لذا....صدّقت ادعاءات تلك !!..."

شعر وكأنه تعرّض لضربٍ مبرحٍ هذه الساعة من أقوال الصغير فسأل بصدمة وعينين متسعتين :
" ما الذي تقوله ؟!....إذاً لمَ لم تتكلم دنيا معها بشيء ؟!.."

ولم ينتظر لسماع الاجابة منه!....استلّ هاتفه العمل من جيبه ووضع من فوره على اسم شقيقته ...ثواني ليأتيه الرد بصوتها المتوجس من اتصاله الباكر:
" صباح الخير أخي...أهناك شيء؟!..لا تخيفني!.."

دون مقدمات سألها مباشرة:
" اجبيني بصدق ..!."

" اؤمرني أخي..!"

" هل أنتِ كنتِ شاهدة على الحوار الذي دار بين دنيا وأريج أم انك اكتفيتِ بما اخبرتك به العقربة الشقراء ؟!."

لأول مرة ينعتها بهذا اللقب....لقد طفح الكيل بالصبر عليها وبمداراة افعالها المسمومة...استشعر الصدق بأقوال الصغير وشيء من تأنيب الضمير ضغط على عاتقه !!....أجابت باستغراب:
" كلا سامي...هذا ما اخبرتني به اريج !..لكـ.."

" حسناً اغلقي..."

" انـ...انتظر اخي..."

انهى المكالمة ولم تعرف عن التيار الذي صعقه عند اجابتها له....كأن الكون دار به !!....أيعقل أنه ظلمها حقا؟!......لطالما قال لها أم لسان طويل لأنها لا تسكت أو تضع اعتباراً لأي أحد يقترب منها بسوء !!....إذاً لماذا لم تدافع عن نفسها امام شقيقته ؟!.....نظر للذي بجواره محرجاً منه وممتناً له لأنه فتح ذهنه....تنحنح وربّت على كتفه هامساً:
" شكرا يا صديقي..!!.."

تنهّد الصغير وحرّك رأسه مستاءً مما حصل لهما ثم اشرأب بعنقه ناظراً للمدخل عند فتح والدتي الباب فهمس لـ(سامي) قبل أن تدنو منهما:
" أنا لا أحب أن أتدخل بشؤون الكبار!!....لكن أتمنى أن لا يكون ما قالته قريبتك صحيحاً لأنه إن كنت أعرف أختي جيداً....لن تسامحك ولن تعود لك مطلقاً حتى لو اشعلت اصابعك العشرة من أجلها ولو أهديتها نجمة من السماء !!....فأنصحك لوجه الله ابدأ بالسعي لإثبات عكس ذلك !.....طبعاً إن كنت تريدها !!...."

امتقع وجه الأشقر باحمرار طفيف وكأنه استعصى عليه الفهم وسأل باهتمام شديد بعد أن ألقى نظرة للقادمة نحوهما تسير بتمهّل:
" ماذا قالت لها ؟ وعن أي شيء تتحدث ؟!..."

زفر أنفاسه وابتسم ابتسامة بين الألم والأمل وأجاب:
" لا تسألني!!....اسأل صاحبة الشأن...قلت أنا لا احب التدخل بشؤون الكبار ولكن كلمتي لك..."

ورفع رأسه بإباء مردفاً مدافعاً عن أخته:
" كما شقيقتك لا تكذب فإن شقيقتي ليست وقحة أو مغرورة وستبقى رغماً عن الجميع الأصيلة ابنة الأصيل !!....وآه صحيح.... الجملة القبيحة لقريبتك هي من ألجمتها عن الكلام والدفاع وقتها... وليس لأنها مخطئة....حتى أنا تفاجأت من عدم ردها عليها ...."

ختم جملته دون اعطاء المجال لصهره بإضافة أي كلمة مع اقتراب امي منهما ثم سار خطوتين واكتفى بإيماءة صغيرة برأسه تعني حسناً عندما قالت له بحنوٍ:
" اصعد ونم يا صغيري ريثما اطمئن على شقيقتك وأعود لأحضّر لك الغداء ان شاء الله...."
واستطردت متأملة:
" أتمنى ان يحرروها اليوم وتعود الى البيت معنا أفضل لها من المشفى والفيروسات التي فيه !.."

×
×
×

أإعصارٌ الذي يسيّر سيارته ؟!.. أم رجل عاشق ملهوف ليطمئن على محبوبته ويستسمحها؟؟!....كان كل ما يجول في ذهنه الحديث الأخير بينه وبين أخي !!..مرّت عليه الدقائق متثاقلة وكأنها ساعات في المسافة التي يقطعها ما بين البيت والمشفى!!..يتوق لمعرفة القصة على لسان محبوبته كي يرد لها اعتبارها إن ثَبُت التدليس الذي تعرّضت له !!..لن يقف ساكناً بالتأكيد...كان يهدد ويتوعد في سرّه ...لكن عليه الآن التيقّن من الحقيقة والإلمام بماهيّة الجملة التي قالتها لها !!.. ..سبح في بحر أفكاره وتوقعاته ولم يهتدِ لأي شيء يتشبث به !!...عاد ليتذكّر وضع دنيته الصحي وما اخبرته به حماته فبدأ يضيع في لوم نفسه..." أيعقل حصل هذا بسببي ؟!....هل آذيتها وابني بتصرفي ؟!..."....نفض رأسه لا يريد أن يصل الى إجابة تتمحور حوله كي لا يزيد على الطين بلة في الحال الذي وصلا إليه.!!....فأن يعلم أنها تعرّضت للسوء هذا شيء لن يتحمله وكيف إن كان هذا السوء نابعاً منه ؟!...كيف سيسامح نفسه ؟!...بل أي عذر سيقدّمه لي أنا من حمّلته الأمانة؟!....والأهم هل ستصفح عنه وهل ستعود لتنام في احضانه ككل ليلة ...هل ستسقيه من شهدها الذي يخمره؟!...أم انها ستبني حاجزاً لا يستطيع تخطيه يوماً ليصل الى جبّ قلبها؟....لاحظت الجالسة بجانبه تهوره في القيادة ولاحظت شروده كما لاحظت التعابير التي تكسو ملامحه وبطيبة قلبها ظنت أن هذا كله فقط قلقاً على زوجته فأرادت أن تهدئ القليل من روعه.....همست برقتها وهي ترفع يسراها لتربّت على منكبه الأيمن:
" على مهلك عزيزي سامي....ستراها الآن وتطمئن عليها ان شاء الله ....قلت لك أن الطبيب اخبرنا بأن يلزمها الراحة التامة وتهيئة أجواء مبهجة لها..!!....لقد قاموا باللازم حقاً من تعويض للسوائل عن طريق محاليل مناسبة بسبب النقص وكذلك بحقنها بعــقاقير من أجل رئتيّ الجنين ليستطيع التأقلم مع البيئة إن حدثت ولادة مبكّرة!!....التحجّر الذي اصاب بطنها هو ما جعلها تتألم بهذه القسوة...."

تبدّلت نبرتها وتحشرج صوتها وهي تتذكر حالها في الأمس:
" لا اخفي عليك....كدتُ أموتُ رعباً عليها ....يا الهي....خشيت لا قدّر الله أن تفقد جنينها فآلامها كانت مثل آلام المخاض تماماً..!!.."

ألقى عليها نظرة جانبية سريعة... لو أمعنت النظر به لاكتشفت احتقان عينيه بالندم والرهبة مما آت بعد النزاع الذي عايشه في باطنه !!...لم يقدر على أي تعليق فهو الآن بين المطرقة والسندان....كيف سيبوح لها عمّا حصل البارحة ؟!...هو مجبرٌ على الادلاء باعترافه ولتعرف منه قبل أن تعرف من ابنتها ...ولكن لأول مرة ( العقيد) يعيش توتراً حقيقياً وشديداً ....فالقضية لامست حياته!!....وطبعاً سيفقد سنده الأكبر ومحامية الدفاع عنه حماته المحبوبة بعد أن تدري أنه هو من أوصل ابنتها لهذا الحال..!!...لفت انتباهها تيبس أطرافه الممسكة بالمقود وانعقاد حاجبيه والشد على فكيه .!!...قررت ان تليّن الجو عليه فهمست بحماس:
" لو سمعت نبض قلبه ستطير فرحاً عندما وضعوا لها جهاز تخطيط قوة المخاض....كان مثل سمفونية جميلة للحياة تُعزف في منتصف الألم ....كم بكت صغيرتي عند الاستماع له !!.."

أطلقت ضحكة بريئة تليق بطيبتها وأضافت:
" يبدو أن ابنك ينحاز لك !!.."

تطلّع عليها بعدم فهم وبالكاد أخرج كلمته بعد أن ركّز بالشارع امامه:
" لمَ؟!.."
أجابت وهي سارحة بالطريق مع ابتسامة تزيّن محيّاها:
" حاول الطبيب تحريكه ليعرف نوع الجنين عند فحصه بجهاز الموجات الفوق صوتية لكنه بقي متكوّراً على نفسه ولم يتزحزح لتتضح الرؤية ...لا بد انه سينتظر حتى تكون معه ليسمح بالكشف عن نوعه ...غداً الموعد عند طبيبتها اذا خرجت اليوم!!....وحتى قال الطبيب مازحاً ....* يبدو أنه سيكون عنيداً من البداية ..يا ترى مَن مِن والديه يحمل صفة العناد ؟!..*... فقلت له بصراحة ..لا تحتار لأن الاثنين يتنافسان بمن عقله يابس أكثر !!.."

إن تأملت واعتقدت أنها اسعدته بهذا فهي مخطئة ...بل مخطئة كثيراً....لأن عقله يعمل هذه اللحظة فقط بكيف سيخبرها ومن اين يبدأ وكيف ستكون المواجهة مع ضفدعته الجبلية وكبريائها العالي ؟!.....شدّ انتباهها عدم تفاعله وتجاوبه معها فسألت بوجل وهي تحدّق به مستغربة:
" ما بك ؟!...ألن تقول كلمة ؟!.."

ابتلع ريقه ومرر لسانه على شفتيه ثم تنحنح وهتف مضطراً مع أزوفه لشارع المشفى :
" تشاجرتُ مع دنيا!!...وعاملتها بقسوة وفظاظة...و...وربما كان تصرفي ظلماً بحقها....سأفهم منها عند وصولنا... "

ثم تابع من غير مراوغة وهروب وهو يقصّ عليها بالتفصيل الذي حدث بينما هي تستمع له بإصغاء تام دون مقاطعة ولما وصل لتصرفه القاسي معها اتسعت عيناها مشدوهة !!....ظلّت ثواني صامتة دون ان تبدي أي ردة فعل كانت وكأنها تتذكر شيئاً ما ثم استعادت قوتها سائلة غير مهتمة بالسبب كاهتمامها بما رأت عليها :
" هل العلامات التي على ذراعها منك ؟!.."

غضن جبينه متسائلاً بريبة:
" أي علامات ؟!.."

أشارت لذراعها فوق المرفق مجيبة بعد أن اتشح وجهها بالحزن والخيبة:
" يوجد علامات على ذراعها وعندما بدّلت لها الممرضة ملابسها سالتني عنها وقالت..*..إن كانت تتعرض لعنف أسري يمكنني مساعدتها بجلب أخصائية اجتماعية لها وكذلك بإخبار الشرطة بذلك...* فاعتقدتُ أنها هي من آذت نفسها من شدة اوجاعها دون أن تدري وضحكتُ لأفكار الممرضة الوهمية ليتبيّن لي أنني أنا الموهومة !!...."

ثم بدأت تسخن رويداً رويداً منفعلة وطالعته بضيق وسألت بحدة لم تعامله يوماً بها :
" لكن أنت كيف صدّقت أن ابنتي تفعل هذا ؟!.....ألا تعرفها ؟!....ألا تثق بها ؟!...لمَ لم تعطها الفرصة للتعبير عن نفسها ؟!....ما هو الأهم عندك لتتركها وتذهب ؟!....ألله أعلم ماذا ظنت وماذا أحسّت عندما أدرتَ ظهرك لها....مؤكد انكسار قلبها الصغير هو الذي آلمها..."

هزّت رأسها باستنكار وتمتمت كأنها تلقّت خيبة امل كبيرة بصهرها العزيز:
" لم اتوقع منك هذا مهما تخاصمتما ....كيف تقسو على صغيرتي...كيف؟! ؟!...هل جسدها النحيل الناعم يتحمّل خشونة رجل ؟!..."

وترقرقت الدموع في عينيها وهمست بينما كلامها ألجمَ لسانه:
" والدها لم يلمسني يوماً لمسة واحدة بضغينة مهما تشاجرنا .....كان يختار البُعد قليلاً لنهدأ كلينا ثم نتواجه ونضع النقاط على الحروف ....لم نعطِ لأي سبب كان أن يحفر فجوة بيننا !!....كان يحاربني بحبه لي وعطفه عليّ وحنيته ورقته معي حتى أخجل من نفسي إن كنتُ مخطئة!! ...كان دوماً يقول لن يعطي دنياه الّا لرجل يضعها فوق رأسه ولا يؤذيها وحتى ابنه بكره الغالي عليه وصّاه بها وأن يرمي نفسه للموت من أجلها ولا يسمح بأن يصيبها أي مكروه ولا أن تخدشها نسمة هواء !!.....إن قللت أدبها تأكد أنني سأقف ضدها ولن اسمح لها وأنت تعرف ! ....لكن أن تُعاقب على خطئها عن طريق العنف هذا ما لن ارضاه بتاتاً !! .....وكيف إن كانت ادعاءات قريبتك كاذبة ؟!....وحتى لو فقدت دنيا صوابها ونطقت بشيء ثقيل او جارح فاعلم أنها سمعت ما يفوق حملها !!....آسفة سامي....أنا سأستمع لابنتي وسأصدق كل حرف ستقوله لي مثلما أنت صدقت شقيقتك وابنة خالتك ....ولا أعدك بأن اساعدك بهذه المهمة بل سأتقبّل قراراتها واختياراتها دون أن انطق حرفاً... !!...لا خلاف على معزتك عندي.... وربي إني أضعك في خانة أولادي ....ولو عشتُ ألف سنة لن اوفيك حقك بما فعلته لأجلنا.....وليس لأني أم وسأتخذ لقبي ذريعة....كلا يا سامي !!....بل مثلما في الماضي اخترت الانفصال عنها لأنك رأيت أنها اخطأت بحقك وانا احترمت هذا الشيء ولم يتغير أي شعور مني ناحيتك آنذاك ولُمتها هي ...الآن عليّ أن أنصف واحترم اختيارها مهما كان.. بلا تدخل مني .....ليست ابنة محيي الدين الوقحة وقليلة التربية يا سامي ....لقدّ ربيتهم برموش عينيّ وأكملتُ على درب والدهم في تربيتهم ...حاولتُ قدر استطاعتي أن يتخذوا القرآن نوراً لهم ومن هدي النبي صلى الله عليه وسلم نهجاً لحياتهم .....مهما اخطأوا هم بشر ولكن فطرتهم السليمة ستتغلّب عليهم في النهاية !!..."

كان يقف أمام باب المشفى في سيارته وهو يصغي لها متحكّماً بنفسه دون السماح لعينيه بسكب عبراته ....أحسّ نفسه وضيعاً أمام كلماتها مع أنه لا يلام كثيراً فردة فعله طبيعية ولم يفعل كارثة !!...لكن هو أكثر من يعرفهم ويعرف أن زوجته رغم دلالها الّا انها لن تتعامل مع أحد بهذه الصفاقة دون أن يدوس لها على طرف !!....ارتخت ملامحه وهمس بصوت مخنوق أبح وهو يستدير اليها بشكل أكبر ويمسك يدها يقبّلها بعد أن لمح دمعة نزلت من عينها بدت وكأنها نزلت لتلسع قلبه :
" آسف أمي.....معك حق....اخطأتُ في تسرّعي بالحكم !!.....سمحت للشيطان بأن يعبث باعداداتي !!...أعوذ بالله منه !....أرجوكِ سامحيني"

تلاحقت دمعاتها وخرجت منها شهقة رغماً عنها وهي تحاول ابتلاع شفتيها تحاول الثبات وقالت بحنية وهي تحاوط كفه الممسك بيدها الأخرى:
" لا تطلب السماح مني بنيّ.....اجعل ابنتي تسامحك لا أنا ...."

هتف بوجع :
" لكنك تستطيعين مساعدتي !....ألن تعتبريني مثل هادي ؟!....ألا يمكن أنه ايضاً يقسو على زوجته وهي ليست مذنبة؟!....مؤكد لن تخاصميه او تغضبي منه !!..."

رفعت كف يدها توقفه وقالت بصوت ثابت حازم وجازم :
" تأكد لو علمتُ أنه يتقاوى عليها بجسده لن أسمح له اطلاقاً.....أنا لستُ غاضبة منك ولا أغضب منه لكني لا أقبل بأي عذر لرجل يرفع يده على امرأة وسأسامح إن صفحت هي عنه وعلى شرط بعدم عودته على فعلته القاسية ....نحن بشر ونخطئ لكن يختلف الحال من شخص لآخر حسب البيئة التي عاش بها والتربية التي تلقّاها ....وأنتم.....أجل أنتم أبطال الوطن الثوار الشرفاء إن استعملتم عضلاتكم على اولئك القوارير فماذا ستتركون للجبناء والأنذال ؟!.....وقسماً لو رأيتُ ابني سيمدّ يده عليها أمامي سأحول بينهما كي أتلقّى الصفعة بدلاً عنها !!...."

عادت لصوتها الهادئ الجريح :
" هيا لننزل وعليك أن تتوقّع أي ردة فعل عنيفة منها ....فأنا أدرى بابنتي كيف تكون إذا جرحت وماذا إن كان الجرح من حبيب عمرها ؟!.."

هزّ رأسه بقلة حيلة يوافقها على كلامها ثم ترجّلا من السيارة ودلفا الى المشفى....!!...

×
×
×

تقدّما معاً في رواق المشفى متخذين وجهة الغرفة التي ترقد بها.....لم يخفَ عليها انتكاسة رأس الجبل الشامخ جانبها... لم تره يوماً بهذه الصورة....جبل قمته تآكلت وأساساته باتت هشة....كانا يسيران يقتربان من هدفهما بينما كلاهما شاردان يفكران نفس التفكير....هل ستسامح وتصفح ؟ أم أنها ستثور وتجرح ؟!.....عند وصولهما الى غرفتها أعطت والدتي اشارة له بأن يسمح لها بالدخول اولاً كي تهيؤها.....لم يعترض واومأ برأسه ايجاباً والندم يمزقه !!...عندما دخلت وجدت السكون يحيط بها سوى من صوت ذاك الجهاز!!....كانت نائمة بوجهها الطفولي النقي ....حسست على خدها برأفة مع ابتسامة خفيفة ثم تركتها واتجهت الى باب الغرفة قائلة:
" ادخل بنيّ....انها نائمة!!..."

ما إن خطى الى الداخل حتى اتسع فمه بابتسامة متعجبة وهمس بعدم تصديق مع دمعة أبوّة صافية خانته تتبختر على خده منتهية بين شعر ذقنه المهذّب:
" هـ...هل هذا.....صوت ....قلب ابني ؟!.."

شقّـت ثغرها ابتسامتها العطوفة وأجابت:
" أجل...هذه نبضات قلبه الصغير!!...حماه الله..."

" آمين.."
أمّن خلفها وزلف من سرير النائمة ....خفق قلبه بجنون...رغب أن يضمها إليه بقوة لكنه مرتاب وخائف أن تنهض اذا أحسّت به وتطرده شر طردة.....منع نفسه عن الانجراف خلف مشاعره المشتاقة!....أزاح الكرسي وجلس ملتصقاً بسريرها دون أن يحيد نظره عنها ...رفع يده بتردد مرتبكاً ليمسك يدها المغروز بها الابرة الموصلة للمحاليل....تنحنحت مستأذنة من كانت تقف خلفه لتترك له المجال الانفراد مع زوجته!!....لم يهتم للتأكد من خلو المكان ....انحنى قليلاً مع رفعه ليدها وقبّلها بأسف وهمس قرب أذنها:
" حقك عليّ يا عينيّ الشهد....حقك عليّ يا روحي ودنيتي...!!.."

تأمّل وجهها الشاحب بحنان وعضّ شفتيه بقهر لرؤيته عينيها الغائرتين ولكن كل هذا لم يؤثر على سحر وجهها الملائكي البريء....مدّ كفه ومسّد وجنتها بظهر أنامله الرجولية الطويلة بحُب ثم رفع نفسه عن الكرسي ماداً جسده ليطبع قبلة على جبينها ....غضنت جبينها وتململت مكانها لحظة اقتحام عطره فتحات انفها الصغير...رجع للخلف جالساً عندما رأى حركتها.....فتحت عينيها بمشقة من ثقل الأدوية ....وقع نظرها على وجهه الوسيم ,الطيب , السموح ...همست بهذيان باسمة برخاوة :
" حبيبي.....سامي !!.."

عدّل لها حجابها المرتخي يغطي شعرها جيداً ومسّد على رأسها من فوقه يطالعها بنظراته العاشقة المختلطة بالندم وتبسّم ابتسامته الرجولية وهمس بتوق:
" عينا سامي !!....اؤمريني يا عينيّ الشهد..!!.."

تابعت حركة يده التي تجتاز وجهها وحرّكت يدها بوهن تمسكها تلتمس منه الأمان فارتفع الكم القصير الواسع الخاص بلباس المشفى ليلمح آثار أنامله الخشنة على ذراعها وبردة فعل لا ارادية أزاحه أكثر ليرى بوضوح بصماته العنيفة ....قطب حاجبيه باستياء شديد دون أن يبعد نظره فلفت انتباهها على ما ينظر فأمالت رأسها قليلاً نحو ذراعها ولمّا رأت العلامات كانت كصفعة توقظها من سباتها وهذيانها فصرخت غاضبة بعد استيعابها لكل ما حدث وهي تفزّ جالسة مبتعدة عنه للطرف الاخر :
" أمّي...ماذا تفعل هنا ؟!.....أمي....تعالي أمي...."

انتصب واقفاً مدهوشاً وهمس بخفوت:
" اهدئي حبيبتي..."

علا صوتها أكثر بانفعال :
" أمّــــــــــي.....تعالي !!.."

أدار راسه جانباً صوب الباب لحظة اقتحام حماته الغرفة ووجهها يعتريه الوجوم حتى وصلتها تحتضنها وتقول:
" اسم الله عليكِ....اهدئي صغيرتي....اهدئي انا هنا معك .."

أخفت وجهها على صدر أمي تفركه باكية وتشدّ بقبضتيها على ذراعيها قرب كتفيها وتقول بنشيج هزّ أوصاله وقيّد حركته وعطّل لسانه:
" أمي اخرجيه من هنا....لا أريده عندي أمي.....اخرجيه !!..."

اقترب وقال :
" دنيا اسمعيني!!.."

دثّرت رأسها أكثر وأكثر وصرخت بقسوة :
" أمي لا تجعليه يتكلم.. لا ارغب بسماع صوته ولا برؤيته....فليذهب من هنا أو سأصرخ بأقوى قوتي وألمّ عليه المشفى بأكمله ..!!.."

فتح فمه ليتكلّم فعضت شفتيها مع ايماءة بعينيها ورأسها تخبره بهم بالسكوت والخروج تفادياً لتفاقم الوضع فحرّك رأسه يمنة ويسرة محوقلاً موجوعاً وخرج يجرّ قدميه جراً من عظمة الهم الذي يحمله على كاهله...!!

×
×
×

بينما في الداخل هدأت واستكانت بعد لحظات من خروجه وشرعت تحكي لوالدتنا الذي حدث بالتفصيل كان (سامي) يجلس في الخارج على حافة اسمنتية لحوض أزهار فارغ سارحاً في حاله ولِما وصلا إليه بسبب تسرّعه بالحكم وعدم استماعه إليها بالبداية....تساءل بمهابة وارتياع في سره.."....هل ستتحول حياتي السعيدة الى تعيسة بيدي ؟!....ماذا كان حصل لو استمعت لها ؟!....".....لقد أنّب نفسه لأنه لأول مرة لا يتخذ نظام التحاور الذي اعتادا عليه عند كل مشكلة يقعا بها فهو يعي كم أن الحوار يأتي بنتائج ايجابية بين الزوجين ويجعل بينهما مودة وطمأنينة في العلاقة وبه يستطيعان حل الكثير من الأمور وأن العصبية الزائدة وعدم الاصغاء للطرف الآخر يولّد كوارث كبيرة مهما كانت بدايتها صغيرة لا تستحق !!....كم كان ماهراً في الاستماع للجميع عامةً ولها خاصةً....منذ متى تناقل كلام النساء يهيجه ويضرب عقله ؟؟!...وكلام حماته الحبيبة لم يفارقه!!...يعترف أنها على حق ولِكم شعر بالخزيّ من نفسه أمامها ؟!.....وبين هذا وذاك استشاط غضباً من كل الدنيا فجزّ على أسنانه ثم كوّر قبضته اليمنى وتمعّن بها لثواني معدودة وهو يرفعها ازاء وجهه وباستدارة خفيفة لرأسه أخفض عينيه لسطح الاسمنت الجالس عليه وبكل ما أوتيَ من قوة لكمه لكمات شرسة كأنه يعاقب يده لأنها آذت دنيته وهو يتمتم حانقاً بغل من ذاته:
" تباً يا جبان !!.."
" كيف تجرأت على أذيتها ؟!.."
" تستحق كل ما تعيش يا جبان.."
" هل ظننتَ نفسك رجلاً الآن ؟!.."

وأكمل بضرباته من غير وعي حتى نزفت الدماء من مفاصل أنامله .....كان يلهث محترقاً...كان يزبد ويرغد ناقماً من كل شيء!!......رفع نظره للسماء حيث تلبّدت بالسُحب الرمادية ....وبدأت الدموع تسيح منها على شكل رذاذ خفيف ثم ما لبث حتى اشتدّ بصورة أقوى لتنهمر عليه المياه بغزارة ليستقبلها وجهه الحزين دون اهتمام لأي حال توصله ورفع يديه برجاء للأعلى بعد أن غُسلت دماؤه ومن عمق قلبه هتف :
" ياااا رب....اللهم اجعله صيباً نافعاً....!!.."

غرق وغرقت ملابسه بالأمطار ....لم يأبه لانشقاق السماء من البرق ولا من هدير الرعد ...ظلّ مكانه كأنه يريد غسل وتطهير ذنوبه معها ...!!....ولمّا هدأ الجو قليلاً....استقام واقفاً وأنّ متأوهاً رغماً عنه لشعوره بألم يده التي نالت العقاب....تطلّع على مدخل المشفى بأسى وسار بتباطؤ نحو سيارته....ركبها وانطلق عاصفاً الى تل الصقور والمكان الذي يستقبل فرحنا وأوجاعنا.....ترجّل والرياح عاتية تحرّك شجرة الخروب بعنف ثم اقترب مجازفاً الى الصخرة التي تتحمل ثقله والتي تشهد على أفراحه ومآسيه ....لم يعد يعلم أيحارب ثورة العشق أم ثورة الحرب ؟!....مسك حجراً بيده الجريحة وألقاه فخانته قواه من شدة الوجع ولم يحصّل حتى على أدنى نقطة فأمسكها بيده الأخرى يضغط عليها وعادت الدماء لتنزف منها ومعها نزف قلبه بنزيف خرج من عينه بدمعة ساخنة تحكي عن السعير الذي يتلظّى به هو وحده وهدر صارخاً بصرخة شقت روحه..:
" آآآآآآه يا دنيا...!!.."


~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~


كنتُ أشق الطريق وأحارب السير بينما التي جانبي تطأطئ رأسها الى حجرها حيث تمسك بيدها العقد الذهبي بعدما ألقيته على فخذيها لحظة ركوبنا السيارة...لم تحيد بعينيها عنه!!...لا بد أن مشاعر جمّة تعتصر قلبها وأفكار مرهقة تزهق عقلها!!....اختلستُ نظري لها فتذوّقتُ طعم الكراهية في ملامحها ....عدتُ ببصري للطريق ولم يكسر الهدوء المميت بيننا سوى تراشق حبيبات امطار متفرقة على الزجاج الأمامي والسطح الحديدي للمركبة.....كنتُ أقبض المقود بكلتا يديّ بشدّة داعساً على الوقود بنقمة....تطلّعتُ بالمرآة الداخلية عند انزعاجي من زامور شاحنة تسير خلفي...تمتمتُ شاتماً بكلمات غير مفهومة ولمحتُ الخدوش المرسومة على عنقي من أظافرها....حررتُ يمناي وتحسستُ مكانها شاعراً بالحرقة ...طحنتُ ضروسي بغيظ وازددتُ بضغطي على الوقود علّني أصل بسرعة لأني ما عدتُ أحتمل أنفاسها الكارهة لي !!.....بدأت أعصابي تنفلت من عسر الموقف الذي أنا به.....دقائق وتوقفتُ في الساحة والتي جواري لم تكن ترفع رأسها ولا حتى بفضول الى أين المصير حتى فتحتُ بابي هاتفاً بجفاء:
" انزلي...!!."

حرّكت رأسها بقلة حيلة ناظرة اليّ نافرة مني والدموع متكدسة بعينيها التي تحولت كلهيب جمر....اشرأبت بعنقها ترنو في كل الاتجاهات بتيه ثم أعادت وجهها الذي ارتسمت عليه معالم الدهشة نحوي هامسة بتساؤل جاف:
" لمَ أتينا لهذا المكان ؟!....هل تعرفه؟!"

رفعتُ زاوية فمي بشبه ابتسامة مكلومة وقلت:
" انزلي لتعرفي...!!.."

لمّا نزلتْ اومأتُ بحاجبيّ وعينيّ وسألتُ:
" ماذا يعني لكِ هذا المكان ؟!.."

صمتت قليلاً وبدت لي كأنها كانت تقيّمه عندها قبل أن تجيب بافتخار:
" هذا الماضي الجميل الذي انتهى قبل أن يبدأ.....كان يربطني به أعمال أمي وخالتي الخيرية لأهله !!..."



اومأتُ برضا لكلامها دون أن أنبس بكلمة ثم سرنا الى بوابة المخيم فبدأت تتباطأ خطواتها وكأن عقلها يضع حمله الثقيل على عاتقها باحثاً عن الأسباب التي لم تهتدِ اليها تلك اللحظة!!....مشيت بخطى ثائرة واسعة اسبقها وبين الحين والآخر التفت خلفي هاتفاً:
" هيا...تعجّلي..!.."

قبل أن أصل الخيمة 86 التي ظهرت لنا استدرت اليها وتصلّبت مكاني مع اقترابها مني حتى كادت تصطدم بي...تفحّصت خلو المكان من سكانه إذ أنهم كانوا منشغلين بأعمالهم ثم انتزعتُ العقد من يدها وألقيته أرضاً فاشتعلت ملامحها وقالت بغيظ خافت:
" من سمح لك أن تلقيه أرضاً؟!..."

وانحنت تلتقطه برقة وتبعد الغبار عنه بحنان كأنه يملك روحاً حتى رفعت رأسها تسلّط سماءيها على أرضي بارتياب عندما نطقت:
" جوابي لسؤالك الأول....أين وجدته ؟!..."

أشرتُ بسبابتي بحزم على الأرض وخافقي بدأ يخفق بجنون عندما عاد به الزمان لما قبل حوالي أحد عشر سنة وهتفت بصوت قاسي متأثراً بقسوة الموقف حينها:
" هنا بالضبط وجدته يا ألمى عاصي رضا ...!! .."

رعشة سرت في سائر جسدها لحقتها بتضييق عينيها وهمست ببلاهة :
" كيف؟!....لم أفهم.....يعني متى ؟!.....أنا فقدته منذ سنوات ولا اذكر تماماً أين !....أنت ....لكن أنت ما الذي جاء بك الى هنا حتى تجده ؟!.."

ساد الصمت للحظات وكأننا وحدنا على هذه المجرّة.....رحتُ اتأمّل وجهها.!!.....لبرهة تهتُ في السماء المرفوعة بلا عمد في عينيها ثم استشعرتُ تشنّج جسدها بعد ارتجافه ولاحظتُ العتمة التي حلّت على حدقتيها عندما حدّقت بي دون أن ترمش بعد كلماتي التي زلزلت كيانها بينما كنتُ مشيراً للخيمة:
" فتاة صغيرة مدللة كانت ترتدي فستاناً أحمراً زارت هذا المكان بيومٍ من الأيام الصيفية.....أضجت المخيم بمن فيه وكأنها سمو الملكة الآتية من كوكب آخر ....استقبلها أهله بكل سرور وحبور ....جالت مع صغيرتين في ارجائه لينتهي بها المطاف على باب هذه الخيمة!....فقابلت مراهق متشرد منفي من وطنه ...زارته لتلقي طقوس سحرها عليه عندما خدّرته برائحة الأناناس المنتشرة من شعرها الفاحم ....كهربت خلاياه بصوتها العذب ورقتها....و...جعلته يحلق بعيداً عن واقعه المرير عندما التقت عيناها الزرقاوان بعينيه الترابيتين.....وحدها من كحّلتهما له برؤياها ...لا غيرها من سلبت لبّ عقله....من أجلها خانه قلبه....ولأنه لم يجد وطناً يأويه ولا بيتٍ يحميه أجبِر على اللجوء !!......فاختار أن يكون..... لاجئ في سمائها ...!!.."

وبعد تحديقها المطوّل بي من هوْل ما سمعت أكملتُ ببحة خافتة :
" تلك المدللة كانت مرعوبة خائفة باحثة عن الأمان....فلم يأبه ذاك الفتى المراهق لابنة من تكون ولم يضع حدوداً وكان كل ذنبه أنه فتح لها أحضانه لترتمي فيها كي يهدئ من روْعها ويعطيها الطمأنينة ولأن بذكر الله تطمئن القلوب وترتاح النفوس شرع بترتيل آيات تسكنها ولم يعلما كم استمر الحال وهما على وضعهما حتى أتى كلب من كلاب والدها يبعدهما عن بعضهما كأنها تلطّخت أو تنجّست من ابن المخيم وبعد شجار صغير وجد الفتى العقد الذهبي ذو القلب هنا وكان ذنبه الثاني أنه ناداها ليعطيها اياه لتنهال عليه الضربات من حيث لا يدري وببطش دون ..."

كنتُ مستمرّا بسرد روايتي واشعُر أن أنفاسي ضاقت واكفهرّ صدري واهتز صوتي بكراهية منهم عند كلماتي الأخيرة ثم رفعتُ ذراعي أمسك مرفقه بيدي الأخرى وأكملتُ بحدة من بين أسناني:
" دون رحمة على أيدي كلاب والدها حتى أحدثوا اعوجاجاً في مرفقه يلازمه كل العمر.....يا ابنة سعادة الوزير.."

ارتجف جسدها كارتجاف السنابل بعشوائية عند هبوب ريح مباغتة لحظية....اختنقت العبارات في حلقها الذي بدا مثل الأرض الجافة ...ناظرتني بنظرات خاوية كمن استعصى عليه الفهم...بذلت قصارى جهدها عسى أن يخرج صوتها ويصلني وهي تهمس :
" هـَ...ها.......هادي؟!!.."

أطبقتُ عينيّ لأسترد القليل من أنفاسي ...فتحتها لأقع أسير عينيها السماويتين اللتين انسلخت عنهما لمعة الحقد لتتغيّر الى لمعة حب وحنين وقلت بهدوء تام:
" اجابتي لسؤالك الثاني.. من أنت ؟.....أجل... أنا الهادي ....يا مالكة قلبه.."

دنوتُ خطوة ودنتْ بمثلها....نفسها تهفو لي كما نفسي تهفو لها ....غزت ابتسامة بريئة ثغرها فأضاءت وجهها....خفقت أهدابها عندما داعبتها نفحات من الهواء فازداد الشوق بقلبي راجياً لمسة عشق وهمسة صفح منها....تهادى صوتها متزناً وهي تمد كلتا يديها واحدة تداعب وجنتي وذقني والثانية تتحسس كتفي وتنزل بلمساتها على ذراعي لتعبث بأحاسيسي وتجول بزرقاويها على تقاسيمي لتتأكد أنها ليست بحلم وأنها تعيش هذا على أرض الواقع:
"...أنت هادي؟!..صاحب الحضن الدافئ؟!....رباااه....كنتَ جنبي وكنتُ دائماً أراك أمامي ولم اعرفك؟!....لا اصدق!...أي حلم مجنون هذا ؟!...."

زاغت عيناها وشعرت بالدوار يجتاحها أضحت وكأنها في ضباب لا تستدل الطريق وبجزء من الثانية خارت قواها وتهالكت ساقطة فاقدة للوعي فلقفتها من فوري بين ذراعيّ اخبئها بين احضاني ثم أدخلتها الى الخيمة أضعها على الفراش الأرضي وبدأتُ أطبطب برفق على وجنتيها وأنا أنادي على الخالة (فاطمة) فأقبلت اليّ مسرعة قلقة وهالها اغماء سمائي ....ظلّت واقفة متفرجة بصدمة فطلبت منها احضار زجاجة عطر فانصاعت في الحال ولما عادت لي وبينما كنت أرش على يدي وأمسح وجهها وقرب أنفها لتستفيق سألتني بريب وتوجس الخالة (فاطمة):
" ما بها بنيّ؟!..وكيف التقيتما ؟!.."

أجبتُ باقتضاب وأنا منشغلاً بحبيبتي:
" ألمى زوجتي يا خالة....لا تساليني شيئاً....لاحقاً سأوضّح لكِ..!.."

شهقت بذهول ووضعت كفها على فمها تكتم ما تبقّى من شهقتها ثم استجمعت رباطة جأشها وقالت:
" يا الهي....إنها زوجة رجل الأعمال الشهير يامن الهاشمي....ما الذي تهذيه هادي يا بنيّ؟!.."

تبسّمت دون رغبة وقلت:
" كلاهما واحد...لطفاً لا تسأليني عن شيء الآن!!..لو سمحتِ...اتركينا وحدنا خالة فاطمة "

×
×
×

استغرقت خمسة عشر دقيقة في غيبوبتها ....استفاقت ترمش بعينيها لتستعيد ذاكرتها ...كانت ملامحها ذابلة كوردة جوري حمراء عطشة.....تطلّعت حولها وهمست :
" أين أنا ؟!....ما الذي جرى ؟!.."

تصادمت نظراتنا فلم استطع لجم مشاعري الحنونة عنها فهتفت بتأني:
" استعيدي عافيتك الآن...هذا المهم!..."

يبدو أنها أدركت كل ما حصل معها ففزّت عن الفراش ثائرة فأحست بالدوار مجدداً وتخلخلت مكانها...كنتُ قد وقفتُ مع وقوفها فأمسكتها بالحال وألصقتها بي بعد أن جذبتها عنوة وكلي شغف لها وعطف عليها وهمست :
" اجلسي حتى تستعيدي اتزانك حبيبتي ...!!.."

كادت أن تضيع في شعاع أرضي وأن تسكر من عطري وأنفاسي...لثواني....فقط ثواني رأفت بحالي ولم تتحرك قيد أنملة تاركة لي المجال للتحليق في سماءيها!!...رجوتُ مجدداً داخلي أن تصفح عني فتلاشى رجائي عندما دفعتني عنها.!!.....سكنت دقيقة ثم هتفت بتحشرج بكلمات أخرجتها من وراء قلبها وأرغمت لسانها على نطقها:
" لا شأن لك بي.....ولا تقل حبيبتي!...أنت خائن ومخادع و....وحقير....أنا لا علاقة لي بأمثالك!......والآن ستقول لي ما الذي تريده مني ومن أبي ؟!.."

هل الصفات التي نعتتني بها جرحتني ؟!...أجل وبشدّة.....هل نزفت روحي ؟!....ليس وحدها إنما آزرها بالنزيف قلبي الخائن....هل أنت سعيد يا قلبي ؟!....افرح بكلام التي خنتني من أجلها.....افرح وأقم مهرجانات النصر عليّ.....افرح إن كان لك نصيب لتذوق الفرح يوماً ....فنحن خُلقنا لنعيش ثورة عشق وحرب.....وأيهما يكون الفرح حليفه ؟!....لا نصر تام ولا سعادة كاملة !!.....اسألك يا ربي أن تنصرني بالآخرة وتجعل سعادتي هي الفوز بجنتك التي وعدت....!!
{{ وَعَدَ اللهُ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ الله أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ }}

أجبتُ بعد انتفاضة المشاعر التي عشتها حاملاً أملاً على طرف لساني:
" الذي أريده منك....هو أنت بقلبك العاشق وروحك النقية .....أما مِن والدك..هذا ستعرفينه بالمستقبل القريب ان شاء الله ..."

عصرها الغيظ غيرةٍ عليه وصرخت بلهجة غاضبة:
"..لقد حطمت قلبي ولوثت روحي...أنا أعلم أن عملك مع اولئك الاوغاد الأنجاس هو تدمير أبي...!!.."

لقد صبرت عليها وتحمّلت اهاناتها لأخوتي الثوار الأبطال بما فيه الكفاية!!....
احمرّ وجهي وانفجرت غاضباً أصيح بصوت جهوري أجش :
" لا تنعتيهم بالأنجاس والأوغاد...هم الشرفاء الذين يقدمون أرواحهم فداءً للوطن....لتنعمي بحياة كريمة أنت وأمثالك....لذا احفظي لسانك أفضل لكِ..."

قالت بجرأة وتهكم غير مكترثة لغضبي:
" هل هم أسيادك وأنت عبدٌ عندهم لتشتعل الى هذه الدرجة غيرة عليهم ؟؟!....ماذا فعل لكم والدي لتملأكم الكراهية؟....أم كل هذا حقدٌ وغيرة من نجاحاته ؟!..."

قاطعتها هادراً كالرعد لدرجة انتفضت مجفلة مرعوبة :
" نعم غيرة من نجاحاته !.."

وسحبتها من معصمها خارجاً بها ثم أشرتُ برأسي للخيمة هاتفاً بوجهي المحتقن ونبرتي الحادة:
" هذه احدى نجاحات والدك....أنظري وافتخري!..."

كالبلهاء نقلت بصرها بيني وبين التي أشرت اليها دون أن ترخي ملامحها الحاقدة عن باقي تقاسيم وجهها فأضفتُ مقهوراً:
"مثلاً تشريد الأبرياء من بيوتهم هذا نجاح.."

رفعتُ مرفقي مجدداً وتابعتُ كارهاً:
" بطشه على الضعفاء...هذا نجاح.....سجلي!.."

جذبتها من ذراعها ومشيتُ الى أن وصلت بوابة المخيم من الخارج ثم بإصبعيّ أمسكت ذقنها الصغير ورفعتُ لها راسها لفوق حيث صورة والدي هاتفاً والغضب تملّكني أكثر :
" قتل قائد شريف مجاهد غدراً وهو أعزل .....هذا نجاح !!.."

أفلتها بغل ودفعتها للخلف مع ارتفاع صوتي ...كنتُ أصيح في عصبية بالغة وغضب عارم دون السماح لدمعة طفل يعيش داخلي اصبح رجلاً قبل أوانه أن تهرب من سجن عينه وتكشف ضعفه بينما كنتُ بقبضتي أضرب بعنف صدري:
" حرماني وأختي من والدنا ونحن صغيران .....حرمان أخي من حليب أمه الذي جف حزناً.....ركوبنا قوارب رثة ورائحة الموت تلفحنا من كل الاتجاهات في وسط البحر وتحت المطر .....هذا نجاح بل يجب أن تعلّقي وساماً على صدرك معتزة به !!..."

صمّت أذنيها بيديها وهزّت رأسها على الاتجاهين كأنها تنفض عنها ما سمعت وصرخت مغمضة العينين:
" كفى.....قف أرجوك....أصمت..!.."

اقتربتُ منها مبعداً يديها عن أذنيها وصرخت مستطرداً بنبرة أقل ارتفاعاً وخشونة أرمقها بنظرات حارقة تنذر عن البراكين التي تفجرت داخلي:
" كلا لن أصمت وستسمعين للنهاية!........ادخال أسلحة غير قانونية للوطن لقتل الأبرياء....التجارة بأجساد الفتيات.....التعاون مع أصحاب السوق السوداء وتجار الأعضاء البشرية....أجل هذا جميعه نجاح من حقه أن يكرّمه الوطن عليه !!..."

صرخت بحدة وخذلتها عيناها لتنزل دمعاتها وتنهي جملتها ببكاء مرير مزّق أوتارها وفتت غشاء فؤادي:
" لا اريد أن أسمع.....أنت تكذب...هذه مجرد اتهامات لأنكم أعداؤه ..."

قلت بإيجاز وثبات:
" اذاً فلتسألي خالتك والسيدة ايمان...!!"

كأن شلال ماء بارد انهمر عليها لحظة سماعها جملتي....لحظات وهي متجمّدة مكانها فارغة فيها مصدومة....سكت صوتها وسكنت حركتها لتستجمع قواها بعد قليل وتقول بعجب وغرابة من فظاعة صدمتها بها:
" خالتي ؟!...ما دخل خالتي؟!..."

سكتت لبرهة وأردفت :
"..صحيح....صحيح خالتي!...."

رفعت عينيها تتفحصني بينما تتابع بضياعها:
" أجل....هي تعرفك بشحمك ولحمك منذ الصغر وظلت على تواصل معك طوال الوقت!!.....هـ...هل خالتي خدعتني ؟!.....غير ممكن!!... كـ...كيف خدعتني ؟!.....أ....أنت...أنت تتهمها كما تتهم أبي...تريد تفكيكنا...!!...."

استرجعت مواقف سريعة في دماغها وحاولت فك خيوط متشابكة عاشتها وبعد قليل صفقت كفيها ببعضهما وأطلقت قهقهة بجنون وهي تخرج كلماتها:
" ما أغبانـــي!!........يا لسذاجتي .....خالتي فاتن اشتركت في خداعي ؟!.....ألمى يا حمقاء ....تستحقين الذهاب الى الجحيم من غبائك !!.."

هارت قوتها وتساقطت أرضاً ناظرة الى الفراغ وصمت يهيمن عليها....صمت يخفي كل ذرة تحترق وتحترق داخلها ثم همست بشرود دون أن ترمش:
" ياااه...حتى أقرب انسانة على قلبي طعنتني بنصل الغدر....بمن سأثق بعد الآن ؟!..."

وعاد الاشتعال يكسو وجهها واللهب يسيطر على عينيها فرفعت رأسها تحدّجني بنظرة جديدة......نظرة فاقت كل الحقد الذي تحمله قلوب البشر وتخطت حدود الكراهية التي بين الأعداء....نظرة لم ارها قط في حياتي وقالت وشفتاها ترتعشان غضباً لا خوفاً:
" أغرُب عن وجهي...لا أريد أحداً منكم في حياتي.....هيا أغرب.."

وكررت كلمتها الأخيرة وهي تنهض بتأهب وتستدير لتذهب فلحقتها من فوري أقيدها بقبضتي الخشنة فحاولتْ نفض يدي عنها وتحرير ذراعها وهي تضربني بيدها الأخرى صارخة:
" ابتعد عني.....ابتعد يا أكبر مخادع رأته عيناي .."

قاومتُ أثبتها وقاومتْ تحاول تخليص نفسها ...انتفخت أوداجي وفارَ صوتي بغلظة والشرر يتطاير من عينيّ:
" هل تظنين أنني سأتركك بهذه السهولة يا قطتي الشرسة؟؟!....لم ننتهي بعد !!....لم ننتهي!...."

كانت تتلوى تحت يدي بألم وسخط وتصرخ:
" بل انتهى كل شيء....وصلنا للنهاية .."

" إن كانت هذه النهاية عندك فعندي هي مجرد بداية البداية ..!!.."
قلتها دون صياح وانحنيتُ أحملها على كتفي كالمخطوفة أثبتها بذراعٍ واحد وكأنني أحمل دمية صغيرة لا وزن لها وسرت بخطوات ثابتة قوية متجهاً الى سيارتي مستمراً بكلامي ببرود لا يشبهني هذه الساعة بينما كانت هي تلكمني بقبضتيها على ظهري وتركلني بقدميها ولم تترك شتيمة الا وغازلتني بها :
" لقد فقدتِ السيطرة على نفسك يا صغيرتي....تبارك الله لديك طاقة رهيبة يا حبذا لو تستخدمينها بما يفيد المجتمع .....سأنتهي من مهمتي وابدأ بترويضك يا مهرتي الجامحة ...نحتاج لوقت وجهد معك وأنا الآن لستُ متفرغاً ألمتي....!!.."

وصلتُ سيارتي ووضعتها بالمقعد المجاور وربطتُ الحزام عليها وتوجهت بطلاقة لمقعدي ثم اقفلت الأبواب لأنطلق عائداً الى قصرنا وهي تضرب طرفي وتضاعف شتائمها وأنا صابرٌ لا أبالي بما تقول وتفعل وكان كل تفكيري محصوراً بالخطوة القادمة......ماذا تكون؟!.....!!


~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~


حان وقت تلبية النداء....النداء للوطن في سبيل الحق....ترك كرسيه في الشركة منذ البارحة.....أمامه طريق طويل للحدود....كان عليه أن ينام ويرتاح ليعيد قواه ويجدد طاقته وقد فعلها ....وها هو الآن في ساعات ما قبل الظهيرة بعد أن شبع من نومته.....اتجه الى المرآة في غرفته بعد أن استحمّ لينعش روحه...كان يلف منشفته على خصره وبأخرى صغيرة يجفف شعره الفاحم الذي قام بحلاقته استعداداً !!....انه الجندي في الميدان ونحن كجنود نمتاز بشعرنا الحليق القصير!....رشّ مزيل العرق على جسده وتبعه ينثر عطره الرجولي على عنقه....انحنى قليلاً مقترباً من المرآة اكثر يتفحّص ذقنه النابت المهذّب تطلّع عليه ذات اليمين وذات الشمال فتراءت أمامه عندما زلزلته بحركتها اللعوبة المسرحية وهي تحاوط ذراعه وتضع كفها الرقيق على عضلات صدره بضحكتها البشوشة البريئة ولمّا مسكت له ذقنه تداعبه عابثة بمشاعره الرجولية ....لم يمنع الرعشة اللذيذة التي سرت في سائر جسده !!....تذكّر قسمه فجأة فنفض رأسه ليطرد شيطان حبه ثم تمتم مستغفراً....اتكأ بقبضتيه على سطح طاولة الزينة وتأمل الخيبات التي تحتل عينيه....تنهّد بعمق يحاول السيطرة على دقات قلبه التي تزعزعت من دموعها النقية في أول لقاء لهما في تلك البلاد.!!...استقام واقفاً واتّجه الى خزانته....ارتدى بنطاله الأسود المليء بالجيوب ولحقه بالبلوزة التي تحمل نفس اللون والتي تجسّد عضلاته منقوشة بـ ( كتيبة الفهد الأسود) ....أدخلها في بنطاله واغلق حزامه باحكام !!...اندمج ليل لباسه مع بشرته البيضاء الرجولية ليرسم مشهداً فائق الوسامة....فإن كان يليق زي الثوار بأحد فهو حتماً سيكون بالثائر الوسيم.....شيخنا (أحمد)....تناول من الرف الوشاح الخاص بنا ووضعه على كتفيه بإهمال...أخرج حذائه الأسود الصلب ذو العنق الوسط وانتعله يضع طرف البنطال داخله....انتصب بوقفته مدبراً الى المنضدة الموجودة جانب سريره ....أخذ من فوقها المصحف الشريف واستعاذ بالله ليقرأ ما تيسر من الآيات....انتهى من قراءته واستقام بشموخ وإباء مقبّلاً القرآن وارجعه الى مكانه ثم تناول من فوق خزانته رشاشه الاوتوماتيكي المتطور مع ذخيرته ووضعه في حقيبته الخاصة ثم خرج الى أهله يقبّل يديهما وجبينيهما طالباً الرضا وغاب عن الأنظار بدعوات والديه الصادقة ذاهباً الى صديقنا (بلال) الذي قام ايضاً بحفلة وداع مع أهله ومحبوبته ليلحقا في الفوج الأول من ثوارنا الأبطال....!!


~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

دلفنا الى ساحة المنزل فصوبنا أعيننا بوقت متزامن على سيارتها الرياضية البيضاء الجديدة التي تقف فيها بعد أن جلبها سائقنا الخاص من الشركة بطلب سابق مني !!..أوقفتُ سماويتي بمحاذاة بيضاها وبنظرة جانبية رمقتها لأراقب ردة فعلها.....شردتْ بها دون أن تحدث أي تغيير على ملامحها....بعد ثواني التفتت التفاتة يسيرة نحوي ....لم يفتني بريق بريء لوثته الآلام والأحزان لمع في عينيها وضنك وإرهاق قبيح استحوذا على وجهها الجميل من المعاناة التي تحياها والمقاساة التي ذاقتها والعراك الذي خاضته...!! .....والأهم أن رائحة عتاب قاتل شطر روحي تفوح من أنفاسها المتقطعة اللاهثة إذ أنها لم تستكين ولم تستسلم طوال طريقنا وهي تلكم وتشتم!!...فتحتُ باب السيارة مترجّلاً وبازدراء دفعتْ هي بابها وصلّبت قدميها قرب السيارة تتمعّنها ولم أكن أدرك بماذا تفكر وماذا تتمنى!!....
رغم القهر الذي يتأجج في احشائي عليها ووجعي من سعادتنا المنقوصة بل المهدومة ولأني أعلم أن محاولاتي في مواساتها وتطرية الأجواء المشحونة بيننا ستبوء بالفشل لذا سرت مقبلاً نحو مدخل القصر اسبقها بتباطؤ تاركاً لها الخلوة .....مجرد خطوات قليلة ليصلني صوت مدوي قوي صدر من تهشيمها لأول نافذة من السيارة بفأس مركون على عامود إنارة للحديقة لتلحقها بضربة تلحقها ضربة على باقي النوافذ وهي تطوف حولها وتصرخ باكية ببكاء يمزق نياط القلب:
" هل ستشتري سكوتي بهذه ؟!!.."
" هل خدعتني باهتمامك وحنانك ؟!.."
" يا لك من ممثل بارع ويا لكم من ممثلين جميعكم !!"
" كم سعرها ؟!...كم كلّفتك ؟!.....كم دفعت لشرائها؟!.."

وهتفت بصريخ صاخب ممزوج بالنحيب مستأنفة:
" سأكسر قلبك عليها مثلما كسرت قلبي.....سأحرق دمك مثلما حرقت دمي...."

تصيح وتهشّم الزجاج معلنة ثورة تمّرد وجموح :
" اذهب للجحيم أنت وهداياك اللعينة..!.."

وما إن أتمّت نفث سمومها عليّ حتى تليتُها بانفجار بركاني معلناً عن احتراقنا معاً عندما اتجهتُ الى سيارتي السماوية كفهدٍ أسودٍ هائجٍ وأخرجت بخفة وسرعة لا متناهية مسدسي من تحت المقعد ثم زأرتُ بشراسة هاتفاً:
" انظري كيف تكسرين قلبي وتحرقين دمي.....ليس بتلك خاصتك..."
وأشرتُ الى السماوية العزيزة على قلبي لأني اقتنيتها اقتداءً بعينيها ثم سحبتُ زلّاقته باستفحال وزلزلت المكان بوقع قدميّ على الأرض مقترباً من السيارة وبدأت اطلق الرصاص عليها وأنا استدير حولها بإقدام بينما هي اصابها الهلع لرؤيتها المسدس فأغلقت أذنيها وكمشت جسدها مرتاعة ومن أزيز الطلقات الغاضبة وكانت تسترق النظر بين حين وحين...اطلق وأهشّم زجاجها....اطلق محدثاً ثقوب بجسدها الحديديّ...أطلق وأشتم من أعماق عمري الذي ضاع وحبي المُقبل نحو الزوال وحياتي التي تحطّمت من خناجر الغدر والخيانة وأخيراً فجرتُ عجلاتها الأربع ثم جلجلتُ المكان بصوتي بعدما حررت يديها عند ابصارها لتوقفي عن ثورة جنوني:
" اكسري قلبي واقتليني....احرقي دمي وادفنيني.....ما عاد يهمني شيئاً إن لم تكوني معي .....أن رحل الحب سيحل الدمار...فلنُدمِر ونتدمَر....فلنحرِق ونحترق.....فلنقتِل ونُقتل....لا فارق عندي الآن إن بدّلت حبك لي بالكراهية......"

دنوتُ منها أمسكها من كتفيها وأهزها وأعصابي جميعها متشنجة وأكملتُ بوجهي المتوهّج احمراراً وعروقي البارزة المصعوقة:
" لا يعنيني أي شيء إن طردتني من جنة سماءيك لتعذبيني بجحيم أرضي....اصرخي واضربي واكسري......ليت جرح القلب المكلوم يبرأ بالمال مثل الجماد.....كل شيء يعوّض ويعود الّا أنفاسنا العاشقة إن استهلكناها بكرهنا لن تعود وضحكاتنا الحقيقية إن مسحناها ببغضنا لن تعود ونبضات قلوبنا إن غدت تنبض بمقت وعداوة وهي تحذو الى أراذل العُمر لن ينفعنا الندم حينها ولن نستطيع إعادة تأهيلها لتنبض بحُب ....فالعُمر الذي راح منا لن يعود......لن يعود !!.....أفهمتِ؟!..."

اختفت أنفاسي وكأنني على حافة الاحتضار ....حوطّت وجنتيها بيديّ واتكأتُ بجبيني على جبينها وسرقتُ أنفاسها لأدعم أنفاسي ....كنتُ ألهث وهي حالها مثل حالي ...فهمست متوسلة بضعف:
" أرجوك....لا تؤذي أبي !!.."

" لا تطلبي مني شيئاً لا استطيع تنفيذه...!!.."

" تستطيع إن رغبت!.."

" لا استطيع!.."

دفعتني بيديها بتجافٍ وازورار وهتفت باستهجان:
" إن كنتُ سأخسر أبي إذاً فلأخسر معه حياتي وحبي...!!..."

زفرتُ أنفاسي بجزع منها وعُدتُ الى جمودي كي لا أخضع لقلبي الرؤوف ثم أمسكتُ يدها أجرّها للداخل مع محاولة مقاوماتها اليائسة...!!

×
×
×

أقبلت النجوم على استحياء تتخفّى بين السحاب !!...كنتُ قد أغلقتُ الأبواب علينا وأخذتُ حاسوبها النقال منعاً لتواصلها مع أيٍ كان ....استحممت ثم اعتكفتُ في مكتبي لساعات أفكر وأخطط لما آت وأجريتُ بعض الاتصالات منها لإخبار خالتي وأبي (ابراهيم) عمّا حدث بينما كانت هي في غرفتها مع وحدتها تتسلّى تارة في عملياتها التخريبية للبيت وتارة في نحيبها تسبح بين عبراتها...!!....لم نضع لقمة في فمينا منذ الصباح وعند حلول الكارثة .....لذا اتصلتُ بخدمة التوصيل وطلبتُ الطعام الذي تُحب ....المعكرونة الايطالية أما لي أنا طلبتُ لفة شاورما وعندما استلمتُ الطلبية صعدتُ إليها لأعطيها خاصتها ولأخبرها بخطوتي الفورية القادمة.....لم تفتح الباب بعد مناداتي لها وطرقي له فأجبرت على كسره ووجدت الغرفة في حال يرثى لها ....كانت تجلس على السرير تنظر بخواء اليّ ودون احساس ولمّا ولجتُ مقبلاً ناحيتها هتفت بهدوء آمراً:
" كلي وجبتك المفضلة واستعدي للرحيل!!.."

رمقتني بتساؤل لكنها كابرت على السؤال تجاهلاً لي فأكملت:
" سنعود الى أرض الوطن....انتهى كل شيء هنا !!.."

وقبل أن تُعقّب على جملتي مددتُ لها الطعام وعند اقترابه من وجهها اشمأزت تقطب ملامحها بقرف ثم وضعت يدها على فمها وهتفت:
" يـــع رائحته....مقرف.....ابعده عني..."

وهبّت راكضة الى الحمام تستفرغ ما وُجدَ بمعدتها الخاوية وسط ذهولي واندهاشي بما أصابها....!!!


~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~


احتقنت السماء بالظلام ليغطي الكون بسواده المألوف وقد زاد قتامة مع السحب الداكنة التي تحمل في رحمها أمطاراً كثيفة ...كان البرق يخطف الأبصار ويجعل الليل نهار ليضيء الأرض على الثوار وكان هو ضمن الصفوف الأولى على ساحة القتال...منبطحاً على الأرض محتمياً بأكياس مليئة بالرمال كدروع تحميهم من رصاصات الأعداء الغادرة وبعض الأغصان المقطوعة من الأشجار للتمويه!!....يملي عليهم قائدهم أوامره ويطبّقونها باحترافية وشجاعة خلقت في قلوبهم ....لقد خاضوا معركة شرسة ضارية....كانت بين شرفاء الوطن وبين من يعيثون فيه فساداً من أجل مصالح أسيادهم الدنيئة فهكذا عند كل موعد للانتخابات تشتعل الفتنة وكلٌّ يغني على ليلاه...!!...كما كانت معركة صوتها الرصاص على الأرض كانت تقابلها معركة في السماء بين الغيوم مع هدير الرعد الذي يزمجر بها يقودها لتثبت فوقهم وتغرقهم في السيول الجارفة....استمر القتال العنيف لساعات....كان يطلق رصاصة على عدوّه الحقود يتخيّلها على مركز قلبه ليقتل حبه المولود.!!...كانت ثورته بين التغلّب على العشق الممنوع والانتصار في الحرب.....أحسّ بقبضة اعتصرت نابضه وأخلّت بنظامه وبعدها عاد ليركّز في واقعه ....الواقع الذي كتب أن تصل الرصاصات الخائنة إليهم لتصيب من كان له بها نصيب....!!

×
×
×

في عالم موازي ودولة مجاورة لدولته ومدينة بعيدة على الحدود الأخرى يشقّ عتمة الليل اضاءات للزينة وحضور للأقارب منهم الراضي ومنهم الرافض منهم من يضحك من قلبه ومنهم من يخبئ الحزن الذي يتغلغل في روحه وكانت تضييفات متنوعة وصوت طبول وأهازيج تختلط معها الزغاريد ومأذون شرعي ينتظر ليسمع موافقة العروسين ليبارك لهما متمنياً أن تكون حياتهم مليئة بالمودة والحب ومرضاة الله....كان العريس ضخم البنية بملامح ليست قبيحة ولا وسيمة وأسنانه السليمة تظهر من شفتيه الضاحكتين بينما العروس الرقيقة ذات الجسد النحيل والبشرة الخمرية كانت تضع زينة خفيفة وترتدي فستاناً ناعماً باللون الباذنجاني ليكون اللون الليلكي الفاتح للحجاب مكمّلاً له بكل أناقة وذوق رفيع وُجد في روحها الجميلة وابتسامة.!!...أجل ابتسامة ارتسمت على محيّاها..!!....الله ثم هي فقط من يعرفان ماهيّتها !! .....دقائق قليلة والألعاب النارية تنطلق من فوق سطح منزل الجد الكبير توثيقاً لفرحة اكتملت في العائلة بعد الاستماع لموافقة العروسين ...!!....وها هي الزغاريد ترتفع أكثر والتهاني والتبريكات تضج بين الناس بعد ارتداء الخاتمين الخاصين بهما والتي نحت داخل احداهما تاريخ اليوم واسم العريس ( تامر) أما الآخر تزيّن باسم العروس (ميار).....!!
كل شيء غريب حولها....لا الغرفة غرفتها ولا البلد بلدها ....وإن كانت هذه هي مدينة الأم لوالدها هل عليها أن تحبها ؟!...لقد وُلِدت وأيفعت في المدينة الساحلية مع نسماتها البحريّة النقية !!....ما لها وهذه البلدة الصناعية المكتظة بدخان المصانع الذي يلوّث الأنفاس.....وربما الأرواح!!.....أين دفء العائلة ؟!...ذاك الذي ينبع من القلوب !!!......القلوب ؟!... وهي... أين قلبها ؟!....هل أضلّ سبيله أم قتلته بيدها أم أن هناك لصاً سرقه منها ؟!....كيف لها أن تحب ونبضاتها انفصلت عنها كيف لها أن تحس بانتمائها لهم والانتماء مصدره القلب ؟!....بخطى واهية سارت الى طاولة الزينة ....أليست هي عروساً الآن ؟!....يجب أن تتأمل جمالها وهي بزينتها في هذه المرآه الدائرية المحاطة بمصابيح صغيرة صفراء !!.....هذا ما يجب أن يحصل مع أي فتاة مسرورة بيومها المميز لكنها بلا اكتراث أشاحت نظرها عن وجهها الكئيب المتخفي تحت المساحيق الخفيفة وفكّت مشبك حجابها الليلكي بعد انتهاء احتفالهم العائلي .....سحبته وألقته على الكرسي بنزق ثم أخرجت المناديل الرطبة الخاصة بمسح زينة الوجه وشرعت تفركه كارهة لنفسها ولما تعيشه الآن وتلك الابتسامة التي كانت قبل قليل مرسومة بين الحضور والتي لوّنتها على محيّاها وكأنها تابعة لذات الزينة أضحت الآن في سلة المهملات ملتصقة بالمناديل المرميّة..!!....سحبت نفساً عميـــقاً عميقاً عمق البحار ليكون زاداً لها في علاقتها الجديدة ثم زفرته على مراحل وفي كل مرحلة يصوّر لها ذاك السارق بملامحه الوسيمة التي زلزلتها ومع كل زفرة تخرج منها تنعش ذاكرتها برائحة عطره الثقيل الرجولي ....رغماً عنها ودون ارادتها انصاعت لقدميها الى حيث تأخذانها حتى وصلتا بها الى تلك حقيبة السفر الكبيرة الرمادية المركونة عند الخزانة... قرفصت ومع قرفصتها كأن شيئاً هوى داخلها.....فتحتها لتخرج من الجيب السري خاصتها قطعة الصوف الرمادية..... إنها لفحته الحبيبة!!...كيف تتركها بعيدة عنها وهي التي اعتادت أن تحتضنها كل ليلة منذ يوم وعده لها ؟!...هي لا تشعر الآن بالبرد فكافة أحاسيسها وضعتها بالبراد وجمّدتها !!..إنما حان وقت النوم وحان وقت ......ربما احتضانها ؟؟!!....كمشتها بيديها وقرّبتها لأنفها تستمد الاوكسجين من بقايا عطره العالقة بها وما زالت مقرفصة مكانها !!...استنشقتها بقوة وفتحت عينيها ويا ليتها ما فتحتها !!...لقد تعثّر نظرها ساقطاً من غير قصد على بنصرها الأيمن المكبّل بخاتم (تامر) ابن عمها ....الخاتم بإصبعها لكن لمَ تشعر أنه ملتف على عنقها ويخنقها ؟!....عين ترى الخاتم وعين ترى اللفحة وبين العينين انفجرت باكية بنحيب وهي ترمي ثقلها على الأرض القريبة منها ثم تستدير بجسدها زاحفة لتستند على خشب الخزانة الميتة مثل كل شيء ميت بهذا القصر وكل شيء ميت داخلها وشددت من احتضان لفحته ودثّرت وجهها بها بقهر وبوجع لفقدانه وبعد وصلة بكاء مرير لا تعلم كم استمرت توقفت عن سكب عبراتها بين طيات رائحته وابعدتها عنها لتراها بوضوح وهمست راجية وكأنه ماثلاً أمامها فيكفيها ذكراه ورائحته التي زعزعت مخها :
" سامحني.......لم استطع الرفض ووافقت على ابن عمي بكامل قواي العقلية وأنا متأكدة أنك لن تزعل مني ولن تلومني !!... لم يجبرني أحد من أهلي لكن يعلم الله ماذا حدث لروحي عند رؤيتي لدمعة أبي الحنون الذي عارض هذا الزواج احتراماً لطلبك يدي قبله ولأنه كان يعلم عن موافقتي الأولية لك بحماس ولأنه شاهد الفرحة من جميع أسرتي المتمثلة بأمي وأخوتي كبيرهم قيصر وثانيهم قصيّ وثالثتهم أختي التي تكبرني مرام !!.....عشنا فرحة حقيقية ليومين قبل سفر أبي لهذه المدينة البغيضة ليعطيهم الخبر ويأخذ الرضا من جدي ..كبيرنا.!!...لا يوجد قرار مصيري دون الرجوع إليه احتراماً له وبرّاً به .....فنزلت الصاعقة على أبي برفض والده للخبر مصرّا على تزويجي بالحفيد الأصغر لابنه البكر !!....رفض أبي هذا الطلب وكان معه أخي قيصر الذي سانده بالرفض ولكن جدّي قسم ظهره عندما قال...*....إما أن تتزوج تامر ابن عمها هلال أو أني سأغضب عليك ليوم الدين ...*.......ضاع أبي بين الخوف من غضب الأب الذي يغضب الرب وبين الألم من أجلي أنا ابنته آخر العنقود الذي لم يحرمني يوماً شيئاً قط ولم يعاملني الّا بكل حنان لا يحمله أي أب غيره .....عاد أبي إلينا يتلظّى بين النارين....عاد مهموماً حزيناً مكسور الخاطر....يشهد ربي أنه لم يحاول التأثير عليّ وعندما سألته لم يخبرني بما حصل واكتفى بالصمت لكن دمعة القهر التي تخرج من رجل وتحرق ما حولها خانته هاربة متجسّدة بسيف شقّ روحي وقسمها الى نصفين !!....تركته لوحده وقلبي يعتصره الألم ....ألم لا يمكنني وصفه ولا التعبير عنه !!.....فجاء أخي قيصر بوجهٍ حزين الى غرفتي وأخبرني بما حصل معهم ....خبأت ردود فعلي داخلي ولم اعطه أي اشارة اعتراض أو قبول ونيراان نيراان تأججت في احشائي وبكل عناد واصرار حاولت اخمادها كي لا يتطاير الشرار منها ويحرق أهلي من أجلي ومن أجل أنانيتي......كلمة بسيطة وباحترام طلبتُ من أخي الكبير أن يتركني وحدي فقط لأتخذ قراري ....انعزلت عن العالم وحتى أنني لم اتصل وقتها لأفضفض لصديقتي المقرّبة ألمى كما اعتدنا !!.....عزمتُ على أن يكون القرار نابع مني وحدي وأن اتحمل مسؤوليته كي لا ألوم غيري !!......فتذكرت دروس كثيرة أصبحتُ أتابعها في الآونة الأخيرة.....دروس اقتحمت حياتي بكل حب ورضا مني.....تلك الدروس التي كنت آخذها منك يا معلمي الفاضل في مدرسة صفحتك للتواصل الاجتماعي.....عدتُ الى أحد منشوراتك المصوّرة وكنتُ قد شاهدته سابقاً الّا أنني عدتُ بتركيز أقوى وأنت تتحدث عن برّ الوالدين وبركته علينا أو اغضابهم والسخط الذي سنعيشه في الدنيا والآخرة !!...فخرجتُ منه بشعور عظيم وهو أن أترك شيئاً أحبه لله ....أجَل !.. فمن أجْلِ مرضاة الله دُست على قلبي لأمنع غضب جدي على أبي وإن كان ظلماً بحقنا وبهذا أنا متأكدة أن أجري سيتضاعف وسيعوضني ربي بكل خير لأنني كسبتُ رضا أبي مني ورضا جدي من أبي الذي لم أرَ دمعته في أي زمن كان والذي لن أسمح لنفسي لأكون أنا المتسببة لدمعة قهر ممكن أن تنزل من عينه ولا أن أكون سبباً لإغضاب أبيه منه ودخوله جهنّم !!....فأبي الحنون لا يستحق ...وكذلك أنت تستحق.... أن تنال أجر نصيحتك لنا كمتابعين ونحن نطبّقها ....قسماً حتى آخر لحظة تشبّثتُ بشعرة أمل بأن يرق قلب جدي وينهي هذه المهزلة أو أن يأتي الهروب من العريس نفسه لكن الأمل هو من فرّ هارباً لحظة مباركة المأذون للعروسين وذويهم....فأصبحتُ لغيرك....ولا غير الله لنا.....يا شيخي الوسيم ..!!...."

وإن كان هذا البوح بالمشاعر لسانياً والاعتراف لن يصل الى عنوانه الّا أنها شعرت ببعض الراحة بعد البكاء وهي واثقة أن حوار الأرواح سيصل في يومٍ ما ولو بعد حين...!!....اتكأت بكفها أرضاً لتساعد نفسها على النهوض ثم اقتربت للسرير الكبير في وسط الغرفة واللفحة ما زالت بيدها....وضعتها عليه وبدأت تطويها بشكل مرتب ثم تناولت كيس من بين أغراضها التي اشترتها الخاصة بالخطبة وعقد القران.....وضعت اللفحة به واغلقته لتغلّفها جيداً ثم أعادتها الى الجيب السري في الحقيبة والتي تمثلها فلن يصل أحد الى هناك ويرى لفحتها الحبيبة مثلما لن يصل أحد الى جب قلبها ويعلم عن سرها الصغير ....السرّ الخاص بنبضات نبضت من أجل (أحمد)....تنهّدت بقوة وتمتمت:
" وداعاً أيها الزلزال ....كانت هذه المرة الأخيرة التي أعانق بها رائحتك....فأنت نفسك لن ترضى أن أخون حتى في مشاعري الغير مرئية رجلاً ارتبطت به على سنة الله ورسوله....!!..."

اتجهت الى الحمام غسّلت وجهها وحررت شعرها القصير المصبوغ باللون الأسود وارتدت منامتها وقصدت سريرها الجديد المؤقت في غربتها العائلية ...مسكت الخاتم وسرحت به وهي تبرمه يمنى ويسرى في بنصرها ثم خلعته أخيراً ووضعته على المنضدة كأنها تحرر أنفاسها....شهقت شهقة أخيرة بقيت من بعد أنينها.....توسّدت يمناها مستلقية جانباً ناظرة إليه وكانت ابتسامة صغيرة على ثغرها كذّبتها الدموع المحبوسة في عينيها ...!!

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

بالطبع تعرفون أن قطتي الشرسة العنيدة رفضت الطعام بازدراء ...!!....أنا أعلم ...هي لن تقبل مني شيئاً الآن ولتغيظني وتستفزني ادّعت أنها لم تعد تحبه أو تطيق رائحته !.....تظن أنني سأصدّقها تلك الحمقاء .....من يعرفها أكثر مني ؟!...إنها مستعدة أن تبيعني من أجل الحصول على وجبتها المفضلة !!....ربما شعرت بالغثيان من كثرة الصدمات وانفلات الأعصاب التي عاشتها اليوم فهذا يؤثر على المعدة لذا استفرغت قبل قليل.. !!..
حسناً ليكن لها ما تريد هذه الساعة وسأرى الى متى ستصمد وسيتحمل جسمها الجوع !!....
آن الأوان للرحيل ولم نأخذ أي حقيبة واكتفيتُ بجوازيّ السفر خاصتنا ومسدسي وهاتفي الخاص بـ (هادي) فقط....أما هاتفها خبأت شريحته بأحد أدراج مكتبي ....!!....لقد أرهقتني بعنادها وهي مصممة على عدم الخضوع لأوامري العاجلة بترك القصر !!....لكن هيهات.... ما هو عنادها مقارنة بعنادي ؟!....إني خيّرتها بين مسايرتي بهدوء او استخدام القوة ...خياران لا ثالث لهما !!....فأُجبرت على السير معي حتى وصلنا الساحة الخارجية والتي أصبحت صورة مصغّرة للدمار الذي تخلّفه الحروبات !!.....ألم نشن حرباً عنيفة على سيارتينا البريئتين ؟؟...حديد كل ذنبه أنه ملكنا.......ملك لعاشقين مغدورين بنصل الخيانات وحبهما يلقط أنفاسه الأخيرة ولكن ستنزل عليه رحمة من رحمات الله.....فكل ما هو آتٍ منه يكون رحمة .....إنه الرحيم في عباده.....إن قدّر لنا الفراق ومهما كان أليماً أنا اؤمن أن خلف هذا الخيار رحمة وخير لن نبصرهما حتى يشاء الله لنا ذلك....وإن جمع شملنا ووحّد روحينا وصفّى قلبينا بعد عذاب عشناه كلينا فهذه رحمة وما أجملها من رحمة.....يا رب ارحمنا وارفق في حالنا..!!
بصمتٍ مهيب بقينا واقفين نتفرج على ضحايانا الحديدية ...أي سيارتينا المنكوبتين!!....كانت وقفتنا أشبه بوقفة حداد في حفل تأبين!....دفنتُ ألمي على السماوية العزيزة التي لطالما ربطتها بسماءيها ...والآن ماذا؟!...لن يتبقى لي سيارة ولا عيناها ..!!...تنهّدت ببطء أخفي تنهيداتي عنها وأكملت نحو المرآب المغلق حيث تقف خارجه سيارتي السوداء المرتفعة رباعية الدفع ...لحقت بي وركبناها ثم خرجتُ متوكلاً على الله لأمضي في طريقي وفي منتصف المدينة وعند المحلات التجارية والمطاعم التي تملأ الشوارع توقفتُ قرب الرصيف وقلت بهدوء وسط استغرابها :
" تعالي معي ..!!.."

زمّت شفتيها وكتفت ذراعيها وأشاحت وجهها الى يمينها بإباء وقالت واثقة بنبرة جافة وعجرفة وهي ترفع كتفها:
" لن آتي معك الى أي مكان!!.....قلت لك لن آكل ألا تستوعب الكلام ؟! !!..."

ضحكت رغماً عني وقلت:
" هل تظنين أن لديّ وقت لأدعوك لعشاء رومانسي ؟!...."

وعدتُ الى ملامح وصوت أكثر جدية مستأنفاً :
" تعالي لتشتري عباءة تناسبك !!.."

مع انتهائي لجملتي التفتت اليّ بحدة واعتراض هاتفة :
" ما المناسبة.؟... هل جننت ؟!..."

ببرود قلت :
" بل تعقّلت يا زوجتي..!!.."

رفضت بانقباض وهي تشهر سبابتها أمامي وتحدّجني بزرقاويها:
" أنا لستُ زوجتك!....لا تقلها مجدداً !!.."

وأدارت وجهها عني متابعة بتمتمة تكلم النافذة على مبدأ المثل القائل ( الكلام لكِ يا كنّة واسمعيني يا جارة)..:
" يضحك على نفسه ويخدعها بمسرحيته اللعينة ... يقول زوجتي قال!....زوجة لا تعرف من هو زوجها..... أين مرّت وصارت ؟!....ثم لا اثبات لهذا...لا يوجد شخص اسمه يامن لأكون زوجة له..!!"

أجبتُ متباهياً:
" شئتِ أم أبيتِ أنت زوجتي على سنة الله ورسوله والعقد بيننا شرعي وساري المفعول واسمي موجود في الدوائر الرسمية ..."

وملتُ نحوها هامساً بمشاكسة:
" ثم لا يهم الاسم كالفعل ...فالغرفة 216 في ألمانيا تشهد على إتمام زواجنا ألمتي .....أتريدين أن أذكّرك بها وماذا عشنا هناك من روعة الحب ؟!....هل نسيتِ بهذه السرعة ؟!.."

تورّدت وجنتاها رغماً عنها وتهدّجت أنفاسها لمرور الذكرى في بالها فتابعتُ بهمس دافئ مقترباً أكثر من أذنها:
" وكل ليلة في بيتنا وأنتِ مغيّبة ذائبة بين أحضاني وتطلبين مني المزيد من العشق والغرام ....هل أصبح لا معنى لهذا عندك ؟!....ألا تعين أن هذا دليل على أسمى وأجمل علاقة بيننا....زوجان متيّمان ببعضهما "

عدة كلمات نطقتهم بغباء وانسيابية واحرقت قلبي ردّاً على كلامي لإخفاء ارتباكها:
" كاذب.....لم أكن سوى عاهرة عندك استخدمتها من أجل مصالحك الشخصية..."

" اصمتي يا غبية ..اصمتي....كيف تقولين عن نفسك هذا الكلام؟!!.."

مسكتها بغلّ من ذراعها وهززتها صارخاً بها أوقفها عن رُعونتها.....يبدو أنه لا ينفع معها شيء الآن ....لا تذكيرها بلحظات الحب وحتى لا الغضب عليها لتستكين!.....لقد سئمت وما زلنا في بداية الطريق!.....إني لا أطيق أن تعاملني بهذه الطريقة ولا أتحمل رؤية الكره بعينيها والأهم لا أقبل أن تهين نفسها وتستحقرها لهذه الدرجة !.....صبّرني يا الله وساعدني عليها...!!... أجابت بلوعة وبصوت مهتز ومستضعف:
" قل لي ماذا أقول....هيا قل!...انسانة مخدوعة مثلي ماذا تكون سوى قطعة بالية متاجرٌ بها ؟!.....أليست هذه الحقيقة؟.....ماذا أعني لك سوى ورقة رابحة ؟!..."

" حبيبتي...وعمري....وحياتي....أن� �ِ كل شيء لي.....أنتِ النبض والروح...أنتِ أرضي وسمائي.....مكانتك فوق رأسي وفي عينيّ ووسط قلبي ولن أرضى لكِ غير هذه المكانة......لمْ أكذب عليك بحبي....اخبريني كيف أثبت لكِ ذلك لتصدقيني.؟!.."

" طلقني وحررني منك لأصدقك....."

ابتلعتُ الكلمات في باطني ....قالتها ببساطة دون ذمّة أو ضمير ودون أن ترفق بقلبي !!... كم وددتُ لو اصفعها علّها تصحو من سباتها !!..أمجنونة هي ؟!....أطلّقها بعد أن حصلتُ عليها بطلوع الروح ؟!... تجاهلتها كارهاً تجاهلها !!......ترجّلتُ بحركات نارية من غيظي وأقفلتُ الأبواب والنوافذ عليها وأخذت المفتاح وهي تحاول الطرْق على نافذتها وتنادي المارّة الذين لم يسمعوها آملة بأن يساعدوها.....دخلت على المحل المقابل لسيارتي وهو خاص بالزيّ الشرعي للنساء ثم تناولت أي عباءة سوداء على مقاسها مع الحجاب الملازم لها ....لم أهتم لتصميمها ونوعية قماشها فالمهم ان تكون شيئاً يسترها وعدتُ سريعاً إلى من أفقدتني عقلي وأعصابي وانطلقت مسرعاً خارجاً من المدينة وعند مفترق طرق خارجي يفصل بين المُدن اتخذتُ الشارع المؤدي لشمال هذه البلاد فانتبهت قائلة باستغراب وجدية مشيرة للجهة الأخرى :
" هناك اتجاه مطار العاصمة.....أين أنت ذاهب ؟!..."

دون النظر إليها أجبت بهدوء مزيّف بينما كنتُ متكئاً بيساري على حافة الباب منشغلاً بأفكاري الهوجاء وخطواتي التالية:
" لن نذهب عن طريق المطار !......"

سألت مستغربة بتعالي:
" كيف اذاً..؟!...فإما المطار أو المواصلات البحرية...لا يوجد برية لـِ ..!!"

وأكملت باستهزاء ونفور مقصود:
" لوطنك!."

تنحنحت وقلت بعدم اهتمام لأسلوبها المستفز:
" في السابق لمتيني عندما ذهبنا الى رحلة مع الأصدقاء ولم أنبهّك لنوعية لباس زوجاتهم كي لا تكوني شاذة...لذا سأخبرك لمَ عليكِ أن ترتديها ..."

نقلتُ مقلتيّ بينها وبين الطريق متابعاً:
" نحن ذاهبان الى حدود البلاد....أي الى المعسكر وهناك كله رجال.....منهم المتزوج وأسابيع لم يرَ زوجته ومنهم الأعزب الذي لم يقابل جنس أنثى من شهور......هل تظنين أنني سأقبل بأن تدخلي المكان بتبرّجك ولباسك الملفت هذا ليأكلوك بنظراتهم؟!....لذا لا تثيري جنوني لطفاً وتعاوني معي فأنا بغنى عن افتعال مجازر فيهم من غيرتي وبالتأكيد لا تودّين بأن يطولك غضبي الذي رأيتِ جزءاً منه فقط!..."

صمتُّ برهة مضيفاً:
" ثم أعداء كُثر على الحدود لوالدك ...إن عرفوا هويتك ممكن أن تتأذي ....أي تجنّبي كل هذا بعقلانية حتى نصل لحل وسط بيننا..!!..اجعلي هدنة مؤقتة كي لا نخسر أكثر مما خسرنا.."

بابتسامة شريرة ....احتقار وعنجهية قالت:
" هل ستأخذني الى بقعتكم النجسة أيضاً...؟!...أنت قلت سنذهب الى وطنك.....ثم هل تسخر مني ؟!...تريد أن تحميني من الأعداء وأنت أصبحت ألد أعدائي ؟!...فسّر هذا لي..."

" لستُ عدوك.....صدّقتِ أو لا.....عشقي لك هو حقيقتي الوحيدة في حياتي والتي لا جدال عليها!!....لن أسمح بكِ أو أن تطولك أي أذية !......ومهما اعتبرتِني عدوّك ستبقين وحدك عندي حبيبة القلب والروح...!....أنت خارج المهمة والمعادلة...تأكدي من هذا.."

علت نبرتها باستهجان مستديرة نحوي بعصبية:
" كيف هذا ؟!....كفاكَ ترّهات لا تدخل العقل !....مسرحيتك انكشفت وتستحق جائزة الاوسكار عليها.....أنت تابع لمنظمّة اجرامية تخريبية هدفها نشر الفساد في الوطن واحتلال مناصب كبيرة لتتحكّموا فيه سياسياً واقتصادياً كيفما يحلو لكم.....ولأن أبي كان وزيراً وسيخوض الانتخابات القادمة أردتم التشويش عليه وتدميره!......لا تقل أنني خارج مهمتكم اللعينة....أنا المهمة ذاتها!......أنا وأبي واحد.....ألا تفهم؟!..."

عند كلماتها الأخيرة تحشرج صوتها وجلاً عليه ثم وضعت يديها واحدة على بطنها وواحدة على فمها شاعرة بالغثيان فهمستُ قلقاً عليها وبين رمشة عين والأخرى أنظر مرة إليها ومرة للأمام:
" ما بكِ حبيبتي ؟!....أتشعرين بشيء؟!.."

هزّت رأسها للجانبين ومقلتاها ممتلئتان بالدموع واحتقن وجهها بالحمرة وأخذت تشير لأقف جانباً فأُجبرتُ على ذلك رغم خطورة المكان ونزلت هي على الفور مهرولة الى الأرض الترابية مجتازة الاسفلتية تحاول الاستفراغ ونزلتُ من فوري متوجساً لوضعها.... كم حاولتْ ومحاولاتها فشلتْ ....تشعر أن احشاءها تتمزق وأن معدتها ستخرج من فمها لأنها فارغة منذ الصباح وربما منذ الليلة الفائتة....كانت تئن وتتأوه وتتلوى من فرط الوجع وأنا أتوجع عليها متمنياً أن آخذ عنها اوجاعها.... مسكينة...حبيبتي النحيلة الضعيفة....اقتربتُ منها احاوط ظهرها بذراعي عاطفاً بحنية جمّة وكف يدي الأخرى وضعتها على جبينها وقلت برقة رجولية مشفقاً عليها بينما هي تطلق أهات وأنّات:
" أنا معك حبيبتي....سترتاحين الآن لا تخافي ....هيا حاولي ألمتي ...هيا....هذا كله من كثرة الانفعالات والأعصاب..."

ضغطت أكثر على نفسها وبمحاولات أكبر بينما كانت مع كل محاولة تضرب بطني بكوعها أو قدمي بقدمها من قوة ألمها.....ربما تستغل حالتها لتنتقم مني !!!.....وأخيراً أخرجت ما بجوفها وما كان سوى لعابها!!.....قهرتني ....ستصيبني بجلطة عليها لا محالة!....سأرغمها على وضع أي شيء بفمها !......تركتها بعد أن هدأت واستكانت وقصدتُ سيارتي لأتناول مناديل ورقية وقارورة ماء....دنوتُ منها وشرعتُ لتمسيح أطراف فمها وعند أول لمساتي صدّتني تبعدني عنها والدموع متكدسة في عينيها وقالت تكمل من حيث توقفت غير مكترثة لصحتها:
" رغم أني الى الآن لم أعرف ماذا جنيت بالزواج مني الّا أنني موقنة أنه شيء يستحق هذه المقامرة....يا ترى هل حصلت على ما تريد أم أنني خرّبت عليك وأنت في منتصف الطريق؟! "

" لا ترهقي عقلك البريء في البحث عما وراء ذلك...!....صدقيني لا أحبذ ادخالك بهذه الأمور....هنالك أشياء أكبر مني ومنك .....عليكِ فقط أن تعرفي أننا لم نظلم والدك باتهاماتنا!!..."

استشاطت غضباً واقتربت مني تدفعني بكفيها المنبسطتين على صدري صارخة:
" وماذا عن اتهاماتي لكم ؟!..هل أظلمكم؟؟.."

تطلّعت على الشارع وقلت دون أن أجيب على سؤالها :
" المكان هنا ليس مناسباً للنقاشات ألمى....نحن نقف في نقطة خطر ومخالفة للقانون.....لاحقاً سنتحدث...هيا الى السيارة..."

صاحت بحدّة:
" هنا خطر وماذا عنك ؟!...ألستَ خطراً عليّ ؟!..."

" أنا الأمان لكِ حتى أموت ..."

" مُت ولا أريد أمانك!!.."

قالتها دون تفكير لتغرز رمحاً في روحي ثم تلعثمت هاربة بحدقتيها تجول بهما على الأرض كأنها تحاول تدارك ما تفوّهت به ...فمهما أنكرت ....الندم الذي ظهر عليها بانفعال حركة صدرها فضحها أمامي...قلبها رفض دعوتها عليّ:
" يعني...كُـنـ...كنتَ أماني ...أمـ...أمّا..الـ...الآن لا تعنيني شيئاً!.."

اقتربت منها قائلاً بهدوء:
" تريدين موتي ألمى ؟!.."

وأكملت متنهداً طارداً غصة اختلجت صدري:
" اطمئني.....سأموت في يومٍ ما وسترتاحين مني...من يعلم؟...ربما قريباً....اندلعت الحرب ونحن لها بإذن الواحد الأحد..."

خفق قلبها بتسارع لسيرة الموت ولكنها بالتأكيد لن تظهر رأفتها أو حنانها...لن تستسلم لطيبة قلبها وبراءتها حتى لو كانت تعشقني حد الجنون فالمعركة الآن معركتها وستحارب بعزّة وكبرياء!!.....أما أنا تابعتُ شامخاً بوقفتي ونبرتي يملأها الشجن:
" أنا أحمل روحي على كفي وكفني على كتفي .....أذهب لأعانق الموت ولا آهابه.... في الميدان أتعطّر في المسك الذي يفوح من دم الشهداء وهناك تلفحني نسائم الجنة...ودوماً تكون صورتك أمامي كحورية رفيقتي في جنتي التي أرجو.... ويا مرحبا بالموت في سبيل الأرض والحق....ويا مرحبا بالشهادة التي أتمنى !!......كثّفي دعاءك لترتاحي مني ربما هذه ساعة تكون الدعوة فيها مستجابة...!!.."

قلتُ كلماتي واستدرتُ عائداً الى السيارة أسبقها والحزن يغمرني وقد لحقتني بعد قليل ولم أهتم ما كانت ردة فعلها ...!!

×
×
×

بعد ساعات طوال وصلنا مقرّنا العسكري في شمال هذه البلاد على حدود الوطن الحبيب.....أثناء الطريق اشتريتُ لها عصيراً ومسليات وأرغمتها عليهما....كنتُ الاحظ اختلاسها النظرات إليّ ولكن كنتُ لا أبالي خوفاً من احراجها...مستغّلاً المتعة إثر رفرفة خائني هياماً بها....فلم تكُن نظراتها الّا نظرات حنين لهاديها ....وإن أبى غرورها الخضوع فقلبها المجروح كله امتثال وطاعة للعشق الذي تضاعف ...(هادي )الحُب وليد الماضي و(يامن)حب الحاضر....والسؤال هل سيستمر بالنموّ ليرسم مستقبلاً جديداً أم أنها ستقلعه من جذوره بكراهية رافضة ثمار الحب من كليهما ؟!.....أخذها النوم على غفلة في منتصف الطريق ...رفعتُ حرارة التدفئة في السيارة كي لا تبرد وكان كلي شغف أن اقتنص قبلة من ثغرها المزموم بعبوس وهي نائمة ....وللأمانة لم أجرؤ!!.. أقصد على ازعاجها!!....
أركنتُ سيارتي في موقفنا الخاص بالمعسكر...كان الوقت بعد منتصف الليل...ربّتّ برفق على وجنتها هامساً وهي مستغرقة في نومها وأحلامها:
" أفيقي ألمى....لقد وصلنا !!.."

استيقظت مجفلة تعدّل جلستها وتفرك عينيها بنعاس هامسة ببراءة:
" أبي..!!.."

نفثتُ أنفاسي المشمئزة من سيرته دون أن الفت انتباهها شاتماً بسري ...إذاً كانت مستغرقة بكوابيس وليست أحلام!!....قلت بهدوء:
" أنا هادي....هيا ارتدي عباءتك وانزلي.."

نزلت بعد ان لبستها وهي تمسكها بسبب هبوب رياح في المنطقة أما حجابها انزلق عن شعرها الحريري فدنوتُ منها بسرعة أرتبه لها وأثبته باحكام...فتُهت....أجل تهتُ من انعكاس البدر في سماءيها الواسعتين وهي تقوم بطقوس السحر عليّ لتسلبني عقلي وفكري..!!...ما العمل معها وكيف سأخفي فتنتها؟!....سأحاول أن ادخلها بسرعة قبل تجمّعاتهم....فبعد ساعة ستبدأ التدريبات الليلية وتستمر حتى الفجر!!....في طرفنا لا يوجد مواجهات حقيقية أما صديقيّ (أحمد) و(بلال) يحاربان في الطرف التابع لدولتنا الأم ضد الأشرار والخونة!!.....وبينما كنتُ ضائعاً في سماء اللجوء وصلني صوتاً من يميني هاتفاً بحماس:
" سيدي القائد هادي!!....أهلاً بك....الحمد لله على سلامتك..!!.."

تمتمت متفاجئة بصدمة وهي تنقل بصرها بيننا:
" القائد ؟!...ظننتك تابع وإذ بك قائد...أي بيدك كل شيء وتقول لا تستطيع.."

لم أجب على تساؤلاتها وانتقادها بل التفتّ للذي تكلّم قبلها قائلاً بصوت جهوري:
" سلّمك الله إياد...أدخل ...سآتي حالاً ان شاء الله...!.."

تبسّم ورفع يده بتحية العسكر مجيباً:
" بأمرك سيدي..!!.."

هل تذكرون (إياد)؟؟....إنه أول شاب التقيتُ به في المعسكر بعد انضمامي له للتدريبات وبيومي الأول..!!...وظيفته خدمة الثوار ومساعدتهم بالميادين دون خوض المعارك!!....كان في السابق ضعيف الشخصية وقلبه مرهف وتنقصه الشجاعة!!...لكني أصريّتُ على تدريبه للدفاع عن نفسه ومساعدته لمواجهة الحق وفق قدراته.....لقد أبلى بلاءً حسناً بفضل الله ثم وقوفنا معه وتشجيعنا له ومع تقدّم السنوات تغيّر أما وظيفته بقيت كما هي...!!...سرتُ أمامها بهيبة مرفوع الهامة وسارت خلفي بحياء كالزوجة الملتزمة المطيعة ونحن نجتاز بعض الرجال!....وقبل دخولنا المبنى التفتّ إليها قائلاً بخفوت:
" عليكِ احترام المكان الموجودة فيه حتى نرحل....لا داعي للشوشرة وشعاراتك التي تنعتينا بها مثل الخيانة وغيرها!....يمكنك قول ما شئتِ بعد خروجنا من هنا !.."

همست على مضض بترفّع:
" حسناً....لكن لا تظنني عنصراً من عناصرك وتلقي اوامرك عليّ.."

هززتُ رأسي يمنة ويسرة محوقلاً وتابعت السير وهي تتبعني حتى دلفنا وبدأوا بتحيّتي مرحبين بي من كانوا بالداخل ولم تفتني نظرات الاستغراب والاندهاش للجسد الأنثوي النحيل المستور خلف العباءة فأحطتُ كتفيها بذراعي أضمها اليّ بتملّك رغم تململها رافضة قربي وأسرعتُ في خطاي قاطباً حاجبيّ كرسالة مبطّنة مني أن لا يتعدّوا حدودهم بنظراتهم الى ممتلكاتي وأغلاها......ألمى الروح ومليكة قلبي...!!

×
×
×

لكل قائد في المعسكر غرفة خاصة تقسم الى نصفين وكانت غرفتي كذلك....قسم ندخله يكون فيه مكتب وكرسيين أمامه وخزانة جانبية لأوراق ومستندات والسلاح الخاص وفي احدى زواياها جلسة صغيرة من ارائك بسيطة مع تلفاز دون أي نافذة وباب حديدي مصنوع من طبقات خاصة يوصل للقسم الآخر وهو عبارة عن ملجأ جدرانه من الاسمنت القوي المضاد للقصف ويتواجد به سرير فردي حديديّ وخزانة للممتلكات الخاصة مع نافذة محصّنة بدرفتين حديدتين من نوعية الباب وحمام صغير جداً ...وطلاء رمادي باهت.!!....ولجنا إلى غرفتي وسط اندهاشها فلم تفكر يوماً بزيارة مكان لا يشبه الأمكنة التي تنبض بالحياة الطبيعية للبشر وتزيّنها النباتات المبهجة.!!....مكاننا حتى أنه لا يشبه الصحراء القاحلة....كأنه مقبرة جماعية يغلّفها الموت من كل حدب وصوب....بدا لها موحشاً....موحشاً بشكل رهيب جداً.!!....لن ألومها....رقتها لا تتحمّل رؤية حيطان فاقدة زهوها تملؤها الرطوبة والحديد الصدئ والأسلحة القاتلة مع رائحة الرصاص واضاءات خافتة ترهق عينيّ من لم يعتدْ عليها!!....وكان صوت صرصرة الجنادب ونقيق الضفادع يأتينا من الوديان القريبة وصدى عواء الذئاب ونباح الكلاب من الجبال البعيدة.....!!....كنتُ مضطراً للمجيء هنا....لا يمكنني الدخول الى بلادي رسمياً تمويهاً للمغضوب عليه والدها.....لقد اتفقتُ مع أبي (ابراهيم) بإعلامه أننا خرجنا لرحلة داخلية أنا وابنته وربما تستغرق اسبوعين مع الأصدقاء والى مكان خارج التغطية للهواتف إن حاول الاتصال فيها.....هذا إن كان يشتاق لها أو قلقاً عليها !!....لستُ متأكداً من هذا!....سنرى مدى اهتمامه بها لاحقاً.....أُجزِم أنها كانت مسؤولية كبيرة على عاتقه وتحرر منها وإن كان يحبها فلا أنكر هذا....لكن لأي درجة يحبها ؟!....لو كانت ابنتي لبحثت عن الجد السابع لسلالة زوجها قبل أن أسلّمها له....لما عتقتها مني وأنا اتصل بها يومياً لأطمئن عليها وعلى أحوالها.....لطرتُ إليها لآخر العالم إن كانت بعيدة عني!....يا الهي....لن أبعدها عني!....مستحيل!....هل سأتركها تعيش في غربة ؟!....أساساً لن أزوجها ستبقى دميتي الحبيبة أمام ناظري ونغيظ الأعداء حتى أمها الحمقاء....فاتنتي أجمل عدوّة!....عند هذه الفكرة رفّ قلبي بنشوة وتطلّعتُ على التي ترتب حجابها الذي ازعجها اثر انزلاقه على جبينها من نعومة شعرها!!....ثم همستُ بحنوّ:
" ادخلي الى تلك الغرفة وارتاحي.....هنالك سرير.."

لحقتني بحدقتيها وهي ثابتة مكانها وأنا استدير لاتخذ مقعدي خلف المكتب فانكشف أمامها الاسم المحفور على اللوحة الاسمية المكتبية خاصتي فغضنت جبينها تمعن النظر وهي تنحني قليلاً لتقشع الغباش عن ناظريْها وتتضح لها الرؤية ولحظة قراءتها الاسم اتسعت عيناها بذهول وشهقت تضع يدها على صدرها مرتدّة للخلف هاتفة باستغراب كلمة كلمة بتمهّل:
" القائد... هادي... محيي الدين ...الشامي !!.."

" محيي الدين الشامي؟!."

تساءلت تثبّت بصرها عليّ وتابعت بتلعثم:
" أَ....أليس هـَ....هذا هو....هو نفسه الذي يحمل ذاك المخيم اسمه؟!.."

اومأتُ برأسي مؤكداً على سؤالها فأكملت مصدومة:
" يعني....أنتَ!......تكون ابنه؟!.."

واستأنفت قبل أن أجيبها:
" أتتهم والدي....بأنه هو من....قـ....قتل...والدك غدراً كما اخبرتني بالمخيم عندما أشرت لي على صورته؟!..."

ورفعت صوتها بفظاظة ودفاعية :
" على ماذا تستند باتهاماتك الباطلة؟!...كيف تفتري على الناس.؟!..."

قمتُ من مكاني ناقلاً بصري بينها والباب ....اقتربتُ منه وأغلقته من خلفي وانا اواجهها وقلت بهدوء واضعاً سبابتي على فمي:
" ششش....اخفضي صوتك لستِ بالبيت!.....أنا لا افتري على الناس ...لدينا أدلّة موثقة سيدة ألمى!.....لكن عقلك يرفض استيعاب هذا وقلبك يرفض التصديق..."

ترقرقت دمعات في عينيها اللتين تحملان هموماً جزيلة واطرقت رأسها ارضاً وباتت لم تدرك بأيها تفكر وعن أيها تسأل وقالت بانهزام ذريع:
" يا لكم من ظالمين!!...كيف يمكنكم اتهام الناس بهذه السهولة؟...مؤكد أدلتكم مزورة لتصلوا الى مبتغاكم...!!....فالجشع يفعل المستحيل!.."

كدتُ أن اصرخ بها واخبرها بصوت عالي أن الجشع موجود في قاموس والدها فقط ....والدها المجرم الخائن...لكني صمتّ...صمتّ من أجلها...يكفيها جروح!!.... أما هي لم تخضع لانهزامها فعادت لترفع رأسها تواجهني.... أبى عقلها الاستسلام ولم يرق لها الأمر وطالعتني بنظرة مستنكرة وهمّت محتجّة:
" أبي انسان بطل مناضل لوطنه....لم ينحنِ للتهديدات والابتزازات عندما كان وزيراً واختار بنفسه التخلّي عن منصبه وكرسيه وهو في عز المجد لحقن دماء الكثير وليري الجميع أن المناصب لا تهمه كما يهمه السلام والأمان من أجل الشعب....ذاك الشعب الذي باعه بأبخس الاسعار ونفاه الى الخارج!....لكنه خرج ليقاوم وها هو سيعود بقوة ان شاء الله وليعرف كل واحد حجمه حينئذ..!!.."

فلتت مني ابتسامة ساخرة وقلت بملامح مرتخية :
" أنتِ ترين الوجه الذي ترغبين برؤيته ولا يعني هذا أنه حقيقي...فالأقنعة كثيرة ونستطيع أن نبدّلها وفق الظروف!....تريّثي يا حلوة فكل شيء يأتي في أوانه.."


شامخة بوقفتها ...مشهرة سبابتها ....هتفت واثقة بقولها :
" سأثبت لك أنت بالذات أن أبي بريء من هذه التهم .....اعطني فرصة..!!..."

وزفرت زفرة تفيض أسى وحرقة ثم اجتازتني تخطو بوهن بدا جليّاً على محيّاها وجسدها وولجت الى القسم الآخر بعد أن عافت وضجرت نقاشي الذي زادها علّة..!!....لقد آثرت أن تعزل نفسها في غرفتي الخاصة وجلست على السرير باحثة عن حلول لمعضلتها بعد أن تشابكت الأفكار في عقلها حتى دون أن تهتم بفكّ حجابها ومرّت الحقائق مع الدقائق علينا بينما كنتُ أنا جالس على احدى أرائك مكتبي أنتظر العسكري (إياد) بعد أن بعثت خلفه وقد طلبتُ منه احضار الموجود من الطعام حسب لائحة اليوم ....جلب لي طلبي يضع الأطباق المعدنية في صينية متوسطة الحجم فدخلتُ إليها ووضعت ما بيدي على طاولة صغيرة وقرّبتها منها فأشاحت وجهها جانباً هاتفة:
" يع....ما هذا الطعام؟!.."

لم اهتم لردة فعلها وقلت ببرود:
" لسنا في مطعم يقدم الوجبات الايطالية لنلبي ذوق السيدة المدللة.....اعذرينا....هذا طعامنا البسيط الصحي...!!.."

كان عبارة عن طبق من الأرز الأبيض الخالي من التوابل والمكسرات وجانبه طبقٌ أخر لحساء البازيلاء وقطعة فخذ دجاج صغيرة مسلوقة دون تحمير......في الحقيقة أعلم أن الطعام لا يفتح الشهية فحتى أنه يفتقد الرائحة ...!!......قلت بخفوت بارد وأنا مثبت عينيّ على الطبق أمامي أفتت لها قطعة الدجاج فوق الأرز وكأنني أحضّر طعاماً لطفلة:
" هذا الطعام الموجود لليوم وستتناولين منه لو مرغمة.....سنبدأ باليوم الثاني وأنت لم تأكلي.....لا تثيري جنوني بعنادك...!!.."

تطلّعت على الأطباق وهي تكمش ملامحها باشمئزاز رغماً عنها فنهضتُ من مكاني وجاورتها جالساً على السرير ثم تناولتُ أول ملعقة أرز وقرّبتها من فمها بينما بيدي الأخرى اسند ظهرها لامنعها من الابتعاد وهي تطبق شفتيها بإصرار...فهمست مهدداً:
" إن لم تأكلي سأجلب لك طبيب المعسكر ليضع لك السوائل والمغذيات....ولا داعي أن اخبرك كيف شكله!.....لا تظنينه كأطبائك النواعم.....انه يشبه السجّان او المسؤول عن الاعدام....ويفعل دون أن يتكلم....هيا سمّي وافتحي فمك!....ليس سيئاً طعمه....حاولي...افضل من لا شيء"

بعد معاناتي مع قساوة رأسها فتحت فمها أخيراً سامحة لمعدتها باستقبال خمسة ملاعق فقط لتفزّ بعدها واقفة باستعداد وما إن ثبتت قدميها أرضاً حتى لم تعد تتمالك نفسها أكثر فتقيأت على حجري من غير ارادتها ولطّخت ملابسي وهي تُخرج ما أكلت من فورها وأنا متسمّر مكاني مصدوم من فعلتها لا أقوى على الاتيان بحركة وازدادت صدمتي عندما أنهت مهمتها مجهشة بالبكاء محرجة مني ولربما....خائفة من ردة فعلي!!....ثواني ظللتُ ثابتاً محتاراً دون أن افقد اعصابي سحبتُ نفساً ونفثته على مراحل لأعيد اتزاني ثم همستُ بلين وشفقة:
" لا تبكي...لم يحصل شيئاً....لا بد أنك أصبتِ بالبرد....سأنظّف نفسي لا تقلقي......لا بأس ألمى..."

نهضتُ متجهاً الى الحمام بعد أن استخدمته قبلي تغسّل وجهها....استحممتُ وبدّلتُ ملابسي مرتدياً الزي البديل الخاص بالثوار وطلبتُ منها أن ترتاح ثم قصدتُ الأريكة لأستلقي عسى أن أرتاح ايضاً فبفضل غبائي الذي جنيته بيدي لحظة نسياني للخارطة واللجوء اليها لم أنم دقيقة واحدة بعد انكشافي وخاصة أني أمضيت الساعات متنقلاً بين الطرقات وقد نهش الارهاق والاعياء سائر جسدي....بقيَ ساعة لصلاة الفجر!.....لحظات واستهلّ علينا صوت اطلاق الرصاص بتواصل من رشاشات المتدربين ولم أعِ ولا أدري كيف أصبحت قطتي المرتجفة فوقي متشبّثة بعنقي تدفن رأسها بين صدري وذراعي بعد ان صاحت صيحة مزّقت اوتارها فهببتُ من مكاني محتضنها لأهدئ من فزعها ثم سرتُ بخطوتين واسعتين الى الجهاز اللا سلكي المربوط بمكبرات الصوت والذي كان موضوعاً على مكتبي وقلت آمراً بصرامة بينما بذراعي كنتُ اطوّق عنقها الصق وجهها قرب الذي خانني من اجلها باثاً الأمان لخلاياها:
" اوقفوا اطلاق النار حالاً.....يمكنكم أن تعودوا الى التدريب بعد ساعتين من ألآن.."

بعد أن استكانت حررتها فعادت لجمودها معي وكأن أخرى التي كانت بين احضاني قبل قليل ثم خرجتُ لأطلب من العسكري (ضياء) تجهيز السيارة التي ستقلّنا الى باب النفق....!!

عند عودتي اليها لآخذها تعثّرت أمامي بـ(اياد) الذي هتف مندفعاً يثرثر:
" السيدة زوجتك سألتني عنك قبل قليل....."



وأكمل بحماس:
" أموت وأرى ابنك كيف سيكون شكله يا سيادة القائد هادي!.....ما شاء الله اذا كان والديه بهذا الجمال....كيف سيكون هو؟..."

وأكمل بتفاخر وتباهي نافخاً صدره:
" لا بد انه سيفوقكما جمالاً...."

تمتمتُ شاتماً الغبية....كل جهودي وحرصي على اخفائها راح سدى ...!!
قلت متهكماً بضيق من غيرتي:
" أرجوك لا تمت سيد إياد....المعسكر يحتاجك..."

ثم الحقتُ قولي بصفعة انزلتها على عنقه متابعاً بين الشد واللين:
" وتعلّم غض البصر عن ما ليس لك.....والّا ...!..."

سعلَ وهو يضع قبضته أمام فمه وقال متملّصاً وهو يقف على اطراف اصابعه ناظراً لخلفي :
" آسف سيدي......يبدو أن السيد ماهر يناديني..."

وفرّ هارباً مختفياً من أمامي...!!
وصلنا النقطة الأقرب للحدود حيث يتواجد أحد انفاقنا السرية!....وقع اختياري على هذا لان فتحته الاخرى في ارض الوطن بعيدة عن منطقة القتال حيث تدور هناك نزاعات دامية بشراسة.....كان هذا أكثر اماناً ويبعد عن معسكرنا مسافة ربع ساعة في السيارة....كنتُ قد البستها بلوزة قطنية سوداء بسحاب لأن الجو يكون في منتهى البرودة في وقت الفجر....لقد قام بإيصالنا الى المقر العسكري(ضياء) وهو من اكثر ثوارنا التزاماً واخلاقاً.....ترجّلنا من السيارة العسكرية الخاصة بالطرق الوعرة...أنزلتُ حقيبتي الصغيرة واخرجتُ منها الكاشف الذي يثبّت على الرأس بحزام مطاطي ليضيء عتمة النفق ...تلثّمتُ بوشاحي ثم ثبتّ الكاشف وعلقت الحقيبة على ظهري التي تحتوي على اخرى اشياء مثل الماء...علبة اسعافات اولية...خنجر...وقنينة مسيل للدموع احتياطاً اذا لزم الأمر للدفاع عن النفس ولمّا انتهيتُ من نفسي لثّمتها بحجابها وسرنا على التراب بين الاعشاب.. منها اليابسة ومنها من تفتحت براعمها الخضراء...كنا نغوص في عتمة الليل قُبيل الفجر...وكانت هناك حجارة كثيرة مختلفة الأحجام...واصوات الحشرات والضفادع اضحت اكثر وضوحاً وصفاءً وعواء الذئاب في الجبل بدا اكثر قرباً.....كانت ترتعش مرعوبه..تسرّب الهلع اليها ووجهها غدا مصفراً وهي تلتصق بجانبي مكرهة تحمي نفسها لا محبة بي طبعاً....وكان القمر يحجب نفسه محتشماً بين الغيوم وكأنه أدرك غيرتي عليها من أي شيء وكل شيء....وبعد دقائق قليلة وصلتُ الشجرة وكومة الاغصان اليابسة وهي ما زالت ملتصقة حتى قيّدت حركتي وانا ابعد الاغصان عن الباب الارضي فقلت بحزم هادئ:
" انتظري قليلاً...ما لك تلتصقين؟....سأبعد الاغصان..."

قالت بصوت مهتز وجلاً وفكاها يصطكان ببعضهما:
" يا الله....ما هذا المكان المخيف؟!.."

" انت تخافين لأنك لا تبصرين من الظلام....انه مكان طبيعي مثله مثل غيره...ألم تري ارضاً شاسعة خالية من البنايات ؟!..."

انهيت كلماتي وانحنيتُ اتابع عملي بينما هي رفعت راية استسلامها للظرف الواقعة فيه وعند رفعي لآخر غصن صرخت قافزة تعلو ظهري المنحني...فانتصبتُ غاضباً وقد نزلت مع وقوفي وهتفت:
" اخفضي صوتك.....لا اريد أي صدى للصوت.."

قالت بنعومة باكية وهي تحرك يديها كأنها تنفض اشياءً عن جسمها وترفع قدميها بتتابع:
" لقد مر شيئاً فوق قدمي....يا أمي...!.."

تأففتُ حانقاً من دلالها قائلاً بعدم اكتراث:
" ربما سحلية صغيرة لا تؤذي....لن تكون افعى فما زلنا في نهاية الشتاء وهي تخرج ببداية الصيف..."

صرخت مجدداً ثم حاولت كتم صوتها بيديها الذي خرج مختنقاً:
" وتقول سحلية ببساطة؟!...يا ويلي....انا اخاف منهن!..."

حركت رأسي بقلة حيلة محوقلاً وانحنيتُ ارفع الباب الحديدي الارضي وشرحت لها عن كيفية نزول السلم ....اقتربت تتفحّص الحفرة بتوجس وحذر وابتعدت هامسة:
" انا اخاف من السلالم تلك...."

قلت بضيق:
" الا يوجد شيئاً واحداً لا تخافي منه؟!..."

" بلى حضنك"
اول اجابة خطرت على بالها وأسرتها في نفسها وهمست بعدها بصوت خافت كلمات مقصودة:
" لا شيء موثوق كي لا اخاف منه...!.."

استدرتُ ووضعت قدميّ على اول درجاته حتى نزلتُ مثبتاً جسدي ماسكاً طرفيه منتظرا نزولها كي تبقى أمامي احاوطها بجسدي خشية الوقوع وبصعوبة حاولت وأصبح منظرنا كأني اعانقها من الخلف وهي تهمس برجاء:
" لا تتركني...سأشعر بالدوار ان تركتني"

انزل درجة وتنزل معي درجة بتناغم وكان رأسي يعلو رأسها وكنتُ بشوق ولهفة ادنو من جانب عنقها المغطى بالحجاب علّني اسرق العبير الموؤد تحته...!...ليت الأيام الحلوة تعود إلينا.....آآآه يا مدمّرة....فليتدمر العالم من بعدك!....!......سرنا في النفق مهرولين....كانت تتعثر بعباءتها وتسعل مختنقة....لم تستطع اللحاق بسرعتي وكانت تلهث وانفاسها متلاحقة اثر طاقتها التي نفذت فتوقفتُ في منتصف النفق ودون انذار انحنيتُ بجذعي وحملتها على ذراعيّ وزدتُ من سرعتي لدقائق حتى وصلنا السلم الآخر وصعدناه بسهولة فالرهبة تكمن بالنزول لشعورنا بقوة الجاذبية....وعند الوصول لفوهته بطرقتين مني فتح لنا الرجل المتفق معه سابقاً والذي يعلم ساعة وصولنا.....فلكل واحد وظيفته الخبير بها ...!!

×
×
×

اوصلنا الرجل ذاته بسيارته الرثة الخارجة من تحت الانقاض الى موقع صهاريج النفط التابعة لدولتنا وعاد الى منزله القائم في المنطقة.....كان السيد (سليم الأسمر) يعلم بتحركاتنا لحظة خروجنا من المدينة الساحلية في تلك البلاد وبعد تشاور سريع مسبق قرر ارسال سائق خاص لنا ليستضيفنا في بيته ومدينته التي تبعد حوالي ساعة ونصف عن الحدود.....انبلج ضوء الفجر مقبلاً بأول طلّاته....المدللة ليست معتادة على عيش تلك المغامرات....اشفقتُ عليها وكان علينا انتظار السائق الذي سيصل بعد نصف ساعة حسب ما وردني من معلومات....!!...كانت الأجواء ساكنة بين قسم من الصهاريج المعطلة.....لمحتُ أرض شبه مبلّطة قرب احداها ...اشرت لها عليها لنجلس وننتظر وكان قد أضناها السير وقلة النوم ومعالم الاجهاد احتلت وجهها الجميل....القينا جسدينا المتعبين بضعف وصرنا متجاورين...اتكأنا على قاعدة الصهريج....والسماء تزداد بهاءً على مهلها تفسح الطريق لتتجلّى شمس الشروق....التفتُ الى يميني لحظة ملامسة جانب وجهها لكتفي عند هروبها للنوم قسراً بلا تخطيط...شقت ثغري ابتسامة حنونة ضعيفة من شدة ارهاقي.....أغراني سكون الجو واغواني قربها ...اطمأن قلبي فاحنيتُ رأسي على رأسها بلحظة دفء لذيذة اسرقها من الزمن مغمض العينين ذاهباً الى عالم الراحة والأمان .....!!

×
×
×

أشرقت شمس الصباح تضيء الكون بنورها باعثة أشعتها الناعمة على وجهي , تداعبني بحنية!!....تململتُ مكاني وفتحتُ عين واحدة رافعاً كفي للأعلى امامي للتخفيف من حدة ضوئها على حدقتي.!!..تأمّلتُ النائمة مبتسماً...تثاءبتُ بهدوء خوفاً من ازعاجها...نظرتُ الى الساعة وكانت تحذو نحو السابعة الّا ربع....لقد خطفنا النوم الى عالمه حوالي ساعة ونصف من الزمن !!.....يا الله....تفحّصتُ هاتفي الذي ينازع بطاريته المحتضرة فوجدتُ فيه رسالة مفادها أن السائق تأخر لظرف ما خاص به وسيكون عندنا بعد عشرون دقيقة بإذن الله!....أحسّت الأميرة النائمة بحركتي فتحرّكت ترمُش بعينيها لترفرف اهدابها الطويلة كالفراشة.... وفراشات كثر رفرفت معها في قلبي!!...سبقتها ناهضاً من مكاني فرفعت رأسها مع وقوفي ترنو الى وجهي....وبسمة.؟!...بسمة صادقة كالنجمة زيّنت بدرها....مددتُ يدي لأساعدها على النهوض واثقاً بصدّها لي....ويا للغرابة والعجب!....استسلمت صاغرة برضا منها تمسك يدي ....هل قلبت موازين الكون عندها ؟!...ما لها ؟....ما بها ؟...أوقعَ حجر على رأسها؟...أيعقل عاد لها عقلها ؟....أم نادى بالحب قلبها ؟!...وقفت ازائي ناظرة لعينيّ دون أن تبعدني عنها!!....وبصوتها النديّ الذي ينافس ندى الصباح على البتلات الرقيقة قالت:
" صباح الخير.."

لاحظتُ تمعنها بكل جزء في وجهي كأنها تتعرّف عليّ من جديد....رفعت يمناها وحسست على وجنتي تلهو بذقني بلمسات مثيرة وهمست بعذوبة لتذيبني ناطقة اسمي الحقيقي حاملة بين حروفه كل الفتنة كما تمنيتُ دوماً بأن اسمعه منها وليس بالطريقة الاستنكارية لحظة معرفتها هويتي ونحن في المخيم وقد شلّت كل حواسي:
" هادي.."

قرعت الطبول لتعزف لها لحن حبي...اهتزت الأوتار في صوتي لتغني لساحرتي غنوة...ألّفها نبض العشق في قلبي ....بانجذاب حارق حطتْ يديّ على وجنتيها الناعمتين...وأرضي نادت على سماءيها لتناجيهما بشغف....ولساني تعلّم الشعر...لينطق حروف الترنيمة....ترنيمة الهادي...... ترنيمة من ترانيم الصباح :
"... صباحُ الخيرِ يا عُمري
صباحُ حيائِكِ الخَمري
صباحُ الوردِ والدُفلَى
وكلُّ عوائلِ الزهرِ...."

بابهاميّ داعبت خدّيها منحنياً أكثر مبدّلاً النبرة دون التوقف عن الغناء لها مسلّطاً عينيّ بعينيها:
"....صباحُ الطلةِ الأحلى
ثمنْ ببهاكِ لا أدري
صباحُ النظرةِ الكحلى
كضوءٍ في مدى الفجرِ..."

حررتُ يمناي ومررتُ ابهامي على شفتيها برقة متابعاً بصوتي وحدقتيّ تجولان على تقاسيمها :
"....صباحُ البسمةِ الخجلى
على شفتيكِ كالبدر
صباحُ الدفءِ لا يَخفى
كلمعِ الكوكبِ الدُرِّي
صباحُ الرسمةِ الأوفَى
كلثمِ الشمسِ للبحرِ..."

أمسكتُ يدها ووضعتُ كفها على قلبي اضمّه بكفيّ وأكملت بهمسات ساحرة اتلاعب بدرجاتها:
"....صباح الشطِّ والمرفا
فأنتِ الأمنُ لي عمري
صباحُ الجُرحِ إذ يشفى
بهمسٍ منكِ كالسحرِ
صباحُ النسمةِ الأبْهى
تدغدغُ بالهنا صَبري
صباحُ دلالكِ الأدْهى
شغوفًا بالمُنى يَسري
صباحُ الغُنوةِ الولَهى
وينسجُ حَرفُها شِعري...."

كنتُ أغنّي بخفوت مذيب بينما كل جوارحي تحلّق في زرقاويها :
"....صباحُ عيونِكِ الأزهى
يُطاردُ سِحرُها فِكري
صباحُ الوجدِ يُلهمني
أفانينَ الهوى العُذري
صباحُ الروح تَغمُرُني
أيا سَكَني مدى الدهرِ
صباحُ القربِ يُسعِدُني
فقربُكِ مُنتهى الخيرِ...."

وبنغمات صوتية هائمة عَلا صوتي وانا امسك يديها أأرجحهما لها كأني اراقصها:
"...صباحُ العشق مدرارًا
كمثلِ الغيثِ والقطْرِ
صباحُ الوُدِّ أنهارًا
تفيضُ رُباهُ بالغَمرِ

رفعتُ يدها مقبّلها بقبلة سريعة وأبقيتها أمام ثغري وأنفاسي الدافئة تدفئها مستأنفاً بترانيمي اغازلها:
"...صباحُ الحُسنِ أبدَعَهُ
إلهي فيكِ بالطُهرِ..."

حررتُ يدها ورفعتُ يمناي أمسّد فوق حجابها تائهاً بنظراتي أتغنّى:
"....صباحُ الطوْقِ أصنَعُهُ
لفائفهُ منَ الدُرَرِ..."

انحنيتُ أكثر دانياً من عنقها المغطّى سابلاً أهدابي هامساً بضياع منتشياً بأريجها:
"....صباحُ السعدِ ايامًا
يفوحُ شذاها بالعِطرِ
صباحُ العزفِ أنغامًا
بألحانِ الجَوى تجري
صباحُ الشوقِ أحلامًا
يداعبُ سعدُها خِدري...."

وعدتُ ممسكاً بكفّها برقة اثبته على صدري ناطقاً بنبرة راجية متوسلة العشق منها:
"....صباحُ البوحِ أشياءً
وأشيا تبقى في سري
صباحُ الحبُ أرجوهُ
بأن تبقينَ لـــــــــي.... شطري...."....
(( كلمات الأسير سعيد ذياب ....فرقة غرباء))

وما إن انتهيتُ من الغناء لها حتى رأيت تلألؤ العشق برغبة داخل مقلتيها فسحقتُ المسافة الضئيلة لتعانق شفتيّ شفتيها بتجاوب من كلينا نرسّخ غرام نابضينا بقبلة كانت الأجمل والأطول والأعظم حقيقية مثل حقيقتنا التي نعيشها بهذه اللحظات الخالدة .....الحقيقة الوحيدة بعيداً عن حياتنا السابقة المزوّرة .....كانت كأنها قبلة الحياة والعشق السرمدي...بين الألمى والهادي...!!

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

مهما كانت عنيدة...ذات كبرياء مرتفع...هي تبقى (دنيا) الطيبة ...بمعدنها الأصيل...!!...واليوم هو موعد زيارتها للطبيبة من أجل الاطمئنان على أعضاء الجنين والكشف عن نوعه !!.... البارحة عصراً بعد أن خرجت من المشفى وأوصلهما سائقهم الخاص الحاج ( أشعب ) ناضلت أمي بإصرار باذلة قصارى جهدها معها حتى ساعات الليل لتتنازل عن عنادها في رفضها لمرافقة زوجها لهذا الفحص بالذات !!..وفي النهاية أقنعتها بأن لا توجّه له أي كلمة بتاتاً وأن الذهاب معه لا يعني أنها سامحته أو أنها دهست كرامتها إنما تحت مبدأ أنه والد الجنين ومن حقه أن يعرف عنه كل شيء دون وسيط ولأنها تعلم كم أنه انتظر هذا اليوم المنشود بحماس راجياً من الله أن يمنّ عليه بطفل ذكر وقد صمم على تسميته باسم جده احتراماً ومحبةً له رغم معارضة زوجته لأنها قد اختارت لابنها الاسم منذ طفولتها !!....اسم اتفقنا عليه كلينا ...كنا قد عاهدنا بعضنا بأن تسمي هي ابنها به وأنا اعطي ابنتي الاسم الآخر الملازم له.....سأخبركم بهما لاحقاً.!!....الآن علينا معرفة نوع الجنين والاطمئنان على صحته !!.....الموعد في الساعة التاسعة وبقيَ خمسة عشر دقيقة ليحين.!!....كانت تجلس في غرفة المعيشة بضجر متأففة تهز ساقها متوترة من لحظة لقائها به....تدّعي أنها لم تعد تطيق سيرته !!....فالجملة التي قالتها الشقراء ظلّت تنخر في مخها وتصدعها وتجعلها ناقمة على ظروفها وعلى كل شيء وكلما تخطر في بالها تزيدها اشتعالاً ونفوراً منه..." يا الله متى سيأتي الموعد وينتهي لأخلص منه ؟!.."...سألت في سرها تخدع قلبها وسمعت بعدها زامور سيارته وهو دالفاً للساحة !!....ابتسامة ماكرة خطتها على محيّاها بعد أن لاحت فكرة فورية ثعلبية برأسها وبدأت تطبّقها بحرفية بداية من استرخائها أكثر في جلستها ثم فتحت على احد مسلسلاتها في الهاتف تتابعه فهي تعرف أكثر ما يستفزّه مشاهدتها لهذه النوعية من المسلسلات وإن لم يرها الآن!!.....ليكن !...يكفيها أن تثبت لذاتها أنها خرقت قوانينه التعسفية!!... وكذلك يغيظه عدم الالتزام بالمواعيد فهو لم يعد (سامي) الصغير الذي كان لا مبالي فكلية الشرطة علمتهم على الانضباط ....والأهم أن ورديته تبدأ في العاشرة اليوم!!....رائع ستؤخره!!....إن لم يعجبه كل هذا اذاً فليتركها ليلتفت كلٌّ منهما الى عمله !!....سمعت تكريره للزامور بشكل متقطع كي لا يزعج الجيران .....كانت أمي في الأعلى فنادتها :
" دنيا....يبدو أن زوجك وصل...هيا اذهبي بنيتي!..."

عند كلمة زوجك حرّكت شفتيها تلويهما باستهزاء وردّت ببراءة:
" حسناً أمي.."

قالتها ولم تتزحزح من مكانها لدقائق أخرى قليلة .....أما من كان في السيارة شعر أن عقل الضفدع بدأ يعمل عندها فهو يعلم أنها منظّمة في مواعيدها مع الطبيبة وإذا تأخرت ستأخذ غيرها دورها وستضطر للانتظار نصف ساعة اضافية وهي انسانة فاقدة للصبر وتأخيرها ليس الّا نكاية به..!!....لمّا رأى أن الباب لم ينفتح ترجّل من السيارة واتجه للمدخل ....لمحت حركة طيفه من النافذة الكبيرة للغرفة مقبلاً فأسرعت تسبقه الى الباب وقبل أن يرفع يده لطرقه كانت قد فتحته فتبسّم باشتياق هاتفاً:
" أسعد الله صباحك..."

باقتضاب وصوت جاف ردت بعد أن أغلقت الباب واجتازته شامخة بسموّ:
" أهلا."

هزّ رأسه بأسى ...ونخزة مزعجة أحسّها في صدره ثم لحق بها.....رغبت أن تجلس في الخلف لكنها لن تظهر له أنها تختبئ منه وعلى العكس أن تجلس جانبه وتنظر للخارج سيكون مقنعاً أكثر وظاهراً بوضوح اشمئزازها من تواجدها معه..!!...هكذا يتعذّب وستستلذ بعذابه.... وهي تُنكر أنها المعذّبة !......بعد أن خرجا الى الشارع اعتمد الصمت رفيقاً له.....لا يريد أن يثيرها وقد وصلته شحناتها المكهربة ....لا وقت لاستنزاف طاقات....لم يسأل عن حالها وأحوالها وهذا جعلها تتفتت غيظاً داخلها....تريده أن يسأل مهتمّاً وغايتها في ذلك أن تقهره ولا تجيبه لكن أمانيها تبخّرت في الفضاء....كان سلاحه التجاهل واللا مبالاة... السلاح الفتّاك الذي يصيب الآخرين بسكته قلبية!!....في منتصف الطريق والهدوء سيد الموقف بينهما بذات اللحظة مدّا يسراها ويمناه لزر المسجل فتلامسا لا ارادياً....قشعريرة اخترقت جسده ملهوفاً للمسها بلوعة.....ولوعة اعتصرت قلبها لرؤيتها الجروح على قبضته ....لوهلة!...كانت ستضعف وتسأل بحنان عن سببها....لكن عنادها يقف لها بالمرصاد كأسوار الحماية الشاهقة للقلعة !!...فضول كريه يقتلها ....نهرت نفسها عن الاستسلام له وأعادت يدها لحجرها فهمس والألم يحرقه....ولِكم قد آلمه فعلاً عدم عطفها عليه وهي التي لا تطيق أن تخدشه شوكة ..:
" أترغبين بشيء محدد ؟!.."

" هأ.."
تمتمت بها كإجابة لـ لا وهي تتكئ على حافة الباب بمرفقها وظهر كفها يحجب شفتيها وكأنها تبخل عليه بصوتها وكانت عيناها على الطريق فوضع على إذاعة الأخبار.....أعجبها أو لا ....الموقف غير ملائم لأغنية شاعرية لأنهما سينفجران ضحكاً بقهر أو غضباً وصراخاً....ستتحرك مشاعرهما وينفعلان ....إذاً فليتسليا بالاستماع عن الحرب أفضل من أن يشنّا هما الحرب !!....قبل الوصول الى موقف مركز رعاية الأم والطفل , وردته رسالة على هاتفه الخاص ..تفحّصها بابتسامة عند معرفته مصدرها ....كانت للتأكيد على أمر ما قام به أما التي بجانبه لم تفتها ابتسامته الرجولية التي تشلّ أطرافها فصعدت الدماء الى دماغها ولوّنت وجهها بغيرة عندما أتت بمخيلتها صورة الشقراء !!.....ودّت أن تنفجر وتفجره وترتاح !!....بنظرة جانبية استطاع قراءة أفكارها وكم أسعده احمرار وجهها....رآه مثل بادرة أمل....إذاً ضفدعته ما زالت تغار ولم تقتل كل المشاعر نحوه!!....نزلا من السيارة واسرعت بخطاها تسبقه ....لقد تأخرا عشر دقائق عن الموعد ومن حُسنِ الحظ أن المرأة التي قبلها تأخرت في الداخل عند الطبيبة وبهذا لم تفقد دورها......دخلا مباشرة وألقيا التحية على الطبيبة التي لاحظت هدوء الأشقر على غير عادته فهي بلقاءين سابقين عرفت روحه المرحة وثرثرته وحماسه لابنه .....طلبت من (دنيا) التوجه للسرير خلف الستار وأن تخلع فستانها ليتسنّى لها الوصول الى بطنها براحة دون عراقيل....امتثلت لطلبها فلحقتها الطبيبة لتجلس على كرسيها ووضعت المادة اللزجة الباردة على أسفل البطن وأمسكت الجهاز وبدأت تتفحّص بدقة تركّز بالشاشة بعد أن نادت على صديقي ليشاهد معهما الجنين في جوف رحم دنيته....!! ....بعد دقائق قالت:
" الحمد لله.....كل شيء سليم حتى الآن..."

تمتما حامدان الله وأرهفا السمع يصغيان اليها بترقّب وتشويق ينتظران لتخبرهما عن جنسه فأكملت مازحة بابتسامة:
" على ما يبدو ابنكما سهر الليلة وجائع للنوم.....انه نائم ولم يتحرّك لنرى جنسه!!.."

تأفف الجبل الشامخ ماسحاً جبينه بكفه بإحباط بينما المستلقية استكانت مهزومة بخيبة فتابعت الطبيبة توجّه الكلام للواقف:
" يمكنكما الخروج وشراء قطعة شوكولاتة للأم لأكلها أو عصير والعودة بعد قليل.....الطعم الحلو سيحفّزه للحركة.....يوجد ماكنات فورية في بهو المركز وبقالة جوارنا في الخارج.....لا تيأسا سنعرف ولد أو بنت اليوم بإذن الله...."

نهضت الطبيبة عائدة الى طاولتها تاركة خلفها الذي تنهّد بارتياح ثم ألقى نظرة سريعة للتي عدّلت جلستها لترتدي فستانها فوقع نظره على الشامة الصغيرة التي تعلو صدرها الشبه مكشوف فازدرد لعابه بقهر من شدة توقه لزوجته مسترجعاً بعقله وقلبه كيف يشاغبها حتى تنصهر خجلاً واثارة وهو يداعبها منها ويقبّلها لها ويتغزّل بها.....ليلتان على التوالي حُرم من أنفاس دنيته ودفء احتضانه لها والطرب على نبضاتها حتى ينام بسكينة وهو يضع يده على بطنها يجذبها إليه ليحتضن معها ابنه ..!!.....هذا ما جناه بتسرّعه وغضبه!!....فليحترق العالم أجمع....ماله وكلام النساء ؟!.....شقيقته تنام آخر الليل بسلام مع زوجها والشقراء تنام مستمتعة بأفعالها والانتصار وهو؟!...هو على ماذا حصل غير أنه هدم جسراً كان يوصله لشهد عينيها ورحيق شفتيها؟!....
خرجا متجاورين بتباعد ثم انحرفت الى يسراها لتجلس على مقعد شاغر....تركها وذهب ليشتري لها من الشوكولاتة التي تعشق وعصير عنب!....عاد إليها وكانت جالسة تضع ساقاً على الآخر مندمجة بالهاتف وضحكتها تشقّ وجهها وهي تراسل صديقتها (سلمى) المتفرغة فاليوم المحاضرات تبدأ في وقت متأخر ....مدّ لها ما بيده هاتفاً بين الجدية والرقة:
" امسكي وكلي لنرى مفعوله..."

كانت قد لمحت اقترابه منها وهيأت نفسها لتجاهله ...كرر طلبه بصبر يحترفه فرفعت وجهها ببرود ناظرة إليه ثم فكت ساقيها مستقيمة بوقفتها ورفعت رأسها بغرور هاتفة وهي تجتازه:
" لا أحب هذا النوع.....يمكنك أكلهم....أنا سأشتري لنفسي!.."

واتجهت الى احدى الماكنات لتختار ما تريد دون أن تلتفت لمن غلت دماؤه وصك فكيه للحظات قبل أن يتمتم بغيظ مستغفراً ليهدأ بعد جرحها له بأسلوبها القاهر ثم سار خطوات عديدة ليعطي ما بيده لطفل جالس جانب والدته....!!......
كانت تأكل اصبع شوكولاتة باستمتاع وطفولية وكان من نفس النوع الذي اشتراه ورفضته وهي واقفة مستندة بجسدها على زاوية الماكنة التي اشترت منها وتضع ساقاً خلف الآخر وتجول بعينيها على كل شيء الّا هو وقلبها وفكرها معه هو !!...كانت تمضغ ما بفمها بنعومة وأي نعومة ؟!....أيذهب ويخطفها هذه اللحظة ويعاقبها من تلك الشفتين؟!...لم يحيد نظره عنها وإن كان بعيداً فهو صاحب النظرات الثاقبة سيادة (العقيد)....ومن بعد لحظات تيه وهيام بها حكّ عنقه زافراً بقوة وهارباً بعينيه إذ أنه أحس وصوله بداية الذوبان من حركاتها اللاسعة التي بدأت تثير أحاسيسه وخاصه وهي تلعق أطراف شفتيها بحركة لعوبة...!!.....ألقت الغلاف الفارغ بحاوية قريبة منها وبدأت تتمشّى في الأروقة ليمضي بعض الوقت وهو يراقبها بين الثانية وأختها.....أقبلت نحوه تسير مرفوعة الهامة بعزّة تليق بابنة قائد مغوار وهمست دون التطلع عليه..:
" أظن يمكننا الدخول الآن.....سأرى السكرتيرة!!.."

لم ترَ ايماءة رأسه وأدبرت لتستفسر إن كان بإمكانهما مقابلة الطبيبة ....ثم فرقعت بإصبعها وهي ترفع ذراعها لتناديه بالإشارة دون النطق باسمه بعد أن أخذت الإذن....لقد كان المكان هادئاً ويمكنه سماع الابرة لو سقطت أرضاً.....يعي تماماً غايتها ولا تعي هي كمية الرماح التي تنهال عليه بتتابع منها وهي تستصغره كأنه ليس حبيب عمرها وأشقرها.....لم يمر يوماً عليه سابقاً وسمح به لأحد للتعامل معه بهذه الطريقة المهينة لروحه لكنه يمنّي نفسه لربما هذا عقاب بالتقسيط ليفوز في عفوها وصفحها عنه بعد ذلك !!.....سيصبر ويتحمّل ويجمّد كرامته الأبية مؤقتاً ليصلح ما هدمه !!......
أخذ بعض الوقت مع الطبيبة وهي تحاول كل المحاولات لتحرّك ذاك الكسول وهي تضغط بخبرة على بطن (دنيا) ليظهر أخيراً بعد جهدٍ جهيد جنسه....تبسّمت هاتفة وهي ترفع راسها جانباً تنظر للواقف مرة ثم تعيد عينيها لشقيقتي:
" مبارك.....ولد بإذن الله..!!.."

كل شيء كذب وكل حركة لهما تمثيلية وكل كلمة مزيّفة كانت الّا أنهما مهما أنكرا أو أقسما لن يستطيعا اقناع أحد رأى تلاقي أعينهما العاشقة لبعضهما هذه اللحظة مع بريق البهجة والسعادة الذي يشعّ منهما وتسارع نبضاتهما بلهفة وشدّ عضلات وجهيهما بابتسامة عريضة عفوية أن هذا ليس حقيقياً..؟!.....كانت ردة فعليهما تلقائية عند اختراق البشرى لآذانهم....لو لم تكن الطبيبة تحجب بينهما لانقضّا على بعضهما يتعانقان بحرارة....جثى (سامي) أرضا ساجداً سجدة شكر لله داعياً بأن يحفظ ابنه ويجعله من الصالحين وخاصة بعد اطمئنانه أن كل شيء سليم فيه وفي هذه اللحظة كانت زوجته تتأمّله بحبور وفي داخلها تشكر الله على شيئين....اولهما سلامة ابنها وثانيهما وجود الطبيبة لتمنع تهورهما من العناق خشية من افساد مخططاتها التي رسمتها !!.....قبل الخروج من عند الطبيبة أخرج مالاً ورقياً ذا قيمة مرتفعة ووضعه على طاولتها حلواناً للبشرى فاعترضت قائلة بلباقة وابتسامة راقية:
" كلا سيد سامي....لا يمكنني أخذه ...هذه وظيفتي لم افعل شيئاً!..."

ردّ مصرّا بتواضع:
" قسماً لن يعود هذا المال....هذه هدية ابني لكِ...وهديته لا تُرفض...عيب.!!.."

هزّت رأسها مبتسمة بحياء وكررت مباركتها لهما ولمّا خرجا توقف عند رجل ستينيّ بسيط الهيأة وظيفته حراسة المبنى وأخرج مرة أخرى المال وناوله إياه سراً بعيداً عن أنظار المارة حلواناً عن ابنه...!!....
×
×
×
بينما كان قلب كلّ منهما يرفرف بسعادة محتفلاً داخله دون مشاركة هذه الفرحة لبعضهما لفت انتباه (دنيا) اتخاذه طريقاً مغايراً لطريق العودة...استقامت بظهرها بتأهب ترنو الى جميع الاتجاهات وقالت بجدية بعد أن هبط قلبها عند رؤيتها أنه توجّه قاصداً خارج المدينة الجبلية:
" الى أين أنت ذاهب؟....أنا اريد العودة الى البيت ..!!.."

" بيننا كلام....سنتحدث بهدوء وتروّي ثم سأعيدك الى البيت.."

قالها بكل برود واثقاً وملامحه مرتسمة برزانة....فهبّت تستدير نحوه هاتفة مستنكرة:
" لا حديث بيننا حضرة العقيد.....أعدني حالاً الى البيت... كيف تثق أني سأكلمك بشيء؟...ها؟...انتهى الكلام عندي....."

وأعادت جسدها تستند بظهرها على ظهر المقعد شاردة بالسيارات أمامها وتابعت بهدوء عاصف متسلّحة بكبريائها:
" اذهب وتكلّم مع من تستمع لهم .....أنا لا أعمل تحت مزاجك يا سيد!! ...متى شئت تكلمني ومتى شئت ترميني!!....ليس زوجي الذي يثق بغيري أكثر مني...ليس زوجي الذي يدير لي ظهره وانا في قمة احتياجي له......"

والتفتت نحوه برأسها تشدّ على شفتيها لتبتلع غصّاتها بينما لون العسل اختلط بطوفان من الدموع دون أن يفيض الى الخارج وهتفت آمرة بأدب وثبات:
" من فضلك....اعدني الى بيتي ..."

كان يصغي لها صاغراً يخفي أنين الفؤاد العليل ورغم الأسقام التي تحملها روحه الّا أنه سيحارب من أجلها حتى أخر رمق....لن يذعن لها وإن بدا قاسياً مستبدّاً....سيعرف منها كل ما جرى....سيفعل المستحيل لينال كل واحد جزاءه ....أما هو أخذ الجزاء...بيده أحدث انقلاباً على حياته المستقرة الجميلة وأشعل ثورة غضب ليكون أول من ألقيَ في نيرانها...!!!....استمر بسيره داعساً على الوقود مركّزاً بالشارع دون أن ينبس ببنت شفة..!!...علت بصوتها تكرر طلبها فأجاب بخفوت دون النظر إليها..:
" سنتحدث وأعيدك بإذن الله..!!....ارتاحي ولا تحرقي أعصابك!!.."

صرخت محتجّة:
" أنا أقول لك لا كلام عندي.....ارجعني الى بيتنا.....ما هذا الاستبداد ؟!....منذ متى اصبحت قاطع طريق ؟!..."

" استبداد من أجل العدل والانصاف.....لن أتركك دون أن نتحدث ...قسماً سأرد لكِ كرامتك واعتبارك أمام الجميع وليعرف كل مخطئ حجمه!!.."
نطق ما عنده بحرقة مسيطراً على نبرة صوته التي لا يحب أن يُظهر اهتزازها لأحد فقاطعته تكمل احتجاجها بمجد واعتزاز:
" ما عاش من يدعس على كرامتي واعتباري سيادة العقيد....لن يؤثر عليّ أقوال أراذل الناس....فأنا كنتُ.. وما زلتُ.. وسأبقى.. دنيا ابنة القائد محيي الدين عبد الهادي الشامي... من نشأت على الشجاعة والتي ربّتها عائشة على حُسنِ الخُلقِ والدين وإن غديتُ بقايا عظام تحت الثرى...!!.."

تبسّم رغماً عنه مسروراً لكبريائها الذي يعشق....لطالما أرادها شامخة لا تنكسر وهو دائماً يعتز متفاخراً ومتباهياً بهذا النسب الذي يشرّف كل بيت.....ولكنه داهي محنّك بنباهة وكبرياؤه يتنافس مع كبريائها ....هل سيسمح أن تهزمه ضفدعته الجبلية؟...طبعاً لا....فهتف برصانة تليق بشخصيته:
" الكلام شيء والفعل شيء آخر.....اثبتي لي ما قلتِ توّاً بمواجهتي يا دنيا محيي الدين عبد الهادي الشامي....فابناء محيي الدين رحمه الله لن يختبؤوا كالفئران بالجحور أو يفرّوا كالجبناء....هم يقاتلون بنزاهة وجسارة....هكذا يفترض.....أم أنني مخطئ؟!...."

وتنهّد متابعاً:
" اعظم درجات الشجاعة الاعتراف بالخطأ دون تملّص ومراوغة وأنا سامي ابن محمود مصباح الأنيس أقرّ واعترف أنني تسرّعت بموقفي واخطأتُ بحقك....واريد أن أصلح موقفي!!..."

فكرت بأقواله ثم أجابت بجفاء:
" تصلح او لا تصلح ما عاد يعنيني ....كل شيء أصبح واضحاً عندي!....ولا تفتح تحقيقاً معي فأنا لستُ احد المجرمين في زنزانتك.....ولا داعي للضغط عليّ والعبث بنقاط ضعفي!!..."

قالت ما عندها ولاذت بالصمت!!....بينها وبين نفسها هي على يقين أنه لن يتنازل أو يستسلم فهي تعلم انه يحمل عناد الضباط والمحققين بالإضافة لديه قوة تحمّل وصبر ليحصل على مبتغاه ....ارتأت السكوت على المجادلة هذه اللحظة وسترى الى أين سيصل معها.....لكن قرارها لن يتغير اطلاقاً....لقد اتخذته وهي بقمة الألم كي تتذكره ولا ترتدّ عنه..!!
×
×
×

سحقت المسافة ساعة ونصف من الزمن وصولاً الى المدينة الساحلية!!....لقد كانت هي وجهته وما إن دلف الى طريق ضيّق فيه اشجار كثة متراصة تشتبك ببعضها تصارعت دقات قلبها !!.....يا الله.....إنه ذات الطريق المؤدي الى منطقة الشاليهات.....تخضّب وجهها بالأحمر القاني مسترجعة أجمل ليلة من ليالي العمر ووعده لها بأن يعيدا الأيام الخوالي بزيارة المكان الذي أمضيا نصف الأيام فيه غارقان بالعسل والنصف الآخر حين قتلها الشك به وقد قرر آنفاً تعويض ما خسراه..!!.....لاحظ حركة صدرها القوية ولفحته أنفاسها الساخنة رغم المدى بينهما ...ثواني عاشت نزاعات داخلها....هل يظن أنه سيغريها في شهر عسل آخر؟!...لعبت الوساوس وتداخلت الأفكار في ذهنها فالتبس عليها الأمر!!......اخيراً انفعلت تجسّد هواجسها قائلة عند وقوفه لذات الشاليه خاصتهما والذي حجزه البارحة ليلاً لمّا اخبرته حماته بموافقتها على مرافقته للفحص ووصلته رسالة تذكير بالحجز عندما كانا معاً بطريقهما للطبيبة:
" لمَ أتينا الى هنا ؟!....ارجعني حالاً....لا تحلم بما تفكّر به..."

وأكملت بحماقة وأشدّ قسوة وصلت اليها:
"...قسماً يا سامي أنني لن أسمح لك بلمسي..."

وصرخت بحدّة:
" أتفهم ؟!.."

قسمها لعب بجروحه الغائرة العميقة وأفاض الدماء منها فانفعل مثلها صارخاً بلهجة مليئة بالشجن والغمّة وهو يستدير بجذعه نحوها ولو ركّزت بعينيه لرأت احتقانهما بدموع لم يذرفها يوماً الّا ساعة وداعنا تحت شجرة الخروب وقت الهجرة منذ سنوات:
" اللعنة!!....كيف تقسمين هكذا قسم؟!....كيف تجرئين؟!....من أين لكِ هذه القسوة من أين؟!....من قال أني أتيتُ بك هنا لألمسك؟!...ماذا تظنين بي؟!.....تباً لكِ....ذبحتيني!.....أيّ جرم عظيم فعلت لتحكمي على قلبي بالموت ؟!....ماذا تريدين ..؟...قولي..!!...قولي.!!.."

تمزقت تمزيقاً من لهجته الغريبة....لهجة بين الرجاء والضعف....احترقت احتراقاً مع احتراقه ....شوق كبير لحضنه الحنون.....ندم حقير يخنقها من قسمٍ نطقته بتهور وجنون..!!...ستلقّنه درساً وهي من خاضت الامتحان..!!....أغاضبة فعلاً من مجيئها لهذا المكان أم خوف ورهبة تملّكاها مهابة من الاستسلام لسحر حبه وحنانه ورجولته الفذّة ؟!....ماذا ستجيب على سؤاله؟!...هل هي تعرف ما تريد ؟!....أم أن كل ما تعيشه الآن هو من البراكين التي تتفجر داخلها لأنها لم تُرِ قريبته حجمها الطبيعي وأعطتها الفرصة لتذوق لذة الانتصار عليها بصمتها ؟!....كيف ستبوء له عمّا يجثم على صدرها ؟!........لمّا وجدها ملتزمة بسكوتها كأن القطة ابتلعت لسانها فتح بابه بغلّ وترجّل عاصفاً مصعوقاً وولّاها ظهره ناظراً للبحر مدّ بصره....ليت البحر يحمل وزره....ليت البحر يغسل ذنبه.....ليت البحر يبتلعه ولا يعيده.....روحه تبكي وقلبه ينزف !....بنى آمالاً كثيرة وحطّمتها له ولم يكن استغلالها جسدياً من ضمن آماله.....لقد ظنّت به السوء!!...هي حلاله لكن لا يأخذ حقه بالخديعة او الإجبار مُطلقاً مهما ارادها واشتهاها....جلبها هنا ليتحاورا بعيداً عن الجميع كي تأخذ راحتها بأي ردة فعل سواءً كانت عنيفة أو رقيقة وربما يكون حواراً حضارياً!!....بيتها غير مناسب للمواجهة ...لا يريد أي تدخل وبيت أهله كذلك ....أما بيتهما الجديد لن يسمح أن يدخلاه بمشاجرة....لن يدخلها إليه الّا وهو يحملها على ذراعيه بحب وحنية متخطياً عتبته برجله اليمين وضحكاتها السعيدة تملأ الأرجاء !!....وجد أن هنا بعيداً عن ضوضاء البشر والشارع هو أنسب مكان وكان قد أحسن اختياره الذي سرعان ما لطّخته بقسمها الفظيع هادمة حصونه المتينة وقطّعت شرايين قلبه!!....
تطلّعت عليه بأسى....ذاك الأسى الذي ينتجُ من احتراق الأرواح العاشقة .....عتاب وملامة كثيرة تودّ أن تصدح بها .....حارت بين قلبها وعقلها....امتنع الأول عن تصديق ما سمعت من بين شفتيّ تلك الشقراء ....ظلّت صامتة حينها مكبّلة بلسانها ....عارضت نبضاتها ما قالت لكن العقل قضى على جرأتها وأهلكها.....لم ترمش قط وشهديها مسلّطتان على أشقرها الذي جرحها ونزف منه الألم مع جراحها.....طيف الذكرى اللئيمة وصوت نكرة كرهته عاد يحوم حولها ليرن صدى ما تفوّهت به غريمتها وأخذ يتردد في جوفها...
" حتى انه وافق وهدر كرامته في قرار لم نتوقعه منه بالذات وهو السكن في بيت زوجته....وكله بسببك لحمايتكم..."
" أُجبر سامي لعيش الكثير وحمل حملاً فوق طاقته وتنازل عن مبادئ له وذل نفسه من أجلكم لأنكم أهل أعز صديق عنده وتوأم روحه..."
" منذ صغرنا والعائلة تقول لنا ....سامي لأريج وأريج لسامي.....خالتي كانت دوماً تتمناني عروساً له.....لكن لا نصيب...."
" تغيّر كل شيء عندما احتاجته بلاده...وقرر تلبية النداء .."

وهنا انهارت حصونها وقتها وابتلعت لسانها ولم تعد تقوى على الدفاع:
" اضطر للموافقة على الزواج بك باسم الوفاء للصداقة والوطن .....حتى انه لم يكن يعرفك ولم يركِ......لم يستطع سامي ردّ شقيقك عندما طلب منه بنفسه هذا ليحمل الحمل عنه ويساعده بمهمته...!!....فكان سيفعلها لا محالة مهما كان مظهرك....."

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

اتصال بلا موعد وردني على هاتفي الذي تبقّى القليل فقط لنفاذ كامل شحنه ونحن في طريقنا مع السائق الى مدينة عمتي والسيد (سليم الأسمر)....كان اتصالاً باسم السيدة (ايمان) والتي لم يتوانَ ولم يتأخر السيد (ماجد) بإخبارها عن كل ما حصل ولكنها عزمت على اخفاء هذا بشكل مؤقت عن صديقتها لأنها لا تريد احزانها واشغال بالها.....فيكفيها الآن ما تصارع!!......لقد حدثت مستجدّات في وضعها الصحي منذ يومين وأبقته مرافقتها طيّ الكتمان حتى تتأكد من شكوك الأطباء وكان شيئاً لم يخطر على البال ...لقد لاحظوا ضيق التنفس عندها وسعال مستمر وبحّة خالطت صوتها.....شخّصوا ذلك بوجود مياه على الرئتين الذي ممكن أن يسببه العلاج الكيماوي وقاموا بكافة الفحوصات اللازمة ليتفاجأوا بإصابة رئتيها بالسرطان دون اعراض سابقة عافانا الله.....صدق من سمّاه المرض الخبيث!.....لقد نهش منها ما نهش ولم يرحمها وتظل رحمة الله هي الواسعة....اقرّوا بتلف هذا العضو المهم في الجسد وخمّنوا لموته داخلها اسابيع قليلة والله أعلى وأعلم......وقد رأت السيدة (ايمان) انه حان الوقت لتعلم (ألمى) عن وضع خالتها الصحي علّهما تتصافيان قبل الوداع الأبدي....فكرت بحكمة راجية أن تعطف عليها !!.....فتحتُ هاتفي بتأهب وجلاً من غرابة الاتصال وبعد التحيات اخبرتها بالاستعجال بما تود قوله لأن الهاتف على مشارف الاغلاق ولمّا طلبت مني محادثة التي معي وكانت تجلس في الخلف مددتُ لها إياه .....فقط كلمات يسيرة سمحت للتي على الجانب الآخر القائها لا علاقة لها بالمرض وخالتها وعندما همّت الاخرى بإعلامها عن وضع السيدة (فاتن)... اوقفتها ولم تعطها المجال ومنعتها مما تنوي الفصح عنه وقد ظنّت انه سيكون محاولات فاشلة وترقيع عن فعلتنا فما زالت متخذة موقفاً حاداً وقاسياً وأجابت بنبرة حازمة وبرد لاسع كصقيع القطبين....شديد السخونة كحرارة الصحراء.....لا حياة فيه كالمقابر تطلب منها توصيل رسالتها:
" لا اريد التحدث بأي موضوع وفقط اخبريها أن ألمى الساذجة لن تسامحك ولن تسامحكم جميعاً....كلكم منافقون...."

ومسحت برأس اصبعها الشاشة بغلّ تغلقه في وجهها قبل الاستماع لأي حرف وناولتني اياه بحركة عدوانية ثم التفتت للنافذة تسرح في الطريق هامسة بسرها بعد أن هربت دمعة يتيمة ترافقها في محنتها..
" لن اسامحك خالتي ...وإن فعلتْ لن يكون بسهولة كما تظنين.....قتلتِ ابنتك بيدك.....لأرى كيف ستنجبينني من جديد وكيف ستحيي محبتك داخلي......ما زال لديّ الكثير الكثيير لأقوله لك حين اراك ولن اتفوّه به الا بعد اثبات براءة أبي لأستشف الانكسار في اعينكم حينها.....ربما في ذاك الزمن اعفو واصفح!!......اتركوني الآن وشأني..... "

ولا تدري ان ذاك الزمن لربما انه لن يأتي حتى تصفح...وأن شبح الموت يطوف فوق التي لن تنجبها من جديد ولن تحيي لها محبتها ........وستندم حين لن ينفعها الندم....!!
لحظات من الصمت مرّت على كليهما .....هو يسبح من بعيد في البحر وهي تسبح بالكلمات التي سمعتها من ابنة خالته!!....تنهّدت بعمق مغمضة عينيها ,مسترخية بكافة ملامحها ثم طردت أنفاسها ببطء لتتخذ قرارها ....يبدو أنها رجّحت كفة الاستماع اليه لينتهي هذا اليوم!!....مسكت حقيبتها بقبضتيها تشدّ عليها وهي ناظرة إليها وتبسمل تريد أن تشجّع نفسها على النزول!!.وتمتمت بخفوت:
" يا رب...قوّني!.."

...كاذبة إن قالت أنها لا تودّ الهجوم عليه وفعل العجائب به انتقاماً منه ومن ثم احتضانه بقوة لدرجة أن تحبس نفسها داخل قفصه الصدري قُرب قلبه ...مشاعرها ليست بيدها .. عاشقة حد الإدمان و حانقة حد الجنون.....ألا تغار عندما سمعت تلك الشقراء تخبرها أنهما كانا لبعضهما ؟!...ألا تغضب وهي تُسمعها أنها وأخيها السبب بتغيير سير حياته؟؟!!.....أجل ستنزل الآن وتصفعه بما سمعت!!.....أضاع فرصة الوثوق به عندما لم يصغِ لها لحظتها ....لو فقط ردّ على الهاتف أو انتظر لتخبره بما جرى لدعمت قلبها الذي كذّب أقاويل قريبته!!.....صدمتها بوقاحتها وهي في عقر بيتها .!...لم تتوقع اطلاقاً أن تصل بها الجرأة لتشعرها أنها معجبة بزوجها أو تحبه حتى لو أصبح من الماضي....غيرتها لم تكن عبثاً منها فقد كانت تشعر بميل قلبها لمن ليس لها فقط من نظراتها وحركاتها معه !! ....حاولت ايقافها بأدب عن كلامها لكن كيد تلك وحسدها وصل أقصاه فألقت عليها كلماتها الأخيرة لتخرسها وهي تخبرها أن (سامي) لم يخترها بإرادته إنما أنا شقيقها من أحرجته وطلبت منه الزواج بها !!...أخذت تحلل الكلمات الرهيبة في عقلها وحاولت ربط الأحداث ولكنها قطعت لها حبل أفكارها عندما أكملت بمشهد تمثيلي درامي فور رؤيتها لشقيقة صديقي تدخل إليهما الغرفة فادّعت مستضعفة أنها قامت بطردها .....لم تعد تدري أتفكر بما قالته أم تنكر الاتهام آنذاك؟! ....لم تعلم من الأهم عندها تلك اللحظة ؟!...صمتت دون رغبة منها وهي سارحة في عالم بعيدة عن اسئلة (رزان) التي نزلت عليها كزخّ المطر.....ولمّا بدأت تعود الى الواقع كانتا قد ذهبتا كلتاهما فقررت الاتصال بزوجها لإعلامه ما جرى واثقة به وأنه سيكون صريحاً معها وستأخذ صدق القول منه وحده وستحكي له عن الكلام الذي صدر منها ايضاً كي لا يلومها ولكنه هدم كل شيء بردة فعله الدفاعية عنهما ضدها !!.....فهنا قصف احساس قلبها وساند ونصر الوساوس في عقلها ..!!.....وبينما كانت هي الآن تشجّع نفسها للنزول والمواجهة كان قد وصلها بطلاقة ودمه يغلي في عروقه من قسمها الذي أقرّت به بمعنى أنها لا تريده ولا تريد قربه ...لم يخفف هواء البحر من وطأة جملتها عليه.....لم تنتبه له الّا لمّا فتح الباب بغل وأمر بنبرة مرتفعة مجروحة مشيراً بسبابته ارضاً:
" انزلي حالاً....لن أعيدك الى بيتك قبل أن تخبريني بما حدث حتى لو بقينا أياماً هنا...!!..."

أجفل قلبها من حركته ونبرته ...أتنكر أنها خائفة من وجهه هذا ؟!...إنها خائفة من الجدّية المرسومة على ملامحه....هربت البشاشة وحلّت القسوة !!....في النهاية هي امرأة رقيقة لا تقوى على مجابهة جبل مثله !!....نزلت وأنزلت معها كبرياءها ...أجادت في رسم العزّة والأنفة على تعابير وجهها...أنفٌ شامخ وذقنٌ مرتفع وحاجبان احدهما مستقيم والآخر مرفوع الزاوية.!!..وكتفان مستويان!!....ستتحداه رغم الرهبة التي تسللت إليها ...مشت خطوات واثقة اختلقتها وهي تقنع نفسها أنها صاحبة حق وصاحب الحق هو الأقوى!!....صفع الباب من خلفها واجتازها ولم ينظر إليها ....لن تنفعه رقته معها ولا ينفعه حبه هذه الساعة....فهي أصدرت القرار وحكمت بإعدام قلبه!!.....دخلا الشاليه...اقفل الباب ووضع مفتاحه في جيبه !.....تسارعت نبضاتها لعظمة المكان....كيف لا يكون عظيماً وهو الذي يشهد على ارتباط جسديهما وانسجام روحيهما ؟!...أيوجد أعظم من هكذا علاقة تسحق كل الخصوصيات بينهما ليكونا كتلة واحدة ونفسٍ واحدة يجتمعان على المحبة ومرضاة الله..؟!...سنداً وعوناً لبعضهما في السراء والضراء يرسمان بريشة حبهما لوحة عشقهما الأزليّ ....يزرعان بذرة الغرام وينتظران قطاف ثمارها !!....مكان مميز وخاص... فيه بصمة لا تُمحى!!....
سارت خطوات قليلة واتخذت كرسياً في المطبخ المفتوح ليكون مأوىً لها ثم وضعت حقيبتها على الطاولة امامها ونظرت جانباً منعاً لالتقاء شهديها بعينيه الثاقبتين!!...خلع هو جاكيته البني والبسه لظهر الكرسي الآخر وأشار لها بإصبعه وهو منتصب القامة بينما يده الأخرى حرّكها لظهره ليأخذ مسدسه قائلاً بجدية:
" اتصلي بوالدتك او ابعثي رسالة واخبريها بها اننا خارج المدينة وغداً صباحاً سنعود ان شاء الله....كي لا تقلق!!..."

هبّت واقفة مستنكرة وهي تسحب حقيبتها هاتفة:
" أيّ غداً تتحدث عنه؟!.."

جرّ الكرسي من رجلها يبعدها بطرف قدمه وجلس عليها بهدوء وتراخي ثم وضع مسدسه امامه واتكأ بذراعه على سطح الطاولة بينما بالآخر كان يحك بإبهامه وسبابته زاويتيّ عينيه الداخليتين علّه يعيد اتزانه لشعوره بعدم الراحة من قلة النوم والقلق والارهاق وقال بتأكيد بارد وهو على حركته:
" غداً يعني غداً...لا معنى آخر له......اجلسي وابعثي رسالة هيا....لن آكلك....أنا متعب لا يمكنني القيادة اليوم.....من حقي أن ارتاح اظن!!.."

" ومن منعك من الراحة؟!....ثم مستحيل لن ابقى معك في مكان واحد ليلة كاملة!.....وستعيدني اليوم وحالاً الى بيتي!..."

صرخت بكلماتها وهي تعود للجلوس دون ادراك فقال بهدوء:
" ننتهي من حديثنا.....تدخلين الغرفة.....وتغلقين على نفسك كي لا يعتدي عليك المجرم الذي امامك!....أرأيتِ ما أسهلها ؟!....انا منهك فعلاً ولا تزيدي عليّ!..."

اخرج هاتفه وبعث رسالة سريعة لحماته ليطمئنها عليهما ...فالضفدعة لم تستجب لطلبه...!!..ثم اسند ظهره للكرسي وكتّف ذراعيه على صدره وقال:
" هيا اخبريني بكل ما جرى !.."

صفقت بكفيها على الطاولة وصاحت بألم:
" عن ماذا اخبرك قل لي ؟!.."
" أأخبرك عن وقاحة قريبتك أم اخبرك عن جرح قلبي منك ؟!..."
" اتصلت لأشرح لك كل شيء كي تقف معي وتشد أزري كي لا أنهار!.....كنتُ احتاجك تلك اللحظة...وبشدة!!....احتجت أن اسمع نفياً لكلامها على لسانك لكنك اغلقت كل السبل في وجهي كما اغلقت اذنيك عن الاستماع لي.....لقد اخترت الاستماع لكبريائك فقط!.....ليتك استمعت لنداء قلبي.....ليتك يا سامي!!.....صدّقني لم يعد أهمية للكلام الآن....!!...أتعلم لمَ؟!...."

ذاق الألم بنبرتها ورأى الأسى على وجهها....تأكد كم كان قاسياً بتجاهله لها وترْكِها خلفه!!... لفت انتباهه سؤالها يريد أن يعلم مقصدها فقال بخفوت:
" لمَ؟!.."

بصوت جاهدت على اخفاء حشرجته:
" لأنك بإدبارك عني وقسوتك معي يومها أكدت لي ما قالت!!...لم ترَ اشمئزازك مني وأنت تصرخ ولم ترَ حرقتك عليها لمعرفتك أنني طردتها !!...."

وعلت نبرتها مشيرة لغرفة النوم في الشاليه دون ان تعطيه الفرصة لمقاطعتها:
" عندما سلّمتك نفسي بكل حب.. وثقت بك وظننت أنه حتى لن يكون مكان للتفكير بالكرامة بيننا ...لن نسمح لكبريائنا بأن يؤذي علاقتنا....أنت قلت أننا واحد....كرامتي من كرامتك ....ما يحزنني يحزنك!....جروحي تؤلمك!....لكن كان مجرد كلام في كلام....عند أول مشكلة شعرت بانتقاص كرامتك ودون ان تتأكد فرقت بيننا واصبحتُ أنا أنا وأنت أنت ....ما عدنا نحنُ عندما شعرت بشيء مسّ رجولتك!...وجئتني تتشدق بعزة نفسك مهدداً...."

بنغمات مهتزّة وجعاً وخيبة ظاهرة أكملت وهي تطرق رأسها لحجرها تنظر لأناملها العابثة بحزام حقيبتها المتدلي:
" قلت لي يوماً أنك تريدني أماً واختاً وصديقة وابنة ..وحبيبة...لكني عندما احتجتك لتكون فقط أخي سندي لا غير في هذا الموقف... لم أجدك....لو كان أخي الحقيقي لاستمع لي على الأقل دون أن يحكم عليّ من بعيد....لما اعطاني ظهره يا سيادة العقيد!.."

هي تحكي وهو يعتصره الألم من الداخل.!!...ضربته بكلامه ذاته وجعلت كل ضلع يئن في جسده كأنه سقط من علوّ!...كيف لم يعطها ما اراده منها ؟!...." صادقة لأبعد الحدود لا خلاف."....اعترف بهذا في نفسه !....وبضعف دخيل عليه قال:
" انا مخطئ واعترفت.....الله يعفو عن اخطائنا!....ما أنا بفاعل ؟!....احكمي أنتِ!...وسأرضى بأي حكم تريدينه!!....."

بابتسامة مكلومة ونظرة مكسورة هتفت بسخرية:
" أي حكم سترضى به..؟!!.."

خفق قلبه بوجل...أنسيَ أنها مجنونة ومتطرفة بقراراتها الغبية ؟!...كيف فاته ذلك ؟!..." سحقا.!!."....شتم في سرِّه خائفاً من سماع شيء لا يسرّه .!!.....تنحنح وأجاب واثقاً ظاهرياً ومعركة توتر تجري في باطنه:
" سأرضى.....أنا واثق بحكمك العادل.....بشرط!.....أن تحكي لي كل ما دار بينكما !!...."

كانت كسيرة الفؤاد ودامعة العينين وهي تستحضر الموقف وبدأت تروي له من البداية.....وصلت لوصف تلك للعلاقة بينها وبين اقاربهم!....ارتجف قلبه كلما غاصت اكثر بالكلام عنها ....يعلم جرأة ابنة خالته الّا أنه يستبعد أن تصل بها الوقاحة لتتكلم عن نفسها بشكل مباشر!...."... أيا ترى هل لمّحت لها أنها تحبني؟!.."....مرّ السؤال في اروقة عقله.!....كيف لا يمر وهو ما زال لم ينسَ بكاءها وتوسلها واعترافها بحبها له عندما انتشر خبر طلبه لـ(دنيا) في عائلتهم...!!......انتظرت موعد زيارتها هي ووالدتها لهم وجاءته كالمجنونة لتعترف بما اخفته من مشاعر اتجاهه داخل صدرها لسنوات عسى أن يرّق قلبه ويحنّ عليها....تفاجأ حينها وشحب وجهه من هول الصدمة .....استغلت اجتماع الجميع في حديقة بيتهم وتسللت الى غرفته بقلة حياء ولمّا سألته وأكد لها الخبر ادلت باعترافها ولكنه صدّها عنه وقال لها بصريح العبارة أنه لا يراها الا شقيقة كـ ( بيان ورزان) وحتى أنه أزاح باحتقار وسخط يديها اللتين وضعتهما على صدره كمحاولة للعبث بمشاعره الذكورية ثم طردها من غرفته بكل خفوت ليستر عليها قائلا..*....سأدّعي أن كل هذا لم يحصل وسأدفنه هنا...إياك أن تعيديها وتدخلي غرفتي....اصلحي تصرفاتك والتفتي لحياتك واتركيني لحياتي....صدقيني لو كنتِ آخر امرأة على الأرض لن أتزوجك....ليس بعيبٍ فيك......إنما أنتِ بنظري بيان ورزان لا أكثر!...والآن وثقتُ أكثر وأكثر باختياري....هيا اخرجي حالاً...".........وصلت للجملة التي اخبرتها بها أنها وابن خالتها لبعضهما وأن خالتها لطالما ارادتها له ولحقت جملتها من فورها بأنني أنا من الصقتها به ليساعدني بمهمتي فاتسعت عيناه المحمرتان غضباً وتعباً بذهول وضيق احتل صدره وشيئاً فشيئاً صعدت الدماء الى رأسه حتى برزت عروق عنقه وصدغيه صارخاً منكراً باستهجان مبالغ به :
" الحقيرة الكاذبة.....تفتري علينا!....هذا في احلامها ...سأريها تلك الدنيئة...سأحول حلمها الى كابوس تلك العقربة خاربة البيوت...أنا اعرف كيف سألقّنها درساً لا ينسى.....لكن أنتِ...أنتِ كيف صدّقتِ هذا وانا اخبرتك بقصة ارتباطنا؟!..."

تسلّحت بالقوة وقالت بامتعاض:
" مثلما صدّقتها أنت تماماً...."

قال محتجاً باحتدام:
" لم اصدقها هي....انا صدقت اختي....أنت بنفسك تعرفين رزان وطيبتها يا دنيا ....وثِقتْ بكلام العقربة واخبرتني بناءً عليه فاعتقدتُ أن حدث هذا أمام عينيها ولم استفسر....الشيطان زلّني والغضب أعمى بصيرتي...!!...أما أنتِ منذ متى تهتمي لكلامها وتصدّقينها ؟!..."

"... في البداية لم اصدقها لكن ردة فعلك أثبتت عندي صحة كلامها ....رأيت خوفك على مشاعرها الغالية!....رأيت نظراتك وأنت غاضب كأنني عالة عليك.....اتهَمَتني بأنني طردتها وأنا أقسى وأقصى ما قلته لها ...*....لو لم تكوني ضيفتي وفي بيتي تدوسين بساطي لكان لي معك كلام وتصرف آخر واغلقي الموضوع قبل أن اشكوك لرزان...*.....أنا لم اذكر بيتي وبيتك وهي من قالت انك هدرت كرامتك وتنازلت عن مبادئك عند سكنك معنا ثم قلبت الكلام ضدي.!!...وفي الحقيقة بعد افترائها عليّ ندمتُ.... ندمتُ كثيراً أنني لم اسحبها من شعرها والقيها خارج البيت كالكلبة.!!...."

زفرت أنفاسها لتعيد تنظيمها واستأنفت:
"..وأخيرا والأهم الذي اوصلنا لهذه النقطة ليس سموم قريبتك إنما هو تخلّيك عني....توسلتك لتبقى ولم تعرني أي اهتمام ....علمت كم أن قسوتك قاتلة....قاتلة لقلبي.....لا أتحمل ولا استحق هذا يا سامي.....والآن لا شأن لي بما ستفعله..."

نهضت عن كرسيها وتابعت بحزن متأثرة والدموع تنحدر على وجنتيها :
" هيا اعدني الى حضن أمي وأخي....لا أوفى ولا أصدق من حضنيهما.....مهما قيل من شعارات.....يبقى رباط الدم هو الأغلى!....هما من وقفا معي وتألما لآلامي...كيف أنسى خوف أمي عليّ ودعائها لي؟...كيف أنسى دمعة شادي وحنانه عليّ؟....كيف أنسى عدم استماعك لي ودفعي الى الحائط بفظاظة وتوبيخي أمام أخي؟!...مِن أجل مَن كل هذا ومِن أجل ماذا؟؟....أكان الموقف يستحق فعلاً ؟!......لكني عرفت...هل تسمعني؟!......عرفت قيمتي عندك وابنة خالتك لم تكن الا سبباً لأرى من يهمك أمره..!!.."

طال الانتظار وهو ساكن وجلبة تزعج أفكاره.....أخرسه بوحها بما أحسّت....لم يعد يعرف أيعاقب نفسه أم من ؟.....مقت غليل يتعاظم داخله....اهتزّت حدقتاه بنقمة من كل شيء وهتف متشبثاً بخيط رفيع :
" تعلمين علم اليقين أنك أنتِ من تهمينني......خطئي كان عدم الاستماع لكِ.....لا تجعليه مصيبة!!.....أُحرجت وأنا أسمع أن شريكة عمري ابنة الكرام تطرد ضيوفها.....قُهرت عندما وصلني أنك تمنين عليّ في بيتك!!.....أنا رجل يا دنيا ....ولا أي رجل حقيقي يرضى بهذا الذل لنفسه أو أن يسمع انتقاداً لاذعاً عن تصرفات زوجته التي تحمل اسمه!!....انفعلت وتسرّعت ...عُدت واعتذرت!!..."

مسحت دموعها بحركة عنيفة عن وجهها وأجلت صوتها قائلة:
" لا شيء مضمون!!.....موقف آخر وحكاية اخرى تسمعها عني ستنفجر بي مجدداً....لأنك بينك وبين نفسك تعلم أن دنيا لا تصمت ولسانها طويل كما تقول!...وستجعلني دوماً في وجه المدفع!!.....ماذا لو أن تعنيفك الذي احزنني وآلمني كان سبباً في فقدان ابنك لا قدّر الله؟.."

قاطعها بحزم:
" لا قدّر الله.....لا تقوليها!!.."

" كنتَ ايضاً ستتهمني أنني السبب!....أليس كذلك؟!..."

غضن جبينه باستنكار وأجاب:
" الى أين وصلتِ؟...كيف تفكرين بهذا ؟!....هل ترينني ضعيف ايمان أو معتوهاً أو ظالماً لهذه الدرجة ؟؟!.....ألم تعودي تعرفين سامي ؟!..."

تنهّدت وكأنها ضجرت النقاش وقامت عن كرسيها وهي تعلّق حزام حقيبتها على كتفها وتجاهلته كأنه لم يوجه اليها أي سؤال ثم سارت حتى وصلت الباب وهتفت بجمود وهي تستدير نحوه نصف استدارة:
" اعتقد انتهى الكلام ويمكننا الانصراف.....لو سمحت أنا لديّ ما افعله....عليّ مراجعة دروسي أهم من المكوث هنا لأضيّع وقتي في حديث يتمحور عن انسانة وضيعة لا تعنيني شيئاً..."

وصلها صوته المنخفض الذي تخللته بحة غريبة وهو ما زال جالساً يوليها ظهره ولم يستدِر بوجهه اليها :
" قلت...سنعود صباحاً....ادخلي الى الغرفة!.."

كابرت بعناد وعلت نبرتها بجفاء:
" لن أبقى....سأعود في سيارة اجرة ويمكنك المكوث هنا على راحتك...."

وأضافت بحماقة تريد استفزازه وما كان هذا الّا هيجان من غيرتها وهي تتذكر الشقراء امامها بميوعتها واسئلتها المشبوهة عنه:
" وإن شعرت بالملل....ابعث لها عنوانك لتسلّيك.....حرام!!.. ربما هي تحترق لتكون معك!....من يدري؟.....ها أنا سأخلي لكما الأجواء سيادة العقيد!..."

انتفضت مكانها تشدّ الحقيبة وتحتضنها كردة فعل توحي بالخوف عندما ضرب سطح الطاولة بقبضته غاضباً تزامناً مع دفعه للكرسي من تحته التي سقطت للخلف لحظة وقوفه وهتف بصلابة وهو يدنو نحوها:
" الا تلاحظين أنك تخطّيتِ حدودك؟!..."

صمت برهة وأكمل مكررا بنفس الاسلوب:
" لاحظتِ أم لم تلاحظي هذا؟...ها؟؟....اجيبيني!.."

كانت قد التصقت بالباب وأصبحت كالقطة المحشورة عندما حاصرها من جانبيها بذراعيه الطويلتين المسنودتين على الباب وتابع بهمس خافت قاسي:
" اقولها مجدداً....أجل اخطأت....أجل أنتِ محقة بكل ما قلتِ...!!.."

وصفق الباب بكفّ يمناه بغتةً قرب أذنها وعلا صوته متابعاً بينما هي كانت ترمش بتلاحق مرعوبة ودقاتها تخوض سباقاً ضارياً:
" أمّا أن تتهميني بتلك القباحة أو تخوضي بكلام ولو مزاحاً لن يرضا به الله لن أسمح لكِ.....أتسمعين؟!.."

وانتصب واقفاً يفك أسرها لتسمح بأنفاسها المكبوتة مهابةً منه أن تعدو الى الحرية وقال بصوت عاديّ جاد مشيراً للداخل:
" ادخلي وارتاحي .....سنذهب في الصباح ان شاء الله.."

سرطت ريقها ورفعت حاجبيها رافضة وهمست بصوت بدا مختنقاً وهي تتحداه وتعاند:
" لن أدخل...اريد ان اذهب حالاً..."

تأفف ومسح شعره القصير للخلف مستغفراً ثم مسكها من كف يدها بقوة رقيقة وسحبها خلفه بسرعة حذرة وادخلها الى الغرفة وهي تصيح:
" اترك يدي ....أقسمتُ أنني لن اسمح لك بأن تلمسني.....اتركني...!!.."

ببرود أجابها:
" أقسمتِ لحظة غضب وبجنونك المعهود.....أي ستطعمين عشرة مساكين كفارة لقسمك وقرارك الأحمق!!...ولا تعودي عليه مرة أخرى..."

مع وصولهما لباب الغرفة حررها وقال:
" مع الأسف أنتِ مجبرة على أن تتحمليني لأنك لن تخرجي من الشاليه الّا صباحاً بإذن الله....يعني غسّلي وجهك واسترخي...لدينا ساعات طوال يا حرمي المصون...!!..."

اجتازته غاضبة الى أن وصلت الباب مجدداً وشرعت بالطرق عليه مع تحريك قبضته كمحاولة لفتحه قائلة:
" لا أريد ان ابقى معك.....ارجعني حالاً.."

ببطء ووهن التفت وهو مكانه هاتفاً:
" بربك دنيا....ارحميني... انا حقاً منهكاً.. لم انم ليلاً ولا نهاراً...ابقي في الغرفة كي لا تريني....سأتصل بخدمة التوصيل لطلب الطعام لنا.."

استشاطت غيظاً لظنّها أن كلامه البارد هو استفزاز وعدم اهتمام لطلبها.... ....كانت ملامحها متجهمة تنذر بالشر والشرر يتطاير من عينيها وصورتها توحي كمن تلبّسه الشيطان....غضب يولّد غضباً ونار تنفث لهباً وبدأت بإحداث فوضى في المكان الذي آواهم وهي بحركاتها العنيفة تلقي الأشياء من حولها مع صراخها الباكي:
" لا اريد أن أتسمم ....اريد الذهاب لأمي....لمَ لا تفهم؟!..."

بعد أن أنتهت من قصف المكان وبعثرة الأغراض القليلة تابعت وهي تقف لاهثة:
"لا ارغب بالبقاء معك تحت سقف واحد الآن.....من حقي أن اقرر عن نفسي ...انا لا اشعر بالراحة هنا...."
"منذ متى اصبحت جلموداً ومستبدّاً.؟؟!...!!"

كان كلامها يصله كإبر تنخز كل جزء في جسده ....يشعر أن قواه خارت ولا تسعفه أي كلمة أو جهد !!.....لمَ كل شيء تكاتف ضده ؟!....مرهق جداً!!...ما به ؟!....لم يستطع تشخيص حالته!....أنهكه التعب فسار يجرّ قدميه جرّاً حتى تهالك على أقرب كرسي وصلها وهتف بصوت مبحوح خافت ووجهه بدا شاحباً وعيناه ذابلتان ينظر بهما الى الأرض:
" حسناً...كما تشائين!....لكن اسمحي لي بالنوم ساعة فقط لأتمكّن من القيادة..!!..."

ولمّا لم يصله الّا صوت تهدّج أنفاسها اضطر لرفع حدقتيه ناظراً إليها وأضاف بنبرة حزينة فيها الرجاء:
" ليس من أجلي....إنما من أجلِ.... سُلَيْمان !!....لطفاً.."

سرت رعشة في عروقها وازداد تعاقب أنفاسها وهي تطالعه بذهول متفاجئة وهمست باستغراب:
" سُلَيْمان؟!!.."

" أجل سُلَيْمان!......ألم ترغبي بتسمية ابننا بهذا الاسم ؟!.."

قالت مدهوشة:
" لكنك أصرّيتَ على اسم جدك... مصباح...!!.."

أجاب:
" مصباح لم يخرج منه الّا سامي الجلمود المستبد الغليظ الكريه!!.....أما سُلَيمان....اهداني أغلى هدية بفضل الله ...الدُنيا بأكملها ..."

احمرت وجنتاها ورفّ قلبها ....تنحنحت بعد أن بثّ فيها عبق الفرح ونشوة عارمة اجتاحتها الّا أنها لن تُظهر له ما تعيش داخلها فهمست بصوت جديّ:
" ساعة فقط!....من أجلِ سُلَيمان..!!..."

تبسّم وعيناه تشعّان أسى وألم ثم استند بكفيه على الطاولة لتساعده على النهوض وسار خطوات واهية مارّاً من أمامها بعد أن حمل مسدسه معه وهمس بخفوت بابتسامة جريحة دون النظر اليها:
" شكرا لكِ.."

تطلّعت عليه من الخلف وهو يسير ورائحة عطره تلفحها حتى وصل أريكة الحب يلقي جسده عليها ووضع مسدسه على الطاولة الصغيرة جواره وكانت مشاعرها متضاربة!!.....حزينة لما وصلا إليه من حال وسعيدة لموافقته على الاسم اخيراً ....كم ليلة كانا يختلفان عليه وحتى قبل معرفتهم بنوع الجنين ؟!...كانت تعاند وهو يعاند وهي تعرف أن القرار في النهاية سيكون له وخاصة أن عائلته باتت تعرف بأن (سامي) سيسمّي على اسم جده (مصباح)!!....
سُلَيمان!!.....اسم لا يُنسى عندي وعندها مهما طال الزمن!!....بعد هجرتنا مباشرة منذ سنوات وما عانيناه في حياتنا آنذاك كنتُ أسهر لوحدي في أحد الليالي حتى وقت متأخر باب الخيمة وأهلي نيام وفجأة سمعتُ بكاء شقيقتي يصاحبه الأنين....ففززتُ من مكاني لأتفقّدها ورأيتها تكوّر نفسها وترتجف مرعوبة وتهذي بكلمات غير مفهومة !! ....علمتُ أنها ترى كابوساً فأيقظتها بصعوبة ولمّا نهضتْ حضنتني بشدّة وأكملت ببكائها وأنا أقرأ عليها آيات متفرقة لتستكين ثم سألتها عن حالتها وإذ بها ترى في أحلامها مشهد القاء العجوزين لنفسيهما في البحر أثناء رحلتنا وكانت متأثرة وحزينة لأقصى درجة عليهما وتسألني لمَ فعلا هذا ؟ وخافت عليهما من عذاب الله وأرادت أن تقدّم لهما شيئاً عسى أن يخفف الله عنهما ولعلمها أنهما ضحّيا بحياتهما من أجلنا....أي نحن مَن كنا على متن القارب فقلت لها كي يرتاح ضميرها أننا عندما نكبر ونتزوج .!!..إذا رُزقت هي بولد ستسمّيه (سُلَيمان) على اسم الرجل وستربّيه تربية صالحة اسلامية بإذن الله وتكون عوناً له في حفظ القرآن ولتهب كل أجر تحصده من خلفه لروح العجوز وكذلك أنا سأسمّي ابنتي بـ(أمل) على اسم زوجته لأهب أجر صلاحها بإذن الله لروحها ...فهما أنهيا حياتهما ليهبانا الحياة من بعد الله ويستحقان أن نخلّد اسميهما سائلين الله أن يغفر لهما ويرفعهما درجات عنده..!!..ومنذ ذالك اليوم تعاهدنا على هذا !!..(سُلَيْمان وأمل) ابناء المستقبل ان شاء الله..!!...


~~~~~~~~~~~~~~~~~


بيتٌ كبير عصري...تحيطه جدران شاهقة ....ساحته واسعة وحديقته مليئة بالأشجار المثمرة والأزهار....يقف على مدخله المرتفع عن مستوى الأرض بشموخ وبجسده الضخم الذي لم يتأثر من الزمن وبهيبة لا تليق الّا بأحد أكبر مؤسسي كتيبة (الفهد الأسود) وبرئيس حزب الثوار السيد (سليم الأسمر) وتقف جانبه زوجته عمتي (لبنى) الرقيقة.....يستعدان لاستقبالنا فور معرفتهم لحظة وصولنا ..!!.....نزلنا وتقدّمنا نحوهما ...القيتُ السلام وصافحتهما مع القبلات العائلية أما المدللة لم تنطق أي كلمة وكانت تنكس رأسها أرضاً ووجهها ملثّم لتضليل هويتها في الطريق فبادرت عمتي بتحيتها قائلة برقيّ وحنان:
" أهلاً بزوجة ابننا أهلاً بكِ بيننا..."

رفعت رأسها تتعرّف على صاحبة الصوت وكنتُ ما زلت لم أخبرها عن صلتهم بي فوكزتها بمرفقي برفق وقلت بضحكة مصطنعة:
" هذه عمتي لبنى وزوجها السيد سليم الأسمر..."

ثم مددتُ يدي لأزيح اللثام عن فمها فهمست بجفاء رغم حيائها وهي تمد يدها لتصافح على مضض:
" أهلاً بك..."

ردّت عمتي بانبهار تمدحها رغم الارهاق البادي عليها لحظة الكشف عن وجهها بالكامل وهي تمسك يدها:
" بسم الله ما شاء الله....منذ متى نزل القمر على الأرض لينير بيتنا؟!...ما هذا الوجه وهاتين العينين ؟!...تبارك الله احسن الخالقين..!!"

اوف!!.....ما بها تتغزّل بزوجتي أمام زوجها؟!....ألا ترى الحائط الغيور الذي يقف أمامها ؟!.....انزعجتُ بداخلي وتترجم هذا على ملامح وجهي ليصبح قاطباً متجهّماً !...ليس بيدي!...أغار عليها....واحترق من غيرتي!!...حتى لو كان سيعتبرها مثل بناته وهذا مستبعد لأن كرهه لهم ولدمائهم أضعاف مضاعفة فهو من عاش كل دقيقة بقرب أبي وذاق معه اسوأ الخيانات التي تعرضوا لها من الأوغاد أمثال أبيها وأعوانه...!!.....السيد (سليم) رجل مستقيم لديه مبادئه الخاصة التي لا يحيد عنها!!....من الخارج يتسلّح بالجمود والقسوة وخاصة مع الأعداء وداخله محب مخلص لكل مَن يخصه !!...هيأتُ نفسي بأي وجه جاف وخشن سأجده بسبب ألمتي!...فتجاربي معه بما يخصها أظهرت لي أنه لن يتقبّلها اطلاقاً والآن يتحمّلها مجبراً من أجلي.!!....ارتسم شبح ابتسامة على وجهها كمجاملة لكلام عمتي أما هو رحّب بها بصوته الجهوري الصلب وباقتضاب:
" أهلاً....تفضلي!.."

لمّا دخلنا بهو المنزل أشارت عمتي على غرفة للضيوف وهي توزّع ابتساماتها الصادقة علينا قائلة:
" تفضلا عزيزي هادي الى تلك الغرفة....مجهّزة بالكامل لكما مع الحمام وكذلك يوجد تشكيلة ملابس على السرير كما طلبتَ منا....خذا راحتكما!!.."

شكرتها وتوجهنا حيث اشارت ....لم تلقِ المدللة العابسة بالاً لأي شيء ولا يحرّكها فضولها لتتعرف على زوايا الغرفة ...كانت مسيّرة وفق توجيهاتنا ...اغلقتُ الباب وقلت:
" هل ستدخلين الحمام اولاً أم أنا ؟!.."

دون ان تعيرني أي اهتمام خطت خطواتها الى الحمام كإجابة صامتة واغلقت الباب....لا بأس يا قطة !!....التزمي الصمت أفضل من قذفي بجنونك الأحمق!!.... انتبهتُ لملابسها الداخلية الجديدة الموضوعة على السرير تناولتها ولحقت بها منادياً لتأخذها....فتحت وسحبتها من يدي دون ان تتكرّم عليّ بنظرة ثم صفعت الباب بوجهي!! ....تنهدّتُ بعمق لأخفف ضغطاً قبيحاً يحتل صدري ثم خرجتُ من الغرفة اسأل عمتي عن شاحن يناسب هاتفي ولمّا اعطتني عدتُ ووضعته بالمقبس وجلست على طرف السرير انتظر سمو الملكة ....خرجت بعد قليل ترتدي روب الحمام الطويل فهمستُ لها:
" نعيماً يا حلوة..!"

وكأنني كلمتُ نفسي!!.... لم تحرّك أي شيء بها كعلامة أنها سمعتني ودنت من السرير تنظر الى الملابس بعدم اهتمام فتصنّعتُ اللا مبالاة وقلت لأدير حديثاً معها:
" هذه عمتي الوحيدة لبنى ...لديها ثلاث بنات متزوجات....وزو..."

قاطعتني دون النظر اليّ وهي ترفع قطع الملابس بلا هدف:
" اتساءل!!...كم يقبضون كممثلين ثانويين (كومبارس) ليؤدوا أدوارهم باحترافية بمسرحيتك اللعينة ؟!...اوه... نسيت!!....اولئك ايضاً ابراهيم ومريم...يا ترى اعطيتهما أجرهما أم انهما ما زالا ينتظران ؟!..."

وحركت يدها بحركة تؤكد انبهارها بالتمثيل:
" حقاً لقد أديا دوريهما باحترافية!.....زد من نقودهما.....يستحقان ذلك!....فأنا انطلى عليّ الأمر... صدّقتهما واحببتهما كأهلي......أرجو أن يجدا فرصة للعالمية!.."

وتابعت ضاحكة بسخرية:
" يعني ما أعنيه هو أن توفر مجهودك بالشرح.....لا أهتم من يكون هذا وتكون تلك.....فأنا بالطبع لن اتابع مسلسلكم الممل..!!.."

اجبت بضيق:
" أبي ابراهيم هو صديق ابي الحقيقي ....مؤكد لا تودين ان تسمعي مني كيف فقد عائلته !....هو من كفلني ورباني في السنوات الاخيرة....وخالتي مريم خالتي الحقيقية وزوجته فعلاً ويحبّانك بصدق وهذا بيت عمتي الوحيدة شقيقة ابي!..."

تأففت وسحبت المنامة الكحلية الدافئة التي كانت بين القطع وقالت مثقلة بتجافٍ غير مهتمة بصدق قولي:
" اخرج...سأرتدي ملابسي!.."

نظرتُ إليها جانباً مع ارتفاع زاوية فمي بابتسامة ساخرة وصوت ضحكة هازئة وقلت:
" منذُ متى من يوم اتمام زواجنا أخرُج أنا لتلبسي...يا حبيبتي ؟!.."

بيدها الممسكة ببلوزة المنامة أشهرت سبابتها مجيبة بقسوة:
" ذاك الزمن ولّى سيد يامن!...الآن ليس لك حق بأي شيء!.."

وثبتُ من مكاني مقترباً منها امسك ذراعها منحنياً بجذعي قائلاً باستنكار:
" نعم؟!....من اخبرك بهذا؟!....ثم لمَ الآن اصبحت يامن؟!...أين اسم هادي الذي خرج كسمفونية من بين شفتيك صباحاً ؟!..."
حدّجتني بنظرة بغيضة مصطنعة ترسم على ملامح وجهها الاشمئزاز ونظرت الى يدي وبيدها الاخرى انزلتها عنها قائلة بعتوّ وخيلاء:
" إياك أن تلمسني مجدداً...!..."

تطلّعتُ عليها بعينين ضيقتين وحاجبين مقطوبين وقلت بصدمة:
" إياك أن تلمسني؟!..."

ثم اطلقت شبه ضحكة وسألتُ ساخراً ومقهوراً :
" ماذا تغير منذ الصباح حتى الآن؟!....ألم تتجاوبي معي بالقبلة بكل حُب يا زوجتي ؟!..."

بكل برود قاتل قالت وهي توليني وجهها هاربة من نظراتي:
" دَيْن....وسددته!!.."

مسكتها من كتفها أديرها نحوي هاتفاً بجدية وقلبي يهدر بغباء:
" انظري اليّ واشرحي ماذا تقصدين؟...!!.."

ألقت ما بيدها على السرير....اهتزت حدقتاها ولمعت عيناها بوهج حارق وهتفت متألمة بغلظة!!..:
" القبلة كانت دين وسددته لك.....لا تحلم بغيرها!....كنتُ احتاج لهذا وليس لكَ طبعاً....ليالي وسنين وحضنك يرافقني في نومي وصحوتي....اخذته معي في كل مكان وسفّرته الى كندا وجسّدته في قلمك ورائحتك.......كنتُ أنام كل ليلة في غربتي والقلم مضموم الى صدري على أمل اللقاء.......هل لكَ أن تتخيل فتاة صغيرة ترى أمانها بالقلم؟!......وفقط لأنه منك ويحمل دفء حضنك......أنت قدمتَ لي حضنك في أوج احتياجي له ولم انساه لسنوات.....وأنا في الصباح شعرتُ بشغفك لقبلة حقيقية فأعطيتك إياها كي لا تنساها لسنوات !...كانت من حقك كونك هادي صاحب ادفأ حضن آواني......أنا لا انكر المعروف ابداً "

امسكتُ طرفيّ كتفيها هاتفاً بخفوت بينما نيران هائلة تحرقني من كلامها :
" كاذبة!.. وأنتِ أردتِ القبلة مثلي تماماً.... أردتِ أن تستشعري حُب الهادي وتتذوقيه ....هادي الذي أحببته منذ أعوام وليس فقط لتسدي ديناً كما تزعمين!.."

سحقتني ببرودها وحسمت قرارها بإقصائي عنها هامسة:
" حسناً....لطالما تمنيتُ قبلة الهادي وها أنا وهبتُكَ ونفسي اياها...والآن تصافينا .....تصافينا يا هادي......ومن تلك اللحظة لم يعد حضنك لي كما لم اعد انا لك..."

بقهر أليم هززتها بخفة من كتفيها هامساً بثقة:
" حضني لكِ ولن تطأه غيرك وأنتِ لي ولن يقربك غيري!!..."

كزّت على اسنانها وحاولت ابعادي عنها وعيناها تزدادان توهّجاً بغضب مجيبة:
" لن يهمني حضنك من بعد الآن....ابتعد عني!.."

حاولتُ ضمّها لي قسراً وقلت بأسى مصرّاً:
" لن ابتعد ...أنتِ تهمينني بكل ذرة تملكينها !!.."

دفعتني من صدري ولم استجب لها وانا متشبثٌ بأعلى ذراعيها ثم هتفتْ:
" أنا لم يبقَ بي شيءٌ لأعطيه لغيري......وحتى سأقتل بقايا الاحاسيس اتجاهكم كما قتلتموني....أخذتم روحي وتركتم لي الحروف وحدها من اسمي!.....حتى اشك في ذلك.....من سيتذكر ألمى الساذجة من ؟!...سأدفن نفسي أفضل من أن يسمع أحد عن اكبر حمقاء عرفها التاريخ...!!..."

" لستِ حمقاء....أنتِ أجمل وأطهر وأنقى وأطيب فتاة في الوجود!!....لم يقتلك أحد..."

قلتها بحرقة كاتماً صوتي وأنا أهزّها فردّت بقهر وحسرة والعبرات تسكب على وجنتيها وانقلب وجهها للأحمر:
" كذبتم علي وانتم تنظرون لعينيّ بكل صفاقة....كم مرة استهزأتم بي من خلفي ؟....كم مرة كنتُ موضوع حديثكم الساخر؟.....بماذا كنتم تنعتونني؟!....غبية؟ حمقاء ؟ ساذجة ؟..بلهاء ؟....أي صفات سميتموني بها ؟!.....كيف استطعتم كيف ؟!....ألا قلب لكم؟ ...ألا رحمة عندكم ؟!...هل كنتم تتلذذون بخداعي ؟!....حباً بالله اخبرني ماذا فعلتُ أنا لكم لتفعلوا هذا بي وتتآزرون عليّ؟!....."

أرجعتها لتجلس على السرير وجسدي مشدود من انفعالاتي واشعر بوحوش تنهش رئتيّ وتمزّق قلبي عليها وقلت لأبرئ أنفسنا باستماتة:
" كلنا نحبك ألمى ولم نتعاون عليكِ ابداً....أنتِ الآن غاضبة ولا ترين الحقائق.....فعلنا المستحيل كي لا تتأذي.....أعلم أن الأمر صعب لا أنكر ذلك....الله وحده يعلم ما كنت اعاني وأنا انظر اليك!!...أتظنين أنني كنتُ مسروراً؟؟!.....لو كان هدفي الوصول لوالدك فقط لما اهديتك قلبي وروحي وعمري وأنفاسي.....لما لمستُك ....تذكرين ابتعادي عنك وجفائي معك!!.....ما كان هذا الّا لأحميكِ مني لكن عشقي لكِ فاق قدرة تحملي على بعدك .....أردتكِ لي ثانية بثانية ونبضة بأخرى .....أنا كنتُ وما زلتُ أتنفس عشقك...عشق الألمى....."

همست بأنفاس كارهة وجعاً وندماً:
" ليتكَ لم تلمسني....ليتكَ لم تفعلها...ليتني لم أسمح لك..."

انقبض قلبي والألم اعتصر معدتي...صمتُّ موجوعاً واستقمتُ واقفاً ناظراً إليها ..ابتلعتُ ريقي وقلت بتأنّي:
" هل أنتِ... نادمة... على تلك ....الليلة.......ألمى؟!..."

هربت بعينيها لثواني قليلة وازدردت لعابها وتجلّدت بالقوة قائلة بعد أن رفعت بصرها إليّ :
" ولن أندم بحياتي كندمي عليها ..!!.."

استغربتُ قدرتها على هذه القسوة وهي تضرب قلبي بها وضحكت ضحكة مقطوعة تسرّبت مني تنذر عن الأنين الذي أعيشه في باطني...وَقع كلماتها كاد يصهر نابضي!!...قلت:
" أنا لم أجبرك عليها وخيّرتكِ وأخبرتك أن تحت بحري براكين على شفا الانفجار في أي وقت!!...."

أصرّت على قسوتها مجيبة غير مكترثة لحالي:
" أجل...لم أتهمك بهذا....أنا أؤنب نفسي.....ليتني لم أمسك يدك حينها!..."

لو أطلقتُ العنان لمشاعري هذه الساعة لخرجت مني بصراخ جارح وبكاء شديد...لكني سأحرمها رؤية دمعتي....سأحرمها تذوق وجعي....اتخذتُ الهروب وسيلة لردعي عن كشف ضعفي!!.....سحبتُ ملابسي وقصدتُ الحمام مولّيها ظهري قائلاً بجمود آيل للذوبان والاختفاء:
" يمكنك ارتداء ملابسك براحة....سأستحم!..."

ظلّت تنظر لطيفي وكل خلية فيها تبكي حالنا ...تبكي حُبنا الموبوء...وأفكار وأفكار تطوف في عقلها.....دمعة ساخنة انسابت على وجنتها كقطرة دم من قلبها ...مسحتها وهبّت واقفة وشرعت بارتداء ملابسها على عجلة قبل خروجي ولمّا انتهيتُ من استحمامي وجدتها تجلس على السرير تشرد بالفراغ فقلت أُذكّرها بجدية...علّ الذكرى تنفعها:
" لا تنسي قضاء الصلوات التي فاتتكِ...!!.."

اطلقت قهقهة بغيضة وهي ترجع ظهرها للوراء وتدعمه بكفها الموضوع على السرير ترمقني بتعالي وتلعب بخصلات شعرها بغرور وكل هذا لتعذّبني وتقهرني وتسمّ بدني:
" أصلّي ؟؟!!......ألم تنتهي المسرحية ؟؟!....ألم يكن تعليمك لي للصلاة من ضمن السيناريو خاصتك وأنت تدّعي خوفك عليّ من الآخرة؟؟!....أي جحيم سيكون اسوأ من الذي اتلظى بناره الآن؟؟"

وعدّلت جلستها بثبات مشهرة اصبعها بتهديد هامسة بلؤم بينما كان حبها المكلوم ينزف من أدقّ شرايينها ويثبت لها خداعها لنفسها:
" لا شأن لكَ بي أصلّي أو لا.....هذا بيني وبين ربي....ابقِ اوامرك وتوجيهاتك لنفسك !!......انقطعت صلتنا ببعض !!..."

لعبت بإعدادات صبري وسمومها انتصرت على تحمّلي فبحركة مني أرجعتُ ظهرها للفراش أثبّتها وأنا أعتليها ووجهي المصعوق غضباً يقابل وجهها وقلت من بين أسناني:
" تقارنين جحيم الدنيا بالآخرة ؟...ماذا تعرفين عنها ؟....أمثالك في يوم صيفٍ حار يصبحون كقطعة قماش بالية وتظنين أنك الآن تعيشين الأسوأ..؟؟!..مسكينة!...استعيذ? ? بالله منها أفضل لكِ...أنتِ لا تصلّين لي!..وذنبك على جانبك!...لا تتبجحي بسفاهة بكلام لا تقدرين عليه!!..."

ثم نظرتُ ليدها اليمنى بازدراء وألمي على الذكرى يعتصرني كما ألمها وتحديداً لآثار حروقها وهي طفلة وكان ذلك ازدراءً من تبجّحها وتلوّث فكرها ومسكتها واضعاً إياها أمام ناظرها وتابعت مع أنني ادرك قسوة خطابي:
" مرّت سنين وأثر الحروق لم يمحَ لا عن يدك ولا من عقلك.....أنا أعلم قصتك ألمى بحذافيرها!!.....ما زلت تذكرين الآلم النفسي الى الآن أنا واثق!!....ما تكون هذه عند نار جهنم ؟!.....احترقتِ وظلت دمغة الحرق موسومة على جلدك الّا أن احساسك بالألم الحقيقي كان لمرة واحدة واختفى أما في الآخرة التي فضّلتِ نارها ستتذوقين الألم كل مرة دون توقف كما قال الله تعالى..."
ثم جوّدتُ بصوتٍ شجيّ بعد البسملة :
"..{{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً }}.."

وأكملتُ اشرح لها عسى أن يهديها الله جلّ في علاه:
" موقع الاحساس بالألم موجود في الجلد وخاصة الناتج عن الحريق لذا يبدّل الله جلود الذين كفروا بآياته بجلود أخرى غير التي نضجت كي يذوقوا العذاب!!.....تخيّلي هذا واستعيذي بالله من نار جهنم.....اللهم أجرنا منها..!!..."

واستأنفتُ وغصة تختلج صدري:
"... صلّي أو لا تصلّي أنتِ حرة!!......كنتُ أظنك بريئة لا يعرف قلبك للحقد طريقاً....خيبت ظني....لم أرَ كراهية بحياتي كالتي أراها منكِ الآن!!....من اين أتيتِ بتلك العداوة والنفور؟؟!.."

تململت تحاول الانفلات من تحتي بعد أن ازدردت ريقها لسماعها شرحي ولكنها كابرت تُكمل وتجيب على السؤال الأخير دون أن تزحزح عينيها عن عينيّ بسخط وشحناء:
" منكَ أنت....من عداوتك مع أبي!...ابتعد عني!...أنت تخنقني!..."

هي لا تدري ما تفعل بي بأسلوبها القاهر المستفز ...لم ترَ كيف تحولتُ الى أشلاء من قسوتها معي واشمئزازها مني ومن الغشاوة التي تحيط قلبها وبصيرتها.... ضغطتُ عليها وهمست بهمس خافت قاسي ليباري قسوتها خرج من جوف الانتقام:
" تتكلمين وكأن والدك بريء....اقول لكِ أنه قتل أبي غدراً واستمتع بأنين احتضاره.....أتعين ماذا يعني قتل أبي وبأحقر الطرق؟؟!! ....كوني ممنونة أنني لم اقتله بيديّ....شهور تحمّلتُ رؤيته ووجوده بحياتي وهو ألد أعدائي....لا تعلمين أي عذاب كنتُ أعيش في كل مرة أقابله....قدراتي فاقت قدرات البشر !!....أي انسان يتحمل الجلوس والكلام مع شخص حرمه كل حياته ؟!...من يفعلها غيري أنا ؟!...أحببتك قبل أن أعرف حقيقة والدك وبعد معرفتي استمرّيتُ بحبي لكِ...لم اظلمك وكنتُ منصفاً ....ألم أكن استطيع ضربه بك لو أردت؟؟!....وربي استطيع ما لا يمكنك تصوّره....لكني أحببتك في الماضي وأحبك بالحاضر فلا تقتلي حب المستقبل.....كوني منصفة كما انصفتك!!....أتعاقبينني بحرماني منك ؟!.."

بدأت دموعها تنهمر على جانبيها وتسقط على السرير وتهمس همساً حزيناً وهي مقتنعة وواثقة بكلامها :
" أنتم مخطئون....أبي لا يفعلها....ليس أبي من قتل والدك...لمَ ليقتله؟!.."

اكملتُ وأنا ثابتٌ فوقها ووجهي متوهّج انفعالاً وأنفاسي شبه لاهثة:
" قتله لأن أبي كشف خيانته للثوار والدولة وهدده بها !!....قتله من أجل مصالحه!!.."

" وما أدراك أن والدك لم يكذب ويفتري عليه آنذاك ؟!...."

بصوت صلب وصارم قلت:
" أبي لا يكذب....فهمتِ؟؟؟؟..أبي الشريف ناصر الحق وحامي الوطن!!.."

بعناد غبي ردّت:
" وأبي محترم لا يقتل ولا يخون....!"

بنبرة خشنة كلها شجى هتفت:
" بلى....والدك باع الوطن وقتل أبي والعشرات بل المئات!!.."

بتحدّي وغلّ ونبرة اكثر ارتفاعا قالت:
" أبي ليس قاتلاً...ليس قاتلاً....أنتم الظالمون..!!.."

ثم أكملت بتمتمة بعد أن اختفت جرأتها وجسارتها:
" سأثبت لكم.....سترون...أبي بريء من اتهاماتكم!!..."

رفعتُ جذعي عنها وبيمناي مسحتُ شعري للوراء نافثاً أنفاسي وقلت بقنوط:
" لن يجدي معك شيئاً.....لن تقتنعي أن دفاعك عنه هو مجرد أوهام حتى لو رأيت بأمّ عينيك....يؤسفني ذلك....فيوجد حقيقة وإن كانت موجعة...والدك خائن وقاتل....والأدلة بحوزتنا لا خلاف عليها!!.....لكِ الحرية تريدين تصديق ذلك أم لا..!!....سئمت من اقناعك!..."

ومع انتهاء جملتي واستقامتي على الأرض نظرتُ الى يسراي فور سماعي طرقات على الباب ثم قصدته وفتحته وكانت عمتي...ضحكت بحنوٍ ومحبة تشع من عينيها وقالت:
" تعالا بنيّ لتتناولا الفطور قبل أن ترتاحا..."

التفتُّ للخلف للتي تجلس على السرير ترتب منامتها وخصلات شعرها ثم أعدتُ وجهي لعمتي مبتسماً وهامساً:
" سلمتِ عمتي....اسبقينا.....سنأتي بالحال!.."

بعد أن اغلقت الباب دنوتُ منها هاتفاً بهدوء وكأننا لم نكن نخوض معركة لسانية قبل لحظات:
" ارتدي العباءة او ذاك الفستان مع الحجاب لنخرج إليهم..!!....ينتظروننا على الفطور!..."

تطلّعت عليّ بنظرات استصغار لطلبي وقالت بتمرّد وعصيان:
" أنت تعلم أنني لستُ محجبة ...لمَ لأرتدي كل هذا اذاً؟!.."

تبسّمت مرغماً وأجبت:
" حسناً أعرف.....لكن نحن هنا في بيت رجل ملتزم.....له قوانينه ....لا يقبل أن يكون في مجلسه امرأة متبرجة ......عليكِ احترام هذا فنحن لن نقيم العمر كله هنا !!..."

استقامت واقفة بشموخ وعيناها تفيضان عناداً ومشت الى أن وصلت الباب وفتحته لتخرج كما هي فأمسكتُ بها مسرعاً وصفعت الباب وقلت بخشونة:
" ألم تسمعي ما قلت من توّي؟!...أتتحدينني وتكسرين كلامي؟؟!..."

رفعت كتفها ولوت شفتيها مع إمالة رأسها جانباً بعدم اكتراث واجابت:
" فليتقبلني هكذا أو يطردني لا أهتم....!!.."

سحبتها بغل حتى وصلنا جانب السرير قائلاً بنبرة صارمة:
" اتختبرين صبري عليك ؟!....لا تتواقحي ألمى واحترمي البيت الذي أنتِ فيه !!..."

ردّت بإصرار بينما أنا أوشك على الانفجار:
" وأنت احترم حريتي الشخصية ورأيي... هذه أنا وإن لم أعجبك اتركني لأعود الى بيت أبي..!!.."

ثم نفضت يدي عنها ورفعت حاجبها بغطرسة مردفة:
" اخرج هكذا أو لن آتي ولن آكل..!!.."

بخفة دفعتها للسرير وقلت بازدراء مغتاظاً وأنا كلي يقين أن محاولاتها هذه ما الّا لأضجر واسأم منها ثم استسلم وأحررها :
" اذاً ابقي هنا ولا تريني وجهك خارج الغرفة.....أنتِ أدرى بمصلحتك!.....تفعلين كل هذا فقط لتقهرينني وتعاندينني أنا اعلم..!!...إياك الخروج حتى ننصرف من هنا!..."

وتركتها خارجاً بخطوات مزلزلة حنقاً وسخطاً ولما وصلت مائدة الطعام سألتني عمتي:
" أين زوجتك بني؟؟!.."

القيت نظرة سريعة للجالس على رأس الطاولة ثم أعدتُ بصري إليها حيث تقف وأجبت وأنا اتخذ مقعدي:
" لا تريد أن تأكل..!!.."

استنكرت مستاءة فهي تريد أن تكرم ضيفتها كما أنها استشفت الغضب بملامحي ثم ولّتني ظهرها ذاهبة إليها وهامسة:
" ضيفة تدخل بيتي ولا تأكل من طعامي؟!....مؤكد لن أقبل بهذا وخاصة أعلم ما عانيتما من مشقة لساعات في الطريق!!.....لا بد أنك أزعلتها....انا أعرف عقول الرجال الصلبة اليابسة..!!"

واختفت عن انظارنا ..!!.....طرقت الباب بهدوء لما وصلت الغرفة وهي تقرب أذنها له لتسمع الإذن.....كانت (ألمى) جالسة على السرير تبكي بصمت ومع تكرار الطرق كفكفت دموعها بيديها وشهقت قهراً وهي تأذن للطارق برقة صوتها:
" أدخل ..!.."

فتحت الباب وتوقفت لثواني ترمقها بنظرات حانية واعجاب بجمالها مع ابتسامة بشوشة على محيّاها ثم زلفت منها وهمست برقة:
" هيا يا ابنتي لنتناول الفطور معاً..."

مسحت أنفها دون النظر إليها وهمست بحياء:
" صحة وعافية....لا رغبة لي!...شكرا..."

جلست جوارها ومسكت يدها بحنان ووضعتها في حجرها وبيدها الأخرى مسّدت عليها هامسة لتغريها:
" لا يمكنك تفويت فطارنا.....ستنبهرين بالأصناف وتحتارين بماذا تبدئين!!...ثقي بما تصنع يدي..."

ظلّت صامتة لثواني والحزن يخيّم على ملامحها وكانت عمتي تعلم بكل ما جرى ويجري ورأت آثار دموعها فأردفت برزانة:
" لا شيء في الحياة يستحق أن نهمل صحتنا من أجله...!"

ثم ضحكت وهمست بمزاح وهي تقرصها من خدها:
" حتى ذلك المغرور هادي...!!.....هل أزعلك ذو الرأس الصوّان ؟!..."

تمتمت بصوت مهزوز كئيب:
" لا أريد أن ارتدي الحجاب ..أنا لستُ محجبة....لمَ يرغمني على ذلك؟!..."

تنحنحت وأجابت بلطف بعد أن اتضحت الصورة لها:
" الحجاب شرع الله يا صغيرتي..."

عند كلمة صغيرتي وقبل ان تتابع جملتها.. قشعريرة هزّت بدنها....الكلمة الأقرب على قلبها ممن كانت حبيبة قلبها....خالتها!!....شعرت أنها ستبكي وتصرخ لتهز جبالاً بصوتها .....صراخ نتيجة قهر كبير ألمّ بروحها وجوارحها.....يا الله كم كانت تحبها من بين شفتيها.؟!!...كانت حروف هذه الكلمة وحدها تغرقها في الحنان وتواسيها وتعطيها الأمان......هي واثقة بمحبة خالتها لها وخوفها عليها.....لكن لمَ...لمَ باعتها وخدعتها؟!....من أجل ماذا؟!....الكلمة جعلتها تتوق لحضنها ولمداعبتها لشعرها ولقصصها....ترغب بشدة سماع صوتها هذه اللحظة....رغبة اجتاحتها رغم عنها كانت أقوى من قهرها....الّا أنها مع سماع صوت التي تجلس جوارها وهي تتابع كلامها أعادها الى الواقع المرّ الذي تعيشه.....واقع يثبت أنها ليست سوى....مغفلة ومخدوعة!!.....:
" أما هادي لا بد أنه يخشى عليكِ أولاً من عقاب الله...ثانياً هو يغار عليكِ من عيون الرجال الأغراب.....أنتِ زوجته....غيرته من حقه!.."

حرّكت وجهها نحوها والدموع متكدسة بعينيها وقالت بصوت خفيض:
" كلا....لا يغار عليّ....فهناك لم أكن محجبة ولم يكن يجبرني....ما تغير الآن؟؟!.."

تبسمت واجابتها لتعطيها تبريرات لطلبي:
" ربما لأنه يعلم أن عمك سليم أي زوجي هو رجل ملتزم وشديد....لم تجلس في مجلسه يوماً امرأة."

تنحنحت وتابعت:
" عفواً....يعني متبرجة لا تستر شعرها وجسدها !.....أي طلبه هو احتراماً له."

وضحكت بحنو وأضافت:
" حتى بناته...ما إن وصلن سن البلوغ جعلهن يرتدين الحجاب!.. تقريباً في سن الثانية عشر"

بدهشة وبراءة همست متناسية مشكلتها:
" مسكينات!!....وما فعلن؟!..."

أجابت برقة متفهّمة أفكارها المغلوطة بسبب بيئتها البعيدة عن الدين:
" لم يرغمهن أبداً بنيتي!....لم يستعمل معهن اسلوب الترهيب اطلاقاً.....ربما يبدو من عندك رجل قاسي حسب كلامي عنه ومظهره الرجولي الخشن الصارخ.....الّا أنه يمتلك في قلبه حنان الكون للبنات .... لم يعاملهن يوماً الّا بكل لطافة وعطف!!....يخاف عليهن من النسمات.....كان يجلبهن للدين والمسار الصحيح عن طريق الترغيب وبطرق تحببية! .....كان يحكي لهن قصص الصحابيات رضي الله عنهن ليكنّ قدوتهنّ وكان يجعلهن يتنافسن في حفظ الآيات والاحاديث الى أن تعلقن بشرع الله وتشبثن به برضا ومحبة.....الشكر لله..!!.."

مدّت يدها بحنوّ تمسد على وجنتها وأكملت بهمس عطوف :
" هناك قوانين وشرع الله... فرض علينا القيام بها... لا جدال.... لكن لن يرغمك أحد على ما لا تريدينه!...فيجب أن يكون هذا نابع من قلبك وبإرادتك ....هداكِ وإيانا الله..!!......فالأولى أن يكون حجابك وسترك لنفسك من أجل مرضاة الله لا من أجل البشر!...."

ثم وقفت واخفضت رأسها إليها ووضعت يدها على كتفها وقالت بحماس:
" هيا بنيتي....عليك أن تدخلي شيئاً لمعدتك كي لا تنهاري......تعالي معي وسنأكل سوياً في المطبخ!.....لن نجلس معهما!..."
برهبة وريب طالعتها وهمست:
" لكنه وبخني وهددني...لن يسمح بخروجي!...سيغضب!.."

بابتسامة زيّنت ثغرها هتفت:
" أنتِ معي.... لن يفعل شيء!..."

واطلقت ضحكة مضيفة بمرح وهي ترفع ذراعها بحركة تعرض عضلها:
" لا تخافي.... سأضربه إن لزم الأمر!.."

ارتسمت ابتسامة حقيقية على ثغرها ..طردتها عن وجهها وسألت بتوجس:
" وزوجك؟!!."

" زوجي لا سلطة له عليك بنيتي !!....هيا معي!..."

كنتُ أجلسُ على يمين السيد (سليم) ونتبادل اطراف الاحاديث وكان هو يتناول فطوره وأنا أجامله ببعض اللقيمات إذ أن هنالك من سدّت شهيتي بعنادها وقلقي عليها وبينما نحن في خضم النقاش مرّت من أمامنا ملتصقة بعمتي دون أن تنظر نحونا !..أثارت حفيظتي فضغطتُ على الشوكة لدرجة شعرتُ بها ستطوى بيدي من غلّي وأنا اراها خارجة بالمنامة التي ترسم منحنيات جسدها الفاتن مُهلكي وليل شعرها معذبي.!! وبينما كنتُ مسلّطاً بصري عليها وأطحن ضروسي قاطعني آمراً بصوت جهوري يرن في اركان بيته وهو يفزّ من مكانه:
" إنهِ فطارك واتبعني الى المكتب.....يوجد لديّ ما علينا التحدث عنه !!.."

لمّا غاب عن عيني القيت الشوكة على الطبق واسندتُ ظهري للخلف بتراخي وحدقتايَ موجهتان الى باب المطبخ شارداً بالتي اوصلتني لدرجة الغليان...!!.....آه منكِ يا ألمى!.....لمَ عليّ أن أعيش الحسرة في حبك؟!....ألا تعين أن الدنيا قصيرة وستقذفنا بأي لحظة الى تحت الأرض؟!.....آه يا حبيبتي.....عذبيني وزيدي بعذابي إن كان هذا سيخفف من الآمك وسيسعد قلبك!!......قمتُ من مكاني بوهن فيبدو أن جسدي نفذت قوته !!....قررتُ تجاهل العنيدة فلا طاقة لديّ وكذلك المكان لا يلائم للمناوشات الآن.......لحقتُ بالسيد(سليم)....أخرج خارطة متوسطة الحجم من درج مكتبه واستدار ليجلس على الكرسي المقابل لمكتبه ثم أشار لي بالجلوس قبالته ولما فعلت فرَدَ ما بيده على الطاولة الصغيرة أمامنا وبدأ يشير ويشرح قائلاً:
" تلك البقعة التي سيتم الدفاع منها....ومن هنا سيهاجموننا!!......ثلاثة كتائب منا ستشترك في هذه الهجمة !!.....اسمعني رأيك رغم أن الخطة الاستراتيجية شبه جاهزة"

" كم عددهم؟!.."

" مئتا وخمسون جندي !.."

" والمخربون؟!....كم عددهم؟!.."

" ستصل المعلومات المؤكدة مساءً إلينا من الاستخبارات ان شاء الله !!....لكن كمعلومات أولية يبدو انهم لن يجتازوا المئة وخمسون مقاتل!..."

" اذاً لا داعي لخط الدفاع....إن كنا نفوقهم عدداً علينا الهجوم..!!.."

" حسب خطتنا العسكرية رأينا أن نكثّف جهودنا للدفاع لمنعهم من الوصول الى الحدود كي لا يتكاتفوا مع حلفائهم في تلك البلاد رغم أن ثوارنا هناك سيحاربون في عدة جبهات ايضاً.....هدفنا هو تشتيتهم عن بعضهم قبل أن يصبحوا قوة موحدة!!..."

" تأكد من العدد!....إن كنا نتقدّم عليهم بعشرات اضافية اذاً يكون الهجوم في هذه الحالة أولى وأقوى.....سنباغتهم بهجمة غير متوقعة!!....الدفاع والمراوغة ومحاولة تشتيتهم يكون إن تغلّبوا علينا عدداً سيد سليم!..."

أخذنا الحديث عن الخطط العسكرية حوالي نصف ساعة من الزمن مع فنجان قهوة من يد عمتي وبعد انتهائنا من المهم جاء الموضوع الأهم فسند ظهره للخلف بأريحية وقال بصوت جهوري يشوبه السخرية قهراً مني:
" وأنتَ ما خطتك بشأن ما وصل إليه حالك سيد هادي وما هي خطوتك القادمة؟؟!...."

نظرت جانباً سارحاً باللا شيء ولويت فمي بحيرة مع ايماءة برأسي وأجبت:
" لا أعرف صدقاً!......كان عليّ اولاً منعها من الوصول إليه!!.....سأذهب الى بيتي باذن الله وارتاح وأفكر بهدوء....لا يمكنني أن أقرر قرارات عاجلة متهورة!..."

" الآن الخطة تغيرت!...لا يمكننا انتظار موعد قدومه إلى البلاد....تعلم أم لا تعلم سيد هادي؟!.."

قالها ناظراً إليّ وداخل عينيه بحور من العتاب ....كم يرغب بتأنيبي وتذكيري بتقاعسي وقلة حذري لكنه اختار أن يدفن كل هذا داخله فقلت بهدوء وايجاز:
" أعلم سيد سليم!!..."

تنحنح وقال يدلي اقتراحه:
" برأيي يمكننا استخدامها لصالحنا!.....لتكون الصورة أنها اختطفت من قِبَل كتيبة الفهد الأسود أكبر اعدائه!!.....إما رأسها أو يسلم نفسه!!....مع شريط مصوّر نبعثه له...فهو يعي أن لا مزاح بيننا...وسيستعين بك وستستدرجه بأسلوبك.....ما رأيك؟!.."

أيقول أن استخدم حبيبتي بمهمتنا ؟!...لا وماذا ؟..نصورها ايضاً ؟؟!.....أيراني فقدتُ عقلي وقلبي ؟؟!...شعرتُ في الدماء تغلي في عروقي!....بركان هائج يوشك على الانفجار يجتاح صدري.....عيناي تقدح شرراً وقبل أن أهدر به لأعطيه رأيي التفتنا بذات اللحظة نحو الباب للتي أقبلت علينا ثائرة وتصرخ بهمجية ونشيج بعد أن سمعت حديثنا متعمدّة التجسس وحتى أن ثورتها منعتها من انتظار اجابتي:
" أيها الأوغاد الحقيرين!!.....هل ستجعلون مني بيدقاً أو رهينة بين أيديكم لتضربوا أبي بي ؟؟!....أقتل نفسي قبل أن تفعلوها نكاية بكم !!...."

وطالعتني بنظرة كراهية مضيفة:
" هل وصلتَ الى هذه الدناءة لاستخدام من تدّعي أنها زوجتك لأعمالك المقرفة الخسيسة ؟؟!.....لا وبل تجلبني الى بيت وتطعمني مِن طعام مَن يخطط لتدمير أبي بكل وضاعة!؟..."

" أصمتـــــــي!!.."

البركان الذي كان يوشك على الانفجار قبل قليل كانت هي من تلقّته مني ليكون من نصيبها بصوتي الذي زلزل الأرض السابعة من تحتنا حتى أجفلت مني وتوقفت عن شتائهما بينما الذي كان يجلس يشاهد بصمت قبل ثواني.. هدَرَ بها موبخاً:
" ما هذه الوقاحة وقلة الأدب يا فتاة.؟.....هل تتجسسين علينا وترفعين صوتك بحضور زوجك؟؟!....عديمة تربية..."

وما إن أنهى جملته حتى اختفت برمشة عين هاربة لتعتكف في الغرفة خاصتنا لتواصل نحيبها لوحدها عندما ألقى عليها كلماته القاسية الجارحة وقد اجتازت عمتي التي كانت تقف مبهمة عند الباب بعد مجيئها لسماعها الجلبة التي قامت بها الجاسوسة الصغيرة فوثبتُ من مكاني وغضب الدنيا تملّكني ثم رفعتُ صوتي بجدية وشدّة مقهوراً موجهاً كلامي إليه وأنا اكوّر قبضتي وأرفعها بصلابة مع انحناءة خفيفة بجذعي:
" سيد سليم....كلامك معي ليس معها !...ليس من حقك أن تنعتها بهذه الكلمات النابية.!....هي لم تخطئ.....من الطبيعي أن ترى والدها مظلوماً وتحاول أن تدافع عنه وتبحث عن أدلة لصالحه بشتّى الطرق سواء كانت طرق نزيهة او لا..."

واستطردتُ بتحدّي وعينيّ بعينيه رافعاً سبابتي بتأكيد:
" مثلما نفعل نحن تماماً...!!...لذا لو سمحت لا تعيدها مجدداً !!....كُن أكيداً أنني لن اسمح بها وبإهانتها مهما كانت ومهما قالت!!..."

ثم استدرتُ لأخطو متجهاً الى الباب وتوقفتُ عنده مع التفاتة صغيرة وهتفت بصوت أكثر هدوءاً:
" سأتصل بسامي ليأتي ويأخذنا!!....لا استطيع البقاء هنا وعليّ التفكير بطريقة سليمة تخرجنا من هذا المأزق.....فبالطبع اقتراحك مستحيل أن انفذه....زوجتي ليست كرة بملعبكم ولا أريد أن اسمع ذكرها بمجالسكم!!...."

لم يحرّك ساكناً مع علمي أن داخله نيران تشتعل يود احراقي واحراقها بها من قهره فأنا أتيتُ مخالفاً لتوقعاته عند ارتباطي بها !!...وقبل أن اتابع سيري استوقفني قائلاً مغيّراً الموضوع الأساسي:
" ستعود مع أحمد!!.."

تطلّعت عليه بلا مغزى فأكمل:
" ذاك العنيد سينهي حياته في أرض المعركة!!...اتصل بي بلال وبعض القادة ليشكوا منه!!....منذ وصوله البارحة الى الميدان لم يترك سلاحه وهو يقاتل بشراسة....ظلّ حوالي ستة عشر ساعة يطلق النار على نفسٍ واحدٍ وحتى انه كان يصلّي وسلاحه على ظهره وذخيرته على خصره...لم يرتح دقيقة واحدة واستمر دون ان يضع لقمة بفمه وحتى أنه لم ينفذ اوامر قادته عندما طالبوه بالتنحّي ليأخذ مكانه احد زملائه .....ما له جنّ لا أدري ؟!.....يقول لهم بتصميم ..*...إما النصر او الشهادة !...*...."

اصاب وجهي الوجوم قلقاً عليه فعدّلت وقفتي لأصغي براحة وقلت بفضول:
" وما فعلتم ؟!.."

تنهّد وهزّ رأسه معترضاً على أفعال صديقي واجاب:
"بصعوبة اوصلوني به ولجأت لتهديده بأكثر شيء يؤلمه قائلاً ..*... إن لم تعد أدراجك سأقصيك من الكتيبة بأكملها!...*...فاضطر للاستجابة كارهاً!!....لنفسه عليه حق !...وكذلك لا يمكنني بسبب جنونه وتهوره أن أخسره....فأنت تعلم! ....أحمد هو أفضل قناص على مستوى كتائبنا بغض النظر عن دوره في تسيير العلاقات مع الحلفاء !!.....حفظه الله وأراح باله !!..."

أمّنتُ خلفه وسألت:
" اذاً اين هو الآن؟!.."

" في طريقه إلينا...أوشك على الوصول ان شاء الله!!...لقد اخبرته رؤوس أقلام عن وضعك!!....اما بلال سيبقى هناك لأنهم يحتاجونه ايضاً لبعض العلاجات التقنية بما يخص الرادارات !!..."

أومأتُ برأسي موافقاً على كلامه وهمستُ وأنا اوليه ظهري:
" حسناً...سنجهّز أنفسنا في الحال!.."

عندما عدتُ الى غرفتنا وسمائي كنتُ أقل انفعالاً وأكثر سكوناً أما هي كانت تستلقي على السرير وتكوّر نفسها وظهرها للباب وصوت شهقات خفيفة تصدر منها مخلّفات من نحيبها ....دنوتُ منها بحنّية وجلستُ على طرف السرير جانبها ثم مددتُ يمناي ومسّدت شلالها الليليّ فهبّت تعدل جلستها مبتعدة عني للطرف الآخر وقد هالني الاحمر القاتم الذي يغطي وجهها وقالت بهمس خافت:
" لا تقترب مني!.."

أغمضتُ عينيّ بألم وتنفستُ بهدوء....فتحتهما وهمست بلطف:
" حبيبتي أنا لن أؤذيك......هيا تجهّزي للذهاب من هنا !!....ارتدي الفستان والحجاب دون افتعال مشاكل!..."

" هل ستسلّمني لكتيبتكم لتستدرجوا والدي ؟!.."

سألت سؤالها والغصة تلازم صوتها فأجبت معترضاً بجدية:
" ما هذا الهراء؟!...طبعا لا"

" لكنه اقترح عليك هذا وسألك عن رأيك!!."

" وأنتِ تهورتِ دون أن تسمعي رأيي.....قلت لكِ في السابق أنت خارج المهمة والمعادلة..... حتى لو فديتك بنفسي !..."

أشاحت وجهها وأصدرت صوت ضحكة هازئة وقالت:
" كأني سأثق بك!....اتركني لأعود ولا حاجة لأن تفديني بنفسك!.."

تمتمتُ مستغفراً ومحوقلاً ثم نهضتُ مكرراً:
" هيا قومي وجهّزي نفسك!...سيصل صديقي بعد قليل ان شاء الله!.."

×
×
×

بعد أن التقينا بصديقي (أحمد) ورأيتُ على ملامحه علامات الاجهاد ورغم أنني لم أكن أحسنُ حالاً الّا أنني تطوّعت بالقيادة لكنه كابر ورفض اقتراحي وبينما كنا قد سحقنا ربع المسافة وفي لحظة سكون ممل وبكل جرأة وفظاظة بل قمة الحماقة هتفت موجهة كلامها للذي يجلس خلف المقود تقصد الفتك به ساخرة وساخطة وكأنها تتسلّى في ايلام من حولها ليشاركوها مصابها في الألم:
" هل علمتَ سيد أحمد أن صديقتي ميار تمّ عقد قرانها في الأمس؟!.."

وألحقت سؤالها على الفور متمتمة باستهزاء دون أن نفهمها:
" ما شاء الله...إكتملت العصابة وطاقم التمثيل!!.."

لاحظت ابيضاض مفاصل أناملة القابضة على عجلة القيادة وشدّ فكيه بكُره وجموح فنهرتها وأنا التفت إليها من خلفنا:
" ألمى.!!....احفظي كلامك لنفسك!.."

الّا أنه فاجأني قائلاً بصوت ثابت مغاير لاضطراب ملامحه المتأثرة من كلامها:
" مبارك....نسأل الله لها السعادة في حياتها الجديدة!....ها أنا أعلم منك....لكن لو سمحتِ لا أفضّل الاستماع لأخبار أو كلام عمّا يخص الغير وخاصة الغرباء..."

غبية وحاقدة!....وصلت بحقدها حد السماء وإجابته لم تشفي غليلها.... تريد أن تستلذ وهي تتذوق آلام الآخرين وتشمت بهم.....لقد فقدت عقلها وقلبها في آنٍ واحد!!....لذا استطردت تلقي كلماتها بتلاحق كي لا اوقفها وكأنني لم أنهرها قبل دقيقة...دقيقة فقط !..:
" طبعاً ستكون سعيدة مع ابن عمها لأنه لن يكون نذلاً معها...وعندما أراها سأخبرها بأن الله يحبها وكم أنها محظوظة لأنها تخلّصت من أمثالكم أيها المخادعون... بعكسي تماماً.....مع أنني قريباً سأفعل المستحيل لأرتاح منكم .....أخبر صديقك بألّا يستهين بي!!"

صككتُ فكيّ بغيظ لكني تركتُ له الميدان مستمعاً دون تعليق بينما كان هو يتسلّح بالبرود والجمود رغم أن كلماتها كانت على فؤاده الجريح كطلقات البارود ورسم ابتسامته الوسيمة مجيباً مع تحاشيه النظر إليها بالمرآة الأمامية:
" تفعلين طيّباً ونفعاً بإخبارها كي لا يؤنبها ضميرها يوماً!!..أما أنتِ سيدة ألمى ثقي جيداً أنك لا تدركين قيمة الكنز الذي بيدك !!...لو جُلتِ في أنحاء العالم لن تجدي مثل صديقي !!...."

والتفتَ الى يمناه نحوي يهديني صدق الابتسامة ونظرة دافئة والإعياء يلوّن وجهه وأنا أبادله بمثلهما ثم ربّت على كتفي بوفاء مردفاً يتفاخر بي وزاهداً بنفسه وهو يعيد بصره للشارع ويده للمقود :
" وليس لأنه صديقي بل لأنه سيد الرجال وبطل الأبطال.... لذا فكّري بحكمة ورَشاد قبل أن تخسري....وكوني أكيدة أنك لا تدري ما هو الخير الوفير الذي يخبئه الله لك خلف ما ترينه مصيبة وكارثة أو ظلم!!..واسأليه دوماً أن يختار لكِ ولا يخيّرك....فالخيرة بما يختاره الله...."

بعد كلامه لاذت بالصمت وعمّ الهدوء داخل السيارة الّا من تطفل الأصوات الخارجية في الشارع!!....استغربتُ صمتها...ليست عادتها...يجب أن تواصل بين الصد والرد....لا تقبل الانهزام بسهولة وهي في حالة فوران وكيد يملأ قلبها!!... نظرتُ بالمرآة وإذ بوجهها شاحب وتحجب فمها بيدها وتقطب حاجبيها ودموع خفيفة تترقرق بمقلتيها.....عرفت!...يبدو أنها ستستفرغ!!...ما الذي اصابها؟!....الشيء زاد عن حده !!...من فوري طلبتُ من صديقي التوقف جانباً ثم نزلتُ مسرعاً وفتحتُ لها الباب لتهرول الى قارعة الطريق وهي تفك مشبك الحجاب الذي يخنقها ولمّا انتهت مِن استفراغ ما حوى جوفها ...اقتربتُ منها هاتفاً بقلق وجديّة:
" سآخذك في الحال الى الطبيب!!...حالتُك تقلقني ....هيا اركبي لنجد أقرب عيادة.."

قلتها وأنا استدير لأسبقها وظننتُ انها لحقتني الّا أنها كانت متسمّرة مكانها وهتفت تنهاني وتردّ على كلامي وهي تعدّل الحجاب قبل أن أخطو:
" لا حاجة للطبيب.....أعتقد أنك تعلم حالتي بما يخص دورتي الشهرية.....هذا طبيعي عندي يبدو أنه حان ميعادها!...وفّر قلقك وحنانك ...أنا أدرى بصحتي..!!.."

صحيح!!....ما بالي نسيتُ هذا؟؟!....أساساً هل أبقت عندي عقل لأفكر؟!....الحمد لله!...قلقتُ عليها عبثاً....خشيتُ أن تكون فيروسات أصابتها وما الى ذلك !!....تابعتُ خطاي ذاهباً الى السيارة وصديقي بعد أن همست لها باقتضاب:
" جيد!!..هيا الحقي بي"

بعد أكثر من منتصف الطريق تبدلنا أنا و(أحمد) القيادة من كثرة الحاحي عليه لرؤيتي تقاسيم وجهه المنهكة وارتخاء عضلاته بضعف وكنتُ قد سرقتُ غفوة لساعة زمنية أجدد بها نشاطي وطاقتي أما المدللة لجأت الى عالم النوم الجميل معظم الطريق وكانت البراءة التي أعشق تشع من وجهها الحسن بخلاف شراستها اثناء يقظتها ....!!..كم أحبها وكم أذوب في هواها!!.......يا ويل قلبي .....ما أنا فاعل إن أقصتني من حياتها وحرمتني قربها بعد أن أذاقتني حلاوة الرحيق المختوم من شفتيها.....ويلٌ لقلبي ثم ويل... فأنا حقاً أدمنتها!....!!


~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~


تململت في السرير!!....فتحت عينيها بنعاس....تمطّت في مكانها ناظرة للسقف....هبّت مستنفرة ترفع جذعها....تطلّعت ذات اليمين وذات الشمال!!...."..يا الهي كيف نمت؟!..."....سألت نفسها.!....تذكر أنها استلقت لتمدّ ساقيها المتعبتين على السرير وكانت لم تنوي النوم بعد أن صلّت الظهر الّا أنه قد غافلها ....سحبت حقيبتها عن المنضدة جوارها وأخرجت هاتفها لترى كم الوقت الآن..؟!....صفعت جبهتها متمتمة :
" ايعقل أنني نمت لثلاث ساعات متواصلة دون أن أحس ؟!.."

حرّكت رأسها تغضن جبينها ترنو نحو باب الغرفة وهزّت رأسها بوعيد وأكملت تمتمتها:
" اذاً سيد سامي أخلّيت باتفاقنا؟!...مرّت ثلاث ساعات وليست ساعة فقط!!...استغليت نومتي لتبقيني أكثر وقت!!.....سنرى الى اين وصلنا بمعركتنا؟!.."

قالتها وقامت من مكانها....سارت خطوات قليلة فلمحت على المرآة الفوضى التي احلّت على ملابسها..!!....فستان مبعثر وحجاب كاد أن يصبح عاليه سافله....زلفت منها وبدأت ترتب نفسها !!....حسناً هي لن ترتب نفسها لتعجبه .....تفعل ذلك لأجلها فقط!!.....تحب أن تهتم بمظهرها!....فتحت الباب بحذر وأرهفت السمع....خطت على رؤوس اصابعها لتراقبه .....وجدته نائماً على الأريكة....وما إن لبثت أن تبتسم بحنان جارف لنومته البريئة حتى عادت وقطبت ملامحها بجدية تنهر ذاتها ! ....نظرت نظرة وجهتها الى باب الشاليه والثانية للمستلقي ....اعطته ساعة واستغل سباتها !!....لن تقوى على فتح مناورات جديدة!!....حقيبتها معها وبحوزتها ما يكفي من المال لتستقل سيارة أجرة حتى المدينة الجبلية!!....ربما هو وافقها ليسكتها لكن نيته الغدر بها لتبيت معه في الشاليه.." هذا في حلمه سيادة العقيد.!!..."...سخرت منه بعقلها ....تذكرت أن المفتاح قد وضعه بجيبه..!!...بما أنه لم ينم اذاً سيكون نومه ثقيلاً هذه الساعة وليس كعادته كالجنود المستعدين دوماً لأي نَفَس ممكن أن يوقظهم!!....استرجعت بمخيلتها أي جيب وضعه...!!..
" اللعنة.!!."

شتمت بخفوت لمّا وصلت بعقلها أن المفتاح بجيبه الايسر أي المحشور بظهر الأريكة!!.....كيف ستصل إليه ؟!...انحنت اتجاهه وحرّكت يدها ازاء عينيه لتختبره!!...لم يحرك ساكناً....مذهل!!...هي تعرف سباته الذي يقضيه بعد أن يُحرم النوم اكثر من ليلتين !!.....حاولت دسّ يدها في جيبه لكنها لم تفلح!...المكان ضيق ومؤكد حركتها ستوقظه في النهاية وسيعودان لنقطة البداية بين البقاء والذهاب..!!....استقامت بوقفتها وزفرت أنفاسها المحبطة!!...اتسعت ابتسامتها فور رؤيتها للشيء الموجود على الطاولة الصغيرة أمامه !!....فلتجرب حظها!!....المهم هو فتح الباب ....إن نجحت لا يستطيع ادخالها وستصرخ وتضعه في مأزق وستفضحه كما انه لن يتمكن من اغلاق الباب عليها مجدداً بعد أن تخربه!!...بسلاسة سحبته وخطت الى الوراء بكل حيطة وحذر...ولمّا وصلت هدفها ...شدّت عضلاتها لتستمد القوة ....هي تجيد فعلها حتى لو لم تجرب في السابق!...يبدو ان الدروس النظرية اثناء المراقبة وخاصه عند تنظيفه نفعتها !!...ورغم ضعفها كأنثى الّا أنها نجحت بسحب زلّاقته كالخبيرة ...سمّت بالله ...اغمضت عينيها بعد أن صوبت على الدائرة الحديدية لموضع المفتاح و....طلقة واحدة كانت كفيلة بفرتكتها عن بكرة أبيها!!....ألقت ما بيدها أرضاً وألقت عينيها على ذاك النائم الذي لم يتزحزح بينما كانت أنفاسها متعاقبة من الإثارة التي عاشتها وقلبها يضرب اضلاعها وجلاً من ردة فعل صاحبه وأي عقاب سيطولها منه وخاصة أنه ليس سلاحه الخاص به إنما التابع لعمله !! ...عجيب!!...لم يتحرك قيد أنملة !!....كانت مدهوشة من عدم تحرّكه ....ترى وجهه الساكن!!....أيا ترى راقبها بخباثة كالتمساح الذي يفتح فكيه ويدّعي نومه ؟؟!...هل هو من أعطاها الفرصة لتفعلها ؟!....أكيد لن تقع في فخه!!...لا حاجة أن تقترب منه وتتأكد من صمته فهو سيغدرها كذاك البرمائي المفترس الخبيث!!....انتقت الفرار على المجازفة بمجابهته !....ذرعت الرمال الرطبة من الأمطار بعد أن نزلت الدرجات الخشبية للشاليه وقطعت مسافة لا بأس بها بعد اجتيازها سيارته!....كانت تهرول في مشيتها وبين الفينة والأخرى تلتفت خلفها لترى إن لحق بها !!...ولما وصلت نهاية المساحة الخاصة بالشاليه خاصتهما وكانت ستبدأ في الشارع الاسفلتي ولم يظهر لها الأشقر الى الآن....انتابتها الهواجس لدرجة اهتزاز قوي شعرته بنابضها بين أضلعها....امتقع وجهها ودبّ الخوف في كامل بدنها !!..."...ليس سامي الطبيعي من لم يلحق بي؟!....هناك شيء!....يا الله....ما به؟!.."....تساءلت في سرها ثم استدارت لتعود خطاها بتباطؤ وما إن وصلت داخل الشاليه هالها لقياه على حاله مغمض العينين وبنفس الوضعية ....سقط قلبها الى قدميها وهمّت راكضة لتجثو قربه وهي تضع يدها على خدّه لتربّت وتوقظه لكن حرارته المرتفعة أحرقتها.....يغلي كالماء على النار !!....ببكاء ورعب نادت وهي تطبطب بيديها على وجنتيه :
" سامي ...سامي...اصحى!...ما بك سامي؟!.."
" أرجوك انهض.... حَـ.....ـبيبي!!.."
" سامي...ردّ عليّ!.."

يبدو أنه كان بين الوعي واللا وعي وهو نائم ....فتح عينيه بتثاقل وكانتا كالجمر الملتهب..مرر لسانه على شفتيه يشعر بجفاف أحلّ بهما وبحلقه...بصعوبة تمتم وهو يحرّك رأسه جانباً نحوها:
" دُنْـ...ـيا!!.."

دمعات تنساب من عينيها وأخرى ترافقها من قلبها وهمست بوجل:
" حرارتك مرتفعة سامي !!...يجب أن نجد طبيباً لك في الحال...يا الهي ماذا سأفعل؟!.."

ابتسامة مريضة زارت ثغره وهمس بكلالة وعناء:
" لا... تخافي...دُنـْ...ـيتي....اتركين ي أنام قليلاً وسأتحسّن ان ...شاء الله..."

" كلا سامي...السخونة ستؤذيك...علينا اخفاضها بالحال!!.."

قالتها بارتباك وهي تجول بعينيها في الأرجاء باحثة عن لا شيء يساعدها!!فهي لم تهتدي لحل!.....انتصبت واقفة ثم انحنت اتجاهه وشرعت بفك أزرار قميصه لتخفف من ملابسه وتساعده على تبريد جسده!!....ولمّا فكّت ألازرار الأولى رفع يده يمسك يدها التي لامست صدره وهمس ناظراً إليها بعينيه الحنونتين المشتاقتين الذابلتين:
" اشـتقتُ ...لكِ....يا عينيّ الشهد.."

" وأنا أكثر يا أشقري...حبيبي يا أبا سُلَيمان.."

كم ودّت النطق بها فالسعادة بموافقته على الاسم لا تسعها لكنها اختارت عصيان قلبها المتلهف لكل ذرة فيه وغضنت جبينها منزعجة واشاحت وجهها وهي تفلت يدها من يده تنهره:
" ليس وقته سامي!.."

ثم اتجهت الى قدميه الممدودتين على الأريكة وخلعت جوربيه عنهما وقد لسعتها حرارتهما ثم بعجلة هرولت للمطبخ وملأت إناء بماء فاتر وأخرجت فوطة صغيرة وعادت إليه تغمس الفوطة بالماء وتضعها على جبينه ثم تعود وتغمسها مرة ومرة كلما امتصت حرارته وهو كان بين اليقظة والنوم ....تركته وذهبت تبحث عن دواء مناسب يخفض الحرارة ومسكّن آلام في علبة الاسعاف الأولي الموجودة في مطبخ الشاليه !!...تبسّمت فرحانة وكأنها رأت كنزاً بعدما وجدت غايتها ....بحماس أخذته واتجهت لزوجها ومعها كأس ماء ....وضعته بفمه وأسقته بحنية وحذر ثم تابعت مهمتها بالفوطة وهي تجلس على طرف الأريكة جواره وكان القلق يساورها ودقات قلبها في حالة استنفار ثم همست وهي تركّز شهديها على الفوطة التي تنقلها تارة الى طرفيّ عنقه وتارة لجبهته :
" ستنزل الحرارة إن شاء الله....لا تقلق.."

مسك يدها مرة أخرى وقرّبها لشفتيه وقبّلها هامساً:
" سلمتِ ..حُبي!....لن أقلق وأنتِ معي!!.....هل عليّ شكر المرض لأنه قرّبك مني وجعلك تهتمين بي؟!"

سحبتها كالسابق ووضعتها على حجرها وهي تنظر جانباً تتملّص من نظراته الثاقبة رغم مرضه وقالت بجدّية مزيفة :
" لا تظن فعلتها من أجلك!....أنا أهتم كي نعود الى مدينتنا في أسرع وقت!!..."

استمع لها باسماً بينما حدقتيه تلمعان بحزن وكان خائر القوى لا يستطيع فتح جبهات معها..!!...مرت دقائق فساعة كانت قد تركته ليأخذ الدواء مفعوله !!...بدأ ينتعش الّا أن جسده ما زال ضعيفاً....دنت منه لتجس نبضه ...أي أنها تريد أن تختبر إذا عاد لطبيعته واسترجع قواه أم أنه على حاله...فقالت بحزم:
" اعتقد انه يمكننا الذهاب ألآن....أليس كذلك؟!.."

أمال زاوية فمه مغتصباً شبه ابتسامة ثم حاول تعديل جلسته بتراخٍ وهو ينزل قدميه أرضاً....لاحظت الضعف الذي يعتريه وكان الحر قد لفح وجهه فأصبح متورّداً...رفعت حاجبها بريب وحيرة واقتربت تتفحص حرارته واضعة ظهر يمناها على جبينه فوجدتها قد نزلت قليلاً فقط فهمست باستغراب:
" غريب!!....لمَ حرارتك ما زالت مرتفعة؟!."

رفع وجهه يتطلّع عليها بوهن ثم ابتسم قائلاً بخفوت راجياً :
" لأن الحرارة تخرج من روحي وليس من جسدي...روحي المريضة وعلاجها بين يديك وبهمسة من شفتيك يا عينيّ الشهد !!...سامحيني!....قولي سامحتك وأعدك أن أكون كالأسد!....ليتك يا دنيا تعتنين بروحي كما اعتنيتِ بجسدي..!!"

حتى لو كان قلبها وكل جوارحها تصرخ بالمسامحة والشوق له الّا أنها لن تنطقها!!...لم تنسَ وجعها حين تركها وأدبر عنها ...قررت الابتعاد عنه قليلاً لتأخذ مساحة بينها وبين نفسها ...لتعيد حساباتها وتعالج روحها الجريحة وتضمد جرح الفؤاد!!....عند انتهاء جملته انحنت لتلتقط حقيبتها عن الأرض ثم قالت بجدية:
" كلامك يوحي أنك أصبحت بخير....من فضلك هيا تأخرنا!!.."

هزّ رأسه بـ حسناً والألم بروحه لم يفارقه ...استقام واقفاً وأغلق قميصه ثم رتبه بعشوائية....انحنى ليرتدي جواربه ثم انتعل حذاءه...ضيّق عينيه وحرك رأسه لعدة جهات باحثاً عن غرضه هامساً:
" أين مسدسي؟!.."

انقبض قلبها بارتياع من فعلتها وهربت بعينيها أرضاً....رفع رأسه ناظراً إليها بتشكك مكرراً سؤاله:
" أين مسدسي دنيا؟!.."

تنحنحت ولم تجرؤ على التطلع عليه وأجابت بصوت مختنق مهابة وهي تشير للخلف بيدها بهشاشة :
" هناك....على الأرض!.."

مشى خطوات واسعة واصلاً إليه هاتفاً بدهشة وهو يحمله:
" ماذا يفعل هـُ...ـنا ؟!.."

قطع كلمته الأخيرة بعدما سقط نظره على الباب وقال بصرامة وصدمة:
" كيف فعلتِها ومتى؟!.."

قطب حاجبيه بضيق ودنا منها متمهّلاً بثبات بينما هي كانت ترجع للخلف حتى التصقت بالحائط الخشبي وسأل اسئلة متتابعة بجدية وصلابة يؤنبها :
" كيف تجرأتِ على هذا ؟!..من أين تعلمين طريقة استخدامه؟!...ماذا لو آذيت نفسك ؟!..."

ابتلعت ريقها وحاولت التركيز على استجماع حصانتها وشجاعتها وهو يحشرها على الحائط ثم أجابت :
" ظننتُ أنك خدعتني عندما مرّت ساعات دون أن نذهب....فأردتُ العودة وحدي وكان المفتاح في جيبك "

رفع المسدس أمام وجهها وسأل بإصرار واستنكار:
" قولي كيف تجرأتِ على استخدامه وكيف استطعتِ ؟!...أمجنونة أنت؟!..."

أعجبه قربها ولفحته أنفاسها المتهدجة وأبهره توهّج وجنتيها ارتباكاً وكاد يسمع ضربات القابع خلف أضلاعها فأراد الاستمتاع بلعبته قليلاً فأكمل مهدداً بجدية كلها خباثة ومكر وهو يمرر برقة وحركة مغوية فوهة مسدسه ابتداءً من أعلى رأسها نزولاً الى خديها ووصولاً الى شفتيها وذقنها وهو هائم بالنظر لتقاسيمها:
" أتعلمين عقوبة من حاول سرقة سلاح شرطي ؟..وكيف إن استخدمه وبصماته عليه ؟!!.....أتدركين أن من هذه اللحظة وبكل سهولة يمكنني تكبيلك بالأصفاد وجرّك للمركز سيدة دنيا ؟!..."

وأخفض نبرته مردفاً ومؤكداً على سؤاله بهمس خافت وهو يقترب من وجهها أكثر بحركة لعوبة وأنفاسه ورائحة عطره تعبث بأحاسيسها وهرموناتها:
" تدركين ذلك ام لا تدركين ....حبيبتي ؟!....قولي...كيف تمكنتِ من اطلاق النار؟!...ها؟!..."

ازدردت ريقها برهبة وأحست أن نابضها أضاع نبضاته لكنها لن تشعره بحالة الرعب التي انتابتها فنصبت كتفيها بإباء وجلت صوتها بتفاخر:
" أنسيت أن أبي محيي الدين وأخي هادي...؟!.."

لم تتغير ملامحه وبقي كما هو فاستدركت نفسها من فورها لتضيف كرشوة وهي تستخدم كيدها الأنثوي علّه يشفع لها عند سيادة العقيد فلمعت عينيها ببريق ماكر وهي تتبع بحدقتيها مرور المسدس على بشرة وجهها الّا أنه وصله كبريق العسل تحت الشمس وهذا أكثر ما يعشق ويجعله ذائباً بشهديها وبحركة عفوية عضّت جانب شفتها فبدت مثل الفراولة الشهية وبصورة مغرية وهدمت حصون ما تبقّى من ثباته عندما همست تتابع اجابتها بغنج لتداعب رجولته الفذّة التي تعشقها:
" وأن زوجي حضرة العقيد سامي الأنيـ.. ..!!.."

ليبتلع آخر حرف لجوفه بعدما أطبق شفتيه على شفتيها بوَلَه بقبلة لم تستمر غير ثواني معدودة عندما دفعته عنها بغيظ رافضة إذ أنها شعرت بخنوعها واستسلامها كأسيرة لعشقه الذي يضعفها وهتفت بحزم :
" لا تكررها رجاءً..!....أنا لم أقرر مسامحتك!...علينا الابتعاد قليلاً لنفكر بحكمة وأنت قلت سترضى بحكمي...هذا هو حكمي..... ثم .....ثم إنني أرغب بإخبار أخي هادي بكل ما جرى...يكفي أن عائلتكم بأكملها أصبحت تعلم قصتي المفبركة...دنيا الوقحة التي تهين ضيوفها وتستصغر زوجها.!!...أعتقد أن من حقي الاستعانة بمن أثق به وأعتمد عليه فهو شقيقي الكبير ومسؤول عني ولستُ مقطوعة من شجرة وعليه أن يعلم ما حدث مع شقيقته من قِبَل أعز صديق له."
رجت صدمته بها كيانه...انتصب بوقفته مذهولاً ومصعوقاً...آلمه الحال الجاف الذي وصلا إليه....وشمّ رائحة تهديد من وراء كلامها فأجاب بعد أن استرّد صوته واثقاً من نفسه وبكبرياء:
" كما تشائين .......افعلي ما يريحك.....واعلمي أن اخبارك له لن يزعزع صداقتنا أنا وهو مهما حدث بيننا ....من حقك هذا بالطبع لكن لا تستعملي أسلوب التهديد معي مجدداً.!!..تعلمين أنني لا أخاف الّا من خالقي..!!"

أنهى قوله ودسّ المسدس خلف ظهره وبهمّة تبدر عن انزعاجه استلّ جاكيته عن ظهر الكرسي وقال بجدية دون التطلع عليها :
" هيا لنذهب من هنا.."

ثم خرج يسبقها وهي تراقبه بصمت للحظات قبل أن تلحق به !!...

×
×
×

وإن كانت ساعة ونصف من الزمن مخللة بسكون الألسن أثناء الطريق الّا أن ضجيج الهموم في الصدور والأفكار في العقول لازمهما وكان صاخباً مزعجاً يعكر صفوهما.....التزما الصمت رفيقاً لهما....لا كلام تقوله له ولا كلام عنده!!....بينها وبين نفسها ترجو أن يحاول محاولة أخيرة بملاطفتها واصلاح ذات البين بينهما.....مال القلب العاشق لمسامحته ....ألا يفترض أن يكون هذا يوماً مميزاً ويحتفلان به ؟!...اعطاه الله ما تمنّى....ولد سليم....واعطاها ما شاءت ....وافقها أخيراً على اسم (سُلَيْمان)....عند اقترابهما لبيتنا الجبليّ بدأت تتسارع دقاتها ....جاءت اللحظة الحاسمة.....إما ينزل ويبشّر عيوش بالهدية التي وهبه اياها الله وستكون فاتحة خير لتعود المياه لمجاريها وإما....
" تفضلي إنزلي .."

أجفلت خارجة من أمنياتها بعدما قالها باقتضاب جاف لحظة وصولها الى خارج بوابة المنزل ووجهه موجه للشارع...لا عليها ولا نحو الساحة!!....لاحظت الاستياء على ملامحه وصوته الأجش ...يبدو جاد جداً!!....أتتنازل قليلاً وتبدأ بتليين الوضع وفتح باب المحادثة ؟!...تنحنحت لتطرد اهتزاز صوتها المختنق وهمست بتردد:
" أ...ألن تنزل لإخبار...والدتي....بنوع الجنين..لـِ ...لتأخذ مباركتها ؟!؟!.."

ظلّ على حاله وعلى نفس نبرة صوته وأجاب في فتور:
" لا يهم....اخبريها أنتِ...يكفي!.."

أطالت النظر إلى جانب وجهه ...لامست انطفاء حماسه للخبر الذي ترصّده ساعات وأيام !!... وطال انتظاره لنزولها فالتفت إليها بحدّة وسأل مستغرباً بجفاء :
" أهناك شيء؟!..."

هزّت رأسها بـ لا ونزلت ببطء تشعر أن شيئاً يخنقها ويضغط على أنفاسها ومشت قاصدة بيتها تضع يدها على صدرها ودمعات قهر تتسابق على وجنتيها من عظم الألم الذي يعتصر روحها ثم استدارت بتلقائية عند سماعها صوت عادم السيارة الهادر الذي نتج عن ضغطه بغل على الوقود ليختفي عن أنظارها بلمح البصر....وتابعت بقدميها السير للداخل لكن قلبها ذهب بالاتجاه المعاكس ليلحق بحبيب عمرها ..!!


~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~


تستلقي على سرير المشفى وقد حطّم المرض قواها وأنهكها....ملامحها ذابلة ...شاحبة الوجه...وغائرة العينين...بدت متقدّمة في السن....يداهمها السعال بين حين وحين فيهتز سائر جسدها الذي غدا أكثر نحولاً....حلقها يابس .....تفيق قليلاً وتعود الى نومها الشبيه بالإغماء بينما مرافقتها تعتكف في ركن الغرفة وتراقب تطوراتها مفزوعة بلا حول ولا قوة منها ....نفسيتها كئيبة وحالها يرثى له.....كيف سيكون حالها وأعز صديقة وحبيبة على مشارف النهاية حسب ما قدّر الأطباء وضعها ؟!...أيوجد اصعب من انتظار فقدان شخص عزيز ؟!....ما بيدها حيلة لكن لسانها لم ينفك عن اللهج بالدعاء الخارج من صميم فؤادها...!!...جحظت عيناها لحظة رؤيتها للمستلقية تحرّك وجهها نحوها وتومئ بيدها لتقترب منها !!...قبل ساعات قاموا بسحب المياه عن رئتيها!!.....يبدو أن في جعبتها كلاماً !!....نهضت عن كرسيها وزلفت إليها....وضعت يد المريضة بين يديها بحركة دافئة تدعمها واغتصبت ابتسامة ترفع معنوياتها ثم همست ولوعة تئن في كافة خلاياها وتعذّبها :
" اؤمريني عزيزتي فتون..!"

ابتلعت شفتيها لترطّبهما وهمست بصوت خافت فاتر ضعيف ومتاّنٍ:
" هل... أخبرت...صغيرتي...عن حالي؟!...هل ..اتصلت لتكلمني؟!..."

هربت بعينيها للسرير الفارغ جانبها وأجابت بتلكؤ:
"ممم.. لم ..تُتِح لي.. الفرصة... بعد !!.."

استشعرت هروبها وأن هناك ما تخبئه عنها فقالت بارتياب:
" في ....عينيك ...كلام....إيمان!...لا تخبئي عني شيئاً!...أحدث مكروه ؟!...."

أعادت حدقتيها اللامعة بوجع لوجه صاحبتها فاستطردت الأخيرة تشجّعها:
" لا تخافي....أنا أقوى مما تتخيلي....اخبريني!..."

ازدردت لعابها وطبطبت على ظهر كف صديقها المحبوس بين يديها وافتتحت الكلام قائلة:
" ألمى....عرفت كل شيء.... عنا..."

اهتز جسدها بعفوية متأهباً بتصلّب مع ارتفاع رأسها عن المخدة كردة فعل للخبر ثم عادت وأرخت كل شيء فيها وضغطت على شفتيها وهي تبتلع لعابها وتنظر جانباً بعيداً عن نظرات الواقفة وهتفت بقوة تخفي الانهيارات التي تحدث داخلها:
" إذاً حان.. وقت ..انتهاء اللعبة!!...فهذا اليوم.... كان سيأتي.... حتماً....."

أرجعت وجهها للواقفة وأردفت:
" وما ردة فعلها بشأني ؟!.."

صمتت برهة تفكر وأجابت بحذر رغم معرفتها بقوة تحمّل صديقتها:
" لم تعطني المجال لأبرر لها ...حانقة على الجميع وتتوعد بعدم المسامحة ....حتى كنتُ سأخبرها عن حالتك ليرق قلبها الّا انها صدتني واغلقت الهاتف في وجهي قبل ان تسمعني..!!....لكن لا تقلقي....هادي سيقوم باللازم....سأخبره لاحقاً....لقد اصطحبها للوطن وسيبقيها عند والدته ليتابع مهمته!.....اطمئني!...ستذهب لبيت الحنونة .....دعوة المريض مستجابة ...ادعي لها بالهداية وأن ينير بصيرتها للحق ولا تهدم حياتها الجميلة التي تنتظرها معهم هناك بإذن الله...."

شبه ابتسامة ارتسمت على محيّاها وهي شاردة بالفراغ مصغية لصديقتها ثم قالت:
" ستسامحنا الطيبة ابنة الطيبة.....لكن لا تنسي المكتوب اعطها إياه ما دام كشف الأمر...حتى....حتى...لو بعد وفاتي....لأرقد بسلام تحت الأرض !!..."

" ليبعد الشر عنك....أطال الله في عمرك....ستسامحك وأنتما تحتضنان بعضكما بأرض الوطن وستحملين ابناءها....فقط شدّي الهمّة لتتحسني ونعود بإذن الله ..."

قالتها بغصة وحرقة فجاء دور المستلقية لتواسيها فرفعت يمناها المربوطة بأسلاك الأجهزة الطبية وهي ترتجف من عجزها ورخاوتها ووضعتها فوق كفها العليا وشدّدتا معاً على أيديهم لتتبادل الأعين نظرات من نظرات الوداع وهمست:
" لن نخدع أنفسنا...عزيزتي إيمان.....صحيح الأعمار بيد الله ومتى يشاء يقبض أرواحنا ولكن يوجد أيضاً حقيقة طبيّة هنا.....لن نقف ونبكي مكاننا...علينا التقدّم ...المهم لا تنسي المكتوب...!!.."

كانت تشعر السيدة (ايمان) بتدهور حالتها لذا فعلت اللازم قبل يومين!!....فأجابت تطمئنها:
" بعثت المكتوب للعنوان الأمين البديل لي مثلما اتفقنا سابقاً إن حدث أي طارئ! ....لا بد أنه وصل الى تلك البلاد ..."

" وهل تأكدتِ من العنوان ؟!.."

" أجل....كلّمتُ ابنة شقيقها وأكدته لي وستعلمني في حال أصبح في حوزتها !!..."

" ان شاء الله خير....اسأل الله أن يعوضك بما تستحقين على كل دقيقة امضيتها معي غاليتي .......إن تجسدت أعظم صداقة في شخص ستكونين أنتِ يا إيمان صورتها بكل جوارحك! .....تعلمين كم أحبك!....صغيرتي هي أمانتكم!.....لا تغضبوا منها مهما فعلت ...ترفّقوا بها واغدقوا عليها بالحنان والأمان.....لا تتركوها وتعاقبوها بسبب تخبطاتها....يعلم الله ما حالها الآن....اوصيك بأن توصلي لها سلامي وحبي بعد موتي وقولي لها خالتك تحبك أكثر من عمرها وفعلت كل هذا لأجلك....سامحيها ..لو كان بيدها ما تركتك دقيقة لكنها ذهبت لتلقى الأحبة ولتكن جنة الله ملتقانا في الآخرة...فهلمّي وكوني من السابقين السابقين لنجتمع سويّاً عند عرش الرحمن ..!!.."

ختمت كلامها بدمعة فارقتها لترافقها مثلها من الواقفة جوارها....!!


~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~


" بنيّ!!...ما بك؟!...ما هذه الطرقات على الباب؟!...أهناك شيء؟!.."

قالتها والدته المرعوبة من شدة الطرق على الباب وقد هالها منظر ابنها متجهم الملامح والذي تراه نادراً في حالة غضب....كان الشرر يتطاير من عينيه وعروق رقبته نافرة وعضلاته متصلبة.....ألقى السلام بخشونة واجتازها دالفاً متجهاً الى غرفة العائلة فوجد شقيقتيه عندهم وثلاثة من اخوته مع والدهم.....وقف على باب الغرفة وتطلّع ليمينه بعدما لمح والدته قادمة إليهم ثم قال بصوت غليظ يوجّه كلامه لشقيقته (رزان):
" جيد أنك هنا...."

نظر إليه جميعهم بعدم فهم ثم تبادلوا فيما بينهم نظرات مبهمة فرفع صوته مشيراً لشقيقيه اللذين يمتلكان رخصة قيادة:
" ليذهب أحدكما الى القرية حالاً ويأتي بخالتي وابنتها العقربة الى هنا....هيا بسرعة!!.."

اقتربت منه والدته بتوجس ووضعت يد على صدره وأخرى على ظهره وهمست تهدئه:
" اهدأ بنيّ....خير ان شاء الله؟!....لمَ تتكلم هكذا ؟؟!.."

مسك يد أمه الموضوعة على صدره وقبّل ظهر كفها وقال بصوت اقل ارتفاعاً فيه حنية جمّة وبِرّ خالص :
" ستعرفين أمي حالما تأتيان ان شاء الله...اعتذر منك عن طريقة طرقي للباب إن أخافك!...."

لبّى أحد اشقائه طلبه في الحال وأخبره بأن لا يذكر أي شيء لهما ولأن الطريق معه ستستغرق ساعة الا ربع ذهاباً وإياباً فتوجّه صديقي الى غرفته ليستحم بعد رحلته المرضية في الشاليه وليصلي العصر ولم يقبل بوضع شيء في فمه رغم الحاح امه عليه فقلبها أخبرها أنه جائع ولكن لا شهية عنده هذه اللحظة!!....كان الفضول يفتك بالجالسين بما فيهم والده الذي اتخذ الصمت حليفاً له ولم يسأل او يتدخّل ليس ضعفاً او إهمالاً إنما لأنه أدرك نوايا ابنه الأحب الى قلبه وعلم بما يفكر والذي يثق بقراراته وتصرفاته الصائبة دوماً....!!


~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~


توقفتُ بسيارة صديقي عند بوابة بيتنا الجبليّ...ترجلتُ منها وفعل صديقي بالمثل ليتخذ عجلة القيادة....أما التي تجلس في المقعد الخلفي بدأت تتململ وهي تحرّك رأسها وتدلّك عنقها المتيبس من نومتها الغير مريحة ....فتحتُ لها الباب لتنزل فنزلت بحيطة واستغراب وهي تجول بنظرها على المكان الغريب عليها... لو كان الوضع مستتباً بيننا لأبدت انبهارها بالمنطقة المرتفعة التي نسكن بها بطبيعتها الخلّابة وهوائها النقي ولأشادت بهندسة قصرنا العريق الشبيه بقلعة من القرون الوسطى الذي تحيطه غابات من اشجار الصنوبر العالية!! ....تركنا (أحمد) وتابع في طريقه ....بقيتُ واقفاً أمام بوابتنا الكبيرة المفتوحة ...تبسّمتُ بعطف وعشق جارف محدّقاً بها ثم بسطت يدي أمامي هامساً بسعادة حقيقية أشعر بها بقلبي لأنها ستزيّن داري بقدومها :
" تفضلي حبيبتي....أنرتِ بيتك الحقيقي...!!.."

انتظرتها لثواني حتى تكرّمت عليّ بمشيتها دون أي تعليق لما تفوهت به فسرتُ مجاوراً لها ولمّا وصلنا منتصف الساحة لمحتُ شقيقي يحمل خرطوم المياه ويغسل دراجته الهوائية المليئة بالوحل فأطلقت صفيراً من شفتيّ ليلتفت إليّ فأجفل متفاجئاً وألقى ما بيده ليتراقص كالأفعى تارة بالهواء وتارة يخبط بالأرض حتى بدأ يبللنا برذاذه المنتشر وأقبل مسرعاً يرتمي في احضاني ويتشبث بي صارخاً:
" اخي هااااادي.."

كانت تتأمّلنا وهي تمسح بعض حبيبات الماء عن وجهها وعلى أثرِ صراخ أخي خرجت شقيقتي تركض بحذر ولم ترَ سواي لتتبلل معنا تحت رشقات الماء وهي تصرخ باسمي ففتحت ذراعي الآخر هاتفاً:
" دنيانااا....تعالي غاليتي!!.."

انضمت الينا ثم تعانقنا ثلاثتنا وفرحة الكون لم تسعنا وبعد لحظات قليلة وقع نظري على نبض الحياة الواقفة على مدخل البيت فهتفتُ منادياً وانا اتقدم نحوها ببطء وعلى جانبي احيط بذراعيّ شقيقيّ:
" أماااه..."

اتسع فمها بضحكة حنونة ونزلت درجات المدخل بتمهّل لا تصدق ما ترى عيناها وكان شوق كبير يقتلها وحلم جميل يراودها وهي تنتظر هذه اللحظة ....نتقدّم وتتقدّم فاتحة ذراعيها بلهفة وعند نقطة الالتقاء تسمّرتُ مكاني لحظة اجتيازها لنا....يا ربي...هل باعتني أمي أم يهيأ لي؟!!....لتصل في خطواتها للتي كانت تقف وراءنا صامتة وحزن أليم يُرسم على وجهها وقهر قاتل يفتت ويسحق روحها بعد رؤيتها سعادتنا الأخوية بلمتنا العائلية الحقيقية المحرومة منها وقد عاد بها الزمن الى سنوات كثيرة عندما شعرت بالغبطة منا آنذاك اثناء زيارتها لمخيمنا ورؤيتها ترابطنا المتين ببعضنا والدفء الأُسري الذي لم تعشه في حياتها...!!....وصلتها أمي ومشاعر أمومة جياشة تفيض منها بسخاء لتستقبلها هامسة برقة صوتها الحنون وهي تضمّها عنوة لحضنها:
" أهلاً بابنتي....أهلاً بكنّتي زوجة الغالي ابن الغالي ....أهلاً بمن ستنير لنا بيتنا وتُكمِل فرحتنا...!!..."

نطقتها من قلبها بحبور وحماس بينما كنا ثلاثتنا ننظر ببلاهة مصدومين لأنها فضّلت استقبالها اولاً على استقبالي.....وكانت هذه أول مرة أشعُر بها بالغيرة منها لا عليها..!.....فتلك الساحرة الصغيرة....سحرت أمي وسرقت مكاني!!...
" أهلاً بابنتي....أهلاً بكنّتي زوجة الغالي ابن الغالي ....أهلاً بمن ستنير لنا بيتنا وتُكمِل فرحتنا...!!..."

نطقتها من قلبها بحبور وحماس بينما كنا ثلاثتنا ننظر ببلاهة مصدومين لأنها فضّلت استقبالها اولاً على استقبالي.....وكانت هذه أول مرة أشعُر بها بالغيرة منها لا عليها..!.....فتلك الساحرة الصغيرة....سحرت أمي وسرقت مكاني!!...
ما لفت انتباهي هو خنوعها في حضن أمي وبين يديها !!....كان أول ما خطر في بالي أنها ستصدّها عنها وقد كنت اقف متحفزاً لأي رد قاسي ومنفر منها الّا انها خانت ظنوني !!....لم تطل كثيراً في احتضانها لتعطيها المجال لتتنفس ...تركتها برقة كالرقة التي ينبض بها قلبها مع الجميع....تلك نبع الحنان ونبض الحياة...وحدها أمي!!.....رفعت راحة يدها تحسس وجنة التي توهّج وجهها من اللحظة الشاعرية والتي لمعت عيناها بالحاجة....الحاجة لذاك الحضن والذي غاب عنها منذ ثلاثين يوماً ونيّف.....حضن الأغلى عندها أم أنها لم تعد كذلك بالنسبة لها ؟!....خالتها الحنونة السيدة (فاتن) شفاها الله!.....أهدتها ابتسامة صادقة ثم أنزلت يدها عنها هامسة:
" تعالي ..حبيبتي...ادخلي..هذا بيتك من هذه اللحظة!!..."

لم تُعر كلماتها أي اهتمام ولم يرق لها الأمر كثيراً بل بقيت في أرضها كأنها تشيّد حصونها من جديد لتتقوقع عازلة نفسها عمّن حولها خاصة ممَن خذلوها !!.... أولهم أكون أنا !......تركتها أمي بهدوء والتفتت نحوي بذات الهدوء لكن قلبها كان يهدر اشتياقاً وكان السبّاق ليعانق قلبي ...مشت مُقبلة نحوي ولو تركت نفسها لمشاعرها لما لامست قدماها الأرض من لهفتها عليّ....غازلتني بابتسامتها التي أفديها بروحي وغمزتني كأنها تطلب مني التماس العذر لها بعدما تجاهلتني....حررتُ ذراعيّ عن كتفيّ شقيقيّ وسرتُ لمصدر حياتي ونبضها.....ارتمت في حضني وتعانقنا بحرارة ...دفنتْ وجهها عند عنقي محاولةً أن تصل أذني وأنا أنحني إليها لتهمس:
" ما كان عليك تركها تتعذب بمشهدكم الحميميّ وأنت أكثر من يعلم عن يتمها ووحدتها ...."

تولّدت ضحكة على فمي وهمست قرب أذنها بشقاوة:
" لهذا أهملتِني يا أم هادي وأنا الذي ظننتُ أنها سرقت مكاني ؟!.."

" تعلم أنك الأغلى عندي يا مهجة قلبي لكني انزعجتُ من أجلها ولم أطق مظهر الحزن في وجهها ....ما كان عليك الاندفاع للشقيين وتجاهلها بهذه الطريقة.."

" أمّــي.....تعلمين أنني أعد الثواني للقياكم ....لم أتمالك نفسي وأنا اراهما أمامي ....لا أعتقد أنني اخطأت!!..."

" لم تخطئ بنيّ لكن أحيانا يصدر منا حركات أو كلمات لم نقصدها فيتبيّن لاحقاً أننا اخرجناها بطريقة غير مناسبة بعد أن حوّلنا من استقبلوها منّا الى حطام !!.....أخويك تستطيع أن تبل شوقك منهم متى شئت...ها هما ماثلان أمامك....لكنك لا تستطيع ترميم بسهولة ما حطّمت!!....الآن بيدك ضلع قاصر....يتيمة....غريبة في البلاد.....فارفق بها وبمشاعرها عزيزي وراقب تحرّكاتك!!..."

" حسناً أمي سأحاول....سأحكي لك لاحقاً ان شاء الله ما حدث بالضبط أما الآن أظن أنه علينا فض العناق لأننا لفتنا الانتباه فتلك تأكلنا بنظراتها الغير مفهومة...."

ضحكت وهي تبتعد عني لتحررني وهمست بخفوت:
" ليس هي فقط !...الغيوران الصغيران يطالعانا بنظرات مبهمة...ثم اطمئن ..خالتك حكت لي ما اطلعتهما عليه....وكذلك عمتك اتصلت بي لتهيأني لاستقبالكما....يعني كنتُ بالانتظار على نار"

وما إن أنهت جملتها وقبل الرد عليها وصلتنا شقيقتي تهتف باسمة وشحوب يغطي وجهها الجميل لم أعرف سببه :
" ما هذه المحاضرة يا سيدان ؟!...اشركونا معكما !.."

والتفتت الى أمي تتابع مازحة:
" سيدة عيوش لنا نصيب مع أخي أيضاً....لا تظنيه ملك لكِ وحدك!..."

ضحكنا ثلاثتنا بينما رابعنا سار خطواته ليصل الى الفرد الخامس والوافد الجديد الى عائلتنا....الى حُبي....ألمتي ....وصلها وأساريره منفرجة بسعادة وإعجاب ومدّ يده يصافحها بينما كانت هي بعالم غير عالمنا وقال ببراءة:
" أهلاً زوجة أخي الحسناء....أنا شادي....هل حكى لكِ أخي عني ؟!.."

لم تستجب له فبدأت تتغير ملامحه للانهزام وارتخت يده لينزلها الّا انه سرعان ما عاود ليمدّها أمامها من جديد بعد أن انتفضت تخرج من عالمها وتمدّ يدها لحظة مناداتي عليها بصوت هادئ وصلها مع نظرة تحذيرية منعاً لتهورها:
" ألمى....اخي شادي يكلمك..."

خطّت ابتسامة تلقائية نقية على ثغرها وهي تتطلع على صغيرنا دون همس!!....اهذا انجذاب رباني ؟؟!...أيوجد كيمياء بينهما؟!...لربما لانهما يتشاركان نفس البراءة ....فهي ولو كانت بالغة ولو أنها ايضاً كانت حانقة الّا أنها مجبولة على البراءة والنقاء كالطفل في المهد!!....تلك براءتها التي كانت الفخ لأهيم بها عشقاً وتعلّقاً !! .......تقدّمت شقيقتي بتمهّل اتجاهها ....تبسّمت تمدّ يدها بعد أن فسح لها المجال (شادي) وهمست:
" مرحباً بكِ يا زوجة أخي .....أنا دنيا .....أتذكريني؟!.."

ردّت بصوت خفيض وهي تصافحها دون حرارة:
" كلا....لا أذكرك!..."

"...صحيح لا تذكرينها أيتها الكاذبة الصغيرة الغيورة.!!....ومن كانت اذاً ناقمة على الصديقتين في الماضي لقربهما مني ودفتر مذكراتها والشتائم داخله خير شاهد على ذلك ؟؟!.."

كنتُ متحمساً لصفعها بهذا الّا أنني ارتأيت السكوت منعاً من احراجها اما شقيقتي اتسعت ابتسامتها لتداري بها خيبتها ثم أفلتت يدها وهتفت بثبات:
" لا يهم ..أنا لم أنساكِ....ربما مع الأيام ستتذكرينني !..."

أفرجت عن ابتسامة مزيّفة مجاملة لها مع ايماءة بمعنى أنها توافقها كردٍ على كلامها ثم رفعت رأسها نحوي وكأنها تنتظر الخطوة التالية....!!......ادخلناها الى بيتنا واتخذنا غرفة المعيشة استراحة لنا من طريقنا.....كان قد نال منها الارهاق كثيراً فهدّأت قليلاً من حربها لذا في الوقت الحالي تتصرف وكأن شيئاً لم يكن....حقيقةً لا أعلم حتى متى ستثبت ؟!....جلست هي على الأريكة الفردية وجلستُ أنا مقابلاً لها على الأريكة ثلاثية المقاعد فقفز أخي ليجاور يسراي ولحقته أختي كالطفلة تجاور يمناي وبدآ ينهالان عليّ بالشكاوي الطفولية يشكو أحدهما عن الآخر ثم رفعت صوتها (دنيا) بحماس وهي تشدّ يدي وتضعها على بطنها هاتفة:
" بارك لي يا أخي....وأخيراً سيأتي سُلَيمان بإذن الله.."

استدرت اليها وضممتها اليّ ثم قبّلت رأسها فرحاً وهاتفاً :
" حقاً دنيانا ؟!....أجمل خبر....مبارك غاليتي !...ليأتي بالسلامة ان شاء الله"

عدّلت جلستي وأضفت ساخراً بمزاح هارباً من غرقي في غمرة ارهاقي:
" اووه نسيت ومن يخلصنا الآن من الأشقر الغليظ ؟!....سيرى نفسه علينا ويقرع رؤوسنا متباهياً بإنجازاته !!...."

تبسمت ابتسامة صفراء وهمست بعد أن القت نظرة للجالسة قبالتها قبل أن تعيد عينيها إليّ:
" العقبى لك أخي ....سننتظر أملنا على أحر من الجمر ان شاء الله.."

خبُتَ حماسي وتطلعتُ على حوريتي قريبة المسافة بعيدة المنال بنظرة فيها الاحباط والتي كانت مصغية بكل جوارحها لنا الّا أنها لم تفهم المغزى من كلمة (أملنا) وهمست:
" ان شاء الله...اسأل الله ما فيه خير لنا!.."

بعد قليل دلفت إلينا أمي تحمل صينية فيها كؤوس مليئة بالعصائر الطبيعية بمختلف الأطعمة وقالت وهي تتجه لكنّتها تضيّفها:
" شقيقكما متعب ...هلّا ابتعدتما عنه ليرتاح قليلاً ؟!.."

ثم أضافت وهي تنحني لتقرب الصينية من الجالسة بعد ان وصلتها :
" تفضلي عزيزتي.....سيفيدك هذا بعد تعب السفر..."

بدأت تسترد جمودها ونفورها وأظن أنني لمحت لمعة غيرة وافتها وهي ترى شقيقيّ يحيطانني من الجانبين ومودّة متينة متأصلة بيننا فأشاحت وجهها ليمناها وهتفت بصوت جاف:
" لا أريد شيئاً..!!.."

بنقاء قلبها كررت :
" تذوقيه حبيبتي....إن لم يعجبك لا تكملينه .....وجهك شاحب وسيعيد لك هذا نضارته !!..."

رفعت رأسها ترمقها بحدّة وتجيب بكراهية:
" أيا ترى هل لأن هنالك من خدعني وجلبني الى هنا رغماً عني وحرمني بلدي وجامعتي قد يكون شحب وجهي؟؟!.."

هي لا تعلم أنني طلبت من أبي (ابراهيم) أن يأخذ لها اجازة مرضية من الجامعة كي لا تتعرّض للمساءلات والفصل...فأنا لا ادري كم سنمكث هنا وإن طال الحال بنا سأضطر لنقل اوراقها لإحدى جامعات مدينتنا ...!!

استقامت أمي بوقفتها والحزن يعتري ملامحها ومع استقامتها كنتُ قد نهضتُ من مكاني مقترباً إليهما بجدّية قاطب الحاجبين وقائلاً وأنا أحمل الصينية عنها واضعها على الطاولة ثم أمسك يديها وأقبّلهما ممتناً برفق :
" أمي لا تتعبي نفسك بشيء بتاتاً....سلمت يداكِ يا تاج رأسي أنتِ....فقط اخبرينا في أي غرفة ستنام ؟!.."

طبطبت على كفي راضية عني وتطلّعت للجالسة ثم عادت ببصرها العطوف إلي وقالت بحيرة:
" في غرفتك!...هي الأنسب لكما....أليس كذلك ؟!....لقد جهزتها"

قلت باقتضاب لكن بنبرة هادئة احتراماً لها:
" كلا....أنا سأنام هناك..."

والتفتُّ الى (شادي) مكملاً:
" لتأخذ غرفة شقيقي حالياً وليأتي هو عندي.."

فردّت معترضة وهي تنظر اليه:
" لا يمكن بنيّ !!.."

"لمَ ؟!.."

عضّ شقيقي على شفتيه يحاول منعها من الإجابة لكنها لم تأبه لإشاراته وأجابت:
" يومياً يُحدِث زلزال في غرفته ....فوضى عارمة تحيط بها....انكسر ظهري وانا ألملم خلفه ملابسه وأغراضه وكذلك مليئة بالألعاب... غير أنها لا تحتوي على حمام خاص يا قرّة عيني !!.."

تمتم شقيقي بنزق يوجّه كلماته لشقيقتي القريبة منه:
" لازمٌ عليها أن تفضحني وتضيع هيبتي أمام ضيفتنا الحسناء...يا الله ماذا ستظن عني الآن ؟!.."

لم يكن يعلم صغيري أن التي أُحرِجَ منها تتبارى معه بالفوضى وربما تتغلب عليه !!.....اقتربتُ منه وأمسكت أذنه اهمس له مؤنباً منحنيا إليه:
" لمَ تتعب والدتك أيها الشقيّ؟!....أنا وأختك لسنا مثلك.....لا أريد ان اسمع ما قالته أمي مجدداً ....إحذر مني!!.."

فرك أذنه الحمراء بعد أن أفلتّها وأجاب محرجاً:
" أي انطباع اعطيتموها اياه عني من أول دقيقة ؟!...ما لكم عليّ؟...ألا يوجد بالمعركة الّا شادي ؟!..."

كانت تستمع بملامح مرتخية وليست مشدودة وكانت تكابد ألا تظهر ابتسامتها من حديثنا بعد أن أحسّت بشيء من الدفء والألفة يربطها بالصغير ..!!....لما انهينا حوارنا أدليتُ باقتراح آخر:
" إذاً فلتأخذ غرفة دنيا....الآن شاغرة..."

قفزت شقيقتي تقول باحتجاج:
" كلا..."

غضنت جبيني بعدم فهم فتابعت:
" إنها مليئة بجهاز بيتي الذي اشتريناه مؤخراً.."

قلت:
" اتصلي بسامي ليأتي ويساعدني لننقله الي بيتكما هناك !!.."

تبدّلت ملامح وجهها ليتلبّسه الوجوم حزنا وخوفاً وقالت بتلعثم تتهرب من واقع علاقتهما:
" لا يمكن...يعـ.....يعني سامي مشغول الآن....ثم....ثم لا يمكن نقله بسهولة ....هناك الكثير وتحتاج لشاحنة صغيرة ومعظمه قابل للكسر!!...."

تأففت ماسحاً شعري للوراء مسبلاً جفوني ثم فتحتهما ناظراً للتي انتصبت واقفة بهمّة نارية قائلة غير مهتمة لمن معنا:
" هل جلبتني الى هنا لتشعرني أنني عالة عليك ؟!....هيا أعدني فوراً...."

استغفرت ربي بتمتمة ثم بخطوة حوطت معصمها وسحبتها بلطف خلفي صاعداً السلالم بعدما زجرتُ بها:
" إذاً ستضطرين لتتحمليني في غرفتي !...هذا الموجود سواء أعجبك أو لا!..."

" لستُ مجبرة على تحملك.."

" قدرك اوقعك معي يا قطتي البرّية.."

تمتمت بشتائم باللغة الانجليزية وهي تشبكهم ببعض كي لا أفهمها لكني لم أهتم وتركتها تنفّس قليلاً من بالون السخط داخلها قبل أن ينفجر وفتحتُ باب الغرفة التي كانت تفوح منها رائحة النظافة والترتيب وكانت أمي قد جهزت السرير خاصتي وهو أصغر من حجم الزوجيّ بسنتمترات قليلة واكبر من الفرديّ والذي يحتل صدر الغرفة الكبيرة على يساري بغطائه الخمريّ ومن فوقه على الحائط كانت مُعلّقة بندقية أبي ....عهدي!!......وكان نور الشمس اللطيف يتسلل من النافذة الزجاجية الواسعة أمامي والتي تقع على حائط الخزانة العريضة وفي يميني طاولة الزينة المكملة لطقم النوم منذ طفولتي المصنوع من خشب الجوز البنيّ العتيق وجوارها مكتبة دراستي وكانت قطع من الزرابيّ توزّع في ارجاء الغرفة باحجام مختلفة ونقشات متشابهة ولمّا أصبحنا وسطها قلت مشيراً للخزانة :
" إن اردت استخدام الحمام فهو موجود وراء الخزانة ....افتحي الدرفتين الأخيرتين ستجدين خلفهما باباً مخفياً من الاكورديون يوصلك الى هناك..."

ثم ارجعت عينيّ إليها وتابعت:
" سأنزل لتحت قليلاً....يمكنك ان ترتاحي ورجاءً لا تعبثي باغراضي....لا أحب هذا!.."

وقفت منتصبة ساخرة:
" لماذا؟!...أيوجد أسرار داخلها لا تريدني الاطلاع عليها ؟!..."

اقتربتُ منها رافعاً زاوية فمي بابتسامة انتصار بعد فهمي لها وأجبت بهمس:
" لا تتعبي نفسك ...لن تجدي شيئاً ضدي مما تفكرين به ولا شيئاً يخص والدك يا صغيرة.......انا فقط لا أحب أن يعبث أحد باغراضي الخاصة !!.."

وغيّرت نبرتي بعد أن اشحت وجهي عنها ثم أعدته لتنبيهها:
" آه تذكرت....لا تستهلكي طاقتك في محاولة الاتصال به والوصول إليه ....فأنا اعطيتُ الأمر لصديقي برسالة ليخترق الشبكة العنكبوتية في الحي ويوقفها مؤقتا ويوقف أيضاً خاصية الاتصالات لخارج الوطن من هواتف جميع افراد أسرتي......يعني ارتاحي حُبي لا تحاولي سرقة أي جهاز يقع نظرك عليه !.....يامن الغبي ذهب وأمامك الآن فقط....الهادي...ضعي هذا نصب عينيك"

اشتعلت غيظاً وتوهّج وجهها في الحمرة بعد أن أغلقتُ السُبل أمامها الّا أنها حاولت المحافظة على ثبات صوتها بعد أن تطلّعت على السرير هاتفة تقلب دفّة الحديث:
" لا تفكر أننا سننام على سرير واحد جوار بعض... صح ؟؟!..."

اقتربتُ منها مبتسماً بعد أن برقت عيناي بخباثة فحدّجتني متأهبة ورجعت للخلف بينما أنا ادنو اكثر وأهمس متلاعباً بنبرة صوتي وأنفاسي تلفحها مع وصولي إليها:
" لمَ؟!...ممَ تخافين حبيبتي ؟!... "

استقمتُ بغرور مصطنع مردفاً لاستفزها:
" صحيح... معك حق!....لن تستطيعي مقاومتي أليس كذلك يا جبانة؟!.."

تلاحقت أنفاسها من القرب وأجابت:
" تحلم!!...مغتر بنفسك!.....أنا فقط لا اطيقك"

انحنيت بجذعي قليلاً اتجاهها ومررت ظهر أناملي على وجنتها بحركة مغوية وصولاً لشفتيها وهمستُ سارحاً بملامحها متمنياً ارتشاف رحيقها:
" اذاً اثبتي لي عكس كلامي يا حلوة ونامي جانبي لأرى إن كان مسألة لا تطيقيني فعلاً أو خوفاً من استسلامك بحضني...."

ابعدت يدي عنها بعدوانية رغم حالة الذوبان التي انتابتها رغماً عنها وقالت بصوت جاف:
" لا تهددني.....استطيع أن اثبت لك الكثير.....سأفاجئك يا ابن الشامي ..."

خطوتُ واصلاً الباب والضحكة على وجهي ثم استدرتُ إليها ...غمزتها وقذفتها بقبلة صامتة بالهواء هامساً قبل أن افتح الباب:
" أعشق المفاجآت....وخصوصاً التي تكون منكِ!.."

وخرجتُ دون ان استمع للتي تمتمت من ورائي وقلبها يبث فضائح توترها:
" متعجرف ....حائط...مغرور.....لمَ سأخاف منك ؟!..."

وأستطردت تنظر للأعلى متوسلة:
" يا رب ثبتني...يارب قوّني ولا تضعفني!.."

ثم زفرت أنفاسها لترتاح وبدأت بجولتها في أنحاء الغرفة لتطبق عكس جملتي " لا تعبثي باغراضي.." وهي تجول بقمة الاستمتاع تكذب على نفسها أن بهذا ستستفزني الّا أن شعوراً عميقاً داخلها كان يحثها ويقول لها .." هيا تعرفي على الهادي من قرب.."......اقتربت من مكتبتي فوقع نظرها على حجر صغير ملوّن بفرشاتي وعليه رموز مشفرة....تذكرت حجرها هديتي ليوم ميلادها وتذكرت الورقة التي صورتها لي والتي كانت بداية كارثتي وحفرة انهياري!!..يا للصدفة إنها شبيهة بذات الرموز....كيف نسيته؟!...تساءلت في سرها.."...يا ترى ماذا تعني ؟!..."....ثم عادت لحجر الهادي في المخيم ونحن صغار...ربطت الاشياء ببعضها!...وومضت عيناها هامسة تكلم نفسها مقهورة:
" كاذب محترف!....صديقك هو من رسمه لك أيها الكاذب؟؟!....كيف كنتُ بهذه الدرجة من الغباء وأعميت بصيرتي ؟!.....صدقتِ يا ميار.....ها هو جندي ويتعامل بالشيفرات اللعينة...!..."

سرحت قليلاً ثم رفعت رأسها لرف على المكتبة عليه صورة تخصني داخل اطار متوسط الحجم أحمل كأساً ذهبياً خاصاً بإحدى المسابقات المدرسية....شقت شفتيها بابتسامة حنين وهي تمدّ يديها الى صورة أخرى تلتصق بزجاج الاطار من الخارج.....كانت صورة لي اصغر حجماً من تلك وانا في عمر الخامسة عشر وباللونين الابيض والأسود!....التقطها لي صديقي ( سامي) في أحد ازقة الحيّ....كان شعري أطول ....خانها قلبها بدقاته العاشقة ...قلبها الذي تعرّف عليّ بشكلي الذي رأتني فيه اول مرة منذ سنوات كثيرة....نزعتها من مكانها وكأنها نزعت معها للحظات سموم كراهيتها ثم امعنت النظر بها بينما كانت تمرر ابهامها الرقيق على وجهي وابتسامتها لا تفارقها...كانت مبتهجة وشريط الماضي يُصوّر لها.....هذا هو هاديها الذي عرفته واشتاقت له يوماً بعد يوم ....هذا الذي غلّفته داخلها.....هذا الحبيب الذي احدث انقلاب في حياتها وتركها تتأرجح بين هواها وغربتها.!!...ضمّت الصورة لصدرها بحبٍ جارف يغرقها وحنين خاطف يخطفها من المآسي التي عاشتها آخر ساعاتها ثم همست بغصة ودمعة تلو دمعة تفر من مقلتيها:
" ليتك بقيت هكذا.....لكنتُ سأحبك فوق الحبِّ حباً.....هادي يا حبيبي..."

أعادت الصورة لمكانها وأكملت جولتها التفتيشية بعينيها تنقلهما بين الكؤوس المركونة على رفوف المكتبة والميداليات المتدليّة بعشوائية ثم انحنت مقتربة بعد أن لمحت مكعباً بلورياً مثبتاً بقاعدة على سطح المكتبة وداخله مادة الزئبق تعوم حول شريحة ذهبية منحوت عليها اسمي فرفعته تدقق النظر به وتتفحّصه بفضول واعجاب لتجحظ عيناها بثانية لرؤيتها المكتوب في قاعه عندما قلبته وفجأة اكتسى وجهها بالدم النافر من كامل عروقها غيرةً وكزّت على اسنانها متمتمة:
" من تكون هذه لتكتب [ مِن رنيم الى وسيم المدرسة ] وتهديه هذا الشيء ؟!..."

شدّت عليها بيدٍ مرتعشة اشتعالاً سابحة بأفكارها وما إن فتحتُ الباب بغتةً عائداً للغرفة حتى أفلتتها مجفلة بغير قصد مع شهقة صغيرة لتتناثر شظاياها الزجاجية حولها والزئبق يرسم بقعاً على الأرض ولمّا استوعبت فعلتها تململت لتتحرك للوراء بقدميها الحافيتين محرجة وخائفة وهامسة بصوت مرتجف:
" أنا...أنا آسفة....لم اقصد كسرها!.."

اندفعت نحوها قلقاً عليها وقلت آمراً:
" توقفي لا تتحركي ...يوجد قطع زجاج خلفك !.."

انصاعت باكية بوجهٍ مصفر فأمسكتها من فوري وابعدتها بحذر حتى اوصلتها للسرير أجلسها عليه وجثوتُ أمامها ممسكاً بكلتا يديها بدفء وقرّبتهما لشفتي اقبّلهما بحنوّ وكان الخائن منفطراً لأجلها يرسل مواساته لها وهمست برقة بينما أرضي السخية كانت تمدّ بالعطف سماءها:
" فداكِ حبيبتي....المهم أنك لم تتأذي.."

استكانت رويداً رويداً وحررت يديها مني ومع ان مقلتيها ما زالتا محتقنتين بالدموع الّا أنها شجّعت نفسها لترضي فضولها المحترق وسألت بغيرة لم تفلح بوأدها:
" من تكون هذه ....رنيم؟!.."

انتصبتُ واقفاً ازاءها وضحكت هاتفاً :
" هذا يعني أنك رأيتِ المكتوب وألقيتها عمداً....أليس كذلك؟!.."

مطت شفتيها بعبوس وأجابت بإباء:
" يبدو أنك في الآونة الأخيرة تتوهم كثيراً....لمَ لألقيها؟؟!....أنا لا أهتم لأمرك ولا لأمر تلك الوقحة التي تتغزل بك.....سألتك فقط بعفوية !!.."

وأكملت بصوت متحشرج من لسعات الغيرة:
" واضح اساساً أنها حبيبة الطفولة..."

ضحكت وجلست جوارها ثم ارجعتُ نصفي العلوي مستلقياً على ظهري متوسداً ذراعيّ وقلت :
" أيااام..."

استدارت نحوي برأسها عاقدة الجبين وهمست بضيق وعقل طفلة:
" بدأت الفراشات تتراقص في قلبك من ذكراها ....أرأيت كيف أنك كاذب محترف وخدعتني عندما قلت أنك تحبني من زمان ومن اول لقاء لنا ؟!....لقد رأيتُ التاريخ على البلورة ....كان قبل هجرتك بشهور قليلة ...أي أنك عندما التقيتني كنتَ تحبها هي آنذاك أيها الكاذب..!!.."

رمقتها بنظرة خاطفة وكانت الفراشات ترقص في قلبي فعلاً....لكنها رقصت بعد ان اصابني الغرور والعظمة من غيرتها الجليّة عليّ ثم قلت شارداً بالسقف:
" قبل هجرتنا بشهور أي وانا في الخامسة عشر من عمري أقام لي والدي رحمه الله احتفالاً في بيتنا بسبب تفوقي وحصولي على المرتبة الأولى في مسابقة الموهوبين على مستوى مدرستي وقد دعا ابناء وبنات صفي ومن سوء حظي كانت هذه الفتاة من صف مجاور وصديقة لزميلتي في الصف فأتت معها بكل وقاحة تحمل هذه الهدية!!.....كانت فتاة مدللة وتعشقني لكني كنت ابغضها من غرورها ودلالها المفرط وجرأتها بمشاعرها ..."

التفتّ إليها بينما كانت هي مصغية ووجهها متوهّج....بالطبع بغيرة امتعتني وكانت تضغط على رأسيّ ابهامها والسبابة ببعضهما حرقةً وأكملتُ بنشوة مستلذاً بصورتها المشتعلة:
" تصوري حاولت عدة مرات بعث وسائط إليّ كي أكون على علاقة معها ؟!.....إنها وقحة حقاً وعديمة تربية !!.."

قالت بمكر هازئة:
" لكنك ما زلت محتفظاً بهديتها !!.."

قلت:
" بعد أن انتهى الحفل وغادرونا حملتها لألقيها بالنفايات فأمسك بي أبي ومنعني باعتبار أن ذلك عدم احترام لضيوف قدّروني ووضعوا لي قيمة ولم يكن يعلم بمشاعرها نحوي ووقاحتها معي وهي تتباهى بحبها لي في المدرسة فاجبرني على وضعها بذاك المكان على المكتبة لتكون نصب عينيه كلما زار غرفتي كي يتأكد من عدم القائي لها حتى جاء اليوم الذي تخلصتُ منها دون أن يكون لي يد بهذا .....انما بفضلك .."

تبسّمت باعتزاز وسحقها الفضول لتتعمق أكثر فهرب السؤال من بين شفتيها:
" كيف كان شكلها ؟!.."

لأجيبها مع انتهائه:
" شقراء......وجميلة!.."

قالت كلماتها الحانقة بحزن وهي تهمّ للوقوف:
" تقولها بوقاحة.....إذاً كنتَ تحبها يا كذّاب وربما ما زلت تحتفظ بشيء اتجاهها....لأنك تتكلم بسعادة عنها....ارأيت كيف أنك تعجبك الشقراوات"

رفعت جذعي بخفة وجذبتها من معصمها لتسقط فوق صدري ثم كبّلتها بذراعيّ احاصرها ووجهي مباين لوجهها ومع هذا القرب وحسيس انفاسنا تسارعت نبضاتنا وتحرّك صدرانا بانفعال مُحبب وهمستُ آكلاً ثغرها بنظراتي :
" لمَ لا تفهمين أنني متيّم بكِ وحدك ؟!...لا قبلَ لكِ عندي ولن تكون بعدك !...أنتِ التي لعبتِ بوجيب قلبي وسجّلت الملكية عليه !....انت من تخطفين أنفاسي...جمالك لا يضاهيه جمال في عيني...لا أدري أأغوص في ليل شعرك أم احلّق في زرقة عينيك...أأذوب في بياض وملمس بشرتك أم احترق عند شفتيك...هل أهيم في براءة قلبك أم اقع اسيراً في دلالك....لا الشقراء ولا السمراء ولا أي انثى على وجه الأرض وإن تشابهت مع ملامحك سأراها ...انت حوريتي في دنيتي وآخرتي باذن الله....آااه يا مدمّرة ماذا فعلتِ بي؟! .."

وانهيتُ بوحي مرتشفاً رحيقها بعد أن خدّرتها بكلماتي ووهج أنفاسي لاستحوذ عليها سكراناً بحُبها تائهاً بسحرِ شفتيها ليتحول الرحيق الى مذاق مالح إثر اطلاقها سراح دموعاً من عينيها كانت حبيسة في صدرها ترسم اخدوداً على خديّها وينتهي بها المطاف على شفتيّ فحررتها بلطافة وبابهامي مسحتُها لها هامساً بصوت رخيم وهي مستكينة بضعف لا تقوى لا على القتال ولا الهروب بل تعيش في شتات مشاعرها:
" لا تبكي حبيبتي....أرجوك !.....دموعك تنزل كالجمر على قلبي.."

ردّت بصوتها العذب الحزين:
" لمَ تفعل بي هذا؟!....ما هذه الجاذبية التي تملكها في حضنك ؟!....أنا لا اريدك....لكنك تضعفني !..."

" لو فكرتِ قليلاً بتروّي لعلمتِ أنني لا اضعفك إنما امدّك بالقوة...بالأمان....بالحُب..... آن لكِ أن تفهمي هذا يا ألمى...آن لكِ!!....لا تضيعينا بسواد أفكارك الوهمية ....اعطي الفرصة للعشق أن يتنامى أكثر بيننا وسأعوضك عن كل شيء بإذن الله.... سلميني زمام الأمور وثقي بي...عليك فقط أن تؤمني بصدقي وتحافظي على حبي..!!.."

وبرقة طوّقتُ كفها وقرّبته الى صدري ألصقه بقلبي هامساً برجاء:
" إن كنتِ لا تصدّقي كلامي وما زلتِ تظنين أنها مسرحية وخداع فرجاءً لا تنطقي حرفاً...اسدلي جفونك....واستشعري نبضي فقط .....إن خدعك لساني لن يخدعك قلبي....ليس عليه سلطان مني إنما السيطرة الكاملة لكِ.....هذا اللحن يختص بكِ....هذه الانتفاضة من أجل عينيك.....إنها دقات تصرخ تتوسل غرامك .....لا توقفيها لي.....لا تمنعيها من الحياة يا حياتي....اعطي قصتنا فرصة..."

همست بوجهي متفائلة بعد أن مزجت خفقاتي مع خفقاتها ويدها ما زالت مثبتة على صدري قرب الخائن:
" سأكون رهن اشارتك....لكن لا تقتل حبنا بأبي....لا تقطع آخر أمل لي بك ..."

هربتُ بحدقتيّ متنحنحاً وقد شعرت من فورها كيف تغيرت النبضات عندي وتحولت لثورة شعواء من سيرته فأفلتت يدها من يدي وانتصبت واقفة تبتعد عني...كأن تياراً كهربائياً صعقها.....لقد قرأت فكري وعرفت ردّي وهمست بازدراء:
" لن أتنازل ولن استسلم ولن اعطي انفسنا فرصة ما دمتُ استشف رائحة الحقد بعينيك والاصرار على ما أنت مقدم عليه بين دقات قلبك.....لا تطلب مني شيئاً أنت نفسك لن تفعله...."

ثم اسقطت خائني ليقع صريعاً يحتضر على شفا مقبرة صدري بعدما مسحت بكمّها اثار القبلة عن فمها مشمئزة هاتفة بتهديد:
" ستفعلها مجدداً وتقبّلني وسأخضع بحماقة بعد أن تخدّرني.. اطمئن أنت الكاسب بهذا!!....لكن ثق أنني سأعاقب نفسي بعدها اشدّ عقاب لخنوعي بين يديك وسأجعلك تعيش عذاب الضمير ما حييتْ....صدّقني ليس مجرد كلام....سأفعلها بدمٍ بارد!.....سترى ألمى المنفصمة التي تحب وتكره ..تهدأ وتثور..تخضع وتتمرد......تماماً كما كنتَ في السابق تعيشني انفصامك....واشهد على ما اقول!...."

كنتُ مستمعاً صاغراً لها ...أي كراهية باتت تحملها لي ؟!...أهذا صنع يديّ ؟!..أي مأزق كان من نصيبي ؟!.....وما أخرجني من كابوسي هو رنين هاتفي الخاص بـ (هادي) فعدّلت جلستي...اخرجته من جيبي مجيباً في الحال !....خفق قلبي بصدمة حقيقية بعد دقائق قليلة جداً من اصغائي لمن على الطرف الآخر الّا أن شحوب وجهي وصخب دقاتي لم يسعفني لتصدّقني عندما مددتُ لها الهاتف قائلاً:
" هذه السيدة ايمان...كلّميها !!.."

أكان الوقت غير مناسب لأنها كانت مكسورة غاضبة أم أنها عميت بصيرتها والغشاوة سيطرت على كل ذرة فيها ؟!....رفعت زاوية فمها باستهزاء لتعطي البعيدة نصيبها وهي تقول دون أن تأخذه مني:
" لا أريد أن أكلّم أحداً....اتركوني وحلّوا عني !!.."

وقفتُ واجماً ومضطرباً ثم أمسكتُ ذراعها بقوة هاتفاً:
" خالتك تدهورت صحّتها وتريد أن تسمع صوتك !!....كلّميها ولا تكوني لئيمة !...."

سحبت الهاتف من يدي بابتسامة لعوبة ناقمة وكان حقد دفين يخرج منها عندما همست وهي تغلق الهاتف وتلقيه على السرير:
" أتراني سأصدق مسرحيتكم من جديد؟!....ما بكم اصبحتم سُذّجاً ؟..."

صرختُ بها وانا التقطه عن السرير لأعاود الاتصال فهاتفي الوحيد هو الذي ما زال يربطني في الخارج:
" سأتصل وستكلمينها ...لا تجعلي حقدك يعميكِ عن كل شيء....خالتك لا ذنب لها وهي أكثر من تأذت من والدك...."

صرخت بجسارة:
" اصمت....والدي لم يؤذِها وعلى العكس عاملها بشكل خاص لكنكم تنكرون كل شيء..."

ورفّ قلبها بتوجس ضائعة بين التصديق والانكار وهي تضيف :
" ثم كلانا نعلم أن حالتها في تحسّن وقد كلمتهما قبل أيام قريبة.....لن انخدع بكم مجدداً أنا لستُ حمقاء..."

وصاحت بتأكيد متألمة:
" أتفهم ؟!....أنا لستُ حمقاء !!..."

هدرتُ بها بعدما سحبت الهاتف من يدي مرة اخرى والقته على السرير:
" خالتك تحتضر .....ستندمين ألمى....قسماً ستندمين !!...لا تخضعي لشياطينك...ستموت وأنت لم تكلميها..!"

أهذه رجفة التي رأيتها على جسدها ؟!...أهناك أمل بأن تعود ألمى الطيبة البريئة المتسامحة مع الجميع ؟!....ستفعلها!....بلى ستكلّمها ....هي صغيرتها وأميرتها !....لن تتخلّى عنها.....عدتُ أمسك الهاتف واثقاً بها وهمست بلين بعدما اتصلتُ من جديد :
" خذي ..كلّميها ...اسمعيها صوتك....قولي لها أنك لستِ غاضبة منها !...وأنك سامحتها "

تناولت الهاتف مني بنزق وهي تلوي شفتيها ..ورياح عاصفة وأعاصير تضرب قلبها وتقتلع جذور البراءة منها وتزرع مكانها وفي ارضها سخطاً وكرهاً..!!..وضعته على أذنها وألقت ما لديها:
" لن أسامحكم.....لن اسامحكم ....بنيتم لي قصوراً ذهبية من المحبة وإذ بها ما كانت الّا من رمال متحركة ابتلعتني الى قعر الأرض ولم تعطني المجال لالقط أنفاسي.....لن أسامحكم!!..."

واغلقت الهاتف ثم مدّت يدها هذه المرة تفتح يدي وتضع الهاتف بها بقسوة واستدارت داخلة الى الحمام ولم تصلها جملتي التي قلتها قبل أن أترك الغرفة وانزل الى عائلتي...!!
" هي ساعات أو أيام قلائل....وستموت!....ولن ينفعك الندم حينها يا مسكينة..!!...هداكِ الله..."

لقد هاجت وماجت....عصفت وجُنّت...رياح الكراهية هبّت لتزيد اشتعال نيرانها فوق اشتعالها فأبت أن تمسك بخيوط النور واختارت الغوص في بئر الظلمات....!!

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

من قال أن الطيب لا يكره ؟!...ومن قال أن الهادئ لا يثور ؟!...أليس للصبر حدود ؟!....ألا يوجد للفرص نهاية ؟!...هذا حال الدنيا وهذا حاله مع دنياه ...سار في أزقّتها ورأى الصالح والطالح....أعطى المحبة لمن حوله ولم يسمح للكره أن يمر جوار قلبه الطيب.....تحكّم بانفعالاته ولم يثُر على من يخصه.....سبح بين أمواج الهموم ولم يجزع....وكان صابراً دوماً.!!...سامح وصفح واعطى الفرص بجود وسخاء لكن في القلب الابيض الطيب نقطة سوداء مخفية....وبين الهدوء والغضب شعرة هي الفاصل....وإن تعاضدت كافة الظروف ضده سيفر الصبر من عنده أما الفرص فقد نفذت من جعبته !!.....كان يجلس بين اهله ويهزّ رجله بتوتر منتظراً فلقد فقَدَ كل صفاته ليصبح هذه الساعة كارهاً ,ثائراً ,قانطاً ,بائساً....كان يجب أن يكون هذا من أجمل ايام حياته !....بُشّر بالصبي المنتظر وولي عهده !!...لكن النفوس المريضة أبت أن تتركه ليسعد في دنياه ومعها ...ما اصعب أن يكون الانسان عدوه هو من يحمل دماءه وما أقسى أن يُقصى من دنيا الحبيب رغم الاعتذار الخالص والتوبة النصوح بعد البوح بذنبه......تغاضى عن افعال قريبته لأنه (سامي) الطيب لكن قابلته بالغدر.....اعتذر برجاء وحب من محبوبته ساحقاً كبرياءه لكنها نفته بارادتها......ماذا يظنونه ؟!.....العقاب عنده جاهز.....لقد ضغطتا على عرق الجنون عنده واخرجتا روح الانتقام لديه .....هل يحترم خالته التي بمقام أمه ولا يرضى بجرحها ؟!...أجل يحترمها....أيحب زوجته ؟!....بل يعشقها !.....لكن عهد الطيابة والتنازل ولّى وقرر أن يوقّع على عهد جديد فيه الصلابة والقسوة!!....لن يَرحَم مثلما لم يُرحَم.....وكلٌّ فليتحمل نتيجة أفعاله !!.....دخل شقيقه ومن خلفه خالته وابنتها الشقراء والقوا التحية ...رحّب بهم اهل البيت كعادتهم...ينهضون يصافحون بعضهم ويجلسون ضيوفهم في صدر الغرفة احتراماً أما الأشقر كان عاقد حاجبيه ببغضاء محتقن الوجه يخفض عينيه ارضاً لا يرغب أن يراها ...بل يريد أن يستصغرها ويشعرها أنه لا يراها!!....كزّ على أسنانه وفي سريرته يقول..." فقط لو كانت رجلاً...!!..".....لفت انتباه خالته أنه لم يقم من مكانه ليرحّب بها ويشاكسها كعادته بروحه المرحة فسبقته قائلة بوجه بشوش كبشاشة وجه والدته فهو لم يفرّقها يوما عنها وهو بالذات أقرب الناس الى قلبها ...لقد وقف معها في محن كثيرة سواء مادية او معنوية !!...أينما ذهب يترك بصمة من عطائه ..:
" ما به أشقرنا لم يُهدني قبلته بعد ؟!..."

كل العيون في الغرفة تطلّعت عليه يراقبون ردّة فعله فالتفت إليها ونهض يجبر نفسه وهو يركّز نظره عليها فقط كي تتلاشى الصور من جانبيها أمامه فهو لا يريد أن يلطخ عينيه بمرأى ابنتها ولما وصلها صافحها ثم انحنى بجذعه يقبّل رأسها وقال بصوت فيه الخشونة:
" أهلاً خالتي....حقك عليّ..."

قالها وعاد الى مكانه....تعجّبت من اسلوبه ورمقت ابنتها بنظرة سريعة ثم جالت بين باقي الوجوه تتساءل بصمت عمّ ألمّ به ؟!....لاحظ التساؤلات بعينيها فاختصر عليها الطريق هاتفاً بجدّية وصلابة لم تعهدهما عليه بينما كان يحني ظهره قليلاً للامام ليتكئ بمرفقيه على فخذيه ويشبك كفيه ببعضهما :
" لن أطيل عليك الأمر لأن وقتي ضيّق وسامحيني على استدعائي المفاجئ لكِ..."

ارتاع فؤادها من المجهول وقالت بريب:
" لا عليّك بنيّ...لكنك أقلقتني ...اهناك شيء ؟!.."

أجاب:
" لقد اخبرتنا في السابق أن ابن شقيق زوجك تقدّم لابنتك....أليس كذلك؟!.."

" أجل بنيّ ورفضته ومع ذلك ما زال مصرّاً..."

قال باختصار:
" اذاً زوجوها إياه أفضل للجميع...!!.."

سألت مستغربة :
" لكنك في السابق قلت لا تجبروها على شيء...ماذا تغيّر الآن ؟!.."

اسند ظهره للخلف مجيباً دون تأخير:
" كنت مخطئاً خالتي....علي رجل صاحب مسؤوليات لديه مصلحة يترزّق منها وكان اعتراضي لأنه رجل جامد غيّور بشكل مبالغ وصارم وقد ظننتُ أن ابنتك لن تتحمل صرامته وجموده الّا أنني اكتشفت....عذراً منك...!.....أن هذا ما تستحقه ....رجل يعيد تربيتها .."

اعترضت مستاءة بينما التي تجلس جوارها اعتراها الوجوم وهتفت مندهشة تسبق أمها بالكلام:
" لا اصدق....لا اصدق....ما هذا الذي تقوله ؟!.."

ردّ بنفور دون ان يتطلع نحوها:
" أنتِ لا تتكلمي....اصمتي ولا تسمعينا صوتك!..."

صمتت أجل صمتت.... إنها بقدر حبها له يكون خوفها منه ...تتدلل بجرأة أجل أما أن تعارضه وتذهب معه رأساً برأس لا تستطيع...تهابه...تخاف منه !!....روحه مرحة إنما هيبته طاغية وخاصة بعد أن تزوج وترقّى باتت تخشاه أكثر ولا تود مواجهته بهذا الوجه تحديداً....هبّت واقفة باعتراض مكتوم بينما الموجودون خاضوا بتمتمات مصدومين من معاملته لهما لتقطع خالته هذه التمتمات بانزعاج:
" ما دهاك بنيّ؟!...أأتيت بنا الى هنا لتقول هذا ؟!...هذه إهانة لتربيتنا !!.."

" حاشاكِ خالتي....أحياناً كثيرة اولاد الأكابر تصرفاتهم المخزية تأخذ أهلهم للمقابر... أطال الله بعمرك.... واولاد أهل الشوارع يُفتخر بهم ...أنا لا انتقد تربيتكم خالتي....إنما ابنتك هي هكذا اخلاقها فاسدة وتصرفاتها جامحة بشكل مقزز وتحتاج فقط لمن يروّضها بمعرفته لتستقيم....فإما تتعاون وتبني حياة كريمة لها معه وإما تتمرّد وتدمر حياتها ....هي بالذات تحتاج لإبن عمها... علي.. ليعيد تأهيلها بدمه الحامي ومبادئه ...صدقيني هذا الافضل للجميع وأولهم لها...!....لأنها كلما تغافلتم عنها واعطيتموها حريتها تمادت بالسوء لمن حولها واوصلت نفسها لطريق لا رجعة فيه..."

تبدّلت ملامح وجهها للشحوب ....هي تقرّ في نفسها أنها ما عادت تستطيع السيطرة عليها...تزداد دلالاً ومتطلباتها التافهة لا تنتهي وحرّيتها أصبحت مبالغاً بها وكلّما جاء عريس ترفضه دون سبب يرجى !!...كيف لا ترفض وقلبها وفكرها يحومان حول الأشقر كما انها تحاول جاهدة لتشبك خيوطها عليه لكنها تعود مهزومة ولا تفلح وأمها هذه الطيبة لا تعرف عن نواياها شيئاً ومهما فعلت تبقى ابنتها الكبيرة واول فرحتها ولن تسمح بها لذا هتفت محتجة بكدر:
" لا أعرف اسبابك التي جعلتك تقول كل هذا الّا انني غير مستعدة لأجبر ابنتي على شيء لا تريده يا سامي..."
ضحك هازئاً وقلبه يكتوي بلوعة وروحه ساخطة من كل شيء ثم اطلق سراح لسانه ليخبر الجميع عمّ حدث بينها وبين زوجته واثقاً بكلامه لتتوزع ردود الفعل من الحاضرين بين شهقات الاستنكار والغيظ ولكنّها من كثرة الضغط عليها انفجرت صارخة بوجهها المصبوغ حقداً :
" زوجتك كاذبة....كاذبة!...هي طردتني وهي اهانتك ...!.."

لم يتأثر مما تفوهت به وكان من الأولى أن يحرقها بعد كلامها الّا أنه قام من مكانه بهدوء واقترب من طاولة التلفاز....أخرج المصحف من الدرج العلوي واقترب به منها وقال ببرود:
" اقسمي اذاً أن الذي قلته غير صحيح لأرى ..!!.."

ابتلعت ريقها واهتزت حدقتاها برهبة من الموقف الذي وضعها به ....حاولت الثبات والصمود ...لم تستدل على جملة مفيدة تنشلها من مصيبتها واكتفت هامسة بهشاشة:
" غير صحيح...هي كاذبة.."

انتفضت مكانها مرعوبة لمّا صرخ:
" اقسمي هيا ..."

فكان ردها الارتماء في حضن أمها مجهشة بالبكاء هاربة منه ترجوها:
" أمي هيا لنذهب من هنا...ارجوك امي..."

وما زالت امها تتعاطف معها ...أيعقل أن ابنتها محقة ؟!...تساءلت داخلها رغم أن حدسها ينبئها عن صدق قول صديقي...فهي أكثر من تعرفها؟!......لم يضعف لبكائها وهو الذي يكره رؤية بكاء النساء وخاصة مَن لهن معه رباط شفقة عليهن ثم استمرّ بصلابته هاتفاً:
" حسناً لن تقسمي ولن تعترفي بغلطك....لكني سأوصلكما بنفسي لأخبر والدك بكل شيء وأنت تعلمين كيف يتحوّل عند اصغر خطأ يخدش صورة عائلته.... فكيف إن كانت ابنته حاملة اسمه بهذه الدناءة تفتري على مظلومة وتدمر بيت زوجين....تخيّلي فقط ردة فعله كيف تكون ؟!...وتعلمين جيداً أن كلمتي عنده لا ثاني لها...يثق بي أكثر من الجميع ويحبني ولك القرار يا ابنة خالتي ....تعترفي امام اهلي وتردّي اعتبار زوجتي مع أن شأنها دائماً مرفوع ولا يمكن لأحد بزعزعته أو تتمسكي بكذبتك واذهب لوالدك!..."
سكت بكاؤها وارتعدت اوصالها من الفكرة وماذا ممكن ان يفعل بها والدها اذا غضب فرفعت رأسها عن صدر أمها وطأطأته لحجرها وهتفت بصوت خفيض وبمشقة بعد أن أخذت لحظات تفكر :
" انا اخطأت...سامحوني .."

فتعالت اصوات الشجب والاستنكار بشكل اكبر وأقوى من افراد اسرتي وبدأوا يهتفون لها بأن تذهب الى (دنيا) وتعتذر منها فناظرته بعينيها الملتهبة وجفونها المنتفخة وقالت :
" سأذهب واعتذر منها....لكن ارجوك لا تخبر ابي ولا تقنعه بزواجي من ابن عمي.....لا أريد أن اتزوج رجلاً يكبرني بسبعة عشر سنة...هذا فرق كبير!....ارجوك يا ابن خالتي.."

انحنى متوعداً بغيظ:
" لا اريدك ان تعتذري منها....اساساً لا اريد ان تقع عينك عليها....ولا أن تمري من امام بيتها ولا أن تأتي لحيّها ....لا اريد ان تنطقي اسمها على لسانك...خالتي مرحّبٌ بها متى شاءت أما أنتِ اقطعي قدماك عن مدينتنا وخاصة حارتنا ....أو قطعتهما لك بطريقتي!!...."

ثم انتصب رافعاً هامته بثقة موجّهاً كلامه لأهله الذين كانوا بآذان صاغية دون تدخل بقراراته:
" ها أنا أقول لكم...في اليوم الذي تسمحون لها بدخول هذا البيت سيكون يوم خروجي النهائي منه دون عودة!!....أنا وهي لن نلتقي في مكان واحد....لن أسامح من دمّر حياتي وأفسد بيني وبين زوجتي ...نقطة وانتهى..!!..."

باحراج تسللت الأم وابنتها من بينهم بعد ان طلبت الأولى ممن جلبهما بأن يعيدهما الى قريتهما ولما خرجتا من البيت وقف والده بوقار هاتفاً:
" إذاً حان الوقت لنذهب جميعنا الى بيت أم هادي لنعتذر منهم بعد ان كُشفت الحقيقة ..لقد ذاقت الظُلم منا جميعاً عندما تجاهلناها ولم نحاول اصلاح الأمور..."

ليردّ عليه الذي كان شامخاً بوقفته :
" كلا أبي...لن يذهب أحد....أنتم لم تخطئوا لتعتذروا...كنتم حياديين فقط!!.......هذا بيني وبينهم وسأتصرف بطريقتي....لا اريد ادخال ايٍّ منكم بالموضوع..."

وأكمل بسرّه :
" اعتذرت ورفضتني بقسوة....لن اركع حتى لو متّ عشقاً بها ..الآن جاء دورها وعقابي هجرانها وتجاهلها....فإما أن تأتي اليّ بنفسها أو...."

وتبعثرت خفقات نابضه وجلاً لمّا لاح في باله ما بعد الـ (أو)...!!

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

لمّا نزلتُ الى الطابق الأرضي تاركاً سمائي في غرفتي دلفتُ الى المطبخ فوجدتُ أمي تحضّر طعام الغداء لنا ...سحبت نفساً عميقاً استنشق البخار مغمض العينين عندما رفعتُ الغطاء عن طنجرة حساء الخضار وقلت:
" اللــــه يا أم هادي على هذه الرائحة.....كم اشتقت لطعامك....سلمت يداك ..."

ومن قلة صبري على الرائحة أخرجت طبقاً عميقاً ووضعتُ به من الحساء وتناولته واقفاً رغم سخونته التي لسعتني بينما كنتُ اشاهد معالم الحياة الجميلة المتمثلة بأمي التي تتفتل في المطبخ بكل نشاط وسرور....ربي يحفظها لنا.... فهتفتْ مازحة وهي تخرج صينية كباب مشوي من الفرن الكهربائي :
" صحة بنيّ.....لكن هذا عيب...تملأ بطنك اولاً وزوجتك ضيفتنا جائعة.؟!..من الأولى ان تطعمها ..."

وضعتُ الطبق في مغسلة المطبخ بعد أن انهيتهُ حامداً الله وقلت ضاحكاً:
" هذا تحت الحساب يا ام هادي....المهم انت لا تشي بي...سادّعي أني لم اضع لقمة في فمي مضحياً بمعدتي من اجلها..."

ضحكت ثم تبادلنا بضع الأحاديث السريعة واخبرتها عن تدهور صحة السيدة (فاتن) وقد حزنت كثيراً عليها ودعت لها بالرحمة وفي خلال احاديثنا اخرجتُ هاتفي ابعث رسالة للمرة العاشرة لـ (سامي) ولم يقرأها فاستغربتُ قائلاً:
" هل سامي بالمركز ؟!...ما له لا يرد عليّ؟!....ابعث له منذ وصولنا لأخبره عني ولا حياة لمن تنادي..."

أجابت بهدوء ونبرة حزينة هاربة بوجهها عني:
" سامي ودنيا متخاصمان..!!...."

قلت بمزاح مع أنني شعرتُ بوجود خطب ما:
" لمَ أنت حزينة ألم تعتادي.؟..هذا الغليظ وهذه ضفدعته.....لا تقلقي عليهما.....الخصام بينهما هو فاكهة حياتهما!.."

أجابت بقهر وأسى:
" هذه المرة مختلفة بنيّ....هو لم ينَم عندنا منذ ثلاثة ايام تقريباً...!!..وهذه اول مرة يفعلها ولا أعلم حقاً من المُلام فيهما بالضبط.!!..."

انتصبتُ ممتعضاً وسألت لاستنبط الأسباب:
" ماذا تقولين أمي ؟؟!....ألهذه الدرجة ؟!..لا يفعلها سامي الّا إذا كان جرحه عميقاً....ماذا جرى ؟!.....أنا لم يعجبني حال دنيا منذ رؤيتها....وجهها غدا شاحباً ولكني ظننتُ من تأثيرات الحمل ...."

واستأنفتُ قبل خروجي بملامح نافرة والقهر يعصرني على حالهما:
" هل هي في غرفتهم ؟!....اريد ان اسمع منها !..."

" أجل بنيّ....لكن ارجوك كن حكيماً ولا تظلم أحداً على حساب الآخر....هي دنيتك وهو توأم روحك...."

زلفتُ منها وربّتُّ على كتفها بحنية وهمست:
" لا تقلقي امي...تفاءلي خير!..."

سبقتُ أختي الى حديقة منزلنا انتظرها بعدما أعلمتها أنني ارغب بالحديث معها هناك ...كان الجو صحواً لا تعكر صفوه الغيوم الغاضبة وكان النسيم العليل يطوف حولنا يحمل في حناياه شذى الطبيعة بترابها ونباتاتها المختلفة....جلست شقيقتي تجاورني على مقعد رخامي موضوع على عشب الحديقة الغنّاء المليئة بالورود والأشجار التي تعلوها أعشاش الطيور ...حوّطتُ كتفيها وجذبتها لتتوسّد كتفي واستفتحتُ حديثنا ببعض الذكريات لأبدد خجلها أو ارتباكها مني ثم انتقلنا لموضوعها وأخذنا الوقت ساعة من الزمن وهي تبوح عن مكنون ما في صدرها وفي هذه الأثناء نزلت المدللة الغاضبة الى الأسفل وجلست في غرفة المعيشة تضع ساقاً فوق الآخر وتهزّها واجمة الوجه بعد أن سألت والدتي عني والتي طلبت منها ان تنتظرني في هذه الغرفة ..!!....بعد قليل دخلت عليها الحنونة تحمل صينية فيها كوب من حساء الخضار الدافئ وهمست بعطف وبابتسامتها الحانية التي تلمع على ثغرها :
" تناولي حبيبتي هذا الحساء ليدفئ معدتك ريثما احضّر المائدة.....لا تنغدري بصفاء الجو فهو سينقلب بدقائق ويعود البرد ....هذه المنطقة باردة جدا وخاصة مع غروب الشمس..."

ثم دنت منها تمدّه إليها فأشاحت وجهها تلك واغلقت انفها وفمها بكف يدها وهتفت بجرأة ملفتة :
" ابعديه عني....رائحته مقززة..!!.."

انصدمت من اسلوبها فاستقامت بظهرها ولكنها الطيّبة ,المُحبّة ,محسنة الظن بالجميع كانت قلقة من أجلها فانحنت مجدداً تكرر محاولة اقناعها قائلة:
" رضي الله عنك بنيتي ....تناوليه انا من صنعته...اعتبريني امك....إنه طيّب المذاق وحتى الرائحة.....ربّما اختلطت عليك روائح باقي الأطعمة ببعضها لذا ظننتِ أنه منه....."

وأردفت مازحة ترطب الاجواء عليها برقتها المعهودة وضاحكة ببشاشتها:
"...كليه وسترين كيف ستطلبين آخراً من لذّته قبل انتهائك منه...."

عاشق حد النخاع لها ومغرم بكل خلية بها....وأكره كل شيء بدونها....هي السماء لأرضي....والملجأ في شتاتي....فلتشتمني....فلتزهق روحي....لتأتي وتنتزع قلبي وتسحقه لن أبالي....كل شيء تفعله بي سأسمح لها.....الّا أن أرى أمامي هذا المشهد وابقى صامتاً واقفاً ذليلاً دون أن احرّك ساكناً....فهذا من سابع المستحيلات....فليخسأ الحُب واصحابه....فليحترق العالم وسكّانه ....فليوقِف خائني نبضاته ....إنهم عائلتي وإنها أمي...لحمي ودمي...همّها همّي.....أمي أنا....نبض الحياة ونعيمها....سلّم نجاتي....النبع الذي يسقينا من حنانه دون ان ينضب....الوطن الذي لن يتخلّى عنا ولو طَرَدَنا جميع الأوطان ...وطني...هل أخونه ؟...هل ابقى مكتّف الأيدي؟؟....أتهان أمامي وابقى صامداً في مكاني؟؟...ومِمَن ؟!....مِن زوجتي أنا ؟!...كلا ليس من زوجتي.....إنما من ابنة قاتل قلبها !....كانت قد مدّت إليها الصينية لحظة دخولي وحدي الى هذه الغرفة دون انتباههما لأشهد على التصرف الوضيع الذي بدَرَ من حبيبتي وهي تدفع الصينية بيدها بحركة عدوانية تقطر غلّاً لتقع من بين يديّ حاملتها فيُسكب القليل من الطبق على أنامل غاليتي قبل أن يلقى حتفه على الأرض ويتناثر زجاجه بما حوى تزامناً مع صراخها المسموم:
" قُلت ابعديه رائحته مقززة.!...لا تسمعين؟!!...كلكم مجرمون... لا تدّعي الطيبة....أنتِ لستِ أمي..."

لتنهي جملتها لحظة جلجلة صوتي القاسي الصادح في الأرجاء والشرر الملتهب يتطاير من عينيّ:
" ألمــــــــى..!"

ثم انقضضتُ عليها كانقضاض الفهد الأسود الكاسر على فريسته...أقبلتُ منتفخ الأوداج بعينين حمراوين كالجمر المشتعل وهيجان يخرج من سائر جسدي....طيّرت ما تبقّى عندي من عقل وأدّت لإصابتي بنوبة جنون....وصلتُها لا أرى أمامي سواها هدفاً لي لأعنّفها....أمسكتُ ذراعها بقسوة فاقت أي قسوة عرفتها مني ورفعتُ يدي الأخرى لأصفعها بقوة دون رحمة بها على وجهها وبكراهية خرجت من بؤرة أعماقي بعد أن مست خطوطي الحمراء وأعظمها مستفزة شياطيني وهدرتُ بها :
" كيف تجرئين يا ابنة الحقير على أن تفعلي هذا لأمي؟!...أهذا جزاؤها ؟؟!..."

ومع ارتفاع يدي كانت قد أضحت أسيرة بقبضة نبض الحياة قبل أن تستقر على هدفها بعدما حالت بيننا وهي تشدّ عليها وتهتف بجدّية تغضن جبينها بانزعاج إنما فيه الإباء والعزة :
" ليس من صُلب محيي الدين الشامي ولن يكون ابنه من يمدّ يده على امرأة ..!!....إن اردت أن تفعلها فاضربني قبلها..."

اغلقتُ قبضة يدي المهتزة من فوران اعصابي حتى ابيضت مفاصلي كازّاً على اسناني للحظات أحاول حصر صرخاتي التي لم أنجح في ايقافها ثم افلتها صارخاً من قهري وقلة حيلتي مع تحرري من أمي مستديراً مع انحناء ظهري لأفرغ ثورة غضبي منزلاً يدي بقوة على طاولة الخشب :
" سحقاً لهااا أمي...."

لتهدأ نبرتي ضعفاً بعد أن انشقّ حلقي من شدة صوتي وأنا اقرفص متكئاً بمرفقيّ على الطاولة ممسكاً رأسي بكلتا يديّ ناظراً لسطحها المشقوق من ضربتي ومتابعاً:
" سحقاً لها....وسحقاً لي لأني أحببتها..!!"

كانت تقف كالمحنّطة بعد أن اصفر وجهها وجمدت الدماء في عروقها ليسري مكانها خوفاً شديداً لم تذقه معي آنفاً لتتلاحق بعدها أنفاسها وتتسارع دقات قلبها فيعلو ويهبط صدرها بعنف وسُحب كثيفة تغشى سماءيها ثمّ وضعت يدها على فمها تكاد تفقد السيطرة على ما سيخرج من جوفها فتستدير راكضة صاعدة السلالم حتى وصلت حمام غرفتي ...!!....أما أنا قمتُ من مكاني بقوى خائرة وقلبٍ مكلوم....لم أعد أعلم أغضبي أنني لم أنل منها أم من نفسي لأني فقدت آخر ذرة بصبري عليها لأتحوّل الى هذا الوحش....آآه يا ربي....حتى متى سأعيش حياة مقيتة....أما آن الاستقرار ؟!....ارتميتُ على الأريكة القريبة علّني ارتاح لكن لم ينطفئ لهيب أنفاسي.....اقتربت مني أمي وقد نسيتُ الاطمئنان على يدها وأنا منشغلٌ بقذف حممي البركانية ففززتُ معدّلاً جلستي وأمسكتُ كفّها قرب أناملها المدموغة ببقعة حمراء وهمست برأفة خجلاً منها والروح تنزف عليها:
" أمااه..."

أبقت كفها بيدي وجلست جانبي وهمست والدموع تتكدّس في عينيها:
" يا روح أمك..."

قبّلتُ كفّها المصاب وقلت:
" سامحيني أماه....اتؤلمك؟!..ما كان عليّ جلبها هنا !!...لم اتوقع أن تصل لهذه الدرجة من الجموح والتطرف بردود أفعالها خاصة معكم..!!....ظننتُ أنها ستنفر مني أنا فقط فلم أكن أبالي لو وضعت خنجراً ببطني....."

مسّدت خدّي ناظرة بحنان جارف الى تقاسيم وجهي وقالت:
" لا تقل هذا بنيّ....ألمي هو عليكما حبيبي...أما أنت لقد فعلت الصواب بجلبها....هي زوجتك اذاً هذا بيتها وهنا عائلتها ومستقرّها مهما عصفت....فقط اصبر عليها حتى تهدأ....الفتاة ضائعة لا تهتدي لطريقها....ما زالت متأثرة مما مرت به ....ليس بهيّن عزيزي هذا كله عليها!...ألا ترى رقتها وضعفها خلف قناع تمرّدها؟!.....هي تتخذ ردود الأفعال هذه كواقي لها....لا تقتل أمانها الذي تجده في اندفاعها سواء بحركة عنيفة أو لسان سليط !!....اعطها المساحة لتفرّغ ما يحرقها في الداخل.....ماذا تريد منها وهي ترى حياتها تنقلب رأساً على عقب بلحظة....من كان أمانها أصبح أكبر مخاوفها...من كانت حنانها أصبحت ممثلة في نظرها ....ووالدها !!...كيف ستصدّق أنه مجرم ؟!...ذاك والدها الذي تربّت في كنفه وتحت جناحه....وصدّقني لو خيّروها بين أن تكون ابنة لرجل يموت بشرف أم لمجرم حيّ لاختارت الأول لذا من الطبيعي أن يرفض قلبها التصديق لأنه شيء مخزي لا يرضاه أي دين او مجتمع فتلجأ لإغلاق صمامات الرؤية عن الحقيقة المرّة المؤلمة ولكن الوقت سيعيد فتحها لها وستتضح لها الرؤية إن عاجلاً أو آجلاً.....الوقت كفيل بحل كل شيء فلنتركه اذاً على بركة الله وهو سيدبّر الأمر..!..."

اومأتُ موافقاً لكلامها بوهن .....سفر ثقيل وليلة شاقة ثم يوم طويل....لم أرتَح الى الآن....لستُ حائطاً ولا جماداً....أنا روح وكل شيء بي استنزف....أرحني يا الله....نهضتُ بكسل وكتفيّ متهدلان من الهموم التي أحملها على كاهلي وطلبت بأدب:
" سأذهب لأنام في غرفتك أمي ساعة من الزمن قبل أن ألتقي بسامي....لا أرغب بمواجهتها هذه اللحظة!..."

ارتسمت البسمة على شفتيها ولم تعطني أي ايماءة لتتنحنح بعدما استدرتُ مولّيها ظهري وباغتتني بسؤال لم اتوقعه منها البتة وبدون انذار :

" هل اتممت زواجك منها ؟!.."

قلت مصدوماً ومتهرّباً بخجل وانا استدير نصف استدارة برأسي:
" أمي ...بالله عليك ماهذا السؤال؟...هل ترين أنه وقته؟!.."

استدرتُ مجدداً لأتابع طريقي فأمسكتني من ذراعي توقفني باصرار:
" اجبني بنيّ.....أتممتَ زواجك أم لا ؟....اريد جواباً بسيطاً !.."

عدّلتُ وقفتي مقابلاً لها وغضنتُ جبيني أحاول قراءة ما وراء سؤالها ثم قلت بشيء من المزاح فوق تعبي:
" ما أهمية هذا السؤال الآن أماه؟!...هل ستقومين بدور الحماة."

" أجب!!."

أمرتني بجدية تامة فتنهدتُ رافعاً عينيّ للأعلى ثم أعدتهما إليها مجيباً:
" أجل أمي....ارتحتِ الآن؟..."

دون انتظار تابعت بأوامرها:
" إذاً اذهب الى الصيدلية واجلب فحص الحمل !....ربما زوجتك حامل!...هي تعاني من نوبة غثيان وانعدام شهية...لما أتتني الى المطبخ لفت انتباهي ملامحها النافرة من الروائح لكنها كابدت الا تظهرها أما عند اقتراب طبق الحساء ثارت رغم عنها مشمئزة من ريحته التي لا يتخللها أي عيب وعلى العكس حتى من لم يحب حساء الخضار سيقرّ معترفاً بروعة هذه الرائحة المميزة..."

" ماذااا؟!.."

بنبرة مرتفعة مدهوشاً كانت ردة فعلي لِما سمعت وبعدها أكملت بصوت خفيض:
" مستحيل أمي....الطبيب اخبرنا أنه عليها تنظيم الدورة الشهرية عند طبيبة نساء من أجل حدوث الحمل.....فخاصتها غير منتظمة !.....وهذه الأعراض تلازمها قبل كل دورة......لم تزُر الطبيبة بعد وهي معتادة على ذلك!..."

" أي طبيب غبي أخبرك بهذا؟!....غير صحيح كلامه.....كنتُ مثلها وها أنتم أمامي من غير حاجة لطبيبة نساء .....حماكم الله بنيّ.!..."

وبسملت تالية:
"..{{ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }}..."

وعادت لكلامها الأول:
" اذهب الآن واجلب فحص حمل.... سيارتنا الخاصة وضعها الحاج اشعب بالمرآب..خذ المفاتيح عن المشجب الخاص بها واذهب...علينا أن نطمئن!!....علّك ترحمها من قسوتك..."

ما هذه الاحتفالات التي اشعر بها داخلي؟!...ما هذا الأمل الذي زارني فجأة ؟!...كيف تبدّل حالي ؟!....ممَ استمديتُ القوة والنشاط؟؟.....أين تعبي وغضبي ؟!....أهلاً بمفتاح سعادتي وبنبض قلبي...أهلاً بثمرة حُبي.....يااا رب ارزقنا الذرية الصالحة التي ستصلح الأمور بيننا.....يااا رب اغدق عليّ بعطاياك وهب لي من لدنك اجمل نعمة....نعمة الذرية الطيبة....!!

أخفيتُ عن أمي فرحتي وبهجتي وقلت بملامح ثابتة رزينة:
" حاضر امي....سأذهب واجلب لنرى ماذا يخبئ لنا الزمن!..."

ولمّا عزمتُ الرحيل قالت:
" تفاءل خيراً ...سأصعد لأراها وافتح لك الطريق....مؤكد هي في حالة يرثى لها بعد أن أريتها وحوشك وارعبتها وتوقع ايضاً الرفض منها...اقصد عن اجراء الفحص.....ربما لن تتقبّل الأمر بسهولة.."

ابتسمتُ بوجع على التي سكنت قلبي وجوارحي وخطوت خطوتين لالتفت بعدها هامساً بحنوّ:
" أمي.....داعبي لها شعرها.....هذا اكثر ما تحب في أزماتها....ستستكين وتتحول الى طفلة في الحال!...."

غمزتها مضيفاً:
"أنا اثق أنك ستكسبينها في صفك بأسلوبك الساحر وحنانك..."

×
×
×

طرقت الباب طرقات هادئة وقد علمت أنها لن تلقى إجابة من الثائرة فسمحت لنفسها بفتحه لتأدية مهمتها وعند فتحها له نهضت الأخرى عن السرير متكئة بكفيها لترفع جذعها بعد أن كانت متكوّرة على نفسها وجفونها منتفخة من أثر النحيب...كان صدرها ملبّداً بسحب الهموم والأحزان والعبرات التي انسكبت من مقلتيها أغرقت الفراش ولمّا دنت الحنونة منها تنثر ابتساماتها في الارجاء لاحظت حركة يدها وهي تدسّ شيئاً تحت المخدّة لتخفيه وما كانت الّا صورتي التي حملتها على كفوف الماضي بعد الحنين له ....كانت قد أخذتها مجدداً عن الإطار بعد وصلة بكاء وعادت الى مأواها تحتضنها.... تبثّ شوقها.... وتلمس الأمان منها.....أخفتها عن أمي التي وصلتها مرسلة من عينيها لعينيها دفء المشاعر الأمومية الصادقة ....فالعيون تكشف عمّا يختلج الصدور ويصل هذا الى مركز القلوب وهنا شعرت (ألمى) بومضة طمأنينة دافئة وقد كانت اثناء بكائها تراجع نفسها فاقرّت بينها وبين نفسها أنها تعدّت حدودها بتصرفها الهمجيّ حتى أنها خجلت من حالها وفي هذه اللحظة شعرت بالاحراج الشديد من الواقفة ففاجأتها مفتتحة الحديث بهمس خافت وهي تعدّل جلستها بشكل أفضل وتنزل قدميها للأرض:
" اعتذر سيدة عائشة عمّا بدَرَ مني....لم أكن بوعيي....صدّقيني هذه لستُ أنا...."

فانسابت العبرات لتثبت صدق قولها بعد موجة الندم التي اجتاحتها ولتكون الدليل لنقاء روحها وبراءتها ونفسها المتسامحة وكان هذا بمثابة مفتاح لتجلس أمي تجاورها ثم تغلّف يد الباكية بقبضتيها بلمسة حانية وبسمة راضية وعين راجية ثم تهمس بمودّة خالصة :
" صغيرتي أنا أفهمك....لن ألومك بأفعالك اطلاقاً!...أنتِ محقة أنا لم أتضايق منك وعلى العكس لقد وبخت ابني على تصرّفه الذي صدمني....ما لا ارضاه لنفسي ولابنتي لن ارضاه لكنّتي !..."

اتسعت عيناها مشدوهة!!....لقد ظنّت أنها ستلومها على تصرفاتها كأي شخص بالغ يقوم بتربية ابنه لكنها خيّبت ظنونها وهي تراها تقف في صفها ولتتأكد أكثر سألت ببراءة تخوض في الحديث معها وكأنها معتادة عليها :
" حقا؟؟....حقاً سيدة عائشة لستِ منزعجة مني ؟!..."

رفعت يدها وابتسامتها تصاحبها ثم حسست على وجنتها لتصل الى أعلى رأسها وتلامس شعرها وأجابت:
" سانزعج منكِ اذا ناديتني سيدة....لا احب هذا اللقب اطلاقاً ...لا روح فيه!...ممم...مثلاً يمكنك مناداتي بخالتي....عمتي....أمي....أو كما يناديني زوج ابنتي الغليظ..."
انتاب أمي شعور بالألم عند ذكرها صهرها الغالي....لقد اشتاقت له واشتاقت لروحه المرحة في البيت الذي انطفأ بذهابه لتخرجها من هذا الشعور التي سألت بفضول:
" بماذا يدعوكِ ؟!.."

" عيوش.."

شقت ثغرها ابتسامة تليق بجمالها وراق لها الاسم فهمست بتلقائية:
" عيوش!!...اسم جميل ويناسبك...فأنتِ تبدين صغيرة كأنك شقيقة لاولادك.."

" حسناً اذا نادني به إن اعجبك!..."

اومأت موافقة لتقول أمي وهي ترجع نفسها لظهر السرير:
" ما رأيك أن احكي لكِ عن قصتي؟....ربما نجد نقاطاً متشابهة بيننا !!.."

ولما اتسعت ابتسامتها ربّتت على الفراش هاتفة بمرح:
" تعالي جانبي لأرى..."

كأنها ألقت عليها تعويذة ما لتلبي طلبها بطاعة وبدأت تحكي لها فعلاً عن شتّى مراحل عمرها وكانت تحاول جاهدة ذكر بعض المواقف التي تتوقع أن تتشابه معها في جزء ما وبعد الانتهاء من رحلتها كانت قد التصقت بها المدللة دون ان تشعر وهي تستخدم لمساتها وحركاتها اثناء الحديث لتقرّبها منها فكم يكون للمسات الدافئة سحر خاص لينتهي بها المطاف أن تربّت على حجرها هامسة:
" ضعي رأسك هنا لأشي لكِ عن زوجك في طفولته وصباه وكيف أحبّك وسأخبرك عن مواقف كثيرة يمكنك احراجه فيها متى شئتِ كي لا يتبجح عليكِ....ما رأيك؟!.."

لم تنكر أنها شعرت براحة جمّة داخلها وسريان لذيذ وشغف جارف لترضي به فضولها عما لا تعرفه عني وقد كان قلبها يرفرف عشقاً وخاصة أن مشاعرها ما زالت تطوف متأثرة من الصورة والحنين لهاديها...!!....فبتعويذة أخرى سحرتها ليصبح رأسها على حجرها وشرعت بمداعبة شعرها تزامناً مع انطلاق لسانها في حقائق عني لتعزف على وترها وقد نجحت بجدارة من أي باب تدخل لها وكان الماضي مع الهادي هو أوسع ابوابها وهكذا استمر الحديث بينهما بين ضحكات وفراشات تدغدغ روحها وهي تستمع بكافة حواسها العاشقة عن كل ما يخصني لتحفظه في صفحات عقلها متناسية مرارة واقعها ...!!....بعد فترة من الزمن دلفت إليهما فهالني المنظر الحميميّ بينهما وتوجستُ خيفة لأني لم أدرِ ايهما سحرت الأخرى لتبنيان علاقة مميزة بهذه السرعة القياسية ولِكم أسعدتني هذه الصورة وكان صوت ضحكتها قبل دخولي هو اكبر سعاداتي في هذا الوقت والتي قطعتها متعمدّة نكاية بي بعد أن صرتُ قربهما...!!.....وقد جاءت الآن اللحظة الحاسمة وكان القلق يعترينا لصعوبة مهمتنا وأنا على وجه التحديد وفي البداية اعطيت الكيس لأمي لتحاول محاولاتها ....ذُهلت من الطلب واعترضت تنفي هذا الأمر وكانت حجّتها قول الطبيب ....حاولت محاولات كثيرة أمي لاقناعها الّا أنها صدّتها باحترام متمسكة برأيها وقناعتها بعدم وجود شيء كهذا وأنها معتادة على هذا الحال وهذه الاعراض عند اقتراب دورتها الشهرية فحسمتُ الأمر قائلاً بهدوء ثابت بعد أن تحطمت قيود صبري من لهفتي:
" اعملي الفحص...إن كان سلبياً لن تخسري شيئاً وكذلك لن تربحي....أما إن كان ايجابياً واردتِ العودة الى بلدك هذه الفترة فأعدك أنني سأفعلها .....من أجلك .....ومن أجلِ طفلي!.."

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

تواعدنا أنا وصديقي للالتقاء في مكاننا المعهود عند شجرة الخروب على تل الصقور....ذهبتُ الى هناك أجرّ أذيال خيبتي بعد أن كانت نتيجة الفحص سلبية وللغرابة أنني قرأتُ الاحباط على ملامحها!!...أكانت تواقة للحمل مني؟!...أم أن هذه مشاعر طبيعية ممكن أن تمر بها أي امرأة متزوجة ؟!....أما أمي استغربت الأمر في البداية إذ أنها كانت شبه متأكدة ..لكن في النهاية اقتنعت أن هذه اعراض الدورة التي تكون أحياناً كثيرة شبيهة بأعراض الحمل!!.....وصلتُ رأس الجبل وترجّلت متوجهاً للواقف سارحاً في غروب الشمس قبل أن تعلن عن انتهاء يوم عصيب مررنا به......ألقيتُ السلام وبعد السلام ومع لحظة التفاته إليّ باغتّه بلكمة قوية قرب فمه حتى أدميتُ زاويته هاتفاً بجدية:
" هذا حق أختي استردّه منك ..َ!!.."

لأفتح بعدها ذراعيّ واجذبه إليّ بكل الشوق الذي أحمله له والمحبة التي أخصها به هامساً بصوتٍ ضاحك بحبور:
" وهذا الحضن من حقي أنا...!!.."

طال عناقنا وسط ضحكاتنا بينما كنا نشدّ على بعضنا بعمق ونربّت على كتفينا لنجدد عهد صداقتنا....الصداقة التي لن نسمح بتزعزعها مهما حدث من تقلّبات في حياتنا ومهما واجهنا من صعاب ...فعلاقتي به كما علاقته بي هي أسمى العلاقات في تاريخنا الصغير ..!!
جلسنا على صخرتينا ....انحنيتُ بجذعي لاتناول حجراً صغيراً بينما كنتُ انظر ليميني باسماً وغمزته هاتفاً:
" لنبدأ التحدّي!...سأسحقك!!..."

ضحك وامارات الحزن بارزة في عينيه وقال متباهياً وهو ينحني ليلتقط حجره :
" أنت منذ مدة لم تفعلها أما أنا يومياً آتي لأمارس لعبتنا .....بتكرار التجربة نكتسب الخبرة يا قائدنا.....أظن هي الأهم!!..."

" لنلقي حجارتنا الثلاثة ونتكلم بعدها يا سيادة العقيد...."

" على ماذا يدور الرهان؟!.."

" سنثبت من منا أكثر ألَماً...!!.."

" انا احترق به!!.."

" لنرى يا صاحبي!..."

" والجائزة؟!.."

" إن كسبتَ أنت لك ما تريد وإن كسبتُ أنا.....ستساعدني في جلب الوغد عاصي الى البلاد خلال ايام قليلة حتى لو كان بطرق ملتوية غير قانونية وستكون أنت أهم عنصر في القضية....!!.."

قال مازحاً:
" هل تسعى لخرب بيتي ؟!.."

أجبتُ متهكماً بمزاح:
" وهل بيتك الآن عامر يا زوج أختي وكلٌّ منكما في وادي ؟!..."

" لا تسألني بل اسأل عقل الضفدعة الجبلية ..!!.."

" لكنك اخطأت بحقها عند ايلامها بفظاظتك وادبارك عنها..!.."

" وأنت الآن انتقمت من فظاظتي بلكمتك التي كادت تسقط أسناني..."

" لم انتقم من ادبارك عنها وجرحها...!!..."

" لا تقلق هي انتقمت بنفسها عندما ضربت اعتذاري لها بعد ندمي بعرض الحائط وحرمتني منها ومن لذة الاحتفال بيوم كان يفترض أن يكون من أسعد ايام حياتي...!!.."
" اذاً تصافيتما الآن وستعود معي!!..."

" كلا!....أنا في بيتي ...من يريدني بحياته يأتي عندي ومن لا يرغب بي هو حر !....أنا لا أرمي نفسي على أحد!....فعلتُ واجبي وانتهى..!!.."

" أظن أننا نتكلم عن اختي إن كنتَ نسيت !!.."

" زوجتي واعاقبها بطريقتي...!!.."

نطق جملته وفزّ من مكانه بشموخ متجذّر بشخصيته وأردف بجدّية وثبات ناظراً إلي:
" من فضلك...لا تسألني شيئاً أخراً واحترم قراراتي واترُك كلٌّ منا يغني على ليلاه......أظنك تثق بي منذ أن سلمتني أمانتك.....لا؟؟!.."

" لو لم أثق لكانت جثتك الآن في سفح الجبل!!.."

قلتها ثم وقفتُ في مكاني واحضرتُ جلّ تركيزي مغمضاً عين وفاتحاً الأخرى وقذفته بطلاقة ليأتي دور صديقي ثم أنا وعند القاء حجره الأخير ربّت على كتفي بقوة هاتفاً:
" ظننتُ نفسي الموجوع وراهنت على هذا ليتضح أنك انت الغارق في بحر الوجع.......القوة والعزيمة التي سيطرت عليك لم تكن الّا من جروحك الغائرة في اعماقك....فإن كنتَ كسبتَ الرهان الآن....تبقى الخاسر.....أعانك الله وعوضك بأيامٍ أجمل.....يا صاحبي..!!.."

قبل انفصالنا عن بعضنا وقفتُ ازاءه وقلت بجدّية:
" اضربني!.."

اتسعت عيناه بصدمة وهتف مستنكراً:
" لماذا؟؟!."

ارتفعت زاوية فمي لترسم ابتسامة ثعلبية وقلت:
" ضع بصمة على وجهي لنثبت شجارنا العنيف..!!.."

" ماكر!!.."

" عقولهن الصغيرة تضطرنا للجوء الى الحيلة في معظم الأحيان....هكذا بنات حواء...اشعل اصابعك لن ترضى...اجثُ امامها لن تسامح....اقسم لها لن تصدق....احتَل عليها...تكسبها....ما باليد حيلة معهن غير الحيلة يا صديقي!!...فليتحملن نتائج حماقتهن وغرورهن!!..."

×
×
×

عدتُ الى البيت بعد أن تجولنا وصلينا المغرب في المسجد وذهبنا الى احد المقاهي نستمتع بقهوتنا ونعيد ذكرياتنا في ازقة حارتنا ..... اتجهتُ الى غرفتهما في الطابق الأرضي لأرى شقيقتي فقابلتني بلهفة لتسألني عن اللقاء وما إن حطت عيناها على وجهي حتى شهقت هاتفة بذهول وهي تتحسس جانب شفتيّ:
" ما هذه الكدمة التي على زاوية فمك ؟!.."

غضنتُ جبيني وقلت بتصنّع متقن :
" تشاجرتُ مع سامي...ضربني وضربته حتى نلتُ منه....اطمئني صغيرتي أخذت حقك !!..."

" ماذا فعلت به ؟؟!!.."

سألتني برجاء والدموع تترقرق في شهديها فأكملتُ بمكر:
" اوسعته ضرباً ولن اعطيك له حتى لو رأى حلمة أذنه...!!.."

نكست رأسها بانكسار وبدأت تشهق بتتابع ومشت حتى وصلت سريرها...جلست عليه ووضعت يديها بحجرها وهمست بشجى والندم يأكلها:
" أنا السبب....ما كان عليّ ادخالك بيننا....هو اعتذر مني لكني كابرت وعاندت ...سرتُ خلف عقلي الصغير وغبائي....لقد خرّبت بيتي بيدي....كلنا نخطئ والأقوى هو من يدرك خطأه ويعتذر بجسارة دون أن يخدش كبرياءه.....سامي الأقوى والأطيب.....يا الله سيكرهني الآن!!...وأنا أحبه واريده....لا يمكنني العيش بدونه..."

ورفعت رأسها ترنو نحوي وتنهّدت تنهيدة من قعر الأسى وقلبها مرتاع بالآلام ثم وضعت يدها على بطنها وهمست وهي تشعر بالمرارة في حلقها والعذاب في نفسها :
" ارشدني يا أخي ....كيف سأصلح أموري؟!.."

عقد لساني وذاب قلبي عليها وكنتُ كارهاً لنفسي وأحسستُ بعاطفة تتدفق مني بقوة تدفعني لتقديم النصح لها الّا أنني ثبتّ على اتمام مسرحيتي قائلاً قبل أن استدير لأخرج:
" سيسافر الى الحدود في الثانية عشر والنصف من منتصف الليل ....اسأل الله أن يعود سالماً لأنه سيذهب الى المنطقة التي تقع بها المواجهات المسلّحة الضارية من أجل أمرٍ ما.....سنرى ماذا سيحدث ان شاء الله معه وبعدها لكل حادث حديث!.."

ووليتها ظهري خارجاً وابتسامة النصر تلوح في وجهي...!!...في الحقيقة لم أكذب ....كان سيسافر فعلاً من أجل مخططاتنا فاستغليتُ الوضع لأشعل مشاعرها عليه ....والباقي بيدها!!...
×
×
×
صعدتُ الى غرفتي بتثاقل ولمّا دلفت إليها وجدتها تجفف شعرها بعد أن استحمّت وارتدت منامة تعود لـ(دنيا)....القيت التحية التي لم اسمع ردّها لأنها تتجاهلني ثم قصدتُ الحمام لاستحم واصلّي العشاء وبعد انتهائي من كل هذا اقتربت مني لتقول باضطراب:
" كيف سننام؟!.."

قلت بهدوء ساخراً:
" مثلما ينام جميع البشر في العالم؟!..."

وأشرتُ بعينيّ متابعاً:
" على هذا السرير!!..."

هتفت باعتراض ولم تسألني عن الكدمة رغم انتباهها لها....ربما لتريني عدم قلقها عليّ:
" لكني لا اريد أن انام جوارك.."

اقتربتُ من احد جانبيّ السرير ثم خلعتُ بلوزتي وقلت بلا مبالاة:
" أنتِ حرّة.....لكن قلتِ ستفاجئيني وستثبتين أنكِ لستِ جبانة.....وفي الحقيقة لا أرى سوى جبانة تقول ولا تفعل..!!.."

اتخذت الجانب الآخر مشتعلة بتحدي وهتفت:
" أجل ساثبت لك ....وقلت أني لا اطيقك.....لذا..."

وانحنت تلتقط الغطاء الرقيق عن الفراش لتبرمه وتجعله حد فاصل بيننا بينما كانت تردف بكلامها:
" سنرسم الحدود بيننا ونقسمه بالتساوي!!.."

لمّا انتهت من هندستها قلت بصدمة:
" انظري يا مهندسة...مساحتك أكبر وانا الأولى بها !!...أي تساوي تتحدثين عنه ؟!."

أجابت بغرور:
" الناس يعطون ضيوفهم صدر البيت ويجلسون على عتبته....وأنت كُن نبيلاً لمرة وتنازل عن بعض سنتمترات من مساحتك!....فأنا الضيفة هنا!.."

تبسّمت وهتفت بخفوت وانا اتخذ موضعي في السرير واسحب الغطاء الآخر عليّ:
" هذا ظلم وسأخضع هذه المرة له....اطفئي النور من جانبك ونامي....لأرى مفاجآت الألمى!!..."

فعلت بالمثل وأخذت مكانها من السرير ولمّا همّت لتغطية نفسها لم تفلح بسحب الغطاء المشترك بيننا لأني كنتُ أكمشه بين ساقيّ...فهتفت بنزق متذمرة وهي تحاول:
" اعطني الغطاء ...الجو بارد هنا... وإن كنتَ أنت تشعر بالبرد فالأولى أن ترتدي شيئاً دون حاجة لعرض عضلاتك التي تتفاخر بها ..."

تأففتُ ونهضتُ من مكاني ملقياً الغطاء كله عليها ثم اتجهتُ للخزانة أخرج آخراً وعدتُ لمكاني مستلقياً على يميني مدثّراً جسدي به وظهري لها هامساً :
" تصبحين على خير...."

لم ترد عليّ وكانت تستلقي على ظهرها شاردة بالسقف ممسكة بالغطاء خاصتها حتى نامت من شدة التعب ...!!....
×
×
×
في ساعات متأخرة من الليل كانت تقف شقيقتي قرب نافذة غرفتهما تنظر الى قطرات الماء الخفيفة التي ختمت هذا اليوم وكأنها تنزل لتطهر الأرض من كل شر وحقد وسوء يدنّسها لتفرغ الصفحات وتفسح المجال لذنوب أخرى تخرج من البشر في اليوم التالي....كانت شاردة وقلبها يخفق بجنون ضائعة حيرانة....أفكارها مشتتة ومشاعرها مبعثرة لا تهتدي لحل.....مشاعر جياشة تغزوها من الاشتياق له ولرائحته وللمساته وهمساته وأخرى كلها توتر وقلق عليه بعد معرفتها عن سفره ....كادت تعض أناملها بندم ولوعة على تصرفاتها الصبيانية وحركاتها المبالغ بها معه.....شيء يجثم على صدرها لا تعلم ماهيّته....بل تعلم!!...كان هذا شيء يحثّها لتذهب وترتمي في احضانه وترتوي من حنانه بعد ظمأ قاتل اكتسحها ولكن خصلة الكبرياء ما زالت تشدّها لناحيتها وكذلك سوء الوقت يعرقل قرارها....ماذا ستفعل وكيف؟؟!...نظرت لساعة هاتفها وتنبّهت للدقائق الهاربة من الفرصة التي بيدها وهي ما زالت تعيش في تيه أفكارها....وضعت يدها برقة تحسس على بطنها والدموع تغشى عينيها العسليتين وكأنها تناشد طفلها ليشد أزرها في محنتها وسط الهدوء الذي يخيّم على غرفتها وهمست:
" سُليمان...صغيري....أيعقل أن يذهب والدك للحدود ولا نودّعه ونستودعه الله ؟؟!..."

وتابعت بنبرة حزينة كلّها أسى وشجن:
" قل لي...اذا ذهبت إليه في هذا الوقت هل سيلومني أحد ؟!.."

وتابعت بعد أن زفرت زفرة عميقة تخرج من احشائها بينما يدها ما زالت على بطنها:
" يااا رب....ارشدني للطريق الصحيح...."

ظلّت دقائق اخرى على حالها دون أن تتزحزح لتنتفض مجفلة ثم يتحول هذا لضحكات عشوائية بعد أن شعرت بأول حركة لطفلها وهو يركل باطن يدها وكأنه يدفعها لتركض إلى والده ....زوجها وحبيب عمرها....اشقرها الوسيم...!!
عقدت النية ولن تبالي بمن يوبخّها ويلوم افعالها الجنونية.....امرأة تخرج في الليل وحدها وتجوب شوارع الحيّ لتصل الى عشيقها.....أي جنون هذا ؟!....ارتدت عباءة بسحاب وشال أسود كلونها ثم لثّمت وجهها بطرفه وتسللت بكل احترافية وحذر خارجة من البيت غير آبهة للوقت ولا للناس ولا للمطر الذي يبلل ملابسها ...سارت على حافة الطرق ولم تشعر بالخوف لأن هدفها هو حامي ظهرها وسندها.....فبعد رب الكون ثم الأب والأخ الحنون....الزوج هو أجمل سند يكون....وكيف إن كان هذا ...سامي حبيبها وأشقرها المجنون ؟؟!!.....أسرعت بخطاها لحظة ولوجها ساحة بيت عائلته....شقت ثغرها ابتسامة بعد أن رأت سيارته في مكانها.....كان الظلام يكسو الأجواء واضاءات خارجية تضيء المدخل...واصوات حشرات تكسر سكون الليل وقطرات تتغندر على مهلها تنزل من السماء وشذى نبتة ليلة القدر (ملكة الليل) يفوح في المكان...ارهفت السمع عند وصول حركة مفاتيح الباب لاذنيها واحتجبت بسيارته ولمّا وصلها ظهرت له من مقدمة السيارة ورغم أنها تتشح بالسواد وتخفي وجهها الّا أن قلبه رفرف بالعشق فهو أكثر من يعرفها ويميّز عطرها الذي تخصصه له في الليالي ليذوب بها....لم يكن معها الوقت لتبدّل منامتها الغارقة بالعطر فارتدت العباءة فوقها ليكون دليلاً على جريمة حبّها وتهوّرها.....اقترب منها قاطب الحاجبين يخفي سعادته ويهتف:
" كيف تأتين بهذا الوقت وحدك؟!.."

ازاحت اللثام عنها واندفعت نحوه تحاوط خصره وتركن رأسها على صدره لتطرب على ايقاع قلبه وهي تجيب:
"حبك ناداني فاستجبت والله معي لا اخاف وابنك سندني لن اقلق وانت تنتظرني فلن أبالي...!!...سامحني..."

رفع ذراعيه ليحوطها وشدّد باحتضانها يعتصرها بكل العشق الذي يحمله لها ثم ابعد وجهها عن صدره وحوّط وجنتيها وسحق الفراغ دون كلمة ملامة او عتاب ليقبّل ثغرها ويريها أسمى درجات الحُب بمهارة يمتلكها عند سقوطه امام شهد عينيها وكان قد ظنّ أن فترة عقابه بتجاهلها ستطول بسبب عنادها ولم يدرِ أنني أنا من فتحت الطريق عابثاً بمشاعرها لاطمئن على أغلى حبيبين عندي ....توأم روحي ودنيانا....!!....
×
×
×
عند آذان الفجر لحظة استيقاظي على رنين منبه هاتفي.....فتحتُ عينيّ ورأيتُ ليلاً كاحلاً بنكهة الأناناس يحجب الرؤية من أمامي فعرفتُ أن وجهي مدفون في شعرها ولمّا حاولتُ ابعاده عني لأقوم واغلق المنبه شعرتُ أن ثقلي ازداد وبالكاد نجحتُ بازاحة شعرها لتتضح الرؤية أمامي فأراها ملتصقة بظهري تحتضنني وتدفن وجهها بعنقي وتحاوط ساقيّ بساقها الذي يعلو جانبي كأنها متشبثة بي منعاً لهروبي وقد سرت رعشة لذيذة بعد أن دغدغت مشاعري بوضعها الحميميّ الذي أدّى لاشتعالي فمددتُ يدي للهاتف كي التقط صورة لنا....فأنا أردتُ مفاجأتها....كما فاجأتني!!...سأردّ لها الجميل حبيبتي.....وآآه من جمال مفاجآتها....ليتها دائماً تفعلها...!!.....تحررتُ منها ونهضت بخلسة لاتوضأ واصلي واقرأ وردي وعند شقشقة شمس الصباح تململت ثم نهضت مفزوعة لاكتشافها أنها بمكاني فزحفت متسللة لتعود الى ارضها بعد أن خرقت الحدود وهي تجول بزرقاويها باحثة عني في الغرفة لتتأكد أنني لم أمسك بها فتنهدت حامدة الله أنه سترها......لكن هيهات هيهات... تحطمت آمالها عند دخولي للغرفة هامساً بعد تحية الصباح:
" حقاً فاجأتني..!!.."

قطبت حاجبيها وضيقت عينيها بتساؤل هامسة:
" ماذا تقصد ؟!.."

اقتربتُ منها وفتحت الهاتف على الصورة لاصفعها بها وهمست بخباثة:
" أيوجد لديك أعظم من هكذا مفاجأة ؟!....فأنا اتوق لذلك!!.."

ابتلعت ريقها بعد أن جفّ حلقها من هول الصدمة وتوهّجت وجنتيها ثم حفّزت ساقيها لتفر هاربة الى الحمام كالعدّاءة الماهرة وهي تشتم محرجة:
" وقح......وقح....استغلالي....أنا لا اطيقك يا مغرور!.."

ضحكتُ منتشياً والعشق يغمرني وقلت:
" اهربي من المواجهة يا حبيبتي الجبانة!!.."

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

دارت بنا الأيام ووثّقت اسبوعاً كاملاً من عمرنا كنت قد جلبتُ لها في اليوم الثالث من قدومنا اغراضاً خاصة مثل ملابس وأخرى تحتاجها وقد لاحظتُ خلال هذين اليومين نموّ علاقة لطيفة بينها وبين الصغير بعد انجذابهما دون ادراك لبعضهما إذ كان يطلعها على أموره الطفولية ويثرثر عن مغامراته حتى أنه عرّفها على ركنه الخاص في الحديقة حيثُ يقوم بتربية الطيور وكذلك بالخفية لاعبها على أرجوحته التي نصبها له عزيزي (سامي) خلف البيت وكنتُ اتجاهل هذه العلاقة وأبدي عدم اهتمامي كي لا تقطعها نكاية بي وعناداً لي الّا أنني كنتُ اتقصّى أخبارها من شقيقي واتابع اولاً بأول قصصها معه وفي اليوم الرابع عندما ذهبتُ للتسوّق بطلب من أمي لفت انتباهي شيء كانت قد حدّثتني عنه في السابق بتلك البلاد اثناء سعادتنا اللحظية التي سُرقت منا او نحن من سرقناها من العمر واخبرتني يومها أو لمّحت لي بطريقة ما أن هذه من أجمل الهدايا التي ممكن أن تكون لأنها تملأ الأجواء بالطاقة الايجابية وكذلك من كان يشعر بالوحدة ستتلاشى وحدته عندما يمتلك مثل هذه الهدية اذا اتخّذها رفيقاً وصديقاً له فلمعت الفكرة ببالي ويبدو أنه حان وقت اهدائي لها ما رغبت به علّها تخفف من حدّة وحدتها في وطني.....اشتريتها بكل سرور وعند عودتي للبيت قابلتُ شقيقي دون ان تلاحظ واتفقتُ معه أن يهديها إياها باسمه كي لا ترفضها ولم أكن أعلم أن شقيقي سيصل به الحال ان يخونني فبعد رؤيته قمة سعادتها بالهدية ادلى اعترافه قائلا:
" هذان عصفورا الحُب هما هدية من شقيقي لكِ.....وقد أسماهما الهادي والألمى...انظري لقدميهما وضع لاصقاً برموز لاسميهما.....الأكثر زرقة هو الذكر والأكثر بياضاً هي الانثى.....لكنه جبان لم يجرؤ على اعطائك اياها خوفاً من صدّه....لو كنتُ مكانه لما ترددتُ ولأجبرت حبيبتي على تقبّلها إن كنتُ أثق بحبها لي ..فمؤكد لن تتخلّى عنها وستحبها كما تحبني حتى لو كانت غاضبة مني!....مثل الأم بالضبط.....تعاقب اولادها وتغضب ولكنها لن تتخلّى عنهم وستنتظر أي مداعبة او مشاكسة تبدر منهم حتى لو اخفتها في قلبها.."

لاذت بالصمتْ حتى بعد أن ألقى خطابه ...تذكرت كلامها لي عن عصافير الحُب وكم شعرت هذه اللحظة بانشراح صدرها وبهجة عارمة تزور قلبها لتلتفت من شرودها هذا بعدما أكمل:
" لكن ارجوكِ لا تخبريه أنني وشيتُ لكِ كي لا يغضب مني....فأنا قلتُ لكِ هذا لأني احبه واحبك....مثّلي أمامه أن الأمر انطلى عليك!!.....اتفقنا ؟!!.."

اومأت برأسها توافقه مع رسم ابتسامة رضا على محيّاها ونَبَضَ قلبها ليجدد عهده مع الحُب بنبضات لم تستطع انكارها..!!....في اليوم الخامس سافرتُ الى الحدود لأرتب أموري عن كثب بما يخص مهمتي وبقيتُ هناك ليومين بنَت فيهما قصة صداقة مع عصفوريها ....كانت تهتم بهما كالأم التي تهتم بطفلها...وضعتهما قرب النافذة على منضدة مرتفعة لتصلهما الشمس وتمدّهما بالحياة أو تداعبهما بحنية النسمات العليلة....تطعمهما وتثرثر معهما....تبوح بأسرارها لهما في الليل والنهار وكانت بصوتها العذب تترنّم بترنيمات الحُب....تارة لهما وتارة لمحبوبها...من يكون غيري أنا هاديها الذي اشتاقت لي منذ غيابي عنها كما احترق أنا شوقاً لها....هذه الحقيقة حتى لو أخفت مشاعرها.....وفي اليوم السابع وعند عودتي لبيتي وردني اتصال من أبي (ابراهيم) ليطمئن على مهمتي ولكني لم اخض في حديث موسّع واخبرته أنني سأكلمه لاحقاً بالتفاصيل واكتفيتُ بكلمات بسيطة مقتضبة ولم أعلم أنها بهذه الاثناء كانت قد نزلت السلالم بخفة كالفراشة من توقها لتعود بعدها الى الغرفة تسبقني بعدما وصل الى مسمعها بعض الكلمات .!!....وكانت شقيقتي تعتكف في غرفتها أما والدتي كانت بزيارة لمدرسة (شادي) ...ثم صعدتُ بعدها إلى محبوبتي ومليكة فؤادي لأرتوي من سحرها وطيب أنفاسها....!!
تسمّرتُ مكاني لحظة ولوجي الى غرفتي الواسعة.!!...رحت اتأمل وجهها!!...أحقاً تفعلها ؟!....أتستطيع أم أنه مجرد تهديد واهي تتخذه درعاً لها ؟!....كانت تقف وتحجب النور عن القسم الأوسط من النافذة ليصبح جسدها مظلماً أمامي الّا من بريق الكراهية يضيء سماء عينيها تزامناً مع تسلل شعاع شمس الظهيرة من جانبيها!!....تقف بشموخ وتوجهها صوبي بكل جسارة وارتعاش طفيف يتحكّم بيديها !!....أهو ارتعاش من ثقلها أم من ترددها ؟!.......هل أعطيها الفر صة لتفعلها أم أمنعها ؟!....أيا ترى سترتاح وتطفئ اللهيب المستعر في احشائها أم ماذا ؟!...ظللتُ محدقاً بها بينما ارتفعت زاوية فمي بابتسامة....ظنّتها سخرية أو استخفاف بقدراتها الّا أنها كانت ابتسامة مريرة تنبع عن ألمي من صدمتي بها...ألم يضاهي نيران الحقد المشتعلة داخلها !!....دون أن استدير للخلف مددتُ يدي لورائي وأغلقتُ الباب بهدوء يعاكس اعصار الخيبة في جسدي....حافظتُ على بسمتي وخطيتُ بتمهّل نحوها....!!

" قف عندك!!....لا تقترب!!...."

صرخت كلماتها وهي تصك فكيها بغيظ قاسي فلم استجب لها وحرّكت رأسي برفض للجانبين وهمستُ محافظاً على ملامحي بينما أتقدم بنفس الخطى وأمدّ يداي إليها لأمسك ما بيديها :
" أتستطيعين ألمى ؟!..فأنا أعلم أنك تخافين هذه الاشياء"

شدّت قبضتيها عليها وأجابت بنفور وهي ترفعها للأعلى لتبعدها قبل أن المسها:
" سأتحدّى الخوف من أجل أبي.....لقد سمعتك وأنت تتكلم على الهاتف!!...."

رفعتُ حاجبي بتساؤل هامساً:
" ما الذي سمعتيه ؟!.."

" ستعود الى تلك البلاد لتبدأ استدراجك لأبي بخدعة دنيئة !!..."

ولحقت جملتها الجافة تتابع بنبرة هازئة:
" أتظن أنني سأسمح بهذا..... سيد.... هادي ؟!!.."

توقفتُ مكاني باسماً وهتفتُ ساخراً :
" ألا تسأمين من التجسس يا صغيرة ؟!..."

ثم بقبضة يمناي وبخفة أمسكتُ التي بيدها قرب الفوهة فحاولت سحبها لكني ثبّتها ولم افلتها من يدي وقلت ضاحكاً:
" لا تخافي !!...لن آخذها منك !!..على العكس سأساعدك بمهمتك !!..."

ضيّقت عينيها بتشكك فأردفتُ بثقة :
" إنها فارغة ألمتي!!....سأملأها لكِ بالرصاص إن كنتِ ترغبين بشدة الخلاص مني !!....مخزنها فارغ!!.....فقط اجيبيني!.....أحقاً تريدين اطلاق النار عليّ ؟!.."

بارتباك ظاهر أجابت:
" سأمنعك من الوصول الى أبي مهما كلفني الأمر!!.....وإن قتلتك وقتلت نفسي !!...."

" حسناً.....اعطني اياها لأرى شجاعتك يا ابنة عاصي ....لن امنعك إن كان هذا سيريحك ويسعدك !!....إن كانت رؤيتك لدمائي تراق سيبهجك ويثلج صدرك......لكِ هذا!..."

أطلقت ضحكة مبتورة ساخرة فهي لن تثق بي أكيد وهتفت واثقة بنباهة :
" بالطبع لن أصدقك!....فأنا عرفتك كفاية الى الآن!!....عرفت اصرارك على اتمام مهمتك أي أنك لن تضحي بنفسك بسهولة أمامي قبل أن تذوق لذة انتصارك!!.....العب غيرها!...ما عدتُ أثق بك!..."

سلّطتُ عيناي الترابية على سماء عينيها بأنفة وبسالة متحدياً وهتفت بهدوء:
" طبعاً لن استسلم قبل اتمام المهمة !....أنا لا أقدم روحي لك ببساطة دون أن أكون على ثقة أن هنالك مَن سيتمّها مِن بعدي .... أشبال كُثر آهلون لإنهائها بنجاح وبكل جدارة..........حبيبتي!.."

رجفة باغتتها هزت كيانها دون وعي بعد أن ضعفت حجتها!....لقد ضاعت بينها وبين نفسها!!....ستمنع مَن ومَن !!....قطبت حاجبيها تشرد ناظرة للأرض المفروشة بزرابيّ حريرية منقوشة بخيوط ذهبية وخمرية ثم استرجعت قوتها ورفعت رأسها وكأنها اقتنعت أن لا مفر ثم مدّت البندقية نحوي بتحدي لم أفهم ماهيّته إن كان زائفاً أم حقيقياً وهي تقول:
" املأ البندقية لترى الجانب الآخر لألمى !....جانب لم تتوقعه أكيد.....فأنت عرفت ألمى الساذجة الجبانة .....سأريك كيف سأكسر قيود خوفي من صوتها اللعين ....سأكسره كرامةً لأبي.....لن أكون ألمى ابنة عاصي رضا إن لم افعلها الآن.....يكفيني أن أحرمك أنت من هذه المهمة التي طالما انتظرتها..... شهور وسنين ....لحظة بلحظة وساعة بساعة!! ....حرمانك أنت بالتحديد منها سيكون أكبر انتصاراتي....... يا هادي يا ابن الشامي !!..."

ساورني القلق من كلماتها....تنفث سخطاً وشحناءً مع انفاسها ....ما زلتُ لا أصدق أنها ستفعلها !!....هي أجبن من ذلك التحدي!!....هي أنعم من تلك القسوة!!...كيف تمكّنت من تحويل براءتها للفكر الاجرامي ؟!....أهذه فعلاً التي عشقتها ؟!!.....أخذت البندقية وسرتُ اتجاه خزانتي في غرفتي وهي تلاحقني بنظراتها الحذرة....تقتنص كل نفس وحركة تخصني وكأنها تستعد لأي مفاجأة لا تسرّها !!....فتحت القسم العلوي من الخزانة وأخرجتُ أغطية مطوية ومرتبة على الرف ووضعتها على السرير خلفي ثم أخرجتُ صندوقاً خشبياً قديماً بهتت ألوانه كان خلفها......استدرتُ وانا احمله واتخذت السرير مقعدا لي....فتحته وأخرجت رصاصات محتفظاً بها تخص بندقية العهد خاصة أبي....ملأتُ خزانها بسلاسة ومهارة....سحبتُ زلاقتها بطلاقة...وضعتُ مؤخرتها على السرير اثبتها عليه وفوهتها للأعلى....نظرتُ إليها نظرات كلها خذلان وعشقٍ ينزف بالوجع وابتسمتُ بشحوب هامساً:
" أأنتِ مستعدّة لتطلقي رصاص حقدك عليّ ألمى ؟!.."

نواة نواة وخلية خلية ارتعشت في جسدها احتجاجاً لنواياها !...قلبها خفق بجنون من الفكرة ...اعتصر القهر معدتها الّا أنها لن تستسلم هذه المرة!...لقد حكمت محكمتها واصدرت قرارها.....نهضتُ بتثاقل من مكاني وأقبلتُ إليها...خائني يرثي حبها وتراب عينيّ اسودّ مع الظلام الظالم في سماءيها ....وقفتُ ازاءها ومددت لها ما بيدي دون تردد ودون أن ترمش عيني بخوف من الآتي مستسلماً لمصيري....أصبح ظهرها للباب وظهري للنافذة....تبادلنا الأماكن ليخفي جسدي الضخم أكبر مساحة من نور الشمس خلفي....دقيقة وربما أكثر وأيدينا الأربع تمسك بالبندقية بثبات بينما الأعين تناجي بعضها ...حدقتاها تنشد مني التخلّي عن مهمتي وحدقتاي تنشد منها أن تفهمني وتصدقني ولا تبتعد عني !!...ساد الصمت للحظات دون همس الّا من صخب نبضات نابضينا !!....محاولة أخيرة حاولَتْها بضعف:
" ألن تتخلّى عن المهمة من أجلي ؟...أبهذه السهولة تقدّم روحك؟!..."

شقت ثغري ابتسامة حُب أخصها بها وحدها وهمستُ ببحة خافتة بعد أن رحل صوتي بين طيات الآلام:
" وطني أهم من روحي ....يا روحي !.."

ارتجفت اناملها والعتمة زادت قتامة في عينيها.....شدّت البندقية من بين يديّ وهمست بغل ممزوج بالقهر:
" يعني....لا أمل.....بيننا!!.."

عادت خطوتين للخلف ...راقبتها وهي تثبت قدميها على الأرض تحتها وتنصب ما بيدها بعزيمة واصرار صوبي ...عقلي شعر أنها ستفعلها الا أن قلبي رفض التصديق ....لقد آمن بها وببراءتها....آمن بنقائها وحبها....أليس هو من خانني لأجلها؟!......ارتخت يداها وانزلتهما لتجعل ساقيّ مرمى لرصاصاتها ....فهززتُ رأسي يمنة ويسرة برفض وبنصف خطوة أمسكتها من الأمام أرفعها صوب قلبي الباكي حالي وحالها وهمست بشجى:
" إن أردتِ أن تضربي فاوجعي ....وإن أردتِ أن تطلقي رصاصة فاقتلي....اجعليها تخترق قلبي الذي دق كل دقة هيماناً بك......حينها ستتخلصين مني للأبد!...."

قلتُ ما عندي فحاولتْ ابعادها بتصميم لتوجهها الى ساقيّ وهمستْ بقوة مصطنعة بينما لم تستطع كبح دموعها التي تمردت بغزارة على وجنتيها رغماً عنها وقالت بصوت فضح زيف إقدامها:
" لن اقتلك قتلاً....سأجعلك تعيش بقهر لأنك لم تنهِ مهمتك بيدك!...المهمة التي لجأت وتشتتت وكبرت من أجلها....أكبر وأسمى مهمة في حياتك!.....سترضي بها غرورك وتنال مراتب سامية وإن كانت ظالمة.....سأحرمك منها كما تنوي حرماني من أبي !...."

كانت تقول كلماتها بينما أنا أشد البندقية لأثبتها على صدري وهي تنزلها بكل قوتها لتوجهها لساقيّ وبين الجذب والابعاد وبين الشدّ والاصرار من كلانا انطلقت الرصاصة لتحسم الأمر بيننا وتتخذ مكانها الذي قُدّر لها لتستقر به....دارت الدنيا بنا....صداها اخترق وجداننا ....افتقدنا حاسة الألم بل كل مشاعرنا وحواسنا....نظرت فاغرة فيها بذهول مرعوبة بينما بالكاد استجمعت أنا قواي لأهمس:
" لقد... قتلتِ... الهادي.... يا ألمى..!!.."

تناثرت الدماء لترسم لوحة على الحائط وعلى ستار النافذة من خلفي....اتسعت عيناها لرؤيتها نتيجة فعلتها ثم حرّكت حدقتيها لتقرأ نظرة الألم في عينيّ...سكت ضجيج الكون لنسمع دقة دقة من حوار قلبينا......لقد تحدّت خوفها حبيبتي كاسرة أصوات الماضي التي
طالما لاحقتها في نومها ويقظتها وأطلقت في النهاية رصاصة كراهيتها ليرن صدى صوتها الصاعق في بيتنا الجبليّ....!!

[[.....أهواكِ حينَ تضُمني الآهاتُ تحضنُني الجراااح
أهواكِ حينَ تناثرِ الأشلااااءِ والدمُّ... مُستباااح
أهواكِ حين تطااايُرِ الأرواح ترفَعها الرماااح
أهواكِ يااا شطري إذا لاقيتِنـــــي .......تنعى حياتي كلُّ راااح
هذا دمي ..الدفاقُ.. يرجوووكِ السماااح

^^^^^^
شيّعيني للخلووود..... وافرحي.. فأنا الشهيــــــد
ودّعيني فالرّدى..... في سبيلِ الله عيــــــــد
يا فؤادي في الغراام.. يا أحاسيس الهُيااام
إصبري في غربتي.. واستبشري بدمي السلااام

^^^^^^
يا حبيــبةُ ها أنا.. رحتُ أبحثُ عن هَنااا
اشتري قصرًا لناااا ..في جنانٍ لا تبيـــدْ
ذاكَ موطِنُنا البعيـــد.. فالحياةُ بلا حدوود
عيشُ مَن فيها رغيــد.. والسرورُ بها أكـــيد

^^^^^^
سيف الرّدى يبغي الغزاةْ... أنا قمتُ اثأر للحياةْ
أنا سِرتُ في دربِ الثباتْ.. لأدكَّ أعناقَ الطغاةْ
في الثرى يحلو الرُقاااد.. قمرٌ عافَ السهاااد
ثورةٌ ...والعزُّ زااد... والدماءُ هي المِدااد

^^^^^^
رُشّي من فوقي الزهور.. في الحواصلِ للقبوور
سوف أمرحُ كالطيوور.. في رياض الخالديـــن
دربُنا دربٌ طويــــل.. صبرُنا فينا أصيـــل
اننا لن نستقيـــل ... نصرُنا أو فــَ المنوون
نصرُنا أو فــَ المنوون...]]
(( كلمات المرابط محمود عياد))

قطع حوارنا الصامت انفتاح الباب بقوة جعلته يرتطم بالحائط ليزلزله فتظهر من خلفه مندفعة شقيقتي وقد اختفى لون بشرتها تحت طلقة الرعب التي سمعتها وزادت في اندفاعها لحظة وقوع نظراتها على الحائط والستار من خلفي اللذان تلوّنا بالأحمر القاتم نتيجة الغضب والتهور ولمّا وصلتني كانت ترتجف وشفتاها تصطكان ببعضهما وشرعت بتحسس وجنتيّ تتأمّلني وتتفحّصني ثم تنزل بيديها لكتفيّ وصدري وتجول بحدقتيها الممتلئة بالدموع على جسدي باحثة عن جرحي وتهمس بمشقة:
" أ...أخي...مـ..ما هذه الدماء ؟!.....هـ...هل أنت....بـ..خير...أخي؟؟!....هل أ...أصابك مكروه حبيبي ؟!....أين أُصبت؟!..."
وبعد حملة التفتيش التي قامت بها بينما كنتُ أتمتم أطمئنها بأنني بخير استحوذ عليها الغضب ولمعت عينيها بالغل لتستدير نصف استدارة للخلف حيث تقف زوجتي كالصنم بلا روح وقد جفت دماء عروقها وشحبت شحوب الموتى وكأن الطلقة أفاضت دماءها حتى آخر قطرة منه بينما كانت يداها ما زالتا متشبثتين بالبندقية من غير ادراك ورؤيتها اصبحت ضبابية من ثقل الجو العنيف بيننا لتستقبل هجوم (دنيا) عليها بعد استدارتها بالكامل وهي تسحب بكيد قاسي السلاح منها وتلقيه على السرير جانباً ثم دفعتها براحتيها من كتفيها بشدّة لترتد تلك خطوة للوراء بضعف تزامناً مع صرخة الغيرة على من يخصها:
" أيتها المجرمة !....هل حاولتِ قتل أخي أنا ؟!..."

وعلت نبرتها لتصبح جارحة أكثر بينما ما زالت تخطو وتتابع صفقاتها على كتفيّ (ألمى) لتدفعها للخلف مترنحة وتكمل كلامها:
" أتريدين حرماني من أخي وأبي الروحي كما حرمنا والدك من قبل أبانا ؟!!..."

غيوم سوداء احتلت سماءيها ومع الرعد الوحشيّ في قلبها هطلت الأمطار على خديها بمرارة وهي تجيب بصوت مرتعش تدافع عن نفسها وقد كانت مصدومة مما جنت ومرعوبة من الصوت الذي طالما فض مضجعها وحتى أنها لم تفكر بالدفاع عن والدها الذي لم تعفُ عنه (دنيا):
" أ...أنا...لم....أشأ...لم اشأ قتـ...له...."

وهزّت رأسها تنكر فعلتها وبكل براءة تهدم حصوني بها ناظرتني بنظرة استجداء بينما كانت تكرر حركة رأسها مردفة باختناق:
" أخـ..بِرها.....أخبرها....هـ..اد? ?....أنني... لا أريد قتلك!..."

لم تهتم شقيقتي لما تفوهت به وصرخت بحدّة وبغضاء:
" لم نرد أن نظلمك سابقاً بما فعله ابوكِ لنا الّا انك اثبتِ أن دماءه تجري في عروقك يا غدارة..."

وانتفضت كلتاهما بعدما وصلهما صوتي الهادر بوجع:
" دنيااااا...اصمتي واخرجي حالاً...."

ارتعدت اوصالها واستدارت إليّ والدموع تترقرق بعينيها وقالت:
" أخي!!....أنظر ماذا فعلت....كادت أن تودي بحياتك!....سنموت من بعدك أخي....لن أسمح لها ابداً.....لا أقدر على فراقك ...أنت تعلم هذا جيداً...سأتصل بسامي حالاً...."

بعينيّ المجمرتين من صدمتي بحبيبتي و من غيظي لما تفوهت به أختي هتفت بصرامة:
" قلت اخرجي دنيا ولا أريد أن أسمع أي كلمة بما يخص الموضوع لأيٍ كان لا سامي ولا غيره ...حتى أمي....وقد أعذر من أنذر ....لا داعي لتكرير كلامي ....إياك ثم إياكِ"

ثم رفعت صوتي مشيراً بحزم:
" هيا اخرجي واغلقي الباب خلفك!.."

طأطأت رأسها بأسى وحثت قدميها حثاً على الخروج ثم اغلقت الباب بهدوء أما أنا بكى خائني على التي تقف حيالي مهدودة بلا حراك...لقد بكى منها وعليها ...ألمى الروح.!!.....آلمتني بفعلتها معي وضاعفت آلامي بضعفها ونظراتها المتوسلة هذه اللحظة ....لقد عادت بطلقة رصاص سمائي التي أعشق هشاشتها وبراءتها ...تلك التي تحتاجني واحتاجها ....وددتُ بشدة احتضانها دون أن افلتها....كم رغبت بالتربيت على قلبها الخائف ومسح دموع عينيها الّا أن ما حصل كان القشة التي قسمت ظهر البعير لنحسم قراراتنا...فلم يعد بإمكاني منعها ولا استطيع احتجازها ونار الكراهية تزداد اتقاداً في احشائها ....!!....زلفتُ إليها بتمهّل من ثقل اوجاعي أمدّ يدي لها وكانت ترتجف خشية مني وتعود ببطء للخلف حتى كادت ترتطم بالباب....أتظن أنني سأؤذيها وأنا الذي بعمري أفديها ؟!.....وصلتها وأمسكت معصمها برفق واستدرتُ أجرّها نحو النافذة هامساً بنبرة كلها أسى:
" تعالي معي لا تخافي ..."

كدتُ أسمع قرع طبول الرهبة في قلبها وبالكاد وصلني صوتها المتحشرج المختنق:
" أ..أنا لم أرد هذا..."

أجبتها والأحزان والأشجان كالطوفان تغرقني وأنا أنظر الى ضحيتها وأصارع ألا تفلت دمعة مني :
" أعلم....أردتِ نثر دمائي أنا وليس هو !....لكن اطمئني ....نجحتِ بامتياز....فالله يعلم عن نزيف دماء قلبي في داخلي وإن لم تصل للخارج وهذا الأصعب.....ثقي أنكِ قتلتيني بمقتله فهو يمثلني....وأنتِ تدركين من يكون ....لقد أحضرتهما لكِ بكل حُب عسى أن تدعمي حبهما الذي لم نستطع أنا وإياك الوصول إليه.....اشتريتهما لأنك ذكرتِ لي هذا سابقاً وكذلك لأني أحب الطيور ورغبت أن يكونا نموذجاً يمثل الهادي وألمى الذي حلمت أن نكونه ....معاً دائماً وأبداً.....يجمعهما الحب تحت سقف واحد ولكن كما تتوقين في الواقع لفراقي ...فرّقتِ بينهما....قتلتِ الهادي عصفور الحُب...لا بد أنك ارتحت الآن."

حررتُ يدها والتصقتُ بالمنضدة العريضة المرتفعة أعدّل القفص الذي انقلب جانباً من قوة الطلقة التي هربت من تحت إبطي ونحن نتصارع لتصل إليه وكان مصبوغاً بدماء العصفور بينما العصفورة الأنثى تتخبط بالخوف داخله.....فتحتُ بابه وقبضتها بين يديّ ثم استدرتُ نحو التي كانت تصغي لكلامي وشلالات من الدموع تنهمر من عينيها وأردفت بنبرتي الأسية وأنا أرفعها صوب وجهها :
" اطلاقك للنار أثبت لي كم أنك تحملين كرهاً بقلبك تجاهي"

تنحنحت مردفاً:
" .....حسناً....ذهب العصفور هادي مدفوناً بدمائه ولا تستطيع ألمى أن تعيش وحدها بعد الآن....فهي متعلقة بهاديها ....اذاً فلنطلقها لتعانق الحرية علّها تبني حياة جديدة .....لا وجود لها في القفص من دون هادي....."

وأملتُ جذعي لأفتح بيدي النافذة بينما بالأخرى أمسك ألمى العصفورة فمسكتني وشدت ذراعي تحاول منعي بتردد دون همس نتيجة المكابرة التي لا تشبه المشاعر المتدفقة داخلها من عشق وندم...ترقب وضياع.....اصرار وحزن.....التفتّ بوجهي صوبها باسماً والألم يحرقني وقلت:
" هذا الصواب..."

واطلقتُ العصفورة ألمى لترفرف في الخارج تحلّق في سماء الحرية وبصمات دم هاديها ترسم على جناحيها ولم نكن نعلم إن كانت تحمل في احشائها ثمرات حبهما أم لا لتقاطع نظراتي الى الخارج هامسة بشجى:
" كيف اطلقتها ؟!...ربما ستبيض قريباً....لقد رأيتُ تزاوجهما..."

ومسحت دمعات بقايا من الشلال الذي اذرفته قبل قليل فاستدرتُ إليها منتصباً بوقفتي مجيباً:
" الذي خلقها يرعاها بعينه التي لا تنام سبحانه..."

وتابعتُ حديثي:
". أوهمتُ نفسي أنك ستلينين وتسامحين ....استجديتُ منك السماح رغم أن خطئي بحقك لا يعادل ذرة من خطأ والدك بحقنا.....لن أجبر أحداً لا يطيقني ولا يحبني للعيش معي.....سأترك لكِ حق القرار كما تشائين.....لن أكون أنانياً بعد أن دستِ على قلبي.....ربما ستخرجين من بيتي لنكتب كلمة النهاية لحياتي والبداية لحياتك......يوما ما ستدركين الحقائق وتتأكدي من صدق قولي ....حينها ستسامحينني.....لكن كوني على ثقة أنني من هذه اللحظة سامحتك فهذه فرصتي لتسمعيها مني لربما لن أكون فوق الارض يومها أو لن أكون لكِ ولا أريد أن تعيشي تحت وطأة الندم.....فذاك شعور قبيح لا يغفر للنفس....يدمي القلب ويزهق الروح..."

استمعت صاغرة وجبال الوجع تغرس اوتادها في صدرها فدنوتُ منها ومسكتُ يديها ثم انحنيتُ قليلاً أقبّل جبينها وبقيت أنفاسي تلفح وجهها وهمست بسؤال لم اكره أي سؤال مثله ولم ارغب يوماً أن اعيشه:
" أتريدين البقاء معي ونعيش حبنا بحلوه ومره أم تذهبين لتلك البلاد وتقطعين كل صلة كانت بيننا منذ اضاعتك للعقد حتى اللحظة لتكون هذه أخر مرة تختلط فيها أنفاسنا ؟؟!.....وأيّ القرارين لا رجوع عنه....فأنا لم اعد أتحمل المزيد من العذاب والخوف .!!..وأريد أن اعلم أي الطريقين سأسلك لأرسم خارطة حياتي..."
* من هادي لألمى*

أحببتكِ وفي قلبي حزن دفين
وعدت قلبي ألا يستكين
فداؤكِ أبي عمري ..وكلي حنين
كيف صارت روحي لك حارس أمين؟
انظر لسماء عينيكِ فأرى الجنان
منحتك حبي والوتين
فأنتِ ملاكي الزين
فهل عشقي لك ذنب رصين!؟
قاومت وقاومت جنون
خذلني قلبي فقلت.. آمين
عمري وحياتي لها كاملين
لم أبالي بثأر أو أنين
طفلتي البريئة أنتِ قبل السنين
هاتي رصاصتك بقلبي الحزين
لاجئاً كان لهالعينين
ثم جعلتِه شريداً بلا معين
فهل كل ذنبي أني أحببت من قلبٍ لا يرتجين!؟
(( كلمات الرائعة shezo ))

×
×
×

" أحبك..."

رغم الرعشة التي تلازم صوتها الّا أن هذه الكلمة خرجت من بين شفتيها كلحنٍ عذب أطرب قلبي.....كانت أعيننا في وصال وكأنه الوصال الأزليّ لحظة نطقها لها ومن بعد هذه الكلمة احتقنت مقلتاها بالدموع وكادت تبتلع شفتيها تجاهد الّا تخرج نبرتها الباكية الّا أن حركة صدرها ازدادت تسارعاً.....غضنتُ جبيني ناظراً لصدرها المنفعل والذي يزداد ضراوة بعد ان ساد الصمت للحظات بيننا ليرسم مسافة بين آخر ما نطقته وما سيليه....كدتُ افقد صوابي وانا منتظر صدور حكم اعدامي!!.....أعدتُ أرضي لوجهها......ومرةً أخرى جاهدت كي لا تبكي وهي تشدّ على شفتيها حتى كادت تدميهما!!....تهدّجت أنفاسها اضعافاً.....أسبلت أهدابها لتنزل الستار على سماءيها فحلّ الشتاء عليهما لحظة نزول قطرات ماء ماسية متلاحقة وهي على وضعها قبل أن تفتح ثغرها لتحرر لسانها الذي أقرّ متابعاً ومؤكداً:
" واختار أبي...!!.."

احتجزتُ صيحة قوية مفزعة داخلي وصداها رن في زوايا احشائي وانفطر قلبي وتحول لأشلاء من هول ما أصدر بحقه.!!...هذا حالي وهذا نصيبي.....لو تركتُ نفسي لنفسي لشلّت جوارحي وسقطتُ عند قدميها.....لكن لا وقت للانهيار ولا للبكاء كالأطفال!....بل عليّ أن استردّ قوتي واحافظ على رباطة جأشي...هذا الوقت الذي سأكابد لأظهر صلابتي واكبح جماح مشاعري...إنها افضل لحظة لاختبر بها صبري وأرفع معنوياتي....كلا!!... لن اقع ولن انهار....لن أستجدي شفقتها وعطفها....لن اسمح لدمعي بفضحي!!....سأبقى هادي الشامي رافع الهامة ومنصوب القامة....شامخٌ بعزّي مصرٌّ للمحافظة على ملامحي الأبية وكرامتي....فسحقاً للحب ولكل مُحب ولا سحقاً لكبريائي....ولا سحقاً لكبريائي!!....هذا أنا وسأبقى هكذا ولو كانت تمسك بيدها آخر أنفاسي!!....فتحت عينيها عندما لم تسمع كلمة ولم يصدر أي ردّ فعل مني!!...نظرت إليّ مبهمة!!.....وبكل برود قاتل رسمتُ ابتسامة على محيّاي وصدقاً لا ادري كيف نجحتُ برسمها ثم بهدوء اتقنته قلت:
" في آخر الليل جهّزي نفسك للرحيل...!!.."

ذُهلتْ من رؤية وجهي الآخر!!...أليس من المفترض أن أهب مستنكراً ومعترضاً ؟؟....أو أن اعاتبها عتاب العاشق الغارق بحبها ؟؟!....هي اختارت وانا سأرضى ....حاربتني بقسوتها فسأحاربها بليني ....لن ادعكِ يا ابنة عاصي أن تشمتي بعذابي ....أعدك كلما شعرتُ بفقداني للسيطرة على نيران الجحيم بداخلي سأخمدها بسهولة عند تذكري لاختيارك... لم ولن تعرفيني يا ألمتي...اقصد يا ألمى...فحتى ياء الملكية سأحذفها من دفتري!!...ربما ظنّت أنني وضعتها بين خيارين صعبين إما انا وحدي او هو وحده.!!...هي لا تعلم أنها لو اختارتني لكنتُ سأسمح لها بوصاله وزيارته بالسجن ولن امنعها عنه البتة.....فيبقى الوغد والدها وليس ابن محيي الدين من سيسمح بعدم برّها له!!....لكنها اصدرت حُكمها باقصائي من دنياها!!.....إذاً ليمضي كلٌّ منا حسب خارطة حياته!!......
بعد أن قلت جملتي استدرتُ بهدوء كاذب فلو كنت امتلك صفة الشفافية لرأت الأعاصير التي تدمر كل ذرة بجسدي!!...خطوة واحدة مشيتها بإباء فأوقفتني قائلة بصوت مهتز:
" هل أنت جاد؟!.."

نصف استدارة برأسي نظرتُ اليها من فوق كتفي ونفس رسمة الابتسامة حافظتُ عليها وأجبت بصوت جهوري:
" لم أكن جاداً من قبل مثل هذه اللحظة!!..."

لقد احترقتْ!!...أجل احترقتْ.... فلتحترق هي ووالدها كما احرقت قلبي!!...تريد أن ترى أوجاعي وتسمع أنين روحي لذا لجأت لسلاحها الذي تتخذه وقت الانفعال والغيظ وهو العناد او سلاطة اللسان هاتفة لستفزني:
" لمَ ليس الآن؟!...اريد ان اذهب حالاً!!....المكان هنا يخنقني ولا اطيقه بمن فيه.."

قالت جملتها وركّزت على ملامحي الظاهرة لها ...ترغب ان تستشف من خلف الملامح الألم ...او دمعة تخذلني....وحتى صوت مرتجف!!...وربما صرخة غضب!!......موتي بغيظك.!!...أجل موتي!.....سأضحك واضحك وسأعذّبك بضحكاتي.......أعلم متى ساترك سراح صرخاتي ومتى سأفيض الدمع انهاراً وكل آهاتي..!!.....استدرتُ اليها بالكامل بعد جملتها وأجبت متشبثاً بنفس الهيأة خاصتي:
"سيأتي في المساء ضيوف لزيارتي بشكل خاص!!....لا يمكنني تجاهلهم فهم من بلد آخر ولأنهم يهمّون زوج اختي اذاً يهمّونني!.."

في طريق العودة من الحدود هاتفني صديقي (سامي) ليخبرني أن صديقه الضابط (عبيدة) صمم على زيارتنا هو وعائلته ليقدّم شكره وعرفانه لي بعد انقاذنا لابنه (سند) في الماضي!! ...حينها أي منذ شهور قليلة لم يتسنّ له فعل ذلك لأني لم امكث هنا طويلاً...!!......بعد أن اجبتها عزمتُ لمتابعة طريقي لأجلب شيئاً انظّف به آثار الدماء على الحائط والستار لكنها لم تحصل على مبتغاها باجابتي الساكنة فاستطردت بلؤم ابتدعته ساخرة:
" لم تقل رأيك باختياري!!..."

اصدرتُ صوت ضحكة طفيفة وتوقفتُ مكاني لاستدير مجدداً إليها وأجبتُ بكل رضا مصطنع:
" احترم اختيارك بكل سرور....بالنهاية هو والدك وأنا لا شيء عندك!....هذا رأيي!"

وما إن التفتُ مجدداً صوب الباب لأكمل سيري حتى باغتتني بايقافي ممسكة ببلوزتي من الخلف بقبضتها لتوقفني ثم استدارت لتواجهني وتمسكني من تلابيبي تهزّني ووجهها متوهّج قهراً وحنقاً وتكزّ على أسنانها والعبرات تنتفض في حدقتيها صارخة:
" كاذب ...كاذب...أرني ألمك....أريد ان ارى عذابك.....انت قلت انني قتلتك!!...هيا انزف...لمَ انت هادئ؟؟؟...لا تكن بارداً وانفجر قهراً هيا..."

ثم افلتت تلابيبي وبدأت تضرب صدري بقبضتيها وتصرخ بنشيج بينما انا ثابتٌ بمظهري القاسي بعد ان اعدمت احساسي:
" قل شيئاً..."
".اخبرني أن قلبك يتمزق !.."
"..لا تدّعي رضاك باختياري..."
".هيا اصرخ....ابكِ كما ابكي....توجّع مع اوجاعي.. "

اغمضت عينيّ متنهداً بعمق ....استغفرتُ ربي وفتحتهما وكبّلتُ معصميها بقبضة واحدة لاوقفها عن ضربي والصقتها بي منحنياً بوجهي لوجهها ولهيب أنفاسي التي تخرج من آبار احتراقي تلفحها بينما أهمس بخفوت لاسع حد الهلاك:
" ماذا تريدين الآن مني؟؟!...قولي.."

بنبرة اكثر ارتفاعاً اردفت:
" سأحررك مني وأعيدك الى الجحيم !!...اعتقيني بحق الله...."

وبأنفاس لاهثة اضفت:
"دعيني وشأني ....حقاً كفى...ماذا تريدين؟؟ !!.."

حدقتاها تهتزان والدموع تغشاهما...ظلّت ناصتة ولمّا انهيتُ كلامي قالت بعكس ما تمنّت:
" طَـ.....طلقني!.."

بثقة ونفسٍ عزيزة اشهرتُ سبابتي هاتفاً:
" احفظي جيداً.....انا لم انكث وعدي....لم اتخلّ عنك بل انت من اخترتِ تركي...!!.."

بصوت يحمل كل الصمود في ثناياه تطرد فيه ضعفها وحبها المجروح هتفت:
" قلت لكَ يوماً...إن لم تعطني سبباً عظيماً لن اتركك....وأبي هو أعظم أسبابي!!..."

وأكملت بكبرياء انثى تحاول انقاذ ما تبقّى منها:
" لن تتنازل ولن اتنازل....المهمة بيننا.....اذاً الانفصال موعدنا!!.."

ما لك يا خائن تتلوى نازفاً وكأن خنجراً غرس بك ؟؟!...ألم تتوقع هذا الطلب وهذا الكلام؟؟....شيء بديهي أن تسمعه من واحدة تكرهك!!...هل ظننت انها سترتمي بحضنك وتتشبث بك؟؟..واهم....واهم جداً.!!.....نفضتُ يديها محررهما من قبضتي وانتصبتُ بقامتي ..رفعتُ زاوية فمي بابتسامة ساخرة وما كانت الّا سخرية على حالي وما جرى لي !!..ثم أجبتُ بهدوئي الذي اتخذته درعاً يحمي كبريائي:
"علمتُ انه سياتي هذا اليوم وأعلم أنك تكرهيني لدرجة أن تطلبي هذا الشيء.!!....لكني لستُ متفرغاً الآن لتلك الاجراءات ...لديّ ما هو أولى وعندما أرى أين المستقرّ....سأنفذ طلبك لاحقاً وأكلم المحامي ليتواصل معك !...الى هنا انتهى الكلام عندي..."

ربما لا نحتاج سبباً للحب لكن مؤكد نحتاج واحداً للكره!!....يدخل الحب قلوبنا من اوسع ابوابه دون شروط او قيود أما الكراهية تشق طريقها متسللة الينا ولو بهمسة ضعيفة تدفعها لذلك....وهي اغلقت ابواب الحب والأمل ولم تشق الطريق للكراهية شقاً انما اختارت حفر نفقاً عميقاً لتُثْبتها لي من أجل أبيها ....فما اقسى من طلبها الطلاق ليكون نموذجاً يجسّد كراهيتها تجاهي؟؟!....

×
×
×

تجمّعنا على مائدة الغداء المتأخر والذي يشاركنا به صديقي (سامي) لأول مرة !!...فهو بعد اصلاح ما بينه وبين زوجته مرّ مرّةً مرور الكرام ليسلّم على حماته والصغير والسبب تراكم الأعمال عليه في المركز....العاصمة والحدود....وبيتهما!....أجل يومان وسيزيّنانه بانفاسهما....لقد حرص على وضع عمال يقومون بكل شيء من نقل الجهاز والأثاث لترتيبه وتنظيفه للاقامة الأبدية فيه....هذا العش الذي حان الوقت ليضمهما بين زواياه ...!!...لقد كانت دنيانا تمضي معظم نهارها هذا الاسبوع في بيت حماها لتعيد أمجادها مثلما كانت ...الكنّة المدللة ...وفي الليل تأتي لتبيت في بيتنا تنتظر اللحظة التي ستجمعها بزوجها وبيتها الخاص!!....فبسبب وجودي ووجود زوجتي رفض صهري المكوث معنا!!....كان هذا الغداء مميزاً بنظرهم!! ...فالصورة الدافئة للعائلة قد اكتملت وخاصة بنظر والدتي ...اولادها حولها وصهرها وكنّتها !!....ماذا تريد أجمل من ذلك ؟؟!....انهم ما زالوا يجهلون قرارنا ومصير علاقتنا أما صديقي اعلمته قبل جلوسنا على الطاولة!!....لقد حضّرت والدتي على شرف هذا التجمع مائدة بها ما لذّ وطاب من الاطعمة المتنوعة لترضي كل الأذواق....أو كلا...لترضي كنتها فاقدة الشهية والتي لم تصل معها لحل بمسالة انعدام الرغبة بالطعام.!!....ها هي المائدة فيها المعكرونة التي تحب باللونين الابيض والاحمر....دجاج محمّر...لحم ضأن...و....سمك!!.....يا الهي!!....نسيتُ أن اخبر أمي بهذا....انها تكره رائحته وحتى سيرته!!...وبينما انا سارحٌ بمتاهاتي وكانت أمي تضع لكل منّا بطبقه ما يرغب بعد سؤاله صُعقتُ عندما ردّت على أمي بحياء تخفي خلفه ما عشنا ظهراً بغرفتي :
" سمك لو سمحتِ!!.."

اتسعت عيناي بصدمة!!....سمك؟!...لماذا؟!...هل قررت ان تغيّر اعداداتها نكاية بي وبنفسها !!....شردتُ اراقبها وظننتُ انها ستعبث بها وتتركها.....فأكملت صدمتي وهي تتناولها بشهية !!....أيعقل ذلك؟!....سبحان مغيّر الأحوال من حال الى حال!!....كنتُ أجلس على رأس الطاولة وعلى يميني (سامي) وعلى يساري (دنيا) وجوار سامي (شادي) ثم صديقته الجديدة (ألمى) وازاءها أمي جانب شقيقتي!!...وبينما انا اصارع افكاري ناظراً إليها باندهاش مال الغليظ نحوي ليعطي تعليقه السمج فهو يلتقي بها وجهاً لوجه اول مرة:
" هل أنت متأكد أن تلك الفراشة الرقيقة من ذاك البغل النجس؟؟!.."

بقدمي ركلته من تحت الطاولة بغل حتى تأوه فهتفت زوجته بقلق:
" ما بك سامي ؟!..أهناك شيء يؤلمك!!..؟.."

ضحك ضحكة صفراء وهو ينحني ليمسّد ساقه مكان الضربة وأجاب بغلاظة:
" كلا دنيتي!...اصطدمت رجلي بالطاولة!..."

وعاد ليميل نحوي هامساً بخفوت وساخراً:
" لا يبدو لي انك ستتركها في سبيلها كما اتفقتما!....عيناك هائمة بها والغيرة تنهش عظامك!....اعانك الله..."

" اسمعنا سكوتك!...فعلاً غليظ!.."

تابعنا طعامنا وبعد لحظات مدّ يده صغيرنا ليبدّل زجاجة المشروب الغازي الصغيرة الموجودة أمام الاشقر بأخرى بطعم البرتقال كانت موجودة أمام سموّ الملكة فاعترض هاتفاً:
" هيــه يا ضفدع....لمَ اخذت زجاجتي؟؟!.."

فتح الزجاجة ببرود وقدّمها لصديقته قائلاً بلا مبالاة:
" زوجة أخي تحب هذا النوع من المشروبات مع الطعام أما أنت تطحن الأخضر واليابس لا يهمّك شيء ..!!."

اشتعلت شقيقتي غيرة على زوجها وقالت بحنق:
" هيـه ايها الشبر ونصف....تكلّم مع زوج اختك باحترام!.."

اما صهرنا المبجل ضربه بيمناه على عنقه وقال:
" حسناً ايها الضفدع غداً ستتوسلني لأسمح لك بحمل سليمان ولكن نجوم السماء ستكون اقرب لك!.."

لقد اعتاد على لقبيه الشهيرين من الغليظ والضفدعة وقد ضاعت هيبته من اول يوم امام سمو الملكة لذا لم يعد يهتم...فلينعتوه كما شاؤوا....حافظ على ملامحه بارتخاء وقال بتفاخر واعتزاز:
" مبارك عليك ابنك !..اشبع به."

والتفت للجالسة على يمينه مبتسماً ومضيفاً:
" انا سأنتظر محيي الدين الصغير أو أمل لأحملهما ...ألمى ليست مثلكما انت وضفدعتك لئيمان فهي ستسمح لي.....أليس كذلك يا ألمى؟!.."

اكتفت بالافراج عن ابتسامة خجولة محرجة فهي لم تعلم ماذا تجيب ثم نظرت إليّ لتلتقي نظراتنا اول مرة اثناء تجمّعنا لنلتفت بعدها سوياً للتي قالت تنهره:
" عزيزي شادي....عليك مناداتها بزوجة أخي وليس ألمى حاف..!!.."

رد مستاءً:
" أنا وألمى اصبحنا اصدقاء ....لا داعي للرسميات المزعجة..."

ونظر إليها متابعاً مع غمزة وابتسامة:
" ألم يكن هذا اتفاقنا يا صديقتي ؟!.."

اومأت برأسها توافقه باسمة ولمعة الألم الذي تعيشه لم تفارق عينيها...!!

×
×
×

جاء المساء واستقبلنا ضيوفنا بكل كرم وجود....أجلسناهم في غرفة الضيوف الواسعة والتي يوجد بها طقمان كاملان من الارائك المخملية قديمة الطراز إنما محافظٌ عليها وكأنها جديدة! ..بنّية اللون ..تملؤها مخدات صغيرة ذهبية..!!....وتحت الطاولتين خاصتهما زرابيّ من الحرير بلون سكري مع نقشات بالبني والذهبي....وستائر النوافذ التي تتخذ الشكل الطولي كنوافذ القلعة مكسوّة بستائر سكرية من الشيفون وفي احدى الزاويا توجد منضدة مرتفعة من الخشب المحروق يوضع عليها مشغل الاسطوانات القديم ( فونوغراف) كتحفة ثمينة وعلى منضدة اخرى في الزاوية المقابلة هاتف أنتيكة وجانبه مجسم لسيارة قديمة الطراز وغيرها من التحف تتوزع في الارجاء والثريا تتدلى من منتصف السقف العالي بمصابيح صفراء خافتة وكأنها قناديل...وعلى الحائط الكبير اطار ضخم فيه خارطة الوطن الحبيب....عزّنا وفخرنا!!....وعلى جانبيه آخران صغيران يكتب عليهما الله جل جلاله ومحمد صلى الله عليه وسلم.....هذه الغرفة تتميز برائحة الماضي والزمن الجميل.!!...تشعرني بالدفء والحياة الساكنة بخلاف التصميمات العصرية الصاخبة..!!....في الحقيقة صممت وفق ذوق جدي رحمه الله فهو كان من الاشخاص المهتمين بهذه الأمور كثيراً...!!....
لقد جاء صديق صديقي الضابط (عبيدة) مع زوجته وابنيه وشقيقته من أبيه.....جلست النساء على طقم ونحن على الآخر بشكل شبه منفصل!.....لقد قامت أمي و(دنيا) باستقبالهما أما المدللة تركتُ حرية القرار لها فلم ترغب بالنزول فبقيت معتكفة في الغرفة تنتظر ساعة الخلاص من غريمها ..!!......كانت جلسة ممتعة للجميع الّا أنا كنتُ اتصنع الضحكات ....فبالي مشغول مع من اشغلته....وقلبي يحتضر ينتظر لحظة انتزاع الروح...!!....اعدّ الساعات لتشييعي !!...آه آه لا أحد يشعر بما أعاني ..!!....

×
×
×

تجوب الغرفة ذهاباً وجيئة بضجر....تنظر مرة على المنضدة الفارغة من قفص العصافير فيعتصرها الألم وتحجز غصة في صدرها!!....تستلقي مرة على السرير ومرة تقترب من المكتبة لتحاكي عيناها صورتي !!....وكل المرّات كانت تشعر بطعم المرارة في حلقها مما آل إليه حالها !!...كيف ؟...كيف يصل بها الحال لتعيش كل هذا دون ذنب يذكر؟؟!....لمَ الحياة كانت دوماً قاسية معها ؟!....قررت الخروج من الغرفة لتكسر الملل او تجد شيئاً ترفّه به عن نفسها وتمضي وقتها ولمّا اقتربت من السلالم بنية اختلاس النظر إلينا فضولاً شعرت بصوت آتٍ من غرفة (شادي)...اتجهت صوبها فوجدت الباب موارباً وهو يقف أمام مكتبته.!!...انفرجت أسارير وجهها....وجدت من يكسر مللها الّا أن قلبها لم يذق الفرح اطلاقاً!!....طرقت طرقة خفيفة على الباب....تنحنحت وهمست بنعومة ليلتفت إليها:
" أيمكنني الدخول؟!.."

في البداية كان متجهم الملامح ولكن لما وقع نظره عليها انشرح صدره وغمرته الفرحة مجيباً:
" طبعاً طبعاً....لا تسأليني!..."

اقتربت منه وغضنت جبينها تمعن النظر بالكتاب الذي يحمله بيده يقلّب صفحاته بعدما أعاد بصره إليه وهتفت بصوتها الحزين:
" ما هذا ؟!...ألم تكن في الأسفل مع ضيوفكم؟!؟؟"

أجاب ممتعضاً:
" أجل كنت!!....لكن سامحها الله أمي لمّا علمت أن شقيقة الضابط تدرُس آداب اللغة الانجليزية طلبت منها أن تشرح لي موضوع استصعبه في القواعد...كانت كأنها نزلت عليها من السماء وخاصة أن اليوم عند زيارتها لمدرستي شكت لها معلمتي عن هذا تحديداً..!!..."

ثم أضاف مبتسماً:
" على كل حال من حسن حظي أن شقيقته جميلة جداً والّا لتملّصت متحججاً بأي شيء...."

ضحكت ضحكة صفراء من الغيرة وقالت مازحة لتستفسر اكثر:
" ألهذه الدرجة ؟!...ما الجميل فيها ؟!.."

" لديها عينان خضراوان شبيهتان بعيون القطط..!!..."

اكفهرّ وجهها وتبدّلت ملامحها فتابعت بصوت مجروح:
" هل كنتم جميعكم تجلسون معاً.؟؟!.."

" أجل..!!....تركتُ أخي يشرح لهم انه سيقوم بنقل اوراقها الجامعية للجامعة في مدينتنا بمساعدة معارفه....فقد ترقّى شقيقها وجاءه قرار بالنقل للعمل هنا لذا سيأتون للاقامة في بلدنا وحتى انهم بدأوا بالاجراءات الرسمية..!!..."

أكلتها الغيرة وشحب وجهها اكثر ولاحظ هذا صغيرنا النبيه الذي فهم مكنون عقلها وقلبها فقلب أقواله في الحال قائلاً:
" صحيح لديها عيون القطط....لكن تبقى عيناك هما الأجمل ما شاء الله ...فيهما سحر خاص.!!....لا بد أن أخي يحب عينيك ولا يرى غيرهما!....ألم يقل لكِ هذا ؟!....ثم أنه لم يلتفت اطلاقاً صوبها بل غض بصره!....لا تقلقي!!..."

رفرف قلبها من غزله البريء وكان كأنه أعاد لها امجادها بتذكيرها بالميزة التي تمتلكها واطمأنت لمّا برّأني امامها لكنها ادّعت عدم الاهتمام واثقة بنفسها ودنت منه تمسك الكتاب منحنية قليلاً وكاد رأسها يلتصق برأسه وكانت كأن روحها رُدّت إليها فهتفت بحماس:
"لن أهتم لأمرها.... اصلاً لا تستغرب ان تكون عيناها عدسات لاصقة !!...لا تصدق يا صديقي كل ما تراه ثم لمَ لم تقل لي عن هذا سابقاً ؟