📌 روايات متفرقة

رواية لاجئ في سمائها الفصل الرابع 4 بقلم الحان الربيع

رواية لاجئ في سمائها الفصل الرابع 4 بقلم الحان الربيع

رواية لاجئ في سمائها الفصل الرابع 4 هى رواية من اجمل الروايات الرومانسية السعودية رواية لاجئ في سمائها الفصل الرابع 4 صدر لاول مرة على موقع التواصل الاجتماعى فيسبوك رواية لاجئ في سمائها الفصل الرابع 4 حقق تفاعل كبير على الفيسبوك لذلك سنعرض لكم رواية لاجئ في سمائها الفصل الرابع 4

رواية لاجئ في سمائها بقلم الحان الربيع

رواية لاجئ في سمائها الفصل الرابع 4

*من ألمى إلى هادي*

لمن أشكي من بعدك يا حبيبي همي؟!
و أتلو له فاجعات غمي...
و قد كنت أنت قاتلي و معذبي..!!
فكيف يصير الأمان خوفا؟!!
و الحب حربا..
أينقلب الحنان إلى جفاء؟!
و يحتضر وحيداً الوفاء؟!
كيف تكون داءً بعد ما كنت دواء؟!
كيف يصير حبك علة و قد كان هو الشفاء؟!
أتبخل الشمس يوما بنورها عن السماء؟!
و تهاجر النجوم بحار الفضاء؟!
قلي كيف سأصبر هذه المرة؟!
و قد كنت صبري في كل مرة...
قبلك كان لي وطن كان لي حلم...
و لما أتيت صرت وطني و صرت لي الحلم...
فكيف يا معذبي أتجرع من يديك ويلات الظلم؟!
كيف أتألم منك فيهفو قلبي إليك؟!
كيف تمزق روحي فتخونني لتدافع عليك؟!
ليتك تدري يا حبيبي أنني بحاجتك و كل ما سواه لا معقول...
ليتك لا تصدق أبدا ما أقول...
و لا ترضى بأي من تلك الحلول...
فما من حقيقة في الكون غير أني أحبك...
فلتنهار بعدها كل الوعود لأظل أنا بقربك...
تعبت يا عذاب قلبي فهل تحنو علي؟!
أرهقت أيها الغالي فهل تأتي إلي؟!
(( كلمات أميرة المشاعر نورهان الشاعر))

×
×
×

" ليس هكذا تنال منه!!.....سنحتاجه ليعترف بجرائمه ومن يكونوا أعوانه.....فالمخفي أعظم!!......هو الآن بقبضتنا.......ستدمر كل شيء بغضبك الذي لم تعد تتحكّم به....!!..."

صرخ بها بعد أن فعلَ فعلته.....!!

أتلومونني على غضبي ؟!!....بربكم!....ألا أثور وأغضب بعدما سمعت ما سمعت منه ورأيت ما رأيت....ذاك أبي الحنون !!.. لا تعلمون ماذا يعني هذا عندي!....أبي...من كان لنا الأمان والبيت الدافئ...الحب والحنان...السند ورمز البلد!!..متى يلام الابن في حب والده ؟؟!...هل أقف صاغراً وأنا أتوجع مع أنينه ؟؟!...أأصبر وانا اشاهد تدفق دمائه الطاهرة؟!... هذا النجس سلب مني حياتي بقتله لأبي وكان السبب بخروج روحي مني.....ألمى الروح..!!...هو السبب في شتاتي وعذابي وجرائمه التي لا تعد ولا تحصى بحق الوطن والبشرية...أأنساها له ؟؟!!.... صفحته مليئة وسوداء كسواد قلبه!!....لا نجد نقطة بيضاء واحدة فيها !!......فأمثاله لا يستحقون الّا أبشع ميتة لتشفي غليل ما في الصدور..!!!

أفلتُّ المسدس من يدي حتى سقط ارضاً وأمسكتُ بها ذراعي الأيسر الغارق بالأحمر بعدما اضطر السيد (ماجد) إطلاق رصاصته عليّ مجبراً من مكانه بعيداً عني قرب الباب ليوقف تهوري وهو يرى الوغد كاد أن يلقط أنفاسه الأخيرة بقبضتي !!.....لقد حاولوا كل المحاولات في ايقافي لكني أبيتُ الخنوع!!.....احمرّ وجهي والذي أصبح كأنه مرآة لدمائي الحامية التي اريقت مني!!....صرختُ بألم وكان هذا ألماً من قلبي وليس من ذراعي...فجروحي الداخلية أشد وأعمق :
" سأنال منه...سأسحقه...سأحرقه وأعذبه!!..."

اقترب مني صديقي (سامي) وامسكني حتى أجلسني على كرسي قريبة منا ريثما يصل الاسعاف من مقرّنا القريب بعد أن اعلموهم بشكل عاجل كي يأتوا ويخرجوا الرصاصة ويضمدوا جرحي النازف من عضلي...آآآه يا ذراعي الأيسر الى متى ستتحمل اصابات بسببه ؟؟!..... وكان البعض يهتمون بالوغد ويساعدونه على اعادة تنظيم أنفاسه حتى يأتي طبيبنا مع الإسعاف ..!!...قاموا بنقله من أمامي للغرفة الأخرى عند وصول الفريق الطبي فهم ما زالوا يلاحظون ثورتي وأنفاسي اللاهثة ونظراتي الكارهة القاتلة له مما أدّى لنزف دمائي الحامية بشكل أسرع..!!....ذهب صديقي والسيد(ماجد) للاطمئنان عليه ...بالطبع ليس عطفاً!!...انشغلا ممرضان بي لإخراج الرصاصة والسيطرة على الدم بينما كنتُ أكمش ملامحي وأضيّق عينيّ مجاهداً على دفن وجعي داخلي دون اخراج أي أنّه ..!!...بعد قليل عاد صديقي وكان الممرض يضع لمساته الأخيرة ليثبّت الضماد ....دنا مني وهمس بصوته القلق عليّ:
" كيف أصبحت الآن؟!.."

قلت باقتضاب وأنا أمسك ذراعي المصاب فور انتهاء الممرض ناظراً للضماد ووجهي يبدو عليه علامات الألم :
" جيد!....لا مشكلة!.."

وضع كفه على كتفي الأيمن يشدّ عليه ليبث لي الطمأنينة ويشد أزري مردفاً بلطف:
" سنذهب الى المشفى....حمداً لله أنهم نجحوا بإخراجها دون ضرر كبير ولكن علينا الاطمئنان على الجرح خشية أن يلتهب ويحدث مضاعفات لا قدّر الله...."

قلت بإصرار وضيق مما آل إليه حالي:
" اجلب الطبيب فور انتهائه من الحقير ليطمئن عليه.....لا أريد الارتباط بالمشافي!..."

هزّ رأسه مستاءً من عنادي واتجه الى احد الرجال في الخارج ليعلم الطبيب!!.....بعد انتهائه من معالجة الوغد والذي كان كالقطة بسبعة أرواح ولم يتأذّى قدِمَ إليّ وتفحّص الجرح...عقّمه من جديد ولفّه بضماد أقوى ثم علّقها على عنقي منعاً من تحريكها تفادياً لحدوث نزيف!!.......

مرّت ساعتان على الحادثة...!....كنتُ أقف في الخارج استنشق بعض الهواء النقي فاقترب مني السيد(ماجد) ووضع يده على كتفي هامساً بهدوء وثقة:
" أنت اجبرتني على فعلها يا هادي....هذا آخر شيء كنت سأفكر به!!....لمَ جعلتني أن اؤذيك ؟!....أربعة رجال لم يستطيعوا تحريره من قبضتك..!!"

بقي نظري مثبتاً للأمام بعزّ وإباء سارحاً بالأرض الخالية المظلمة والتُي يكسر ظلامها بصيص من نور القمر المحتجب خلف غيمة تسير ببطء ثم همستُ ببرود دون الالتفات إليه:
" غير مهم!!....حصل ما حصل!..."

قال بصوت متزن:
" سننطلق بعد نصف ساعة الى الحدود وهناك عند باب النفق على أرض الوطن سيكون بانتظارنا فريق من معسكرنا المقابل لنقله مكبّلاً...وكذلك صحافتنا الخاصة..."

أشحتُ رأسي جانباً أخفضه للأرض بمرارة واستدرتُ بجسدي لأعود للداخل هامساً بإيجاز:
" ممتاز!.."

تنحنح وقال وهو يتبعني للداخل:
" بالنسبة لإعلام عائلته أو نشر الخبر بصورة عامة لن يكون اليوم حتى نتأكد من وجوده خلف القضبان!..."

توقفتُ واستدرتُ نحوه بجديّة وشماتة:
" بقي ثلاث ساعات للفجر.... سيكون الخبر بين يدي السيدة ايمان عند حلوله بإذن الله.....وقبل الظهيرة ستفجر قنبلتها !....لن يؤجل أي شيء!..."

اعترض قائلاً:
" لا اظن أن سليم سيوافق.."

بثقة وشموخ ونبرة آمرة مسيطرة قلت:
" المهمة مهمتي وأنا أقرر.....سينتشر الخبر قبل الظهر....اريد ان يستيقظوا النيام عليه!!....انتهى!!..."

ولم يكُن في بالي غيرها....الأميرة المدللة النائمة!...فلتريني كيف ستتثبت براءته !...فأنا متشوق لذلك!....رمت حبي وكأنه لم يكُن يوماً من أجل مجرم وخائن وأنا الذي اضعتُ عمري محترقاً بعينيها...!!...هيا يا مدللة ......قومي وحاربي!.....برّئي من لم يمتّ للبراءة بصلة!....اتحفيني بشجاعتك !!....أتقدرين اثبات أنني الظالم بينما لا سواكِ ظالمة ؟؟!...يا من ظلمتِ حبي!!....اشكوكِ لمن وأنتِ السلطانة على قلبي.؟!...أنتِ الحاكم والجلّاد لروحي.....قومي وتحدّيني بأدلة من سراب..!!.....تعالي وواجهيني يا مستبدّة..!!...على الرحبِ والسعة.....سأكون بانتظارك.....!!

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

تركض في الخلاء ...تتعثر وتنهض .....أنفاسها تتعاقب...تلهث ....وتلهث....جبينها يتصبب عرقاً....تشدّ عينيها بألم....هناك مجهول يلاحقها في الظلام.....تبصر قبساً من نورٍ بعيـــد المدى...تزيد خطواتها الّا أن ذاك النور يبتعد عنها......شهقت بعد أن أمسك بها فهبّت من سريرها مرة أخرى تضع يدها على عنقها بعد أن أحست بشيء يخنقها ويقطع نفسها ....ازدردت ريقها وتنهدت بعمق !!...أضغاث أحلام!!....تذكّرت ما علّمتها إياه بشأن أمثال هذه الكوابيس المزعجة.!!.....تبسّمت بأسى واستعاذت بالله من الشيطان الرجيم وتفلت على يسارها ثلاثاً.......نبض قلبها نبضة حب وحنين والحاجة للأمان.....أزاحت الغطاء عنها....أشعلت نور الأباجورة الموضوعة على المنضدة جانب سريرها.... جرّت قدميها الحافيتين جرّاً دون اكتراث ببرودة الأرض إلى أن وصلت أريكتها لتتناول عنها حقيبتها التي أخذتها معها من بيتنا !!..فتحتها وبحثت بعشوائية عن مُرادها.....أخرجتها ولمعت عينيها بالطمأنينة بعدما استشعرت تأثير حضن صاحب الصورة عليها والتي سرقتها عن مكتبتي !!...ضمّتها لصدرها وعادت إلى مكانها تستلقي جانباً ونسيت أن تغطي بدنها ....أي سحر دافئ غلّفها ؟؟!....لا تشعر بالبرد اطلاقاً....سرحت بالفراغ لتستحضر شعورها بتركيز أكبر عندما تكون بين أحضاني وجسدها العاري البارد يلتصق بجسدي الحامي المتأثر من قربها !!...شقت ثغرها بابتسامة ناعسة نقية ثم حاولت النوم بأريحية بعد أن استمدّت الوصال والسلام من صورة تحمل روحاً وهمية وقبل أن تغفو عاد لها العقل ليذكّرها بصاحبها فعبست مخذولة ومدّت يدها التي تحملها الى المنضدة جانبها لتبعدها عنها....قلبتها واستدارت الى الجهة الأخرى واحتقنت مقلتيها بدموع قلة الحيلة وهمست بتحشرج:
" سأقاوم حبي كي لا احتاجك يا من كنتَ الأغلى عندي.."

~~~~~~~~~~~~~~~~

استعذتُ بالله من الشيطان الرجيم ثم استجمعتُ قواي قبل دخولي الغرفة المجاورة التي يتواجد بها الوغد وقسم من رجالنا يحاوطونه وكان (سامي) يراقب هاتفه بين الفينة والأخرى ينتظر الأمر بالتحرك ممن يتواجدون على ضفة النفق الاخرى في ارض الوطن وعندما أصبحت أمام النجس رمقني بعينين تفيضان حقداً وقال بسخرية:
" لم اكن أعلم أنني زوجتُ ابنتي لثعلب خبيث..."

وتابع بعنجهية:
" أيا ترى عرفت حقيقتك تلك الساذجة أم أنك فعلتَ كل هذا وهي نائمة بأحلامها الوردية بحماقة؟!.."

دنوتُ منه بعظمة وخيلاء راسماً ابتسامة شماتة وافتخار:
" أجل عرفت !!....بما يهمك الأمر الآن؟!.."

انقلبت سحنته بانفعال مكفهرّاً وقال بتلقائية دون التحكم بأنانيته:
" ناكرة الجميل السافلة عرفت ولم تحذرني ؟!...سأريها!!.."

درتُ حوله ثم ثبتّ مكاني من خلفه وأنا محافظاً على ملامحي بينما نيران الغيرة عليها استعرت داخلي وانحنيتُ ممسكاً بقبضة يمناي كتفه وبغلّ وكراهية ضغطتُ حتى كدتُ اسحق عظامه دون أن اشعر من حولي بقوة ضغطتي وهمستُ بفحيح بأذنه:
" احفظ لسانك عنها أيها ألـ***.....صدقني لا تود أن تجرب غيرتي عليها.."
ضحك ضحكة مستفزة بغطرسة وقال بيني وبينه:
" سأطلقها منك ولن ترى شعرة منها ....أساساً لن اتعب نفسي فأكيد هي من ستلقي بكَ كالكلب خارج حياتها.....ابنتي واعرفها!!.....أميرة والدها لن تبيعني بتاتاً مهما فعلت او سأفعل بها وأنت خير شاهد بالماضي يا ......"

ورفع نظره إليّ بتحدي وسخرية:
" صحيح ماذا أناديك....ابن ابراهيم أم ابن محيي الدين ؟!.."

" اعتزّ بكلاهما يا نذل لكن أنت لن تجد من يذكُرك يا قليل الأصل......حتى ابنتك سيأتي يوماً وتعرف حقيقتك السوداء وستخجل أن تُنسب اليك !!..."

كنتُ أحاوره وأنا أعلو قمة الكراهية والحقد لكن من أمامي لا يرضى بالخنوع والاستسلام .....يفضّل الموت مهما أحبّ الحياة على أن يرضخ ويظهر ضعفه ....المكابرة من أكبر سماته والتي يعززها بحقده وتعاليه اتجاه الآخرين فقال بدمٍ بارد :
" اظن انك لا تنتمي لمحيي الدين!!....فهو لم يلجأ يوماً الى أبخس وأدنى الطرق لانجاح مهماته...."

ورفع كتفيه بزهوّ وتعاظم قائلاً بثقة:
" عليّ أن اعترف بهذا....لقد كان ذكياً ونزيهاً وشجاعاً ووقف في طريقي وجهاً لوجه دون استخدام اساليب عوجاء وخادعة مثلك!....أنت مسكين اعتمدت على فتاة لا ذنب لها ....!!.."
حاول أن يدعس على عرق النخوة والرجولة عندي وهو يطلق ضحكاته الكريهة وحاولتُ امساك نفسي والثبات رغم نجاحه باستفزازي داخلياً بسببها وقلت بابتسامة زائفة:
" مع الأسف ذنبها أنها تحمل على هويتها اسم احقر وانجس مخلوق على وجه الأرض...!.."

وقف (سامي) ليخوض الحديث معنا ودنا منه واثقاً بنفسه ثم انحنى يتكئ بكفيه على ذراعيّ كرسي الوغد ليواجهه ببرود:
" ألم تسمع بالمقولة التي تقول وداوها بالتي كانت هي الداء؟!.."

وانتصب بوقفته مردفاً بذات البرود:
" يعني أمثالك داءهم الغدر...المكر.. ...الطرق الدنيئة والنفوذ والجبروت فكان علينا معالجتك بنفس اسلوبك بالضبط والحرب خدعة وانت وقعت بالفخ بعد سنين من الانتظار الحمد لله ..."

ابتلع ريقه وقال بصوت فيه نبرة مطعونة لم تخفَ علينا وركّز عيناه على عينيّ :
" طبعا لا تحتاج المسألة لذكاء لأدرك أنك اخذت كل هذا من خزنتي في العاصمة!!..اي شريحة آلة التصوير وتقارير الجثة ....لكن السؤال ....كيف علمت بشأن الجثة وبالرقم السري؟!....فالخزنة لم يكن عليها أي أثر لاقتحام غريب!!..."

ضحكتُ بثقة وهتفت دون النظر اليه:
" الله يمهل ولا يهمل......السيدة فاتن شاهدة على فعلتك الاجرامية تلك!...وجاء الوقت لكشفها وهي من ساعدتنا على الرقم السري وأتمنى أن يرزقها الله السلامة حتى تحتفل بك وانت خلف القضبان أيها الخسيس!!...فهي أكثر من تستحق رؤية هذه الصورة!.."

استشاط غضباً وصك على اسنانه مزمجراً بحقد:
" العاهرة الحقيرة...فلتذهب الى الجحيم بمرضها ولا تهنأ بعافيتها !!.."

لم اتحمل دعائه عليها فاندفعتُ بخطوة واسعة من غير سيطرة على نفسي ثم لكمته على أنفه بيدي السليمة حتى صرخ متأوهاً ووضع يده مكان الضربة يحاول مسح قطرات الدم التي نزلت وقال وهو يبصق جانباً لعابه:
" سأنال منها تلك الخبيثة....لقد كنت اطعم أفعى في بيتي!..."

تدخّل السيد(ماجد) مقاطعاً لحديثنا بعد سماعه جملته الأخيرة لحظة دخوله من الباب:
" فكر كيف ستنقذ نفسك من حبل المشنقة أيها المعتوه!!.."

أجاب من فوره بعنجهية وضحكة ثعلبية:
" لا تقلق.....سأخرج منها مثل الشعرة من العجينة!....لن اعترف بشيء حتى صوتي بالشريحة لا يتطابق تماماً مع صوتي الآن بسبب قِدَمها وسأقول أن احدهم افترى عليّ وطبعا سيكون في ظهري أكبر المحامين.."

ضحك السيد (ماجد) وقال:
" حسناً احلم كما تشاء فالحلم لا يوجد عليه جمرك..."

والتفت صوبي انا و(سامي) قائلاً بجدية:
" هيا السيارة جاهزة.."

اعطينا الاشارة لاثنين من عناصرنا لتكبيله بحبل متين ووضع لاصقاً على فمه وغمّ عيناه بالقماش الأسود وأركبناه مرغماً وسط مقاومته البائسة لتحرير نفسه حتى وصلنا الى الحدود والنفق ثم أرض الوطن....!!

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

استيقظت من النوم وكانت الساعة الحادية عشر ظهراً.....أنزلت ساقيها عن السرير تضع قدميها أرضاً ولم تستطع النهوض بالكامل...مرهقة جداً!! ....وضعت يديها على رأسها تشد عليه من شدة شعورها بثقله عليها...غضنت جبينها متأوهة وجاهدت لتقف مكانها وما إن ثبتت منتصبة على قدميها حتى عادت وارخت جسدها لتسقط مجدداً جالسة على السرير بوهن.....نامت وقت كافي بعد الكوابيس الّا أنها تشعر بحاجتها للنوم أكثر!!.....انزعجت من نفسها لمَ اصبحت هكذا؟! فقد كانت تكفيها الست ساعات وهذه الليلة نامت اربع ساعات اضافية عن المعتاد وجسدها يطمع بالمزيد.....ومعدتها لم تعد تحتمل الجوع....انها منذ أيام لا تأكل بشكل كافي بسبب توعكها البغيض وهذا الجوع يزيدها ألماً وغثياناً.....شجّعت نفسها مرة أخرى لتقف وقامت بترتيب منامتها الخفيفة التي كانت تكشف عن فخذيها بسبب جلوسها ومشت بتثاقل تتثاءب برخاوة ...وفجأة شدت جسدها بتأهب وعينان جاحظتان بعد أن اخترق مسامعها صرخة آتية من الأسفل صدحت في الأرجاء!....لم تعطي لنفسها مهلة لتستوعب بل انقضت على الباب تفتحه بهمّة حافية القدمين فلم تعي انتعال خفيها....نزلت السلالم على عجلة بقفزات سريعة تختصر عدد الدرجات رغم صداعها وشعورها بالدوار حتى وصلت آخره وتوقفت ناظرة للذي يحمل صحيفة بيده يلوّح بها بغيظ ومن صدرت منها الصيحة تجثو على ركبتيها متسمّرة في ارضها دون تصديق لما حدث..!!....اقتربت بحذر وارتباك تهيء نفسها لكارثة هي أكثر من تفقهها فأخرجت صوت أبح ضعيف جاهدت ليصلهما:
" مـ...ماذا جرى كرم ؟!.....ما بها الخالة سوزي؟!...."

رفع يده يمد الجريدة نحوها ووجهه لا يبشر بالخير هاتفاً:
" تم القبض على والدك في أرض الوطن بتهم عديدة لم يذكروا تفاصيلها.....انظري للصورة......لقد التقطوها له الثوار على الحدود!..."

مدت كلتا يداها المرتجفتين وكأنها عجوز في التسعين من عمرها لا تقوى على حمل ورقة.....أخذتها كارهة هذه اللحظة التي ستشوه عيناها بذاك المنظر الذي تخشاه لوالدها والذي تمنت حتى آخر العمر أن لا يتحقق!!....بسطت الجريدة المطوية ليقع نظرها على صورة تحتل نصف الصفحة لاشخاص بوضع جانبي قليلاً ومعالم وجوههم مظللة لاخفاء هوياتهم وأجسادهم واضحة ولم يفتها جسد والدها ولباسه وهو مكبّل يتوسط رجلان ضخمان...احدهما يمسكه من ذراعه ليدفعه للسير وهو صديقي والآخر ذراعه معلّق بعنقه ولن تحتاج لأدلة لتتأكد من هويتي فلقد عرفتني ايضاً من وقفتي وجسدي وملابسي ولم تهتم لإصابتي بقدر اهتمامها لمن أصبح أسيراً بقبضاتنا!!.....كانت تحدّق بالجريدة الراقصة بين يديها اثر ارتجافها وكانت الدموع تهرول ساقطة لتبلل الصورة المشؤومة عسى أن تمسحها من أمامها ولكن وا أسفاه من سيمسحها لها من ذاكرتها ؟!....
تمتمت بهمس ينبئ عن احتضار قوتها لتعلن جملة النهاية في حياتها بعد أن دفنت آخر أحلامها:
" لقد فعلها ...كما قال... دون ان ينتظر ....ودون أن يرحمني !..."

ركّز سمعه وبصره وجلّ حواسه لما قالت ورفع حاجبه سائلاً:
" من هذا الذي فعلها ؟!.."

رفعت حدقتيها ترمقه بنظرات لا معنى لها بينما الدموع ما زالت تتدفق دون سيطرة منها وهمست والغصات تعيق أنفاسها:
" يامن.....يامن من فعلها ....ظننتُ أن سيرق قلبه ولن يفعلها بي....لكـ....لكنه ها هو فعلها!...هو من خطط للقبض على أبي"

استعادت قوتها المسمومة واستقامت واقفة لتنقضّ هائجة مندفعة نحوها لسماعها جملتها ثم امسكتها من تلابيب منامتها وهزّتها بقوة صارخة في وجهها دون رحمة:
" أيتها الفاجرة الخائنة....هل تكتّمتِ عمّا عرفتِ وساعدتيه ضد والدك ؟!..."

بكت بكاءً يحمل كل المرارة وعلا نشيجها دون أن تتمكن من الدفاع عن نفسها فسحبتها تلك نحو الباب لتطردها وهي تغرز اصابعها بين طيات شلالها الاسود لتمسكها منه والذي طالما كرهته بينما كان يعلو اكثر نحيبها مع محاولاتها بتحرير نفسها منها وهي تتلوى ألماً وتتوسل فالأفعى تمتلك جسداً ببنية أقوى وما يزيدها قوة هو كيدها وحقدها عليها :
" ارجوكِ ....ارجوك خالة اتركيني إنك تؤلميني..!!.."

تقدّم ابنها منها ومسكها محاولاً ابعادها عنها قائلاً:
" لنفهم اولاً القصة...!.."

صرخت برفض:
" ماذا سنفهم من سافلة باعت والدها لزوجها ؟!.."

ثم اطلقت ضحكة شيطانية بشماتة متابعة:
" وها هو زوجها ألقى بها كالكلبة بعد أن أخذ حاجته منها..."

واكملت بسحبها بحركات عنيفة تصمم على اخراجها فصرخت أخيرا بها:
" أنا لم أبع أبي ....لم أبعه وسأسعى لتبرئته!..."

استطاع (كرم) تحريرها من قبضة والدته التي قالت بسخرية:
" عن أي تبرئة يا غبية تتحدثين؟!...لا بد أن لديهم أدلة ترسل والدك للجحيم!..."

صرخت بغيرة:
" اصمتي....كل ما لديهم مزيف ليوقعوه هؤلاء الانذال!!.."

ردت الأخرى صارخة :
" اذهبي الى جهنم لتبرئته ...لم يعد لك مكان هنا بيننا!.....هيا اخرجي..!!."

قالت بقهر:
" لن تستطيعي طردي من بيت والدي !.."

ردت بغطرسة:
" لا شيء لكِ يا وقحة بعد أن تزوجت وأصبحت تحملين اسم عائلة أخرى!..."

لقد ظنت أن القصر عاد لعصمة زوجها الخائن كما ادّعى امامها ذات يوم ليحافظ على كبريائه المزيّف.....!!

هدرَ بهما هاتفاً بصلابة:
" كفى!!.....على أي أساس تتقاسمان الورثة؟!....هل تظنان أنها ستبقى لكما؟؟!.....خلال ساعات ستتجمد كافة حساباته بالمصارف وبما فيهن الخارجية وستصادر أملاكه جميعها سواء شركات او بيوت!.."

ونظر إلى (ألمى) متابعاً:
" ألم تقرئي السطر الأخير أن مسؤولون ذوي مناصب مرموقة في بلاد الأم طلبوا من هذه البلاد مصادرة اوراقه وملفاته من أجل التحقيق وكذلك تجميد حساباته؟؟!...يعني سيصبح كل شيء هباءً منثورا.....!..."

هزّت رأسها برفض وهي تشدّ على شفتيها المرتجفتين انفعالاً وأرسلت دموعاً صامتة لتتلألأ على وجنتيها فوجّه كلامه لوالدته:
" أمي....وضّبي اغراضنا.....يجب الرحيل فوراً قبل أخذ كل شيء منا!!..."

سألت بصدمة:
" ماذا سنفعل واين سنذهب؟!.."

قال:
" سأحجز الآن حجز فوري على الشبكة العنكبوتية قبل تجميد الحسابات لأقرب طائرة تأخذنا إلى أخوالي وجدي في هولندا... لقد عادت شبكة الاتصالات والعنكبوتية للعمل في الصباح....وهناك نتدبر أمورنا..!"

سألت مستنكرة:
" وجامعتك؟!.."

رد بلا مبالاة:
" أي جامعة أمي ؟!...تعلمين أنني لا اهتم بها والآن حريتنا هي الأولى قبل أن نغدو على الرصيف !!.."

توسعت عيناها مرعوبة وهتفت بريب:
" وأنا؟!....ماذا سأفعل؟!.."

" اذهبي وتوسلي ابن الهاشمي ليأويك في بيته ولا تنسي دموع التماسيح للتأثير عليه ...."

ورمقتها بنظرة من أسفلها إلى أعلاها متابعة بفحيح خافت:
" أو استخدمي دلعك وجمالك الذي تتباهين به.....أم أنه اكتفى وسيبحث عن غيرك؟!.."

قالتها بسخرية وهي تتطلع عليها ثم اشاحت نظرها لابنها مردفة:
" وكأننا نحن مجبرون بها!........هيا بنيّ احجز كما قلت وانا سأذهب لأرتب حقيبتي وحقيبتك واخرج المجوهرات ..!!.."

ولمّا صعدا الى الأعلى غائبان عن انظارها جلست بقلة حيلة على درجة السلم تمسك عاموده الخشبيّ بانكسار وحزن شديد تملّكها على حالها وبعد دقائق قليلة قرع الجرس فهجمت لتفتحه تحمل الأمل معها غير مكترثة لملابسها البيتية لتتفاجأ بالمحامي خاصتنا الذي جاء لتسليمها اوراق بعد ان عرّف عن نفسه وتأكد من هويتها وقال:
" تفضلي سيدة ألمى ....هذه الأوراق تثبت أنك مالكة هذا القصر بأمر من السيد يامن !!..."

صُدمت في البداية من قوله وما يحمل في جعبته لكنها رفضت بعزة نفس واباء قائلة :
" لا اريد أي شيء منه ولا انتظر عطفه عليّ ....اخبره بذلك!.."

قال:
" عفواً سيدتي انا مجرد مرسال بينكما غير أن هذا القصر من حقك....اقرئي الأوراق ....لقد سجّله باسمك بعد زواجكما كاضافة لمهرك وليس الآن فعلها.."

صمت قليلاً وتابع:
" إن لم توقعي وتستلمي الأوراق سيضطر للتنازل عنه من أجل هذه الدولة فهو لا يريده ولا يريد أي مال يأتي من وراءه ...يعني لن يبيعه بيعاً....إما أنتِ أو الدولة ولا يمكنك استرداده لاحقاً !!..."

اعادت حساباتها في عقلها وقررت في النهاية التوقيع من أجل والدها لا غير آملة لربما انه سيعود له يوماً.....بعد أن اغلقت الباب دلفت الى المطبخ لتضع شيئاً في فمها....تكاد تموت جوعاً ....طلبت من الخادمة اعطائها حبة تفاح فهذا ما اشتهته هذه اللحظة.!!......كانت تود أن تفطر كالناس الطبيعيين الّا انها غيّرت رأيها فور رؤيتها للمطبخ وما فيه وقد لاحظت تقبّل معدتها للفواكه والخضروات أكثر من أي شيء آخر.....صعدت الى غرفتها وهي تقضم من التفاحة بنعومة ثم أخرجت هاتفها القديم لتشغّله بعد معرفتها ان الاتصالات عادت فالجديد تهشّم في بيتنا اثناء حربنا الاولى!!....نجحت بفتحه وتبسّمت ابتسامة واهية لانه ما زال يعمل واتجهت لحقيبتها التي كانت معها في سفرنا تبحث عن الشريحة لتحاول الاتصال بصديقتها (ميار) التي اشتاقت لها بشدة ولثرثرتها عسّى أن تخفف عنها وتقف جانبها الّا أنها انتهى بها المطاف صافعة جبينها بعد تذكّرها أنها لم تأخذها عن المنضدة الموجودة جوار باب بيتنا الهاشميّ حيث وضعتها لها!!.....خرجت من غرفتها بخيبة أمل وملامح الانهزام تكسو وجهها الجميل ومع خروجها خرجت الأفعى من غرفتها الزوجية وتبعها ابنها يجر حقيبتيهما ....هدر قلبها بوجل من فكرة أنهما سيتركانها وحدها فازدردت ريقها وهمست برجاء:
" ابقيا معي هنا....لن يأخذوا القصر منا....يـ...يامن سجّله بـ...باسمي..!!..ارجوكما ابقيا...ماذا سأفعل وحدي في بيت كبير كهذا؟!!."

اطلقت ضحكة بغيضة ودنت منها بعتوّ وتطاول هاتفة:
" اذهبي وابحثي عن عمل افضل لكِ....ففاتورة الكهرباء والماء والهواتف ستأتي بعد اسبوعين وإن لم تقومي بسدادها سيقطع عنك كل شيء ووقتها لن يفيدك او يفيدنا هذا القصر الذي سيتحول لقبر ...أظن بتِّ تعلمين أن كل الحسابات ستتجمد ولن تستطيعي سحب قرش واحد!!....ربما لقمة طعام لن تجدي!.."

لم يأبها لتوسلاتها ورجائها ورمقاها بنظرة أخيرة باستخفاف وعنجهية كأنها قذارة ثم نزلا السلالم بعجلة ليتجها الى مطار العاصمة فقد نجح ابنها بايجاد طائرة تنقلهما الى بلجيكيا بعد منتصف الليل ومن هناك سيتوجهان الى هولندا حيث اشقاء (سوزي) يقيمون مع والدها العجوز الخائن الذي كان رئيساً للوزراء قبل حوالي احد عشر سنة ....!!.....رحلا يختفيان عن مجال رؤيتها وسط بكائها المكتوم فتشبّثت ببقايا أمل وبعض الأماني لوجود الخادمة معها في البيت فنزلت لتتسلّى معها علّها تؤنس وحدتها وتخفف من آلامها ولما دلفت الى المطبخ لم تجدها وما إن خرجت حتى لاحظت خروج تلك من الغرفة الخاصة بها حيث انها الوحيدة من بين الخدم التي تقيم معهم وكانت تجر حقيبتها خلفها فهفت قلبها برهبة واتسعت عيناها بصدمة واقتربت منها هامسة:
" أ...أين تذهبين ليلي؟!.."

اسبلت اهدابها تهرب بعينيها عنها كي لا ترى الألم الذي يحتل تقاسيم سيدتها الصغيرة وأجابت بمشقة محرجة منها:
" سامحيني سيدة ألمى ......عليّ الذهاب لايجاد عمل آخر على الفور ...فأنت تعلمين أنني أعيل عائلة بأكملها في بلادي وينتظرون كل قرش مني بفارغ الصبر !!...لا يمكنني أن اتأخر عليهم..."

وسقطت دمعة من عينها مسحتها ثم مسكت يدها بعطف متابعة:
" ارجوك سامحيني سيدتي ....لو كان الأمر بيدي لبقيت معك لكن الله وحده يعلم بظروف عائلتي !!....واسأله ان يفرجها عليك."

أفلتت يدها برخاوة واومأت برأسها توافقها بلا حول ولا قوة منها وحبست دموعها بمقلتيها لألّا تكشف ضعفها وتخدش كبرياءها وهي تشيح وجهها جانباً وهمست بلطف تصنّعته:
" لا عليك ليلي....انت محقة....اذهبي واتمنى ان تجدي ما يرضيك!....لا تقلقي بشأني!!..."

لحظات لتسمع بعدها صوت اغلاق الباب فتسمح لنفسها بالانفجار والانهيار على ركبتيها عند اقرب جدار وتتبع انهيارها بصرخة ألم هزّت كيانها :
" آآآه آآآه.!!.."

لقد بدا المكان موحشاً!!...اندثرت معالم الحياة فيه وتحول الى مقبرة تضم أشلاء الموتى!!.....فتحت مناحة تمزق نياط القلوب كأنها في جنازة لروحها.....استندت بظهرها على الجدار وضمت ركبتيها الى صدرها ترتجف وتنظر يمنة ويسرة بمنظر يفتت الصخر ويمزق الأكباد....كان مشهدها مؤثراً تملأه الأشجان ويثير اللوعة والحسرات عليها ...!!.....رحل الجميع عنها دون أي ذرة من الانسانية .....تركوها تضيع بين توسلاتها لتبث وتشكي همومها لجدران قصرهم العريق الذي بكل ما يحمل من فخامة غدت قيمته كقيمة بيت العنكبوت....بنيَ بجهد ووقت طويل وهدم بسرعة كلمح البصر!!....دثّرت رأسها وخبأت وجهها على ذراعيها المكتفتين على ركبتيها وازداد صوت أنينها وعويلها وجسدها الرقيق يرتجف مع شهقاتها...!!...تملّكها خوفٌ غليظ من مستقبل تجهل معالمه !!...من ساعات تخشى قدومها !!...أصبحت وحيدة في هذه الدنيا الواسعة....أجل إنها وحيدة ....لقد ضاقت عليها الأرض بما رحبت !!..لا أهل ولا جيران ...لا أقارب ولا خلّان!!....وُلدت وحيدة وستموت وحيدة....انتابتها الهواجس لتضاعف قنوتها ويأسها وتفيض باسرافها من أوجاعها !!... رفعت وجهها للسقف تسلّط عينيها النجلاءين الملتهبتين للأعلى فتساقطت دموعاً حارة غزيرة على وجنتيها وسالت على عنقها حتى وصلت نحرها فصدرها ثم استقرت لتكوي قلبها ومن عمق الوجع الذي يسري في عروقها هتفت بأسى وشجى وقهرا لا يُنتسى:
" آآآآه يا أمي آآآآه...ليتك ما أنقذتني من الحريق وتركتني لأرحل معك عن هذه الدنيا الكاذبة القاسية....!!....أتشعرين بي يا أمي ؟!...هل تسمعيني؟!..أترين حالتي الآن ؟....هل شاهدتِ الغنيمة التي قدمتها للذئاب البشرية ؟!.....أين أنتِ عني يا أمي؟.....أتراكِ كنتِ ستحبينني لو بقيتِ على قيد الحياة؟.....هل عرفتِ كيف باعتني خالتي لهم ؟....خالتي التي أحببتها أكثر من أي شيء باعتني وكأنني لا أساوي شيء !!...وهو الذي غدرني ..هو من كان أماني في طفولتي وحضنه الذي لم أنساه...كيف استطاع فعل هذا بي ؟!..لمَ جعلني اذوق الحب معه واتعلم حروف السعادة ومعنى الحياة ثم هدمني ودفنني بنفس الحياة التي ما كنتُ سأحبها لولاه؟؟!...هل أمضيتُ عمري اعشق وانتظر من كان سيرميني الى حتفي بيديه ؟؟!....أنسي أغلى الليالي التي عشناها معاً وإن كانت قليلة ؟؟!...ألهذه الدرجة ابنتك رخيصة يا أمي ؟!.....اخبريني عن ذنبي الذي جنيته لأعيش كل يوم من بعدك بعذاب لا يضاهيه عذاب؟...أم....أم أن الله يعاقبني لأني طلبتُ أن آكل الطعام حينها من يديك وليس من يدي المربية ؟!....هل انزعجتِ مني يومها؟....هل أرهقتُكِ بدلالي فغضب الله عليّ وحرمني منك ؟!...أتراكِ تسامحينني أم أنك لم تعفِ عني ؟!......كيف سأمضي كيف ؟..... سرقوا أبي مني ليضاعفوا عذابي.....ألا يمكنك حمايتي؟....خذيني عندك وانقذيني من جحيم الدنيا والبشر!!.....ياااا رب...ياا رب اقبض روحي وارحمني..!!.....لم أعُد أقدر على البقاء!!.....ليتني أموت وارتاح واريح الجميع مني!....ما عُدتُ أريد العيش بأرض تتسع للجميع الّا لي أنا.!!......أنا عالة على الحياة يا أمي.!!..أنا عالة لا أسوى ذرة غبار!!...لا أحد يحبني كما أحببتني أنتِ!!...لمَ انقذتني يا أمي ولم تتركيني لأموت معك ؟؟!...لمَ؟؟..لمَ؟؟.."

وعادت لتدفن رأسها من جديد على ركبتيها مرتجفة مع نحيبها وشهقاتها التي تخرج بعد أن شقّت لها صدرها لتبقى على هذا الحال الى وقت لم تدركه فقد عزلت نفسها الى عالم آخر كمن تقف تنتظر بين محطتين يمثلان الدنيا والآخرة ....لا عاشت في الأولى ولا نالت الثانية....!!
كان ألمها صعب ...صعب جداً وأصعب ما فيه أنها لم تجد من يشاطرها إياه أو يخفف عنها من حدته وقسوته....ما عاشت وما أحست في تلك اللحظات أعظم من أن يختصر ببضع كلمات ....لو كان الألم شيئاً يتجسد لربما لتشابه مع السماء المظلمة لحظة انشقاقها من البرق...!!....
ولو قال لي احدهم عبّر عن ألمك بكلماتك لاختصرته بـ...
ألم الألمى يؤلمني مهما كذّبتني ولامتني..!!
تحرّكت عــقارب الساعة متمهلة حتى سجلت ساعات عديدة على مكوثنا في المعسكر الثاني الموجود في بلاد الأم بعد ان اجتزنا النفق الذي يربط الأرضين.....اشتد الألم في ذراعي نتيجة اهمالي للدواء الذي اوصوني به وكذلك عدم تعقيم الجرح مرةً اخرى وتغيير الضماد.....كان مزاجي سيئاً للغاية ولم اسمح لأحد بالاقتراب مني....اواجه صراعات داخلي ونيران تلتهم احشائي.....أليس من المفترض أن ازفر أنفاس النصر والراحة بعد سنين لامساكي به ؟!....أليس من المفترض أن يعلو صوت ضحكاتي وان اجهر باحتفالاتي ؟!...لكن محال لم افعل ايٍ منهما.....فقط وجع وجع يجثم على صدري وصداع حاد يلازمني....أصبتُ بالحمى بسبب التهاب ألمّ بجرح ذراعي... أم أنها من الجروح التي تنزف من أعماق حبي وخذلاني؟!....وقد أدّى ما مررتُ به لتأخيرنا في الانتقال الى العاصمة!......كان (عاصي رضا) محبوس في غرفة مشددة بالحراسة لا تستطيع ذبابة الدخول اليه الا بأمرٍ منا ....كنا ننتظر قدوم السيد (سليم الأسمر) الذي قرر المجيء للحدود أما صديقي (سامي) عاد ادراجه الى العاصمة فور وصولنا للمقر لاتمام باقي الاجراءات الامنية كجلب قوات حماية خاصة من الشرطة لنقل المجرم الى المركز الامني الكبير في العاصمة من اجل ايقافه على ذمة التحقيق الى حين موعد محكمته !!.....بعد جهدٍ جهيد أرغمني السيد(ماجد) للذهاب الى مشفى معسكر الثوار لتلقي العلاج اللازم وقد وافقتُ مكرهاً دون المكوث هناك وعند حلول ساعات الليل الأولى بعد هروب شمس الغروب وصل من كنا بانتظاره مع حرسه الخاص وكانت هذه المرة الأولى التي أرى به وجهه مكفهراً... بدى كأنه شخصاً آخراً جُبل على الكراهية يحمل خلفه غضب وغيظ وحقد السنين على غريمه خائن الوطن..!!.... جاء اليوم الموعود وهو مواجهة خصمه وجهاً لوجه....في البداية مرّ الى غرفتي ليطمئن عليّ بعد معرفته باصابتي ثم سأل بغلظة موجهاً نظره المشتعل لمن كان يقف أمام النافذة مكتف الأيدي:
" في أي غرفة موجود الوغد؟!.."

حرر ذراعيه رافعاً احداهما مشيراً الى يمينه بصوت ثابت:
" في غرفة توفيق المتحدث باسم الثوار...!.."

هزّ رأسه موافقاً وقال بصوت أجش:
" جيد...هيا اتبعاني !..."

نهضتُ من السرير مثقلاً بمساعدة السيد (ماجد) وسرنا حتى وصلنا الغرفة المنشودة لنشاهد العرض الخاص بكليهما .....ابتعد الحارسان عن الباب ليركله السيد(سليم) بعنف حتى طرق بالحائط الداخلي مصدراً ضجيجاً جعل المستلقي يفزّ من مكانه وصاح بصوت جهوري هادراً به:
" لا راحة لك أيها النجس!.."

ثم انقض عليه هائجاً بقوة لم تتضاءل منه رغم سنين عمره وامسكه من تلابيب قميصه مكملاً بصوته الغاضب:
" واخيراً وقعت بين ايدينا أيها الحقير.."

ليتبعها بلكمة شديدة انزلها على وجهه جعلته يسقط على السرير خلفه!...لكنه يبقى هذا الثعلب (عاصي رضا) ....لن يسمح لأحد بالشماتة به !!...ضحك بدناءة هاتفاً ببرود اتقنه مخفياً آلامه:
" لقد ضعفت قبضتك أبا معتز ....أين القوة التي كنا نراها بالميادين؟!.."

نطق كلماته من بين اسنانه مجيباً:
" ليست قبضتي من ضعفت ...إنما أنت فقدت الاحساس بالألم من كثرة سواد افعالك اللا انسانية والتي أدّت الى تحجر ضميرك...هذا إن وُجد عندك من الأساس أيها اللعين!.."

هتف بثقة بينما كان بإبهامه يمسح زاوية فمه ليزيل قطرات من الدم :
" هل تظن أنني سأسجن وأبقى مكتوف الايدي؟!....لديّ من يدمركم ويهز مضاجعكم أيها الحثالة!..."

اطلق ضحكة ساخرة يرد عليه بثقة:
" سنسحقك ومن تبعك ولن نبقي لكم أثراً..."

سأل متهكماً:
" ما لديكم ايها المساكين لتثقوا بأنفسكم الى هذه الدرجة؟!..."

اجاب بصرامة :
" كان علينا افلات اول حبة خرز من المسبحة وهي أنت ليلحقك باقي الأوغاد!.....أوتظن أننا لم نعلم من هم؟!.."

بثقة وتجبّر اصدر قهقهة بغيضة وقال:
" لن تصلوا إليهم ."

وحدّجني بخباثة وشماتة مضيفاً:
" من كان يعرفهم لقد مات واخذ اسراره معه!!....محيي الدين لم يخبر أحد عنهم كي لا يعرّض أي شخص للخطر فهو كان يعلم أن مصير من كان يحمل بحوزته معلومات عنهم سيكون الموت.....مثله تماماً..!....لا تنسَ أنني كنت صديقاً مقرباً منه يوماً واعلم كيف يفكر وكيف يحافظ على من يخصه؟!..."

وتابع بضحكاته المستفزة....فصفق يديه ببعضهما من كان يقف نداً له مطلقاً ضحكات جهورية واثقة ثم ولاه ظهره يخطو حتى وصلني واستدار مجدداً ليواجهه واضعاً يده على كتفي وهاتفاً بفخر واعتزاز:
" يقال الذي انجب لم يمت!.."

ناظره بتوجس يحاول قراءة ما بفكره فأردف السيد (سليم) وهو يربّت على كتفي:
" محيي الدين رحمه الله كان قد ترك عناوين واسماء والغاز برموز مشفرة لثقته أن ابنه يستطيع فكّها!!....وها قد حان الآن وقت استعمالها لنسقطكم واحداً تلو الآخر من غير رحمة!...."

ابتلع ريقه وفكّ اول زر من قميصه المبعثر متمتماً:
" حتى وهو ميت لم نسلم منه ذلك الخسيس!.."

رؤيته لوحدها تضني اعصابي وصوته يثير اشمئزازي وكيف إن تجرأ على أبي؟!....هجمتُ عليه مصعوقاً ساخطاً بعد أن أثار حفيظتي وقبضته من عنقه مجدداً محدجه بنظرة قاتلة ومزمجراً به:

" اصمت ولا تأتي بسيرة أسيادك الشرفاء أيها النجس!..."

رفع يده آمراً بنبرة جافة وصوت جهوري:
" اتركه يا هادي....لن يخلص منا....سيرى الويلات قبل أن يتمنّى الموت!..."

ثم جلس بأريحية على كرسي جانبي واضعاً ساق فوق الآخر بعد أن حررتُ الوغد وهتف يتابع حواره معه:
" من كنت تدعمهم سيبيعونك بقرش.....الآن أنت أصبحت كما ولدتك أمك بفارق صغير أن صفيحتك مليئة بالذنوب والجرائم .....ما اقصده أنت الآن صفر اليدين!....لا مال...لا جاه...لا منصب....وحتى هذه ملابسك ستخلعها ولن تضعها على جسمك مجدداً....لم تعد تملك أبسط الاشياء حتى!.....لقد تم الحجز على جميع ممتلكاتك..."

وضحك بسخرية مستطرداً:
" زوجتك المصون وابنك بعد ساعات قريبة سيكونان بهولندا عند والدها ...أما ابنتك!..."

تعاقبت انفاسه وشحب وجهه فهتف مقاطعاً جملته:
" ما بها ألمى!....أين هي؟!..."

نطق اسمها من بين اسنانه وكأنه ألقى على قلبي قذائف تحوله الى اشلاء وتزيد من اوجاعي!...ألمى!....سمائي!..حتى في هذه اللحظات الأقسى عليّ اخترقت كياني لتحدث زلزالاً داخلي؟!...يا ترى ما اخبارها؟!....ماذا تفعل؟!....هل استطاعت تجاوز ما مررنا به؟!....كيف استقبلت الخبر وكيف تحمل قلبها الصغير البريء؟!....ماذا قررت وعلى ماذا نوت؟!....أيوجد أمل لتعود إلي بارادتها لتنير أرضي؟!....ساعات سُجّلت على فراقنا وأنا اشتاق لها رغم جروحي واوجاعي!...أحبها لدرجة كرهتُ نفسي من حبها!...كيف سيشفى القلب المكلوم وكيف سألملم بقايا روحي في بعدها؟!.....ما أقسى الحياة معنا ...ذاقت دفء احضاني وعشتُ اللجوء في عينيها ثم بكل بساطة.....نفترق دون رجوع!.....صبرٌ جميل والله المستعان..!...ربنا الطف بنا وارحمنا ولا تجعلنا من عبادك القانطين...!!.....
بعد سؤاله عن ابنته حاول الآخر التلكؤ بالرد ليعذبه فصرخ الأول:
" ما وضع ألمى واين هي اساساً؟؟!.."

ببرود ساحق أجابه وربما لا يعلم أنه يسحقني معه عندما يكون الشيء يخصها حتى لو لم يكن حقيقياً:
" لا نعلم عن مكانها....فلتتدبر أمورها!.....انتهت مهمتنا معها!....فقط عليها أن تسعى لتجد مأوى لها قبل الاستيلاء على الاملاك!..."

رغم معرفتي انها مجرد مسرحية ليغيظه ورغم معرفتي بكل الحقائق وأنها ستبقى معززة في بيتها ولن يستطيع أحد اخراجها منه الّا أنني لم اتحمل المزيد من الحديث عنها وبكل ما يتعلّق بها وبمصيرها ومعاناتها فبهمّة نارية تركتُ المكان بمن فيه خارجاً لأتنفس هواءً نقيّاً يجدد قوتي ويبرّد على فؤادي المشتعل قهراً عليها....!!

فاردف ضاحكاً ليستفزه:
" يعني....ستتشرد!.."

ثم نظر الى السيد (ماجد) وقال بذات النبرة يتابع مسرحيته:
" سيد ماجد....سجّل اسمها مع اللاجئين لربما تحصل على خيمة ما ...فهي بالنهاية ابنة الوطن ولا ذنب لها بأفعال والدها السوداء..."

بصوتٍ خفيض ضعيف وقلق عليها سأل مستنكراً:
" كيف...سمح لنفسه ذلك السافل بفعل هذا بها ؟!...أليس هو زوجها ؟!..."

أجابه بهدوء واضعاً عينيه بعينيه:
" مثلما سمحت لنفسك بتشريد العائلات وخاصة عائلته هو ومثلما سمحت لنفسك بقتل والد زوجتك القائد ياسين النجار ومثلما سرقت ونهبت واجرمت دون ان يرف لك جفن....ماذا سنذكر ونذكر فقائمة اعمالك حدّث ولا حرج ....ثم تأتي لتسأل بهذه البساطة كيف فعل هذا بها ؟!...."

تنهد بثبات وأضاف:
" هذا من بعض ما عندكم سيد عاصي!...."

وبكل هيبة ووقار نهض من مكانه منتصب القامة تاركاً خلفه كلب يعيش صراعاته لوحده الى حين قدوم الفريق الأمني الرسمي الخاص بالدولة!....

×
×
×

مع سكون الليل وصرصرة الحشرات انطلقنا متوكلين على الله نحو العاصمة بموكب أمني خاص لنزف معالي الوزير السابق المدعو (عاصي رضا) مع حراسة مشددة الى السجن الامني المركزي ولم يكن ذلك احتراماً له كرجل سياسي إنما كان احتياطاً من محاولات تحريره من حلفائه او حتى اغتياله فمناصريه كثر واعداءه أكثر وخاصة بعد أن اشيع خبر امساكنا به....!!

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

بعد الحروبات مع النفس التي عاشتها كانت قد استجمعت القليل من قواها لتتجه تجرّ قدميها مع أذيال عجزها وانكسارها الى غرفة العائلة ورمت جسدها الهزيل والذي ازداد نحافة بسبب امتناعها عن الطعام على الاريكة البيضاء الطويلة ثم فتحت التلفاز وللمرة الأولى تضع على قناة تعرض الاخبار اربعة وعشرون ساعة يومياً وهي التي كانت اكثر ما تكره تلك المحطات ولم تكن هذه في مجال اهتماماتها اطلاقاً لكن يبدو أنه جاء الوقت لتكون نفراً جديداً من المتابعين وتزيد نسبة المشاهدة والأهم ان هذا كان أول تغيير يطرأ عليها بعد الانقلاب الذي حدث على حياتها وبينما كانت في حالة تركيز تقرأ الاخبار الاخيرة الموجودة على الشريط اسفل الشاشة قرع جرس بيتها وقرع معه قلبها ...الساعة السابعة ليلاً!!....توجست خيفة في البداية الّا أنها لن تغلق أبواب الآمال الجميلة في وجهها لذا قامت بهدوء غير مكترثة لمنامتها المبعثرة وشعرها المنكوش المشعث وجفونها المتورّمة اثر البكاء.....فتحت الباب بحذر وغضنت جبينها عندما رأت امرأة غريبة تقف أمامها....قريبة لسنها وشعرها يصل لكتفيها يميل للأحمر ...حتى أنها لم تستطع تحديد لونه من اختلاط صبغات كثيرة فيه.....ونظراتها غير مريحة نهائي!!....نزلت قليلاً بحدقتيها سريعاً فعضت شفتيها بخجل لاظهار تلك لمفاتنها بشكل ملفت ومبالغ فيه فقطعت الزائرة سرحانها هاتفة:
" هل أنتِ ابنة عاصي رضا ؟!."

ضيقت عينيها وهمست:
" أجل!...بماذا يمكنني أن اخدمك؟!.."

مدّت لها ورقة كانت تحملها بيدها تزامناً مع القاء قنبلتها:
" أنا عشيقة والدك....واريد حق ابني الذي ارغمني على اجهاضه!.."

بردة فعل سريعة وانفعال شديد هدرت بها متخلية عن صوتها الناعم:
" ماذا تهذين ايتها الكاذبة ؟....هل هذه اساليب تسول جديدة تبتدعونها ؟؟!..."

وهمّت باغلاق الباب الّا أن تلك اوقفته بمرفقها بقوة وتابعت:
" أنا لا اكذب ولا اتسول منك!....كنت احمل شقيقك في بطني لكن والدك اصرّ على انزاله ووعدني بمبلغ كبير منذ اسابيع والى هذا اليوم وانا ما زلتُ انتظر.....لكن لما علمت ما حصل له لم استطع الصمود أكثر وجئت لأخذ حقي وحق ابني !!......"

قالت كلماتها بينما كانت تحاول دفع الباب لفتحه والاخرى تدفعه لإغلاقه فصرخت بها فور انتهائها:
" كاذبة... انصرفي من هنا!!...أبي لا يعرف امثالك ايتها السافلة... "

حاولت فتحه بقوة أكبر وهي تصرخ:
" لست كاذبة ...كان يستأجر لي شقة تطل على البحر ويأتيني ليلاً إليها ليستمتع معي لأن زوجته الشمطاء كانت تثير اشمئزازه بتجاعيدها وبالعلامة اسمها سوزان والشهرة سوزي ....صدقيني لا اكذب !....."

وعلت نبرتها اكثر تقول بحدة بينما كانت (ألمى) تكذّبها وهذا كان اكثر ما باستطاعتها فعله والرد عليها :
" اعطيني مالي وسأذهب دون شوشرة والّا سأفضحه واشهر اسمه .."

الشيء زاد على قدرة تحملها....لا يمكنها اكثر من ذلك....طفح الكيل ولا تعلم الى متى ستذوق الويل من الظالمين لوالدها....هذا على حسب ظنها!!...فهي ما زالت تؤمن به وبنزاهته وشرفه !!....لا تعلم من أين قوة غريبة وافتها فضغطت اكثر بجسدها على الباب حتى اطبقته صارخة:
" انصرفي ايتها الكاذبة ....كاذبة!....كلكم كاذبون!....!!.."

ثم انزلقت بجسدها من خلف الباب وعادت لوصلة نشيجها... كانت تغمض عينيها والألم يعتصرها ولم يرحمها وهي تتمتم من بين عبراتها بصوت ضعيف بعد ان هربت قوتها:
" كاذبون!....ماذا بعد ايها الكاذبون؟!...آاه يا أبي....سامحني.... لم استطع الوصول إليك لأحميك منهم قبل الامساك بك ..."

وعند كلمتها الأخيرة ارغمت نفسها للتوقف عن البكاء ومسحت انفها بكم منامتها ثم كفكفت دموعها وقامت عن الأرض الباردة وهي تقول بتمتمة بينما كانت تلك تواصل طرقاتها وتنادي لتفتح لها:
" سأفعل المستحيل لتبرئتك أبي!....تحمّل من أجلي!.."

دلفت الى المطبخ بعد احساسها بجفاف حلقها وكل بشرتها فكل الماء بجسدها فاض خارجاً منها على هيأة دموع بكتها مدراراً.!!...فتحت الثلاجة لتشرب الماء فوقع نظرها على زجاجة عصير برتقال وأخرى لمشروب غازي.!...ابتسامة طفيفة ظهرت على محيّاها عندما تذكرت صديقها (شادي) الذي كان يهتم بما تحب وفعل الكثير من أجلها بالايام القليلة!!....أخرجت عصير البرتقال واخرجت كأس ثم جلست على الطاولة الدائرية الصغيرة التي تتوسط المطبخ وسكبت لنفسها لتشرب....أرهفت السمع لتتأكد من اختفاء الطرقات على الباب بعد أن يئست تلك المومس المتسولة والتي جاءت تفتري على والدها.....كان هذا ما تعزّي نفسها به!....أجل مجرد متسولة لعوبة اعماها الجشع وجاءت تسلب اموالهم !!....ضحكت بغصة للفكرة التي اقتنعت بها بل واثقة كل الثقة منها ثم تنهّدت تسند ظهرها لظهر الكرسي وتتابع شرب عصيرها وما إن اوشكت على انهائه حتى علا رنين الجرس مع طرقات قوية على الباب وقد خمّنت أن هنالك اكثر من شخص .....اتجهت ببطء متسللة حتى وصلت النافذة القريبة من الباب...ازاحت الستار قليلاً فهالها المنظر الذي صاحبه صوت جهوري ينادي :
" افتحوا الباب ....نحن الشرطة .....إن لم تفتحوه سنضطر لكسره !!...."

الى متى سيتحمل قلبها وماذا ستعيش بعد؟!....خفق خافقها برعب ...رجال شرطة كثر مسلحون ويمسكون بكلاب مسعورة متدربة!!....اغمضت عينيها ووضعت يدها على صدرها تسحب هواءً جديداً ثم زفرته بقوة وفتحت لهم ليدخلوا الذين عرّفوا عن انفسهم ووظيفتهم وهم يسلموها ورقة للإذن الرسمي والذي كان بشكل عاجل من قيادات عليا...!!....استلمتها صاغرة دون اعتراض لأنها قد هيأت نفسها بالنهار لهذا المشهد بعد أن ألقى على مسامعها (كرم) الخبر!!....بخيبة سارت لتجلس على اريكة جانبية تتواجد عند السلالم أو بالأصح لتسمح لجثتها الحية بالانهيار فاسحة المجال للدخيلين بالقيام بعملهم دون عراقيل منها ...!!....قاموا بتفتيش القصر متراً فشبر ولم يتركوا ركناً واحداً....الخزنة الموجودة في غرفة النوم وجدوها مفتوحة والاوراق التي بها مبعثرة ليست ذات اهمية لهم ...ولا اثر لأموال او مجوهرات!!...أما في الأسفل وتحديداً في كهفه والغرفة التي شهدت ايام اعتكافه ليطبخ طبخاته فتشوا الرفوف وبين الكتب والادراج وأخذوا ملفات كثيرة والخزنة الكبيرة بما فيها !!....بعد ساعة من الزمن انتهت المهمة بنجاح ...لقد أخذوا ما أخذوا وتركوا ما تركوا..!!.....لم تعد تهتم بما اخذوا وما تركوا ولم تقوَ على مجابهتهم !....هل هي على مقدرة أن تقف خصماً لهذه الدولة الكبيرة ؟!...ما لها وما لهم ؟....لن توقع نفسها بمأزق فكل ما يؤرقها ويأخذ الحيز الاكبر من تفكيرها هو المتواجد في الوطن وكيف ستنقذه ؟!..تحبه وتحترمه ولن تتخلى عنه وستفعل المستحيل من أجله ...لكنها لم تكتفي بهذا!....لقد زادت اصراراً وتحدي لتفرك بصلة في عين غريمها أي انا وتثبت لي كم كنتُ ظالماً وكم كانت هي محقة!!....في ليلة وضحاها أصبحتُ أكبر اهدافها وأسمى طموحاتها بل ألد أعداءها !......بعد أن خرجوا تاركين مخلّفات رهيبة وخسائر فادحة لم تفعلها الزلازل والبراكين بحد ذاتها جالت بنظرها بنظرات تحمل كل الأسى على الطابق الأرضي وصعدت السلالم مجبرة علّها تجد شيئاً يرشدها لطرف خيط!!...عند وصولها لباب غرفة والدها أضناها المنظر المأساوي الذي أحلّ بها !...ملابس والدها غدت كالمماسح على الأرض...اقتربت أكثر وحملت احدى مناماته ثم ابتركت الأرض ساندة نفسها لسريره وباشرت باستنشاق بقايا رائحته منها وهي تقرّبها لأنفها وتضمها لصدرها بحنية واحتياج بليغ لم تطلبه آنفاً مثل الآن ...!!....بعد لحظات من الانعزال في عالمها الخاص وبينما كانت في غمرة روحانياتها ابعدتها كالمجفلة وكأنها تجبر نفسها لعيش واقعها ....لفت انتباهها الخزانة المفتوحة على مصراعيها والخزنة الصغيرة ببابها الموارب فهم لم يحكموا اغلاقها ضحكت بنشوة وكأنها وجدت شيء تتشبث به او ما ينقذه وينقذها وهي تعلم أنهم لم يتركوا شيئاً لها ...لكنها مجرد امنيات طفولية لفتاة وجدت قطعة حلوى تأكلها بعد المرار الذي ذاقته!!....نهضت متكئة بمرفقيها على السرير من خلفها ثم اتجهت إليها وبضحكة مبتورة همست لنفسها بعد أن لمحت خلوّها من المجوهرات " حرصت الافعى على الا تترك خاتماً خلفها "....نزلت بحدقتيها للاسفل وفتحت الدرج الموجود تحت رف الخزنة حيث كان يصفّ ساعاته الثمينة فوجدته فارغاً !!....إنها (سوزي) أخذتها كلها !!....كانت متأكدة أن لا غيرها لأنها علمت عن الاغراض التي أخذوها الشرطة فقد سجّلوها على ورقة وناولوها إياها!.....لم يجدوا مجوهرات وكان جلّ تركيزهم وصبّ اهتمامهم بالملفات والاوراق والاجهزة الالكترونية خاصته مثل الحاسوب واللوح الرقمي....رفعت بصرها للرف الاعلى مجدداً تصوّبه داخل الخزنة واخرجت الاوراق القليلة الباقية فيها ثم شرعت بقراءة ما بها بشكل عشوائي دون تدقيق!!....تقرأ واحدة وتضعها خلف الأخرى...ليست ذات أهمية!!....استوقفتها واحدة اصفرّ لونها بفعل الزمن!...امعنت النظر بها لتستشف بعض ما كتب عليها !!...شعرت بالحنين لأصحابها!...أمها وجدّها ...وخالتها (فاتن)....انهم يتنازلون عن شركة جدها والمصنع وأراضيهم لوالدها .... " يا الله كم كانوا اوفياء له ويحبونه ويثقون به ".... هذا ما جاء في بالها !! ..لقد رسمت في مخيلتها انهم كانوا عائلة سعيدة ووالدها هو المسؤول عنهم بحبه لهم وتفانيه من اجلهم لذا سلّموه كافة أملاكهم!.....لكن لمَ خالتها باعته؟!..لا أحد يشعر بقهرها منها!!..مؤكد سيأتي يوماً وتسألها عن اسبابها...لكن ليس الآن فهي ما زالت حانقة عليها ولا تستطيع مكالمتها!!.....ركّزت للتواقيع اسفل الورقة!...هذا توقيع امها (كريمة)...وهذا خالتها (فاتن)....لكن هي تعلم علم اليقين أن جدّها انسان متعلم ومثقف!...ما به وضع بصمته وليس توقيع بقلم مثل امها وخالتها ؟!...." وماذا في هذا ؟!..."..ازاحت السؤال التافه من دماغها وتابعت تتفحص الاوراق لتتسع عيناها دون تصديق وشهقت بابتسامة شقّت وجهها وكأنها ولدت هذه اللحظة بعد يوم شاق وتعيس عاشته عند وقوع عنوان بيت صاحبة الورقة تحت نظرها !!....يا الله لا تصدق حقاً....كيف لم تفكر بها ؟!....نظرت الى ساعتها وكانت تقارب على التاسعة والنصف!...اعادت الاوراق بعشوائية للخزنة وأخذت ما تنفع غايتها !...

×
×
×

لأول مرة تخرج وحدها في هذا الوقت المتأخر ..في العاشرة ليلاً...بل وماذا؟!...تركب سيارة أجرة!.....كانت الدنيا لا تسعها بعد حصولها على عنوانها....لا تعلم كيف بدّلت منامتها لملابس الخروج...بنطال جينز فاتح اللون بركبتين ممزقتين ويلتصق بجسدها وبلوزة وردية من الوبر الناعم بكمين طويلين .وشعرها رتبته بسرعة ...تضع جاكيتها الابيض الجلدي الخفيف على ذراعها وحقيبة صغيرة تحمل بها عدة ورقات من المال والورقة التي اخرجتها من الخزنة والهاتف القديم الخالي من الشريحة!....لقد جلبته معها كي تشتري شريحة جديدة لاحقاً لكن الأهم الآن الوصول الى صاحبة العنوان !!......بعد ما يقارب العشرون دقيقة وصلت الى غايتها!....الحي القديم!....وهو حي يتواجد في المناطق السكنية لمتوسطي الحال والأقرب للفقر وليس كحيها لفاحشي الثراء!....دفعت للسائق ونزلت في شارعه المسمى بشارع الأقواس المضاء بمصابيح متفرقة بعضها يعمل والبعض يحاول لفظ أنفاسه الأخيرة... تارة يضيء وتارة ينطفئ ...اضاءات خافتة جار على زجاجها الزمن ..!!....اجتازت الشارع بسرعة لتقترب اكثر للحي ....بيوته بسيطة...تختلف الوانها...منها المبني من الحجر القديم ومنها بطلاءات باهتة!!....حملت الورقة تنظر لرقم البيت لتقرر من أي زقاق ستبدأ بحثها....سألت نفسها .." يا الله لمَ لم آتي الى هنا سابقاً مع خالـ..."...وبترت سؤالها وغصة العمر بقسوة وقهر تختلج صدرها...غصة كانت سببها الأغلى عندها ..السيدة (فاتن) الحنونة!!.....لم تستدل من أيها تبدأ!!....كلها متشابهة ولا امارة للبيت الأول!...كانت البيوت متراصة على بعضها وازقتها ضيقة بالكاد تتسع لسيارة صغيرة!...قالت في سرها.." يا الهي ما هذا الاكتظاظ والتشعب؟!..كيف سأجد البيت من بين هذا الكم الهائل من البيوت؟!.."...وكان ما يصعب عليها عملها ويعيق مسيرتها هو الليل وعتمته وافتقار الطرق للانارة القوية!....دخلت احداها على غير هدى لتجرّب حظها....دنت أكثر من اول بيتين صادفاها تتفقد رقميهما ...عبست ببراءة وتابعت طريقها....لم ينفعاها....بعيدان كل البعد عن رقم (53)...فجأة وجدت نفسها بين مفترق ازقة ...طرق متشعبة!!...شعرت وكأنها أرنب في متاهة البحث عن الجزرة!....رقم الهاتف مسجل على الورقة لكنه لن يفيدها فهاتفها لا يتصل!..." سحقاً غبية "....شتمت تلوم نفسها لمَ لم تحرص على شراء شريحة قبل قدومها ؟...ألم تفكر أنها قد تحتاجها ؟!....هل ظنت نفسها في حيها العريق النظامي كل شيء مسجل بشكل دقيق لتسهيل الوصول الى العناوين دون عناء ؟!....غاصت بعفوية تسلّم زمام امورها لقدميها أينما تأخذانها!....ارتدّت للخلف مجفلة تضع يدها على قلبها الذي هدر بفزع بعد أن قفز أمامها قط كبير يخرج من برميل للنفايات! ....لهثت انفاسها من شدة هلعها وكأنها كانت في سباق الماراثون.....تعترف بنفسها كم انها جبانة وقلبها ضعيف!....تخاف من أي شيء دون تفكير !!...اخرجت هاتفها لتستخدم كاشفه بعد أن وصلت الى نقطة دامسة الظلام!!...لم ترَ الا انعكاسات لعيون قطط جائعة ...حرّكته قليلاً للحائط فلمعت لمعة طفيفة قطعة حديدية اكل عليها الدهر وشرب...مليئة بالصدأ لكنها استطاعت قراءة الرقم!...اسدلت اهدابها وزفرت محبطة يائسة لاكتشافها انها بعيدة كل البعد عن البيت المنشود!......شتمت نفسها .." تباً لكِ يا متهورة عديمة التفكير !...الم تستطيعي الانتظار حتى الصباح؟!..."....ارخت كتفيها ونكست رأسها عائدة ادراجها وبينما هي تسير على مهل وصلها من زاوية قريبة قهقهات ودندنات فعاد ينبض نابضها بارتياب ووجل.....لقد شكّت أن اولئك هم من المتسكعين في الطرقات إذ انها كانت تشاهد افلاماً كثيرة ويكون امثالهم في الاحياء الفقيرة يشربون السجائر واحيانا الخمور والويل إن وقعت فتاة بين ايديهم!!...عند هذه الفكرة شهقت تنظّم أنفاسها المرعوبة واسرعت في خطاها دون اصدار صوت منها وهي تلتفت بحذر الى النقطة التي سمعتهم منها ...عجّلت أكثر من شدة ارتياعها فركلت دون انتباه علبة معدنية ملقاة ارضاً فضحت مكانها !....ثواني ليصلها صوت صفير اعجاب من احد الشبان الذي أطلّ من امامها بعد ان لمحها...كيف لا تدري!!...لم تعطي نفسها المجال لتفكر وفقط بدأت تركض وجبينها يتصبب عرقاً وكاد قلبها يخرج من صدرها واضطربت انفاسها ...زادت من سرعتها ....تركض وتركض حتى تعثرت بحجر مبلط يبرز قليلاً عن اخوته فوقعت على ركبتيها وتأوهت تكمش عينيها بحسرة ووجع.!! .قاومت اوجاعها ونهضت من جديد....قطعت مسافة لا بأس بها وعند شعورها انها ابتعدت قليلاً انحنت تضع كفيها على ركبتيها وهي تسعل بشدة ...تنتصب تلقط نفسها ثم تعود للانحناء ...انهكها التعب وفعل ما فعل بها!!..بدت وكأنها عجوز فاقدة لصحتها !....ثقلت حركتها ...نال منها الاعياء الشديد وقيّد قدميها....اصفرّ وجهها اصفرار الموتى من شدة الفزع وكان يهتز قلبها خيفة خلف اضلعها ....استسلمت لجبنها ولانعدام عافيتها .....لا يمكنها البحث أكثر والمغامرة والمخاطرة !!...أحسّت بحركة ما تقترب منها فلم تدري كيف استردت حصانتها لتبتعد اكثر وعند وصولها لطرف الحيّ سقطت جالسة على حافة رصيف سامحة لانهدام حصونها ...اعترتها رجفة هائلة بسائر جسدها صاحبتها ارتجاف شفتيها ....عجزت عن كل شيء!....غدت عاجزة جداً ...كأن شيئاً علق في شعبها الهوائية وشلّت اطرافها...لا سلاح لديها تدافع به عن نفسها ولا دواء تملكه يخفف عن الآمها.... لم تملك سوى البكاء والبكاء فقط !!...لو مرّ أحد وسمع أنينها لأدمت فؤاده عليها...كانت صورة لامرأة جريحة مكسورة الخاطر في حالة ميؤوس منها....ضمّت ساقيها تلصقهما بصدرها علّها تدفئ نفسها بعد موجة الصقيع التي داهمتها ليس من الجو إنما مما عاشت ...بنظرات مكلومة يشعّ منها الأسى تطلعت على الجرح النازف من ركبتها والذي تشعر بحريق يخرج منه!!..ثم رفعت رأسها للسماء بليله الحالك يكسره بعض النجوم.!!..لم تنطق حرفاً.!!..كانت عيناها كفيلة لتوصل رسالتها وهي تبثّ حزنها وتشكو همها لمن خلقها فسوّاها ....!!

[ يا مَن هواهُ أعـزّهُ و أذلني
كيفَ السّبيلُ الى وِصالِكَ دُلّنِي
يامن هواه أعزّه و أذلني
كيفَ السّبيلُ الى وِصالِكَ دُلّنِي
أنتَ الذي حلّفتَني وحَلفتَ لي
وحَلفتَ أنكَ لا تخون فَخُنتَني
وحلفتَ أنّكَ لا تميل مع الهوى
أينَ اليمينَ وأينَ ما عاهَدتَني
تركتني حيرانَ صبّاً هائِماً
أرعى النّجومَ وأنتَ في عَيشٍ هَنِي
لأقعُدنّ على الطَريقِ وأشْتَكي
وأقولُ مَظلُومٌ وأنتَ ظلمتَني
لأقعُدنّ على الطَريقِ وأشْتَكي
وأقولُ مَظلُومٌ وأنتَ ظلمتَني
ولأدعونّ عليك في غسق الدجى
يبليك ربي مثل ما أبليتنـي ]
((الإمام سعيد بن أحمد بن سعيد))
حجبت وجهها على ركبتيها غير آبهة للمكان المتواجدة فيه وكانت شهقات صغيرة تصدر منها بعد أن سكن نحيبها ...دقائق رتيبة مرت عليها وهي صامدة على حالها وفجأة شعرت بخبطات لقدمين ضعيفتين وصوت شيء يطرق على الأرض يدنو إليها....رفعت رأسها بتأهب فظهر لها رجلٌ من العدم....شيخٌ كبير!!...يرتدي ثوب ابيض وفوقه عباءة سكرية بحواف ذهبية...يتكئ على عصاه الخشبية العتيقة وعمامة بسيطة تعلو رأسه...ذقنه تنبت بعشوائية بلون رمادي غامق يخالطه الشيب ..وجهه ابيض وملامحه مريحة...يبدو عليه الطيبة ..سيماهم في وجوههم.!!...دنا منها أكثر واشاح وجهه جانباً يغض بصره وقال:
" السلام عليكم بنيتي!!..."
كانت ما زالت تتأمله ولمّا شعرت ببعض الأمان وتأكدت بقلبها أنه لن يأتيها خطر منه ردت:
" وعليكم السلام.."

" ماذا تفعلين على قارعة الطريق بنيتي ؟!....الوقت متأخر والدنيا غير آمنة لكِ !!.."

" تهتُ في طريقي!!.."

" توقعت هذا....فأنت تبدين غريبة عن الحيّ!!..كيف يمكنني مساعدتك ؟!.."

فكّرت قليلاً...نهضت من مكانها فتأوهت تخرج أنّة صغيرة بسبب ألم ركبتها...نفضت الغبار عن بنطالها من الخلف وأجابت :
" أبحث عن بيت السيدة سهيلة خضور .....كانت مربيتي!.."

×
×
×

* من ألمى لهادى*

لا ...يا من كنت حبيب..!!
طفلة صغيرة انا للحنان تروب..!!
رحلت أمي ومالت شمسي للغروب...
أباً لا يدري بي ولا يؤوب..!!
هو من تبقى لي.. فكيف أثوب؟!
حضناً منك كفاني كل الخطوب...
من هاديٍ حلمت به عمراً شبيب...
سيرتني أقداري لعهد جديد..!!
أب يشترى به مجده التليد..!!
بيامنٍ بين الود والقسوة عنيد...
احكمَ وثاقي بقيدٍ من حديد...
تناسيت وسلمت قلبي لحب وليد...
وعدت إلى هاديٍ بوجهٍ بعيد..!!
والآن تغتال قلبي لثأر شديد...
كيف أختار وخياري كله وئيد؟!
يمناي أنت ويسراي.. عمري.. بل يزيد..!!
طلقة اطلقتها على قلبي وكله وجيب...
كيف الوصول وقد تهت بين الدروب؟!
إخترت ...وجرح قلبي بلا مجيب..!!
(( كلمات الرائعة shezo))
*من هادي إلى ألمى*
((جباااار في رقته جبار
جباااار في قسوته جبار))
وما تجبر قلب العاشق إلا عشقا فاض، ولكنه استعصى على عشقه فعليه جار، وإحتار ما بين عشقه وكرامته فهنا صَعُبَ الاختيار.!
*****&&*****
((نعم يا حبيبي بحبك وأعيش ملك أمرك وأعيش ملك إيدك ))
نعم أردت الحب منكِ ولكِ
نعم أَحبكِ القلب وتعلق العقل
نعم أنا ملككِ وما تأمرين
ولكن!!بعد ما ملكتِ.. لقلبي هجرتِ ولحبي تَعصين.!
*****&&*****
(( في حياتك يا ولدي إمرأة عينيها سبحان المعبود
فمها مرسوم كالعنقود ، ضحكتها أنغام وورود))
وعن أي عيناً يتحدثون ولم يروا عينيّ عشقي وسماء أرضي
وهل رأوا حبيبتي ليصفوا ضحكتها وجمال بسمتها بعينيّ؟!
فما تفتحت ورود إلا بصفو سمائها، ونعومه ضحكاتها أنغام تطرب قلبي!
*****&&*****
((دمرتني لأنني كنتُ يوماً أحبها، أحبها
وإلى الآن لم يزل نابضاً فيكَ حبها، لست قلبي أنا إذاً.. إنما أنتَ قلبها))
دائما انت خائني تنبض عشقا لها ولو رغما عني
عشق أسعدني فأبكاني...عشق ملكني فباعني
عشق سعدت به فأحزنني...وعشق اخترته فهجرني
أيا نابضي لست إلا قلبها وتنبض عشقا بحبها.
*****&&*****
((وصفولي الصبر لقيته خيال وكلام فالحب يا دوب يتقال))
أي صبر وهل للعشاق صبر؟
ومن أين الصبر وعلى ما الصبر؟!
على فراقكِ وبعد سمائكِ عن أرضي
أي صبر يتحمله قلب الهادي؟!
صبر لهجر من طلبت الهجر!
صبر لفراق نبضاته، صبر على هلاك ما بقي من روحي، ومن أين يأتيني الصبر؟!
((اقتباسات مع خواطر من الغالية رعد السما))
×
×
×



فكّرت قليلاً...نهضت من مكانها فتأوهت تخرج أنّة صغيرة بسبب ألم ركبتها...نفضت الغبار عن بنطالها من الخلف وأجابت :
" أبحث عن بيت السيدة سهيلة خضور .....كانت مربيتي!.."

شرد قليلاً يحاول تذكّر الاسم ولما خانته ذاكرته قال:
" ما هو رقم بيتها؟...أتعرفينه.؟!.."

" ثلاثة وخمسون"

قالتها بلهفة كلها أمل فهزّ رأسه مجيباً:
" اوه يا ابنتي.....لقد ابعدتِ كثيراً...هو في الجهة المقابلة!!....الآن عرفتها السيدة سهيلة!..."

نكست رأسها محبطة ناظرة لموضع قدميها ثم عادت لترفعه هامسة بخيبة:
" كيف سأصلها اذاً؟!.."

فكّر قليلاً ونقل عصاه مستديراً بجسده هاتفاً برفق:
" تعالي يا ابنتي.....اتبعيني ولنرى كيف سنوصلك الى هناك!.."

رغم أن حدسها أكد لها طيبته الا أن ومضة ريب وخوف وافت قلبها لأنها لم تعتد على الغرباء!!....ها قد جاء اليوم الذي ستواجه به ناساً ليس من عالمها ولا ضمن حدود معرفتها ....لم تتبعه وظلّت مكانها متوجسة !!...ماذا لو كان هذا رجلاً نصاباً؟!...فهي خُدعت بأقرب الناس إليها... لمَ ليحنّ عليها الغرباء ؟!..من تكون بالنسبة لهم ؟!...هل ستثق من جديد؟!..وبينما هي في خضم ترددها وتساؤلاتها التفت إليها برويّة برأسه ثم لحق الالتفاتة استدارة بسائر جسده يضع يده فوق الاخرى الممسكة بالعصى ليحكم اتكاءه وقال بصوته المتعب من الزمن المختلط بالحنية:
" لا تخافي بنيتي!...أنت في سن احفادي!....برأيك هل يقوى الأشيب المنصوب أمامك على أذيتك؟!....تعالي وسترين بنفسك زوجتي واولادي واحفادي! وان لم تطمئني لا تدخلي بيتنا...!!.."

تبسّمت مجبرة كمجاملة له وقررت المجازفة فهي الآن كالغريق المعلّق بقشة....ثم هل سيكون هذا العجوز أخطر عليها من وحوش الشوارع؟؟!!....سار أمامها بتباطؤ سببه ضعف صحته ليصلا بعد دقائق قليلة الى بيته القريب والذي يلعب في الكرة أمامه العديد من أطفال الحيّ غير مكترثين للوقت رغم أن المدرسة تنتظرهم في اليوم التالي وما إن لمحه اثنان منهم حتى هجما نحوهما يصرخان بحماس:
" جاء جدي....جاء جدي!..."

وقفزا يتسابقان على احتضانه وسط ضحكاته الحنونة المختلطة ببحة التقدم بالعمر.....كان احداهما يبدو في التاسعة والآخر في الحادية عشر وكانت تراقبهم بصمت مع ابتسامة تشق ثغرها لبراءتهم ولبساطة الحياة التي يعيشونها فملابسهم ومدخل بيتهم وحتى الشارع كل هذا يظهر معالم مستواهم وكم شعرت بالغبطة لصوت ضحكات المحبة الصادقة التي تصدر منهم والتي تعني أي هداة بال هم يعيشون ....لا هموم...لا مشاكل ....لا قضايا تنتظرهم .....لا تشرد.....لا انتقامات ولا اتهامات.....حتى بهذا المشهد البسيط شردت متمنية لو أنها كانت مثلهم لتعود بعدها الى ارض الواقع بعد ان همس لها:
" هيا يا ابنتي ادخلي!..."

لم تتردد بالدخول هذه المرة بل ولجت مطمئنّة لأنها حكّمت قلبها فكم قالوا إفتِ قلبك!!.....لقد اخطأ من قال القلب يخطئ...على العكس ...اول ما يلمس قلبك قبولا او نفوراً يكون هو اشبه برسالة ربانية.....كحدس يرشدك اما ان تفعل او لا تفعل ...اما ان تحب او لا تحب......وسط ثقتها بقلبها عبست مجدداً تلومه....ان كان هذا صحيحاً لمَ اذاً غدرها وجعلها تحب ؟!....سألت نفسها إن اخطأت في حب الهادي كما اخطأت بحب يامن؟!...هي غاضبة نعم ولن تسامح ابداً...لكن لمَ قلبها لم يمتلئ كرهاً وحقداً على خالتها وعليّ أنا؟؟!...تشعر به ينزف مجروحاً اكثر من ان يكون ناقماً!.....أيكون هذا المرشد المختبئ خلف اضلعها مخطئاً بمن احبهم وهل توجد حقائق أعظم ستصدمها يوماً ما؟!..بل هل ستتحمل المزيد من الصدمات اساساً؟!..عند هذه الفكرة اجتبت أن تنفض افكارها التي تضاعف تعبها لتلتفت مجفلة بعد سماعها صوتاً انثوياً مرتفعاً حنوناً من عجوز تضع يدها على ظهرها تدفعها برقة هاتفة :
" هيا يا ابنتي تفضلي...ادخلي!.."

خطت باستحياء فأشارت لها لتجلس على احدى الارائك المغطاة بغطاء ابيض مورّد بالجوري الأحمر في غرفة متواضعة ووسطها طاولة خشبية عليها شرشف يوزّع فوقها كؤوس شاي عديدة كانوا قد شربوها في تجمعهم العائلي قبل وصولها اليهم وسجادة كبيرة بهتت الوانها تغطي الارض.!!....بعد أن اتخذت مكانها نظرت حولها فوجدت الغرفة مليئة بأشخاص بمختلف الاعمار من نساء واطفال وكان رجلان وهما من ابناء العجوز واللذان استأذنا في الحال فور استقرارها مكانها لأنها اجنبية عنهم فهما من الرجال الملتزمين دينياً.!!....كانت تخفض رأسها وتفرك يديها ببعضهما توتراً وخجلاً كونها غريبة فرفعت رأسها بغتةً بعد أن وصلها صوت طفل في السابعة من عمره يبدو عليه الفراسة والمشاكسة وهو يشير لقدميها قاطباً حاجبيه ببراءة ومعترضاً:
"جدتي...جدتي...لمَ تسمحين لهذه الفتاة الدخول بحذائها ونحن لا ؟!.."

نظرت لقدميها وتململت محرجة فصاح به الجد قائلاً:
" اصمت يا ولد واخرج العب مع الأولاد!.."

تنحنحت هامسة بحرج ووجنتاها متوردتان:
" أنا آسفة لم انتبه!.."

ونهضت من مكانها تخلع حذاءها والجميع يحدّق بها وكأنها مخلوق غريب!....كانت فتاتان تبدوان في سن المراهقة تقفان عند باب المطبخ المطل على الغرفة وتتهامسان بينهما وكنّتا العجوز تجلسان على أريكة مقابلتان لها يظهر على وجهيهما الطيبة ...!!

" هيا يا نُهى اجلبي من عصير المانجا الذي حضرته!.."

هتفت الجدة لإحدى حفيدتيها الواقفتين عند باب المطبخ فهمست برقيّ:
" لا داعي يا خالة....لا تتعبوا انفسكم!.."

ردت بحنان وصوت يميزها بسبب نبرته المرتفعة:
" لا تقولي هذا!!...لم نفعل شيئاً يا ابنتي والجود من الموجود!...لا تآخذينا!.."

صرخت فتاة صغيرة متأوهة عندما لسعتها الفتاة المراهقة الاخرى فنهرها الجد لتصمت فقالت وهي تمسك ذراعها:
" لسعتني ديما لأنني قلت لها سأسأل ضيفتنا الجميلة عن اسمها لأنها تشبه سالي في كرتوني المفضل!.."

حاولت كتم ضحكتها ووجهها اكتسى بالحمرة ثم اخذها الحنين لصوت من الماضي لحظة اخبار خالتها لها بأن والدتها كانت ستسميها (سالي) وقبل أن تشتعل مشاعر الاشتياق لكل شيء من ماضيها اكثر واكثر وقبل ان تتجمع الدموع بعينيها تسلّحت بالقوة تحارب هذا الحنين واجابت الصغيرة بهدوء:
" اسمي ألمى....لكن أمي كانت تود تسميتي سالي !"

هتفت الطفلة باعتراض عابسة:
" يا الله لو كان اسمك سالي لذهبت لأغيظ صديقاتي واقول لهن ان سالي قامت بزيارتنا!.."

ضحكت لكلماتها وقالت:
" وانا وددتُ أن يكون اسمي سالي لكن أبي اختار ألمى!..."

عند ذكرها لوالدها تحشرج صوتها وابتلعت ريقها قلقاً عليه فهتفت الطفلة ببراءة:
" هل هذا لون عينيك أم عدسات لاصقة؟!.."

وتابعت بانبهار:
" لأن لونهما جميل جدا كلون السماء الصافية!.."

رسمت ابتسامة وداخلها غصة وهي تتذكر نعتي لها بسمائي وردت بألم تحاول اخفاءه:
" لون عينيّ!.."

فتحت فمها لتتابع اسئلتها فأغلقه لها الذي قال :
" هيه...شام!....كفاكِ ازعاج للسيدة....ادخلي الى المطبخ!..."

رفعت كتفها رافضة تزم شفتيها ثم قالت حانقة:
" لا اريد جدي!....اريد ان اجلس مع شبيهة سالي.."

ضحكوا جميعهم واقتربت تجلس جانبها بعد ان اشارت لها بيدها دون ان تهمس أي كلمة.!!...اما الجدة كانت تحملق بها وتتأملها وتسمي بالله لتحصينها من العين بسبب جمالها رغم شحوبها بعد ما مرت به على مدار ايام ثم هتفت بتلقائية دون مراوغة وتفكير:
" لمَ لا ترتدين الحجاب لتخفي جمالك بنيتي؟!....كي يحفظك الله من شر الانس والجن ومن عذابه!.."

بدا عليها الاحراج لكنها اجابت متهربة وهي تقول في نفسها " ما بها اذا كذبت فهم لن يروني مرة اخرى وسأختصر على نفسي سماع محاضرات.."...:
" قريباً خالتي...أنا انوي ذلك!.."

تبسّمت برضا من اجابتها وهي تربّت على فخذها بحنوٍ وأكملت بفضول بينما كانت عيناها على الخاتم ببنصرها الايسر:
" لا أعلم كيف سمح لك زوجك بالخروج هكذا وبهذا الوقت؟!....لو كنتِ زوجتي لألبستك النقاب لأخفي وجهك الفاتن ما شاء الله ولرافقتك اينما ذهبت!.....يا ترى أين زوجك بنيتي؟!.."

تطلعت على الخاتم بإصبعها بأسى وحرّكته بأناملها الأخرى شاردة والحزن يغلّف قلبها واختارت أن تجيب كاذبة على السؤال الأخير فقط دون أي تعليق على ما قبله لتنهي فضولها:
" زوجي مسافر وسيعود قريباً.."

بعد فترة من الزمن تخللها نقاشات مختلفة تنحنح العجوز لينقذها من ثرثرة عائلته هاتفاً برفق:
" سأرسل معك حفيديّ ليرشدانك الى بيت السيدة سهيلة....لكن اولاً عليك تناول الشاي مع كعك الحاجة أم عبد الرحمن..."

هزت رأسها بهدوء رافضة وهمست وهي تنظر لساعة يدها:
" شكراً لكرم ضيافتكم....لكني على عجلة من أمري وعليّ الذهاب اذا سمحتم.."

بعد محاولات كلها كرم وجود منهم قوبلت بالرفض نهضت من مكانها تعدّل لباسها وتمسك حقيبتها الصغيرة ثم شرعت تصافح نساء البيت ممتنة لاستقبالهم لها وعند اقترابها من العجوز وقبل ان تمد يدها هتفت الطفلة (شام):
" لا تصافحي جدي....انه لا يصافح النساء الغريبات فقد علّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم..(( لأن يطعن في رأس أحدكم بِمخْيَط من حديد خير من أن يمس امرأة لا تحل له))..."

تورّد وجهها حرجاً كيف لطفلة صغيرة تعرف في الدين أكثر منها بل تعلّمها ايضاً لكنها حمدت الله في سرها أنها لم تقع في موقف هي بغنى عنه وسط هذه الأعين التي تراقبها ..ماذا لو أنها مدت يدها وظلّت معلقة في الهواء ولم يتجاوب معها؟!!.. ومن بين طيّات ذاكرتها مرّ عليها مواقف عاشتها معي مثلاً عندما لم اصافحها بالمخيم نكاية بها وكم كان موقفاً مخزياً وجارحاً بالنسبة لها ثم انتقلت لمواقف أخرى عند رفضي لمصافحة النساء خوفاً من ربي فباغتتها بسمة صادقة ثم التفتت للذي وقف امام الباب هاتفاً:
" نعم جدي!....نادتني شام من أجلك!..."

دنا منه ببطء يضع يده على كتفه هامساً بحنان:
" اذهب يا ولدي أنت وعصام مع السيدة لتوصلاها الى البيت رقم ثلاثة وخمسون في الشارع الداخلي المقابل لنا......عند السيدة سهيلة خضور ولا تعودا حتى تتأكدا من دخولها هناك!..."

اومأ باحترام هامساً:
" حسناً جدي..."

ثم نظر إليها بأدب وقال:
" تفضلي معي ..."

سارت معهما بين الأزقة وكانت تتوسطهما وكأنهما حارساها بعد أن شدد الجد في توصياته عليها ليحميانها .....كانت تسير في ثقة وأمان عكس لحظة دخولها الحيّ.....شعرت بشيء من الأُنس اتجاه هذه العائلة وهذان الصبيان اللذان يبدوان انهما تربيا على الاخلاق والدين وكأنهما رضعا الرجولة منذ صغرهما وهي تراهما يمشيان بعنفوان وينقلان انظارهما بتأهب على الجهتين ولم تستغرب هذا بعد الوقت الذي امضته في البيت الأسري الدافئ ولشهامة العجوز معها.....لقد شعرت أن هنالك من يهتم بها حقاً ويعطيها قيمة .....كم كانت متعطشة هذه اللحظات لإهتمام بسيط بعد أن فقدت كل علاقاتها وبعد أن غدت وحيدة وكأنها بالفعل مقطوعة من شجرة!!...أحياتها السابقة كانت حلماً واستيقظت منه ؟ هل كتب عليها أن تذوق المرار في عيشها من ساعة ولادتها حتى مماتها؟!...لن تستسلم ليأسها .....بل اصطفت أن تعيش على أمل والأمل فقط.....أجل ربما هذا كابوس وستفيق منه قريباً....والدها مظلوم وستثبت براءته !!...الجميع مخطئ باستثنائها !!....وفي لحظة وسوسة داهمتها فجأة لاحت فكرة في بالها.."..ماذا لو...ماذا لو كان أبي الظالم والبقية هم المظلومين؟!...".....عبست ملامحها ولامت نفسها....كيف تسمح لنفسها بالشك فيه؟!....إنه والدها ومهما كان قاسياً هي تعلم أنه لا يصل به الحال حد الخيانة والقتل!!.....لم تشعر بالوقت الذي سارت فيه بين الصبيّان في هذا الحيّ الغريب وأجفلت على صوت الذي يظهر عليه علامات بداية البلوغ قائلاً:
" ها هو البيت ..."

تبسّمت بامتنان لشهامتهما ودنت تطرق الباب برقة طرقات خفيفة فالوقت الآن يعتبر متأخر نوعا ما وهي لا تعرف كيف يكون نظام النوم هنا..!!...عدّلت وقفتها عائدة خطوة الى الخلف تنتظر أن تفتحه لها صاحبة الصوت الناعم التي همست:
" لحظة ...لحظة....لقد أتيت!.."

فُتح الباب لتظهر لها فتاة تخفي نصف جسدها السفلي وراءه والقسم العلوي ترتدي الحجاب الخاص بأسدال الصلاة وتمسك طرفه لتلثّم وجهها وتظهر عينيها فقط دون تمييز لونهما وقد استغربت (ألمى) حركتها تلك هامسة بعقلها.."..هل وجهها مشوّه وتخفيه يا ترى؟!.."..ثم عادت لتركّز معها عندما همست تلك بنعومة وهي تحدّجها:
" تفضلي....أي خدمة؟!.."

استدارت وابتسامة تشرق على محيّاها تهديها لحارسيها وتشكرهما ثم تحررهما من مهمتهما ولما بدآ بالركض أعادت وجهها لتجيب :
" مساء الخير....هل السيدة سهيلة موجودة؟!.."

حدّقت بها تتفحصها وسألت بتشكك:
"أجل...من أنت يا آنسة لأخبرها؟!.."

ردّت بعذوبة:
" أنا ألمى عاصي رضا.."

اتسعت عيناها متفاجئة وهتفت:
" أهلاً أهلاً سيدة ألمى....آسفة لم اعرفك....تفضلي رجاءً..."

قالتها وهي تتنحى جانباً وتشد الباب لتسمح لها بالدلوف ثم اغلقته من خلفها .....انحنت (ألمى) تخلع حذاءها بعد أن تعلمت أول درس عن عادات هذا الحي القديم ولما انتصبت بوقفتها صدمت مما رأته في وجه هذه الفتاة بعد ان افلتت طرف اسدالها وفكرت داخلها .."...رباه....ما هذا الجمال الفاتن؟!..لمَ تخفيه اذاً؟؟ " ليوقظها من صدمتها اللحظية صوت التي ضحت بجسدها من أجلها وهي تسأل من غرفة جانبية:
" من على الباب يا رهف؟!.."

ردّت عليها بنبرة سرور وحماس:
" انتظري ولتري بنفسك!..."

ولأن البيت صغير وأبوابه تقابل بعضها البعض في هذا الرواق الضيق لم تنتظر كثيراً حتى أضحت امامها تقف على الباب هامسة بصوت متحشرج تبتلع ريقها وسماءيها ترقرقتا بالدموع:
" هذه أنا خالتي....مساء الخير!.."

وقبل أن ترد السلام عليها فتحت لها ذراعيها بكل محبة تكنّها لها لترتمي بأحضانها فاندفعت تجثو أمامها وتحتضنها وهي تدفن رأسها على صدرها وشرعت بالبكاء دون مقدمات فالبكاء هو الذي يتكلم عنها وهو الذي يترجم ما يحمله قلبها ...بكاء تخرج به ألم صدماتها واحتياجها لشخص يفهمها ويساندها ...لروح تحتويها وتحتوي اوجاعها دون مصالح او شروط....دون انتقامات وصفقات....فقط تريد قلباً يحتضنها لأنها هي (ألمى) الانسانة....لأنها (ألمى) الطفلة....لأنها (ألمى) اليتيمة ولأنها المجروحة والمطعونة من أقرب الناس لها!!....ترتجي من يشاطرها عواصفها وعذابها..... لا يحمل اسراراً ضدها..... ولا أي نوايا خبيثة..!!..أهذا كثيرٌ عليها ؟!...ألهذه الدرجة هي سيئة ولا تستحق ذلك؟؟!...

أحكمت الجالسة على الكرسي المتحرك من احتضانها وقابلتها تذرف دموعاً على حال صغيرتها...تربّت على ظهرها وتومئ بعينيها لابنة شقيقها لتتركهما كي تعطيها الخصوصية وحق الارتياح من غير قيود ولا احراجات ففعلت تحترم طلبها وعلا نحيب الجاثية على الأرض لتخرج مع عبراتها القهر الذي ألمّ بها مِن طعنات مَن كانوا أقرب المقربين وأصبح كل واحد منهم في عالم بعيداً عن عالمها ولم يعد يربطها بهم الّا ذكريات قليلة...قصيرة المدى...ذكريات بدايتها اشراقة أمل.... وأوسطها وجع وألم لكن آخرها كان ندم ليس بعده ندم......!!
مدّت يدها تحت ذقنها لترفع لها رأسها بعد أن خَبُتَ صوت نحيبها وقد تقطّعت احشاؤها على منظرها الأليم بوجهها شديد البؤس المطلي بلون الدم وكانت جفونها منتفخة من كثرة البكاء فهمست لها وهي تمد يدها الأخرى لتمسح مجرى الدموع الذي اخترق وجنتيها الناعمتين:
" حاولتُ الاتصال بك صغيرتي لكن هاتفك كان مغلقاً..."

مسّدت شعرها وهي تتطلع عليها بنظرات حانية وتابعت:
" فضفضي حبيبتي لترتاحي....ما بك؟!....هل السبب موضوع والدك؟!.."

لن تتفاجأ من سؤالها فالخبر السيء يدور الكرة الأرضية بأكملها ومع ذلك الى الآن لم ترَ أن ما حدث لوالدها شيء مخزي بل تتشبث باعتقادها أنه يقع ضحية ظلم وسينجو منه بالتأكيد وإن باعت عمرها من أجله..!!.... رمشت وهزّت رأسها ايجاباً واجابت ببحة خفيفة وهي تمسح انفها ومحجريها بيديها :
" أرأيت خالتي أي ظلم تعرّض له والدي؟!..."

بحسرة ولوعة وايماءة خفيفة برأسها أجابت بـ نعم ثم أمسكت يديها لتساعدها على النهوض وهي تقول:
" اجلسي على الأريكة وارتاحي ..."

أطاعتها من فورها وجلست جانبها وهي تزيح خصلات من غرتها نزلت على عينها بينما كانت تشعر وكأن قبضة خشنة تعتصر معدتها فاستدارت تلك بكرسيها المتحرك لتصبح ازاءها وهمست بعطف :
" اخبريني قصتك يا ابنتي!..وكيف وصلتِ الى هنا ؟!.."

وقبل أن تبدأ بسردها لها طلبت السيدة (سهيلة) من ابنة شقيقها لتحضّر كأس حليب بالشوكولاتة وهو المشروب الساخن المفضل عندها وبعد أن انخرطتا في بدايات قصتها لحظة ارتباطها بي وبينما كانت تصغي لها مربيتها بحنان جارف وشفقة جليّة وقبل الغوص في غمارها أكثر دخلت إليهما (رهف) بعد أن تنحنحت واستأذنتهما وهي تحمل الصينية لتقدّم ما عليها للضيفة وما إن اقتربت منها حتى اغلقت مخارج انفاسها لتحجب الرائحة عنها وهي تحرك يدها الأخرى تزامناً مع رأسها رافضة هذا المشروب فاستغربت السيدة (سهيلة) ردة فعلها ورمقتها بنظرة توجس فهي التي لم تنسى أي شيء يخصها سواء كانت تحبه او تكرهه وحتى أبسط الأشياء تذكرها لها وقد جاء في بالها عندما كانت طفلة تعتني بها بكل صغيرة وكبيرة وبعد طيف الذكريات قالت باستنكار:
" ما بك صغيرتي؟.....إنه المشروب الافضل لديك فأنت تعلمين أنني احفظ كل شيء يخصك...."

رجعت الواقفة للخلف خطوتين منتصبة تنتظر أمر عمتها بينما كانت الأخرى تجاهد وهي تجيب باشمئزاز رغماً عنها:
" لم أعد أحبه خالتي....ارجوك ابعديه لا اطيق رائحته!.."

أكملت تطالعها بريب:
" هل أنت بخير؟!..."

" أين الحمام؟!.."
فزّت من مكانها تلحق سؤال تلك بسؤال مستعجل ثم اغلقت فمها بكفها وتبعت التي سبقتها هاتفة:
" اتبعيني!."

بعد أن استفرغت ما في معدتها خرجت تغسّل وجهها ويديها في مغسلة خارج الحمام فناولتها الواقفة بانتظارها منشفة صغيرة وسألت بقلق:
" هل اصبحتِ بخير سيدة ألمى؟!.."

همست بصوت موجوع ووجهها يكسوه الشحوب بعد خروجها من حربها الشعواء:
" لستُ بخير....أشعر أن احشائي تتقطع!..."

وضعت يدها على ظهرها قائلة بلطافة مع بسمة صادقة :
" هيا تعالي ارتاحي لاحضّر لكِ كوباً من النعناع ....مفيد لمثل هذه الحالة!.."

لما دخلت الى الغرفة التي تتواجد بها مربيتها رفعت الأخيرة نظرها إليها هامسة بخوف عليها:
" كيف انت الآن بنيتي؟!.."

اتخذت مكانها حيث كانت تجلس في البداية وقالت لتطمئنها:
" سأكون بخير بعد قليل!...سلّمها الله الآنسة رهف ستحضّر لي مغلي النعناع.."

زلفت اكثر بكرسيها المتحرك ووضعت يدها على فخذها تمسّد عليه بحنية وألقت سؤالها بتشكك:
" هل أنتِ حامل؟!.."

جحظت عيناها لوهلة ثم عادت لطبيعتها لأنها لم تعد تستغرب هذا السؤال الذي القي على مسامعها للمرة التي لا تدري عددها وسرحت بعقلها .." ما بهم جميعهم مصرّون على حملي؟!....كأن هذا ما ينقصني الآن...هل يظنون أنني تواقة لذلك؟!..." ثم اجابت هاربة بعينيها جانباً:
" كلا....لمَ سأكون حاملاً؟!.."

رسمت ابتسامة عطوفة وقالت:
" ألستِ متزوجة؟!...ما الغريب في الموضوع؟.."

اجابت ببلاهة:
" ها؟...بلى!...لكن لا يمكن!..."

شعرت بها محرجة فبدّلت سؤالها:
" أين هو زوجك؟!.."

غامت عيناها حسرة على حالها وهمست بنبرة مختنقة:
" لقد انفصلنا!..."

شهقت تضع يدها على صدرها هاتفة بعدم تصديق فهي ما زالت لم تخبرها باقي حكايتنا:
" ماذا؟!...لمَ؟!....السيدة فاتن لم تنفك يوماً عن امتداحه!....ماذا حصل بينكما؟!...."

امالت زاوية فمها بابتسامة ساخرة وتكدست عيناها بالدموع ألماً وردّت بشجى:
"اكتشفت أنني كنت البطلة المغفلة بمسرحية دنيئة يتشارك بإخراجها زوجي وخالتي!....خالتي الحبيبة باعتني يا خالتي سهيلة!....ولا أعرف أي ثمن حصلت عليه منهم !..هما السبب بما ألمّ بأبي.....حقاً أنا....."

قطع كلامها التي دخلت تحمل بيدها كوباً من مغلي النعناع وتمدّه إليها هامسة بلطف:
" تفضلي سيدة ألمى عسى أن ترتاحي!.."

أخذته منها بحذر ووضعته على الحافة الخشبية العريضة للأريكة وأسندت ظهرها للخلف وهي تسحب مخدّة صغيرة مربعة من جانبها وتضعها على بطنها ثم نظرت للتي كانت على صفيح ساخن منتظرة سماع حكايتها هامسة لها بفضول:
" اخبريني صغيرتي بكل شيء!.."

بدأت تسرد لها الحكاية الأساسية دون أن تغفل عن كلمة وبين الكلمة والكلمة غصة تختلج صدرها وألم يحرق روحها وسراب لذكرى مشاعر جميلة لم ولن تنساها لينتهي حديثها وصولاً لوجودها هنا في بيت من كانت تصغي لها بكل جوارحها والتي ختمت الحديث محوقلة مصدومة ومقهورة لأجلها ثم تبع صدمتها صمت يسير وبعد الصمت اتسعت عيناها اثر تذكرها شيئاً مهماً هامسة بحيرة:
" إذاً مِن أجل ذلك بعثت لنا السيدة ايمان ظرفاً مغلقاً كأمانة لك وجعلتني أقسم على عدم فتحه وعلى تسليمه لك مهما كلفني الأمر!.."

قطبت حاجبيها وضيقت عينيها قائلة كلماتها على مهل:
" أي ظرف؟!..وممن بالضبط؟!....أنا لا افهم!.."

رفعت كتفها بحيرة هامسة بحزن:
" لا اعلم ما به صدقاً.!!..لكنها تواصلت معنا أنا ورهف وقالت أنه أمانة لكِ من خالتك فاتن شافاها الله لأنها تخشى ألا تعود حيّة لا قدّر الله..!.."

ختمت كلماتها بنبرة متحشرجة أما المستمعة لها سواء أنكرت أم لم تنكر!!...إنها لم تستطع منع الرعشة التي سرت بجسدها خيفة دون ارادتها بعد أن اخترق أذنيها * ألا تعود حيّة *...ولكن الجرح النازف من أعماق قلبها زادها صلابة وتجاهلاً فظلّت على رأيها هاتفة:
" يريدون أن يقنعوني بمسرحيتهم التافهة بشتّى الطرق!....لن أصدقهم....خذلوني وأحرقوا كل ذرة ثقة مني اتجاههم.....حتى لو نفترض أن كلامهم صحيح مع أنه مستحيل.... هذا لا يعطيهم الحق بما فعلوه بي!....كيف كانوا بلا رحمة وتلاعبوا بقلبي بهذه البساطة؟!...."

تململت في مكانها تنظر بضياع للأرض وأردفت بكآبة وأسى:
" يا إلهي....أنا الى الآن ما زلت لا استوعب ما فعلوه بي وكيف غدروني بكل صفاقة!....كيف يثقون أنني سأستمع أو اؤمن بأي كلمة منهم؟!.."

" لكن بنيتي عليك استلام الأمانة مني ...لا تتسرعي بالحُكم دون أن تأخذي بالأسباب!..."

وما إن أنهت جملتها حتى التفتت للواقفة تطلب منها احضار الظرف من خزانتها وقد عادت تحمله بعد قليل وأعطته لعمتها لتناولها إياه ولمّا أخذته بتردد قلّبته تتفحصه بعدم اكتراث ثم دسّته دون اهتمام بحقيبتها الصغيرة لتهتف السيدة (سهيلة):
" ألن تفتحينه؟!"

أجابت بامتعاض وهي تحاول رسم ابتسامة مجاملة:
" لاحقاً في البيت!....الآن اتركي اخباري الكئيبة وحدّثيني عن أحوال صحتك وإلى أين وصلتِ بعلاجاتك!؟؟.."

اومأت لها بامتنان لسؤالها واجابت:
" حمداً لله....بالطبع لن اعود ابنة العشرين...ألمهم أنني لا أشعر بالألم بسبب الأدوية الفعّالة وأنا راضية بقضاء الله....!!.."

أمضت ساعة ونصف من الزمن لم تدرك كيف انقضت بينما كانت (رهف) تشغل نفسها بالداخل لتفسح المجال لهما بإعادة ذكريات أيامهما الماضية مرةً ومرة الخوض في قصص شائكة بعيدة عن المصيبة التي تقع بها وقد تعمّدت ذلك مربيتها لتخفف من وطأة الأحزان التي يحملها قلبها الصغير البريء وبعد برهة انتبهت لساعة يدها التي تشير للواحدة وربع بعد منتصف الليل لتقف بتأهب شاهقة مع تلوّن وجهها محرجة وهي تسلط حدقتيها المهتزتين انفعالاً مِن تطفلها على أهل البيت:
" ويلي....لم أنتبه للوقت...أنا حقاً آسفة خالتي.....لقد اقلقتك وأفسدت نومتك!!..سأذهب بالحال!..."

مدت يدها لتمسك بيد الواقفة امامها تهدئ من ارتباكها وبوجهها البشوش وضحكتها الحنونة هتفت:
" ومن قال أنني سأسمح لكِ بالذهاب وخاصة في هذا الوقت؟!....ستباتين عندنا أنا ورهف ابنة أخي فهي تبقى معي لتسلّيني ولتهتم بي....ويا لسعادتي سأنام الليلة وفي بيتي ابنتيّ الجميلتين!!.."

" لكـ....لكن خالتي لا يمكن ذلك..."

همست برقة وهي تجول بعينيها على أركان البيت متابعة:
" سأسبب لكم الازدحام!....لا تؤاخذيني ...البيت صغير ولا ينقصك وجودي!...."

هتفت موبخة اياها بلين:
" سأغضب منك صغيرتي!....لقد زارتنا البركة والبيت بيتك والخير خيركم.....ثم ألم تسمعي بالمثل القائل ....البيت الضيّق يتسع لألف صديق؟!.."
بحياء وعدم راحة حاولت الاعتراض:
" حقاً خالتي تعلمين كم أنت غالية عندي....لكني لن أرتاح وسأشعر أنني متطفلة عليكم وأزعجكم.....سأزورك مجدداً.."

بحزم وجدية وذكرى لن تنساها ما حييت هتفت:
" لن تذهبي يعني لن تذهبي!....هذا البيت أنتِ الأحق به!...من بعد الله لولا والدتك السيدة كريمة رحمها الله لغديتُ متنقلة دون استقرار بين بيوت أخوتي ..."

غضنت جبينها وسألت بعدم فهم:
" كيف؟!...ما دخل والدتي؟!.."

شردت بالفراغ تسبح في صفحات ماضيها ولمعت عيناها بدموع عزة نفسها الجريحة وأجابت:
" كنتُ متزوجة من رجل خُدعت به ....ظننته رجلاً شريفاً وتبيّن أنه لا يمت للشرف بصلة!...نصّاب عديم مروءة....كان يسقيني الويل من لحظة معرفته بحملي ....في الصباح والمساء كان يتلذذ في ضربي لأجهض وأنا صاغرة صابرة عليه....لم اشأ أن أهرب منه لأزيد حملاً على اشقائي البسطاء الذين يكدّون ليلاً ونهاراً ليعيلوا عائلاتهم الكبيرة آنذاك وفي النهاية نجح في مهمته وسقط الجنين...كنت في بداية الحمل!...ولكن الله يمهل ولا يهمل فجاء الرد من السماء على الفور في اليوم التالي بعد أن سقط من مكان عالي في ورشة بناء يعمل بها ليلحق ابنه....ولكن الظُلم لم ينتهِ بموته فبعد انتهاء شهور العدة خاصتي بدأ اشقاؤه بالمطالبة بالبيت بحجة أن ابناءهم أحق به لأن لا اولاد لي!...صاروا يضغطون عليّ لأتركه فأجبرت على ذلك بعد حملة مضايقات يعلم بها الله ولما عدتُ هنا إلى حي اشقائي شرعت بالبحث عن عمل ووجدت جمعية تهتم بمربيات الأطفال والأطفال نقطة ضعفي وأكثر ما أحب فيسّر الله ذلك بالحال عندما زارت جمعيتنا التي التحقت بها في ذاك الوقت والدتك وهي حامل بك في الشهر الأخير ولأن القبول يضعه الله في قلوبنا دون اختيار منا ولأن نصيبي كان جميلاً حينها فقد أشارت والدتك إليّ دوناً عن الأخريات بوجهها السموح وقلبها المحب لتهديني مهمة الاعتناء بأجمل طفلة رأتها عيني..!!.."

قرفصت أمامها تمسك يديها وتتطلع بعينيها وسماءيها احتقنتا بالدموع تعاطفاً مع قصتها وهي تهمس ببراءتها:
" أحبك خالتي...أنتِ من أغلى الهدايا في حياتي!"

رغم الألم....تهدي الجميع حبها...هكذا هي وهكذا فطرتها....تنثر الحب الذي تبتغيه....لا تبخل بقول شيء زاحم قلبها!!....

لتتابع الأخرى حكايتها بامتنان خالص:
" وبعد مدة لا باس بها من العمل عندكم أصبحت علاقتي بالسيدة كريمة والسيدة فاتن متينة وجعلاني كشقيقتهم الكبرى ...تعاملاني بود واحترام ويأتمنني على كل شيء...يستمعن لنصائحي ولم تشعراني ابداً أنني عاملة بالقصر وفي ذات يوم وبعد سنة من معرفتي بكم قررت السيدة كريمة زيارتي في بيتي فصدمت لما عرفت أنني أعيش كالبدو الرحالة كل يوم في بيت أحد اشقائي الخمسة....لم أفصح عن وضعي هذا يوماً !!...لم أظهر لهن ما أعاني ففاجأتني تغدق عليّ بكرمها بعد يومين دون تأخير وهي تشتري هذا البيت خصيصاً من أجلي وتسلّمني ملكيته الكاملة كي لا يجرؤ أحد على طردي وقد اختارت أن يكون وسط عائلتي الدافئة بأفرادها الذين يحبونني حقاً ويعتنون بي...!!.."

وبابتسامة تزيّن ثغرها مدت يدها التي ارتسمت عليها خطوط الكد والشقاء طوال سنين لتمسّد على وجنة صغيرتها وهي تقول:
" أرأيت بنيتي أنه بيتك!...رضي الله عنك لا تعانديني وستبقين معنا.!!.."

استسلمت للأمر الواقع ولِكَم ارتاحت بالفعل لهذا الاقتراح فنصف منها كان يريد الذهاب حفاظاً على عزة نفسها وكبريائها والنصف الآخر متردد خائف مما سينتظرها في القصر الكبير ألذي أصبح مليئاً بأشباح الوحدة...!!
نادت السيدة (سهيلة) على (رهف) لتطلب منها تجهيز مكان لنوم ضيفتهما فأقبلت عليهما ترتدي منامة وردية ترسم جسدها الممشوق بطولها الأنثوي وكان شعرها الكستنائي المتعرج ينزل بأريحية ليصل منتصف ظهرها وبرزت عيناها الخضراوتان بعد أن خلعت أسدالها التي كانت تتفتل بها قبل قليل وظلّت (ألمى) تحدّق بها مبهورة بجمالها الملفت ومستغربة داخلها كيف لهذه الفاتنة أن تخفي حُسنها تحت الحجاب والنقاب ولا تتباهى به مثل أي فتاة تمتلك هذا القدر من الأنوثة الطاغية والسحر ..!!....هتفت (رهف):
" تفضلي معي سيدة ألمى الى غرفتي.."

بابتسامة راقية همست:
" شكرا لكِ...أتمنى أن أكون ضيفة خفيفة عليكِ...وسأكون مرتاحة لو ناديتني ألمى فقط!!.."

اومأت بابتسامة رقيقة توافقها على اقتراحها واستدارت تتجه الى الغرفة لتلحق بها بهدوء ولما دخلتا الغرفة اقتربت(رهف) من سريرها قائلة وهي تتناول عنه منامة تخصها:
" بدّلت غطاء السرير وهذه المنامة ممكن أن تناسبك.."

تطلّعت على الواقفة أمامها وأكملت بخجل:
" ربما تكون طويلة بعض الشيء عليك!...لكنها تفي بالغرض!..."

اخذتها منها هامسة بمزاح:
" ما شاء الله من اين لك هذا الطول ؟! ..."
وأضافت:
"..سلمت يداك!.."

قالت ضاحكة:
" هكذا عائلتنا جميعنا عمالقة وحتى أنني اعتبر أقصرهم..."

انهت جملتها وخرجت على صوت ضحكة ضيفتها لتتركها على راحتها تبدل ملابسها ولما عادت بعد قليل وجدتها تجلس على السرير تنظر إلى صورة داخل اطار موجودة على المنضدة وكانت لشاب ملتحي وخلفه الكعبة المشرّفة فاقتربت منها التي دخلت للتو وجلست جوارها وهتفت باسمة:
" هذا خطيبي بكر عاد من العمرة حديثاً...!.."

" هل هو شيخ ؟!.."

باعتزاز وفخر اجابت:
" يمكنك قول ذلك!.....لديه معهد لخدمة القرآن في الحيّ ويؤم احياناً في المصلين عند غياب إمام الجامع!...."

دون تفكير وبتلقائية سألت:
" هل هو من اجبرك على الحجاب ؟...وأظن انك تضعين النقاب ايضاً لتغطي وجهك أليس كذلك؟!.."

ضحكت وقالت بثقة:
" أجل أضع النقاب!.....لم يجبرني أحد على شيء....تربيّت في أسرة تحاول الالتزام قدر المستطاع!...كنت محجبة دون نقاب وكنت في الليالي ادعو أن يرزقني الله الزوج الصالح فالحمد لله الذي رزقنيه من غير حول مني ولا قوة !...عندما خطبنا منذ سنتين تعاهدنا أن نأخذ بيديّ بعضنا الى الجنة!....كان حلمه أن يفتح معهداً للقرآن وكنت خير داعمة له معنوياً بفضل من الله ....لطالما حكى لي أنه تمنى دوماً أن يرزقه الله زوجة ملتزمة تقتدي بأمهات المؤمنين قلباً وقالباً....وكان يقول لي أن أعلى درجات الرقيّ في المرأة هي التي تحمل بقلبها الايمان وعلى لسانها تردد القرآن والتي تستر جسدها ووجهها من أعين الناس والجان....كانت كلماته تلامس شيئاً داخلي يوماً عن يوم....تحيط به هالة ايمانية تبث السكينة لمن حولها فلم أتردد بوضع النقاب ولن أخفي عنك أي راحة وطمأنينة شعرت بها حينها وقد تلقيتُ تشجيعاً يثلج الصدر ممن حولي وكانت الفرحة الكبرى من نصيب بكر الذي بدأ وقتها يعلمني تجويد القرآن بالطريقة الصحيحة بكل حُب واخلاص وتفاني من أجل مرضاة الله.."

عند آخر كلماتها لمعت عينيّ المصغية لتفرّ دمعة حنين رغماً عنها وهي تتذكر دروسي القليلة في تعليمها ترتيل القرآن مسحتها بظهر كفها وشقت ثغرها مبتسمة كمجاملة ومجيبة:
" هل تحبينه ؟!.."

" كيف لا أحب من يخاف عليّ من غضب الله ؟!...كيف لا اعشق من يغار عليّ من اعين الانس والجن ؟!...كيف لا أغرم بمن يمسك بيدي ليأخذني معه الى الجنة ؟!....كيف لا أهيم بمن يهتم لأمري بكل صغيرة وكبيرة؟!.....نتوه في هذه الحياة القصيرة ونقع في الفتن والمعاصي ...نحن في النهاية بشر ...لكن المحظوظ من وجد يداً تنشله من كل هذا والتعيس من حُرِم من ذلك!....."

ألقت خطابها ثم مدّت جذعها لتتناول هاتفها عن المنضدة....عبثت به قليلاً وقالت قبل أن تضغط على التشغيل:
" اسمعي صوته ما أجمله...حماه الله وحفظه من كل سوء.."

وما إن بدأ يصدح صوته في القرآن حتى بدأت كل خلية في جسدها تقشعر من شدة تقارب صوتي بصوته ليتبع القشعريرة دموعاً تنساب من عينيها كالشلال الذي يتدفق من الجبال بعد أن أحست بحسرة ومرارة لاذعة فانتبهت (رهف) لحالتها واغلقته في الحال مستغربة وهمست بخفوت قلقةً عليها:
" ما بك ألمى؟!...لمَ تبكين ؟!.."

تنهّدت بعد أن استبدّ عليها اليأس والكآبة من حالها وغمغمت مجيبة:
" صوته ذكـ...ذكرني ...بزوجي هادي!..."

سألت متعجبة:
" أليس زوجك رجل الأعمال يامن الهاشمي ؟!.."

رمقتها بنظرة مجروحة تفيض من الأسى أنهاراً ثم قالت وهي تبتلع ريقها وتشيح عينيها عنها:
" هادي ويامن .....اسمان لشخص واحد!...سلب قلبي وازهق روحي وتركني بقايا جثة تسير فوق الأرض من دون هوادة..!!...."

ثم رفعت بصرها إليها وسألتها وهي تبسط كفّها على صدرها وكأنها تربّت على نابضها النازف:
" كيف سأطفئ اللهيب المستعر داخلي؟!....لهيب وقوده عشق يأبى أن يتركني!.....هل أكذب وأقول أني لا اشتاق له؟؟...وربي اشتاق لكن هو من جرحني!....احتاجه بشدة وهو من بشدة خذلني ....كيف سأتخلص من العذاب الذي أنهكني ؟!...حبه عذاب وكرهه عذاب....قربه عذاب وبعده عذاب....لا اهتدي لشيء لا ..انا ضائعة في هذه الدنيا بتّ لا اعرف ما اريد وأين أذهب وماذا أفعل..؟!...فقط اسئلة واسئلة تدور في عقلي دون اجابات !!...وددتُ أن أفوز به وبأبي...قلت لنفسي إن كان مخطئاً وتراجع عن خطأه سأسامحه على التهم الشنيعة بحق أبي .....لكنه عاند وأصرّ وبعناده أسقى عنادي ....أنا وهو والقضية بيننا ...ربما عندما يخسر وأراه امام عينيّ مخذولاً ستخمد حينها نيران الجوى داخلي......لا بد أن أفوز...بل عليَّ أن أفوز.....سأفوز عليه وأرى انكساره كما كسرني حتى لو متّ وآخر أنفاسي كانت أنفاس عشقه...."

استمعت إليها موجوعة لأجلها ....فتلك السيدة الصغيرة التي طالما حكت لها عمتها عنها...حكت لها عن جمالها....براءتها وطيبتها....وحكت لها عمّا مرت به طوال حياتها ....لذا تعاطفت معها للنهاية دون أن تشك ولو لوهلة بصدق ما باحت به لها ولكن بحكمتها ونضوجها الذي يتخطى سنوات عمرها الخمسة وعشرون ترى دائماً أن الحلول بين ايدينا....كل مشكلة بنظرها لها حل وكل حل يأتينا ممن خلقنا.... من يكون أقرب إلينا منا ذاتنا....أليس هو من قال ...{{ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ }}..؟؟

فأدلت بمحاولتها الأولى قائلة قبل أن تستقرا للنوم :
" في الصلاة والقرآن يتلاشى الهم والحزن...يندمل الجرح ويذهب الوجع....في قربنا الى الله يأتينا الفرج ....في قربه لذة تزيل الغشاوة عن أبصارنا وقلوبنا....سبّحي بحمد ربك وكوني من الساجدين وسيكون كل شيء كأنه لم يكن ..."

وتابعت تالية عليها بتجويد بعد بسم الله الرحمن الرحيم:
" ...{{ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ(97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ(98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ(99) }}...."

كل كلمة منها وصلتها كأنها بصوتي.!!...كلمات تكررت على مسامعها في الماضي حين حطت يدها بيدي بأيامنا القليلة التي عشناها معاً كزوجين متحابين....كنت لها الهادي (المرشد) لسبيل مزروع بالأمل والنور تكون نهايته الجنة وكنت لها اليامن (المبارك) وأنا أقوم بالأعمال الحسنة من أجلها ومعها لأزيّن لها دنياها.....ولأنها ربطت كل كلمة صدرت من الجالسة قربها بي فاختارت عدم الرضوخ والانصياع واستسلمت لشياطينها رغم أن بين نبضة وأخرى كان وميض يحاول دفعها لتفعلها !!...يدفعها لتنهض وتتوضأ وتصلي بعد أن تركت الصلاة قبل حوالي اسبوع ونيف نكايةً بي لتحرقني !...وبينما كانت تسير في أروقة شتاتها لا تستطيع تحديد كفّتها..أتفعلها أم لا.... هزمها الشيطان ولمعت الفكرة في بالها لتكابر وتكابر وتلجأ الى الكذب هاتفة وهي تسدل الستار على سماءيها :
" لا يمكنني الصلاة.... لديّ عذر...الدورة الشهرية!!.."
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

أخرجتُ أنفاسي بقوة وأنا ألقي بثقل جسدي على سرير الطفولة والصبى في بيتنا الجبليّ بعد أن صليتُ الفجر قبل الشروق بدقائق قليلة..!!....مررتُ بساعات قاسية جداً منهكة للروح والجسد!!....لكن لا بأس فكلي كان فداءً لمهمة العمر.....تبسّمتُ سارحاً بسقف غرفتي حامداً ربي على اتمامها بنجاح رغم نكسة عشقي...كأني أعيش حلماً !!...لا أصدق أنني وأخيراً رأيتُ ذاك الوغد خلف قضبان السجن الأمني المركزي في العاصمة..!!....كنتُ قد تسللتُ الى البيت بخلسة كي لا اوقظ النائمين وقبل أن تراني أمي...نبض الحياة!.....فهي مؤكداً ستبدأ بموشحات البكاء على حالي بسبب اصابة ذراعي!!...تراءى أمامي الماضي وحالة القهر التي انتابتها عند ضرب الحرّاس لي في المخيم ...والآن سنعود من جديد للمشهد نفسه!....الذراع ذاته والمسبب الرئيسي للألم ذاته!....حقاً يا له من مسكين هذا الذراع...كم تحمّل بسبب ذلك اللعين!.......انقلبتُ على يميني بعد أن أحسستُ بتشنجات عند كتفي الأيسر المتأثر بالجرح الملتهب فلمع شيءٌ بعيني يختبئ تحت الاباجورة خافتة الاضاءة والتي توضع على المنضدة جانب سريري!....قفز الخائن فرحاً وشقت ثغري ابتسامة الحُب!....إنه مشبك شعرها الكبير بلونه النحاسي والمصمم على هيئة ورقة خريفية فيها ثقوب!!....لقد أهدتها إياه مربيتها في الماضي فهو كان من يتحمّل كثافة شعرها....كانت تهتم به كولد صغير!....حريصة جداً عليه!....إنه غالي عليها بسبب صاحبته وفائدته !!.....يا إلهي!...بدأ وجيب قلبي بالارتفاع بعد أن سخنت دمائي عشقاً وشوقاً وحنيناً لمالكته!....اتسعت ابتسامتي اكثر رغماً عني فخائني كعادته عندما يتعلق الأمر بها هو من يستلم قيادة مشاعري.!!....كيف لا ابتسم ولا افرح وأنا أرى بقايا أثر من روحي القابعة في تلك البلاد؟!.....عدلتُ جلستي مستقيماً , مستعيناً بمرفق يمناي وسحبته برفق وحذر وكأنني أحملها هي خائفاً أن تخدش اصابعي بشرتها أو كأنني امسد على شعرها الليليّ برقة......قربته من أنفي واغمضتُ عينيّ لاستنشق بعمق رائحة شعرها الأناناسي والتي تصيبني حد الثمالة....شعرتان ملتصقتان بأسنانه كانتا كفيلتين برد روحي هذه اللحظة!....زدتُ بسحبي لشذاها لأحبس ذرّاتها داخلي قبل أن تتبخر مع الزمن!....لو دخل عليّ أحد ورآني لظنني معتوهاً فاقداً لعقلي او مدمناً وسأكون في موقف مخزي ومحرج!....فليظنوا.... ما عاد شيء يهمني!....أجل أنا مدمن رائحتها ومجنون في حبها ولن يستطع أحد معالجة حالتي!...اتركوني أتنفس غرامها ...اتركوا خائني ينبض هيماناً بها ....اتركوا أرضي تشتاق لسمائها ...أو اقتلوني وحرروا دمي الذي يجري في عروقي علّكم به تنزعوا (ألمى) الروح من جسدي الحيّ والحيّ فقط مفتوناً بعينيها...!!.......ربي كريم معي!...فقدتُ عقدها الذهبي الذي عشتُ معه لسنوات محلقاً بسماءيها والذي لم يفارق لياليّ ليعوضني بقطعة أخرى منها تخص شلالها وبحرها الأسود وكأنه كُتب عليّ أن أغرق به دون الخروج من أعماقه!....كيف تنجحين باحتجازي بين سماءك وشلالك يا ابنة (عاصي)؟؟!....ما هذه الحرب التي تخوضينها ضدي ؟!....من قال عنك ضعيفة وساذجة ؟!....أنت تمتلكين أقوى العتاد العسكري لتهزميني دوماً.....تأسرين فؤادي بقطعة صغيرة منك....جعلتيني مريضاً مدمناً هواكِ... .تشرّديني من حالي بذكراكِ!!.....ماذا سأفعل وكيف النجاة؟!.أين سأذهب ومتى الشفاء ؟!......
هاجرتُ وكنتُ أظن أن اللجوء هو خيمة أو مأوى وسأتركه يوماً لأعود الى بلادي وبيتي.....لكني غرقت بلجوء آخر!!..فأينما ذهبت ومهما حاولتُ الاستقرار ظللتُ أحمل اسم لاجئ.....لأني ..... لاجئاً في سمائها..!!
[ آهٍ على قلبٍ هواهُ محكّمُ ..
فاض الجوى منه فظلماً يكتمُ ،
وَيْحي أنا بحتُ لها بِسرِّه ..
أشكو لها قلباً بنارها مغرمُ ،
ولمحتُ من عينيها ناري وحرقتي ..
قالت على قلبي هواها محرَّمُ ،
كانت حياتي فلمَّا بانت بنأيها ..
صار الرَّدى آهٍ عليَّ أرحمُ. ]
(( عنترة بن شداد ))

استلقيتُ مجدداً احتضن مشبكها بقبضتي واضمه لصدري شارداً بفكري الى عالمها الساحر للحظات حتى خلدتُ إلى النومِ.....ساعات قليلة ثم صحوتُ في أواخر وقت الضحى على أصواتِ كركبة وضجيج آتٍ من خارج الغرفة.....آه يا أمي.!!...إذاً هذه حملة تنظيف البيت!!!....قمتُ من مكاني جالساً على حافة سريري متمهلاً بحركتي وفركتُ شعري بيمناي ثم تأوهتُ متألماً فأنزلتها اقبض يسراي الجريحة....استقمتُ واقفاً واستدرتُ أتناول عن فراشي أمانتي الجديدة....مشبكها!....حملته وأملتُ فمي بابتسامة بائسة ومرارة بُعدها عني شعرتُ بها في حلقي....تنهدتُ بأسى ووضعته بدرج المنضدة وعزمتُ الخروج لنيل رضا نبض الحياة...فتحتُ الباب بهدوء فالتفتت مستقيمة بوقفتها من فورها مجفلة تضع يدها على صدرها تسمّي بالله لتتبعها شاهقة تلقي عصا المكنسة جانباً وتندفع نحوي لرؤيتها الضماد على ذراعي وأمسكت بيسراها يمناي وبأنامل يمناها أخذت تتحسس بحنية على اصابتي تنقل حدقتيها اللتين اغرورقتا بالدموع بين وجهي وذراعي وهمست بصوت متحشرج بينما كان وجهها يعتريه الوجوم ويغلفه القلق:
" ماذا أصابك يا ولدي؟!....ما..ما به ذراعك؟!....ما هذه الدماء؟!..."

وقبل أن أجيبها رفعت كفيها تحاوط وجهي وتداعب بإبهاميها ذقني وهي تمعن النظر بملامحي بعينيها الدامعتين وتابعت:
" متى عدتَ بنيّ؟!...اخبرني ماذا حصل؟!..."

عادت بنظرها تتحسس بيدها الضماد بخفة سائلة:
"هيا قل لي ما اصاب ذراعك؟!."

أجبت بهدوء محاولاً الهرب من مواجهة عينيها:
" اصابة خفيفة بالخطأ...لا تقلقي ولا تشغلي بالك....أنا بخير"

" إصابة سلاح أليس كذلك؟!.."

سألت بريب وهي تبتلع ريقها بحدقتين متسعتين فقلت بإيجاز:
" أجل!..."

وأكملتُ من فوري:
"قسماً أنا بخير!.."

وضعت قبضتها على كتفي اليمين تشد عليه وهتفت صارخة بلوعة قاطبة حاجبيها بضيق:
" كم أكره السلاح....كم أكرهه.....متى سننتهي من كل هذا؟!"

رفعت يدي احسس على صدغها وادخل خصلات هاربة من تحت حجابها اتطلع عليها بحنّية جارفة بينما كنتُ أنا مبتغياً حنيتها وهمست :
" عدت بعد الفجر ولم اشأ أن ازعجك..!!...ثم ألم تعتادي يا أمي؟!....بالله عليكِ لا تزعجي نفسك!!....كلٌّ منا خلق لأداء رسالة ونحن عندما اختارنا الله لنتواجد على هذه الأرض تحديداً والتي كتب لها أن تتجرع ويلات الحرب والظلم بسبب الخيانة والاستخفاف بالدين إذاً ستكون رسالتنا أن نحارب ...أن نحمي الوطن حتى آخر نفس في أعمارنا....أماه ....عليكِ أن تكوني أقوى ...تذكري كم أم فقدت ابنها ....كم بيت هدم وتهجّر أصحابه....كم طفل تيتّم؟!...دموع القهر لن تفيدنا ولن تفيدهم....فقط الدعاء ورضاكِ لأمضي في هدفي ساعياً لنشر السلام والأمان هو سيكون زادي ووقودي.....نحن حماة الوطن....سنفديه بدمائنا إن لزم الأمر لنكتب لأولادنا غداً أجمل بإذن الله...."

طرقت برأسها للأسفل وأسدلت أهدابها هامسة بحزن:
" لا ينفك لساني عن اللهج بالدعاء بنيّ من أجلك ومن أجل كل ابناء الوطن الشرفاء الذين تركوا لذّات الحياة واللهو بها فداءً للدين والأرض...كل ليلة أرجو من الله أن يحفظكم وينصركم...أن يسدد خطاكم....لكن خوفي عليك ليس بيدي يا مهجة قلبي والروح..."

رفعت رأسها تتطلع إليّ وحبست كف يمناي بين كفيها تبث دفء حنانها مستطردة بحرقة:
" أنا....أنا لا أتحمّل ان تصاب بخدش..كيـ....كيف لا قدّر الله...."
ابتلعت ريقها واستأنفت:
" كيف لو افقدك؟!...سأصاب بالجنون.."

لمعت عينيّ وتبسمتُ بعطف هامساً:
" ليكن الشر بعيداً عنك يا أم هادي.....الموت حق وسيأتينا لا محالة!....لا تسمحي لوساوس الشيطان أن تضعف ايمانك!...أنتِ زوجة القائد الشهيد البطل محيي الدين رحمه الله ....كوني قوية وخيرُ قدوة للنساء ولتكُن قدوتك أنتِ....الخنساء..."

رمشت بعينيها حباً لذكراه ....ذكرى بطلها وحبيبها الذي لن ينبض قلبها لسواه وشقت ثغرها باسمة بفخر ثم قرصتني من وجنتي بمداعبة هاتفة:
" وأم البطل القائد هادي محيي الدين الشامي ...فخري وعزّي حفظه الله!!.."

ثم جذبتني إليها تعانقني وتتوسد بوجنتها صدري وقالت بصوتها الحنون:
" حمداً لله على سلامتك يا مهجة قلبي....حمداً لله أنك عدت إليّ.... "

حاوطتها بذراعي السليم بقوة وقبّلت أعلى رأسها من فوق حجابها البيتيّ الوردي الذي تعقده للخلف وقلت بينما عينايَ تلمعان بعبرات كانت مزيجاً بين القهر من حالي والفرح لإتمام المهمة بنجاح :
" سلّمك الله أماه....سلّمك الله... ها أنا عدتُ إليكِ في النهاية وغير مهم اصابتي فالأهم الآن هو أنني عدتُ سالماً حاملاً معي انتصاري...."

وأبعدتُها عني حتى بدأت دموع الوجع وغصّة فراق حبيبتي بالهرولة على وجنتيّ بينما الضحكة لم تفارق شفتيّ وأردفتُ ومشاعر مختلطة تداهمني:
" الآن باركي لي أماه....اجتزنا أصعب مرحلة في المهمة وسيكون احتفالنا الأكبر بإذن الله بعد صدور الحكم في حقه ....ادعي أن لا تطول المسألة....ادعي في صلاتك لنحرر أحزاننا من داخلنا ....ادعي لننقّي بلادنا من الخونة....ادعي لنرفع علمنا في العالي من أجل وطننا وأبي الغالي.."

كانت تشاركني الدموع والضحكات وكنتُ أقتل بإبهامي بلطافة كل دمعة تجرأت للسير على وجنتيها وتابعتُ منحنياً أكثر صوبها لأصل طول قامتها :
"زيدي بدعواتك لي وضاعفي رضاكِ عليّ....صدقيني هذا جل ما احتاجه كي أستطيع المتابعة دون أن أنهار!!..."

وأضفتُ بنبرة أخرى:
"يا لسعادتنا أمي...يا لسعادتنا.....نجحنا بتوفيق من الله "

لفت انتباهها تهدّج صوتي في جملتي فقطعت ضحكتها ورفعت كفها تمسح شعري ونزلت بها لتمسح دمعة تركت اثراً على خدي وهمست بتساؤل:
" عزيزي هادي.."

" اؤمريني يا نبض الحياة..."

استمرت تداعب وجهي بأناملها وقالت:
" هل أنت حقاً سعيد بنيّ.؟!.."

انتصبتُ بجذعي ثم تهرّبت بحدقتيّ جانبا...تنهدتُ بخفية وعدتُ راسماً ابتسامة صلبه وهتفت مسترداً القوة بصوتي :
" أتسأليني أمي وأنت تعلمين أن هذا اليوم كان هو حلم حياتي ومن أعظم طموحاتي وأصعب أهدافي؟!.."

" وألمى؟!.."

حروف اسمها جعلت تياراً كهربائياً يسري حتى في أدق عروقي لكني تسلّحتُ بالثبات وأجبت:
" ما بها أمي ؟!....انتهى كل شيء بيننا!...اختارت طريقها التي تشاء!... "

ثم أكملتُ مغيّراً الموضوع واضعاً كفي على بطني بضحكة مزيّفة:
" يا ترى ماذا ستطعمني اليوم أم هادي؟!...فأنا جائع..."

ضحكت ووضعت ذراعها خلف ظهري متناسية موضوع تلك المدللة عمداً ودفعتني برفق للنزول معها على السلالم الدائرية العملاقة هاتفة بصوتٍ مرح:
" الآن ستتناول فطورك لتستردّ صحتك...وجهك شاحب !....أما الغداء سيكون ان شاء الله طبقك المفضل.."

سبقتها هاتفاً كأنني عدتُ طفلاً بين يديها:
" ورق العنب؟!..."

ضغطت بذراعها على ظهري وخصري شوقاً تشدد باحتضاني عند وصولنا آخر السلالم وقالت:
"أجل ورق العنب.... لن اتركك اليوم....سأحرص على أن املأ لك معدتك كل ساعة ....لا يعجبني نظام أكلك ولا أستسيغهُ في عقلي!..."

اطلقتُ ضحكاتي قائلاً عند دلوفنا المطبخ:
" ماذا؟...هل ستسعين لبناء كرش لي وتدمير جسدي ؟!..."

قالت وهي توليني ظهرها لتخرج بيضاً وخضاراً من الثلاجة بينما انا اتخذتُ كرسياً عند الطاولة في وسط المطبخ:
" لا تخف على جسدك وعضلاتك...ستبقى جذاباً مهما زدت في الوزن او تقدمت بالعمر!..."

" بالطبع فأنا ابنك...لن تريني قرداً ابداً .."

قلتُ مازحاً ثم حككتُ رأسي مضيفاً بعد أن خطرا في بالي:
" صحيح تذكرت!....سيأتي أبي ابراهيم وخالتي مريم خلال يومين....هل لديك علم؟!.."

" أجل....أخبرتني خالتك....بالسلامة ان شاء الله..."

" ان شاء الله.!!..."

قلتها ثم أردفتُ هاتفاً:
" سيقيمان بفندق في مدينتنا.....لقد رفض المكوث عندنا ولكن بالطبع علينا تحضير عشاء معتبر فهذه ستكون الزيارة الأولى لأبي ابراهيم لبيتنا كما أنه من المحتمل وليس مؤكداً أن يأتي السيد سليم لمناقشة بعض المواضيع الهامة وكذلك لتهنئتنا بإتمام المهمة الحمد لله..."

اومأت توافقني وهي تتابع تحضير الفطور بينما أنا صمتُّ برهة ثم لحقتُ كلامي سائلاً بفضول:
" أين الشقيّان؟!....هل ذهب شادي للمدرسة؟!.."

" كلا....سهر حتى وقت متأخر ونحن نتابع الأخبار وننتظر قدومك...فأشفقتُ عليه ولم ابعثه للمدرسة...هو ما زال نائماً ولن ينهض الّا بعد الظهر بعد أن يرهقني حتى لو حدث زلزال في المكان"
تبسمتُ وسألت:
" ودنيا؟!."

" اضطرت للذهاب الى الجامعة عليها تسليم مهمة ..."

أجابتني ثم التفتت نحوي تتابع:
" يومان أو ثلاثة على الأكثر ان شاء الله ثم سيأخذها سامي ليستقرا في بيتهم..!."

" حقا؟!."

ردت بصوت خفيض يفيح منه الحزن:
" أجل!...لا اعلم كيف سأعتاد على غيابها؟!....الآن سأشعر أنها تزوجت فعلاً.."

ضحكت وقلت:
" يا إلهي....أمي ها هو بيتها على بُعد بيتين او ثلاثة منا ...لو ناديتِ ستسمعك في الحال!....هذا الأصح لها...أن تستقر في بيت زوجها وتهتم به وتواصل بيت حماها....عليها أن تتحمل مسؤولية ما هي مقبلة عليه !...غداً ستصبح أماً بإذن الله...."

" وأنت؟!.."

غضنتُ جبيني بعدم فهم وسألت:
" ما بي أنا؟!.."
ردت فوراً:
" ماذا ستفعل بشأن زوجتك؟!...إلى متى ستبقيان على هذا الحال بعيدين عن بعضكما؟!.."

تبدّلت ملامحي ليصبح وجهي متجهّماً وقلت بجدية أخدع نفسي:
" موضوعنا منتهي...لقد افترقنا!...نحن لسنا لبعضنا.....لا حاجة لفتحه..."

هتفت غير مصدّقة تعرّيني من ذاتي :
" لمعة عينيك وتوهّج أنفاسك وصوتك تقول غير ذلك!.."

رددتُ بانزعاج مشيحاً نظري جانباً:
" مظهري أو ما وصلك مني لا يغير حقيقتنا وطبيعة علاقتنا....فلنغلق هذا الموضوع أمي من فضلك!.."

" اذاً متى ستطلقها؟!.."

بسؤالها هذا كانت كأنها أطلقت رصاصة لتستقر في قلبي!....ربما سيأتي هذا القرار لتفترق طرقنا فعلاً....لكنه صعب....صعب جداً....يكفيني أن أعيش باقي حياتي واسمها يرتبط باسمي ....أن تكون تابعة لي حتى لو لم أرها.....أنا أعلم كم كلبٌ سيحاول اصطيادها إذا تحررت مني وهذا ما لا اطيق التفكير به....لتكُن أنانية مني... فالوقت مبكر بالنسبة لي على هذا الحديث ولتبقى معلّقة.....اسبوعين...شهرين....س نتين...وربما لآخر العمر!!

أجبتها متهرباً بهدوء يعاكس ضجيج أفكاري:
" لستُ متفرغاً للانشغال بهذه التفاهات الآن....سأرى عندما اتخلص من كل شيء يخص القضية ويرتاح بالي....حتماً...سأطلقها...."

قالت وهي تضع طبق الخضار المقطعة أمامي بينما تحرك رأسها رافضة الحال الذي وصلنا اليه:
" الموضوع مهم وأساسي لحياتكما وليس تفاهات!!....والحمد لله أنكما لم ترزقا بأطفال وإلا لضاعوا بينكما..."

وأدبرت الى الموقد ترفع الغطاء عن ابريق الشاي الذي يغلي واستطردت:
" أرجو أن لا تتأخر بتحريرها منك ما دمت تنوي الطلاق....مسكينة علّها تبني حياة جديدة لها....لا يصح حجزها إن كنتَ لا تريدها فعلاً ولن تسعى للإصلاح بينكما"

حياة جديدة لها؟!..أنا لا أريدها؟!..هل أسلّم بنفسي عينيها لآخر؟!...أأقدم روحي بيديّ لغريب؟!.....جميعكم متوّهمون فصاحب الحُكم هو الخائن الوفيّ لها...من ينبض حبها ....هو فقط!...حتى عقلي لم يعد يحاربه وترك كامل السلطة له....!!

بينما كنتُ أجيبها داخلي بصمت التفتت إليّ مكملة:
" وأنت ما تخطيطاتك بشأنك؟!.."

أجبتها كاسراً صمتي بحماس متقن:
" أول مشروع بعد الحُكم على المجرم عاصي هو ذهابنا أنا وأنتِ إن شاء الله الى بلاد الحرمين لنؤدي عمرة عن روح أبي ...نسأل الله أن يوفقنا ويتقبّلها منا!.."

تفتّحت أساريرها وبرقت عيناها بحماس حقيقي هاتفة:
" رائع....كم أنا تواقة لذلك...أرجو من الله أن يكتبها لنا!.."

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

ضوضاء لم تسمعها آنفاً.....تمتمات جديدة عليها....صوت جارة تنادي على جارتها.....طرقات قوية تأتي من الخارج.....هؤلاء النساء يطرقن السجاد لتنظيفه!!....فزّت من نومها تجلس مفزوعة بشعرها المنكوش الذي يغطي جزءاً من وجهها... تغضن جبينها وتفتح عينيها نصف فتحة بسبب النور القوي الآتي من النافذة على يمينها والتي تطل على زقاق الحارة وحرّكت رأسها على الجهتين وهي تزيح خصلات شلالها الأسود التي يلتصق بعضها بفمها لتستوعب أين هي ثم أزاحت الغطاء عنها وأنزلت قدميها الأرض وتمطّت في مكانها مبتسمة مرتاحة بعد أن شبعت نوم.....تفحّصت حالها وأفرجت شفتيها لتظهر ثناياها اللؤلؤية وهي ترى المنامة الطويلة والواسعة الى حدٍ ما عليها بسبب جسدها الصغير وقامتها القصيرة مقارنة بـ(رهف) ثم وقفت متجهة تفتح الباب خارجة من الغرفة لتلتقي بتلك الفتاة وتهمس بنعومتها:
" صباح الخير رهف.....هل استيقظت خالتي سهيلة؟!.."

" أجل..."
اجابتها باسمة بتواضع واردفت :
" آمل أن تكوني ارتحتِ في نومتك.."

ردت عليها بإيماءة خجولة برأسها تؤكد على جملتها لتتابع الأولى هاتفة بهدوء وهي تشير لآخر الرواق:
" اذهبي الى الحمام ثم الحقي بنا الى الشرفة هناك لنفطر معاً.."
×
×
×
كانت الشرفة صغيرة المساحة لكنها ساحرة تبهج النظر وتشرح الصدر فيها جلسة من الخشب مع فرش بسيط مورّد وتلتقي بسقفها لتعانقان بعضهما شجرتيّ البسفلورا والعنب ومن الجوانب تحفهما الأزهار بألوانها الزاهية التي توزّع على سطح سورها وبينها قطة تستلقي وتلعب بذيلها ناظرة للأعلى تراقب العصفورين المحبوسين بالقفص المعلّق بالسقف....كانت كأنها جنة تخص بيتهم المتواضع.....كانت (ألمى) تجول بنظرها مستمتعة بهذا المنظر والجو الساحر ومن حين لآخر كانت تختلج صدرها الغصة عندما تسترق النظر لعصفوريّ الحب مما لفت انتباه التي قالت بحب وهي تراقبهما:
" هذان عصفورا الحب جلبهم بكر لي....جميلان أليس كذلك؟!.."

شعرت بطعم العلقم بفمها والحزن هذه الدقيقة عاد ليستوطن فؤادها ليظهر بدموع أُحتجزت بمقلتيها عندما ربطتهما بعصفوريّ الحب خاصتنا وما كان مصيرهما وأشاحت وجهها جانباً مجيبة بخفوت وصوت مبحوح :
" أجل..جميلان..!.."

قالتها بألم بينما تابعت (رهف) تحكي لها بعض من حكاياتها مع خطيبها والعصفورين....كانت تلك تحكي والسرور يغمرها أما هي أحسّت بالغبطة منها وكادت تحسدها على السعادة التي تعيشها رغم بساطة حياتها....لقد أيقنت أنها المسكينة وليس أهل هذا الحيّ البائس!!....امتلكت الماديات وفقدت المشاعر.....يا الله كم أن حالها يثير الشفقة!...لقد أشفقت على نفسها من النقص الذي تعيشه والفقر المدقع الذي تعانيه بحياتها شحيحة المشاعر!!...ومع أن الفتاة كان حديثها جميلاً لا يمل منه بل كان سيكون ممتعاً لأي شخص طبيعي الّا أنها هي بالذات كان يصلها كنار تحرقها وإبر تنخر جسدها وسكاكين تغرز بروحها ...كانت بقصصها تقلّب عليها المواجع وهي تعود بذكريات حبنا واللحظات الحلوة التي لا تُنسى مهما كانت قليلة ففضّلت اغلاق هذا الحديث الذي أحيا آلامها وأعادها الى مرارة واقعها قائلة توجّه كلامها لمربيتها السيدة (سهيلة):
" عليّ الذهاب خالتي!.."
بحنوٍ ونظرة عطوفة مدّت يدها تضعها فوق يد (ألمى) المركونة على الطاولة وهمست:
" اخبريني صغيرتي ...ما هي خطوتك التالية؟!.."

ردّت واثقة بقرارها بعد أن عصفت بها الأفكار ليلاً باحثة عن حلول لمعضلتها والكارثة التي المّت بحياتها :
" سأذهب للحديث مع محامي شركة أبي السيد وجيه رستم لنوكل محامي ثقة وقوياً ومناسباً ليمسك قضية أبي!...كل دقيقة احتاجها لا اريد أن اتأخر"

وأغمضت عينيها بأسى لتقفز دمعة من احداها عطفاً على والدها وأكملت:
" الله اعلم كيف حاله وكيف نام في السجن.."

وفتحت تكشف عن سماءيها الملبدتين بغيوم القهر وقلة الحيلة وتابعت تهز رأسها لينزل ماء عينيها بغزارة هاتفة بنشيج وأنفاسها مضطربة:
" لا استطيع أن أتخيله....أبي حبيبي الذي عاش بالعز يأتي يوم ويُذل به بسبب خونة ظالمين يسعون وراء مصالحهم الشخصية ومطامعهم..."

" اهدئي صغيرتي...اهدئي يا ابنتي...لا توجعيني عليكِ حبيبتي....ما اراده الله سيكون....سيظهر الله الحق مهما طال الزمن وسيبدّل الحال لأحسن حال.......لا تبكي !.."

حاولت تهدئتها والتربيت عليها بحنان ولما هدأت وانتظمت أنفاسها استأنفت هامسة بتساؤل:
" أتعلمين أي مبالغ تحتاجين لمثل هذه القضايا ؟!.....وخاصة أنك ببلد ووالدك ببلد!....و...وكذلك الدولة حجزت على ممتلكاته وحساباته كما قلتِ وكما أشيع في الصحف.."

هزّت رأسها ايجاباً بينما كانت تسلّط حدقتيها على الطاولة وهتفت دون تردد:
" سأبيع القصر لأوكل أمهر المحامين هناك ثم سأشتري بيتاً صغيراً يكفيني..!.."

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

الجو لطيف يتشح بأنوار المساء الناعمة وتداعبه نسمات ربيعية تسبق أوانها لتحرك ستائر غرفة الضيوف بخفة وكأنها ترقص على صوت ضحكاتنا لتشاركنا سعادتنا ونحن نجتمع في بيتنا الجبليّ بعد أن تناولنا وجبة العشاء بحضور أبي (ابراهيم) وخالتي (مريم) وصهرنا الغالي توأم روحي برفقة صديقيّ (بلال وأحمد).....كانت من أجمل الأمسيات التي عشناها بعد ثلاثة ايام من انهاء مهمتي !...كنا نتسامر ونتمازح كرجال بين بعضنا بينما كانت النساء يجتمعن في غرفة المعيشة لننتقل بعدها لأحاديث أكثر جدية وبينما كان (سامي) يمدّ صينية القهوة ليضيّف أبي (ابراهيم) تنحنحت موجهاً سؤالاً للأخير:
" هل قررتما الاستقرار هنا؟!"

أجابني بحيرة شارداً بنظراته للفنجان الذي بيده:
" لم نقرر بعد!...لكني أفكر بأن أشتري بيتا صغيراً لنا هنا لأجده في حال جاء أي قرار مفاجئ مني أو حتى لمثل زيارتنا هذه رغم أن هذه الفترة تراكمت الأعمال عليّ بسبب انشغالك وما أنا متأكد منه ايضاً أنك ستستلم ادارة شركتي والدك بعد الآن ولربما لاحقاً نستطيع ربط شركاتنا ببعضهم بشكل رسمي لنتعاون بسهولة!...."
أجبته مؤكداً على كلامه:
" بالضبط هذا ما فكرت به....أن نربط الشركات ببعضها!....أما بالنسبة للإدارة فأظن أنني سأديرها بشكل جزئي وليستمر بلال وأحمد ومراد صهر سامي بالاهتمام بهما..."

تنهدتُ متابعاً:
" فأنا لديّ طموحاً آخراً أكبر من ادارة الشركات!.."

تململ (سامي) ناصباً كتفيه وسائلاً بفضول:
" أتعني أنك كلمت السيد سليم وأخبرته برأيك؟!.."

لويتُ فمي بتيه مسلطاً نظري الى الفراغ وأجبت:
" ليس بعد!....لنرى أولاً الى اين سنصل بقضية الوغد!.."

نطق أبي(ابراهيم) متسائلاً بريب:
" هل تقصد أنه من المحتمل رفضك لقيادة الحزب مثلما رسم وخطط لك السيد سليم على مدار سنوات ؟!.."

انحنيتُ لأتناول فنجان القهوة عن الطاولة أمامي وقرّبته لفمي مرتشفاً منه ثم هتفت بصوت هادئ وواثق:
" تلك الأمور ليست ضمن مجال اهتماماتي!.."

عدّل جلسته متأهباً يضع فنجانه بالصينية وهتف مستنكراً:
" ما الذي تقوله؟!...نحن سعينا وما زلنا نسعى لتصبح رئيس حزب الثوار ومن ثم لمناصب أهم وأعلى من أجل ادارة الوطن!....ماذا دهاك بنيّ؟!.."

نظرتُ مع ابتسامة طفيفة ترتسم على محياي لوجوه اصدقائي الجالسين ازائي يصغون لحديثنا لأعود مجدداً مثبتاً عينيّ بعينيه مجيباً بهدوء تام:
" هذا المنصب يليق فقط بالسيد سليم علّه يسير من خلاله ليكون وزير الدفاع!....أما أنا هدفي هو الانضمام لجيش الدولة مثلما كان أبي....لكنني لن اخطئ خطأه....لن أتنازل عن بندقيتي ولا منصبي ودوري أبداً....بل أطمح أن أكون رئيس أركان الجيش والقائد العام!!... ..لن أعطي الفرصة للخونة في الداخل أن يسرحوا ويمرحوا ويعيثوا الفساد أو يبثوا الفتن التي تنخر أساساتنا وتزعزع بلادنا كما فعلوها بالسابق!!......أبي نجح ببناء عائلة موحدة متينة من الثوار ليكون نداً ويسحق هؤلاء الانجاس أما أنا سأبقى بينهم....لن أكون نداً الّا للظلم.....سأجاهد حتى نكون جميعنا سواء ثوار, جنود بمختلف قواتهم, شعب, معارضين وحلفاء عائلة واحدة مترابطة ومتصلة في بعضها ....فمهما اختلفت آراؤنا لن نفسد للود قضية!....نختلف على طاولة المفاوضات ولكن يبقى حب الأرض هو من يلمّ شملنا....نختلف ونحترم بعضنا وفي ساحة المعارك نتكاتف لنكون كالجسد الواحد لحماية وطننا من الأعداء داخله وخارجه...أتمنى أن أبني جيشاً قوياً مخلصاً...ارشدهم للحق والطريق الصحيح...أبدأ معهم من الصفر...أكون مثالاً للأب الحقيقي..أمسك بيدهم في خطواتهم الأولى...أراقبهم في الوسط خوفاً أن يزلوا حماية لهم ثم أثق بهم بعد أن أجني ما زرعت داخلهم في باقي سنواتهم.....كنتُ أرى دائماً أن الجيش هو القلب النابض للدولة التي تشبه الجسد...بنجاحه الحياة وبفشله سقوطها ثم الموت!....لطالما ربطتُ هذا بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم ((ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت، صلح الجسد كله، وإذا فسدت، فسد الجسد كله، ألا وهي القلب))...القلب هو السلطان على الجسم وكأنه الملك....إذا صلح هذا الملك صلحت معه حاشيته وستكون مخلصة له...وهكذا الجنود اللذين يعتبرون مصدر القوة للدولة....إن صلحوا سيصلح كل شيء أي الرعايا والشعب بأكمله.....لن أتنازل عن طموحي هذا سأخلص النية وسأصل بعد توفيق من الله بعزيمتي وشغفي وحبي لوطني...."

اتسع فمه بابتسامة حقيقية حنونة يملؤها الفخر ورفع يده يشدّ على كتفي وقال باعتزاز:
" حفظك الله يا بنيّ....لو كان والدك بيننا لتباهى بك بين جميع الناس.."

قاطعنا (بلال) قائلاً بقلق:
" إذا استلم الحكم حزب الثوار سيسهل عليك الوصول لما تسمو إليه.....ماذا لو كان عكس ذلك؟!.."

رددتُ بقناعة محافظاً على هدوئي وابتسامتي:
" أتمنى أن يأخذها حزب الثوار ليس من أجل حلمي!....بل لأنني واثق كل الثقة أنه حزب اصطفى خيرة رجال الوطن.....يجمعهم الحق ويفرقهم الموت!....وإن لم يكن نصيباً لهم سأسعى لأثبت نفسي بمجهودي ثم أتقدّم وأترقّى حتى أصل لهدفي دون يأس....كأي مواطن شريف في الدولة له حقوق وواجبات دون انتماء لأي حزب..!.."

أسند(أحمد) ظهره ليجلس براحة وقال بتباهٍ وشموخ :
" هذا هو صديقي ابن محيي الدين الشامي.....من الآن سأكون أول المساندين لك وسأمضي معك في طريقك..."
أهديته ابتسامة الصداقة الحقيقية ووقفتُ ليتبعني واقفاً ثم تقدمنا بخطواتنا لنلتقي وتعانقنا عناق رجولي ثم تحررنا لنضرب قبضتينا ببعضهما وقلت وأنا ابسط كفي أمامه :
" اذاً هيا لنجدد عهدنا.."

رفع حاجبه بإباء وابتسم ابتسامة مائلة كلها ثقة وهتف وهو يضع كفه بكفي:
" على العهد باقون.."

وما إن لبث ينهي كلمته حتى أضحى جانبينا (سامي) و(بلال) يضعا كفيهما فوق كفينا هاتفان بعزيمة واصرار:
" ونحن للعهد أبداً لن نخون..."

فتعالت ضحكاتنا الرجولية مع نبضات قلوبنا النقية الوفية ثم وضعنا أيدينا على أكتاف بعضنا وأملنا رؤوسنا لنلصق جباهنا ببعضها ونغلق الحلقة بقوة ومتانة كأننا نخبر الجميع أنه لن يستطع أحد فك صداقتنا أو تخلخل وتقلقل عهدنا مهما حاولوا وهتفنا بصوت واحد:
" دماؤنا فداءً للدين والأرض "

وعلى صوتنا تحررت دمعة أبيّة من الجالس يراقبنا بسرور وبهجة معتّزاً بنا....!!

~~~~~~~~~~~~~~~~~
دائماً ليلة الزفاف حيث سيجتمعان الزوجين تكون ليلة من ليالي العمر المميزة والفريدة وخاصة إن كانا عاشقان لبعضهما ومن عاش فيها أجمل اللحظات يرغب لو أنها تتكرر مرة وأكثر من شدة روعتها وجمالها.....وجاء اليوم ليحالف صديقي وتوأم روحي الحظ لتتكرر عنده هذه الليلة بمميزاتها وسحرها....فها هما يدلفان إلى ساحة بيتهما بعد منتصف الليل مباشرة فور انتهاء سهرتنا اللطيفة ليكتبا ليلة جديدة من عمرهما ولتكون أول ليلة في بيتهما الزوجيّ الحقيقي وعشهما الدافئ دون مداخلات ودون كبت للمشاعر ومراقبة التحركات ....سيعيشون الحُب دون قيود....سيمرحان دون شروط....ستشهد كل زاوية لهما على أوقاتهما المليئة بالعشق....سيبصمان بأنفاس غرامها حيطان هذا البيت.....لقد أتت اللحظة الحاسمة بعد غيابهما عن بعضهما أياماً عديدة.....فأي عقبات قد مرّا بها ؟....سوء الفهم الكبير الذي حصل بينهما ليتبعه قدومي وزوجتي الى الوطن مما أجبرهما على عيش هذا البُعد لحين تجهيز مسكنهما.....كم كان قاسياً عليهما الفراق المؤقت هذا!!....كيف وصلا لحال أن يناما بشكل منفصل؟....كيف تحمّل ذاك الجبل الشامخ العاشق لشهد عينيها بُعدها؟....كيف سمح أن تفارق حضنه ؟....أما هي كانت تنام كل ليلة وكأنها تتقلب على الجمر....الغرفة التي جمعتهما في قصرنا أصبحت كئيبة من بعده...كانت تشعر كأنها فقدت قطعة من روحها وكأن الفراغ القاتل استحوذ على عمرها ....كيف لا تشعر بهذا وهي بعيدة عن حبيب عمرها ؟!...عن أشقرها الوسيم...زوجها الحنون ووالد ابنها!.....
حين توقفت السيارة أمام مدخلهما الذي يحيطه عن جانبيّ درجاته النصف دائرية القليلة قوارير من الورد الطبيعي بألوان بهية تسرّ النظر وتنعش الروح ترجّلت (دنيا) تحمل حقيبتها الصغيرة الأخيرة الباقية لها والتي تحوي على بضع من ملابسها فأخواتها قد سبقنها لبيتهما هذا!! ومسكت طرف عباءتها السوداء الواسعة كي لا تتعثر بها....لقد ارتدتها لتغطي ما تحضّره من مفاجأة تحتها فهي الآن تعيش وكأنها عروساً حقاً....بيت جديد واشتياق من بَعدِ بُعد.!!....إذاً لن تبخل عليه وعلى نفسها ليسجلا ليلة مذهلة يضيفان بصمة من بصمات عشقهما !!..تجهّزت له وأخفت زينتها ......لحق بها (سامي) من فوره يمسك بها وهي تصعد أول درجة هاتفاً بحماس يتضاعف في قربها:
" انتظري..!"

تطلعت عليه مبهمة وطيف من الحياء المولود بعد توقها له يزيّن وجهها وهمست:
" لمَ انتظر؟....معي مفتاح!.."

شبك أنامله الطويلة بأناملها الناعمة بتملّك دافئ يسحبها برفق خلفه بعد أن رمقها بنظرة تذيب الجليد من حلاوتها حتى وصل الباب مما جعل تماساً كهربائياً يصعق قلبها ويخلّ نبضاته وهي تسترجع لحظة بلحظة ليلتهما الأولى معاً وكان هذا التماس لم يرحم ذاك ايضاً المحروم من نار قربها الفاتن ففتحه على عجلة وجذب حقيبتها منها ليدخلها خلف الباب من الداخل ثم عاد مسرعاً ليلقفها بين ذراعيه كما حلم دوماً أن يلج بها البيت مسمياً بالله وهو يغلّفها بحضنه مع صوت ضحكاتها السعيدة التي تصدرُ منها بكل حُب وقد شهقت متفاجأة من حركته ولم تخذله فعلاً وهي تشعره بما تمنّى وكانت سريعة البديهة تتجاوب معه تلف ذراعيها على عنقه وتتكئ بوجنتها على كتفه كطفلة تحتاج للحنان والأمان وأنثى تستعد لاستقبال الهوى ولحظات الهيام من شريكها المتيّم بها ثم ركل الباب بقدمه ليغلقه ولم يكُن يرى أي شيء من حوله ولم يهتم ليلقي أي نظرة هنا أو هنا وكان كل ما يشغل تفكيره أن يريها مفاجآته لها ومن ثم الغرق في نبع العسل الموجود في حدقتيها ليجدد عهده بحبها فهو العاشق الولهان لهذه الدنيا صاحبة عينيّ الشهد والتي لن يسمح لقلبه بالنبض لغيرها كعهدٍ قطعه على نفسه ساعة وقوع عينيه عليها في أول لقاء جمعهما بعد العودة من الهجرة..!!...صعد بها السلالم وحدقتيه لم تفارقاها مع ابتسامته الحنونة التي تصهر قلبها ثم توقف عند باب غرفة مخطط أن تكون لابنهما (سليمان) وأنزلها من حضنه قائلاً بثقة والحماس ذاته:
" استعدّي للمفاجأة..."

علا وجيب قلبها بلهفة لترى ما يخفيه أشقرها خلف هذا الباب !....عدّ للثلاثة ثم فتحه بطلاقة لتقف متسمّرة مكانها عند وقوع نظرها على ثلاثة أسرّة خاصة للأطفال بلونٍ أزرق والطلاء يتناسق مع تصميم الغرفة وباقي اثاثها باللونين الأبيض والأزرق وليس هذا ما صدمها فقط !...إنما متجر الألعاب الذي يغطي الأرض بأحجام مختلفة وأكثر ما ضاعف من صدمتها هو ما كانت تخشاه دوماً عندما كان يلقي مزاحه رغم أنها كانت تواسي نفسها أنها مجرد مزاحات لا صلة لها بالواقع....أجل.!....الضفادع!!.... الغرفة مليئة بالضفادع بكافة الأحجام والأنواع كما توعد دوماً....كانت من البلاستيك والقماش ولم يكتفِ بهذا بل أغطية الأسرّة يرسم عليها ضفادع صغيرة ويا ليت توقف على هذا !....إنما المصباح الكبير الذي يتوسط السقف عبارة عن ضفدعة خضراء كبيرة تخرج لسانها ويمكن التحكّم بلون الضوء المنبعث منها فمع كل ضغطة على المفتاح الكهربائي يتبدّل لونها ...تارة أبيض وتارة أصفر والثالث هو أخضر خافت لإضائته أثناء النوم....!!....أغمضت عينيها وسحبت أنفاسها ثم زفرتها على مهل تحاول السيطرة على انفعالها بينما كان هو يراقب التحولات على وجهها والتي كان يتغير معها الملامح على وجهه من قمة السعادة لمعالم بلا مغزى فهتفت بصوت خفيض خرج جافاً:
" ما هذا سامي؟!....أيعقل حقاً ما اشاهد أمامي؟!.."

أجاب رافعاً حاجبه باستنكار:
" لمَ أنت متفاجئة بصدمة؟!....لطالما أخبرتك أنني سأملأ غرفة الأولاد بالضفادع...فأنا احبها...."

تنهّدت تكرر ضبط انفعالها وقالت بينما ما زال نظرها داخل الغرفة:
" لم اتوقع أنك كنتَ جاداً لهذه الدرجة!...."

حرّكت رأسها لتتطلع عليه تحدّجه بنظرات غاضبة وأكملت:
" والأسرّة؟....ما قصتها ؟!....أنا حامل بولد واحد وليس توائم!.."

اقتربَ منها باسماً ووضع كفيه على كتفيها منحنياً ليقابل وجهها وهمس جاداً:
" قلتُ لكِ ايضاً أنني أريد ثلاثة اولاد خلف بعض أي كل تسعة شهور بإذن الله !....قلتُ لكِ أم لا ؟!..."

ضغطت على شفتيها مقهورة ثم فتحتهما ناطقة:
" أنت غير معقول يا سامي...حقاً غير معقول!....هل أنا آلة لصنع الأطفال وأنا لا أدري؟!..."

وتركته تستدير بهمّة دون أن تنتظر أي رد منه وتخطو بغضب حتى وصلت غرفتهما وما إن فتحت الباب حتى صرخت وهي تضع يدها على جبينها :
" يا إلهي ...يا إلهي!!....ماذا يفعل هذا السرير في غرفتنا ايضاً؟!..."

فأجاب من بعيد بكل برود وكأنه ينوي على اصابتها بسكتة قلبية:
" بالطبع لن نترك سليمان ينام وحده في شهوره الأولى.....أليس كذلك حبيبتي؟!.."

تأففت تضرب قدمها بالأرض ثم تابعت دخولها للغرفة ليلحق بها على عجلة وعند وصولها لجانبها من السرير جلست ترمي حمل جسدها عليه وسحبت حجابها ثم ألقته جوارها وشرعت بفتح سحاب عباءتها تريد أن تنام وتنام فقط وليجرؤ على الاقتراب منها هذه اللحظة إن استطاع وهي تنفث لهباً من النار المتأججة داخلها ولما وقفت لتحررها عنها بالكامل التفتت صوب المنضدة فرأت فوقها عدة كتب وهنا نجح بإعادة الابتسامة على محيّاها لأنه وُفّق بجلب شيء يسعدها....الروايات البوليسية وروايات الرعب...أكثر ما تحب!...نفضت جسدها لتنزل العباءة عنها فظهر من تحتها قميص النوم الليلكي الناعم الذي يدمج بين الانوثة والبراءة وعادت لتجلس على السرير متهللة الأسارير فرحانة بهديته وحملت الكتب جميعها ووضعتها في حضنها لترى عناوين الروايات السفلية فالأولى قرأت اسمها ولمّا أزاحتها انقتلت ضحكتها وهي تقرأ على الكتاب الثاني ( الأكل الصحي أثناء الحمل )....صبرت ولم تبدي أي ردة فعل وأبعدته ليخرج من تحته ( تعليم الرضاعة الصحيحة ).....ثم ( أنت وطفلك )....و ( الأم المثالية )...كانت تقرأ عنوان تلو عنوان بينما هو يراقب متكئاً بظهره على أطار الباب يستعد لأي قذيفة ستلقيها عليه فقد خمّن أنه لربما قد بالغ قليلاً وتسرّع بجلب الكتب دفعة واحدة وهمس بسره " أكان عليّ جلب كتاب كتاب حسب المرحلة التي تمر بها يا ترى؟!.. "...وبالفعل لم تخيّب ظنه هنا ايضاً عندما نهضت بحركة نارية تلتفت نحوه وتشدّ جسدها وتكوّر قبضتيها بغيظ صارخة وهي تجز على اسنانها:
" سااااامي....سأرتكب جريــــمة!..."

ثم أخذت بالقاء كتاب وراء كتاب حيث كان يقف متابعة بصرخاتها مع البكاء :
" ابتعد من أمامي....ابتعد....لا تجعلني أن ارتكب جريمة الليلة !!..."

ولمّا نفد بجلده مغلقاً الباب خلفه خوفاً أن تشوه وجهه قذيفة منها أسرعت في الحال تقفله من الداخل وهي تشتم ليلة العمر التي انتظرتها وتشتمه وابنه معه وتمتمت :
" نجوم السماء أقرب لك مني هذه الليلة.......اذهب ونم بين ضفادعك أيها الغليظ لأرى بما ستفيدك!..."

وأسندت جسدها على الباب متنهدة تمسح عنقها بعد أن سالت عليه دموعها وحررت أنفاسها أكثر ناظرة للسقف ثم تبسّمت فجأة بمكر بعد أن لاحت في بالها فكرة ...لقد قررت أن تحاربه بسلاحه ذاته ابتداء من الغد...لم تذكر له يوماً هذا....لكن يبدو أنه آن الأوان....ستشن الحرب عليه....الضفادع سيكون مقابلاً لها .....الخراف ....ستملأ البيت بخراف من الدمى وستشتري مناماتها برسومات كلها منها وربما ستعلّق على الحيطان صوراً لها ....والأهم ستغيّر رنة هاتفها الخاصة به....بصوت الخروف وستجعله يندم على اللحظة التي اشترى بها ضفادعه....!!

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

تعاضدت الأيام ليمرّ على هذه الأرض أسبوعاً ويومان من الزمن الذي سطّر لكل منّا حكاية سعى لتأليفها وفق أهدافه ونواياه ....نشترك بأبطالها ونختلف في حبكتها ...ففي طرفِ الوطن كنا نكابد بتلك الأيام الماضية متنقلين وباحثين بإصرار وعزيمة عمّن يمسك قضيتنا ويجعل الوغد تحت الحُكم بأشد العقاب الذي يستحقه لنظهر الحق ونزهق الباطل وننشر العدالة الحقيقية أما في الطرف الآخر من تلك البلاد كانت تشاركنا بسعيها عمّن يمسك ذات القضية ولكن بنوايا مغايرة يسودها الجهل والحماقة ببصيرة مغشي عليها لتدثر الحق وترفع راية الباطل مضحية بما لديها من امكانيات... !!.....

" انظري يا رهف....رائع....الطلبيات في ازدياد...حمداً لله.."

هتفت تلف شاشة هاتفها برقمه وشريحته الجديدة للجالسة جانبها على طقم الجلوس الموجود في شرفتهما الصغيرة الساحرة والتي بدورها فرحت من أجلها هامسة برقة:
" لقد أحسنتِ اختيار محاميك....ها هو حلّ أمر بيتك بسرعة ..أي يومان فقط ان شاء الله وسيكون مباعاً وتستلمين النقود التي انتظرتها ..."

ضمّت هاتفها لصدرها رافعة بصرها للسقف هامسة بصوتها العذب ممتنة:
" حمداً لله...حمداً لله.....وعد ونفّذ...وجد في الحال شركة بيع عـــقارات مضمونة وناجحة ..."

عبست لوهلة سابحة بين أمواج افكارها العاتية ثم تحدّثت بضياع:
" سيحل أمر البيع....ويكون الاستلام بأقل من أسبوع....يا الهي احتاج لوقت كي أفرغه من أغراضي المهمة! والأهم كيف سأجد بيتاً صغيراً مناسباً لأضعها به؟!.."

تنحنحت وفركت قبضتيها ببعضهما وهي تركنهما في حجرها مسدلة أهدابها بخجل محرجة وهمست:
" ها نحن بالأسبوع الثاني وأنا ما زلتُ أقيم عندكم ....حقاً أنا محرجة!...."

قطبت حاجبيها باستياء مما تفوهت به وقالت :
" ما هذا الذي اسمعه منك؟؟....رأيت بنفسك كيف أقسمت عمتي سهيلة بأن تبقين عندنا حتى تضبطين أمورك.....لا داعي لهذا الكلام ألمى..."

أرخت ملامحها ووضعت كفها على فخذها تواسيها وهمست:
" لا تفكري بشيء الآن....انهي أمورك الأساسية أولاً وسنساعدك في الباقي!...لا تقلقي!..."

استدارت جانباً لتواجهها أكثر وترقرقت العبرات في حدقتيها وهمست تقديراً لمعاملتهما معها وهي تضع كفها فوق تلك:
" أشكرك رهف...وأشكر خالتي سهيلة....لولاكما لما عرفت كيف أتصرف وماذا أفعل.....ظهرتما أمامي وأنا بأمسّ الحاجة لمن يقف معي!.....لن أنسى معروفكما هذا معي حتى آخر عمري..."

حررت يدها بابتسامة واسعة لتبدّل أجواء الحزن عنها وقالت متحمسة تقترح عليها ما جاء في بالها:
" أنتِ قلتِ أن الحياة هنا أعجبتك أليس كذلك؟!.."

هزّت رأسها ايجاباً مع ابتسامة مكلومة ومسحت بظهر كفها دمعة هاربة فأضافت الأولى:
" اذاً ما رأيك أن تشتري بيتاً صغيراً جوارنا؟!.."

تهللت أساريرها وتسارعت نبضات قلبها انشراحاً وهتفت دون تصديق:
" هل أجد هنا بيتاً يمكنني شراءه فعلاً؟!...أنا ظننت بسبب الاكتظاظ لن أحصل حتى على غرفة لذا لم اسألك..."

اسندت ظهرها للخلف وتطلعت على الطاولة وهمست بتيه:
" يوجد بيت خلف بيت عمتي مكوّن من غرفتين ...كان عليه مشاكل ولم يستطع أحد شراءه من صاحبه الطمّاع البجح ...وهذا إن اشتم رائحة النقود الوفيرة سيبيع أمه....وأنتِ عند بيعك قصركم سيستطيع محاميك شراءه منه ....لا أحد في الحيّ يمكنه دفع ما تستطيعين أنت دفعه.....خشيتُ أن اقترح عليكِ هذا من قبل لأنك....دون مؤاخذة.."

وأعادت بصرها إليها هاتفة دون أن تقلل من قيمة نفسها:
" يعني أنتِ تربيتِ على العز والدلال ونحن هنا مستوى معيشتنا على قدر حالنا الحمد لله....خشيتُ أن لا يعجبك هذا أو تسخرين من اقتراحي..."

مسكت يديها وضغطت عليهما بحب وامتنان وهتفت:
" ما الذي تهذينه؟.....أولاً برأيك هل أنا بحال يسمح لي الاختيار أو النظر لفوق ؟!....ثم من أنا لأسخر؟!....انظري إليّ....انظري جيداً....أنا مشرّدة يا رهف...أنا غديتُ دون أهل أو زوج....دون عائلة مثل باقي البشر....دون بيت ودون تعليم....أنا لا شيء يُذكر يا رهف.....أعيش فقط أيامي من أجل اظهار براءة أبي..."

آزرتها بالشد على يديها وأجابت بحزن على حالها:
" نحن أهلك يا ألمى...لكن...لا تتركي دراستك كما قلتِ لنا...أرجوك....لا تتنازلي عن أحلامك بسبب ابتلاء نزل عليك وسيزول بإذن الله.....ثابري لتتابعي تعليمك....أنتِ أخبرتِني أنه....يعني أقصد....زوجك.... أخذ منك وعداً بإنهاء تعليمك مهما حصل....لا تنكثي الوعود ألمى....الوعد دين...."

حررت نفسها منها وعبست ملامحها وأرجعت خصلة إلى خلف أذنها وأجابت باقتضاب منزعجة بينما دقات قلبها تعارض ما نطق به لسانها :
" لا أنكث وعدي لمن يستحق....ليس لمن خدعني...لم يعد يهمني أمره ولا أي شيء آتٍ منه....ما يهمني الآن فقط ويشغل بالي هو أبي وعندما يخرج سأستأنف تعليمي من ماله....ثم من أين سأجلب المال لدفع أقساط الجامعة وميعاد الدفع للسنة المقبلة يكون بعد شهرين؟!...أي لن يفيدني الذهاب هذه الفترة ومستقبلي الدراسي مجهول المعالم.....لا أعرف إن كان أبي سيخرج قريبا ويعود ليدفع عني أم أن قضيته ستطول وأنت تعرفين مثل هذه القضايا لا تحلّ بسهولة كما أخبرني المحامي...!!....سأترك كل شيء لأوانه أما الجامعة لا يمكنني دخولها غير أن الطلبة سيبدأون بالتهامس والنميمة عمّا يخصنا أنا وأبي.....لستُ قادرة على مواجهة أحد يا رهف صدقيني رغم ثقتي ببراءة أبي الذي سأبقى أفتخر به...."
دلفت إليهما تجرّ كرسي العجلات من كانت تقرأ وردها في غرفتها وبعد القاء تحيتها وتبادل أطراف الحديث واخبارها باقتراح ابنة شقيقها بما يخص بيت (ألمى) الجديد ألقت عليها ما يؤرقها ولم يخرج من بالها طوال هذه المدة:
" ألمى.."

ارتسمت ابتسامة لطيفة على محيّاها ورمشت بعينيها كإشارة أنها معها تسمعها فأضافت:
" ألن تتصلي بالسيدة ايمان للاطمئنان على خالتك؟!.."

دون تردد ردت من فورها:
" بلى.."

أحست بالرضا منها ولم يدم احساسها بعد أن استمرت تخيب ظنها:
" لكن عليّ انهاء اموري كلها أولاً سواء من بيع القصر حتى اطمئناني على توكيل محامين للقضية وبعدها سأقوم بمكالمتها.."

لم يرُق الأمر للسيدة(سهيلة) فما وصلها من أخبار أخيرة كان قبل زيارة صغيرتها لها أن وضعها الصحي يزداد سوءاً فحاولت بلين تقنعها دون أن تذكر وضعها خشية من ردة فعلها التي لا تعلم كيف ستكون:
" عليكما أن تتصافيا صغيرتي.....لا يعقل أن تنسي أفضالها عليك وحبها لكِ بسبب سوء تفاهم!....تكلمي معها وتسامحا بنيتي....لا أمان من الفراق بهذه الدنيا....اتصلي واسمعيها صوتك واعطيها مسامحتك واطلبي مسامحتها..."

وجمت ملامحها وغضنت جبينها وكتّفت ذراعيها تشيح وجهها جانباً وقالت بينما كان الماكث خلف أضلعها ينزف قهراً ولوعة ويبكي حسرات على حالهما:
" كلا خالتي....صحيح سأتصل لأسأل عنها وسأكلمها لكن هذا كرامة لأمي رحمها الله وللسنوات التي كانت بجانبي بها....هذا لا يعني أنني سامحتها..."

تنهدت تنهيدات أسية وشحب وجهها من عناد تلك وهتفت مستنكرة وغصة تحتجز في حلقها:
" الى متى سيقسو قلبك؟!...لا تعاندي ...كيف نسيتِ حنانها؟!....كيف بعتها دون أن تسمعي منها شيئاً.....حتى الظرف ما زلتِ تخبئينه وأكاد أجزم أنك ألقيته بسلة المهملات دون قراءته....لا يجوز هذا بنيتي.....لها حق عليك ....الخالة بمنزلة الأم.....واجبٌ عليك برّها.....كلميها قبل أن يفوت الأوان وتبكي حسرات صارخة بـ يا ليت...."

اغرورقت عيناها بالدموع والأوجاع بدأت تسري في جسدها تنهش خلاياها وأجابت بصوت مهزوز مختنق:
" لن يفوت الأوان.....لن يفوت....سأعاقبهم على ما فعلوه بي وبعدها سيكون للحديث بقية...."

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

لو كان تاريخ فراقنا هو التقويم الذي سنمشي حسبه إذاً مضى أسبوعين بالتمام والكمال علينا.....!!

" إنا لله وإنا إليه راجعون.."
همستُ بها مغلقاً الهاتف في ساعات متأخرة من الليل لحظة دخول أمي الى عندي في غرفة المعيشة لتأخذ باقي الأطباق التي استعملناها في سهرتنا أنا وهي عندما كنا نشاهد التلفاز فانتفضت مجفلة تقف بجمود مكانها وعينيها تتسعان ذهولاً ثم هتفت بتوجس وضربات قلبها تتصارع في صدرها:
" خير بنيّ؟!...من كان على الهاتف؟!...ما هذا الاتصال بهذا الوقت؟!.."

ظللتُ صامتاً للحظات وشددتُ على شفتيّ ثم هززتُ رأسي محوقلاً وقمتُ من مكاني أقف أمامها بانكسار لأجيبها بألم:
" السيدة فاتن.....رحمها الله..."

شهقت تضع كفّها على صدرها الذي بدأ يعلو ويهبط انفعالاً وتكدست الدموع بعينيها وقالت بصوت مرتجف:
" كيف ؟!...من يومين تحدّثنا مع السيدة ايمان وأخبرتنا أن حالتها مستقرة رغم أنها خطيرة....ماذا جرى؟!......"

ونكست رأسها أرضاً بينما كانت تمسح دموعها وتثابر لتستجمع قواها وهي تتمتم:
"إنا لله وإنا إليه راجعون..!!.."

فقلتُ من فوري:
" سأعود إلى بلاد اللجوء .....سيد ماجد من كلمني....عليّ الذهاب إلى هناك لأتواصل مباشرة مع صديقي آرثر من أجل تعجيل الاجراءات في نقل الجثمان...!!.."

وأردفت بنبرة مجروحة مطأطئاً رأسي بحزن:
" فأنا صهرها رسمياً وأقرب الناس إليها وواجبي التكفل بكل شيء....عن إذنك أمي سأصعد لغرفتي لأحجز في الحال تذكرة لأقرب رحلة جوية تأخذني إلى تلك البلاد !..."

قبّلت رأسها بحنوٍّ وتركتها صاعداً السلالم بقفزات سريعة وكانت قفزات قلبي تنافسها سرعةً وأنا أفكر بالمدللة متسائلاً في سري بأي حال سأقابلها وماذا ستكون ردة فعلها حين وقوع الخبر على مسامعها ؟!!...ويا ترى ماذا ستفعل بي عند رؤيتي وأنا المجرم في عينيها بل سأغدو الآن المتهم الوحيد الذي فرّقها عن خالتها ؟!!..

×
×
×

وكيف لك يا قلبي أن تلقى السلام؟
أن تمسح من عمري ألم السنين و أمل الأعوام
هل لك أن تضمد جروحي بقصاصات الأحلام؟
و تمنحني هناءً و إن كان من النسيج الأوهام
رويدك عليّ أيها الغالي ..ترفق بحالي!
غادر صدرا قتلته المواجع..!!
فارق روحا نهشتها الفواجع..!!
كفاك يا قلب عذاب لي و لك..
إنصرف وخذ معك حياة لم تمنحني إلا الشقاء..
إذهب ما عاد لي في الدنيا هناء
إرحمني و أنت مني! ...ما رحمني الأغراب و لا الأحباب
إنصهر من جنبات صدري وخلصني من العذاب
إمسح ما أعطيته لي من وهم كذاب!
إرحل أيها الضعيف أنت آلامي..
إذهب مشيعا حطامي...
إرحل كما فعلوا و ذرني وحيدة!
علني ألقى هناك تلك البعيدة..
تحنو عليّ بصدرها فما كان ليرحمني سواها
توقف أيها الغالي علني ألقاها
فليظل هذا الجسد باردا كالجليد..!
فلتغمض عينيّ على حلمي الوحيد...
إكتفيت وما عدت قادرة على المزيد...
فليس بين أيامي يوم سعيد..
لا حبيب لي أنا و لا رحيم..
أتجرع الشجن لاذعا كالحميم..
فلتنهشني أشباح الموت كما شاءت وارتضت
علّ آلامي تكون بعدها قد انقضت
إني أنا قد انتهيت!
(( خاطرة أميرة المشاعر نورهان الشاعر))
رافقتني مخلفات جنون غضبي أثناء طريق العودة!!....ظننتُ أن المسافة ستكون كفيلة لإطفاء النار التي أتلظى بها.....لم أنفك عن استرجاع الموقف الذي عشته مع......تبا!!....مع الغدارة!!....يا لها من وقحة....لو كانت رجلاً لأصبح اسمها في سجلّ الوفيات!!....أتضربني وأنا الذي لم يجرؤ أحد على فعلها بي سابقا؟!!......أبي وبكل اخطائي لم يلمس وجهي يوماً ليصفعني!!...حتى تأتي ابنة النجس وتهينني بأسوأ طريقة أتلقّاها ورغم كل شيء جميل حملته معي بذهابي إليها!!.....مخيلتي أبت أن تترك ما عشتُ بسببها في العاصمة وهذا جعل ضغطي يرتفع مما يشعرني بلهيب يكوي وجنتي !!...آه من حماقتي !......كنتُ أعيش دوامتي أما صديقي جاهد ليخرجني من حالتي وهو يخوض شتّى الأحاديث لكني عزلتُ نفسي جاعلاً هالة من الصمت تحيط بي!!.....كأنها حصنا تمنع أي شيء من اختراق دواخلي وغياهب فكري !!.....كنتُ كالأبكم والأصمّ معه بينما هياج أنفاسي يشي عن حالي الثائر !!......التزم الصمت من كان بجواري بعدما وصلته رسالتي بأن لا مزاج لي للخوض بأي حديث وإن كان يخص مصلحة وطني!!......فتح المذياع على صوت الوطن يستمع لمنوعات بين برامج ترفيهية واخرى اخبارية بينما أنا فككتُ زرّيْن من قميصي الذي يخنقني وارجعتُ ظهر الكرسي للخلف بزاوية منفرجة علّني أرخي جسدي المشدود قليلاً وتوسّدت ذراعيّ شارداً بسقف السيارة لأفكر باللا شيء وفقط اللا شيء ....لأن لا شيء يستحق التفكير!!

×
×
×

بعد ما يقارب الثلاث ساعات وصلنا الى مدينتنا الحبيبة وبيتنا الجبليّ فترجّلت من السيارة لحظة وقوفها وجملة مختصرة طرحتها بنبرة آمرة مع انحنائي لداخل السيارة:
" اجلب لي سيارتك الخاصة حالاً...!!..."

ثم سبقته عاصفاً كريحٍ خريفية هائجة ودّت لو تقتلع كل ما يواجهها ولحق بي ليأخذ زوجته التي كانت بانتظاره عندنا !....فتحت أمي الباب تستقبلنا بعدما وصلها صوت اصطفاف السيارة في ساحة بيتنا فدخلت ملقيا السلام بوجهٍ متجهم لم استطع اخفاءه رغم أنني لا أحب أن تراني نبض الحياة به وواصلتُ خطواتي واضعاً قدمي اليمنى بهمة على الدرجة الثانية لأصعد الى غرفتي فاستوقفتني بعد أن ساورها القلق من حالي قائلة:
" حمدا لله على سلامتكما!.....ما هذا الحال بنيّ؟!"

ظللتُ على وضعي لم التفت إليها هروباً وبأنفاسي الساخنة أجبت باقتضاب:
" لاحقاً أمي.....عن إذنك!!..."

وتابعت صعودي السلالم الدائرية بقفزات واسعة بينما التي تركتها خلفي استدارت للذي دخل من توّه لحظة اختفائي قائلة بلهجة متوجسة:
" ما به هادي؟....ماذا حدث معه؟.."

تبسّم مرغماً ليضفي بعضاً من الطمأنينة وأجاب:
" لا تقلقي عيوش......سيكون بخير!..."

وتطلع على المقبلة نحوهما مردفاً:
" لم تسر الأمور كما أراد....لذا انزعج قليلاً....اتركوه سيهدأ!"

ثم وجّه كلامه لزوجته هاتفاً بنبرة متعبة فهو لم يرتح منذ الصباح ضائعا بين العمل والسفر:
" هيا دنيا احضري اغراضك لنعود الى بيتنا...كذلك عليّ احضار سيارتي الخاصة لهادي !.."

غضنت حماته جبينها باستفهام هاتفة:
"خير!!....إلى أين العزم ونحن شارفنا على منتصف الليل وقد عدتما لتوكما ؟!.."

رفع كتفه وهز رأسه ولوى فمه بحيرة وقال:
" لا أعلم...لم يخبرني ....فقد طلبها مني عند وصولنا !!..."

ارتفع صدره عند خروج تنهيدة منه وأكمل:
" أظن أنه سيذهب للمدينة الساحلية!!....فأنتم تعلمون البحر منفسه الوحيد عند غضبه!!"

اعترضت هاتفة:
" ما هذا الهراء؟...هل سيذهب في هذا الوقت من الليل كما أننا ما زلنا في بداية الربيع والجو غير مستقر ومؤكد الأمواج عالية الآن.....لن أسمح له!!..."

دنا منها أكثر راسما ابتسامته اللطيفة ثم همس وهو يضع يديه برفق على كتفيها :
" أمي....أرجوك لا تقفي في طريقه الآن .....اتركيه يفرغ غضبه كما يحب لأنه إن لم يفعلها سينفجر بأماكن خاطئة.....هو معتاد على ذلك في تلك البلاد وأنت تعلمين هذا ....وهو والبحر صديقان متفاهمان لا تقلقي واستودعيه الله ..!!..."

تمتمت مستغفرة ثم صمتت برهة قبل أن تناظره بريب هامسة بفضول أم يغشاها القلق على ابنها:
" اخبرني ماذا حدث معه ليقلب سحنته هكذا وقد خرجتما في النهار وهو متفائل والضحكة لم تفارقه؟."

لم يردّ إنما أزاح حدقتيه جانبا نحو التي هتفت تسأل بنبرة جافة:
" هل تشاجر مع ابنة عاصي؟"

شدّ على شفتيه ورفع حاجبيه مع اتساع عينيه كأنه يقول هذا ما حصل ثم ردّ بصوت هادئ:
" ربما هو من يخبركما لاحقاً ما حصل أما أنا ليس من حقي التفوّه بأي شيء"

وتابع ينهي الحديث بجدية وملامحه مرهقة:
"هيا حبيبتي احضري اغراضك ....سأجلب السيارة وأعود لأنام ....أكاد أسقط مكاني .....غداً سأخرج باكراً للمحافظة الشرقية من أجل مؤتمر مغلق وعليّ أن آخذ كفايتي من الراحة!..."

أومأت برأسها توافقه محوقلة وأدبرت ذاهبة لغايتها وهو يراقبها بنظراته ثم أعاد عينيه لحماته هامساً بحنوٍ:
" وأنت أمي اذهبي ونامي مطمئنة ....سيكون بخير بإذن الله......لا تسألينه شيئاً ومؤكد سيخبرك عندما يجد نفسه مستعدا للكلام......اتفقنا؟"

لم تتغير تقاسيم وجهها البائسة الا انها أرغمت نفسها على الاستسلام فهي تثق بصهرها واكتفت هامسة:
"إن شاء الله بنيّ.."
×
×
×

دلفتُ الى غرفتي ولم أطق صبرا حتى أفك أزرار قميصي الأبيض الناصع واحدا تلو الآخر بل أمسكته من طرفيّ ياقته وفتحته بغل لتتناثر أزراره متساقطة ارضاً ثم نزعته بخفة وأنا أشد على فكيّ ساخطاً من حالي وكمشته بعصبية ثم ألقيته على سريري فلم أعد أرى به إلا سواد كراهيتها وفعلتها معي وكأن بياضه شرب كل هذا شاتما من بين أسناني تلك الحقودة وحظي العاثر معها ...." من تكونين لتفعلي بي هذا ؟!...تباً يا ابنة الحقير! ...عليّ أن أنساك وأنسى عمري الذي ضاع معك ولك...."...اخرجت كلماتي النافرة وصرتُ أصول وأجول في الغرفة دون هدى وبعد دقيقتين اتجهتُ الى خزانتي وارتديتُ بلوزة ضيقة دون أكتاف بلونٍ أزرق رغم أن الطقس ما زال بارداً لكن نيراني حولت ربيعي الى صيف شديد الحرارة ثم خلعت بنطالي وارتديت آخراً رياضيا قصيرا بدرجات أغمق من البلوزة كي لا اضطر لتبديل ملابسي هناك فطاقتي ثائرة من اجل الغوص وكأني أريد أن استغل كل ثانية ثم لحقته بارتداء آخر طويل لونه أسود استر به نفسي لحين وصولي وأخرجت حقيبة صغيرة وضعتُ بها منشفة وعطري وملابس أخرى بديلة ومحفظتي......نزلتُ بعد أن سمعتُ صوت محرك سيارة صديقي رباعية الدفع عند دخوله الى ساحة منزلنا !!.....استأذنتُ أمي التي استودعتني الله دون أن تسألني شيئاً...مؤكد صديقي(سامي) وضّح لها بعض الأمور فهو توأمي الذي يفهمني دون النطق بكلمة..!!......ركبت خلف المقود وأوصلته إلى بيته وكان قد أوصاني بتوخي الحذر واستودعني الله هو الآخر ثم انطلقت في مهب الريح لحبي وغايتي علّني أجد راحتي بمصدر سعادتي....صديقي الوفيّ ...بحر بلادي!! ......
الطريق كان شبه خالي من السيارات ولم اكن اشعر بقوة ضغطي على الوقود لذا وصلت المدينة الساحلية بسرعة قياسية بوقت أقل من الطبيعي فدائما سرعتي مضاعفة عندما يكون هو غايتي لأن غضبي المتولّد بي هو من يتحكّم بالدوّاسة تحت قدمي!! ....
للبحر شواطئ مختلفة لكل منها مدخله الخاص....كنت معتاداً على واحد منذ طفولتي وقبل وصولي إليه تذكرتُ أنه المكان الذي تعرفت به على العم (حافظ الصياد) عندما أتينا لمهمة رحلة شهر العسل لوطننا الغالي!! ...اشتقتُ له ولكلامه ...لا أنكر!....لكنا تواعدنا أن يكون لقاؤنا الثاني هو احضاري للمدللة معي بعد أن تنصلح علاقتنا!.....أملتُ زاوية فمي بابتسامة مصدراً صوت ضحكة مبتورة ساخراً من الفكرة......يا له من متوهّم عمي الصياد !!.....لا يعلم أن الوضع ازداد سوءاً.....يا الله إن التقيتُ به ماذا سأقول وماذا سأحكي وعما سأشكي؟؟.....أأقول له انظر الى خدي لترى خيبتي وخذلاني منها؟؟!...بل أنظر الى جرح قلبي!!......كلا لن أفضح نفسي !!......أدرتُ المقود قاصداً وجهةً أخرى وشاطئاً آخراً قريبا هروبا من مواجهته!!......أركنتُ السيارة بمكان مناسب وخلعتُ بنطالي الطويل وبقيتُ بالقصير .....وضعتُ منشفتي حول عنقي وترجلتُ مجتازاً الأرض المبلطة وصولاً للرمال .....توقفتُ اتأمل البحر وانعكاس القمر عليه......كانت رياح بين المتوسطة والخفيفة تحرّك مراكب الصيد المربوطة جانباً على سطح الماء!!.....ومصابيح عامودية بإضاءات خافتة توزّع بالمكان!!..........دنوتُ من المياه ووضعت ُ منشفتي على حافة قارب قريب وخلعت بلوزتي ووضعتها فوقها....وقفتُ لثواني اراقب الأمواج القادمة من الأعماق فينتهي بها المطاف مرتطمة بالقوارب أو على الرمال!!....تنفستُ الصعداء مستعدّا لمغامرتي مع بحر غرامي الأبديّ......أنا أثق به لن يخذلني كالبعض من معشر النساء ذوات القلب المتحجر والعقل الصغير!!.....سحقاً لها سحقاً!!...سأجبرُ نفسي على نسيانها!!....ماذا أتاني منها غير العذاب والإهانة؟!....عليّ أن أنساكِ ...اخرجي من حياتي اخرجي أيتها الحقودة!!....بقلبٍ هادرٍ وجرحٍ غائرٍ حركتُ يدي تمرّناً للسباحة ولأشد عضلي.....توكلتُ على الله وسرتُ نحوه حتى غمرني ماؤه الى خاصرتي وبعدها غصتُ مختفياً عن سطحه ذاهباً الى اعماقه متحدياً أمواجه ببراكين الغضب المتفجرة في احشائي .....سبحتُ وسبحتُ حتى تفككت عظامي وارتخت عضلاتي!.....خرجتُ بعد ساعتين وجففتُ حالي ثم ارتديتُ بلوزتي وصعدتُ الى قارب رث مهجور بلون أخضر باهت واستلقيتُ داخله متوسداً شبكة صيد مهترئة وغطيتُ منطقة بطني بمنشفتي وسرحتُ بالسماء الظلماء أعد النجوم وأفكر بالهموم لبعض الوقت وعند دلوف الفجر ذهبتُ الى الحمامات وتوضأتُ وارتديت بنطالي الطويل وصليتُ جنب السيارة ثم عدتُ مجدداً لأدغدغ جسدي بين أمواج حبي حتى شقشقة الضوء ...!!.....
في وقتٍ متأخر من الضحى قبل الظهر بدقائق عديدة استيقظتُ من نومي بعد عودتي إليه عقب الشروق على صوت رجل غاضب قريب مني..!!....جلستُ اتفحص الوضع فوجدته يوبخ فتىً أسمراً ببنية ليست نحيلة ولا ضخمة ،...وعلامات الفقر المدقع مرسومة عليه من رأسه لقدميه....يبدو أنه طالب في المرحلة الثانوية!!...كان يصرخ به بعد أن سحب دفتراً كان بيده ومزّقه بغل:
" قلت لك ألف مرة نحن لسنا بمدرسة هنا....ألا يستوعب عقلك الغبي الكلام؟!.."

طرق رأسه أرضاً رهبةً!!....أكانت رهبة أم إنها الحاجة!؟...لم أميز ماهيتها!!..ثم رد بصوت مهتز..:
" آسف يا معلمي.....لكني نقلتُ الصناديق كلها من القارب الى الغرفة الباردة وأنت طلبت مني أن انتظر ريثما تأتي الحمولة الأخرى..!!....."

وأكمل وهو يشير لتحت على دفتر آخر:
" لذا في هذا الوقت أردتُ أن أنقل مادة العلوم عن دفتر صديقي لأني سأعيده له عند عودته من المدرسة..!! "

دفعه بيده ببغضاء من كتفه وعلامات الاشمئزاز منه تحتل ملامحه وقال:
" هيا اذهب واسأل عاهد إن كان يحتاج لمساعدة بدلاً من مضيعة الوقت بدراسة لا جدوى منها......قلت لك في السابق تعلّم صنعة أضمن لك من الدراسة التي لن تفيدك يا ابن الغريبة..!!....أولاد بلدنا وبصعوبة حتى يحصلون على وظيفة!....أتظن أنت الذي لا خير بك ولا اصل لك ستحصل عليها ؟!...."

ثبت مكانه وأجاب بحرقة يشوبها الاعتزاز برأسٍ شبه منخفض احتراماً:
" لي أصل يا معلم ....إن كنتُ غريباً في بلادك لا يعني أن لا أصل لي!!.....ثم هذه بلاد الله الواسعة!!..."

قفزتُ من القارب وشددتُ بلوزتي من طرفها لأرتبها بسبب فوضى النوم وبدأتُ أتقدّم نحوهما بتمهّل عكس ما يختلجني من انفعالات استعداداً للهجوم على عديم المروءة والانسانية...لقد أثار حفيظتي...تنهدتُ تنهيدة حارة وتابعت سيري!... فجأة توقفتُ مكاني ناظراً ليسراي عند قدوم فتى آخر نظيف الهيأة يبدو في مرحلة الاعدادية حاملاً ورقة بيده يلوّح بها متفاخراً ومنادياً:
" أبي...أبي....لقد حصلتُ على المرتبة الأولى بامتحان اللغة الانجليزية ......وزعوه علينا ثم حررونا من المدرسة حصة رابعة فجئتُ على الفور عندك لأبشرك قبل ذهابي لبيتنا.."

استدار ناحيته وظهرت أسنانه المتآكلة من تحت شاربه وقال وهو يفتح ذراعيه:
" تعال يا فخر أبيك تعال.....تعال يا طبيب عائلتنا المستقبليّ"

لما وصله احتضنه بقوة بينما كان الفتى يراقبهما بصمت وأنا أقابله من الجهة الأخرى أراقبهما كذلك عن كثب فربّت على ظهره وهو يشدّ عليه مردفاً:
" هكذا أريدك دوماً أن ترفع رأسي.....أنا واثق أنك ستحقق أمانينا بدراستك بنيّ.!!...."

ضحك بعنجهية واستطرد:
"اليوم سأُصْمِت أبا فرج المتباهي بابنه الأبله لحصوله على المرتبة الثالثة بامتحان العربي!...."

وانقطعت ضحكته مع التفاته صوب من كان مستمعاً لهما عندما قال بغصة:
" لماذا؟!....لماذا تشجّع ابنك على الدراسة بينما أنا تحطم لي طموحي وتخبرني أنها لا تجدي نفعاً ؟!.....يمكنني أن أكون بمستوى ابنك واحصل على ما حصل يا معلمي..."

دفعه باستصغار وقال هازئاً:
" أتقارن نفسك يا ابن الغريبة بابن المعلم عاطف رئيس الصيادين؟!.."

ردّ بإباء بعد أن شمخ بهامته:
" كلنا سواسية يا معلم خلقنا الله من طين!....لم يخلق أحدنا من ذهب!.."

لقد استفزني هذا الناقص حامل داء العنصرية !!.....كيف لا يتمزق نسيجنا الاجتماعي وأمثال هؤلاء يعيشون بيننا ؟!....ما هذه الكراهية وهذا التعالي اللذيْن يحملونهما في جنباتهم ؟!....لمَ يظنون نفسهم أفضل من غيرهم؟!......ألا يعرف هذا المتعجرف أنه يصنع بتمييزه العنصري إما مجرماً ناقماً على من حوله أو رجلاً مهزوز الشخصية يعيش حياة بائسة ؟!....تباً لعجرفتك أيها الأرعن ..!!

" أحسنتَ يا بطل!!.."

قلتها معتزاً به بعد أن صرتُ ملاصقاً لهم واضعاً كفي على كتفه فناظروني بغرابة لثواني لأقطع نظراتهم موجّهاً كلامي للرجل الفظ بهدوء راسماً ابتسامة ماكرة:
" أسمعت يا معلم ؟!....كلنا سواسية!!..."

قطب حاجبيه وفتل شاربه وهو يتفحصني من تحت لفوق وقال:
" تبدو لي أنك غريب عن منطقتنا..!!.."

وأكمل وهو يتابع بنظراته المتفحصة:
" وأرى أنك ابن ناس....أم أنني مخطئ؟!.."

" بالطبع مخطئ!!... بدايةً بالنسبة لقولك ابن ناس فكلنا أبناء ناس لا فرق بيننا.....فنحن في النهاية أبناء آدم وحواء....الا اذا كان لك رأيٌ آخرٌ بما يخصك!!..أما غريب فما غريب الا الشيطان.!!.....لأن الأرض هي أرض الجميع من أقصى الشمال الى أقصى الجنوب ومن شرقها الى غربها....وكل قدم داست هذا التراب ستصبح تابعة لهذه الأرض مهما كان المكان الذي أتت منه ....فأرضنا كريمة تحتضن من أوى إليها دون أن تلفظه أياً كان عرقه ودينه وقوميته وميوله...خاصة اذا احترمها واحترم أهلها!....يا معلم!!..."

لم يعجبه كلامي وتهكّمي بين الحروف فأمال زاوية فمه بضحكة ساخرة وقال:
" اترك كلام الشعراء وشعاراتهم الوهمية وعش الحقيقة .....كل واحد منا له أرضه ومكانته وهذا لاجئ مشرّد جاءنا هاربا من الجنوب الغربي منذ خمس سنوات.....أي ليس له شبرٌ هنا وعليه احترام اسياد هذه الأرض الذين اعطوه المأوى والطعام والعمل بدلاً من رد الكلام بوقاحة أو رفع سقف طموحاته الذي سينهار عليه يوماً ما عندما يدرك من يكون ومن أين أتى!!...."

بدأت اعصابي بالانفلات .....أرسل لي الصبر والفرج من عندك يا الله !!.....ما بهم الوقحون يتهافتون عليّ بالآونة الأخيرة؟!.....جئتُ الى هنا لأطفئ ناري من ابنة (عاصي) فوجدتُ نسخاً أخرى من أمثال أبيها وإن اختلفت مساعيهم !!...استغفرتُ في سري محاولاً التحكّم بانفعالي فأنهى كلامه مستديراً وصدم الفتى صارخاً بدناءة يحثّه على التحرك:
" هيا امشِ أمامي يا ابن الغريبة......هذه الدقائق تحسب من وقتك ....لذا لكيّ تتعلّم بألّا تهدر اوقاتك بأشياء لن تفيدك سيكون عقابك عدم استلام راتبك لهذا اليوم ....هيا تحرك أو طردتك من غير عودة ..!!.."

رغم أن النيران التهبت بأحشائي الا أنني ما زلتُ مسيطرا على نفسي وارتأيت أن اراقب بصمت ردة فعل الفتى متعمداً لأرى مقوّماته لغاية في داخلي !!...وبينما كنتُ أقاوم ثباتي انتفخت اوداج الفتى بقهر والتمعت عيناه بأسى الا أنه رد من بين أسنانه بجسارة:
" الرزاق هو الله وهو من يوزع ارزاقه علينا.....أنت ليس سوى وسيلة يا معلم .....ربما اعطاك المال وحرمك شيئا آخراً وربما حرمني المال والأب وخبأ لي شيئاً أعظم سيأتي بوقته......"

وخلع مريول النايلون الذي كان يرتديه للعمل وألقاه أرضاً هاتفا بعز وشموخ:
" كل يوم كل يوم تُسمعني الاهانات وأنا صابرٌ ادعو لك بالهداية ...تنعتني ابن الغريبة وأنا صامت ....الى هنا و كفى......أنا لم أعد أرغب بالعمل لديك وسيتولاني الله...."

استشاط غضباً منه وانقض عليه يمسكه من تلابيبه وهو يزعق:
" من أنت لتقرر وحدك ترك العمل ؟!...لن تتركه الا اذا اردت أنا ذلك !!.....أتظن أنك ستجد عملاً آخراً ؟!..."

وضحك بعنجهية ساخراً ثم تابع بغضب وهو ما زال يمسكه ويهزّه:
" أنسيت أنكم منبوذون من الجميع هنا ؟!.....فأنت تعلم لو كان بكم خيرا لما رماكم الطير .....وفهمك كفاية يا ابن الغريبة!..."

هالني تصرفه هذا الخسيس باستصغاره وثارت دمائي بعد أن سحق آخر ذرة صبر كنت اتكئ عليها فهجمتُ عليه وسحبته عن الفتى ممسكاً قميصه من صدره بقبضة واحدة غاضناً جبيني وعروقي تكاد تنفجر من غضبي ثم نظرتُ ليميني سائلاً:
" ما اسمك يا بطل ؟!..."

أجاب وهو يرتب بلوزته المهترئة:
" شُجاع..!!.."

" ووالدك وكنيتك؟!.."

" حسن الراقي !.."

عدتُ بحدقتيّ المشتعلتين بجمر الغضب للذي في قبضتي وصرختُ به وأنا اجذبه تارة نحوي وتارة ابعده :
" صبرت عليك علّك ترتجع لأنك رجل كبير وإذ بك لا تمت للرجولة بصلة ....ضع في دماغك ولا تنسى.....هذا البطل....اسمه شجاع حسن الراقي ....أعدك بإذن الله بإذن الله اذا اراد الله لنا الحياة ثلاثتنا أنك عند سماع اسمه في المستقبل القريب سترتجف رهبةً وستبكي ندماً وستركع عند قدميه متوسلاً إن لم تعتذر منه وتنعته باسمه الشخصي باحترام ولن أكون هادي ابن محيي الدين الشامي إن لم انفذ وعدي في حال رفضت الاعتذار الذي يليق به .!!..."

أفلتّه بكراهية حاملاً نخوتي حتى ارتد قليلاً للخلف ووازن نفسه يصلح هندامه ثم أردفت رافعاً سبابتي بوجهه:
" احذر من غرورك وعنصريتك اللذين سيأخذانك الى الهاوية ...."

وحرّكتُ رأسي ناظراً للفتى لأسأله:
" ما طموحك والى اين تريد أن تصل ان شاء الله بدراستك ؟!.."

تبسّم ابتسامة تشع أملاً وأجاب بحالمية:
" طبيب......جرّاح قلب ان شاء الله !.."

عدتُ مرة أخرى للرجل وقلت:
" هذا الشاب سيدرس في افضل المدارس والجامعات بمشيئة الله.... فكّر أنك ربما تحتاجه يوما لك أو لشخص يخصك ...فالصحة والعافية ملك لله وحده وليست بقوتنا....تخيّل أن تتوقف حياة ابنك لا قدّر الله على عملية لا غيره يمكنه اجراءها له... وقرّر إن أردت الاستمرار بعنصريتك وعدم الاعتذار أم أنك ستعتدل..."
ثم دنوتُ من الفتى (شجاع) ممسكا بذراعه اوجهه ليسير معي والتفتُّ للخلف بنظراتي الحادة النارية هاتفاً لذاك الناقص بنبرة يفوح منها الوعيد :
" أظن أنك تعلم عنوان بيته ....عجّل باعتذارك قبل أن يغلق الباب امامك!.."

وسرنا معاً متجهين الى السيارة لأن عملي لم ينتهِ معه بعد....فأنا رسمتُ عليه أشياء كثيرة وأرجو أن لا تخيب آمالي...!!
×
×
×
عند اقترابنا من السيارة تبسّمتُ بوقار وأشرتُ له قائلاً بعد ضغطي على المفتاح:
" هيا اركب معي ..!!.."

تنحنح مشيحاً رأسه جانباً وهو ثابتٌ مكانه ثم اداره نحوي مجيباً:
" اشكرك سيدي على وقوفك معي....لكن لم أفهم....لمَ لأركب معك ؟!.."

وضعتُ ذراعي على سقف السيارة متكئاً بذقني عليه ناظراً للجهة الأخرى حيث يقف وقلت:
" لم أفعل شيئاً لتشكرني.....وأنا رغبتُ بالتعرف عليك....لذا أريد دعوتك لنتناول غداءنا معاً وندردش....ما رأيك ؟!.."

قطب حاجبيه وقال وهو يمعن النظر بوجهي:
" لا نحتاج لغداء كي نتعرف على بعضنا.!!.....ثم يبدو أنك ليس من سكان هذه المنطقة أي اصبح من واجبي ضيافتك..!!"

واستدار برأسه للخلف يمد ساعده هاتفاً وهو يشير بسبابته لبقعة فيها بعض البيوت المتهالكة المبنية من المعادن الصدئة والأخشاب تقع بالطرف الآخر من الشارع :
" تفضل لتشرب كأساً من الشاي في بيتنا المتواضع إن أردت!!.."

انتصبتُ بوقفتي رافعاً حاجبي مدققاً بالبقعة التي اشار إليها ثم عدتُ بعيني إليه وقلت بعدما لمحتُ عزة نفسه الأبية:
" بكل سرور!.....لا أفضل من كأس شاي والبحر أمامي ورائحته تعطر أنفاسي !!.."

أقفلتُ السيارة مرةً أخرى بعد أن فتحتها وأقبلتُ نحوه ثم بسطتُ يدي هاتفاً بابتسامة:
" إذاً تفضل أيها الشجاع لنتذوق شايكم.."

كنا نسيرُ على مهل فسألته بهدوء:
" ألا يفترض أن تكون بهذا الوقت في المدرسة ؟!.."

نظر إلى موضع قدميه حيث حذاؤه الممزق وأجاب بغصة:
"أنا أدرس لوحدي....المعلم عاطف اختار أن أعمل في الوردية الصباحية ونحن نحتاج لهذا العمل لا استطيع رفضه ....لذا آخذ المواد المهمة من صديق طيب لي وأراجع عليها بنفسي وقد وضع الله بطريقي مدرس كريم كان يحبني فتواسط لي عند المدير لأقدم الامتحانات مع زملائي الحمد لله..!!.."

" منذ متى تعمل عنده ؟!.."

" منذ ستة شهور!!...لا أنكر فضله عليّ من بعد الله لكني سئمت من اهاناته .....ابتداءً من الغد سأبدأ بالبحث عن عمل جديد ان شاء الله .....لا يمكنني البقاء من غير دخل لبيتنا..!!.."

وضعتُ قبضتي أمام فمي ساعلاً ونظرتُ إليه بعد اجتيازنا الشارع:
" لا تؤاخذني بسؤالي!.....لمَ يناديك بابن الغريبة ؟!....أين والدك؟!.."

لاذ بالصمت فشعرتُ كأنني تخطيت حدودي بالسؤال فبدلتُ الموضوع مستفسراً:
" أي البيوت بيتكم؟!.."

" أبي أسير في سجون النظام السابق الظالم منذ خمسة أعوام....تبدّلت الحكومات والأنظمة ولم يتبدّل الظلم.....كل نظام يأتي اسوأ من الذي قبله..."

أجابني بنبرة مجروحة على سؤالي الأول فاقداً الأمل ومحبطاً فسألته بفضول:
" أتعلم ما تهمته ؟!..."

تطلعنا كلينا نحو الطفل القادم مسرعاً , مقبلاً نحونا صارخاً بسعادة قبل أن يجيبني:
"جاء أخي شجاع....جاء أخي شجاع... جاء وجلب لي الحلوى..."

يا الله...عاد بي الزمن وعادت معه أوجاعي....!!...كأنني أرى أمامي مشهداً معاداً بطلاه (هادي)و(شادي).....هذا الفتى يذكرني بنفسي!!....انحنى يحتضنه بحب وحنان أبوي فتأكدتُ أنني لستُ وحدي من أصبح رجلاً قبل اوانه.....كان طفلاً في السابعة من عمره ولمّا أفلتا بعضهما تطلع على يديّ شقيقه الفارغتين وقال بخيبة وبراءة:
" أين الحلوى خاصتي؟.."

تنحنح ورمقني بنظرة جانبية سريعة ثم عض على شفتيه يسكته ورد وهو يمسّد خده:
" غداً ان شاء الله سأجلبها لك....الآن معنا ضيف لا يجوز ابقاءه واقفاً ....اذهب الآن يا حمزة والعب مع فطين صديقك!!..."

طرق رأسه أرضا ومطّ شفتيه حزناً واستدار يخطو خطواته المكسورة فناديته في الحال:
" حمزة..."

تطلّع عليّ فأردفتُ:
" ألن تصافحني وأنا ضيفكم ؟!.."

وقبل أن يصلني نقلتُ حدقتيّ إلى (شجاع) وقلت:
" هيا اغلي الماء للشاي سأنتظرك هنا ..!.."

اومأ برأسه ايجاباً ودخل غرفتهم المتهالكة المسمّاة بيتاً فعدتُ لأنادي الطفل ولما وصلني صافحته وداعبته قليلاً ثم أخرجت ورقة من المال وقلت له مشيراً لبقالة بسيطة موجودة على مدخل حيهم الصغير:
" اذهب أنت وصديقك فطين واشتريا لكما ولباقي الأطفال الحلوى.!!.."

سحبها من يدي بحماس ضاحكاً واختفى عن الأنظار فأطلّ (شجاع) هاتفاً:
" تفضل الى الداخل..."

دلفتُ بعد أن استأذنتُ أهل البيت وألقيتُ السلام ....ما هذا الحال ؟!...تصلّبتُ مكاني برهةً من الزمن!..بيت يفتقر لأدنى مقومات المعيشة !!....حتى خيمتنا في بلاد اللجوء كانت أكثر صحيّة ...ربّاه ربّاه....اعتصرني الألم على حالهم وغمرتني موجة ذات بأس شديد!!....كان مفروشاً بحصير متآكل وجلسة أرضية هي ذاتها للنوم....احدى زواياه عبارة عن مطبخ توضع الأواني القليلة بوعاء بلاستيكي كبير على الأرض وبالون غاز صغير عبارة عن موقد يوضع عليه ابريق قديم كان ذهبي اللون قبل أن يُقشر طلاؤه خاصاً للشاي!!....والحمام في زاوية أخرى بابه من ستارة لم استطع تحديد لونها والدش عبارة عن اناء بلاستيكي لصب الماء ووعاء كبير كحوض استحمام!!....مستوى حياة أصعب من الحياة البدائية!!.....يعيش داخل هذا البيت عجوز كان يجلس مكانه ويتمتم وهو يلتفت يمنة ويسرة كأنه يكلم أناساً من عالم آخر لا نراهم...وخطوط لهموم جزيلة ترسم كخرائط على بشرته و(أم شجاع )كانت تفرم البصل لتقلّبه بالزيت كوجبة غداء دسمة لهم... وعلى جانبيها يجلس فتيان تتراوح أعمارهما بين التاسعة والعاشرة... أحدهما يحمل كسرة خبز شبه يابسة يقضم منها بصعوبة !.....نهضت المرأة من مكانها حال دخولي حيث كانت تقرفص ومسحت جبينها بذراعها ثم انزلت كميها هامسة بقوة فيها الحياء:
" تفضل أخي...."

شكرتها خافضاً بصري احتراما ثم قعدتُ مجاوراً للعجوز ووضعتُ يدي على فخذه هاتفاً بنبرة مرحة:
" كيف حالك يا عم ؟!.."

تطلّع عليّ وقال:
" كيف حالك يا عم ؟!..لا اله الا الله"

رفعتُ حاجبي بريب صامتاً لبرهة ثم استأنفت:
"محمد رسول الله ... الحمد لله أنا بخير ما دمتَ أنت بخير..!!"

رفع حاجبه مثلي وكرر نفس جملتي مع اضافة لا اله الا الله!!....لم أفهم حالته بعد!!.....أما المرأة وابنها البكر (شجاع) حدّجا ببعضهما صامتين ثم اقترب الأخير منا وقعد على الجانب الآخر ومدّ يده لذقن جده يصوب وجهه نحوه وقال برفق :
" جدي....انظر إليّ....هذا رجلٌ طيب !!...لا داعي لتكرار كلامه.....إنه ليس من هؤلاء.....يُدعى..!!.."

وحدّق بي لأعرّف عن نفسي بنفسي فقلت مبتسماً:
" هادي الشامي!.....من المدينة الجبلية!!.."

اتسعت عيناه مذهولاً وهبّ واقفاً من فوره هاتفاً باعجاب:
" مدينة الثوار؟؟!!.."

رفعتُ رأسي ناظراً إليه لأقرأ مقصده وأجبتُه بسؤال:
" ما الذي تعرفه عنها ؟!!."

عاد لمكانه وشقت ثغره ابتسامة صادقة فأصبح وجهه أكثر بشاشة وقال:
" قبل خمسة سنوات عندما كنا بقريتنا على الحدود الجنوبية الغربية عند حدوث (معركة العزّة ) حين انتصر الثوّار الأحرار بكافة الكتائب على عصابات الدولة الخونة قالوا لنا أن أبطال هذه المعركة معظمهم من المدينة الجبلية!!...لم أنسَ ذاك اليوم...كان عمري أحد عشر سنة.....تمنيتُ أن أزورها يومـَ....."

وقطع جملته ملتفتاً للتي صرخت به وهي تجول بعينيها لأنحاء البيت وعلى المدخل بحرصٍ شديد كأنها تخشى أن يسمعه احد :
" شجاع....أصمت...."

أجابها بتحدي:
" أمي....أنت تعلمين أن المدينة الجبلية اشتهرت بإخلاص ووفاء أهلها للوطن وهي رحم ولادة الثوار...المدينة الوحيدة التي لم يجدوا بها خائناً واحداً.. وأبطالها من وقفوا معنا وضَحّوا بدمائهم حماية لنا..!!..."

ونظر إلي ثم أرجع عينيه نحوها مكملاً:
" حدسي أخبرني أن أخي هادي ابن أصل من موقف صغير وإلّا لم أكن لأدخله بيتنا أمي...وها هو تبيّن أنه ابن مدينة الأبطال...أي لا خوف منه!!.....ثم ما الذي نخشاه وقد خسرنا حياتنا الكريمة ؟!..."

بنبرة مكلومة تفيض أنهاراً من الوجع قالت:
" يكفي ما خسرنا.....لا أريد خسارتك ولا خسارة مأوانا!....بالكاد استقرينا هنا بنيّ....فكّر بي لو أخذوك ماذا سيكون مصيري !...."

يا الله....شبيهة أمي!!...ذكّرتني بها عندما كانت في البداية تخشى عليّ من كل شيء.....نفس الكلام ونفس القلق سبحان الله !!......آآه من تلك الأيام يا نبض الحياة....!!

تدخلت بأدب ورزانة مشتركاً بحديثهما:
" أختي من فضلك لمَ تصمتينه ؟!.....أرجوكِ لا تصمتيه....نحن نحتاج لأمثاله من هذا الجيل الصاعد !.....نريدهم أن يقولوا الحق دون مهابة ودون أن يخشوا لومة لائم.!!.....إن سعى كل أم وأب لإخراس ابنائهم عند قول كلمة الحق سيضيع الوطن وسيتم التلاعب بالدين وسيهون العرض وستسلب الأرض!!....شجاع اسمٌ على مسمّى حفظه الله ورعاه وأنت ستفخرين به ولن تخسريه بإذن الله.....لا أعلم لمَ تتعاملون كأن النظام السابق ما زال يسيطر الى الآن على الدولة وشعبها ؟!!....ذاك الزمن ولّى والنظام في طريقه الى الزوال ....قطعناه وبقي ذيله يتحرك كذيل الأفعى المبتورة عندما تتحرك دون أن تؤذي !!...اقترب بإذن الله اليوم الذي سندفن به هذه الذيل لنمسح آثارهم عن بكرة أبيهم !!....استبشري خيراً..."

تربّعت على الحصير وشدّت ثوبها المرقّع عن جسدها بعد التصاقه بها وهتفت بأسى وقهر:
" من سيمسح آثار ما فعلوه بنا ؟!....من سيعيد لنا ما ضاع منا ؟!....من سيثأر لسمعتي وشرفي ؟!....أي أثر ستمسح لهم بالضبط ؟!...."

انقبض قلبي وشعرتُ أن شيئاً قاسياً عانته ووجع شديد ألمّ بها ولمحتُ بكلامها جروحاً عميقة لم ولن تندمل بينما قام ابنها ليحضّر الشاي بعد رؤيته لغطاء الابريق يتحرك فوق النار من شدة غليانه!!.....
كانت امرأة في نهاية العقد الثالث, متوسطة الجمال..!!.. سألتها وعيناي أرضاً:
" اخبريني ما فعلوا بكم علّني استطيع المساعدة أختي....ثقي بي رجاءً....أنا معكم....أنا هادي ابن المدينة الجبلية ...مدينة المجاهدين ألتي أنجبت القادة والشهداء!....هادي محيي الدين عبد الهادي الشامي!!..."

" القائد محيي الدين الشامي ؟!.."

هتف بها العجوز ناصباً كتفيه اللذين كانا متهدلين بانكسار فنظرتُ إليه على الفور مؤكدا:
" أجل.....القائد محيي الدين الشامي....هل سمعتَ به ؟!.."

" هل سمعتَ به؟. لا اله الا الله.. هل سمعت به ؟!.لا اله الا الله."

كرر كلامي مجدداً وهو يطوف بحدقتيه الضعيفتين على الحصير كأنه يبحث عن ضالته واستمر بتكرار آخر كلامي فأمالت زاوية فمها (أم شجاع) بابتسامة ساخرة ورفعت يدها مشيرة بلا مبالاة كأن الأحاسيس قتلت داخلها من شدة ما تحمل من اليأس وهتفت:
" انظر ...هذا عمي...حماي !!....أول الضحايا!...اسمع لقصتنا التي سأحكيها لأول مرة كاملة لغير عائلتي!.....لكن عدني أنك ستوصل كلامي للعالم الصامت عن الظلم....لمدّعيي حقوق الانسان....لمن يبنون امجادهم على اشلائنا...لمن يستخدموننا كسلعة لجلب مشاهدات وأموال لم نرَ قرشاً واحداً منها.....للصحافة التي تزين صفحاتها بصورنا.....لكل من اولئك غاية ونحن أضعنا غايتنا...!!...."

تململتُ مكاني أعدّل جلستي ...نظرتُ إليها قائلاً قبل أن أعود لأخفض بصري :
" اسمعك أختي.....سأفعل ما أقدر عليه بإذن الله...أعدك!.."

زفرت أنفاسها الممزوجة بالآهات والحسرات وحاولت المحافظة على نبرة صوتها :
" في يومٍ ككل يوم من أيام الحرب على الحدود قبل خمسة سنوات زارنا قائد من الثوار مطلوب للدولة طالباً الحماية ريثما يأتي اصدقاؤه ويأخذونه الى مكان آخر.....فتح له زوجي بيتنا وأكرمه....يشهد الله أنه كان رجلاً شهماً شجاعاً فخراً للوطن وأثناء مكوثه في بيتنا ورده اتصال ممن ينتظرهم فاقترح عليه زوجي بأن يوصله لمكان معين في ساعات الليل بدلاً من قدوم رجال غرباء إلينا كي يبعد الشبهات عنا ومنعاً لأي خطر نحن بغنى عنه....فالجواسيس كثر وإن رأوا سيارة غريبة في حينا سيبيعوننا ..!!....كان كل ما فعله زوجي أنه قام بإيصاله لأطراف القرية أي الى منطقة غير مأهولة!!....ولم نكن ندرك أن أحد الجيران الخونة يعمل لصالح الدولة مقابل بضع قروش كان يراقب تحرّكات زوجي في غفلة منا !....حاصرت بيتنا القوات المسلحة وأصروا أننا نتعاون مع الثوار وأن لدينا معلومات حساسة تخصهم...لم يصدقوننا أبداً رغم قسمنا لهم بأننا لا نعرف شيئاً عنهم!!.....بطريقة ما عرف زوجي بحصارهم لنا وأنه مطلوب فلم يعد للبيت ظناً أنهم سيسأمون ويتركوننا في حالنا .....ظن الخير بسلالة الشياطين!!...."

ابتلعت ريقها تبتلع غصاتها واستطردت بصوت بدا ضعيفاً وهي تنظر للعجوز:
" كان عمي يصلي قيام الليل آنذاك....سحبوه عن سجادة الصلاة قبل أن يسلّم من صلاته بعد ثلاث ساعات من الحصار...لم يحترموا المعبود فهل سيحترموا العابد ؟!... لم يأبهوا لتعثر خطواته وسقوطه وقالوا لي وهم ينظرون بصفاقة ودناءة * قولي للديوث زوجك أن يسلم نفسه لنا قبل أن نلبس والده خلخال ونتسامر على رقصه *.. وأخذوه من أمامنا وسط استنكارنا وبكاء أطفالي....كان شجاع في الحادية عشر من عمره!!...مرّت الأيام ولم يظهر زوجي ولم يتواصل معنا وكان بعض الشرفاء يطمئنونا أنه بحماية الثوار!!.....أما عمي ذاق من العذاب ألوان في سجون النظام....كانوا يتركونه عارٍ في عز البرد ويسكبون الماء البارد عليه !!.."

ضحكت هازئة وقالت:
" طبعاً هذا الكلام أخبرنا به زملاؤه في السجن ممن أنعم الله عليهم بالحرية فهو منذ فك اعتقاله وهو على هذا الحال!....يعيد الكلام الذي يسمعه متشبثاً بـ لا اله الا الله......"

ثارت دمائي في منابعي وصككتُ فكيّ بغيظ رغم أن هذه القصص أعلمها لكن أن أخالط وجهاً لوجه أناس عاشوها كان وقعه كبيراً عليّ ولم يتحمله قلبي....شعرت بضيق يجثم على صدري يزيد من قهري إلا أنني رغبت بسماع القصة كاملة فقلت بهدوء مزيف وأنا أمد يدي لأتناول كأس الشاي من الصينية التي يحملها (شجاع):
" أسمعك أختي...تابعي!.."

مسحت بظهر كف يدها دمعة يتيمة خانتها وتابعت:
" كانوا يصلبونه في احدى الغرف الباردة وهو عاري وكل نصف ساعة يدخلون إليه ويجلدوه بالسوط ليقر ويعترف عن مخابئ الثوار وعن زوجي وهو حقاً لا يعلم شيئاً عنهم..... لقد أوصلوه لهذا الحال تحت اجباره على النطق بشعاراتهم....لذا أصبح يكرر ما يسمع.....كانوا يضغطون عليه ليعيد كلامهم تمجيداً لرئيسهم وأن....أن.....استغفر الله...."

" أن ماذا؟!.."

سألتُ بخشونة فأجابت وهي تستغفر وتطأطئ رأسها لحجرها:
" كانوا يرغمونه ليشرك بالله إلا أنه بقوة ايمانه أبى وتمسّك بأن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله .....أعادوا علينا زمن الجاهلية وقريش بل هم أشد كفراً...."

" أوغاد لعنة الله عليهم..!!"

قلتها وأنا أجزُّ على أسناني وعروق يدي تكاد تنفجر من الشد على قبضتي فأضافت:
" عندما كان يجف حلقه ويطلب الماء كانوا يسقونه مجبراً من بولهم أكرمك الله .."

تلاحقت دمعاتها وتهدجت أنفاسها وبدأ صدرها يعلو ويهبط انفعالاً وهي تسترجع الموقف واردفت:
" عندما أخبروني بكل هذا ظننتُ أنهم يحدثوني عن أحد أفلام العصابات حتى جاء اليوم المشؤوم!..."

" أي يوم ؟!..."

حاولت استعادة رباطة جأشها ومسحت دمعاتها بأناملها ناظرة لفوق مبعدة حدقتيها عني وهي تضغط على شفتيها وكأنها تشهد الله على ما مرت به ثم تنهدت بقوة وأجابت:
" لقد عتقوه وأخذوني بدلاً عنه ليضغطوا على زوجي بتسليم نفسه !!..."

" ماذا ؟!.."

سألت مستنكراً وبركان الغضب يتفجر داخلي فقالت:
" أخذوني بعد اسبوع من تحرير عمي ....سحبوني من بين اولادي..."

أشارت للخارج مضيفة:
" كان حمزة ابن عامين وفي حضني....أخذوه عنوة ووضعوه أرضاً بقسوة دون أن يرف لهم جفن ولم يحرك انسانيتهم منظره وهو يرفع يديه نحوي باكيا بحرقة وينادي عليّ لأحمله...كان مريضاً وملتصقاً بي....طفل فرّقوني عنه وهو بأمسّ الحاجة لي!!.."

وأشارت لبطلنا وهي تكمل والعبرات تتسابق لتشهد على مصابها :
" أما شجاع....هجم يسحبني منهم فجرّوه بعنف وركلوه غير مهتمين لصغر سنه!!....ركلوه كأنهم يركلون كلباً ضالاً....أو كيساً مليئاً بالرمال....أخذوني وحبسوني في سجن انفرادي....منعوني من الصلاة لأيام وأنا داخله....في الوردية المسائية كان يأتي ضابط حقير يدخل إليّ في ساعة معينة ليتحرّش بي بنية الضغط عليّ لأعترف بما لا أعرفه!!....كانت الساعة التي تسبق زيارته أمضيها مبتهلة الى الله بأن يقبض روحي قبل أن يغتصبني !!....بعدها وضعوني في سجن مليء بالضحايا شبيهاتي.....تتراوح أعمارهن بين الثامنة عشر والخمسون....غرفة تتسع لعشرين يضعون بها أربعين امرأة......ولا واحدة كانت تعلم ما تهمتها!!....يحتجزوهن كطعم للضغط على من يخصهن...!!....أذكر....أذكر...."

علا نشيجها وأخفت عينيها بكفيها وهي تهز رأسها للجهتين عسى أن تطرد المنظر من أمامها !....شجعتها لتكمل رغم أني فقدتُ قدرتي على تحمل ما أسمع فأكملت بشق الأنفس وصوتٍ متحشرج:
" أسماء...!!....رحمها الله ....فتاة في التاسعة عشر من عمرها!....كانت ترتدي النقاب وتحفظ كتاب الله!....آية من السحر والجمال!....كانت تحمل أحلاماً تكفي لتعمّر الأرض ...فتاة طموحة متفائلة!...أتعلم أنها كانت هي من تحثّنا على الصبر؟....أتعلم أنها حتى معنا نحن النساء كانت حريصة على حجابها ونقابها وكأنها كانت مستعدة دوما لدخول مباغت لأحد أشباه الرجال!!.....وجاء اليوم الذي كشفوا به عن وجهها ففتنوا بها!!......كانت معتقلة حديثاً نسبياً ليضغطوا على شقيقها.....لا أعلم كم يوماً بالضبط فنحن هناك كنا نجهل الليل من النهار وغدت كل أوقاتنا متشابهة ....فكانت ساعاتنا الظلم والعذاب ودقائقنا القهر والإرتعاب أما الثواني هي دموعنا التي لم تجف وأملاً بحرية من سراب!!... تلك الفتاة أخذوها من بيننا الى احدى غرفهم المشبوهة وتناوب ثلاثة على اغتصابها بكل حقارة وشراسة....عادت إلينا بقايا روح بشعر مشعث وملابس ممزقة تمشي على مهلها نازفة!!...الدماء تنزف منها وقلوبنا تنزف معها.....منظر لم يبرح عن مخيلتي....لن أنساه ما حييت!!....حاولنا اسعافها واخراجها من حالتها وظننا أننا نجحنا وما كانت إلا أوهامنا!!....فعند الفجر استيقظنا لنجدها جثة هامدة بعد أن شنقت نفسها بحجاب احداهن كان متروكاً جانباً.....لتصبح أسماء ضحية أخرى لظلمهم وتجبرهم ...الضحية التي لا نحصي عددها.....رحمها الله.."

" إنا لله وإنا إليه راجعون.."

ماذا أعلّق وبماذا أعبّر؟!...من أين ابدأ وكيف أنتهي ؟!....ضاعت الحروف ونزفت المشاعر وشلّ اللسان!!.....لعنة الله تنزل على الظالمين....لعنة الله .!!....يا رب عجّل في عذابهم!!.... اكتفيت باسترجاعها الى الله وهذه كانت مقدرتي من هول ما سمعت فرغم اعتيادي على سماع القصص الأليمة الّا أنني بكل مرة أموت آلاف المرات معها!! ....استجمعتُ قواي الهاربة وقلت محافظاً على حبالي الصوتية مع أن الحزن الممزوج بالغضب نهش خلاياي:
" وأنتِ ماذا حصل لك؟!.."

" بعد شهر من اعتقالي وصل الخبر لزوجي فاضطر لتسليم نفسه ....لم يعجبهم أن يتركوني دون أن يحرقوا قلبه عليّ.....ربطوه على كرسي وسلّطوا نظره صوبي واغلقوا فمه بشريط لاصق كي لا يعبر عن غضبه...خلعوا عني حجابي ومزّقوا ملابسي أمامه رغم محاولاتي المستميتة لردعهم سواء بالدفاع أو بالتوسل !!....رجوتهم ليستروا عليّ.....لكن منذ متى الظالم يرق قلبه ؟!....تحرّشوا بي أمامه ثم أوصلوني بسيارتهم وألقوني عند بيتي على مرأى الجميع وسط النهار!!...ومن منظري ظنوا أنني تعرضت للاغتصاب فبدأوا يعايروني وأولادي.....شهران ولم نتحمل اضطهاد الناس لنا .....صاروا ينعتون أولادي بأولاد المغتصبة!.....فقررنا الهجرة وجئنا الى هنا بعد أن ضقنا ذرعا وذقنا مرارة الظلم !!....لم يكن الحال هنا يسرّ البال إلا أنه كان أسهل الصعبين!....سمّوني الغريبة فعمي بعقلٍ غير سويّ وأولادي يعتبرون صغار....لم يحفظوا اسمي وبلدي بل عرّفوني بالغريبة.....تعرضنا لمضايقات في بادئ الأمر وطعنوني بشرفي....اتهمونا أن أهل بلدنا من رمونا بسبب سمعتي!!....التزمتُ الصمت ولم أحكي قصتي الى يومنا هذا !!.."

توغّر صدري أكثر وأنّ قلبي وصباً على حالها ثم سألت:
" وزوجك ما أخباره؟!..."

" زوجي ما زال بالسجن ولا تهمة ثابتة عليه ....لكنهم عذّبوه بشتى الطرق فهم قانونهم عذّب أولا ثم باشر التحقيق!!...إن كنتَ منا فلا بد أنك تفقه مبادئهم!!......أصبح يعاني من فشل كلوي بسبب قسوة العذاب.....كحرمانه من الماء أو أبسط حقوقه الانسانية ...وهي التبوّل حتى صار يفعلها على نفسه!!....وضعوه بمكان مغلق ومظلم لينام على صوت نزول قطرات ماء يصله من سماعة مثبتة في الغرفة كإحدى الطرق من طرق العذاب..."

حكت عن زوجها بصمود وثبات وهي تبذل قصارى جهدها لتمد القوة والعزيمة لأطفالها فقلت:
" هل تزورونه ؟!.."

لاذت بالصمت لثواني وأمالت فمها بابتسامة مجروحة ثم أجابت:
" كنّا في البداية لكن الآن كيف سنزوره وهو في سجن الجنوب؟!.....مصروف المواصلات....أو الحصول على محامي يسهّل علينا زيارته !!....من أين سآتي بكل هذا ونحن بصعوبة نحصل على قوت يومنا ؟؟!......نتواصل من حين الى آخر هاتفياً مع أقربائنا في القرية فبالكاد تصلنا أخبار خفيفة عنه !!..."

" هل اعترف زوجك عن الثوار؟!.."


" أبي ليس خائناً ليبيع الشرفاء.....أبي مستعد أن يضعنا قرباناً فداءً للوطن "

صرخ بها (شجاع) فأهديته ابتسامة رضا وفخر وسألته:
" وأنت ؟...ماذا عنك؟....ما الذي يمكنك أن تقدمه لنصرة الحق وردع الظلم وفداءً للوطن؟.."

ضرب على صدره صوب قلبه وأجاب بشموخ:
" إن كان قلبي سيجعل تراب الوطن ينبض بالخير والسلام ...إن كان قلبي سيعلّي راية الحق والدين ....إن كان قلبي سيقضي على الظلم وينشر الأمن والاستقرار فأنا من هذه اللحظة مستعد أن أجتثه فداءً للوطن ليعيش شعبنا بسعادة وأمان...."


لم اخطئ في غايتي!!....حدسي أخبرني أن هذا الفتى سيكون له شأناً عظيماً.....من يواجه الظلم بجسارة يستحق أن يحمل الأوطان !!....بزيارتي هذه تعرّفت على عائلته ومعاناتهم .....ختمتُ لقائي حاملاً الوعود لهم بعد جهد بسبب عزة نفس (شجاع) .....اتفقتُ معهم أن ألحق الأولاد بالمدرسة أما بطلنا أقنعته ليلتحق بمدرستنا الثانوية العسكرية التي انشأناها منذ ثلاث سنوات ....سيقوم بالدراسة والتدريب معاً....لقد عزمت على تكفل هذه العائلة بكل احتياجاتها!!....وعدتهم باصطحابهم لزيارة قريبة لوالدهم بعد تسوية بعض الأمور ولنبحث عن قُرب ما يخص قضيته لعلّ وعسى ننجح في تحريره !!....وسيكون هذا بالطبع من مسؤولية توأم روحي (سامي).....أنا اثق بلوائنا الجديد!....من استطاع الحصول على ترقية من عقيد للواء بوقت وجيز بسبب نجاحه يمكنه فعل المستحيل لمساعدة المظلومين..!!

بعد أن وافق ذاك الفتى الشجاع على مساعداتي صرّح قائلاً:
" أوافق على هذا لكن بشرط...."

ضحكتُ مبتهجاً بحبور لثقته بنفسه وقلت:
" أسمعنا شرطك..!!.."

أردف ثابتاً على رأيه:
" أريد أن أعطيك المقابل لهذا....قل ما تريد أو نُبطِل اتفاقيتنا!!.."
ربّتُ على كتفه معتزاً به وأجبت راسماً ابتسامة على محيايّ:
" المقابل الذي أريده.....وعد.."

تطلّع لعينيّ بإمعان وكله آذان صاغية فاستطردت:
" وعد بأن تتكفل عائلة مستورة عندما تحقق أحلامك بدراسة جراحة القلب وتبدأ بالعمل!.. وعد بأن تعطي من مالك لطالب علم محتاج......وعد بأن تقف ضد الظلم وتساعد المستضعفين ....وعد بأن تجتث قلبك إن احتاجه وطنك! ولا تنسَ أخذَ وعدٍ مماثلٍ ممن كفلتهم لنستمر على هذه الطريق دون انقطاع......فبتدفق العطاء وحمل الشهامة نحيي أمةً كاملة وبالأخلاق النبيلة ونشر العلم نبني خير البلدان !!..."

غزت ثغري ابتسامة وقورة ثم غمزته بمشاكسة مضيفاً بتأكيد:
" باختصار.....كُن إنساناً..... بما تحمل الكلمة من معنى...... هكذا ترد الجميل إن رأيت أنني أقدم لكم الجميل...!!.."

[[..وأنت تعد فطورك، فكر بغيرك.. (لا تنس قوت الحمام)
وأنت تخوض حروبك، فكر بغيرك.. (لا تنس من يطلبون السلام)
وأنت تسدد فاتورة الماء، فكر بغيرك.. (من يرضعون الغمام)
وأنت تعود الي البيت، بيتك، فكر بغيرك.. (لا تنس شعب الخيام)
وأنت تنام وتحصي الكواكب، فكر بغيرك.. (ثمة من لم يجد حيزا للمنام)
وأنت تحرر نفسك بالاستعارات، فكر بغيرك.. (من فقدوا حقهم في الكلام)
وأنت تفكر بالآخرين البعيدين، فكر بنفسك..(قل:ليتني شمعة في الظلام(.]]
(( كلمات محمود درويش ))


أنهيتُ زيارتي متشبثاً بمبدئي منذ الصغر!!....بأن كل شر يأتينا وراءه خير لا نعلمه.....فيسوق الله لنا الأسباب بحكمته التي نجهلها!!...لقد أغضبتني خاطفة قلبي فوصل بي الحال أن أكون سبباً بانتشال عائلة كاملة من الضياع والهلاك !....
اسأل الله أن يكون مسعاي خالصاً لوجهه الكريم...!!

~~~~~~~~~


ساكنة مكانها على الأريكة كأنها تمثال حجريّ منحوت لا حياة فيه فروحها ظلّت حيث أُزهقت في تلك البقعة بأرض الوطن!!...هناك لفظت أنفاسها الاخيرة من اقرب اثنين إليها ...والدها الذي بثّ سمومه بدماغها وزوجها الذي أعطاها الضربة القاضية على قلبها!!......لقد وصلت الى بيت السيدة (سهيلة) منذ ساعة واستقبلتها (رهف) التي هالها منظرها الكئيب الشاحب لكنها لم تشأ أن تزعجها بأسئلتها لأنها قادمة من سفر ومرهقة...ستصبر عليها حتى ترتاح قليلاً وبعدها تستفسر منها عن كل ما حدث!!......في البداية كانتا لوحدهما في البيت فمربيتها ذهبت مع أحد أبناء أشقائها لإجراء فحص روتيني ولما عادت تهللت أساريرها لحظة ولوجها غرفة المعيشة ووقوع عينيها على ابنتها التي لم تلدها محنطة مكانها فقالت مبتهجة.:
" حمداً لله على سلامتك بنيتي!.....حللتِ أهلا ووطئتِ سهلا !.."

بحركة واهية ضعيفة حرّكت رأسها صوبها لتنظر إليها وردّت بصوت مبحوح:
" سلّمك الله خالتي..!!.."

أصابها القلق من نبرتها فسألت مرتابة:
" ما به صوتك تغير؟!....هل أثرت عليكِ الأجواء هناك؟!..."

فضّلت الصمت ولم تجبها....ماذا ستشرح لها ؟!...هل تخبرها أنها جاهدت نفسها لتتوقف عن البكاء عند اقترابها فقط من المدينة الساحلية لبلاد اللجوء ؟!....أتقول لها أنها أمضت ليلتها وصباحها غارقة بدموعها ؟!...هل تعترف لها بما حدث بيننا ثم توجهها بعد ذلك الى المشفى لتطمئن على من تحمله في رحمها بعد النغزات التي أحستها أسفل بطنها ؟!......آثرت السكوت فلا يوجد لديها ما تقوله وسرحت بكلام الطبيب الذي أوصاها مشددا على الاعتناء بصحتها وحملها لأن جسدها هزيل وينقصه فيتامينات وسوائل سببه طبعا اهمالها لنفسها كل هذه الفترة والذي زادها قلقاً على حالها عندما شرح لها عن احتمالية خسارة جنينها أو ربما تعرضها لولادة مبكرة إن استمرت بعدم الاهتمام بصحتها وتناول المغذيات اللازمة فترة الحمل ..!!.....عاشت كل هذا في دواخلها ولم تخرج من عالمها الا بعد أن نادت عليها الجالسة على كرسيها الخاص أمامها والوساوس تلعب بها:
" ألمى!....ما بك؟!...أين شردتِ"

عادت بحدقتيها اللتين ما زالتا تلمعان بعد رحلة شاقة من الدموع وتبسّمت مجبرة وهمست :
" لا شيء خالتي....أنا متعبة فقط من السفر وأريد أن أستحم وأرتاح!.."

جمّدت اسئلتها لا تريد أن تزيد عليها بينما قلبها كان مقبوضاً لوضعها الشبه مأساوي الذي لا يمكنها اخفاؤه مهما ألّفت من حجج وأقاويل وهمست لها بصوتها المحب الحنون :
" اذهبي الى الغرفة وارتاحي بنيتي....رهف ستتولّى أمر ترتيب أغراضك!..."

حثّت قدميها المثقلتين من التعب والخذلان للسير الى الغرفة المشتركة بينها وبين صديقتها الجديدة ولمّا اختفت عن أنظارهما تطلعت (رهف) إلى عمتها وهمست بصوت منخفض:
" ماذا جرى يا ترى ؟!...أيعقل أنها علمت شيئاً يخص الحكم على والدها ؟!.."

تنهّدت بأسى وأجابت بلوعة:
" ما زال الوقت باكراً للحكم....لا أظن ذلك!...لكن.!...لكن!.."

رفعت حاجبها بريب والتفتت خلفها لتتأكد أن ضيفتهما ليست بالقرب وسألت بفضول:
" لكن ماذا عمتي؟!...أخفتني!.."

مالت الى يمينها بجذعها هي الأخرى لتتأكد من خلو الممر خلف الواقفة ازاءها وردت هامسة:
" صحيح ما زال الحكم باكراً لكنه سيأتي في النهاية....وجلّ ما أخشاه هو انهيار المسكينة لحظة اعلان الحكم!.."

أكملت تسأل بفضولها:
" لمَ تقولي هكذا عمتي ؟!......كنتِ تطمئنيها وتعطيها الأمل بأنه سينال البراءة!...ماذا تغيّر الآن؟!.."

زادت من تنهداتها لتخفف من حمل موجود على عاتقها وهمست بحذر :
" كنتُ حيادية ولم اوهمها على براءته البتة....اخترتُ أن أكون في موضع التي تجهل الأمور والحقائق لأنني لم اشأ كسرها ...كان عليّ تصديقها لا ردعها عن أفكارها....هي حاربت الجميع من أجله...لو وقفتُ في صفهم عليها ستكرهني ايضاً وتتركنا!....وأنا لن أسمح بأن تضيع صغيرتي في متاهات الحياة ...عليّ أن احتويها واشعرها بالأمان وأني معها وما يأتينا من المستقبل نتركه على الله ..!!.."

" أتقصدين أن التهم ثابتة عليه وليست افتراءات وأكاذيب ؟!."

سألتها بعينين جاحظتين لأن هذه أول تلميحات تخرج منها فنكست رأسها الجالسة بحزن وهزت رأسها يمنة ويسرة رافضة كل ما يحدث ثم حوقلت لتتبع الحوقلة بالنظر إليها مجددا وهي تجيب:
" وما خفي أعظم بنيتي!.....هي تعلم فقط عن التهم السياسية والوطنية ولا تعلم سبب تعاون خالتها مع الثوار ولا تعلم عن حقارته حتى عندما كانت أمها على قيد الحياة!..."

بانكسار لحال صديقتها وسيدتهم الصغيرة عاتبتها بصوت خافت:
" لكنك يا عمتي اعطيتها الأمل دوماً....لمَ فعلتِ هذا إن كنتِ تدركين كل هذه الأمور وأن الحكم القاسي عليها آتٍ لا محالة ؟!..."

برضا وملامح كساها الاستبشار ناظرتها مجيبة:
" أعطيتها الأمل ولم أحدد لها أين موجود!!....ربما ما تظنه خير لها هو الشر بعينه والعكس صحيح.......والدها شخص فاق المعايير كلها بالسوء....أي خير وأي أمل ستجد به ؟!.....عليها برّه واحترامه لكن هذا لا يعني أن تسلّم حياتها له .....لقد حلّق عالياً لسنوات بأجنحة الجشع والخيانة والغرور وحان وقت سقوطه! ...لا أخفي أنه كان ودوداً معي خاصة ولكني أدرك جيداً السبب لهذا!!....فإن فعل الكافر عمل إنساني لمرة لا يصبح ملاكاً بفعله.... وهو كذلك!!...."

تنهدت وهي تهز رأسها توافقها على كلامها ثم التفتت للخلف لتتأكد من جديد أن ضيفتها المسكينة لم تسمع شيئا من حوارهما ثم عادت لتقول:
" أرجو أن ينير الله بصيرتها للحق....هذه الفتاة مدمرة نفسياً ....أنا أشفق عليها ....أنت محقة لا نستطيع الضغط عليها أو التلميح لها عن الحقائق لأننا سنخسرها لذا سنستمر متحفظتين بما يخص والدها بالذات ونتركها للأيام وأنا بتّ أجزم أن الظرف الخاص بخالتها فيه شيء من الحقائق وهي تأبى أن تفتحه ...رفضها الأول كان من غضبها على خالتها فلم تهتم به ورفضها الآن أكثر صلابة وصعوبة وصدقيني سببه خوفها من الوصول لشيء يجعلها أكثر ندماً وحسرة !!...اختارت الهروب و التناسي ولا أعلم الى متى حقاً؟!!.....أما بشأن زوجها ما زلنا نجهل ماذا حدث معها عند لقائه وسنفهم منها بعد أن تأخذ قسطا من الراحة ان شاء الله ...."

استقامت اكثر بوقفتها وبدّلت نبرة صوتها هاتفه بمرح:
" والآن عن اذنك عمتي....سأعود الى مطبخي لأتابع مغامرتي مع الطبخ .....يبدو أن غداءنا سيصبح عشاءً لليوم !!.."

أومأت ضاحكة لها وهمست بحنوّ:
" رضي الله عنك بنيتي.....اذنك معك ومغامرة موفقة....اما انا سأقرأ وردي ريثما يؤذن الظهر...!!.."
×
×
×

بعد أن استحمّت ارتدت منامتها بسكون شاردة ...كان سكون مخيفاً يسكن جنباتها.....تركت شعرها كما هو واكتفت بتجفيفه بالمنشفة ....لم تسرّحه ولم تهتم به كعادتها وخطت برخاوة نحو سرير (رهف) الذي أصبح سريرها الى حين ترميم بيتها الجديد الملاصق لبيت مربيتها!....لقد تكفّل شبّان الحيّ بترميمه لها لأنه غير آهل للسكن بسبب الرطوبة الشديدة والتصدعات الكثيرة بجدرانه ....كان بيتاً عبارة عن غرفة نوم وغرفة معيشة وحمام ومطبخ صغير....تصميمه يشبه غالبية بيوت الحيّ والآن أغراضها مركونة فيه !!.....كوّرت جسدها كالجنين وسرحت بالفراغ تسترجع كل ما مرت به اليومين السابقين ....لم تتحمل وانفجرت بالبكاء بعد شعور أليم اجتاحها سببه أن كل شيء خذلها ...حياتها مقيتة ...حظها ينافسها تعاسة.....دفنت وجهها بالمخدة وعلا نحيبها أكثر ...تمسك طرفيها بقوة وتحرك رأسها عليها .....تريد أن تطرد أفكارها السوداوية....لا تريد أن تتذكر وتعد خيباتها ....ترغب بأن تكون قوية من أجل ابنها ....قلبت نفسها لتصبح على ظهرها وتطلعت بالسقف المقشور ...حركت يمناها لتضعها على بطنها فأنّت بوجع شديد وهي تكمش تقاسيم وجهها ..الألم يصرّ على طرق بابها!!....رفعتها تنظر إليها والى الاسوارة التي تطوق معصمها....لم تكن من إكسسوار الزينة التي اعتادتها....إنها إسواره تتدرج باللونين الأزرق القاتم والأحمر!...ألوانها كانت من الوجع و الحسرة......
إنها بصمات يدي العنيفة عليها ....رفعت يدها الأخرى ومسّدت آلامها علّها تسكن قليلاً لكنها لم تستطع الوصول لتمسّد على جرحها النابض بين أضلعها !....ماذا سيسكنه ؟!...من سيشفيه ؟!....عادت لتكوّر نفسها وتضم ذراعيها لصدرها وهمست ببحة والدموع تتدفق كالسيول على وجنتيها:
" أكرهك هادي....أكرهك...لن أسمح بأن تعلم عن ابنك....سأربيه بعيداً عنك ......أنا للتسلية ودمائي نجسة ؟!....أنا من لن ترضى بأن يكون لك ابناءٌ منها ؟!.....كيف خدعني قلبي وأحبّك؟...هل أنت نفسك من اهديتني حضنك ؟!.....ما الذي غيرك ؟!....كيف غسلوا دماغك ؟!.....أنت أقسمت أنك لن تسمح لأحد بذكر سيرتي أمامك كأني نكرة أو نجسة وأنا أقسم أنني سأحمي ابني بروحي من كل شيء وأي شيء إن لزم الأمر... وأولهم أنت.."

وبعد فضفضة الكراهية والثورة التي حدثت بدمائها استكانت قليلاً وأنزلت يسراها لبطنها تحسس عليه وبهدوء مضاد لثورتها التي عاشتها قبل قليل همست بحنية ورقة:
" أحبك ولن أسمح بأن يطولك الأذى حتى من أقرب الناس إليك.....وأنت كذلك ساعدني لأتخلص من مصيبتي....أي عشقي لوالدك...يجب أن أتعافى من هذا الإدمان...المسمّى هادي..."

ظلّت لدقائق تداعبه بكلماتها العفوية البسيطة حتى ارتخى كل شيء فيها وراحت لنومٍ عميق دون أن تشعر..!!

~~~~~~~~

بعد ليلتي التي قضيتها مع بحري ويومي الذي خضتُ به مغامرة جديدة مع (شجاع) عدتُ الى بيتنا الجبليّ وكان الوقت يقترب من العصر.....دخلتُ وألقيتُ السلام على أمي وكان مزاجي معتدلاً.....اقتربتُ منها أقبّل رأسها هامساً بمداعبة:
" ماذا ستطعمني أم هادي ؟!.."

تبسّمت بحنوٍّ وهي تمسك يدي ناظرة إلي وأجابت:
" ألن تنام أولا؟!.."

ضحكتُ وقرصتها من خدّها منحنياً صوبها مكملاً بمداعبتي لها وقلت:
" لن يزورني النوم وأنا جائع ...."

استقمتُ بوقفتي وأردفت بجدّية:
" سأستحم وأنزل في الحال إن شاء الله.....أريدك بموضوع هام !!"

اومأت ايجاباً فهي هذا ما تنتظره منذ البارحة ....لم تنم جيداً قلقاً لأمرين....ذهابي الى البحر الذي تخشاه وكذلك أي سبب الذي أوصلني لتلك الحالة التي أوجعت قلبها ؟!....

خرجتُ من الحمام وارتديتُ ملابس بيتية خفيفة ...نظرتُ لنفسي بالمرآة ...تنهّدتُ بعمق عازماً على صك قانوني الجديد الخاص.....نزلتُ متجهاً إلى المطبخ حيث نبض الحياة....كان (شادي) يلعب بلعبته الإلكترونية فناديته مشتاقاً وكذلك ليسمع قانوني ..داعبته قليلاً وشاكسته...ثم تجمعنا ثلاثتنا حول طاولة المطبخ.....تناولتُ طعامي ولما أنتهيتُ أسندتُ ظهري للكرسي براحة حامداً الله وقلت جازماً:
" من الآن وصاعداً لا أريد سماع اسمين داخل هذا البيت..عاصي...وابنته!!....مهـم� �تـنـا انتهت بنجاح الحمد لله...ننتظر الحكم فقط.....لقد حان الوقت لنلتفت إلى حياتنا ونتقدّم....سننساهما ونحذفهما من حياتنا.....اخبروا دنيا بذلك....لن أتسامح أو اتساهل بهذا الموضوع."

رفعت حاجبها معترضة بريب وقالت:
" ما الذي غيّرك ونحن نعلم حقيقة علاقتك بها ؟!...."

تدخّل (شادي) ببراءة مشتاقاً:
" ألمى ليست ابنة الكلب عاصي....أنا انتظر متى تنصلح الأمور لتعود إلينا.....أفتقدها كثيراً ...كانت صديقتي الطيبة....وتمنيتُ أن تأتينا بمحيي الصغير أو أمل .....لمَ تقول ننساها؟!....أليست هي زوجتك؟!..."

نظرتُ لكليهما ثم ثبتّ بصري لشقيقي قائلاً بحزم وتشديد:
" ليست صديقتك.....ولا تنتظر عبثاً....لن تأتيك لا بمحيي ولا أمل......التفت لدراستك فقط ولا تبني أوهاماً.... وها أنا أقول ولن أعيد.....سيرتها لن تذكر بهذا البيت وخاصة أمامي..."

ثم عدتُ بنظري لأمي وبنبرة أكثر هدوءاً أردفت:
" أمي ....علاقتي بها انتهت هناك في مركز الشرطة.....لقد تمادت كثيراً ولن أسامحها على ما فعلت بي!.....هي اختارت أي طرف تكون!!...وأنا سأمسحها من حياتي....."

بفضول وقلبٍ ملتاع لحالنا قالت:
" ماذا فعلت لك حتى تصل لهذا القرار؟!."

شردتُ قليلاً مسترجعاً الموقف ثم عدتُ مسلطاً حدقتيّ عليها وقلت:
" لا يهم الفعل أمي.....المهم هو النتيجة!...."

ثم نهضتُ من مكاني هاتفاً ومؤكداً:
" لا حاجة لتفسير أي شيء ....هذا قراري وانا اتخذته أمي....."

" لكـ....لكن بنيّ...ألا أمل بإصلاح الحال؟....ألا يوجد خيط رفيع بينكما؟!...اخبرني لنجد الحل معاً.."

اتكأت بكفي للطاولة منحنياً أمامها وقلت:
" لا أمل ولا أي خيط يربطنا....قُطعت علاقتنا وانتهت قصتنا !!...وكلمتي الأخيرة......هذا البيت سيخلو من سيرتها ووالدها .....إلى هنا وصلنا....يكفي!"

وانتصبتُ واقفاً قاطباً الحاجبين هامساً بجدية:
" أنا أسعى لأنساها ورجاءً لا تحاولوا التأثير.... .وقد أقسمتُ إن أتيتم بسيرتها أمامي سأهاجر ولن أبقى بهذا البيت......لذا لا تضغطوا عليّ وإلا سأنفّذ قسمي!!......وهنا القرار لكم!..."

ثم استأذنتهما صاعداً إلى غرفتي لأذهب إلى عالم النومِ...!!


~~~~~~~~~

ودت لو تنام نومة أهل الكهف !!....الملاذ الوحيد للهروب من علقم الحياة وضنكها ....لكنها خجلة ممن كررتا المناداة عليها لتناول وجبة الغداء المتأخرة.....ألا يكفي أنها تملأ بطنها دون أن تقدّم مساعدة ....هل ستشغلهما بها ايضا؟؟......قامت من مكانها تتمطى ورتبت منامتها المبعثرة طويلة الكمين ....اقتربت من المرآة فانزعجت من مظهرها المهمل.....متى تركت شلالها الأسود دون أن تسرحه ليصبح بهذه الفوضى؟؟....حملت المشط لتهذب شعرها المشعث وما إن رفعت يدها حتى أصدرت أنّة متأوهة من شدة الألم بمعصمها الذي تضاعف بدلا من أن يزول!!!....تحاملت على نفسها وحاولت كتم أنينها بينما تلاحقت قطرات الماء الطاهرة على خديها وهي تحاول تسريحه بيسراها قدر استطاعتها......كانت تنظر الى حالها ولشحوب وجهها ومع كل حركة للمشط تنقم على حياتها !!....اكتفت بتركه مفروداً على ظهرها ووضعت طوق خاص لـ(رهف) لتبعد الخصلات عن عينيها ثم خرجت لتشارك عائلتها الجديدة الطعام ......اجتمعن ثلاثتهن على الطاولة الدائرية حيث صفّت ابنة شقيق مربيتها الأطباق البيضاء المنقوشة باللون الفضي والمملوءة بأكلات متنوعة صنع يدها.....فتاة ماهرة تمتلك ذوقاً خاصاً ليس فقط بالطعام الشهي الذي تحضره انما بتزيين الصحون كأنها تصنع لوحة فنية تبهج النظر وتفتح الشهية ....ذكية ومبدعة بإمكانها ابتكار وجبة كاملة من أبسط المكونات التي تكون بحوزتها......كان حلمها الحصول على شهادة (شيف) وفتح مطبخها الخاص لتلبي طلبيات الزبائن وتسترزق بمتعة!....لكن ظروفها المادية لم تسمح بكل هذا .......حاولت (ألمى) تلطيف الجو وما كان هذا الا هروباً من اسئلة تتجنّبها فسحبت انفاسها وهي تقترب من الأطباق تستنشق البخار وهمست مغمضة العينين بنشوة ابتدعتها:
" الله ما أطيب الرائحة.....يا لحظ زوجك بكِ"

ارتسمت ابتسامة على محياها ممتنة وقالت مازحة بعد أن غمزتها:
" هيا اذاً لا تضيعي الفرصة .....استغلي وجودي قبل أن أتزوج وتحرموا من طبيخي أنت وعمتي وصغيرنا .."

ردت تمازحها بالمثل:
" الشكر لله أن بيتك بنفس الحيّ!!.....يعني انتظرينا دوماً انا وصغيري على الغداء والعشاء رضيتِ أم لا..."

تبادلن الضحكات ثلاثتهن ولم يفتحن سيرة بما يخص سفرها وعند انتهائهن من الطعام حان وقت توضيب السفرة ونقل الأطباق الى المطبخ.....همّت من مكانها لتساعدها على الأقل برفع مخلفاتهن !!..فهي لم تعد ضيفة بل أصبحت مقيمة وعليها أن تشارك بكل شيء!......حملت بكلتا يديها طبقين فاهتزت يدها المصابة وتخلخل الطبق رغما عنها حتى سقط منها ليلقى حتفه ناثراً بقايا الطعام على السجادة والبلاط فأعادت الآخر مكانه وامسكت معصمها ثم اجهشت بالبكاء بعد انفلات اعصابها بسبب وجعها وشعورها بالإحراج منهما وكأنها طفلة لا تستطيع المساعدة بأبسط الأشياء مما فطر قلب الجالسة على كرسيها لتسألها من فورها والقلق يسود خلاياها:
" على مهلك بنيتي...ما بها يدك ؟!...."

كمشت تقاسيم وجهها تحاول كبح جماح نحيب أكبر يحارب ليخرج منها وأجابت بإيجاز:
" يدي تؤلمني.."

سمعتها القادمة لتتابع مهمتها بنقل ما على السفرة فقالت:
" من الممكن انك قمت بحركة خاطئة أو التهاب في العظم ...سأجلب لك مرهما يسكن هذه الأوجاع تستعمله عمتي....اجلسي ولا تهتمي بأي شيء......انتبهي لصحتك فقط!..."

اعتذرت منها بخجل وشكرتها وهي تطرق رأسها أرضاً فأردفت تلك:
" اخرجا الى الشرفة فشمس العصرية الدافئة وصلتها.....سأحضّر شاي بالنعناع وألحق بكما..."

حرّكت السيدة(سهيلة)كرسيها لتتجه الى الشرفة وهي تقول لـ(ألمى):
" تعالي بنيتي لنرى ما بك....قلبي غير مرتاح لحالك!..."

بعد وصولهما الى مقرهما الدافئ واستقرارهما افتتحت الحديث بفضول كأنها أمها الحقيقية وتريد الاطمئنان عليها:
" أجل أخبريني ما حصل برحلتك... و ماذا جرى بشأن قضية والدك ؟!"

اعتلت وجهها غمّة ضاعفت من شحوبه وردت بصوت خفيض:
" التقى به المحامي ليباشر العمل بالقضية وعلى حسب قوله من المحتمل أن تكون الجلسة الأولى بعد شهر من الآن!!.....يتملّكني احيانا هواجس وانقباضات في صدري خوفاً من فشل القضية واحيانا أخرى يزورني الأمل.....أما أبي منظره صهر قلبي....لم اره قط في حياتي بهذه الصورة وهذا الحال.....أعلم أنه قوي لا يستسلم بسهولة .....لكني أخشى عليه من تدهور نفسيته إن طالت القضية.!!.."

كانت تحكي بلوعة متألمة من أجله!!....قلبها ملتاع والروح سقيمة... شرعت تدعي على الظالمين ولم تدرِ أن هذه الدعوة في نهاية المطاف ستكون من نصيبه وحده....تعيش في عالم رسمته وصدّقته ...والدها المجرم بريء ومصيره أن يخرج لا محالة......حالها يثير الشفقة فهي لا ترحم نفسها ....ما زالت تأبى أن تقتنع بالحقائق قبل أن تصفعها صفعاً وترديها ارضا على غفلة دون أن تعطف عليها!!.....

" وماذا بشأن زوجك؟....هل أخبرته بحملك ؟!.."

نزل عليها السؤال الذي كانت تخشاه كالصاعقة...هربت بحدقتيها جانباً تحاول الفرار من الاجابة فكررت تلك سؤالها بتشكك ناظرة إليها بتدقيق:
" عزيزتي ألمى....أخبرته أم لا؟!.."

اكتفت برفع حاجبيها كإجابة مختصرة بـ (لا) فهتفت بعدم رضا مستاءة:
" لمَ بنيتي لمَ.!؟......كانت هذه فرصتك!!..."

انضمت (رهف) اليهما حاملة صينية الشاي وفهمت فحوى حديثهما بينما عمتها ظلت تضغط عليها تريد أن تعرف السبب وأي تبرير ستلقيه عليها فتعاقبت أنفاسها توتراً وتسارعت خفقاتها انفعالاً ثم كشفت عن معصمها وهي تمد ذراعها بعد اختيارها البدء بالمهاجمة على مبدأ سأتغذى به قبل أن يتعشى بي وصرخت بغيظ مختلط بالبكاء:
" انظرا....انظرا......هو من آلمني....سحق لي يدي بقبضته دون أن يرحمني!...."

واختفى صوتها الناعم بين عبراتها وهي تردف:
"انظري خالتي الى آثار أصابعه......كسرني خالتي....كسر قلبي.....لا أريده أن يعلم ......لا يستحق أن يعلم عن ابني!!"

تطلعتا بذهول على البقعة الموسومة على شكل إسواره بلونيها الازرق والاحمر فهمست (رهف)سائلة بشفقة عليها دون أن تبعد نظرها عن يدها:
" يا الهي!!....لم فعل هذا بك؟!"

وقبل أن تجيبها لحقت السيدة (سهيلة) سؤالها بسؤال آخر أكثر استفسارا:
" أفعلَ هذا بكِ من غير سبب أم استفززته بشيء؟..."

حدّقت (رهف) بعمتها التي تفهم كل حركات صغيرتها ثم التفتت للتي بشفافيتها وعفويتها لا تستطيع الانكار والتكتم وهي تجيب بتلكؤ وبصوتها العذب البريء محرجة من تصرفها بينما كانت تجول بعينيها على الأرض كأنها تبحث عن طوق نجاة ينشلها من عسر الموقف:
"لقد....لقد قمتُ بصفـ.....بصفعه....و...أمام.....ال� �نـاس"

شهقة واحدة صدرت من كليهما بصدمة تلتها حوقلة بعدم رضا من مربيتها التي قالت مستنكرة :
" ماذا فعلتِ يا مجنونة؟!.......لو كسر يدك او عنقك لن يلومه أحد.....أهذه حركة تفعلينها؟!.....أين عقلك؟!..."

ثم أشاحت وجهها عنها خافضة عينيها لحجرها لثواني تستمر بتكرار الحوقلة قبل أن تعيد النظر إليها للاستيضاح:
" ما السبب الذي جعلك تفعلين هذا وكان اتفاقنا أن تخبريه ؟!....ما الذي غيّر رأيك ؟!.."

أغلقت عينيها للحظات وصدى كلمات أبيها يرن في أذنيها ...هاج وماج النبض في قلبها مجدداً فأضحى جسمها ناراً تغمره حمى الخذلان ...كم كان عظيماً وصادماً ما سمعته ؟!...كم كان وقعه قاسياً على روحها ؟!....منذ كشف المسرحية كانت تلك المرة الأولى التي حاولت التنازل بها قليلاً عن غضبها وعنادها من أجل مصلحة ابنها....ذهبت حاملة الأمل الذي سكن عروقها وخلاياها فتبعثرت حروفه الجميلة لتكتب الألم ولا غير الألم الذي كان أشد وطأةً عليها هذه المرة !!....لملمت قواها المتفرقة كاشفة عن سماءيها وشرعت بسرد حكايتها المأساوية عليهما من البداية بصوتٍ متأثرٍ, مؤثر من عسر وفظاعة ما مرت به ثم تسلّحت بقوى دفاعية تنقل بصرها بينهما هاتفة عقب ادلائها بما اخبرها به أبوها :
" ماذا عساي أن أفعل بعد سماعي لهذا؟!...هل أذهب وأشكره؟!"

" معقول؟!."

لهجة استفهام نطقتها(رهف) مستغربة, مستنكرة فلحقتها الأخرى آيسة... قد طفح بها الكيل منها :
"وأنت صدّقتِ على الفور؟! لمَ لم تواجهيه وتتقصين عن الحقائق؟!...هل كل شيء يلقى على مسامعك تأخذينه دون بحث وتمحيص؟!"

لم يرق لها ما سمعته منها وقد اشتمت رائحة اتهام أو تكذيب لوالدها فحدّقت بها مشدوهة معاتبة:
" خالتي!!...هل أكذّب أبي؟!.... هذا ما أفهمه من كلامك !!.."

أجابتها بجدّية:
"والدك على العين والرأس بنيتي...لكنه يبقى انسان يخطئ ويصيب!....مثلاً ضعي احتمالية أنه كان مجرد سوء فهم منه!....ألا يمكن ذلك؟!"

ابتلعت ريقها وتابعت:
" لا تنسي أنهما الآن خصمان بينهما كراهية وانتقام ...فمثلما تتوقعين من زوجك القاء التهم على والدك عبثاً إذاً توقعي أن والدك سيفعل بالمثل وعليكِ أن تكوني هنا حكيمة ,منصفة لا ظالمة فبالتالي كل تصرفاتك ستعود آثارها عليكِ أنت وحدك سواء كانت ايجابية أو سلبية...أجل ألمى....واجبك احترام والدك وبرّه كما واجبك احترام زوجك وطاعته......لا اهانته!!.....تصرفك غير لائق أبداً بل قبيح ...لا تزعلي من كلامي..!!.."

تدخّلت الملتزمة بينهما قائلة:
" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْتُ المَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا )).....معنى السجود هنا هو الاحترام والتقدير له ....يبيّن لنا الحديث عِظم حق الزوج على زوجته فإن كنتِ تقفين في صف والدك حبّاً له وطاعة لله عليكِ ايضاً الوقوف مع زوجك طاعة لله وحتى عندما تتزوج المرأة تصبح طاعة الزوج مقدّمة على طاعة الوالدين وهذا لا ينقص من حقهما واحترامهما شيئاً.....وأنت بنفسك أخبرتني عن زوجك وكرم أخلاقه والتزامه في دينه ....رجلٌ مثله كنتِ تهيمين بحنانه الفطري...رجلٌ دُمغ بقلبك حبه الحقيقي والقلب لا يخطئ هل تعتقدين أنه يمكنه أن يقتل روحاً بريئة؟!...وكيف إن كانت هذه الروح من صلبه وتحمل دمائه.؟!...مستحيل أن أصدّق بأن زوجك الذي ارتجف عليك وضمّك الى صدره بتمّلك فضح مشاعره وأنت تعتبرين ابنة عدوه يمكنه أذية ابنه!!...."

نفثت أنفاسها لتتابع بنبرة صادقة دافئة تفتح ذهنها بمحبة من أجلها:
" أنت أصبحتِ أختي وتهمني مصلحتك....لا تزعلي مني لكنك كنتِ أنانية بتصرفاتك....هذا ما استطعتُ فهمه من كلامك ......هو عاشق لك لكنك لم تحاولي ...أن تفهميه ...أن تصغي له بقلبك وعقلك معاً......أردتِ الحب منه وأخذتيه كنبعٍ دفّاق لكنك لم تقابليه بمثله...مسحتِ الحب واخترتِ أن تكتبي الكراهية.....ربما ما بينه وبين والدك أكبر من أن تدركيه أنتِ....لا اتهم والدك لا سمح الله ولكن لا أريدك أن تكوني ظالمة في حكمك ولا أنانية باختيارك!....لا تستسلمي لعاطفتك دون تفكير فالنتائج مهما كانت ...كلها ستعود إليك أنتِ وأنتِ فقط....وازني أمورك..."

هدوء نفسي وسكينة نزلا عليها بعد كلام تلك الطيبة التي تشع إيماناً ....في داخلها بصيص نور يشتعل عندما تجالسها لكنها ما زالت لم تعثر على مصدره.....تعترف بينها وبين نفسها أن هذه الفتاة لها تأثير خاص عليها....تستقبل كل ما يأتي منها بقبول حسن وحتى إن كانت ما زالت متمسكة بشتاتها وضياعها وإن لم تحاول الحذو نحو التغيير الجذري لأسلوب حياتها الخاطئ ....لكنها تسحرها ...حقاً تملك سحراً خاصاً يبث لها الطمأنينة في خضم ما تعاني من صراعات نفسية وتيه بالأفكار..!!....احتارت وتاهت...ضاعت وضلّت.....تخاف من المجازفة والإقدام لمحاولة أخرى فهي تعي إن كان كلام والدها هو الصحيح لن تقدر على منعي من فعل ما أريد بها.....ثم تعود لتشعل شمعة الأمل ...أمل يأتيها بحياة مستقرة آمنة بعيداً عن كل ما عانت من كوارث ومصائب وخاصة عندما يدق الذي يسكن بين أضلعها دقات لعشقٍ متين كان تاريخها وحاضرها!!...أرادت أن ترشداها وتساعداها باختيارها فتنهّدت تنهيدة ترخي بها أعصابها المتحفزة تبتغي قراراً صائباً يغيّر مجرى حياتها فهمست بقلة حيلة:
" ماذا أفعل إذاً؟!..."

بنظرات حانية وهمسات رؤوفة قالت لها:
" لا بد أنه سيتواجد في الجلسة الأولى بالمحاكمة ....عليكِ الامساك به وإخباره بنيتي...هذه فرصتك ....ربما الأخيرة....أنت بنفسك قلتِ لن تستطيعي زيارة الوطن والسفر متى شئتِ بسبب المصروف الكبير وأنك ستحاولين التواجد في جلسات المحكمة فقط.....وأن باقي تواصلك مع والدك سيكون هاتفياً...... "

رعشة وافتها أخافتها وهي تستحضر أمام عينيها صورتي وهمست متوجسة:
" تلك المرة الأولى التي لم أرَ لمعة الحب بعينيه....المرة الأولى التي أحسست بحسيس أنفاسه النافرة مني!....المرة الأولى التي بلغ بها من القسوة أقصاها !.....والمرة الأولى التي أعلن بها دون تردد عن انتهاء علاقتنا هناك....لا أظن أنه سيرضى بمقابلتي وقد أقسم قسماً حطّم به قلبي كما لم يفعلها من قبل!!....بل متأكدة أنه لن يعطيني فرصة ليسمعني!!.."

طأطأت رأسها الى حجرها تنظر ليديها اللتين تفركهما ببعضهما توتراً وأضافت:
" حتى صديقه قال لي.... * لن يثق بك مجدداً!.....خطؤك كان فادحاً وأظن في قاموس هادي لن يغتفر..*.."

" وإن كان!!....حاولي....بل قاتلي لتوصلي ما تريدين....إن نجحتِ فقد كسبتِ حياة ساكنة كريمة وعائلة عظيمة لك ولابنك ......وإن رفض الاستماع لك وأقصاكِ من حياته بقسوة واصرار دون رجوع لأنه رجل مثل باقي الرجال ...لصبره حدود وقد يكون نفذ صبره.....حينها سنتأكد أنكما لستما لبعضكما....بل كنتما مجرد حكاية كُتبت لهدف وانتهت مع الوصول لذلك الهدف....أي كان هذا هو قدركما ونصيبكما !!.."

ألقت الاحتمالات في وجهها ولمحت تجمّع غيوم من الخوف والوجع ...العجز والجزع ...تكوّنت بسماءيها..... فحاولت تغيير الموضوع بمواضيع أخرى لتخفف عنها وقد نجحت بتحسين مزاجها قليلاً بمساعدة (رهف) وبعد نصف ساعة أفرغت خلالها شحناتها السلبية قامت من مكانها تستأذنهما لبرهة ثم عادت إليهما تحمل رزمة من النقود استلمتها قبل سفرها عند بيعها لقطعة صغيرة من مجوهراتها الثمينة !!...اقتربت بحياء من الجالسة على كرسيها ثم جثت أمامها بتردد ناظرة لعينيها ومدّت ما بيدها هامسة برقة:
" تفضلي خالتي....هذا ليس من قيمتك....لكني أرغب بالمساهمة بمصروف البيت....!!.."

صدمة تبعتها خيبة رسمت الحزن على محيّاها ثم بعتاب ولوم هتفت لها:
" حاشى لله....حد الله ما بيني وبين هذا المال!....لن ألمس قرشاً واحداً....أنت تحتاجين كل فلس الآن لا تبعزقي أموالك هنا وهناك....وأنت مسؤوليتي أمام الله من أجل أفضال السيدة فاتن عليّ والسيد عاصي وقبلهما الغالية السيدة كريمة رحمها الله.....كيف تفعلين هذا بي؟!....أنت الأمانة التي اؤمن أنني سأسلمها لصاحبها يوماً ما....إما والدك أو زوجك ..أو آخر مجهول!!....الله أعلم أين مستقبلك ونصيبك!.....ستبقين مسؤوليتي بالكامل حتى تُرد الأمانات لأهلها بإذن الله !!.."

شدّت على النقود بيدها وما زالت تسلط عينيها الغائمتين عليها وهمست بامتنان للحظات لم ولن تنساها:
" مهما فعل لك كل هؤلاء..."

ثم وقفت بانكسار تقلب يمناها على ظهرها تتأمل آثار حروق الطفولة الباقية وبنغمة شجية أردفت بتشديد:
"مهما فعلوا...صدّقيني......لن يعطوك حقك بإنقاذي!.."

واستدارت لتصبح خلف كرسيها المتحرك تقبّل رأسها هامسة وهي تمرر أناملها على عنقها نزولا لظهرها بعاطفة جياشة وحنان فطري وُلد داخلها لها:
" وظهرك أكبر شاهد على التضحيات التي فعلتها من أجلي يا ثالث أغلى النساء في حياتي ...أنتن مثلّث الأمومة خاصتي والذي خصني به الله وحدي!!.."

رفعت يدها ترجعها للخلف لتسحب كف صغيرتها تقبّله لها ثم أدارتها لتعود تجثو ازاءها وهمست بحنوّ بينما الدمعات الوفيّة التي لامست الماضي فاضت من مقلتيها :
" ولو عاد بي الزمان ولو تكرر الموقف ...سأفعلها ...سأفعلها فداءً لألمى ....مالكة الروح النقية التي زيّنت لنا حياتنا !!.."
ألقت العلبة الصغيرة التي تحملها بيدها على طاولة الزينة ساخطة على حالها ثم حررت حجابها الورديّ عنها وألحقته بالعلبة وفركت خدها بقوة حتى اكتسى بالحمرة لحظة دلوفها الى غرفتها في تلك المدينة الصناعية !!....هي من اختارت!...إذاً فلتتحمل نتيجة اختيارها ....ماذا ظنت؟!....أساسا هل فكرت وظنت؟!...كلا !!....هي وافقت لتكون المنقذ لوالدها حبيبها الغالي لكنها منذ متى كانت تجعل العاطفة تتحكم بها؟؟!...طوال سنين عمرها القليلة كانت تتميز برجاحة عقلها وحكمتها في موازنة الأمور وكانت تجد حلولا بديلة لمشاكل من هم حولها....كصديقاتها مثلا!!....هل تلبّسها الغباء عندما وصل الشيء إليها؟! ....ألم تكن تسمع من بعيد وهي بمدينتهم الساحلية عن تصرفاته ؟!.....متى يصبح ذيل الكلب مستقيما؟!...هل اعتقدت أن سنة كانت كفيلة بتغييره ؟!...مخطئة....بل مخطئة كثيراً !!....كم مضى على الحادث الذي تعرض له ونجى منه بأعجوبة؟!....ذاك الحادث الذي تبيّن بعد فحوصات وتحقيقات أنه كان ثملاً وليس هذا فقط بل وجدوا معه صديقين من فصيلته وفتاتين لا تحملان أبسط الاخلاق!!...تُمحى ذنوبه وتصرفاته المعيبة الدنيئة لأنه ببساطة (تامر) الحفيد المدلل لجدها!.....مرت أسابيع عديدة على عقد قرانهما وهي تعيش في دوامة!!....تلف حول نفسها لتعود لنفس النقطة....هي من وافقت!!....لا يمكنها لوم أي شخص غيرها ..." كتلة حماقة"...نعتت نفسها بسرها !!....في بادئ الأمر أعطت لكليهما فرصة للتعرف عن قرب ....فهم أبناء العم يقربهما الدم مهما فرّقتهما المسافات لانشقاق والدها عن أقربائهم هنا بسبب عمله في المدينة الساحلية !!......أول أسبوعين من الخطوبة استطاع أن يتقن دوره كعريس اتجاهها ....بعدها بدأ يقل اهتمامه مما زعزع قليلا من ثقتها بنفسها وكأن هنالك شيئاً يعيبها أو ينفره منها !!......نجحت بالسيطرة على مشاعرها غير سامحة لأي تأثير خارجي بخدش روحها !!....التمست له الأعذار لأنه درس في الخارج وبلاد الغرب وتحديدا في اسبانيا دولة والدته الأجنبية فلا بد أن طباعهم تغلّبت عليه !!.......كان اليوم هو ذكرى يوم ميلادها فخرجا معا لتناول وجبة العشاء في احدى المطاعم الفاخرة التي يرتادها ابناء عائلة (زيدان) المعروفة بتجارة وصناعة الأثاث والكماليات..... وبينما كانا غارقين في طعامهما أتاه اتصالاً من اصدقائه الطفيليين فضغط عليها لتنهي وجبتها سريعا ....إنه على عجلة من أمره لأنهم دعوه الى سهرة شبابية حماسية ككل سهراتهم ولا يريد أن يفوته شيئا ولما اوصلها الى قصر جدهما حيث تقيم مع عائلتها تذكّر أن يعطيها هديته بيدها والتي لم يكلّف نفسه لفتحها وقبل ترجّلها دنا منها ليقبلها من خدها....قبلة خاوية خالية من أي مشاعر....قبلة يقوم بها كأنها احدى طقوس ارتباطهما ليتقن مسرحيته التي أجبره عليها والده بطلب من جده خوفاً من حرمانهم من الميراث!!......
اتجهت الى حمام غرفتها وتأمّلت الخيبات المرسومة على ملامحها وفتحت صنبور الماء ثم بدأت تحمل كميات بكفيها تسكبها على وجهها لتغسله وتحديداً مكان قبلته التي اثارت اشمئزازها !!.....

" تباً لك أيها البغيض!....إلى متى سأبقى مجبورة على تحملك وتحمّل قبح تصرفاتك؟!..."...

تمتمت بخفوت!!.وظلّت لدقائق تفرك خدّها ثم توضأت وخرجت وارتدت أسدال الصلاة وفرشت السجادة خاصتها متخذة القبلة لتصلي العشاء!!......بعد أن أتمت صلاتها وتسبيحاتها أعادت كل شيء لمكانه واستلقت على سريرها المكسو بغطاء خلفيته بيضاء وتزيّنه أزهار الجوري الوردية والعنابية بعد أن أخذت هاتفها من حقيبتها ودخلت إلى احد مواقع التواصل الاجتماعي وتحديداً على صفحته الشخصية لمشاهدة جديده!!....استقامت من فورها بتأهب تثني ساقيْها تحتها عندما رأت مباركات عديدة موجهة إليه!!....اضطربت ملامحها وخفق قلبها بجنون.....هل خسرت شيخها الوسيم الى الأبد؟؟!.. أظنّت أنه سينتظر جبانة مثلها؟!...ما أكثر وما أتفه ظنونها!!.....ضاع الزلزال وهي من أضاعته بيدها!!...سيكون مِلْكاً لغيرها !!..عند هذه الفكرة اهتزت أوصالها ولم تتمكن من كبح دمعة فرّت من مقلتها رغماً عنها .....أرادت أن تفتح أحد المناشير لتتأكد من أكبر مخاوفها!!....استعدّت لتشييع روحها ورثاء قلبها!!... قرّبت اصبعها السبابة المرتجف الى الشاشة لتشجع نفسها للضغط وقراءة المزيد وهي من تحتاج الى المزيد من القوة والقدرة لفعلها.....!!....بسملت ولمست الشاشة ثم زفرت أنفاسها براحة وارتسمت ابتسامة واسعة أظهرت ثناياها لمعرفتها أن المباركات لم تكن سوى لوصول صفحته الى نصف مليون متابع .!!...اطمأن قلبها الذي أصيب بالوجل قبل برهة....

" اوف...حمدا لله....لم يخطب!..."

نطقت جملتها بعفوية وانفجرت ضاحكة على حالها وعلى الشعور السخيف الذي عاشته...لقطت أنفاسها بعد موجة الضحك وتطلعت على الهاتف بيدها وبدأ يوسوس لها الشيطان لتدخل الى المحادثات الخاصة......هل لشعورها بالفراغ؟!....أم لاشتياقها للزلزال الذي زلزل كيانها ؟!......فتحت نافذة لبدء محادثة وتسارعت نبضاتها وهي تراه متصلاً والصورة الجانبية القاتلة لوجهه الوسيم تحتل هاتفها!!.....

" وربي زلزال ثلاثي الأبعاد....آااه يا الله ماذا فعلت بنفسي وماذا خسرت بحماقتي !!.."

قالتها بلوعة تؤكد خيباتها وتجرأت مجازفة لتكتب [السلام عليكم]....فوقع نظرها على المحبس المزعج الذي يخنق بنصرها......
" ماذا تفعلين يا مجنونة ؟!....تخطئين ومع الشيخ أحمد الذي يبغض الحركات المشبوهة ؟!...."

بصحوة ضمير أنّبت نفسها وغشاها التوتر فحذفت الحروف واستغفرت في سرها لإدراكها أنها تسلك مسلكاً خاطئا يقودها الى الخطيئة.!!...تغضب به ربها....وتخسر سمعتها ثم تفقد به أملاً بعيد المدى يخص شيخها الوسيم !!...هل اعتقدت أنه سيجاريها بالحديث لو فعلتها؟!..أيمكن للشيخ الصارم الوسيم أن يربّت على قلبها؟!..لقد جنّت تماماً !!....ضغطت على اشارة التراجع على الشاشة ولم تدرك أن اصبعها لمس إعجاب على أحد منشوراته دون قصد منها.....ولأول مرة تثبت متابعتها له فاضحة نفسها !!......خرجت من صفحته ودخلت على صفحة الغائبة عنها !!....تأمّلت صورتها فتكدست عيناها بدموع الاشتياق لها والقلق عليها.!!.....صديقتها الحبيبة (ألمى) لم تفتح صفحتها منذ أكثر من شهرين .....تساءلت بحيرة ناظرة لصورة صاحبة العينين الزرقاوين وقلة حيلة تختلج صدرها:
" يا ترى أين أنت يا صديقتي؟!....اشتاق لكِ كثيرا!!...أشتاق فوق ما تتصورين!.....أيعقل أنك في بلاد زوجك؟!.....أرجوك يا الله طمئنّا عليها "
وبينما كانت سارحة في الشاشة تناجي صديقتها الغائبة ارتفع رنين هاتفها ليظهر أمامها اسم (تامر)...تعكّر صفوها ولوت فمها بازدراء ثم دون تردد حوّلت هاتفها لوضع الطيران !!...
" بغيض لا تطاق.."...
تمتمتها بازدراء.......لم تمر خمس دقائق فانفتح باب غرفتها لتزلف إليها والدتها حاملة هاتفها وهي تشير بأن خطيبها على الهاتف فأعطتها اشارة تطلب منها اخباره بأنها في الحمام ولما فعلت وأنهت المكالمة ناظرتها بتوجس وعدم راحة وهمست تستفسر منها:
" لماذا أحرجتني وجعلتني أكذب؟!"

أشاحت وجهها للفراغ أمامها وأجابت:
" لا شيء أمي.....لا مزاج لدي للحديث !!.."

جلست متطرفة على السرير جوارها ووضعت يدها على فخذ ابنتها وتابعت بقلق:
" ما بك ميار؟!....هل حصل شيءٌ بينكما؟!."

" كلا أمي....أنا مرهقة فقط!!.."

بدّلت ملامحها رغم عدم ارتياحها وسألت مبتسمة:
" أخبريني....ماذا أهداك تامر؟!..."

بغير اهتمام وملامح مرخية أشارت لطاولة الزينة وهتفت:
" هناك الهدية بعلبة لم أفتحها!....يعني برأيك ماذا ستكون ؟!....لا بد أنها كعادة آل زيدان قطعة من المجوهرات الباردة كبرودهم !!.....لا تعنيني شيئاً!!"

ضحكت ثم نهضت من مكانها وهي تنهرها بسخرية:
" اصمتي يا بنت.....لو سمعك جدك لألقى عليكِ محاضرات عن تاريخ عائلتهم العريقة حتى يوم يبعثون!!..."

تعالت ضحكاتها لتشارك والدتها بالسخرية ثم قررت مفاتحتها بما فكرت به !!..فيبدو أن مزاجها مناسب لتلقي عليها ما زاحم فكرها من قرارات!!.....ستجرّب حظها لا ضير!!....ربما تكسبها في صفّها!!.....استدارت وأنزلت قدميها أرضاً وأمسكت يد والدتها بقبضتيها وبثبات سلّطت حدقتيها لعينيّ الواقفة وهمست بنبرة خفيضة:
"أمي..."

" نعم حبيبتي!!..."

ازدردت ريقها وقالت بعد أن سحبت نَفَسها لتدفع نَفْسها.... تجازف على الادلاء بما يدور في ذهنها:
" أريد الانفصال عن تامر......أنا لا أحبه ولا اتقبله!.."

حررت يدها من بين قبضتيها وقطبت حاجبيها بغيظ لتقول بنبرة صارمة وحازمة :
" إياكِ أن تعيدي هذا الكلام يا ميار.....تحدد موعد زفافكما فلا تحولي العرس الى مأتم بعد أن تصيبي والدك بسكتة قلبية!....لا تكوني سبباً لفقدانه!!......الحب سيأتي مع العشرة وليس بليلة وضحاها...."

قالت ما عندها وأدبرت خارجة تاركة فلذة كبدها تنهار على سريرها باكية، تتلوى وجعاً من قلة حيلتها بما يخص مصيرها ...وندم قاتل يفتك بها سببه تهورها بقرارها المتسرع....!!...أساساً ماذا بإمكانها أن تفعل غير البكاء والاستسلام إن كان هذا قدرها ونصيبها .؟!!....فلتعش تعض على أناملها وتندب حظها....هي من خسرت زلزالاً ورجلاً حقيقياً أي فتاة عاقلة تتمنّى أن يكون لها .... وكله بحماقتها!!

×
×
×

في البلاد المجاورة وعلى أرض الوطن كان يستلقي على سريره هو الآخر يستعد للنوم.!!... و كروتينه اليومي يتصفح هاتفه قبل الشروع بأذكار النوم !!... ينتقل بين الأخبار العامة وصفحته الخاصة ليرد على اسئلة متابعينه بكل تواضع ووقار!! ....ولما وصله إشعار بتفاعل شخص جديد على أحد منشوراته دخل ليتفحصه.....خفقة مجنونة يتبعها خفقة أكثر جنوناً....
" مِمّن؟؟ ."
همسها بعفوية ولم يقدر على منع رفرفة الفؤاد السقيم من العشق المحظور عليه لحظة وقوع عينيه الفحميتين على اسمها الحبيب ( ميار زيدان) ....ابتسم ابتسامة مائلة رغماً عنه متأثرا بنبضات الحب المدفون التي تمرّدت عليه هذه الساعة وبرقت عيناه توقا لذات الوجه الخمريّ....لحظات....فقط لحظات نسي بها وعوده...أسدل جفنيه يتذكّرها .....بلقاء اخترق عطرها أنفاسه...سقوط تلقّاه بأحضانه.....لمسة رجفت كيانه ...صرخة عتاب تتلوها دمعة اخترقت حصونه....بشقاوتها زلزلت خلاياه الراكدة ثم بضحكتها خرّ القلب عاشقاً وأصبحت هي الملكة وسلطانه....
" ميار!!...الفتاة الشقية!!"
قال اسمها مبتسماً بحُب.... فجأة وهو هائمٌ بطيف ذكراها قرع ناقوس الواقع الأليم والحقيقة المرّة عندما عاد ليعمل عقله بشكل صحيح ليفتح له سجلّات وعده لنفسه!!.....لا حق له بها وأصبحت لغيره!!....لن يسمح بذلك وعليه تجميد مشاعره أو حتى حرقها أفضل..!!....ما به استسلم لشيطانه؟!....
" استغفر الله العظيم .....استغفر الله العظيم"

تمتم مستغفراً ليطرد فتنة حبها المحظور عليه....هي ليست له ...لم تختره ولسانها الطويل كان أقصى حدّه عليه فقط....لم تستخدمه لتدافع عن اتفاق ومعاهدة سلام حدثت بينهما ....إذاً فلتهنأ بقراراتها!....تلاشت ابتسامة العشق وعاد القلب ليدق برتابة ثم غضن جبينه كارهاً حاله وهمس شاتماً بعتاب:
" تباً لكِ......ماذا تفعلين بصفحتي؟؟..وكيف تتجرئين لوضع قلب لي وأنتِ على ذمة رجل آخر؟!...."

تنهّد وما كانت إلا تنهيدة وجع على حب وليد ما زال يقاومه....حب ذاق رشفة واحدة منه ثم حُرم عليه....!!.....وبحركة سريعة من سبابته ضغط على اسمها ثم بدمائه الحامية التي ساندته ليحظر حبها عنه حظر اسمها أيضاً عن صفحته الى الأبد...أجل الى الأبد ليحرمها متابعته ويحرم معها فؤاده المكوي ....من أن... ينبض نبضات العشق لها .....تلك الميار..... العابثة بإعدادات قلبه ومبادئه!!...لقد اتخذ القرار...عليه هو الآخر أن يلتفت إلى حياته......وسينتظر صابراً التي تستحق أن يهديها قلبه المسروق بعد أن يستعيده من تلك السارقة التي تخلّت عنه ...بل سيهدي لها كل حاله..!!.......لكن!....أين هي ؟!...


~~~~~

في تلك البناية العتيقة العريقة وفي الرواق العريض المليء بصور لنجاحاتهم وشعارات عن العدل والمساواة وميزان يزن بالقسط كانت تتهادى في مشيتها ...قدماها يتقدمان للأمام وقلبها يعود للخلف من رهبة هذا المكان!!....جسدها الصغير أصبح أكثر نحولاً وسماءيها بارزتان تتألقان ببريق نضر وبهيّ ....أما ليلها المجدول في ضفيرة ينساب جانباً على كتفها بنعومة...بنطالها من القماش الأسود يبدأ بضيق ثم ينزل باتساع وقميصها الأحمر فضفاض يخفي حدود جسدها!!..وكان يسير على جانبها , يسبقها قليلاً وهو يحمل ملفاته في حقيبته الجلدية البنية!! ...يخطو بقوة وثبات واثقاً بتحركاته...أنيقاً ببدلته الكحلية , حسن الهندام....يعلم الحقيقة وحب المال يعميه!....منظم في وقته.. تهمّه الثانية والدقيقة والدفاع عن الظالم يطربه ويغذّيه!!.....فها هو أخيراً بعد شهر ونصف مرّا بحلوهما ومرّهما جاء موعد الجلسة الأولى للقضية ؟!....أهي قضية ؟!....بل قضايا ...واحدة أهم من الثانية!!......بكل عنفوان وتباهٍ ولج المحامي الكبير المعروف بمحامي الشياطين ( نظير الشيخ ) الى القاعة الواسعة الشبه فارغة عند وصولهما إليها والتي تضم داخلها موظفين مكلفين باستقصاء الجرائم بمن فيهم المدعي العام المعيّن من قِبل الدولة ومساعديه ثم القاضي (اسماعيل) أحد أكبر قضاة محكمة أمن الدولة حاملاً أسمى صفات يجب أن يتحلّى بها القاضي الأمين وهي الحكمة بقراراته...العدل بحكمه....الشجاعة بمواجهة من يقف أمامه ....والثقة بنفسه ...!!....لحقت المدللة محاميهم ثم اتخذت مكانها على أحد المقاعد المصممة كمدرج يشبه حذوة الحصان لتواجه الجميع براحة وتصغي بسلاسة وربما.....لتتدخل بحماقة؟!!......كان على يمينها طاولة يجلس خلفها والدها وجاوره محامي الشياطين ليلتم الشمل وتكتمل الصورة!....أما على يسارها المدّعي العام الذي سيتولّى عرض حيثيات القضية واثبات كل التهم الموجهة لـ(عاصي رضا) فيما يخص شؤون وأمن الدولة من أكبرها لأصغرها....!!.....كانت تلقي نظرها على كل الزوايا تتعرف على الوجوه الجديدة عليها وما هي وظائفهم....انتهت من مهمتها التعارفية وجاءت المهمة الأهم!....مراقبة ذاك الباب الواسع بردفته المواربة ...تنتظر بتحدي وصفاقة خصمها اللدود.....فالآن هي موجودة بساحة قتال لن تسمح للحب أن يضعفها...هي قوية ولن تهزم.....هذه كذبة من كذباتها على نفسها....عروقها نافرة تحسّباً ودماؤها ثائرة حماساً ...أما قلبها له حكاية ونوايا أخرى ....كان يخوض معركة ضروساً....أكانت كُرهاً أم شوقاً؟!....لم تبرح عيناها عن ذاك الركن ...طال انتظارها وطال توقها المتسلل لنابضها بخباثة ..نابضها المغلّف بالكراهية العمياء التي استوردتها بأيامها الأخيرة!!....زمّت شفتيها الرقيقتين بعبوس قاطبة حاجبيها السوداوين بشدة وكتّفت ذراعيها....بعد قليل تأففت تزفر أنفاسها وهي تحرر يديها عن صدرها كأن الخمس دقائق التي مرت عليها هي خمس ساعات من هول ما عاشت من حرائق......دخان ونار....لهيب وشرار...منافسة محتدمة أبطالها الكُره بإصرار والعشق الغدّار....!!...
" يا الله أين هو ؟!.."

تمتمت تسأل الهواء المرافق لها وهي تنظر لساعة هاتفها القديم !!...عادت ترفع رأسها ترنو الى الباب عديم الاحساس....ما له لا يتحرّك؟!....هربت دقائق أخرى ولا علامة لقدوم أحدهم!....
انتظري يا ابنة (عاصي)....هل تظنينني تواقاً لرؤيتك ووالدك ؟!.....انتظري لأرى الى متى ستنتظرين؟!.....
فقدت الأمل بحضور خصمها المنتظر فشتمت بسرها.... " وغد جبان....حائط مغرور...أكرهك!..".....
تلاعبت بها الهرمونات وباغتتها حالة انفصام لحظيّ فرنت مرة أخرى بزرقاويها صوب الباب ورفعت طرفيّ حاجبيها الداخليين بيأس وتمتمت بخفوت للذي يسكن رحمها تصبّ التهمة عليه صبّاً.:
" أعلم أنك تريد رؤيته !..اصبر قليلاً...اصبر... ما بك كالملهوف ؟!.."

ثانيتان ومثيلاتهما لترخي جسدها وكل ملامحها القانطة وهمست له :
" لن يأتي!!.."

ثم ببرهة ادراك لواقعنا المرير والشرخ العميق لعلاقتنا ....وذكرى أليمة لموقفنا الأخير أردفت بعزة نفس وإباء تكلّم ابنها:
" هذا أفضل....لن تهمنا رؤيته!...حائط مغرور سينفّذ قسمه بعدم رؤيتي ونسياني!!...إن طبّق كلامه لن يحلم أبداً بأن أخبره عنك...."

قطعت الأمل وأسندت ظهرها للخلف تنتظر بدء الجلسة ثم دقيقتين لتعود متأهبة تسلّط حدقتيها الى نفس الاتجاه صوب الباب عندما تحرّك مُصدراً صريراً خافتاً اختفى وراء..... رنّة كعب..!!....اشرأبت بعنقها تلتقط الصورة بشكل اكبر وأوضح!!......لحظة!!....."..من تلك؟!.."...جملة فضول كانت في عقلها!!.....تابعت بنظراتها المتفحصة خطواتها التي انتهت بوصولها الى مكانها خلف الطاولة جوار المدّعي العام !!......لحظات قليلة وبدأت الجلسة كلٌّ يعرّف عن وظيفته وسبب تواجده أمام القاضي على مسمع الجميع لينتهي التعارف عند ذات الكعب الرنّان التي هتفت بثقة منتصبة بوقفتها ترتدي رداءها الأملس الليليّ الخاص بالمحامين والذي كان يغطي قميصها الثلجيّ الأنيق :
" رفيف سالم الأسمر....المحامية في قضية جريمة قتل القائد محيي الدين الشامي والد موكلي السيد هادي محيي الدين الشامي !!.."
×
×
×

الصبر سلاحي في الانتظار...أعلم أن اليوم هي جلسة دون قرار.... إنما يكفيني ايماني بأن بعد الظلام سيأتي النهار...وأننا في سبيل الحق سنقضي على كل ظالم جبّار.. وأن الطاغي مهما طغى سيقع وينهار.... وأن الوطن سيعمّر بعد الدمار....وأننا سنبنيه بالمحبة والعزيمة والإصرار....وسنرسم حدوده بالسلام والأزهار ....هذا أملي الذي أرجو وهدفي الذي إليه أصبو مستعيناً بربٍ قويٍ جبّار.....بإذنه سأحقق وعدي وسأزرع البسمة على وجه شعبي وإلا لن أكون الهادي قائد الثوّار..!!

*
ها أنا جالسٌ احتسي قهوتي في المقهى الضيق الموجود في بهو بناية المحكمة بعد أن تفرّقنا عن بعضنا أنا والمحامية (رفيف)....آه يا سيد (سليم) ...أي موقف وضعتني به؟!....لقد تعاقدنا مع مكتب محاماة يُعدّ من أكثر مكاتب المحاماة نجاحاً في العاصمة والذين ينافسون بقوة مكتب المحامي (نظير الشيخ) بخلاف أن الأول يسعى للحق والدفاع عن الضحايا والثاني وسيلة حماية للشياطين أمثال (عاصي رضا) وقد تبيّن أن تلك المحامية التي تكون ابنة شقيق السيد ( سليم الأسمر) هي من ستمسك قضيتنا رغم اعتراضي للأمر لأني لا أرغب بالتعامل أو التواصل مع كافة النساء إلا أنه أصرّ عليها مدعياً قوتها ونجاحاتها في هذا المجال بوقت وجيز إذ أنها كانت تعمل في السويد حيث ترعرعت ودرست هناك الدراسات العليا بالقانون مع عائلتها الذين هاجروا قبل حوالي خمسة عشر عاماً بسبب عمل والدها ليعودوا بعدها للاستقرار بالوطن منذ حوالي سنتين وقد استطاعت خلالهما أن تثبت نفسها بعد انضمامها لهذا المكتب المكلل بالنجاحات..!!....بالمناسبة....أ نا أعرف(رفيف) منذ الطفولة...كنا نلتقي اثناء زيارتنا لعمتي(لبنى) ونلعب معاً ....في الماضي كانت تميل للألعاب الصبيانية لذا كنتُ أتقبّلها أما الآن أصبحت أمامي فتاة أخرى ....انقلبت مئة وثمانون درجة....هي الآن ابنة الستة وعشرون ربيعاً.... تمتاز بعنادها المهني وشخصيتها الطموحة ....وجرأتها... متأثرة بالبيئة التي عاشتها في الخارج فهي لا تشبه تربية عمها الدينية لبناته إلا أنها تضع الحجاب ...ربما كعادة!!....فلباسها لا يتّسم باللباس الشرعي بتاتاً إنما تلاحق موضة اليوم لمحجبات كُثر..!!........في الحقيقة لا يستهويني التعامل مع هذا النوع ...امرأة جريئة.....و....جميلة!!.....حتى لو كان من أجل العمل ...لكنهم وضعوني في مأزق أمام الأمر الواقع الذي لا مفر منه!!....قابلتها قبل الجلسة الأولى ثلاث مرات من أجل قضيتنا وهذه تكون الرابعة....سنرى ماذا يخبئ لنا المستقبل!!...آمل أن نرى خيرها ان شاء الله..!!..
انتهى فنجاني القهوة وتبعته بآخرين غيره عسى أن أسكن توتري أثناء انتظاري لانتهاء الجلسة......فأنا قررت ألّا أتواجد في قاعة المحكمة.....ببساطة.... لا رغبة لي برؤية مجرم.....وغدارة!!.....دقائق رتيبة قليلة لم تتعدّى النصف ساعة مرّت عليّ وبالطبع الجلسة ما زالت في أوجها!!.....نهضت من مكاني لأشتري قارورة ماء بارد... لقد جفّ حلقي من مرارة القهوة ومرارة التفكير برهبة واضطراب بما سيحدث بالداخل وبينما كنت أمدّ يدي لأدفع ثمنها محتجباً بجزء من حاجز خشبيّ على شكل شبكة ...وصلني مع الاوكسجين رائحة أدمنها...أقصد أعرفها...أنفي لا يخطئها....والخائن لا ينساها ليلحق بالرائحة عند وصولها لطاولة الطلبيات والدفع ذاك الصوت العذب الذي يغزوني كترنيمة تطربني:
" عصير برتقال لو سمحت!.."

ارتجف قلبي وكذلك ارتجف قلبها عندما لمحتني أقف جوارها عند التفاتها ليمناها.... كان مترين يفصلانا ودقات عشق خائنة توصلانا .....تجلّدتُ بالبرود والجمود كأني لم أرها أما هي بهتت ملامحها وتوقفت حركتها لوقتٍ يسير قصير بينما ذاك الماكث خلف أضلعها يهدر , يهدر , يهدر بجنون دون توقف متفاجئاً مصدوماً ....ضائعاً حيراناً....مرتبكاً خائفاً والأهم فرِحاً وعاشقاً.....دقيقة عاشت بها كل مشاعرها المبعثرة ثم بجهد جهيد استطاعت تدارك نفسها لتردّ عليّ بالمثل بتجاهلي عند استيعابها مروري من جانبها بكل هدوء اجتازها عائداً الى طاولتي دون أن ألقي لها بالاً كأنها نكرة لا وجود لها فشتمتني في سرّها متحدّية..." ستبقى حائط مغرور كما عرفتك ....أنا ما زلتُ أحمل اسمك وواجبك دفع ثمن العصير عني يا قليل الذوق ولو تمثيلاً ككل مسرحياتك ....حسناً ...أعلم أنك ما زلت حاقداً ...ليكُن... يبدو أن حربي معاك لأكلمك ستكون صعبة .....غير مهم !!....تعرفني جيداً كيف أكون كالعلقة حتى يحدث ما أريد.. سألتصق بك وسترى يا ابن الشامي...لن أستسلم لعجرفتك وكبرياؤك اللعين..."

.جلستُ مكاني جانباً وبعد قليل لما عادت للظهور أمامي حدّثت نفسي..." أف...ظننتُ أنها ستعود الى القاعة ...ما بها تستقر هنا وما زالت الجلسة مستمرة ؟!!...غريب!.....يا رب خير...".

وبما أن المكان ضيق فقد كان من حظي السعـ...أقصد البغيض أن تكون بالقرب مني على الطاولة المجاورة....كان وجهي للباب وظهري لطاولة الطلبيات وهي جلست على عكسي ..بالطبع بقوة جبّارة تمكّنت من الثبوت على نيتي بألّا التفت ناحيتها وألّا تقع عيني على عينها......صحيح أنني بدأتُ بترويض خائني النابض بحبها كل هذه الفترة...لكنه لا يؤتَمن...الخائن يبقى خائناً ولا نعلم متى تأتينا الضربة منه...!!.!!....مرت دقائق فقيرة لا تتعدّى الربع ساعة ...الأجواء مشحونة بيننا تصطدم بها أقطابنا السلبية والايجابية ....قبول ونفور...سكون وضجيج....رضا وغضب....كُره وعشق وكلٌّ منا يعبث بهاتفه.....وصلتني رسالة وكانت من صديقي(سامي) يسألني عن الوضع ليطمئن فرجعتُ إليه باتصال وبعد السلام:
" ما زال الوقت باكراً أي أن الجلسة مستمرة ما بك تسأل من الآن؟!."
أظن أن الأمور تسير على ما يرام لأن أحدهم خرج منذ البداية فمؤكد أن الوضع لم يعجبه أي أنه لصالحنا وليس لصالحه ....خشي الهزيمة فاختار الهروب!.."

فهمت المغزى من كلامي فاحتقن وجهها حنقاً إلا أنها أمسكت نفسها عن أي رد فعل غبي..!!

"..."

علّق صديقي بشيء فضحكتُ على كلامه بصوتٍ غير مكترث لوجودها ثم أكملتُ بجدّية:
" لا لم أدخل اطلاقاً.....أجلس في المقهى أنتظر رفيف لتطلعني بالتفصيل عن كل ما جرى بالداخل.."

" رفيف!!...تلك البغيضة المصطنعة شبيهة الفأرة المتملّقة ذات الكعب الرنّان....هكذا دون آنسة أو سيدة يا سيد هادي المحترم !!....من تكون لك لتدعوها باسمها حاف يا مغرور؟!..."...قالتها بسرّها وهي مندهشة من نفسها اكثر فأكثر كيف استطاعت التحكّم بأعصابها دون أن تخرج لسانها اللاذع وتفضح نفسها أمامي....تستحق جائزة أو شهادة تقديراً لثباتها !!....حاولت السيطرة على لسانها بينما كانت تكزّ على أسنانها مغتاظة ساخطة وتشدّ على قبضتيها من تحت الطاولة بانفعال رهيب وبعد أن انهيتُ مكالمتي حاولتْ أن تهدئ أنفاسها الهائجة رويداً رويداً كي لا أشمت بها ثم ضغطت على هاتفها تتصل بـ(رهف) لتلهي نفسها معها... وربما ترّقع عن أشياء مخفية لا أعلمها وبعد سؤال عن الأحوال همست بضجر :
" ممم....كلا ما زالت الجلسة مستمرة أما أنا خرجتُ...كان حديثهم ممل وخاصة أنه كله ادعاءات كاذبة ....لا تعجبني تلك العروض المسرحية .....صدقاً شعرتُ أنني أضيع وقتي مستمعة لمهزلة!!.."

"...."

" سيكون كل شيء على ما يرام....أنا أثق بالسيد نظير الشيخ وابنه صافي ذراعه اليمين.."

"..."

ردّت معترضة وهي تداعب بدلع خصلة لغرتها فرّت من ضفيرتها كأنها بحركتها تلقي سهامها على خائني لتضعفه :
" كلا ...كلا....لا يوجد حتى قضية واحدة فشلا بها !..إنهما ثنائي ناجح بامتياز......أدخلي للشبكة العنكبوتية واقرئي عنهما ....حقاً ستنبهرين من نجاحاتهما.."

" تمالك يا هادي...تريد أن تستفزك...ألا تعرف ألاعيب حواء ؟!...هذا واضح من نبرة صوتها المصطنعة!!....ستحاول اغاظتك بذاك المتملّق الكريه لتجبرك على فتح الحديث معها !...أنسيت أنها كالطفلة المدللة تحاول لفت الانتباه لها دائماً ؟!....اهدأ يا قلبي...اهدأ ولا تنفعل!....اثبت لها أنك غير مهتم بها...."...
بمشقة وعناء حاولتُ الثبات على هدوئي وخاصة بعد أن أنهت مكالمتها المملة التافهة !!....عادت للعبث بهاتفها وكانت تسترق النظر إلي من حين الى آخر....انشغلنا ببعضنا رغم ادعائنا تجاهل بعضنا لبعض حتى مرت دقائقنا المتكهربة دون أن نشعر!!....قمتُ من مكاني لأجلب فنجاناً من القهوة لا أعلم عدده...فتوتري تضاعف....أتلظّى بنارين....أفكر بما يجري بالقاعة البعيدة ....وأمسك نفسي ألا أضعف ازاء تلك القريبة !!....ارتشفتُ رشفتان بلذة ثم رفعتُ رأسي ناظراً نظرة سريعة للتي دخلت ورنّة كعبها تسبقها ولما وصلتني وضعت روبها الاسود الخاص بالمحاماة على ظهر الكرسي ثم حرّكته لتجلس مقابلة لي بخفة وهي تزفر أنفاسها ضاحكة واضعة حقيبتها التي تحوي على الملفات أرضاً وسلطت عينيها السوداوين عليّ هامسة بمرح:
"عدنا من جديد سيد هادي .. "

قلتُ باقتضاب ونبرة جادة:
" أهلاً..."

ثم عدّلتُ جلستي متحفزاً للاستماع لها دون تأخير وأردفتُ بنبرة ليّنة:
" ها طمئنيني ماذا حصل؟!.."

أسندت ظهرها للخلف بأريحية وضحكت هاتفة بجرأة تظن أننا ما زلنا بالماضي أطفالاً:
" يا رجل...دعني ألقط أنفاسي....ألن تقدّم لي فنجان قهوة على الأقل؟!؟؟"

غليان...ثوران...هيجان....تجاهد ...تكابد ألا تنفجر من غيرتها وهي تسمع حوارنا!!....بكل برود توقفتُ مكاني مرتخياً وسألتُ :
" كيف تشربينها ؟!.."

" مضاعفة ثقيلة....والأهم دون سكر أكيد!.."

" يع....ما هذا الذوق خاصتها ؟...كذوق الرجال!!.."...جملة مرّت من عقل سموّ الملكة الجالسة تراقب وبراكين من الغضب توشك على الانفجار باطنها..!!...

أملتُ زاوية فمي بابتسامة أقرب للسخرية هاتفاً:
" جيد!....لأول مرة أقابل امرأة تشرب مثل قهوتي تماماً.."
ردّت بسلاسة :
" لطالما تشابهنا بأشياء كثيرة....هل نسيت؟!.."

ابتسامة مجاملة أهديتها فقط ثم استدرتُ بجسدي وما إن مشيتُ متجهاً لطاولة الطلبيات حتى مدّت يدها بكل جسارة دون حدود لتسحب فنجاني لناحيتها لتشربه وهي تهمس في سرها.." ما دامت قهوتنا متشابهة إذا لا حرج بأن آخذ فنجانك لأني أحتاجها بشدة!!..فليبقى الجديد لك!..".... ولم تكن تلحظ وجود المدللة القريبة منها عند دلوفها للمقهى والتي انتهى عندها تاريخ صلاحية صبرها لتفزّ من مكانها تجرّ كرسياً عن طاولتها وتوجهه لطاولتنا جالسة بوقاحة ساحبة فنجاني من أمام (رفيف) هاتفة بضحكة مصطنعة:
" لا تؤاخذيني.....تأخرتُ عليكما....."

ومدّت يدها اليمنى برياء والشرر يتطاير من مقلتيها لتصافح المشدوهة من تواجدها ومن أين خرجت لها بينما كانت بيسراها تطوق فنجاني وأكملت بتصنّعها :
" أوه ....نسيت أن أعرفك على نفسي..."

حدّقت بها (رفيف) لثواني كأن الماثلة أمامها معتوهة أو مجنونة وعند وصولي إليهما مشيّداً حصوناً من الصبر اتجاهها بعد صدمتي بانضمامها بصفاقة إلينا رفعتْ حدقتيها مع ارتفاع رأسها نحوي وتابعت بدلع وثقة مزيفة:
" أنا ألمى.....زوجة هادي.."

ثم حررت يد المحامية من يدها وظلّت ممسكة بالفنجان خاصتي أما أنا جلستُ كأنها غير موجودة وقدّمتُ الفنجان الجديد لـ(رفيف) وقلت:
" تفضلي قهوتك.."

لم تعر المدللة أي اهتمام وأخذته مني شاكرة بابتسامة لترتشف رشفات بنعومة ثم تطلّعت عليّ بمعنى ماذا سنفعل بالجالسة وهمست:
" كيف سنتحدث؟!"

فأعطيتها الضوء الأخضر قائلاً بعدم اكتراث :
" تفضلي اسمعك....لا يوجد شيء يخبأ....واثق الخطى يمشي ملكاً.."

تقبّلت الوضع وشرعت بالحديث العام عن الجلسة بينما الوقحة لم تكن مهتمة لفحوى حديثنا بقدر اهتمامها بمراقبة نظراتنا ونبرات صوتنا ولمّا أرادت الخوض بالتفاصيل أكثر بما يخص قضيتنا قائلة:
" أدلتنا موثوقة الحمد لله..."

ردّت تلك:
" أدلتكم المزورة.."

نطقتها بهدوء يخالف أعاصير الغيرة التي تهب داخلها فأكملت (رفيف)متخطية مداخلتها:
" حدث جدال أقرب للسجال بين المدعي العام والسيد نظير الشيخ.....لكن لا تقلق طرفنا قويّ.."

" طبعاً... فأنتم مجموعة عصابة تكاتفت ضدنا سلاحكم الافتراء والاحتيال ....تتخذون أبخس الطرق لتكونوا بهذه القوة!...لكني أثق بمحامينا!!..."

سحبت نفسها تحاول الحفاظ على ثباتها الانفعالي بعد تعليق الحمقاء وكنتُ أنا كذلك أجاهد بشق الأنفس كي لا أنفجر بها مرتدياً قناع التجاهل سلاحي المعتاد الذي يقتلها ...فهي تكره تجاهلها وخاصة عندما يكون نابعاً مني يكون أشد فتكاً بها ثم أكملت الاولى حديثها لتلحقها تلك بتعليق ساخر آخر وهي ما زالت محتضنة فنجاني وهنا ثارت حفيظتها هادمة صبرها والتفتت نحوها هاتفة بحدة وثقة :
" ألم يكفِ طرد القاضي لكِ من قاعة المحكمة بسبب تعليقاتك الغبية السخيفة لي أثناء سير الجلسة....هل جئت الى هنا لتكملي عرضك الرذيل ؟؟....ما الذي تريدينه بالضبط ؟!.."

" ماذا؟!.."
سألتُ واضعاً قبضتي أمام فمي مانعاً انفلات ضحكة مني بعد سماعي أنها طُردت بسبب تدخلها الأحمق وهي التي كانت قبل ساعة تتبجح لصديقتها بأقاويل أخرى!!....هكذا إذاً....الحمقاء المغرورة مجرد مطرودة !!.....إذا عُرف السبب بطُل العجب!!....عادتها لن تستطع السكوت عمّا لا يعجبها ....

اشاحت وجهها نحوي لتجيبني بانزعاج من وجودها :
" طردها القاضي من البداية ....كانت كلما أقول ما عندي تعلّق معترضة بوقاحة غير آبهة للمكان المحترم المتواجدة به!!.."

اكتفيتُ بابتسامة للمحامية دون تعليق فصكت فكيها بغيظ وتعاقبت أنفاسها منفعلة ما بين الاحراج والاشتعال غيرة وفي عقلها تبسمل لتمسك نفسها عن الانقضاض عليها فعادت (رفيف) لتنهي حديثنا وهي تقترح عليّ هاتفة بضحكة مع غمزة بعفوية تشبه جرأتها التي ...أظن....لا نوايا خبيثة من خلفها إنما هذا طبعها :
" ما رأيك أن تأتي الى بيتنا ؟...منه توصلني ومنه تسلّم على أبي...سيسعد كثيرا بك.... ثم نكمل حديثنا هناك؟!.....لا بد أنك علمت من عمي سليم أننا نقيم بالعاصمة وليس بمدينتنا الغربية..!!.."

هل أنا مجبرٌ على هذا؟!....حسناً أنا ليّنٌ وأبذل جهدي لأكون متعاوناً قدر الإمكان ....أولاً لصالح قضيتنا وثانياً احتراماً للسيد (سليم الأسمر) كونها ابنة شقيقه...لكني لا أستطيع أن أتعامل بأريحية مع النساء...هذا ضد مبدئي دينياً أو ميولي....لستُ من مؤيدي هذا التقارب دون علاقة تربطنا!...ما بها تتصرف وكأنني (هادي ) الذي اعتادت عليه في الصغر ..ألا ترى رجلاً بحجم الحائط يجلس قبالتها؟!...
تنهدتُ بهدوء دون أن اشعرهما مستجمعاً أفكاري ثم تنحنحتُ لأجيبها بلباقة :
" هذا من دواعي سروري....في الحقيـ..."

لم أكد ألبث أن أكمل جملتي لتتسع عيناي من هوْل الموقف والكارثة التي تسببت بها ....زوجتي الحمقاء!...احترقت من حديثنا الشبه ودّي وبسبب نيرانها الهائلة من الغيرة شربت على نفسٍ واحدٍ فنجاني البارد الذي كانت تحاوطه بيدها بتملّك كي لا تأخذه غريمتها منها وهي التي تكره هذه القهوة المرة الثقيلة مما جعلها رغماً عنها تبصق كل ما شربته ليتناثر الرذاذ على الطاولة وعلى.....القميص الثلجيّ الأنيق لـ(رفيف) ولم تنسَ أن تضع لمساتها ببعض النقاط ....كالنمش... ليزيّن وجهها..!!...في الحقيقة سأعترف.....تصرّفها أحرجني بشدة ظاهرياً وعقلياً إلا أن هناك خيطاً خبيثاً كان شمتاناً لأنني كدتُ اختنق من جرأتها .....أظن ذاك الخيط أتى كجندي مجهول بعد أن اطلقه خائني النابض بحبها!!.......
أرجعت كرسيها للخلف ...محرجة خائفة ....ورجعت الأخرى بكرسيها للخلف محرجة غاضبة ....ثم صرخت بها:
" ماذا فعلتِ أيتها الحمقاء ؟!....ما هذه قلة التربية !!.."

ثم سحبت مناديل ورقية كانت على الطاولة وبدأت بتمسيح وجهها وقميصها بينما الأخرى تسلّحت بالقوة ولم تستطع منع رجفة قلة حيلة وقهر خالطت صوتها وهي تقف منحنية اتجاهها بوجهٍ واجمٍ :
" لستُ قليلة تربية بل أنت..!!...فنجانه بأي حق أخذتيه ...هل رغبتِ بأن تشربي وراءه ؟!...انظري لنفسك كيف تأكلينه بنظراتك بكل جرأة ووقاحة!!...."

اغرورقت عيناها بالدموع والتفتت ناحيتي مضيفة وهي تعود لتقف بانكسار بعد أن غلب عليها الامر:
" وأنت؟......هل أنت مبسوط الآن ؟!.....تمنعني من التعامل مع الرجال بينما أنت بكل راحة تجالس النساء !!....هل ما حُرّم عليّ حلالٌ لك ؟؟!.....هل تحاول اغاظتي بتلك الوقحة المتملّقة التي تحاول عرض نفسها عليك؟!....."

التهبت أعصابي حرجاً وغضباً فأنا بمكان عام أشعر أنني مكبّل بالأصفاد... مرّت لحظات الموقف متثاقلة ...الدم يغلي في عروقي وكاد أن يخرج من عينيّ المحمرّتين ليحرقها ....لمَ تزيد هموماً فوق همي؟!...لمَ تصرّ على ادخال نفسها في مجال رؤيتي؟!...ألم أقل أنني سأنساها ؟!...ألم أقل لها أننا انتهينا بذاك المكان المشؤوم وأنا الآن أخوض مرحلة تعافي من مرض يدعى.....عشق الألمى....مرّ علينا شهر ونصف لم اسأل عنها متعمداً ولم أسمح لأيٍ كان بذكر اسمها.....لقد أقسمتُ ولجأتُ لمرحلة العلاج.....فأنا إن وصلتُ لنقطة بألّا أفكر بها بين الثانية واختها وإن لم يحتفل الخائن برؤياها ....وإن لم تعد أرضي تنادي على سمائها سأكون حينها شفيت وتعافيت ...وبهذا يمكنني ...اطلاق سراحها!!....لكن لا أعلم متى فالصراع ما زال قائماً بين عقلي وقلبي....ولنرى لاحقاً أيهما سينتصر!...
أخرجني من تيه معركتي الداخلية بعد أن أحرجتني صوت التي قالت بنبرة واثقة خافتة مفتخرة يشوبها الغرور:
"هيـه أنتِ... الزمي أدبك واعلمي مع من تتحدثين...لقد تعدّيت حدودك!!.....أنا المحامية رفيف ابنة المناضل الحر سالم الأسمر وعمي سليم الأسمر والد ورئيس الثوّار الأبطال الذي يرتجف الرجال أمامه...ابنة أصل أباً عن جد!!..وتربيتُ أفضل تربية...أما أنتِ من تكونين ؟!....ها؟!...اخبريني لأرى !....حدّثيني عن أصلك وفصلك!..."

خاضت صراع سريع في عقلها......كيف تسألها من هي ؟!....هي ألمى عاصي رضا الوزير السابق ورجل الأعمال الشهير ....أم أنها تقصد.....بأنه المجرم الخائن القابع خلف القضبان ؟!.....هل أصابتها في مقتل.؟!...كلا ...لمَ لتصيبها وهي على يقين ببراءته...تُهم باطلة ألقوها عليه ... أتريد أن تعايرها بوالدها ؟!...لن تسمح لها ....لن تعطيها غايتها....اتكأت بكفيها على الطاولة منحنية بصورة حادة أكثر أمامها ناطقة من بين أسنانها بينما كانت عيناها تلمعان بوهج الغضب وملامحها كلها ازدراء ونفور منها :
" أما عن أصلي وفصلي فأنت تعرفينني جيداً وربما تحفظين تاريخ ميلادي.....فأنا بنت سيدك الوزير السابق والوزير القادم....عاصي رضا.....أما من أكون.....أنا زوجة الذي تحاولين لفت انتباهه بحركاتك وبطولاتك ....بل وقاحتك!....نحن نساء ونفهم على بعضنا!....إن كان هو غافل عن هذا فأنا لا ....لقد رأيتُ بريق الاعجاب بحدقتيك اتجاهه....رأيتُ حماسك بنبرة صوتك معه......ليس بريق أو حماس محامية لموكلها ......بل أكبر من ذلك....وقلبي دليلي!..."

فتحت فمها لتردّ عليها بقسوة بعد احمرار وجهها وانتفاخ اوداجها لأول مرة....وقد نجحت المدللة باستفزازها بسهولة إلّا أنني قطعت طريقها عندما وقفتُ بحزم طارقاً الطاولة بكفيّ هاتفاً بحدة ملقياً نظرات قاتلة لكلتيهما:
" كفاكما مهزلة ....إلى هنا نفذ خزّان صبري عليكما !!.."

وبحركة سريعة طوّقت معصم خاصتي ثم سحبتها خارجاً من المقهى متخذاً يسراي الى رواق فيه غرفة للعمال ومخزن ومطبخ وحمامات عامة وبأول غرفة فتحتُ الباب وسحبتها ثم أغلقته وحشرتها عليه وهي تنظر إليّ بوجل وملامح مبهمة بينما أنفاسها كانت لاهثة لتزداد ضراوة عندما انحنيت بجذعي ممسكاً كفيها مثبّتاً إياهما لفوق هامساً بكل هدوء وأنفاسي تلتطم بوجهها ورائحة عطري تخترق أنفها:
" ما الذي تريدينه يا قطة ؟!.."

أشاحت وجهها جانباً وابتلعت ريقها مجيبة بخفوت وتلعثم:
" لا..شـ...شيء...أقـ...أقصد أريد أن...أن أكلمك"

اقتربتُ أكثر بشفتيّ قرب أذنها وهمستُ همساً دافئاً:
" ومن قال أنني أريد أن اسمعك؟؟!.."

أعادت وجهها نحوي وثبّتت سماءيها على أرضي...تبادلنا النظرات وقلوبنا تعيث فساداً وخراباً داخلنا وهمست بإصرار وهي خائفة من الاستسلام لي من شدة قربي:
" ابـ...ابتعد عني!!..لنتكلم....وتسـ...وتسمــ� �عـنــي!!..."

"ألا تفهمين عربي؟!...أتريدين أن أكلمك بالإنجليزية يا ابنة كندا .؟ أقول لكِ لا اريد أن أسمعك!....هل صعب فهمها لهذه الدرجة؟!.."

قلتها بوضوح وتمهّل وتابعت هامساً بدفء أكبر وأنا ألصق شفتيّ أكثر بأذنها عابثاً بمشاعرها:
" لا...أريد....أن....أسمعك...يا....ح لوة.."

كاد همسي يذيبها... ...ابتعدتُ قليلاً تاركاً فجوة بيننا أعطي لها المجال لتتنفس وحررتُ كفيها قاطباً حاجبيّ وهاتفاً بنبرة صارمة محدّقاً بها بنفور جليّ لأستر به على خائني العاشق الغبيّ...فقربها أثارني كما قربي أثارها.:
" قلت لكِ سابقاً لقد انتهينا....بأي حقٍ تفعلين كل ما فعلته بالمقهى ؟!..."

ظلّت صامتة فطرقت الباب بكفي قرب رأسها رافعاً صوتي:
" قولي بأي حق تنضمين لنا وتفتعلين موقفاً دنيئاً مع المحامية رفيف ؟!.."

اهتزت مجفلة من طرقتي إلّا أنها استجمعت قوتها لتجيب:
" وأنت بأي حق تمنعني عن التواصل بالمحامي الشاب خاصتنا وتربطني بك بينما أنت تصول وتجول مع تلك الوقحة؟!.."

" لا شأن لكِ بهذا....قلت لك ستبقين معلّقة....لا متزوجة ولا مطلّقة واسمك سيبقى مقروناً باسمي وستصونين هذا الاسم جيداً.... أما أنا سأعيش حياتي كيفما يحلو لي....أظن أنني لن آخذ الإذن منك..!!.."

قلتها باحتقار يخالف مشاعري فهتفت منفعلة:
" ألأنك رجل يمكنك فعل ما تشاء ؟!.."

" كلا....سأفعلها كونك إبنة عاصي .....وزوجة عديمة تربية أهانت زوجها....من أجل هذا سأفعلها ولن أبالي !!.....انتهى عهد الرقة والحنان عندي...."

لذنا بالصمت برهة من الزمن ...وضعتُ يدي على جبيني مستديراً جانباً ثم عدتُ بوجهي متابعاً كلامي بعد تنهيدة خفيفة:
" الطريق التي تسيرين لن أسير خلفك عليها واذا رأيتني بالطريق غيري اتجاهك أفضل لكِ صدقيني!!.."

رفعت طرفي حاجبيها الداخليين وألصقت بطن كفيها بالباب جانبها تستمدّ منه القوة وقالت لتختبرني:
" اذا طلقني ما دمت وصلت لهذه الدرجة...لا تريد أن تسمعني ولا أن نتقابل بنفس الطريق!!...."

ثبتّ كفيّ جانب رأسها وانحنيتُ مجدداً بجذعي مقرّبا وجهي لوجهها وقلت بكل برود وأنا أحرر يمناي مشيراً لنفسي بسبابتي:
" أنا أقرر ذلك متى أريد أنا.... أنا...هل سمعت؟..."

" إذاً ما زلت تحبني!..."

قالتها واثقة بعد أن أنزلت عينيها أرضا فأجبتُ من فوري:
" متوهمة..!!...ما عدتِ تعنين لي شيئا...."

ازدردت ريقها وارتجفت حدقتيها بعد إعادتها لنظرها إلي عند سماعها جملتي وهمست بتردد:
" كـ...كاذب!....أنت ما زلت تحبني..."

" لنرى اذا ...."

اقتربتُ منها أكثر هامساً قرب أذنها وأنفاسي تلفحها ثم مسكتُ ضفيرتها وقرّبتها لأنفي استنشق منها عبق الأناناس كالمدمن وبعدها أفلتّه والتصقت أكثر بعنقها أمرر أنفي على عنقها اسرق عطرها بينما كنتُ بهذه اللحظة أشبك أناملي بأناملها وهي مستسلمة , خانعة , صاغرة.....بل عاشقة مشتاقة ....صدرها يعلو ويهبط انفعالاً بعد لمساتي ونفسي المثير ثم داعبتُ أنفي بأنفها وهي مسبلة العينين تنتظر القبلة الظمآنة لها وقبل أن ألصق شفتيّ لشفتيها التواقتان المستعدتان للغرق في بحر غرامنا فككتُ يديّ من يديها وابتعدتُ عنها محافظاً على شبرين بيننا ورفعتُ زاوية فمي بابتسامة هازئة واثقة وقلت بنبرة ساخرة:
" أرأيتِ..؟!...رغم هذا القرب منك لم تهتز شعرة واحدة لي اتجاهك... ولم يدق القلب دقة صغيرة في هواك.....يعني...لم تعودي تؤثرين عليّ كالسابق!!...أنا في طريقي للتعافي من هذا العشق المسموم الممنوع...."

جرح نزف من عمق روحها...تكدّست الدموع في عينيها وقاومت لتمنع بكاء مرير يشل أطرافها....ضغطت على شفتيها وأسدلت أهدابها بألم...وقلبها يخفق مخذولاً ...تصرفي أرهقها وعبثي بمشاعرها قتلها...ثواني بقيت على حالها....تحاول وتحاول ألا تريني وهنها وانكسارها وبعد ذلك زفرت أنفاسها ثم رفعت الحجاب عن سماءيها لتتحول لامرأة أخرى تود مداراة ضعف قلبها وجرح روحها وكل أوجاعها وهي تبتعد عن الباب لتقترب مني بجسارة ترفع يدها لتضعها على صدري قرب خائني الذي عهدته وفيّ لها كأنها تريد أن تتأكد من نغماته علّها تكون بلسماً شافياً لكدماتها وقروحها تزامناً مع همسة متحدية لي:
" علمتني مرة أن أضع يدي على صدرك لأنه يقول الحقيقة وأن نبضاته تشي بحبك لي...إذاً هيا لنرى صدق كلامك بأنك ما عدت تحبني!....."

كنتُ قد طوقتُ معصمها بيدي قبل أن تلمسني ولمّا أنهت جملتها شقت ثغري ابتسامة أبيّة عزيزة وقلت وأنا أحرك رأسي يمنة ويسرة:
" كلا يا قطة!!....... ليس من حقك لمسه.....إن كنتِ بالماضي تمتلكين نصفه فالآن هو بالكامل.... سيكون ملك لغيرك!...لغيرك أنتِ.....وأنا الاخلاص طبعي... لن أخون من سيعتني به دون غدر!..."

" ماذا تقصد؟...."

سؤال صدر منها مرتجفاً فأجبتها ببرود وعدم اهتمام:
"لا شأن لك بما أقصد.......لم نأتِ هنا لنتحاور ولا وقت لديّ لأضيعه معك......أضعتِ كل حقوقك عندي....."

بثقة وجسارة هشة تخفي خلفها انهيارات ومشاعر تحولت لركام في احشائها هتفت:
" ما زلتُ زوجتك ولي كل الحق بك!...."

" بالاسم فقط حتى اصدار قراري النهائي بما يخصنا للأبد!!...."

"أنت ظالم!...."

"أجل!...لأوازيك ووالدك بظلمكما.......جرّبنا أن نكون ودودين...ليّنين...متسامحين.... عاشقين مخلصين.!!.....ماذا جنينا غير غدر وإهانة ؟!...."

وانتصبت بوقفتي اكثر عائداً خطوة للخلف أقيّمها بنظراتي هاتفاً باشمئزاز اتقنته :
" يبدو أن الظالم يتلذذ وينمو على الشر فقط ....إذا لك هذا مني ....أرايتِ كيف أنني ما زلتُ كريماً معك؟!....."
وبسهولة وخفة أزحتها عن الباب واضعاً قبضتي على قبضته لأفتحه فهتفت:
"انتظر!....."

بنظرة ازدراء كسابقتها قلت :
" من أنتِ لانتظرك؟!....أنتِ لا شيء عندي!.....اذهبي وتابعي حيث وقفتِ....بغدرك...بحماقتك....بـ� �ـغــرورك....وبقلة دينك وإيمانك!!......."

رفعت يدي عن قبضة الباب واستدرتُ نحوها متابعاً بينما طعنات تغرز بها تكاد تزهق روحها من كل كلماتي ومعاملتي لها :
" خالتك التي كانت بمثابة أمك جعلت نفسها شمعة لتضيء حياتك وأفنت عمرها من أجلك لم ترحميها بقسوتك وعنادك...ظلمتيها بظنونك وحرمتيها من مسامحتك ....كل ما قدّمته لها البكاء ...هل حاولت تصديقها؟!....هل حاولت فعل شيء من أجلها ؟!...كلا ....لمَ؟...لأنك ألمى بنت عاصي رضا.....الفتاة المدللة الطائشة المغرورة......."

رفعتُ يدي مشيراً لها متابعاً بذات الازدراء مستنكراً:
" أنتِ حتى لنفسك لم تقدّمي خير!...هل سأنتظر الخير منك لي ؟!...أما بما يخص ربّك عن ماذا اتحدث؟!...هل ابدأ بتبرجك وعرض مفاتنك؟!....أم بتركك للصلاة ؟...صلاتك تلك التي واظبتِ عليها لأيام ثم حذفتيها من برنامجك لتعاقبيني.....لا تستوعبين أنها لله وأنك تعاقبين نفسك!!.....والعطر؟!...قصة أخرى.... كم مرة نبّهتك عليه وعن حرمته؟!...لا أعلم ....ها أنت ما زلتِ كما أنتِ....تظنين أنك تعاندين الجميع ولا تدركين أنك بكل هذا تلقين بنفسك الى الهلاك!.....على ماذا حصلتِ؟....لا شيء...معادلاتك فاشلة....وتجارتك خاسرة.....انظري لنفسك ولحياتك..."

نثرتُ الملح على جروحها وضاعفت ُ أكثر من آلامها وهي لا تدري أنني أفعل بالمثل لي....أعيش بعذاب ما بعده عذاب.....أنا الآن اخوض حرباً خاسرة .....كل ذرة بي تستغيث وجعاً وأحاسيسي تتخبط ضياعاً وأكملتُ متسلحاً بقوتي وقسوة قلبي :
" هل أنت سعيدة ؟!...كلا!!.....كاذبة إن قلت أجل!!...فوجهك يتشح بالبؤس وقلبك ينبض ألماً أما سمائك إن أمطرت لا تمطر إلا قهراً أو ندماً...أين موقعك بدنيا السعادة ؟!....دراستك بحماقة تركتيها.....خالتك بحقد خسرتيها....أما عن عشقنا...عشقنا الذي كان.... لن أتحدث ...لأنه أكبر من أن يستوعبه عقلك!! ....فاسمعيني للمرة الأخيرة فنحن لن نرى بعضنا...لأنني إن قررتُ يوماً الانفصال ستصل ورقة الطلاق إليك من المحامي...لن أريك وجهي ولن أرى وجهك....والآن إما أن تضربي كلامي بعرض الحائط .....ولن استغرب طبعاً ولن اتفاجأ......أو تأخذينه معك بسفرك وتقلّبينه بقلبك وعقلك معا لربما تنقذين نفسك.....سأهديك نصيحة لأني أشعر أن هذا آخر واجبٌ لي اتجاهك.!!... علّها تكون بمثابة نداء صحوة لك!!....لك حرية الخيار .....قلتُ لكِ معادلاتك بشأن حياتك فاشلة وتجارتك خاسرة ....أنت لا تدركين أن كل تجارة من دون الله هي تجارة خاسرة.....لقد قال لنا جلّ في علاه .."

واستعذت بالله تالياً بتجويد بصوت شجيّ خفيض يعطي السكينة والانشراح:
"...{{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ*وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ}}..."

هزّة أرجفت أغوارها لم تعرف مكنونها ...صوتي لامس مكاناً عميقاً داخلها......آثرت الصمت وعدم التعقيب ولم أفهم أكانت مصغية أم أنها ما زالت متـأثرة من كلماتي الجارحة التي فتكت بها وبقي أن تقع صريعة ؟!....

بكلمات قليلة بسيطة مختصرة حاولتُ تفسير معنى الآيات لها :
" تجارتنا في الدنيا فيها الربح وفيها الخسارة....يوماً تفرحين بها ويوماً تبكين منها .....لكن إن كانت تجارتك مع الله وحده.....سيكون ربحها دائم بل سيتضاعف.....وسترين نتائجها بالدنيا والآخرة.....التجارة مع الله تكون بالإيمان به .....وهي مكفرة للذنوب ...."

صامتة لا تتكلم....كدمية اصطناعية لا تتحرك....بالكاد استشعرتُ أنفاسها ...!!.......سحبتُ نفساً خرج عميقاً من جوفي وقلت بتشديد رغم فقداني الأمل منها:
" لتنجح تجارتك مع الله....عليك بالتوبة!!....سارعي الى التوبة النصوح....توبي وانتظري وشاهدي أي أبواب من الخير ستفتح أمامك....إن كانت بالدنيا أو بالآخرة....."

وبضحكة مبتورة متهكمة أضفت في الحال:
" الله وهبك العقل أرجو أن تستغليه للمكان الصحيح ....إلا إذا أخترتِ أن تثبتي أنك ابنة عاصي.....ابنة عاصي لا غير!!.."

أنهيتُ خطابي ووليتها ظهري فهمست بصوت مخنوق:
" ألن تسمعني ؟!.."

دون النظر إليها أجبتُ باختصار جازماً بحزم بينما كان خافقي يخفق خفقات شفوقة يحاول اضعافي :
" لن أسمعك!!.....لو احترمتِ وأطعتِ لأخذتِ.....أما بتمردك وعصيانك...حُرمتِ.....وأنا سأنفّذ قسمي"

" أي أنّك تخليت وأنت الذي قلت لن تتخلى عني ؟!..."

" لم أتخلَّ بل أنت نكثت العهود وتخطيت الحدود.....اخترتِ طرفك وطردتني من سماء اللجوء.....فاخترتُ طرفي!!..."


" أي طرف اخترت؟!.."

" سأهجرك هجراً.......أليماً.."

قلتها بثبات وأكملت بسري حيث أعيش ثورتي واهتزاز مشاعري.."...يا من كنتِ ألمى الروح وبقيتِ كل آلامي..."

وخرجتُ صافعاً الباب موصلاً قسوتي على قلبينا ذروتها دون أن أستودعها الله كما اعتاد خائني بينما هي من خلفي سمحت لانهيار حصونها متكئة بظهرها على الحائط لتنزلق على مهل حتى صارت أرضاً تحتضن ساقيها وشرعت بنحيب ارتجّ له قلبي الذي شعر بها من بعيد فاشتد به الجوى ليبكي نازفاً عليها ...!!....وهمست همسات واهية تمزق الكبد وهي تضع يدها على بطنها والعبرات تتسابق على وجنتيها:
" لقد كنّا يوماً ....والآن لا ولن نكون !!....انتهت قصتي يا صغيري...مع...الهادي والألمى وستبدأ قصة بطليها....أنا وأنت فقط....ولن نخبر الذين تخلّوا عنا بها !!...."
×
×
×
توجّهتُ إلى مدخل البناية بعد تركي لها وذهابي للقهوة باحثاً عن (رفيف) التي لم أجدها ولمّا وصلتُ الخارج وجدتها تقف عابسة بكبرياء فأشرتُ لها لنتابع سيرنا نحو الموقف وبينما كنتُ أسبقها قليلاً لأنها لم تستطع مجاراة خطواتي الواسعة وخاصة بكعبها الحاد هتفت مغتاظة :
" لا أعلم كيف كنتَ تتحمّل وقاحتها وحماقتها !!..أعانك الله..."

التزمت الصمت ولم أنطق ببنت كلمة فتابعت وهي تحاول اللحاق بي بسرعة أكبر:
" سمعت أن حسب تخطيطاتكم بعد انجاح المهمة ستطلقها ....برأيي هذا أفضل حل فهي لا تناسبك أبداً....لا ديناً ولا نسباً...!!"

شهقت مفزوعة متفاجئة عندما توقفتُ بغتةً مستديراً نحوها مشهراً سبابتي بوجهها ناظراً إليها نظرات نارية هاتفاً بجدية وجفاء :
" رفيف!!... ألم تلحظي أنك سمحتِ لنفسك بالتدخل بما لا يعنيك ؟!....لقد تماديتِ بالداخل وأنت تفتخرين بنسبك وتهينيها بنسبها وأصلها .....أنتِ كنتِ تكلمين زوجتي إن لم تدركي هذا .....ألمى زوجة هادي وعلى الجميع احترامها ولن أسمح لأحد بإهانتها.....هل فهمتِ؟!....لا أريد ان اسمع أي كلمة خارج نطاق قضيتنا....قومي بعملك وعملك فقط ولا تظني إن لعبنا هنا وهناك بالماضي ونحن أطفال فإذاً أصبح من حقك الخوض في حياتي الشخصية.... وقد أعذر من أنذر!!.."

وأدبرتُ عنها متجهاً لسيارة صديقي التي أتيتُ بها بعد أن أوقفتُ سيارة أجرة من أجلها فهمست من خلفي حانقة وهي تلحقني بنظراتها:
" ما زلتَ كما أنتَ...لم تتغير!!....هادي المغرور الذي يتحوّل عندما يمس شيئاً كرامته أو أحداً يخصه !!.."

وزفرت أنفاسها المشحونة واتجهت الى سيارة الأجرة وهي تتمتم:
" حاضر سيد هادي لن نقترب من سعادة السفيرة خاصتك ....ولنرى أين ستصل بعلاقتك الفاشلة معها !!..."

~~~~~~
وصلت الحيّ القديم وبيت مربيتها بوقتٍ ليس متأخر من الليل!....كان ميعاد طائرتها قبل المغرب من نفس يوم الجلسة الأولى لقضية والدها.....عادت تحمل هموماً أكبر لا تستطيع تحمّلها.....أغلِقت الأبواب بوجهها .....وحياتها تزداد قتامة .....هي ضالّة حائرة....لمَ لا تستطيع اتخاذ قرار صحيح لمرة بحياتها ؟!...هل هي بهذه الدرجة من السذاجة أم ماذا؟!....لمَ لا تهتدي لشيء.....ضغوط وضغوط تتراكم على كاهلها.....كالمرة السابقة لاحظت السيدة (سهيلة) و(رهف) شرودها وحزنها المرسوم على وجهها .....قلبيهما ينفطران لحالها.....إلى متى ستتحمل كل الكوارث التي تهلّ عليها ؟!...إلى متى ستتشبث بعنادها؟؟!.....لمَ هي بعيدة عن الله لهذه الدرجة ؟!....ألا تعلم أن بقربه مصدر سعادتها ؟!....ألا تعي أن بطاعته تفتح أقفالها ؟!.....ألا تدرك أن الزمن يجري والعمر يقل دون أن تقدّم شيئاً لحياتها الأبدية ؟؟!.....هل ظنّت ستكفيها طيبتها ونقاء قلبها للفوز إن في الدنيا أو الآخرة؟؟.....وماذا عن فرائض الله وشرائعه؟.....أين هذا في حياتها ؟!.......جلسن ثلاثتهن بصمت بينما ضجيج من الأفكار الشعواء يزعج كل واحدة منهن على حدة ولكنهن يشتركن بأنها جميعها تتركز عليها فقط ....ماذا ستفعل؟!...وجهها مكفهراً وحالتها يرثى لها ....الملامح ذابلة .....وعينيها تنذران بقدوم طوفان سيغرقها.....أما قلبها الصغير يجاهد ليبقيها على قيد الحياة بعد الضربات التي تلقاها...ضربة تلو ضربة دون رحمة برقتها ويتمها.......افتتحت الحديث كبيرة الجلسة بعد اخراج تنهيدة حارة:
" ها بنيتي ابشري ماذا حصل معك؟!!.."

ثواني أم دقائق....ظلّت تحدّق بهما تنقل نظرها بينهما دون إجابة...والضجيج يعلو ويعلو حتى كاد يزهق عقلها ...وبهبّةٍ سريعة منها قامت من مكانها متجهة الى طاولة التلفاز وأمسكت المصحف الموضوع عليها ثم عادت جاثية أمام مربيتها تمدّه إليها ناظرة بتوسل ورجاء لتنفجر بكاءً حاولت بكل قوتها حصاره وهي تقول:
" أنا اثق بكِ خالتي وبوعودك لي ....اوعدتني بأنك لن تخبري أحداً عن حملي لما طلبت منكِ....وقد نفذت وعدك والى الآن لم تخبري السيدة إيمان .....لكني الآن لا أريد وعداً....بل أريد قسماً.......بالله عليك خالتي اقسمي......اقسمي أنك ستحافظين على سري.....لن يعلم أحد بحملي....لا السيدة ايمان ولا غيرها .....لا أريد أي زلة منك تجعل ذاك القاسي يعلم أنني حامل بابنه ......أنا لا اتهمه بأنه سيؤذيه .....لكنه باع حبنا ولم يسامحني ...لم يسمعني..."

بهتت ملامحها وهي تسمع لكلماتها واعتصر الألم فؤادها ...كانت تريدها أن تكون أقوى وأشجع لتوصل خبرها فهي تعي جيدا أن حياتها وسعادتها الحقيقة في موطنها الأصلي وقرب زوجها وخاصة أن هنالك طفلٌ يربط الطرفين ....جالت بحدقتيها على وجه الجاثية أمامها بحيرة وذهول وهمست:
"لمَ لم تجعليه يستمع لك لو مجبراً؟؟"

عيناها ما زالتا متكدستين بالدموع وكان وجهها محمراً كأنه جمع كل الدماء من جسدها وبغصة مريرة وجروح عسيرة أجابت:
"كنتُ أريد اخباره.....قسما كنتُ متحمسة لإخباره... لكني رغبتُ بالأول استشعار حبه لي....وددت أن.... أن يهديني حضن صغير ....أو..أو همسة دافئة... حتى نظرة حب كانت ستكفيني....ستكفيني لأطمئن من ناحيته كما كنا وأقول له ما عندي ....رغم ما مررنا به كان هو أماني...كبرت على ذكراه...وعشت معه حتى لو كان باسم آخر أسعد أيامي .....حلمت أن كل شيء سيصبح على ما يرام.......أنا أحبه وقهري منه وخذلاني ذاك شيء آخر لن انكره ولن أنساه......كنتُ قد استجمعتُ أفكاري في الأيام السابقة.....فكرت أن ابننا أهم من أي شيء وسنعطيه حياة كريمة.....وأنا أدرك أنني لا استطيع وحدي حمل مسؤوليته......رهف ستتزوج...وأنتِ لا ينقصك هموماً ومسؤوليات......وأنا أضعف من أن أربي طفلاً لا أنقص من حاجياته شيئاً... والأهم أنا أكثر من تدرك شعور النقص القاتل عندما يفقد الطفل أحد والديه...لا أريد لابني أن يعيش حياته ناقصاً...أريده أن يكون في كنف والديه.....فكرت أن أفصل بين قضيتنا وعلاقتنا ....علاقتنا تبقى كما هي أما قضيتنا بعد الحكم نفتح المواجهة من جديد ....إن كان لصالحه مع اثباتات سأعتذر.....وإن كان لصالحي و لم يعتذر سأسعى لأخذ الاعتذار منه.....وكنت سأحارب من أجل هذا.....قررتُ أن لا افكر بالمجهول وسأعيش يومي بيومه.......انا عشت اسابيعي بصراعات لوحدي حتى اقرر وبفضل كلامكن الذي كان بمثابة تربيته على قلبي ...تسامحت رغم قسوته معي......وكله من أجل ابننا قبل حبنا .....ذهبتُ الى هناك ببصيص أمل متوقف على تعامله معي .....لكني صدمت....لقد قابلتُ شخصاً آخراً مصرّا على انهاء علاقتنا .....لا يرغب بي ومصمم على عيش حياته كما يريد......لم أجد أمامي هادي المتسامح الحنون.....أعلم كسرته وخذلته.....لكن مهما كان ذنبي ...عقابه كان أقسى....هو من أنهى بيده قصتنا ....إذاً أنا سأكتب قصة جديدة لي ولابني.....وستكون بعيدة عنه!!....."

وتحشرج صوتها أكثر وأضحى أكثر ضعفاً وهي تعيد وتكرر طلبها بإصرار:
" اقسمي خالتي....أن حملي هو سرنا ثلاثتنا مهما كان..."

آزرتاها بالدموع والبكاء المصغيتان لها ثم مدّت يديها تأخذ منها المصحف لتؤكد على وعدها لها بقسمٍ لا تراجع عنه ....فعلت هذا من أجلها ومن أجل اراحة بالها وهي واثقة أن الله سيتولّى ما يخفي المستقبل....وبعد أن استمعت لقسمها تنهدت براحة مبتسمة فهي حصلت على مبتغاها وكفكفت دموعها بكفيها وهي تنتصب واقفة ...لاذت بالصمت قليلاً وهدر قلبها بخوف لا تعلم مصدره ....تطلّعت على الجالسة لوهلة ثم وضعت يدها على بطنها ناظرة إليه وعادت بعينيها مرةً أخرى إليها وهمست بوجل وصوت خافت:
" خالتي....أريد أن أطلب منك طلب!!.."

" قولي بنيتي!...أسمعك.."

عادت تقرفص أمامها وأمسكت يديها وهمست :
" أنا أقسمتُ عليك أنني لا أريد أن يعلم أحد بحملي....لكن وصيتي لكِ الآن...إن...إن حصل لي شيئاً بعد ولادته !......سيكون هو أمانتك....أمانة عليكِ إيصالها للسيدة عائشة أم هادي لتربيه على حياة دافئة كريمة وأنا أثق من هي وكيف تكون تربيتها ...فهناك سيكون موطنه وبيته...ليعيش عيش رغيد ساكن دون شتات....أنا أعي ذلك....فبأيامي القليلة معهم ....علمتُ ماذا تعني أسرة وعائلة حقيقة محبة لبعضها.....ما حصل بيني وبين ابنهم لا ينقص من حقيقتهم شيئاً....هذا شيء وذاك شيء آخر !!....سلّمي لهم ابني ليضعوه بأعينهم.....إن لم أكن موجودة.."

انقبض قلبها وجلاً وغضنت جبينها تنهرها:
" ما هذا الكلام ألمى؟....أنتِ بإذن الله من ستربينه وستكونين أعظم أم "

تبسّمت بوجع وهمست:
" ربما نصيبه كما نصيبي في الحياة.....أن يفقد والدته.....لذا أحببتُ أن أحملك هذه الأمانة وأنا بصحة وعافية !!.."

×
×
×

ظلامٌ دامس والناس نيام ....كان الوقت بعد منتصف الليل من نفس اليوم.... واقفة تنظر من النافذة شاردة بالسماء تعيد شريط حياتها .....ومع كل ذكرى تزداد وجعاً واختناقاً....وصلت نهاية المطاف إلى كلامي الأخير الذي عاد يرن في أذنها فغرقت بوجع أكبر وضياع أصعب....حاولت ابعاد صوتي عنها ....لم تفلح!!....تململت (رهف) النائمة على الأريكة فبخفة اتخذت السرير تتصنّع النوم قبل أن ترى أرقها!!......قامت( رهف )تتمطّى واتجهت الى الحمام للوضوء ثم عادت وارتدت أسدالها البيضاء التي تعطيها هالة من نور فوق نور الإيمان الذي يضيء وجهها .....كانت (ألمى) تدثر نفسها تاركة فرجة تراقبها منها.....صلّت قيامها ورفعت كفيها متضرعة الى الله....لم تنسَ الدعاء لكل أحبائها بينما تلك تصغي لكل كلمة تصدر منها وتحاول كبت مشاعر غريبة داهمتها ترغب بالخروج منها رغماً عنها ولمّا وصلت (رهف) إلى:

" يا رب أنت تعلم أنني أحبها وأنها أصبحت لي صديقة وأخت لم تلدها أمي.....يا رب جئتك سائلةً وأنت الذي لا ترد عبداً طرق بابك "

" اللهم إني أسألك لصديقتي ألمى التي أحببتها فيك والتي لم تلدها أمي الهداية والرشاد والخير والسعادة الدائمة في الدنيا والآخرة"

" اللهم اصرف عنها الهم والغمّ والكرب، ربّي أخرجها من حلق الضيق إلى أوسع الطريق"

" يا رب غفرانا وتوبة نصوح لألمى التي أحب ولا أملك سبل الهداية لها"

" يا رب قلت وقولك الحق انك لا تهدي من أحببت ولكنك تهدي من يشاء"

" اللهم هي أمَةً ضالةً في عتمة الحياة فأنر بنورك طريقها وافتح لها بابـ..."

وقطعت دعائها عندما انقضت عليها أرضاً تحتضنها مجهشه بالبكاء تلازمها رعشة قوية وتشعر بصقيع رهيب يجتاح أوصالها ...تبكي وتبكي دون توقف والصقيع يزداد وتلك تشدد من احتضانها هامسة :
" ألمى حبيبتي انظري إليّ...ما بك."

لم تستمع لها ودفنت وجهها على صدرها أكثر مستمرة بنشيجها و(رهف) مستمرة بتهدئتها ...جسدها ما زال يرتجف وفكيها يصطكان ببعضهما ....غثيان مفاجئ أحلّ عليها...وتضغط بقبضتيها على ذراعيّ صديقتها تحاول اخفاء نفسها كأنها هاربة خائفة من شيء يلاحقها وهمست باختناق:
" رهف أنا أموت....اختنق اختنق....أكره حياتي....كل شيء ضدي.....لا سبيل لي يعطيني أملاً.....شيئاً يجثم على صدري.....أنا خائفة رهف...خائفة....كأنني أرى ملك الموت وخلفه جحيم....أرشديني رهف....ماذا أفعل؟...لا أريد أن اموت الآن....أنا لستُ مستعدة ...لستُ مستعدة...
...أنا سمعت دعاءك لي.....سمعت.....خائفة يا رهف ....انجديني....."

ابتسامة نقية زينت محيّاها صاحبتها دمعة تشبهها وهمست وهي تربّت على ظهرها:
" أتريدين أن تتنفسي براحة؟!"
بالكاد أخرجت همسة وهي على وضعها:
"أجل."

" الموت سيأتينا لا محالة ....لكن....أتريدين إن رأيت ملك الموت تضحكين بدلاً من أن تبكين؟؟"

حرّكت رأسها المدفون على صدرها ايجاباً دون همس فتابعت:
" هل تريدين أن تشعرين نفسك خفيفة كالفراشة وكأنك ولدتِ من جديد.....لا هموم....لا ذنوب.....لا عيوب ؟؟"

همست بين الرجاء والوجل:
" أجل.."


" إذاً هل ستستمعين لما سأطلبه منك؟"

ظلّت صامتة دون ردة فعل فأردفت تلك:
" الحل ليس لدي...لكني أعلم تماما أين مكانه هو.....فقط قولي من اعماق قلبك أنك تريدينه!!"

قالتها وكررت سؤالها السابق:
" ها ماذا قلت؟.... هل ستستمعين لما سأطلبه منك؟"

ما زالت قابضة على ذراعيها بخوف باحثة عن الأمان وببطء شديد رفعت رأسها المخنوق عن صدرها وكان شعرها ملتصقاً بوجهها من كثرة الدموع وحدّقت بها تلتمس منها الحلول وحدقتيها باهتتان ترتجيان الراحة والأمان....الفرح والانشراح.....كانت كأنها تحتضر وتريد أن ينشلها أحد من حافة الموت.....كانت نظراتها الضعيفة أعمق من أي كلام.....وضربات قلبها الملتاعة أصدق من أي عهود ....تريد....تريد أمل....تريد فرج....تريد نور وطمأنينة....أجل هي تريد......تريد أن تصرخ أجل دليني أين ذاك المكان لكن لسانها ثقيل...ثقيييل....مترددة خائفة.....ابتلعت ريقها علّها تساعده على النطق وأسدلت أهدابها ثم بشفتين مرتجفتين همست:
" أجل....اريده....قولي لي أين مكانه وماذا افعل؟؟!"

يا الله....يا الله....لم تصدق بأنها وافقتها على أول خطوة.....يكفيها أنها استمعت لها ونطقت أنها تريد لأول مرة.....كم مكثت من أسابيع عندهم وهي تلمح لها لعل وعسى تؤثر عليها لكن كل شيء كان مغلق عندها ومغشياً على بصيرتها......مسكتها من عند كتفيها وهمست وهي تتحرك لتنهضا سويا :
" هيا إذاً معي...."

تجاوبت معها بجسدها الضعيف .....وسارتا حتى وصلتا الحمام وقالت وهي تشير إليه:
" أولا عليك أن تكوني لائقة بذاك المكان.....لذا ادخلي واغتسلي وتوضئي..."

تبسمت ابتسامة مكلومة وعيناها غائمتان من شدة ما عانت واومأت ايجاباً ثم دلفت إليه لتغتسل وحضرت لها (رهف) ملابسها النظيفة ....بعد حوالي عشر دقائق خرجت ترتدي منامتها واتجهت إلى غرفتيهما .....ارتسمت ابتسامة فخر على وجه (رهف)وزلفت منها حاملة أسدال الصلاة البيضاء وناولتها إياها لترتديها.....استجابت لطلبها بكل خنوع....مستسلمة...شغوفة للبحث عن تلك السعادة .....أدارتها للمرآة لتنظر لنفسها وهمست باعتزاز ومحبة:
" بسم الله ما شاء الله ...اصبحت كالبدر الذي ينير الكون علينا.....حفظك الله من كل سوء"
راحت تتأمل وجهها .....منذ أسابيع كثيرة لم تره بهذا البهاء والجمال.....هي نفسها لاحظت كأن تغييرا طرأ عليها بالحال.....كانت دوما شاحبة......أما الحجاب الأبيض اضاء وجهها لتصبح كأنها حورية تسير على الأرض......استدارت لتقابل صديقتها وهمست بصوت أكثر صفاءً عن ذي قبل:
" ها....أين ذاك المكان؟!"

امسكتها من ذراعها واوصلتها لسجادتها الصلاة التي كانت تصلي عليها قبلها وأشارت هاتفة:
" هذا هو المكان.....لا داعي لتصعدي الجبال....ولا ان تدفعي المال.....كل مكان طاهر على الأرض يكون فيه الحل لضيقنا.....نجد عنده من يسمعنا ويلبي نداءنا......هنا تزال همومنا وتنشرح صدورنا.....هنا ستتهافت علينا الحلول دون عناء منا....."

التفتت إليها واضعة يدها على قلبها وأضافت:
"فقط اسجدي وناجي ربك......اسأليه أن يتوب عليك عن كل معصية فعلتها وكل تقصير كان منك اتجاهه....لقد قال الله سبحانه وتعالى..
{{ كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب}}......اسجدي واقتربي من الله .....اسجدي يا ألمى وأفرغي ما في جوفك....اسأليه عن حاجتك .....والأهم اخلصي النية عندما تفعلين كل ذلك..."

رجفة هزّت قلبها....ورعشة سرت في بدنها وهي تستدير بمهابة وخشية لتتخذ قبلتها.....بتمهّل وارتعاش رفعت يديها لخالقها بينما لم تقوى على رفع عينيها....إنها خجلة منه...محرجة من التقصير بحقه ....لكن بطمأنينة زارت قلبها تيقنت أنه الوحيد الذي لن يخذلها....أنه بأي وقت سيفتح لها أبوابه....أنه الرحمن الرحيم الذي سيرحمها .....عندما أوصلتها للمكان الصحيح أدبرت عنها خارجة تاركة لها المجال لتخلو بنفسها مع ربها دون قيود أو حواجز واغلقت الباب خلفها......ما زالت رافعة يديها للسماء وما زالت خافضة حدقتيها للأرض....استحضرت النية الخالصة بأنها تريد وتجزم أنها تريد ولم تدرِ كيف انفكت عقدة لسانها لتلهج داعية بنبرة بين التذلل والاصرار:
" يااا رب...جئتك اعترف بذنوبي ولا يغفر الذنوب الا أنت .....يا الله سامحني وأعف عني...أنا قصّرت في حقك وأنت أكرم الأكرمين .....يا رب إني ظلمتُ نفسي ووحدك الرحيم بي .....أنت من تعلم بحالي فأسألك أن تبدله لأحسن حال ......يا الله انا فتاة ضائعة فدلني ...دلني يا كريم الى صراطك المستقيم....يا رب افرج همي ويسر أموري وارزقني اسباب السعادة وانشراح الصدر....يا الله لا لي سواك يا ....."

ولم تعد تتمالك نفسها بعد ثباتها اليسير داعية بأقل الكلمات التي تفقهها فخرّت ساجدة الى الأرض منهارة وكأن الأرض تزلزلت من تحتها فجعلتها تهتز وتهتز لتنفضها وتزيل عنها ذنوبها وهمومها ....وبرجاء وتذلل...وبضعف وتوسل....وبنية خالصة وعزيمة صادقة همست لربها وهي ساجدة :
"رباه.... اقبل توبتي يا رباه"

فارتفع نشيجها وزاد نحيبها وهي تكرر جملتها بإصرار لتنزل أول دمعة لا سابقة لها عندها.....هي دمعة التوبة!!

~~~~~~~~~~~
غزلت لنا الحياة أسابيع رتيبة فسجّلنا شهرين على لقائنا الأخير......لم أسمح قط لأحد بفتح سيرتها أمامي....وقد لبّوا طلبي.....لم يهمني احتراما أو خوفا من تنفيذ قسمي.....المهم شهرين لم اسمع اسمها....أما الخائن لن اشي عنه وعن ما يفعله بي ليلاً.....وخاصة إن وقعت أرضي على مشبك شعرها المنسي...أمانتي الثانية !!........كنت بهذه الأيام اشغل نفسي ما بين شركة أبي والمعسكر .....لم يكن حالي يسرّ البال وكانت نبض الحياة تتحسر على وضعنا.....أنا أعلم أنها ليست راضية عن قراري بحقنا....فهي لا تقبل بالظلم ولا تريدني أن اكون ظالماً...وبالنسبة لها قطع سيرة المدللة وعدم السؤال عنها هو أكبر ظلم بحقها.....لكني ما زلتُ اعاند وأكابر.....اريد فقط أن اشفى من حبها ....ثم لكل حادث حديث!!......في صباح هذا اليوم الربيعيّ وهو يوم الجمعة تناولنا الفطور معاً أنا وأمي و(شادي) ولمحت أن ذاك الكلام الذي كررته على مسامعي في الآونة الأخيرة آتٍ لا محالة....بإضافة صغيرة تكسر جزءاً من قانوني الجديد بحق تلك (الألمى).....تنحنحت وهمست بجدية فيها الحزم بعد إرتشافها رشفات من كأس الشاي:
" سأقول كلمة وستسمعها للنهاية.....وإياك أن تتخذ قسمك ذريعة"

فهمت قصدها فقلت:
" أمي!!.."

قاطعتني ترفع سبابتها قاطبة حاجبيها:
" قلت ستسمعني ....أنا لا أتغنّى بها أو احكي لك عنها قصة ألف ليلة وليلة....هي كلمة واحدة.."

زفرت انفاسي بضجر وارخيت جسدي هاتفاَ:
" ما هي؟؟!"

قالت:
" لا اريد لك أن تكون ظالم.....أنت قطعت حبال الوصال بينكما وقطعت الأمل أمامنا بما يخص لمّ شملكما........إذاً حررها منك لترى حياتها.......لا تكن ظالما وقاسي!!.."

بوجهٍ واجم وضيق أجبت:
" لستُ ظالم.....أنا أدرك تصرفاتي ....اريد أن أعاقبها واربيها .....رجاءً أمي....أنا أعلم ماذا أفعل ولا اريد اي تدخل......"

تبسمت ساخرة بقهر وهتفت:
" تكذب على نفسك.....أنت ما زلت تحبها لذا تستصعب الانفصال عنها ..اما بشأن عقابها وتربيتها هذه مجرد حجج واهية فلو كان كذلك لما منعت الجميع عن جلب سيرتها واخبارها...."

" أمي...لو سمحتِ لنغلق هذه السيرة.....لطفاً لا اريد أن اعكر مزاجي!!...."

عدّلت جلستها بتأهب وقالت:
" لن تنساها الا اذا اشغلت نفسك بأخرى وهكذا ستحررها منك بسهولة...."

قلت منزعجاً:
" أمي هل تريدين أن تصلي لنفس السيرة؟؟....قلت لن اتزوج!!"

ردت بصوت متحشرج متألمة واحتقنت عيناها بالدموع:
" اريد أن تعيش حياتك....اريد أن أرى اولادك....اريد ان تحررها منك لترى هي الاخرى حياتها....حرام ما تفعله بحقكما ......لم اطلب منك يوما شيئا ولم اجبرك على شيء......لكن عليك أن تتزوج .....لديك فتاتين من أفضل الفتيات.....نسب واخلاق وجمال.......أشرتُ لك بالسابق على رفيف ابنة شقيق السيد سليم.....وسامي اخبرك عن تسنيم شقيقة صديقه عبيدة ......اختار عروسك وامضي نحو المستقبل ...كفى...كفى.."

لوى (شادي) فمه بازدراء وتمتم بسره هازئاً:
" كنا بفأرة وأصبحنا بفأرتين.....لا حول ولا قوة الا بالله"

لم يعجبني الحديث الذي بات يتردد على مسامعي في اسبوعي الأخير فقمتُ من مكاني قائلاً:
" عن اذنك امي.....سأتجهز لصلاة الجمعة...."

اسندت ظهرها للخلف بإحباط وقالت بتصميم وهي ترسم ضحكة ساخرة:
" اهرب....لكن هذا الموضوع سينتهي واليوم!!"
×
×
×

عدتُ بعد العصر الى البيت فوجدتُ شقيقتي (دنيا) عندنا .....سررتُ بوجودها وانضممتُ لجلستهم الدافئة وبعد احاديث عامة عادت أمي لتفتح نفس الموضوع متخذة شقيقتي سنداً لها بمسعاها....ومن صد ورد بيننا بين الاصرار والتشبث على الرأي من قِبلِهن والرفض القاطع من قبلي هتفت أمي بحنق :
" إن لم تختر بنفسك ما ومن يخص مستقبلك ...سأختار أنا........لا تغضبني منك!!..."

لأول مرة تنطق نبض الحياة كلمة غضب أمامي.....قشعريرة خوف أصابتني....وانقباض بالقلب فتك بي......فعزمتُ على اتخاذ قرار ....هي ترغب برؤيتي سعيداً وابني مستقبلي.........استأذنتهم وصعدتُ الى غرفتي....حضّرتُ حقيبة صغيرة ونزلت الى مرآب بيتنا......أخرجت خيمتي وبندقية الصيد ووضعتها بسيارة الدفع الرباعية السوداء خاصتي والتي وصلت أخيراً من تلك البلاد ....عدتُ الى المطبخ وأخذت ما احتاج لتحضير الطعام ووضعت بعض الأطعمة الخفيفة بصندوق حافظ الطعام ....تفاجأت أمي عند دخولها المطبخ ورؤيتها لما أقوم به فهتفت سائلة باستغراب:
" الى أين ان شاء الله؟...أهو هروب؟..؟

ضحكت ودنوتُ منها مقبلاً رأسها وهمست:
" ليس هروبا أمي ....من أجلك قررت أن اعتزل وحدي في الغابة اعلى الجبل لاستجمع أفكاري واختار ما يخص مستقبلي .....وعند عودتي بإذن الله سأخبرك"

فركت كتفها بمداعبة وغمزتها هاتفاً قبل أن أحمل اغراضي:
" المهم رضاكِ عني أماه..."

ضحكت مستبشرة فأصبح وجهها نضراً وهمست:
" رضي الله عنك بنيّ......اسأل الله ان يختار لك ما هو خير لك.....ولا تنس موضوع الطلاق....."

اومأتُ مبتسماً ناظراً إليها بحنان وقلت قبل أن أخرج:
" إن شاء الله يا أم هادي.......استودعكم الله.."
×
×
×

وصلتُ أعلى الجبل بعيداً عن صخب الأحياء السكنية ونصبتُ خيمتي قرب الأشجار .....هذه الأجواء من أكثر ما أحب....ليل ...وسكون....قمر ونجوم.....ورائحة الطبيعة تلفحني ......اشعلتُ ناراً وسرحت بالسماء المظلمة يشق عتمتها القمر بلطافة.......امضيتُ ليلتي أفكر وأفكر......وبين الفكرة وأختها وجهها يزيّن الفضاء أمامي........حاولتُ طرد صورتها واسكات وجيب قلبي النابض بحبها....عليّ أن انساها واتعافى من حبها ....بعد وقت طويل أصابني النعاس فدخلتُ خيمتي لأنام وكنتُ أشعر بطيفها يلازمني....ومع كل خاطرة تكون هي فحواها والمصدر خائني يكون ايضاً العقل منافساً له يحثّني لأنساها والتفت الى مستقبلي......!!.......رحتُ بنومٍ عميق كعاشقٍ بائسٍ غريق وعند الفجر بعد صلاتي مارستُ احدى هواياتي صيد الطيور......وهكذا أمضيتُ يومي بين أحضان الطبيعة بسعادة لم تزرني من شهور !!......وعند المساء عدتُ حاملاً قراري النهائي......بشأن حياتي.....!!
×
×
×

كانت تنتظرني على أحر من الجمر .....لتسمع قراري وترى اختياري....جلسنا في غرفة المعيشة جوار بعضنا والتفتُ إليها فبدأت بالحديث متفائلة:
" اخبرني بنيّ ما هو قرارك؟؟"

كم هو صعبٌ اتخاذ القرار.....قرار يغير مجرى حياتنا.!!....نرسم أحلاماً كثيرة ونسعى لتحقيقها ...وفجأة تخرج لنا عقبة في طريقنا تجعلنا نسلك اتجاهاً آخراً كرهاً لا طوعاً.!!..... لقد أغلِقت السبل في وجهي وتعاقبت العراقيل أمامي لتهدم أحلام سنيني التي عشتها معها....مع من خانت خائني.!!.... فها أنا عدتُ من هروبي سالكاً ذاك الاتجاه مرغماً لأن لا خيار لديّ!!.. لقد وعدتها أني سأخبرها بما فكرت وقررت وعليها تقبّله مهما كان !!....لذا أدليتُ حاسماً الأمر ناظراً لعينيها بثبات هاتفاً دون تردد بما أملى عليّ قلبي وعقلي اللذان اجتمعا أخيراً بعد سنوات من صراع حاد أنهك عمري عبثاً :
" اتخذتُ قراري....لن أطلق... وسأتزوج!!.....وقد اخترتُ عروسي!.."
أتيته بقلب تائب يجر ورائه العذر والرجاء
فما كان منه إلا أن استل خنجرا من كِبر وأخذ يطعن حتى سالت الدماء
أي حال يبقى عليه العاشقين من بعد وجفاء؟!
وقلب كل منهما يستجدي أين الوفاء؟!
في قانون الحب ممنوع الكبر والعناد والجفاء
فهل للمحبين غير الحب طريقا ومن العشق الا الارتواء؟!
ظمأ العاشقين يُروى بالهيام لا بالماء
فأمطر على حبيبك منك عشقا يصل به عنان السماء..!!
(( خاطرة من الرائعة رعد السما ))

×
×
×

كانت تنتظرني على أحر من الجمر .....لتسمع قراري وترى اختياري....جلسنا في غرفة المعيشة جوار بعضنا والتفتُ إليها فبدأت بالحديث متفائلة:
" اخبرني بنيّ ما هو قرارك؟؟"

كم هو صعبٌ اتخاذ القرار.....قرار يغير مجرى حياتنا.!!....نرسم أحلاماً كثيرة ونسعى لتحقيقها ...وفجأة تخرج لنا عقبة في طريقنا تجعلنا نسلك اتجاهاً آخراً كرهاً لا طوعاً.!!..... لقد أغلِقت السبل في وجهي وتعاقبت العراقيل أمامي لتهدم أحلام سنيني التي عشتها معها....مع من خانت خائني.!!.... فها أنا عدتُ من هروبي سالكاً ذاك الاتجاه مرغماً لأن لا خيار لديّ!!.. لقد وعدتها أني سأخبرها بما فكرت وقررت وعليها تقبّله مهما كان !!....لذا أدليتُ حاسماً الأمر ناظراً لعينيها بثبات هاتفاً دون تردد بما أملى عليّ قلبي وعقلي اللذان اجتمعا أخيراً بعد سنوات من صراع حاد أنهك عمري عبثاً :
" اتخذتُ قراري....لن أطلق... وسأتزوج!!.....وقد اخترتُ عروسي!.."

ارتسمت ابتسامة مترددة على محيّاها وهمست سائلة بتعجب:
" لن تطلق؟!..."

" أجل....لن اطلق!!.."

أجبتها ناظراً إليها فتلاشت ابتسامتها وطرقت رأسها إلى حجرها وتمتمت:
" لم أعد افهمك بني!..."

أرجعت وجهها صوبي وقالت مستنكرة:
" حقاً لم أعد افهمك ولا أفهم ما تريد...لن تطلق؟..هل بهذه السهولة ستظلمها؟!.!!"

تنهدت بأسى وأكملت سائلة بخيبة دون أدنى حماس:
" وأيّ عروس اخترت؟!..."

لذتُ بالصمت ناظراً إلى الفراغ سارحاً باختياري لثواني معدودة ثم أعدتُ حدقتيّ إليها مع ابتسامة مائلة وهمست قبل أن اقف مكاني:
" سأريكِ إياها بنفسي!!"

وتابعتُ بعد وقوفي أمامها خافضاً بصري لوجهها الذي كساه التساؤل:
" انتظريني!"

ظلّت مشدوهة لبرهة ثم أمسكت يدي بريب هامسة :
" إلى أين؟!."

تبسّمتُ وقلت:
" سآتي في الحال!.."

ثم غضنتُ جبيني بجدية هامساً رافعاً سبابتي بتأكيد قبل أن أوليها ظهري:
" لن أسمع أي اعتراض أماه.....ستتقبلين اختياري الذي ساقه الله لي !!.."

تركتها لدقائق قليلة بينما كان الفضول يتلاعب بها فتحدثت في سرها " يا ترى من التي اختارها ؟..ولمَ سأعترض وأنا التي ضغطتُ عليه ليتزوج ؟!.."

عدّلت جلستها قاطبة جبينها وأكملت في نفسها " أنا غير مرتاحة.....ابني الذي أعرفه لن يستسلم أو يقبل الارتباط بامرأة بسهولة وخاصة أنه عاشقاً لألمى مهما حاول التناسي!!.."

تأففت وتطلعت صوب باب غرفة المعيشة الواسع وتمتمت بصوت خفيض وهي تنتظرني:
" أم أنه بالفعل اختار عروساً ؟! ...ولكن من منهما؟... رفيف أم تسنيم ؟!...لم أتوقع الرضوخ منه لطلبي بهذه السهولة....أمره غريب..."

ولما رأتني دالفاً إليها ضيقت عينيها تركّز على ما أحمله بيدي لترفع بصرها بعدها إلى وجهي وملامح فضول واستنكار ظهرت عليها وهي تتململ لتقوم إلا أنني سبقتها واضعاً كفي على كتفها لأمنعها قائلاً:
" اسمعيني أمي...!!."

غضنت جبينها وسألت:
" لمَ أحضرتَ هذه ؟!...وما علاقتها بموضوعنا ؟!.."

أحكمت بإمساكها بكلتا يديّ ومددتها نحوها وهتفتُ واثقاً بقراري دون تراجع:
" معشوقتي..."

رفعتها إليّ وقبّلتها بحنيّة وأكملت:
" عهد هي التي اخترتها يا نبض الحياة........عروسي البندقية وعرسي سيكون الثورة ان شاء الله...أما قاعة الاحتفال في المعسكر....سأزفّ هناك على أنغام دباباتنا ورصاصاتنا....سنرقص فوق انتصارنا وأرجو من الله أن يهديني شهر العسل في الجنة بعد حصولي على تذكرة دخولي الثمينة.....وهي الشهادة!!.."

اتسعت عينيها بصدمة وارتجف قلبها وقالت:
" ما الذي تقوله بني؟!....ما هذا الكلام ؟!..."

اهديتها ابتسامتي العطوفة المحبة ثم جلست جانبها وأمسكتُ يدها بيديّ وقلت بهدوء راجياً رضاها:
" أمي.....أنا ذهبت لأفكر كيف سأجعلك ترضين عني دون ارتباط بأخرى.....لا أتحمل زعلك ولا استطيع مواجهة غضبك.....وبينما كنتُ حائراً هناك بكيفية خروجي من هذا المأزق وردني اتصال من السيد ماجد لأذهب للمعسكر بعد تجدد اشتباكات على الحدود وطلبوا مني رسم خطة محكمة ضد الأعداء.......حمدتُ الله الذي اختار لي الطريق وأخرجني من حيرتي معك .....لقد أرشدني لأجمل وأغلى عروس .....بندقيتي في ثورتي....!!....أنا سأستقر هناك الى ان يشاء الله ...سأذهب خلال هذا الاسبوع......"

اطرقت رأسها ليديّ الممسكتان بيدها وتنهّدت ثم همست بضياع:
" بنيّ...أنت كبرت في حب الوطن أجل....تدربت لتدافع عنه وتوهب روحك فداءً له لن انكر.... لكن هذا لا يوقف حياتك ....اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا....عليك الزواج وبناء عائلة !!"

قلت بشيء من العتاب وابتسامتي لم تفارقني وهي ما زالت على حالها:
" أمي....أنا لم اتوقع منكِ الاصرار على الزواج من أخرى وأنت أكثر من تعرفين حالي وأي ظلم سأوقعه عليها بزواجي.....ما الذي غيرك؟!..."



رفعت عينيها الدامعتين من فرط حنانها نحوي وهمست بقوة دفاعية:
"قلت لك طلقها ....لم أطلب منك الزواج عليها ....طلقها لمصلحتك ومصلحتها ما دام طريقكما مسدوداً كما جئت سابقاً وأقسمت...أي منذ حوالي ثلاثة أشهر ونيف....حررها منك لترى مستقبلها كما أنت عليك رؤية مستقبلك....ثم أنا أم يا هادي....أم.... تسيرها العواطف قبل العقل ....لا تلوم أم في حب ابنها...لا تلوم أم تبحث عن سعادة ابنها وإن كانت سعادته ستجلبها بنفسها من تحت القصف وفوق الأنقاض....أعلم أن طلبي كان به أنانية ربما عليها بالأكثر...لكن أنانيتي تقود لمصلحة كلاكما في النهاية مهما كان الشيء موجعاً ....!!....طلّقها بنيّ وتزوج.....أريد رؤية اولادك...أريد سماع ضحكاتك....أريد أن تغمر الفرحة أوقاتك...."

أمسكت يدها وقرّبتها لأثبتها على صدري فوق نابضي الخائن وقلت بنبرات عاشقة يكسوها السقم والألم:
"هذا القلب لم يعد من حقي ولا ملكي.....اكثر من عشر سنوات....كانت النغمة النابضة داخله هي ألمى ......انام ألمى...أصحو ألمى ....اشتاق ألمى ...أحب ألمى....أكره ألمى ....لم أجد نبضة متاحة يمكنني سرقتها لأعطيها لغيرها ........ تريديني أن أتزوج وأنت جربت العشق مثلي أماه؟ "

بمحاولات مستميتة تحاول اقناعي قالت:
" أعلم بني.....وأكثر من يعلم أنا....لكن قصتكما أنتما لا تشبه أي قصة عرفناها.....أنتما مثلتما العشق المستحيل .....تحملان حب كبير لبعضكما لكنكما تصلا لنقطة لا يستطيع أحدكما تجاوزها ليصل الآخر.....لا تنازل بقضيتكما.....أنت لن تتخلى أبداً عن قضيتك والجميع يعرف أن الحق معك.....وهي فتاة سيّرتها العواطف ولم تحكم عقلها لذا لن تسامحك أو تقتنع إلا بمعجزة يرسلها الله لها ينير بها قلبها......أفضل حل ورغم صعوبته وقسوته هو انفصالكما ليبحث كل منكما عن حياة جديدة تناسبه......حررها وتزوج ربما تأتي سعادتك باستقرارك ورؤية اولادا لك....."

بإيجاز وتأكيد هتفت:
" لا تتعبي نفسك...قلت لن أطلق..."

بقلة حيلة ونظرات حائرة قالت وهي تتخبط لإيجاد حلول ترضيني :
" لن تطلق.....إذاً تزوج.....ربما تعقل لاحقاً وتحررها براحة"

بعتاب خفيض يخرج من جب قلبي قلت:
" ناهيك أنني أرفض الفكرة....اخبريني كيف سأتزوج والزواج يربط قلبين قبل جسدين؟؟...ها؟......اخبريني أمي....!!..إن تخلينا عن الرباط الأول فسيكون الرباط الثاني أشبه بحياة الحيوانات........فأنا قلبي دمغ بحبها فقط وغير قابل للتعديل ولن يقبل بالبديل..."

آزر عقلي قلبي فأكملت:
" لو تزوجت امرأة أخرى فأنا سأظلم الجميع بداية أنت.......عندما ترينني بائسا بزواجي وهذا أكيد حينها ستزدادين حسرة وهمّاً وسأعلم كم ظلمتك .....وكذلك سأظلم التي سأتزوجها لأنني لا ولن اعطيها مشاعر صادقة مهما جاهدت لأكون عادلاً بتصرفاتي معها ....وهي ستشعر بذلك مؤكد ......"

رفعت كفي أمسد وجنتها برفق ناظرا باستعطاف لعينيها وتابعت:
" فكري بكمية القهر التي ستعانيها عندما تصل لذلك......فكري بدموع ستذرفها عند اكتشافها أن قلبي ليس من حقها .....ألا يكون هذا ظلما؟؟....."

عدّلت جلستي ناظرا للطاولة أمامي وأضفت والقلب ينبض بجنون العشق من أجلها:
"أما تلك البعيدة.....سأظلمها ايضاً بزواجي .....لأني اسرتها لنفسي وأبقيتها مكبّلة بزواجي لا تمتلك حرية الاختيار بينما أنا سأمارس زواجي بأخرى.."

أدرت وجهي نحوها متسائلا، رافضاً، موجوعاً وهاتفاً :
"لماذا؟....لماذا؟...قولي لي...هل فقط لأني ممسكاً بشيء تحت نطاق أن الشرع حلله لي كما يفعل الكثيرون......كتاب ٌ كامل لا خطأ فيه....قرأننا العظيم .....فيه نهج لحياة كريمة كاملة لدنيانا وآخرتنا.......مع الأسف جزء من الرجال لم يحفظوا منه إلا مثنى وثلاث ورباع بغض النظر أنهم لا يفقهون تفسيرها...........لا يمكنني أن اكون مثلهم أمي فقط لأن لدي الحق......أين العدل سيكون إن امتعتُ واحدة بجسدي وقلبي ملك للأخرى؟ ...أين العدل سيكون إن عرفت مالكة قلبي أن حضني الذي وهبتها لها بالكامل أخذته غيرها ؟؟...أي عذاب ستعيش؟؟...أين الرفق بها وهي ضلع قاصر؟؟.....لا يمكنني أن أتحداها بشيء يفوق طاقتها .....لا يمكنني أن انافسها بشيء لا تملكه.....العدل ان يكون الخصمين بنفس القوة لنرى من الرابح ......وإن ربحتُ أنا سأبقى الخاسر .....لا طعم لربح يكون خصمك فيه ضعيف ....الربح الحقيقي يكون عندما نحمل نفس الإمكانيات .....وشتّان بين امكانياتي وامكانياتها........كما أنني أظلم نفسي بزواجي بأخرى أكثر منكم جميعا.......أي صراع سأعيش ؟...كيف سألملم مشاعري ؟؟.....أحب تلك ويؤنبني ضميري لأني خنتها مع أخرى........وأرى هذه أنها عال عليّ فتشعر بذلك ثم يؤنبني ضميري بسببها.....أغضب مما آلت إليه حياتي ومن وجع قلبي فأخرج غضبي عليها......"

علا صوتي بقهر :
" ما ذنبها؟...ما ذنب الأخرى؟؟.....ما ذنبك؟.....ما ذنبي ؟....بل ما ذنب اولادي إن أتوا وأدركوا أن والدهم لا يحب أمهم؟؟.....أي نفسية سيحملونها؟...وأي حياة سأهديهم؟؟......"

تنهّدت فخرجت دمعة مع تنهداتها وهمست:
" لا أعلم ماذا أقول لك يا ولدي......وإن كنت محق بكلامك هذا ليس حل... ...لا يمكن الاستمرار بهذا العذاب ومثل هكذا قرار.."

حوطّت كفها بقبضتي ثم قرّبتها ألثمها بفمي وهمست واثقاً بمشاعري وقراري:
" لا يمكن لقلب هادي أن يكون لغير ألمى .....قلب كبر على حبها لن يخون وإن خانت.........وغضبي عليها لا يمسح ذرة من حبي .....الغضب هو ردة فعلي لموقف وهذا لا يعطي الحق بأن أبيع قلبي بيع خاسر وأن أدوس على قلبها بلا رحمة!!..........لذا كان أعدل خيار لكلينا حالياً.......أن نعيش بعيدين .....هي تمارس أفكارها التي لم تتخلّ عنها ....تعيش حب وغضب في تلك البلاد......وأنا أمارس افكاري التي لن اتخلى عنها وهي حماية الوطن والاهتمام به ولمّا أكون هناك في المعارك أعلم أنني لن أنساها وربما غضبي منها لن يزول لكني أثق أنني بمكان سيأتي يوم وسأعرف وهي ستعرف أنني لم أكن ظالماً مهما آلمتها بهجراني لها وسأنام مرتاح الضمير او سأرقد تحت الارض بسلام........أنا هجرتها فقط كونها امرأة ناشز...."

قاطعتني ثم استعاذت بالله قائلة:
"....{{وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ..}}.....هذا هو الهجر في ديننا بني...."

قلت:
"....حاولتُ وعظها في السابق...وحتى بلقائي الأخير وإن كنتُ قاسيا....نشوزها لا يعدله الا الهجر علّها تتعلم.....أعلم أن هجراني لها ليس جميلاً بل أليماً.......لكنها ليست ببيتي ولم ترد البقاء معي...أنا أحاول تقويم نشوزها ولو من بعيد.......ولأنها ليست حاملا فلا حق لديها بسكن أو نفقة ....فهي التي تركت بيتها وزوجها ولم اطردها انا...غيابي عنها وإهمالها هو عقابها وسيكون لوقت حدده ديننا وهو أربعة أشهر وقد مضى منهم اكثر مما بقى! ...عليّ الآن الاهتمام بمعسكرنا والوطن وما إن أنتهي من تسوية بعض الأمور سأعود وأقابلها.....إن أصلحت نفسها فأهلا بها وإن تشبثت بغبائها وعنادها ورفضت مرافقتي لن أطلقها ولتركب أعلى خيلها أو ترفع قضية ضدي إن استطاعت...!!.......ثم لربما تتحرر مني دون مجهود يذكر"

اهتز قلبها بين أضلعها وكاد الخوف أن يقيّد لسانها فسألت بتثاقل:
" مـ...مـ...ماذا تقصد؟؟!"

" إن رزقني الله الشهادة.....بشروها حينها أن يوم حريتها قد أتى .....ولتفعل ما تشاء.."

وضعت باطن أناملها على شفتي معترضة وهمست بحزن وخيفة:
" لا تقول هذا......أسكت.....لا أريد أن أسمعك...ما لك تكرر هذا الكلام؟...."

قلت:
" أمي ....وهل نيل الشهادة يستحقها أيٍ كان؟...وهل تمنيها شيء يجب أن نسكت عنه ؟؟...."

قرصتها من وجنتها بمداعبة وسألت:
" متى ستقوّين قلبك يا أم هادي؟!..."

زمت شفتيها وعبست ملامحها ثم قالت:
" وأنت متى ستفهم أن الأم مهما كانت قوية لن تتغير عاطفتها ازاء اولادها وخاصة عند ذكر الموت.......الموت حق والشهادة فخر.....لكن سبحانه قاهر عباده بالموت ....أنت ترى الابتسامة على وجوه أمهات الشهداء وتسمع الزغاريد وترى كيف يشيعنهم بزفة وأجواء فرح.......لكن وحده الله من يعلم ما الذي تعيشه داخلها من قهر وألم ونزيف روح فمهما مهما ابتدعت قوتها ومهما كانت أكيده وسعيدة أن جنات النعيم مأواه إلا أنني لن أصدق أنها لا تعاني أشد الحزن في قلبها وهي تفقده من دنياها "

زفرتُ أنفاسا طويلة أخرج غصات تجثم على صدري ثم أرخيتُ ملامحي مبتسماً وبرقت عيناي وقلت وأنا أضع يدي فوق يدها المركونة على فخذها:
" حسناً ....ربما أنت محقة بهذا...أما الآن... أريد .....رضاكِ يا أمي....ارضي عني دون أن تعترضي على قراري ....ادعو لي من قلبك الجميل يا مهجة القلب والروح......أنت أردت السعادة لي وبرضاكِ تكون سعادتي....يا نبض الحياة ونعيمها.."

لاذت بالصمت لدقيقة ثم همست باسمة وهي تنقل حدقتيها على تقاسيم وجهي وتداعب ذقني بأناملها :
" رزقك الله سعادة الدارين.....الدنيا والآخرة"

وأحاطت وجهي بكفيها ثم ارتفعت قليلاً تمد جسدها لتقبّل جبيني مضيفة بصوتها الحنون:
" رضي الله عنك وأرضاك.."

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

" سبحانك اللهم وبحمدك اشهد ان لا اله الا أنت استغفرك وأتوب إليك "

دعاء اعتادت عليه بعد انتهائها من قراءة القرآن منذ أن سمعته من شيخها الوسيم على صفحته للتواصل الاجتماعي!!.....كم هي ممتنة منه....كم تحمد الله أنه وضع بطريقها شيخٌ شاب يستطيع التعامل مع هذا الجيل الضائع بكل محبة .....يلقي المواعظ بطريقة سلسة تخترق القلب وتسكن في العقل ....بأبسط الطرق يقدّم نصائحه لخوفه عليهم ويشرح مقتطفات عن دينه دون تعقيد ليصل الى كافة المستويات ....يحبونه ويقدرونه وأصبحت هي مثلهم تتابعه بكل شغف ...ما أجمله عندما يجمع بين الدين والدنيا فيسهل عليها التعايش والمضي بحياتها .....فها هي ختمت سورة البقرة من توها بعد أن سمعت وعرفت منه عن فضل قراءتها والبركة التي تأتي معها...بل تلك السكينة التي لطالما انتظرت أن تشعر بها تغلّف روحها ... سكينة احتاجتها بشدة لتستجمع أفكارها وقراراتها ........أغلقت المصحف ونهضت عن الاريكة في غرفتها لتعيده مكانه.......لقد قامت بأول خطوة.....جلب السكينة !!.....وضعت يدها على صدرها وسحبت نفساً عميقاً أمام مرآتها وهي تغمض عينيها ثم زفرته بتمهل وهمست بابتسامة عريضة :
" الحمد لله ...الآن يمكنني فعلها.."

أرخت جوارحها وكل خلاياها ثم اتجهت الى سريرها تجلس على طرفه وتناولت عن المنضدة هاتفها .....فتحته ولمعت عيناها بدهاء عندما وضعت الرقم السري لحسابها الجديد....[ الأسير ]...فبعد أن قام بحظرها منذ ما يقارب الثلاثة أشهر وأكثر انشأت حساباً آخرا باسم مستعار وطلبت الانضمام الى مجموعته الخاصة !!.....هل ظن أنه سيفلت منها بعد أن أصبح مصدر سعادتها بأيامها البائسة بل أملها للحياة وطاقتها الايجابية ؟؟!.....مخطئ شيخنا الوسيم.....إنها (ميار) الفتاة الطموحة التي تكون مستعدة لتحفر الأرض بيديها لتصل إلى غايتها !!.......حسناً ربما هو ليس من نصيبها لكنها لن تسمح له أن يقصيها من صفحته التي باتت تتربع على عرش أولوياتها ....فمن دون دروسه ستبقى الفتاة الضائعة في سراديب الحياة وفتنها وفقط معه تجد ضالتها!!......دخلت على صفحته من جديد لتراجع على الدرس الذي نشره الليلة الماضية عن الارادة والعزيمة....والذي كان عنوانه...

[ لا تستسلم للواقع..دائما يمكن تغييره...دائما يمكن تحسينه...دائما يمكن تجاوزه]((وليام فولنر))

عقدت النية وعزمت على المواجهة ...أجل ستواجه خوفها ...لن يثنيها شيء عن قرارها ....ستمضي والله معها....لن تستسلم وستحسن حياتها......من قال أنها عليها تقبل اختيارها الخاطئ وتحمل عواقبه؟؟......أجل اخطأت لكن آن وقت إصلاح ما جنت بيدها.....لن تحتاج لأحد من بعد الله ....فالسكينة هي أمانها والعزيمة هي وقودها ....لن تجلد ذاتها ....أمها تريد تكبيلها بترهات وأفكار لا صحة لها ....من قال أن والدها ضعيف القلب ولن يتحمل وهو الذي رباها على القوة والشجاعة والتصدي لأي شيء يعرقل طريقها ؟!.......ستحاول أن تخرج بأقل الخسائر لذا لم تشرك أيٍ من اسرتها واختصرت الطريق على نفسها ...لا تريد ادخال أي وسيط ليتحدث باسمها.....وحدها من ستواجه جدها وردود فعله....هيأت نفسها لأي قسوة ممكن أن تبدر منه.....ستكمل ولن تبالي!!.....لقد استطاعت خلال أشهر كشف شخصية خطيبها (تامر) وأدركت أنه ليس الرجل الذي يناسبها ويمكنه أن يشاطرها حياتها.....اختارت وقت يلتزم كل افراد القصر غرفهم وبما فيهم جدها الذي يصلي العشاء ويتصفح جرائده قبل الخلود الى النوم !!.....وضعت هاتفها جانبا ونهضت ترتب منامتها ثم وضعت حجاب بعشوائية لتغطي شعرها....تسللت نازلة السلالم دون اصدار أي صوت....توجهت الى المطبخ لتحضّر كأسين من الأعشاب التي يحبها جدها ...إنها فتاة اجتماعية ومشاكسة مرحة لديها سياسة وامكانيات وفن التعامل مع الغير...ربما تكسبه لصالحها...لا مانع بالقليل من الاهتمام..!!....بعد تحضيرهما أخذتهما واتجهت الى غرفته ...وصلت الى الباب ....وقفت لثواني ....شهيق وزفير يتبعهما بسملة ولن تنكر أن شيء من الرهبة سرى في منابعها رغماً عنها....فمن في الداخل هو رأس العائلة يهابه الكبير قبل الصغير ومع انه يحب احفاده ويهمه مصلحتهم الا انه رجل صارم نادراً ما يخلع ثوب القسوة والجمود .....طرقت الباب بخفة ولما أذن لها بالدخول دلفت وضحكة المرح تنير وجهها ليزداد بشاشة....ستضع الرسميات جانباً لتهدم الحواجز بينهما وستتصرف بعفويتها...يبقى جدها وليس مدير جامعتها !!....رفع حاجبه الأشيب مستغربا مجيئها فزلفت هاتفة:
" لا أشعر بالنعاس وأنا اعلم انك تسهر ...لذا رغبت بشرب كأس من أعشابك الشهيرة والدردشة معك...هل تسمح لي؟ .!!.."

رغم أنه تفاجأ من زيارتها وأحس بشيء من القلق إلا أنه ارخى ملامحه يستقبلها بمحبة مشيراً للأريكة وهاتفا:
" بالطبع ....اجلسي بنيتي ..."

كان يجلس على أريكة منفردة فوضعت له كأسه ثم جلست على الأخرى التي تقابله ....وضع صحيفته جانباً وارتشف رشفة من الكأس وقال بلذة:
" سلمت يداك....أتعلمين أنك تصنعينه مثل جدتك رحمها الله؟...."

تبسّمت وارتشفت من كأسها ثم أجابت:
" ها أنا أسمع منك....رحمها الله.....أتعلم أنني ما زلت أذكرها وأذكر طيبتها وحنانها رغم أننا فقدناها ونحن صغار؟؟..."

" من منا ينساها ؟!.....ذهبت وتركت بصمة غالية !!.."

قال جملته ثم تنهّد مضيفاً :
" لقد كانت تنحاز الى والدك دونا عن أعمامك....هل أخبرك والدك بهذا؟"

أجابت بنبرة اعتزاز:
" كلا....الآن فقط علمت !!.."

وضعت كأسها على الطاولة الصغيرة أمامها وأضافت بفخر:
" في الحقيقة لن استغرب ذلك....فأنتما ربيتما والدي بتفاني وأخرجتماه بأحسن صورة ليصبح ابناً باراً صالحاً مرضياً.....الجميع يشهد بأخلاقه التي لطالما امتاز بها ..."

تبسّم بمكر وهتف بعد ان غمزها:
" تقصدين بخلاف أعمامك؟"

توردت وجنتاها ووضعت قبضتها أمام فمها وتنحنحت مجيبة بارتباك..:
" عفواً جدي.....لم أقصد هذا!....أنتم لم تقصروا بتربية أيٍ منهم!!..."

ضحك وأسند ظهره للخلف بأريحية وقال :
"نحن لم نقصر ....لكن هم تمردوا في شبابهم ولا أعلم أكان عيباً منا أم منهم......على كل حال تغيروا مع الزمن وأصبحوا اكثر طاعة.....ربما عندما جربوا أن يكونوا آباء ......أما والدك كان شاذاً عن القاعدة فمنذ طفولته وهو يحافظ على تصرفاته ....حسبته أنا وجدتك رضا من الله علينا!!..."

بابتسامة عريضة صادقة مع لمعة عينين عطوفة همست:
" حبيبي أبي......نجح أن يكون ابناً يفتخر به....وزوج من خير الأزواج ....ووالد لا مثيل له.....لن انتهي حتى الصباح لو ذكرت عظمة الأدوار التي يقوم بها!!.. وبالطبع بعد فضل الله الفضل لك ولجدتي ...."

تبسّم بكبرياء ثم انحنى قليلاً يأخذ كأسه وقلب دفة الحديث لآخر قائلا:
" ممم......الآن اخبريني؟.....هل اعتدتِ على الحياة هنا؟.....وكيف تامر الشقي معك؟!.."

خفق قلبها نفوراً فشحب وجهها في الحال!...سيرته تزعجها حد الاختناق لكنها شاءت أم أبت هذا سيكون محور حديثها الآن والسبب في مواجهة جدها....!!.......لاحظ صمتها اليسير وتبدل لونها فتوجس خيفة وأردف:
" أهنالك شيء؟..."

ابتلعت ريقها ناظرة الى الفراغ ثم استجمعت قواها وتطلعت عليه لوهلة وهمست بتردد:
" في الحقيقة جئت لنتكلم بشأن هذا الموضوع"

رفع حاجبه وقست ملامح وجهه وقال:
" ماذا هناك؟!"

بالكاد سيطرت على الاضطراب الشديد الذي ألمّ بها في الحال وراحت تفكر كيف ترد ....هل تلقي ما في جعبتها وتفر هاربة ؟....أم تتريث بايصال رسالتها؟....الأولى جبن وهذه لن تكون صفتها والثانية حكمة وهذا سلاحها .....تنحنحت ثم ركّزت عينيها بتحدي دون تجاوز لحدود آدابها وردت بثقة ابتدعتها:
" جدي.....جئت إليك مباشرة وأنا أعلم أنك لا تحب اللف والدوران.....فكرتُ مليّا قبل قدومي.....هدمتُ أي حاجز بيننا....لم أود بأن تتواجه أنت وأبي ....لأني لا أريد أن أخسر أبي ولا أريد له أن يخسرك........نحن نعيش ونموت ونحن نتعلم من تجاربنا.....جميعنا نخطئ لكن لا يوجد مستحيل عند عقد نية الإصلاح إن كان الشيء نابع من داخلنا .....كلانا نعلم الطريقة التي ارتبطت بها فأنا لم أرفض أبداً احتراماً لك ولوالدي ...لكني أيقنت بعد هذه المدة أنني اخطأتُ بقراري.......ولأني أدرك أن ما هذه الا فترة خطوبة في قانون البشرية جمعاء هدفها التعارف بين الشريكين فإما أن تقربهما ليلتحما معاً وإما أن تبعدهما ليشق كلّ منهما طريقه.... لذا تجرأتُ وقدمت إليك وأنت سيد المتفهمين جدي!!.....صدقني لم أقوَ على اتخاذ مثل هكذا قرار دون أن أقلبه في دماغي لأيام أو استفتي قلبي!!..."

قاطعها هاتفاً باستنكار:
" أي قرار تقصدين؟!..."

ازدردت ريقها مجددا وهتفت تلقي ما لديها:
" أريد الانفصال عن تامر"

اتسعت عيناه بصدمة وقال بنبرة رافضة:
" ما الذي تقولينه؟!....باقي القليل على موعد زفافكما!!..."

أجابت بهدوء:
" أجل.....ولكن اخبرني جدي.....أيهما أفضل ؟....الانسحاب الآن تفاديا من اضرار أكبر أم بعد الزواج وربما بوجود أولاد ؟!.....أنا لم استطع تقبّله ماذا عساي أن أفعل؟!!..."

قال بجدية:
" ما به تامر؟....شاب جيد لا ينقصه شيء!..."

ردت بإيجاز:
" ينقصه الدين.....وهو كل شيء!..."

هتف مدافعاً:
" هو الآن شاب طائش هكذا كان والده ...لكن بعد الزواج سيستقر ويتغير.....أغلب الشباب يمرون بمثل هذه المرحلة!!..."

همست له:
" أعلم جدي أنك تخصه بالمحبة لأنه المدلل عند بكرك.....وأعلم أنك تتأمل الأفضل بشأنه......لكن صدقني الأفضل ليس عندي أنا...."

بنبرة هادئة محاولاً التأثير عليها هتف:
" ميار بنيتي.......اخترتك له لأنك مميزة بين بنات أعمامك بشخصيتك وعقلك....ربما تكونين أنت المفتاح لتغييره!!...أنت من يمكنك اصلاحه"

قالت معترضة بصوت راجي:
" جدي....أرجوك افهمني.....أنا أريد من يمسك يدي ويرشدني خوفا من الضياع.....أنا لست قوية كفاية كما تظن لأحدث تغييراً على شخص يأبى التغيير.......هو من عالم وأنا من آخر......تامر شاب يعيش حياته بالطول والعرض دون سائل أو مسؤول ....متأثر بشكل كبير بحياة أخواله الاسبان.......لا يمكنني العيش بهذا النمط.....أفضّل أن أبقى عزباء كل عمري ولا أن أكون زوجة لرجل حياته حياة أجانب ولم يأخذ من عروبتنا وديننا الا الاسم .....إما أن يكون زوجي بدماء عربية صافية وتقياً......أو لا.......ارجوك جدي...حررني منه....أنا لا أريده....سيجد من تتوافق معه وتسعده بعيدا عني..."
قال ممانعاً:
" لا تستبقي الأحداث وتقنعي نفسك بهذا الكلام......تامر ابن ابني ويبقى أصله عربي.....مهما ابتعد عن قيمنا ونهج حياتنا سيعود ..."


لم تتحدث عما تراه منه من قبل.....لم تخبر أحداً ماذا تعيش بعلاقتها معه ....كانت دوماً كتومة بشأنه وبشأن تصرفاته .....لا تحب أن تفضحه أو تقلل من قيمته بالعائلة .....لكن الآن عليها إشهار سلاحها إن كان لصالحها......هي لم تخلق لترضخ فقط ....هي لم ولن تسمح لأحد بهدم حياتها ......العيش واحد والعمر واحد.....من قال أنها مجبرة أن تفني دنياها فقط لإرضاء الغير؟؟.....شخصيتها ذاتها.....الفتاة المحبة للحياة ....فتاة لم يستطع التأثير عليها فكراً وقلبا ً سوى زلزال اجتاحها بالماضي وما زالت آثاره قائمة عليها......ليس ذنبها إن لم يستطع هذا الـ(تامر) محو آثاره والفوز بها ........لا ذنب لها إن كان كل يوم يكبر شيخها في عينها ويتضاءل الآخر حتى كادت لم تره ...قارنت بينهما رغما عنها......يا الله ما هذه الجاذبية التي يمتلكها ذاك البعيد؟....لمَ لا يفارق قلبها..؟...لمَ اصبحت ساعة الاستماع له من أجمل اوقاتها؟!.....أسرّت بنفسها " ربما لن اكون لك يا شيخي الوسيم..لكن الأكيد لا يمكنني أن اكون لذاك البغيض".....زفرت أنفاساً أثقلتها وهمست بقوة:
" لا أريده يا جدي .....تامر لا يهتم بي ....وقته مسخر لأصدقائه والسهر .......دائما يمدح زوجات اصدقائه وأناقتهن لأنه..... محدود النظر...يرى الأناقة بالتبرج والمظاهر لا بالعفة والستر.......لا يراني يا جدي ولا يهتم لرغباتي.....هو معي من أجلك أنت وعمي أنا متأكدة......ربما أنا بالنسبة له عقبة لا خطيبة لكنه يخشى مواجهتكم.....إن كان هو جباناً لا يستطيع الاعتراف بحقيقة ما يريد فأنا لا وألف لا وأدري تماما ما أريد.........إنه يحلل ما حرّم الله بسهولة .....أي اصلاح تتحدث عنه جدي اخبرني؟...... لا يغير الله بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم....وباختصار......تامر يرفض التغيير رفضاً قاطعاً...."

ضيقت عينيها بألم وتابعت بغصة:
" منذ أيام ذكرته بالصلاة لعل وعسى أن يلحق نفسه قبل فوات الأوان ....ذكرته بالحادث وأن الله اعطاه فرصة ليصلح من حاله.....ثم قمت لأصلي ....أتعلم ماذا قال لي؟!"

أمعن النظر إليها مع إصغاء تام فأكملت:
" قال لي ..لا تعيدي هذا الكلام ....أنا أقرر عن نفسي اصلي او لا.....لا شأن لك بي.....هذه حياتي ولا تتدخلي كما أنا لم اتدخل بك .....احمدي ربك أنني لم ارغمك على شيء وأقلها خلع الحجاب....لقد انصدمت عندما أتيتِ إلينا محجبة .....لم أتخيل يوماً أنني سأرتبط بفتاة تخفي جمالها وتشوه مظهرها بهذا الغطاء ........لقد قالها يا جدي دون أي ذرة ندم ...."

تبدّلت ملامحه للغضب على الفور وقاطعها قائلا:
" أنا سأتكلم معه ....لا تهتي لكلامه التافه......لن أسمح له بإهانتك مهما كان....سأقف خلفك ثقي بي وسأجعله يعتذر منك!...."

شعرت ببعض من الاحباط من جدها فأرسلت دموعاً صامتة لتربّت بحنان على خديها بينما نظرة انكسار وعجز احتلت عينيها لكنها قاومت لتقول:
" جدي....لا أريد اعتذار منه....أريد فقط انفصال!!..."

تلاعب بصوته ليصبح بين الخشونة والليونة وقال بحزم جازماً الأمر:
" ميار.....قلت سأتكلم معه بنفسي وعليك اعطائه فرصة.......لا أريد أي كلمة بعد كلمتي!!..."

استبدّ بها اليأس وزارها جواً من الكآبة.....لاذت بالصمت لبضع ثواني ثم فزّت من مكانها تجاهد لامساك نفسها عن بكاء مرير قاهر وهمست تستأذنه وخرجت مسرعة الخطى لتشكو بثها وحزنها الى خالقها في غرفتها.....!!

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

ثلاثة أيام بالتمام والكمال أصبحن من الماضي بعد حديثي مع والدتي ...اضطر الجميع لتقبل الأمر الواقع عليهم بأنني لا أريد لا الطلاق منها ولا الزواج بغيرها....حتى أن أخباري وصلت إلى عمتي (لبنى) والتي كان لها دور بإقناع أمي بالسعي من أجل زواجي ظناً أن هذا الأفضل لي وقد كانت ممن اقترحوا العروس (رفيف) أما صديقي وتوأم روحي سيادة اللواء هو من طرح فكرة ارتباطي بـ(تسنيم) شقيقة صديقه الضابط بعد ملاحظته جهود أمي للارتباط من أجل سعادتي .......مرت هذه الأيام وأنا منشغلا برسم خطط من أجل كتيبتنا ومعاركنا.....وردني اتصال من السيد (سليم الأسمر) يخبرني به بأن ابنة شقيقه المحامية (رفيف) تريد زيارتنا بشكل عاجل للاستفسار عن بعض الأمور المهمة تخص قضيتنا مع الوغد (عاصي رضا) فهو يعلم بأنني لست متفرغا للذهاب بنفسي للعاصمة!.....في المساء كنت جالساً مع والدتي وشقيقي (شادي) في حديقة منزلنا الجبليّ من أجل أخذ قسطاً من الراحة وتناول كأسا من الشاي بالنعناع من تحت يديّ نبض الحياة لأسترجع طاقتي وأتمكن من متابعة عملي......وصلت (رفيف) إلينا....كانت هذه المرة الأولى التي تتقابل بها مع والدتي وجها لوجه بعد سنوات فقامت لاستقبالها مبتهجة وبعد المصافحة والمجاملات دعتها لتنضم لجلستنا ولما اقتربت منا رفعت يدها وقالت بجرأتها المعتادة عليها:
" مساء الخير يا شباب...."

تبسّمت مجاملاً ورددت التحية باقتضاب:
" مساء الخير.."

أما شقيقي ظلّ يتأملها وهي واقفة من تحت لفوق فاقتربت منه تلاطفه تحت نطاق أنها أكبر منه وجلست جواره ثم هتفت ضاحكة :
" لا بد أنك شادي الجميل ..."

ومدّت يدها تصافحه متابعة:
" أنا رفيف .."

تطلّع على يدها الممدودة بالهواء لثواني ولم أكن أعلم ما يدور برأسه فأحسستُ بالحرج منه وتنحنحتُ لأنبهه كي يصافحها ففعل بتثاقل ....أكملت تشاكسه بالكلام مفتعلة حوار معه لم يستسغه....كان يرد عليها مرغماً أظن خوفاً من تأنيبي له .....ولما جلست أمي توجه لها بعض الكلمات وخلصته منها استغل انشغالها وتمتم بحنق:
" بالفعل فأرة كما توقعت...."

ثم أمال جذعه نحوي هامساً:
" ما بها تكلمني هذه الفأرة بهذه الطريقة وكأنني شقيقها الصغير ؟.....من الجيد أنك لم توافق عليها ....الفأرة الأخرى الآنسة تسنيم أفضل منها ....."

مسكتُ ضحكتي ورسمتُ ملامح جادة تصنعاً وهمست له:
" ششش......ستسمعك"

وتابعت موبخاً بهدوء:
" ثم تأدب يا ولد ...ما هذا الكلام فأرة وغيرها؟....من أين لك هذا التشبيه ؟.....أشعرتني أنني جالس في جحر فئران...."

شقت ثغره ابتسامة ماكرة وقال:
" اللقب خاص بالآنسة تسنيم لكني أرى أنه يناسب هذه تماماً....ثم قل لي هل تريد بالفعل أن تعرف من أين لي هذا ؟....."

بنبرة مرحة خفيضة وفضول هتفت:
"أجل أخبرني سيد شادي.....فنحن في بيتنا لم نشبه أحد سابقاً بالفئران .....أم أن سامي أعطاك دروسه عن الحيوانات؟..."

رفع حاجبيه بإشارة (كلا) وقال بخباثة:
" ألن تغضب؟!.."

قلت مؤكدا بنبرة خافتة:
" لن أغضب....اخبرني لأرى من أين تأخذ دروسك للاستهزاء بالناس...."

همس مجيباً:
" حسناً أنت أردت أن تعرف لا ذنب لي..."

ونهض عن كرسيه منتصباً ثم وقف ورائي منحنياً قرب أذني يوشوشني :
" من صديقتي.....يعني حبيبتك ألمى"

ولاذ بالفرار مختفياً عن الأنظار بينما حروف اسمها جعلت الخائن الساكن في صدري يرقص طرباً على ذكراها وشردتُ لوهلة اتذكر حركاتها وتصرفاتها لترتسم ابتسامة عشق على شفتيّ وقلت في سري..." إذاً فأرة أيتها القطة الغيورة.."...لأخرج من أفكاري على صوت ضيفتنا وهي تقول:
" ها سيد هادي ....أنا جاهزة ماذا عنك؟!.."

رمقتها بنظرة سريعة ثم اخفضتُ بصري وقمتُ من فوري موليها ظهري بقلة اهتمام وقلت بنبرة جامدة آمراً بكلمة واحدة:
" اتبعيني.."

تبسّمت أمي لها وهي محرجة بسبب تصرفي الجاف معها فاستأذنت منها تلك وتبعتني تحمل حقيبتها تنظر إليّ من الخلف وهي تتمتم دون أن يسمعها أحد:
" أمرك سيد هادي....سأتبعك لنرى !!.."

وصلنا غرفة الضيوف .....أشرت لها لتجلس على أريكة فردية وجلستُ أنا على الزوجية مقابلاً لها ......أخرجت أوراقها وفردتها على الطاولة وأخذت تستفسر مني بعض الأمور وتشرح عن أخرى وقد أخذنا الوقت دون أن نشعر ثم هتفت بالنهاية:
" يعني خلاصة الحديث......نهاية الشهر القادم سيصدر الحكم ان شاء الله .....لذا عليك جلب الأسماء التي أخبرني عنها عمي سليم بأسرع وقت ممكن للضغط على المجرم عاصي والبقية ...سنضرب الظالم بالظالم ....فلقد قال لي أن جميع اسمائهم مكتوبة كرموز مشفرة وموجودة بحوزتك كأمانة معك من والدك لتفكها عندما يحين وقت فضحهم اولئك الخونة.....والآن آن الأوان يا هادي......نحتاج تلك الأسماء دون تأخير ...."

ألصقت أنامل يمناي بيسراي متكئاً بمرفقيّ على فخذيّ ومفكراً ثم أجبت بعد برهة:
" حسناً.....امهليني بعض الوقت...يعني اسبوع أو اكثر قليلاً...."

هتفتْ بجدية:
" هذا كثير.....علينا العمل عليها بشكل عاجل.."

رمقتها بنظرة حادة رافعاً حاجبي وهتفت بخشونة:
" قلت أمهليني بعض الوقت ....الأمانة ببيتي في تلك البلاد وليست هنا.....عليّ تسوية بعض الأمور بالمعسكر أولاً ثم سأسافر لجلبها ..."

سرحتْ قليلاً ثم هتفتْ :
" لديّ حل ...."

ضيقتُ عينيّ منتظراً حلها فاستطردت:
"تكلّم مع أبيك ابراهيم .....يمكنني انا السفر لهناك....فليقابلني ويعطني إياها لجلبها لك اختصارا للوقت .....ما رأيك؟"

ارجعت ظهري للوراء بأريحية وهدوء وأجبتها :
" كلا.....أريد الذهاب بنفسي الى هناك....يوجد عمل خاص ناقص... عليّ إتمامه ولا يمكن لأحد غيري فعله...."

بنباهة فهمت عملي الخاص وبجرأة كادت تصل للوقاحة هتفت متحمسة:
" هل قررت طلاقها؟!..."

رددتُ بالحال مستنكراً قاطباً جبيني:
" عفوا؟!.."

بارتباك وتلعثم همست:
" أ...أقصد ....يعني لأني سمعت بعض الأقاويل أنك لم ترد تطليقها .....فظننت أنك غيرت رأيك الآن...!"

بقيتُ احدجها لثواني بملامح لا معنى لها ودون أي رد مني وهي تبادلني النظرات ثم رفعتُ بصري ناظراً نحو الباب عند دخول والدتي إلينا تحمل القهوة وبعد أن ضيّفتنا وأدبرت للخروج قلت:
"أمي..."

استدارت برأسها جانبا تتطلع عليّ والصينية الفارغة بيدها فأضفت:
" اجلسي من فضلك ...."

ألقت حدقتيها على الضيفة ثم أعادتهما إليّ وهتفت بمحبة:
" أريد تحضير العشاء من أجل ضيفتنا.....عليها تذوق أكلات مدينتنا الشهيرة....."

أوقفتها تلك هاتفة:
" لا تتعبي نفسك يا خالة ....سأنهي عملي وأتصل بسيارة أجرة تعيدني الى العاصمة.....إن كان لي نصيب سأتذوقه لاحقا ان شاء الله ."

وأردفت متحمسة:
" ربما بعد الحكم على المجرم عاصي...."

وأكملت ضاحكة وهي تحرك سبابتها بمزاح:
" لن أرضى إلا بحفلة شواء وهنا في بيتكم الجبليّ"


ثم رفعت يدها تنظر الى ساعتها التي تحيط معصمها فشهقت مصدومة بجدية:
" يا الله.......أخذنا الوقت ولم انتبه أنها التاسعة والنصف .....اعذروني عليّ ايجاد سيارة حالاً......الطريق طويل والله أعلم متى أصل..."

مدت أمي يدها أمامها توقفها بمروءة وهمست:
" مستحيل....لن أسمح لك بالذهاب والوقت متأخر ....أنت مثل ابنتي ولن أرضى بهذا...ستبقين عندنا......"

ثم وجهت كلامها إلي لأدعمها:
" أليس كذلك يا هادي؟!.."

انقبض قلبي ضائعاً بتصرف أمي...لم أفقه أكانت لها نوايا أخرى تصاحب شهامتها وحنانها أم ماذا ...!!؟

اما ضيفتنا سلّطت عيناها نحوي وكأنها تريد أن تستشف ردة فعلي واجابتي أكانت قبولا أو رفضا ولما لم أحرك ساكناً للحظات أحست بشيء من الخذلان ثم وقفت هاتفة :
" شكراً لك يا خالة ولكرمك.....عليّ الذهاب......"

أضجت سكوني اللحظيّ والدتي التي كررت سؤالها بحزم مغلف بابتسامة :
" أليس كذلك يا هادي ؟!.."

أجبتُ بتيه خارج عن ارادتي :
"ها...ماذا؟....أجل ...أجل....فلتبقى هنا...الوقت غير مناسب للعودة بتاتاً..."

انبسطت أسارير وجهها بعد سماعها اجابتي وهتفت مبتهجة وهي تنقل بصرها بيننا:
" حقاً شكرا لكم .....لا أدري ماذا أقول .....أتمنى أن لا اثقل عليكم...."

دنت منها امي تربّت أعلى ظهرها بحنو وهمست:
" البيت بيتك يا ابنتي ....خذي راحتك وتصرفي كما يحلو لك...."

آه يا أمي آه.....ماذا عن ابنك الحائط ؟ ....هل تريدين تكبيل حركتي؟.....لا يمكنني الذهاب لمكان ....فالأوراق مفرودة على مكتبتي في غرفتي ولا يمكنني أخذها لمكان آخر لأتابع مهمتي......ماذا عساي أن أفعل......صبرا يا الله.....بلطفك يا الله كن معي!.......ولما أنهيتُ عتاب نبض الحياة داخلي وصلني صوتها المنشرح تدلي اقتراحها:
" ما رأيك بنيّ أن نذهب لتناول وجبة العشاء بمطعم الشرق ؟! ..."

هذا ما ينقصني الآن.....تجوال وعشاء وماذا بعد؟!....أنا لستُ متفرغاً......ولستُ مرتاحاً......تبسمتُ أسايرها وقلت متملصاً:
" أمي.....منذ قليل كنتِ ستصنعين العشاء بيدك لتذيقيها أكلات مدينتنا الشهيرة أم أني مخطئاً؟!..."

اقتربت مني وضربت كتفي بمرح مجيبة:
" أجل كنت.....لكني فكرت جيدا.....تحضير الطعام سيأخذ وقت هذا اولا.....ثانيا مطعم الشرق يقدم أفضل أكلاتنا وثالثا بما أنه أعلى الجبل سيكون المنظر خاصته ساحر في هذا الوقت ....الجو صافي والقمر منير والنسمات لطيفة .....لنري رفيف جمال مدينتنا من فوق...."


حاولت التملص مجدداً هاتفا:
" أمي اعذريني..... العمل ينتظرني ......"

حسمت الأمر هاتفة :
" لا أريد أي اعتراض.....أنت لا تنام الليل يعني لديك الوقت لن تضرك ساعتان......هيا ....تجهز ولا تتكاسل....."

ضحكت غامزة وأضافت:
"دلل نفسك باستنشاق هواء نقي.... ودللنا معك...."

قلت مستسلماً:
" امري لله .....وتسألينني من أين آتي بالعناد؟!... "

ذهبنا الى تناول وجبة العشاء بالمطعم الذي اختارته أمي .....كنتُ أشغل نفسي بمشاكسة (شادي) أو بالهاتف.....شعرتُ باستياء لا أعلم سببه......استياء اوصلني حد الاختناق!!......لمَ يوسوس لي شيطاني وكأنني أخون تلك البعيدة؟!.....ما هذا تأنيب الضمير الذي يضغط على عاتقي؟!....لماذا هي حاضرة بكل شيء في حياتي كالقرين؟!......تنفستُ الصعداء عند وصولنا الى البيت.....فأنا اشتقت لوحدتي وعزلتي.....و....ذكرياتي الحلوة مع ألمتي!!......اشتقت.. .اشتقت بشدة لها ...لا أعلم كيف تحملت أن لا اسأل عنها او عن أي شيء يخصها !!....لكن غضبي الكريه المصاحب لكبريائي ما زال يتلاعب بي......عدتُ لانفصام مشاعري نحوها كما السابق....أحبها وأكرهها....أشتاق ولا أريدها .....دلّني يا الله ...أكرمني بحل وانت اكرم الأكرمين.......كنتُ مجبراً على الانقطاع كي اعاقبها دون أن أضعف....وربما لاختبر مدى صبري على بعدها ...أو لأتدرب على الفراق لو كان حتميّ لا قدر الله....كذبتُ على الجميع بقسوتي ولكن لم تقنع الكذبة خائني....رجعت لي معاناتي فيبدو أنها هي ضريبة عشقي لها.....هل ظننتُ أنني الآن مستقر في بلدي وبيتي وغرفتي بعد الهجر؟! ......يا لغبائي.....كيف لي أن أذوق لذة الاستقرار بينما القلب والروح والعيون بل كل جوارحي تعيش في شتات ....كيف؟....كيف استقر وأنا ما زلت وسأبقى اللاجئ في سمائها؟!....

جهزت والدتي غرفة الضيوف في الطابق السفلي والتي كانت خاصة لشقيقتي وزوجها وأعطتها منامة تابعة لـ(دنيا ) لونها كحلي وهلال أصفر يرسم على بلوزتها تحيطه نجوم بينما أنا استأذنتُ صاعداً لغرفتي .....بدلت ملابس الخروج لأخرى بيتية......بنطالاً أسوداً طويلاً وبلوزة بيضاء على صدرها شعار الماركة بالأسود تجسّد جسدي وتبرز عضلاتي!......عدتُ الى مكتبتي أصارع مخططاتي .....في الساعة الثانية بعد منتصف الليل شعرتُ بالعطش فنزلت السلالم متجهاً الى المطبخ وما إن دلفت إليه حتى وجدتُ ضيفتنا تشرب الماء والتي أجفلت عندما تنحنحت هاتفا:
" عفواً...لم أتوقع أنك هنا..."

شهقت مفزوعة من صوتي الذي تفاجأت به وأفلتت الكأس من يدها ليتحول الى شظايا على الأرض ثم انحنت على الفور لتلملم آثار جريمتها بارتباك وخجل هامسة:
" آسفة ....آسفة....تفاجأت بوجودك!!..."

تقدمتُ خطوتين باسطاً يداي الى الأمام قائلا بهدوء:
" توقفي...."
لم تتزحزح بل نظرت إلي بضعف ثم همست مرتجفة من شدة احراجها وهي تطرق رأسها لتنظف مكانها:
" يا الله كم أنا محرجة منك !....ما لي كالخرقاء ؟!.."

دنوتُ منها فأصبحتُ أكثر قربا وهمست لأهدئ من توترها:
"رفيف.....اتركي عنك هذا......أنا سأقوم بتنظيفه.....لا أريد أن تتأذي"

ثم قرفصت لألملم قطع الزجاج بينما هي لم تسمع كلامي وبقيت مكانها لتساعدني وهمست بنبرة رقيقة:
" حقاً أنا آسفة هادي.....لقد أشغلتك معي..!!"

من غير ادراك رفعت رأسي وقلت بلطافة :
" لا تهتمي.....حصل خير بإذن الله!.."

وبهذه اللحظة اكتشفتُ أنني قريب منها بشكل مبالغ وبضع سنتمترات فقط تحول بيننا لأمسك بها تتأملني من هذا القرب بعينيها السوداوين وبنظرات تشع اعجاباً جريئاً وجاذبية ظاهرة نحوي.....هذا ما أخبرتني به قرون استشعاراتي!!......أعلم أنني كنتُ لطيفاً لكن هذا أتى بطلبٍ من أمي التي رأت جفائي وجمودي بتعاملي معها....أرادت أن نكرمها بوجهٍ سموح ولسان لطيف!!..... ......خفق قلبي رفضاً والدماء ثارت في عروقي اعتراضاً الا أنني ظللتُ عدة ثواني ووجهي مصوب لوجهها بينما لم اكن اراها البتة إذ أن عقلي ذهب لعالم آخر بعيد.....بعيـــد...الى...... عالم الألمى من جديد.....ولم أهرب من ذاك العالم إلا لما همست وهي تغمض عينيها وتسحب أنفاسها تستنشقه بضياع وصفاقة:
" يا ويلي.....ما اسم هذا العطر؟!"

رباه....إلى ماذا ترجمت لطافتي حتى تكون بهذه الجسارة؟!...

قرع ناقوس الخطر في عقلي....وتمرّد الخائن خلف ضلوعي ....فتململتُ لأقوم من مكاني أشد على قبضتي منزعجاً منها ومن حالي ونسيتُ قطع الشظايا الصغيرة الموجودة بكف يدي !!....تأوهتُ بتلقائية فور انغرازها بي وانتصبتُ واقفاً بحرارية وقهر ففعلت مثلي وبألم معنوي لجرحي قطبت جبينها ثم بعفوية مدّت يدها تمسك يدي!!.....لوهلة لم استوعب ما فعلت ولكن التماس الكهربائي الذي أحرقني نفوراً جعلني أنفض يدها بغل صارخاً بها:
" ماذا تفعلين.!!؟"

لم تتأثر من صراخي بل أجابت بإقدام واثقة وهي تسلط عينيها بعينيّ:
" لماذا تصرخ؟....كنتُ أرى جرحك..."

وتطلعت ليدي مضيفة:
" انظر الدماء تنزف منك!!..."

ثم بكل جرأة استدارت تفتح الحنفية من خلفها لتعود وتمسك يدي وتشدها قائلة بذات الثقة:
" هيا غسّلها ....الحق عليّ.....أنا من تسبـ..."

ولم تكد تلبث أن تكمل جملتها حتى ارتدت بفزع تلصق جسدها بالخزانة والسطح الرخامي واضعة يدها على صدرها عندما صرخت بغلظة أكبر أرمقها بنظرة نارية بعد أن سحبت يدي من يدها بعدوانية:
" كيف تتجرئين على مسك يدي؟!.."

لهثت انفعالاً ثم حاولت اعادة ترتيب أنفاسها واستجمعت قواها وأجابت بحدة تتحداني:
" على مهلك أيها الغاضب.....على ماذا كل هذا؟!.....لقد أوقعت قلبي بصراخك......أشعرتني أنني ارتكبتُ جريمة "

قلت حانقاً مغتاظاً:
" أجل ارتكبتِ جريمة.....لا أحب أن تلمسني امرأة غريبة بغض النظر أن ديننا نهانا عن هذا........أستغفرك يا ربي"

أمالت فمها بابتسامة ساخرة ثم عاتبتني بلهجة غاضبة:
" لم اصافحك ولم ألمسك بنوايا مشبوهة سيد هادي.....تدخلتُ للمساعدة فقط!..."

بملامح قاسية وكشرة حادة رددت الزمها حدها:
"وإن كان..... لا تتدخلي ولا تعيدي هذه الحركة ....أتسمعين؟!"

انتصبت واثقة أكثر تمط جسدها نحوي وبذات جرأتها هتفت بينما كانت عيناها تشعان اعجاب جليّ مخدوش بالقهر والغيرة :
" لا أعرف حقا ...هل هذا التزاماً ..أم وفاءً لها؟؟!....ولا أعرف إلى متى ؟.."

بتّ متأكدا من نظرتها ونبرتها معي فقد غدتا مختلفتين لم تكونا كبداية لقاءنا....متأكد أنها تحمل شيئا بقلبها اتجاهي ...وهذا ما لا أريده ...لا هو لمصلحتي ولا لمصلحتها.....ساعدني يا ربي....صككتُ فكيّ والغيظ اعتصرني اكثر ثم نظرتُ إليها بتحدّي هاتفاً لأقطع عليها أي أمل تحمله اتجاهي:
" فكري كيفما تشائين.....لكني أقولها لك "

ورفعت يسراي ناصباً كفي محركاً بنصري الذي يحيطه خاتم زواجي الفضي العريض ذا النقوش وهتفت:
" التزاماً أم وفاءً لا تهمني ظنونك.....فقط انظري...انظري
..... انا متزوج وامرأة واحدة فقط يحق لها لمسي ....وهي... ألمى....ألمى زوجتي وحبيبتي وكل كياني....أتفهمين أم أكرر كلامي؟!...."

كلماتي نزلت كطعنة على قلبها لتنزف دمعتان من مقلتيها فتابعتُ وأنا أشهر سبابتي:
" من الغد ان شاء الله سيكون تواصلك مع صديقي سامي بكل ما يخص قضيتنا .....أنا سأقيم بالمعسكر ولا يمكنني متابعة كل شيء أولا بأول....فبالكاد استطيع سرقة دقيقة لأطمئن على عائلتي فقط!!......كثفي جهودك وقومي بوظيفتك على أكمل وجه لتنهي الأمر بسرعة ولك بعد ذلك كل ما تأمرين من المال مقابل عملك....يا حضرة المحامية الآنسة رفيف.....!! "

ثم وليتها ظهري مدبراً بعزم لتسمح بدمعاتٍ أخرى بالسقوط واسندت ظهرها للسطح الرخامي تقبض حافته بكفيها للوراء وهمست همسات مكلومة تبوح بما يجول بصدرها وودت لو سمعتها:
" ما ذنب قلبي إذا لم يعد يرى رجالاً من بعدك؟....ما ذنبي إن أوهموني وخاصة عمتك بأنني رشحت كعروس لك وبنيت آمالي ليتبدل الاعجاب داخلي الى حب؟....لماذا أنت وفيّاً لها لهذه الدرجة؟.....أي سحر ألقته عليك كي لا ترى غيرها؟!....ما الذي يميزها؟...فالجمال موجود الحمد لله كما لديها....بل هي ينقصها اشياء كثيرة......غير متمة لتعليمها!.....ساذجة وغبية....ولا نسب مشرف خلفها!....والأدهى هي ابنة قاتل أبيك.....أتعي؟....قاتل أبيك.....قل لي كيف حملت أسمى درجات العشق من أجلها أيها الشامي ؟!..."

ثم انزلقت بجسدها على الخزانة لتجلس على الأرض ومدت ساقيها للأمام محبطة، شاردة لبضع من الوقت قبل أن تتنهد بعمق تطرد غصاتها وهي تقف من جديد تعيد قوتها هامسة بصوت خفيض تلوم نفسها:
" تباً لي كم أنني غبية ....كيف فضحتُ نفسي أمامه؟!.."

نظرت للسقف بحالمية وتمتمت :
" لكنه مجرم ويجب أن تنزل عليه أقسى العقوبة بتهمة الفتك بقلوب بنات حواء بجاذبيته الرجولية ومع سبق الإصرار والترصد....."

وخرجت من المطبخ تجر معها أذيال خيبتها بعد فشلها بالتقرب مني وبعد أن الزمتها حدها....!!


~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

مرّت أيام قليلة بعد مواجهة جدها .... لم يعلم أحد من العائلة عمّا دار بينهما......كانت تدّعي القوة خوفاً من لفت الانتباه الا أن انقطاع شهيتها من القهر الذي تعانيه لوّث الصفاء في جمالها......كانوا عائلتها يظنون أن الحالة التي تمر بها بسبب امتحاناتها وكان هذا كأنه سترٌ متين بالفعل تخفي وراءه خيباتها وحزنها ....في هذه الأيام تكلم جدها مع خطيبها وقام الأخير بدوره بتأنيبها ولومها لأنها أدخلت جدها بعلاقتهما دون أن يعلم أنها أرادت الانفصال لا الاصلاح !!..حتى أنه لم يعتذر منها كما طلب منه جدهما......في صباح هذا اليوم أرسل لها (تامر) رسالة مفادها أنه يريد منها تجهيز نفسها من أجل احتفال خطوبة أحد أصدقائه بمطعم فاخر باطراف المدينة بعيدا عن مكان سكناهم.....لا يدري ما حجم المعاناة التي تعيشها من أجل التمثيل بهذه العلاقة الخاطئة.....لكنها ستتماشى معهم مسلّمة أمرها لله ....ستنتظر الفرج منه....هي واثقة سيأتيها الحل بأهون الأسباب.....فهذا ما سمعته من الشيخ (أحمد) عن حسن الظن بالله خلال أحد دروسه الالكترونية!!.....ولكنها لن تنسى السعي وراء غايتها وارادتها اضافة لحسن الظن بالله....عليها أن تجد حلول ولكنها ستهدأ هذه الفترة حتى يرشدها الله لحل لمعضلتها ثم إنها لا تريد خوض امتحاناتها بنفسية محطمة..!!.....جاء المساء وارتدت لباسها الشرعي الأنيق....فستان أسود طويل وعلى خصرها حزام أبيض ومثله الحجاب والحذاء.....ستسايرهم كيفما يريدون...قالت في سرها " هذا حالياً....لن أكون ميار ابنة كمال زيدان لو بقيتُ على ذمة شبيه الرجال".......ذهبت معه مثقلة ، مشمئزة،حانقة.....جلسا على طاولة كبيرة مستديرة مع مجموعة من اصدقائه المرتبطين بين المتزوج والخاطب......هي غريبة لا تشعر بالانتماء لهم....المكان ليس لها....الجو يخنقها....ليس هذا ما تريده....هي عاشت في أسرة محافظة الى حد كبير رغم حريتها وحتى عندما كانت متبرجة لم تذهب الى أماكن تفيض منكر....كانت تلزم حدودها ...هكذا تربت!.....من أين خرج لها هذا وخاصة بعد وضع خطواتها الاولى وسلكها طريق الهداية؟!......لن ترضا أن يكون هكذا اسلوب حياتها.....لكنها ستصبر وتنتظر .....الاحتفال في أوجه....اختلاط منفر في ساحة الرقص....تبرج وسفور فاق المعقول ....تقدم أحد أصحابه وسحبه ليرقص ثم طلب بجرأة منها لتشارك خطيبها بالرقص.....ردت بابتسامة مجاملة قاتلت شفتيها لترسمها وهي ترفع يدها برفض:
" عذرا......لا أحب الرقص!"

تركها خلفه وذهب مع صديقه بحماس ....كانت تراقبه باستحقار ليس بغيرة فالمشاعر نحوه تحت الصفر والغيرة خلقت على من نحبهم!!.. ....تتمايل الفتيات عليه بفجور ويقابلهن بالمثل....كان الاحتفال بآخره وضيافة الخمر لمثل هذا المجتمع يكون كرماً وتباهي ....لن يرفض تضييفاتهم ....يشرب ويرقص ويقهقه !!....شعرت أنها تريد التقيؤ من الروائح الكريهة التي يتسببها هذا مشروب الحرام مع الدخان وقد زاد من غثيانها المنظر أمامها وخاصة خطيبها الغير مبالي لوجودها وكانت متأكدة داخلها أنه نسي أنها معه أساساً......توجهت الى حمام المطعم تفرغ ما في بطنها وتغسل وجهها....ظلّت لدقائق بالداخل ....وجدت راحتها بهذا المكان بعيداً عن تلك الأجواء الدنيئة ....بعد ربع ساعة وصلها توقف الموسيقى فقررت الخروج.....عادت الى طاولتها وهي تنظر يمنة ويسرة تبحث عنه.....لم يبقَ الا القليل من الضيوف ....لكن أين هو؟؟.....ظنّت أنه ذهب للحمام.....جلست مكانها ومرّت دقائق أخرى ولم يظهر والناس من حولها يتناقصون......رأت أحد اصدقائه فتجرأت وقصدت مكانه لتسأله عنه ولما وصلته وقبل أن تفتح فمها هتف متعجباً:
" ااوه آنسة ميار.....ألم تذهبي مع تامر والاصدقاء لإكمال السهرة في بيت رسلان؟!"

ارتسمت بسمة مزيفة على محياها سائلة بتصنّع:
" هل حقاً ذهبوا؟!...."

قطب جبينه ورد:
" أجل....منذ قليل....مع نسائهم ...."



امتقع وجهها واجتاحها موج من الصقيع بعد شعورها بالامتهان والاستصغار من قِبَلِه.....قرأ صديقه ملامحها فحاول الترقيع وهو يخرج هاتفه:
" انتظري لحظة....سأتصل بهم...ربما ما زالوا في الموقف .."

حتى لو كادت عروقها تنفجر في جسدها إلا أنها لن تسمح بفضح نفسها أو إعطاء أحد طرف خيط للشماتة بها.....رفعت كف يدها ازاءه لتوقفه هامسة بصوت ثابت ظاهريا..مهزوز داخليا :
" توقف....لا تتصل....أنا من لا تريد الذهاب.....لدي امتحان غداً ولا استطيع السهر معهم ...أعلم أنهم ذهبوا لكني لم أتوقع بهذه السرعة....."

لم يطمئن لاجابتها ولم يصدقها فقال:
" لا تزعلي منه.....تامر طيب....لكنه كما رأيتِ ربما أثقل قليلا بالشرب لذا ضاع عقله ونسي أنك معه...."

أمالت فمها بابتسامة ساخرة وانتصبت بإباء هاتفة :
" أظن أنني قلت لك أنا من لم ترد الذهاب معهم ....لا حاجة لتبريرات وترقيعات......على كل حال شكرا لك وعن اذنك..."

واستدارت توليه ظهرها بينما عاصفة تحمل معها الغضب منه والقهر من اهانته لها والحزن على حالها تكاد تفتك بها!!.....عادت إلى الحمام قبل أن تنهار حصونها ...وضعت حقيبتها على السطح الرخامي بالحمام وصارت تتأمل الكم الهائل من الخيبات التي تخطها ملامحها ثم فتحت أصفاد مقلتيها لتحرر العبرات الجريحة منها ...جرحها كان كونها غير مرئية عنده.....اتكأت بمرفقيها على أطراف المغسلة وبدأ يهتز بدنها ونشيجها يعلو....فقدت السيطرة ولم تتمكن من ايقاف نزيف قلبها....رأت نفسها مهانة بأبشع الطرق.....خطيب باتت تجبر عليه ويا ليته يهتم بها....يا ليت فيه خصلة تتقبلها ......لو أحبها واهتم بها لربما لرضيت ولم تتزحزح عن قرارها.....أخرجت هاتفها من حقيبتها الصغيرة ونظرت الى الساعة ....إنها الحادية عشر ليلاً ......المطعم سيغلق بعد ساعة....هي في منطقة بعيدة....وضعت الهاتف جانباً وقررت أن ترمم حالتها.....فكت الحجاب عنها.....حملقت بوجهها بالمرآة تخاطب نفسها:
" ميار....أنت قوية"
" ميار....عليك أن تحسمي الأمر"
"ميار....لا تسمحي لأحد بأن يهدمك"
" هيا ميار....لم يبقَ أمامك إلا هذا الحل "

ثم فتحت الصنبور وصبّت على وجهها الماء البارد لتبرد هيجان روحها ......جففت نفسها ووضعت الحجاب من جديد.....حملت هاتفها مجدداً وقررت مشاركة شقيقها (قصي) بكل ما حصل معها والبوح بمشاعرها لأول مرة منذ ارتباطها....فهو اكثر من يفهمها ويتصدى للجميع من أجلها مهما كان......هي لم تشركه في السابق لأنها تعرف شجاعته بالمواجهة واصراره ولا تريد أن يوضع بمشاكل من تحت رأسها.....ضغطت على اسمه ولما أجاب قالت بصوتها الانثوي الواثق المعهود:
" قصي.....سأبعث لك مكان تواجدي برسالة....عليك القدوم لأخذي لأني احتاجك بموضوع مهم !!..."

انتابه القلق إلا أن قوة صوتها اشعره بشيء من الطمأنينة فأجابها بالحال:
" حسناً حبيبتي.....انتظر رسالتك لآتي حالاً.."

اغلقت المكالمة معه وقررت أن تمضي بعض الوقت مع تطبيقات هاتفها ريثما يصل.....دخلت إلى صفحة شيخها فوجدته ينشر منشور خفيف للنقاش محوره [ ماذا تعني لك كلمة رجل؟]......سرحت بذكرياتها الصغيرة من ماضيها البعيد القريب تقارن المواقف التي عاشتها بين الماضي والحاضر......خطيبها تركها بمكان غريب بينما هو تعارك مع الغرباء حماية لها.....خطيبها أهانها ولم يعتذر بينما هو زار بيتها حاملاً باقة من الورد ليقدم اعتذاره......خطيبها يسخر من حجابها ويريدها أن تعرض مفاتنها بينما هو خلع معطفه وسترها وبلفحته الرمادية غطى شعرها .....خطيبها لا يهتم لسمعتها ولا لاقتراب اصدقائه منها بينما هو ادعى انها خطيبته ليمنع ذهابها الى مركز الشرطة يوم حادثة (صلاح) خوفا من أن يدرج اسمها بالقضية......لفتات صغيرة منه ذات قيمة لا حدود لها .......عادت من شرودها تقرأ مجدداً كلمات منشوره [ ماذا تعني لك كلمة رجل؟].....رفرف الحب والاعجاب بقلبها فتمتم لسانها من فوره بانسياب:
" الرجل يعني أنت.....أنت يا أحمد ....كلمة تتجسد بك وحدك يا شيخي الوسيم "

ثم ضغطت على صورته الشخصية لتكبرها وشقت ثغرها ابتسامة تائهة بين الحب والندم ليتبع ابتسامتها دمعة نقية تسقط على وجهه وهمست وهي تضمه الى صدرها:
" سامحني....أنا من خنت معاهدة السلام بيننا"

×
×
×

بركان الغضب انفجر داخله ....كان قلبه يخفق جنوناً بعد ما سمعه منها وهما في طريقهما الى البيت ....عاتبها...لامها...صرخ بها من أجلها ....لمَ لم تخبره بكل هذا ولم تشاركه همومها.؟!...شعر أنه ناقص وشقيق لا يليق بها ما دام لم يستطع حمايتها ....دعس على الوقود مسرعاً بعد انفلات أعصابه....لو كان ذاك البغيض أمامه لمزقه إرباً......لكن الآن هدفه واحد ووحيد.....مواجهة جده ليحسموا الأمر ..إن كان برضا فهذا رائع وإن كان أي اعتراض لن يوقفه شيء ...سيأخذها ويذهب من هذه المدينة الصناعية ولن يرَى خطيبها شعرة منها ......وصلا الى قصر العائلة....كان ساكناً.....الوقت متأخر والجميع نيام.....عصره الغيظ يريد الحديث مع جده .....اقترب من باب غرفته يريد أن يوقظه من النوم فلحقت به بالحال تمسك ذراعه هامسة بضيق:
" قصي....أرجوك.....الصباح رباح.....الغضب لن يولد الا الغضب.....ربما خيراً لنا أنهم نائمون .....لنتصرف بحكمة ونفكر بتروي .....أنت تعلم طبع جدي....لو جئته بالعالي سيتمسك أكثر برأيه .....علينا الموازنة بين احترامه وايصال رسالتنا.....لا أريد أن نشتت العائلة والأهم أبي لا يستحق أن نضعه بمأزق ... "

تطلع عليها بوجهه المحمر وعروقه البارزة وقال وهو يجز على أسنانه:
" إلى متى سنعمل حساب للآخرين ؟؟!.....عليّ انهاء الموضوع حالاً......لقد تمادى كثيرا تامر......هل ظن أن ليس خلفك أحد؟!.."

استدارت تقابله وأمسكت كلتا يديه بيديها وهمست راجية والدموع تترقرق بعينيها البنيتين:
" يكفي أنني أعلم بأن الله وهبني أب وأشقاء يقفون كالجبل الصامد من خلفي ....لن يهمنا ما يفكر هو......أرجوك أخي......دعنا لا نفتعل مشكلة في آخر الليل وغداً بإذن الله سنضع النقاط على الحروف....خذ نفسك لترتاح واستعذ بالله من الشيطان...."

رفع يده ومسّد وجنتها ناظراً إليها بقهر وقال بغصة:
" آه شقيقتي.....لم يكن علينا أن نوافق على هذه الزيجة من الأساس.....أنت لا يليق بكِ إلا الأفضل يا عزيزتي..."

ثم سحبها تحت ذراعه يضمها لصدره وأغمض عينيه نافثاً أنفاسه المغتاظة وهتف:
" حسناً فلننتظر الغد ان شاء الله ولن يوقفني أحد.....أعدك"

في صباح اليوم التالي ذهب شقيقها الى عمله وهي الى جامعتها .... كان موعد عودتها عصراً......دخلت البيت وهي تفكر ماذا سيحدث؟!....فيفترض أن أخاها عاد بنفس وقتها .....صعدت الى غرفتها ....بدلت ملابسها وتوضأت وصلّت صلاة الظهر التي فاتتها وتبعتها بالعصر .....استغربت أنها لم تسمع أصوات من أحد......قالت في سرها " ما به قصيّ لم يأتِ إلي إلى الآن؟..."....جلست على مكتبتها تعبث بأوراقها بعشوائية فالقلق يتلبسها ولا تفكر بأي شيء سوى موضوعها .....طرقات على الباب ثم دخول لحبيب قلبها الذي جعل وجهها يشع نوراً.....إنه والدها الغالي ....اقترب منها بحنوٍ.....داعب شعرها وقبّل وجنتها فأمسكت يده وقبّلت ظهر كفه هامسة بمرح:
" أهلا بمن زارني وجلب لي البركة !"

تبسّم ضاحكاً وشاكسها ببضع كلمات ثم صمت قليلاً مما جعل الريب يدخل قلبها ....شعرت أن هنالك كلام عالق على لسانه لم تفهم ماهيته....غضنت جبينها تضيق عينيها وهمست وهي تقف أمامه :
" أهنالك شيء أبي؟!.."

أمسك يدها وسحبها إلى سريرها يجلسان جوار بعضهما ثم تهللت أساريره وقال:
" كم أنا فخور بك يا ابنتي .....لطالما قلت عنك الحكيمة!..."

لم تفهم مقصده وارتجت شفتها لا تعلم أتبتسم أم تسأل عما يعنيه لكنه أراحها مكملاً وهو يربت على كفها المركونة على حضنه:
" في الصباح أخبرني قصي كل شيء من البداية حتى منعك له بمواجهة جدك وهو غاضب.......خير ما فعلتِ حبيبتي"

انقبض قلبها خوفاً وشعرت بالاحراج وتمتمت بتلعثم هامسة والدموع تتكدس بعينيها:
" أ...أبي...أنا.....لم....لم ...."

قاطعها قائلا:
" ششش...اهدئي ميار...."

ثم رفع يمناها وبأطراف اصابعه سحب خاتم الخطوبة من بنصرها مضيفاً:
" مبارك ابنتي......لقد تحررتِ من تامر مبدئياً!!..."

جحظت عينيها مشدوهة وابتلعت لعابها لترطب حلقها وهمست متعجبة:
" كـ...كيف؟.....مـ....ماذا تقصد؟!..."

أجاب براحة وعيناه ترسل اشعاعات المحبة والحنان إليها:
" مثلما سمعتِ ميار......كلمت جدك ولم يعترض!.....وفي المساء سيأتي الشيخ ليطلقكما من بعضكما...."

ظلّت مذهولة فاغرة فيها لثواني قليلة ثم تحدثت قائلة باستغراب:
" هل وافق جدي بهذه السهولة؟!"

وضع يده على كتفها يداعبها بعطف وهتف:
" أجل.....لقد ذكرته بما حصل مع عمتك نجاة في الماضي وكيف تدمرت حياتها بسبب زواجها برجل شبيه لتامر لم ترغب به ...كم عانى جدك وقتها ...لكن يبدو أنه نسي ما عشنا سابقاً......أخبرته بكل شيء فعله معك وقد اخبرني به قصي....ثم قلت له أنا مستعد أن أحني رقبتي لك درجة لتدعس عليها كوني ابنك ....لكن عليّ القيام بدوري كأب ايضا لغاليتي .....فأنا لن أسمح لأحد بأن يهينها أو يدمر حياتها او يسلب سعادتها ولو فعلت المستحيل ........وفي كل الحالات أنا سآخذ عائلتي في القريب العاجل ونعود الى المدينة الساحلية وأرجو أن نذهب ومعنا رضاك .....فيبدو يا ابنتي أن الطريقة السلمية دون غضب مع وجود الحق معنا جعله يلين رغم محاولاته القليلة بالإقناع ....أعطاني الرضا وقال أن نبقيه بعيداً عن هذا الموضوع ونحل الأمر لوحدنا...وحتى قال لي ..هنيئاً لك بابنة مثل ميار....مطيعة...حكيمة.....فجدك كان متأثرا وراغباً بشدة لتكونا لبعضكما من شدة حبه لكما........ايقافك لغضب قصيّ جاء لمصلحة الجميع.....فكما قالوا....في التأني السلامة وفي العجلة الندامة........رضي الله عنك حبيبتي...."

ألقت نفسها في حضنه باكية بكاء الفرح وهي تكرر همساتها:
" حبيبي أبي ....لا حرمني الله منك....حبيبي...أحبك...أنت أفضل أب في الكون...."

وكانت تلك الليلة الأولى التي تنامها وهي بقمة الفرح والسرور في هذه المدينة الصناعية بعد أن تحررت منه رسمياً....!!.

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

التوكل على الله ثم اتخاذ قرار لا رجعة فيه مع قليل من الإصرار يمكننا أن ننجز ونحقق اهدافنا....تركتُ الجميع خلفي عائداً إلى تلك البقعة الطاهرة حيث نمت أزهارها بشموخ على دماء شهدائنا كأنها تبعث رسائلها إلينا بأن نجدد فينا العزيمة من أجل الاستمرار على نهجنا الذي نشأنا عليه حاملين شعار أن الدين والوطن فوق الجميع وبأن الحياة لن تتوقف على أحد فبعد الظلام سينبلج الصباح وإن ماتت روح ستأتي غيرها أرواح ولتخبرنا أن هنالك أمل ....أمل بربيع يزهر أمانينا بعد شتاء عصف بنا ورياح ذرت مشاعرنا الى أراضي بعيدة ...!!
دخلتُ قاعة الاجتماعات السرية بإباء وكبرياء وقوة مضاعفة أحمل عهدي (البندقية) على كتفي وأوراقاً جمّة رسمتُ عليها خططي العسكرية بعد تأجج مناوشات عنيفة و قتال شرس حدث بين كتائبنا وبين بقايا النظام الفاسد والذين كان هدفهم زعزعة سكوننا من جديد للتشويش على الانتخابات الرسمية التي كانت ستقام في هذه الأيام وقد نجحوا بإلغائها فعلاً لنعود الى نقطة التقاء شديدة الحساسية معلنين حرباً إما أن نخرج منتصرين منها أو منتصرين لا خيار ثالث أمامنا فالإنجازات والتضحيات التي قمنا بها على مدار سنوات وخسرنا خلالها الكثير إن كان من حيوات أو اقتصادياً تجبرنا على التصدي بكل ما اوتينا من قوة منعاً من العودة الى الصفر كما كنا قبل أعوام .....ألقيتُ التحية بصوتٍ جهوري على من كانوا ينتظرونني ثم خلعتُ بندقيتي ووضعتها على الطاولة أمامي ومعها أوراقي التي كانت بمثابة خرائط من رموز مشفرة لا يمكن لغيري تفكيكها وفردتُ إحداها منحنياً فوقها وباشرت لأشرح مخططي دون مقدمات فاستوقفني السيد ( سليم الأسمر) هاتفاً:
" لقد وصلت من توك بنيّ .....استرح قليلاً وبعدها نبدأ بالاجتماع.."

ظللتُ على وضعي منحنياً واستدرتُ برأسي يميناً نحوه وقلت بنبرة جادة شبه جافة:
" لم اشكو تعبي لأحد سيد سليم .....أتيتُ هنا للإنجاز وليس لشرب القهوة وكل ثانية من بعد الآن ستهمني..!!.."

تبسّم مجاملاً ورفع ذراعه يربّت على كتفي وقال بنشوة:
" مبارك عليك العروس التي اخترتها!...فتبقى هي الأفضل لنا كي لا نخسرك..."

أملتُ فمي بابتسامة واثقة مغرورة بينما كنتُ استند بكفيّ على الطاولة واومأتُ برأسي ايجاباً ثم هتفت ناظراً لـ ( إياد):
" أين ضياء وباقي الأشبال؟!.."

أجاب:
" لقد أعلمتهم بطلبك سيدي!!..سيأتون.."

زفرتُ أنفاسي بشدة وقلت:
" اذهب وعجّل بهم نحن لسنا بفندق ....لمَ لم يلحقوا بي بالحال؟!.."

رفع يده لجبينه هاتفاً:
" أمرك سيدي!.."

ثم فرّ خارجاً من القاعة ليتطلع بعدها السيد (سليم) على السيد (ماجد) ينظر إليه بنظرات مبهمة فهتف الأخير :
" لكن القائد عز الدين لم يصل بعد لتشرح له المخطط!!.."

بكل برود انتصبتُ بقامتي مجيباً:
" أنا من سأقود المعركة..!!

اتسعت عيناه بصدمة وسأل مستنكراً :
" ماذا ؟!..."

ثم أرخى ملامحه مضيفاً بحزم:
" لا يمكنك ذلك!....يوجد من يقوم بقيادة الكتيبة نيابة عنك !!...أنت نحتاجك للمخططات هنا..!!.."

صفقتُ بظهر كفي فوق الخارطة وهتفت بصوت جهوري آمر:
" قلت أنا سأقود المعركة بإذن الله.....المخطط مخططي والتعب تعبي....الكتيبة كتيبتي وإن سالت دماء فلتكُن دمائي...!!.."

تنهّد بغير رضا ثم ألقى عينيه لصديقه السيد (سليم) الذي تزينت تقاسيم وجهه بالفخر والاعتزاز هاتفاً بحبور:
" هذا ما أريده تماماً.....هذه المعارك خُلقت لك!.."

واستقام واقفاً يسحبني من ذراعي ليحضنني بشوق وتباهي أبوي وهتف وهو يربّت بقوة على ظهري:
" أهلاً بعودة الفهد الأسود..!!."
×
×
×

تجمع أشبالي حولي وكان جل تركيزي على تدريبهم نظرياً وبإحكام على خطتي التي رسمت....مرت ساعتان دون أن نرتشف رشفة ماء.....بعد اختبارهم والتأكد من استيعابهم لها ألقيتُ جسدي على الكرسي خلفي خائر القوى إذ أنني استنزفت طاقتي بالشرح المكثف دون لقط نفسي بغض النظر عن قلة نومي وسهري للتخطيط ...نفثتُ أنفاسي براحة ثم رفعتُ يدي برخاوة مشيراً لهم:
" يمكنكم الانصراف الآن...!!."

السيد (سليم) والسيد (ماجد) كانا ضيفيّ الاجتماع.....الأول افتخر برجوعي وامساكي للمهمة بنفسي لكن الآخر لم يستسغ الأمر وبدا مزعوجاً من قراري ومن صديقه الذي ساندني!.....لم ألقي له بالاً رغم انتباهي لعبوسه واعتراضه ...بعد قليل نهضت قاصداً مطبخ المعسكر لأحضر شطيرة تسد جوعي مع كأس شاي.....عدتُ إلى الغرفة فوجدتهما يتحدثان وقد وصلني صوت الحانق يقول:
" المهمة كانت من مسؤولية القائد عز الدين....لمَ لتوافقه على فعلته التي لا معنى لها!.....سيُكسر الآن القائد عز وقد كان متحمساً..."

وصلتُ إليهم بخطى واثقة ثابتة ناصباً ظهري ووضعتُ الكأس على الطاولة ثم قلت ببرود مستهزئاً:
" ربما لأني شعرتُ بالضجر قليلاً فأحببتُ أن أتولى المهمة....أليس أنا ابنكم المدلل؟!...."

رمقني بنظرة جافة لأن كلامي لم يعجبه ثم أعاد عينيه لصديقه وأجابني بعدم اهتمام:
" بالفعل هذا دلال.....ماذا يعني أن تأخذ المهمة أنت بينما يستطيع غيرك فعلها بسهولة ايضاً؟!....."

وأكمل وهو يناظرني بحدة:
" ما المعنى من هذا وما هي نيتك حقاً لا أدري..!"

ارتشفتُ من كأسي وقلت مبتسماً ابتسامة مستفزة:
" لا بد أن لدي سبب!.....أليس كذلك؟!؟؟

هز رأسه يمنة ويسرة رافضاً وقال:
" لعرفناه قبل أن تأتي..."

بملامح باردة مرتاحة لا تفضح الثورة داخلي:
" ليس بالضروري أن تعرف كل شيء قبل أوانه.....فكّر مثلاً أن الأمر سري!.....وربما حينها ستعذر تصرفي وشدتي."

أمال رأسه السيد(سليم) مع رفعه لحاجبه متسائلا:
" يبدو أن هنالك سبب فعلاً لإصرارك بأن تقودها أنت....أخبرنا ما عندك!.."

شددتُ بغيظ على الكأس بقبضتي وكززت على أسناني سارحاً بالسبب قبل أن أقول بحرقة:
" لأن هناك شك كبير بوجود خيانة يا أفاضل.!!.."

" ماذاااا؟!"

بصوتٍ واحد أخرجا سؤالهما فرمقتهما بعينين اشتعلتا احمرارا من القهر وقلت وأنا أحني ظهري للأمام منفعلاً بعد أن ألقيت نظرة للباب للتأكد أن المكان فارغ:
" أحمد اثناء تواجده هنا شك بوجود خطب ما بين القائد عز الدين ومساعده الأيمن ....لم يصل الى دليل لكنه كان مرتاباً غير مرتاح.....أخبر بلال بالأمر والاخير قام بدوره بمراقبة هواتفهما.....حصل على مكالمة مشبوهة غير ظاهرة المعالم....أسمعني أنا وأحمد إياها فانقبض قلبي.....رغم أنني خفت أن أظلم لأن لا دليل قطعي إلا أنني لن أكون طيباً طبعاً وأقامر على أرواح أشبالي.....فاخترتُ قيادة المعركة بنفسي وإن كان الثمن دمائي...."

بخشونة وصوتٍ غاضب قال السيد(سليم):
" علينا مراقبتهما من الآن...."

أرجعت ظهري لظهر الكرسي بأريحية وأجبت:
" أساساً منذ أسبوع بدأنا بمراقبتهما.....ثق بنا....أرواحنا لن تكون لعبة بيد أي خائن بإذن الله..."

اتكأ بمرفقه على الكرسي يمسك جبينه مقهوراً مسلطاً عينيه أرضاً من كان حانقاً عليّ وتمتم:
" لا حول ولا قوة الا بالله.....لا حول ولا قوة الا بالله.....من أين خرجت لنا هذه المصيبة الآن؟!..."

ثم رنا نحوي محرجاً لسوء ظنه بي وهتف:
" اعذرني هادي.....لم اتوقع هذا ابداً....."

قلت لأخفف عليه من حرجه:
" أنت لست مخطئاً ولك الحق بظنك وأنا لست مخطئاً لأني أخفيت توخياً للحذر..."

ثم تابعت بغصة ضارباً على صدري:
" لا أعلم كم سيتحمل هذا القلب ليتحمل....طعنات لا ندري أتأتي من قريب او غريب.....لقد تمزق كلياً...."

وبشموخ ناصباً كتفي استطردت:
" سأهب نفسي وكل وقتي بعد الآن حماية لهذه الأرض بمشيئة الله....سأبني فوقها عريني ....عرين لا يأوي الا أشبالاً شرفاء..."


لقد تمزق القلب فما عدت اخشى الأوجاع ....أنا من اخترتُ هذا الدرب وعنه لن أميل....لقد أتيتُ لأجدد العهد واستجيب للنداء.....سأتصدى للعدو ولن اسأم الكفاح سأدك الجبال تحتي وأشهر السلاح ....لن التفت للوراء بل سأشمخ بهامتي للسماء فأنا الفارس في معركتي....سأكون أمام الظلم اعصاراً عتياً....عزيز النفس مجاهداً أبياً.....تخليتُ عن دنيا الهوان باحثاً عن سبل الفوز بالجنان.....جئت الى ارضنا المخضبة بالدماء الطاهرة المعطرة بالمسك والريحان.....جئت لأكون الطلقة للثورة....كلا ...لم أخلق لأهاب.....خلقت لأقاوم من تحت الأرض وفوق السحاب.....طوبا لي إن كنت الشهيد أو بطلاً مغواراً يحقق نصراً مجيد.....أنا القائد للقضية وأنا المدرسة للوطنية .....نحن رجال الحرب وأعلامها نحن الحصون للبلد وأسوارها .....الآن هو زماني وهنا مكاني....أنا الثائر رافع الجبين.... أنا الفهد الأسود حامي هذا العرين ... انا هادي الشامي ناصر الدين وربي هو الحق المبين ....!!
حائرة ايهما ترتدي ....هذا الفستان يحتاج أن تبعثه للخياطة من أجل تقصيره كي لا يعرقلها فصديقتها تفوقها طولاً وقد تبرعت به لها .....وهذه ملابس مركبة من ملابسها القديمة ...قميص يصل الى منتصف الفخذين لونه وردي مع بنطالًا من القماش الأسود.....حركت فمها بنزق وتمتمت :
"يا الله يجب أن اشتري ملابس بديلة.......تناسب حياتي الجديدة "

أحنت رأسها تنظر الى بطنها الصغير البارز والذي أصبح عمره حوالي خمسة اشهر ووضعت يدها بحنية تمسده وهي تتابع:
" وتناسب بطني الذي كبر !!"

تنهدت بحرارة بعد أن أرهقها التفكير ....هي الآن (ألمى) جديدة بكل ما فيها.....فتاة تابت منذ ما يقارب الشهرين وعليها تغيير نهج حياتها.....لم تكن تخرج من بيت مربيتها خلالهما الا مرتين لفحص خاص بالحمل استعارت خلالهما من ملابس زوجة أخ (رهف) لذا لم تهتم للملابس وكانت تكتفي بأسدال الصلاة حين خروجها للشرفة أما الآن عقدت النية يجب أن تخرج من أجل الحصول على مصدر رزق لها ...عليها البحث عن عمل يعيلها ويلبي متطلباتها....فالمال الذي وضعته لها بحسابها سابقاً لم تتردد بتحويله مرة أخرى لحسابي رافضة قرشا واحدا منه.....والمال الذي بحوزتها من بعد بيع القصر أوشك على النفاذ ولا يمكنها الاعتماد عليه....الله اعلم كم سيصمد معها.....فهي تدفع لثلاثة محامين ....محامي شركة والدها السابق هنا في بلاد اللجوء لأنه الوسيط والمهتم بشؤونها والرابط بينها وبين بلاد الوطن وكذلك المحامين هناك وما يخص قضيتهم وأخرى مصاريف لا بد منها !! .....أما مجوهراتها تحتفظ بها للشدائد.......لم تدرِ كم ظلت تائهة حائرة لتختار أيهما الأنسب لتنفذ عملها الآن..........حملت ملابسها المركبة بعد ان اهتدت لها.....فقد فكرت أنها لربما تحتاج للسير الكثير وستكون هذه مريحة لتحركاتها ....ارتدت البنطال ولحقته بالقميص وبصعوبة حتى نجحت بإغلاق الأزرار التي تمر من فوق بطنها....فهذا ليس معد للحوامل ...وهي لم تعد الآن ذات الخصر النحيل المنحوت الشبيه بدمية الباربي... والسبب ...من تحمله في احشائها.!!....سحبت حجاب أسود مورّد جلبته لها (رهف) من زوجة أخيها ايضا لأنها غير منقبة مثلها .....أضاعت دقائق عديدة وهي تكثف محاولاتها لتعديله بشكل أنيق ....فما زالت غير معتادة عليه.....تأففت في النهاية هامسة:
" اووف....الحمد لله وأخيرا تم الأمر بنجاح..."

قرّبت وجهها للمرآة ترتب حاجبيها وتدخل شعيرات هربت من تحت الحجاب من شدة نعومتها ....لبست ساعتها وحملت زجاجة عطرها لحظة دخول صديقتها لها والتي أسرعت بمشيتها تمسك يدها قبل أن تنثر رذاذه هامسة برقة وابتسامة تشرق على محياها:
" أنت تعلمين عن كمية السعادة التي أنا بها .....بسبب توبتك...انتظامك بالصلاة.....أنا مجرد فتاة لا تربطنا دماء وأشعر بكامل الرضا من أجلك.....تخيلي واستشعري رضا الله عليك وأنت تقبلين لتسجدي له وتطبقين ما أمرنا به...."

هكذا هي هذه الفتاة التقية....لم تصبّ عليها الممنوعات صبّا كي لا ترهق كاهلها ....ارادت أن تسحبها للدين رويداً رويداً لتغرس القيم بها غرساً تصل جذوره الى أعماق قلبها وروحها....من بعد توبتها كانت تشرح لها أسس الدين وأركانه....لم تتوسع مرة واحدة....فالهدف اصلاح وليس احباط....هي تدرك أن مَن مثلها يكون تغيير نهج حياتهم مرة واحدة صعباً عليهم....سنوات اعتادوا على نمط لن يصبحوا بشخصية أخرى مختلفة كلياً بليلة وضحاها......فضّلت أن تجلبها للدين وعظمته بسلاسة ....فالضغط والتعجيز يولّد النفور ......ويبدو أنه حان وقت موعظتها عن العطر والتطيب....لذا أمسكت بها تمنعها قبل فعلها...!!

أما المعنية ناظرتها بضياع بعد خطابها الصغير الذي القته عليها ثم تململت محرجة بعد أن وصلها ما وراء القصد من رسالتها وبعد استيعابها ماذا كانت ستفعل فأكملت تلك:
" ارجوك....لا تضيعي صلاتك التي جاهدتِ للانتظام بها بالتطيب بروائح محرمة بل تجعلك بمقام الزانية حاشاكِ.....فقد قال لنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم (( أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية))....."

وضعت الزجاجة بتمهّل مكانها تطرق رأسها أرضاً وهمست بصوت حزين :
" كان يخبرني بهذا ...ذا ...ذاك...يعني...ها...هادي...ولم أكن أهتم.....أنت تعيدين لي كلماته ...أنت تشبهينه ...وكأنكما درستما هذا معا..."

تبسمت بلطافة وقالت:
" لأن ما يجمعنا هو الاسلام....ديننا الحنيف.....قرآننا العظيم وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم....قدوتنا...فأينما ذهبتِ شرقا أو غرباً لا تجدي اختلافاً بأسس عقيدتنا بقلب أي مسلم عرف دينه وشريعته بحق وبالشكل الصحيح......وأنت بإذن الله ستكونين ضمن قافلتنا....هدانا وإياك الله وثبت أقدامنا...."

ضغطت على شفتيها محبطة ثم قالت بضياع:
" أنا احب العطر كثيراً....ولم اعتد على الخروج دونه.....استصعب ذلك....أشعر كأنني لست نظيفة!..."

رفعت يدها تضعها على كتفها بمحبة تشرح لها:
" المرأة زينتها في بيتها....سواء لنفسها أو أمام زوجها.....ثم يمكنك المحافظة على نظافتك بالاستحمام والوضوء ووضع كريمات ومواد دون رائحة عطر وهي تحافظ على رائحتنا النظيفة دون أن نؤثم ...هنالك الكثير منها......ألن يكفينا هذا؟!....أم أن يرى زينتنا ويشم رائحتنا كل من هب ودب ومن يسوى ولا يسوى أفضل ومتعة أكبر لنا حتى يطمع من في قلبه مرض ويؤذينا لا قدر الله؟"

شردت بكلامها حتى وصلت لحادثة (صلاح) معها وهي تسبح بين أمواج ذاكرتها وأخذت تسترجع مواقف كثيرة بيننا وكيف كنت امنعها او انصحها وهي تأخذ كلامي باستهتار وسخرية ولم تكن ترى هذا الا تخلّف .....أما الآن بعد أن شرح الله قلبها وأنار دربها وصلتها رسالتي وهي أنني كنت أغار عليها من الغرباء وأخشى عليها من غضب الله....!!.....

بعد الغوص بذكرياتها نظرت الى (رهف) سائلة:
" كيف سأعتاد على هذا؟!..."

شقت ثغرها ابتسامة صادقة ومسحت لها ظهرها بكف يدها بدفء وأجابت:
" ضعي في بالك دائماً.....من ترك شيئا لله عوضه بخير منه....."

×
×
×

جلست فوق سطح جدار موجود على حافة الطريق تضع يدها على صدرها منحنية لاهثة تحاول لقط أنفاسها .....لقد أنهكها التعب فخارت قواها......ساعتين وهي من محل لمحل ومن شركة لشركة تجول في وسط المدينة باحثة عن عمل وكانت كل الاجابات.....[ عذراً....لا مكان شاغر....أو.....لا شهادة لديك.... أو ....ينقصك الخبرة....] ....تابعت سيرها على الأقدام تجرّ رجليها جرّاً من ثقل حركتها..... تلتفت ذات اليمين وذات الشمال دون أن تفقد الأمل بإيجاد أي عمل!.....لا مفر ...انتهى عهد الدلال وكل هذه المدة كانت كافية لتتقبل حقيقتها.....فتاة يتيمة مكسورة الجناح وعليها الاعتماد على نفسها.....لفت انتباهها ضجيج يأتي من طريقٍ فرعيّ....جرّتها أقدامها فضولاً فاكتشفت وجود مخزن كبير خاص لمواد التنظيف مليء بالعمال وشاحنات نقل.....ستجرب حظها!...ربما يحتاجون لعاملة تسجل البضائع الداخلة والخارجة أو تحصي المخزون !!......اقتربت منهم متمهّلة وعند أول عامل قابلها سألت:
" من فضلك.....أين المسؤول عن المخزن؟!"

أفرج عن أسنانه بخباثة يتفحصها دون أن يجيبها!....فتبقى هي الألمى الملفتة بجمالها ....رفع رأسه لزميله الذي كان يتناول منه الصناديق داخل الشاحنة وتبادلا نظرات الوقاحة والنوايا الدنيئة.....أحست بعدم راحة وانقباض بقلبها .....تركته وتابعت خطاها حتى وجدت رجل يحمل اوراق ويحرك يديه هنا وهناك ملقياً أوامره....تبسّمت فها قد وجدت هدفها.....اقتربت منه ولما وصلته أخذت تسعل بعد هبوب روائح من مواد التنظيف المسكوبة بالخطأ....:
" عفواً.."

قالتها له وهي تضع قبضتها أمام فمها تتابع سعالها الذي لم يتوقف فأشار بالحال لأحد العمال بأن يأتيها بكأس ماء....!!...مدّ يده يناولها بعد احضاره للماء فتابعت سعالها وهي تنهاه بيدها أنها لا تريد.....لاحظ المشرف المسؤول نظراتها المتوجسة للكأس فأمره بعجلة:
" احضر من ثلاجة مكتبي زجاجة مغلقة حالا....هيا اسرع.."

كان نبيهاً فتوقع أنها غير مطمئنة لتشرب من شيء مفتوح!!....لمَ لتثق؟!...مَن هؤلاء؟!.....لم تعد تثق الا بنفسها.....فالأقرب خذلها ....أنا وخالتها!......أحضر زجاجة الماء وفتحها لها أمامها فالتقطتها بالحال وهي تشهق لتلقط أنفاسها من شدة السعال.....كان العطش يقتلها وهي تجوب الشوارع ولم تهتم بحالها وزاد جفاف حلقها رائحة المواد الكيماوية الخاصة بالتنظيف......شربت حد الارتواء.....بعد أن هدأت وخفّ احمرار وجهها شكرته بحياء فقال:
" تفضلي بنيتي.....عمّا كنتِ ستسألين؟!"

كان رجلا يتوسط الأربعين من العمر....ردّت برقة:
" أبحث عن عمل ....هل لديكم وظيفة شاغرة؟!"

رمقها باستغراب.....والتفت بعدها للوراء ناظراً للكم الهائل من المواد والعمال الذكور ليعود ويخفض بصره لبطنها قبل أن يتطلع على وجهها ثم هتف بمروءة:
" بنيتي ....أظن أنك حامل ...صحيح؟!"

اومأت برأسها ايجاباً وبحياء فأكمل:
" هذا المكان لا يناسبك ...أولاً كونك حامل ممنوع منعاً باتاً استنشاق هذه الروائح المضرة لصحتك ولجنينك...."

أخفضت رأسها محرجة لأنها لم تفكر بالأمر ثم رفعته لمّا تابع قائلا:
" ثم يا ابنتي انت ترين الكم الهائل من الرجال هنا.....ما موقعك بينهم وأنت...."

تنحنح مستطردا:
"اسمحي لي انت مثل ابنتي....يعني ما موقعك بينهم وأنت فتاة صغيرة وجميلة ؟!....لا تلقي بنفسك الى الهلاك وابحثي عما يناسبك من كل الجوانب ....حماك الله"

شحب وجهها وتسرّب الهلع الى فؤادها من الفكرة فهمست بمرارة وملامحها تفيضُ بالأسى:
" معك حق عمي....شكرا لك!..."

" على الرحب والسعة بنيتي.....انتبهي لنفسك!.."

صمت ثواني وغضن جبينه سائلا:
"ثم لا تؤاخذيني.... أين زوجك؟!......هل يسمح لك بالعمل بين الرجال؟!.."

بعينيها الزرقاوين البائستين ظلّت تحدجه صامتة تاركة لهما المجال للبوح عن أسرارها فانتبه أنها تعاني مشكلة ما وفضّل عدم التدخل ثم قال بذات المروءة بعد أن مرت الفكرة بباله:
" سأعطيكِ عنوان لصديق لي في الحي القريب لديه محل بيع أدوات كهربائية وأظن أنه كان يحتاج لمن تمسك المحل نهاراً وتتعامل مع التجار هاتفياً وتسجل كل شيء على الحاسوب......جربي حظك"

تهللت أساريرها مبتهجة ولمعت الفرحة بحدقتيها ....شكرته ثم ذهبت للعنوان المراد دون تأخير وكأن كلامه كان وقوداً لتعيد بعضاً من قواها ....لما دخلت المحل وجدته رائع....مريح....نظيف....مكيّف .....يناسبها تماماً....ما أجمل الأمل عندما يزورها فيضيء وجهها ويعطي الصفاء لسماوتيها.....عرّفت عن نفسها لصاحب المحل ولفتاة أخرى تعمل معه كانت تركز بشاشة الحاسوب!!.......مهما تبدّل حالها وتضاءلت ماديتها لم يؤثر هذا على شكلها الذي يدل على أنها ابنة ذوات....أنيقة...رقيقة....بريئة وخجولة....كما أن الحجاب زادها رقيّ وزيّنها بالوقار.....وافق الرجل على توظيفها وطلب من الأخرى أن تشرح لها عن سيرورة العمل ...كانت تصغي بكل جوارحها.....لا غبار على ذكائها بتلقي المعلومات ونباهتها وخاصة عندما تريد.....وعندما لا يكون معلمها الذي يزلزل كيانها بعطره وقربه ويفقدها صوابها!!....أي أنا.....حبيبها هاديها.!!......بعد نصف ساعة من الشرح أحست بركلة جنينها الذي باتت تشعر بحركته منذ أسبوع فوضعت يدها على بطنها بعفوية باسمة ....لم تنتبه لها الفتاة بالبداية لأنها كانت منشغلة بالحاسوب أمامها لذا لم تر بروز بطنها الصغير أما الآن أصابها الشك فسألت:
" عفوا.....هل أنت حامل؟!.."

بكل حنان وبراءة أجابتها بـ(أجل) فعبست تلك محبطة وقالت:
" يا الله لم اكن أعلم..."

" ما المشكلة.؟"

ألقت سؤالها بتشكك فأجابتها:
" السيد رياض لا يوظف حوامل.."

بنظرات منطفئة احباطاً ووجهٍ كسته العتمة سألت عن السبب فردت الفتاة بخيبة:
" لأنه جرب هذا سابقاً وأصيب بالإحباط.....توظفت واحدة حامل....علمها وتعب بالشرح...اتقنت عملها ولما حان موعد الولادة أخذت اجازة ولادة ثم مستحقاتها دون أن تعود بعد أن كانت تحمل كافة المسؤولية عن المحل فاضطر ليمسك كل هذا بنفسه من بعدها لوقت ما حتى ارهق كلياً لذا قرر ان لا يوظف حوامل ...يتعب بتعليمهن ثم يتركنه بمنتصف الطريق!!....يعني عذرا منك.....نحن آسفون حقاً....لأننا لا نوظف حوامل...."


*لن نوظف حوامل*...جملة اخرى اضافتها لجميع الجمل التي القيت اليوم على مسامعها ....*لا مكان شاغر*.....إذاً لا نصيب لها....*لا شهادة لديك*....آاه..لقد ضربوها بالصميم وأصابوها في مقتل على أكثر شيء تتحسر عليه داخلها وكم هذه النقطة تؤلمها.!!...ثم.....*ينقصك الخبرة.*...!!......زفرت زفرة من الحرقة والحزن اللذين ألمّا بها....خرجت بتثاقل تنكس رأسها من قلة حيلتها.....سارت على الرصيف عازمة على العودة لمسكنها....مرّت من جوار محلات لبيع المأكولات...اخترقت أنفها رائحة شواء الكباب...أصدر بطنها صوتاً ينادي للطعام....ازدردت لعابها وصارعت حيرتها.....أتشتري أم لا ؟!....تذكّرت أن اليوم وجبة الغداء فاصولياء ...لا تحبها لكن لا وجه لديها لتعترض....باتت تتقبل كل ما يقدّم لها حتى لو على مضض....هل ظنت أنها كما السابق تطلب وتتمنى والخدم تحت أوامرها ؟!....كلا...كان كل هذا من ماضيها الذي لم يكن سوى حلماً واستيقظت منه...هكذا قيّمت حياتها!!..... مربيتها تعرف قائمة مفضّلاتها وتحاول قدر الامكان أن تطلب من (رهف) طهيها لها إلا أنها تبقى مكلفة.!!....لقد مضت فترة الوحام الصعب وعادت لسابق عهدها....أي أن الهمبرجر والمأكولات الايطالية هي من تتربع على عرش أكلاتها....لكن للأسف....لن تحصل عليها بسهولة مهما اشتهتها!!......فتحت حقيبتها وأخرجت نقودها قاصدة التوجه لمحل الكباب.!!....توقفت متسمّرة في طريقها بعد أن حسبت معادلة بسيطة في عقلها..." عليّ شراء فيتامينات خاصة وأدوية....بنطال يناسب للحمل !!...شراء خضروات للبيت....شاحن للهاتف بدلاً من الذي تعطّل.....وايضاً لسيارة الأجرة من أجل العودة ..."....لوت فمها مهزومة...وغصة مريرة أحرقت صدرها....أعادت المال لحقيبتها واستدارت تعود أدراجها مقهورة.....وضعت يدها على بطنها بحنان وهمست لرفيق همومها :
" تحمّل يا صغيري....أعلم أنك اشتهيت الكباب....أعدك عندما أجد عملاً سأطعمك كل ما تشتهي....لكن الآن لدينا أولويات وأكثرها من أجل المحافظة عليك ....المال الذي بحوزتي لليوم لا يكفي ....أرجوك تحمّل من أجلي...!!.."
مسحت دمعة عصية سالت على وجنتها ثم شجّعت نفسها للصمود أمام رياح الذل والهوان !!.... هي ترى نفسها أنها الآن تمر بعثرات لكنها ستتغير...الضربة التي لم تقتلها ستقويها ....أجل ستكون أقوى من سابق عهدها...ستتحدى الحياة وصعابها.!!....إن لم يكن من أجلها فمن أجل الأغلى من روحها....رفيق دربها الذي تحمله في بطنها!!....سحبت نفساً عميقاً وأخرجته بتمهّل ثم تابعت سيرها لشراء حاجاتها...انهت مشوارها ثم استقلت سيارة أجرة.... خلال الطريق سرحت بحظها ..وما عاشته اليوم....فعاد الضغط لصدرها لدرجة شعورها بأن هنالك شيئا يخنقها كاد يكتم أنفاسها!!....كانت تتكئ على مقبض باب السيارة بمرفقها تسند وجنتها بكفها تتابع شرودها وهي كسيرة الفؤاد والدموع تترقرق بعينيها....تنظر الى المباني والى العارضات المثبتة على الشارع الخاصة بالإعلانات وهي تتبدل أمامها ....كل شيء يتبدّل إلا الجروح التي تعانيها ترافقها هي ذاتها.....توقفت السيارة عند إشارة ضوئية فوقع نظرها على إعلان ظلت تحملق به بملامح تائهة إلى أن استوحت منه فكرتها!!........تبسّمت ضاحكة بعد أن غمرتها الفرحة بغتةً..وقالت في نفسها " يا إلهي...لمَ لا نفعلها نحن ؟!.. "......أجل ستفعلها....ستقنعها ....فيبدو.....أن لا بديل بين يديها ....!!.....وصلت الحي القديم وبيت مربيتها مشرقة الوجه مستبشرة وهي تزداد إصراراً على تنفيذ فكرتها وقرارها الذي لا يكتمل الا بموافقة صديقتها (رهف)......بعد أن دخلت البيت استحمت بماء بارد لتزيل عنها عرقها وغبار الطريق ومعهم القليل من همومها !!.....صلّت صلاتها وساعدت صديقتها بصفّ أطباق وجبة الغداء على الطاولة وأثناء جلستهن وبعد أن قصّت عليهن معاناتها ارتأت ادلاء فكرتها بكل حبور وحماس هاتفة:
" قررت قرار لا رجعة فيه .....ولا يمكنني تنفيذه دونك رهف..."

امعنتا النظر بها مع اصغاء تام تنتظران اكمال حديثها فأكملت:
" من بعد معرفتكن بحملي وضعف جسدي أصررتن لأبقى معكن في البيت تحت المراقبة وبقي بيتي المجاور فارغاً رغم أنهم أنهوا ترميمه...."

صمتت قليلا فقالت السيدة (سهيلة) متحفزة:
" أجل بنيتي ....تابعي....الى اين ستصلين؟؟!..."

قالت باندفاع ونبرة كلها طاقة إيجابية:
" وأنا في طريقي رأيت اعلان في الشارع فلمعت الفكرة ببالي......"

تحفّزت أكثر مربيتها سائلة:
" أي اعلان ؟!..."

أجابتها منفرجة الأسارير:
"كان اعلاناً عن مطبخ لتحضير المأكولات البيتية والحلويات "

أكملت بنبرة هادئة تلقي فكرتها بوضوح:
" رهف هي طباخة ماهرة....لديها أنامل سحرية في تحضير الطعام ....وقد اخبرتني مرة عن حلمها بأنها ترغب بفتح مطبخ خاص بها........تمارس هوايتها ويكون مصدر رزق لها لأنها تحتاج للمال لمساعدة أهلها بمصاريفهم ولشراء جهازها..... "

صمتت قليلاً ثم تابعت وعينيها تبرقان بالأمل:
" أنا لدي بضع قطع من المجوهرات ادّخرتها لوقت الشدة ....مصاريفي تزداد وأنا احتاج للمال لأعيل نفسي وابني......أنتن منعتنني سابقاً من بيعه عندما رغبت لأصرف على نفسي وكنتما محقتان لكن الآن جاء وقته.....لذا قررت أن أبيع ما يكفينا لشراء كافة مستلزمات المطبخ العملي وكل ما يتبعه وفتح مطبخنا الخاص في بيتي المجاور لتلبية طلبات الزبائن بالمناسبات.....نحن الآن في بداية الصيف والمناسبات كثيرة .....ثم ممكن أن يكون للأفراح والأتراح....للولائم والعزائم وأي مناسبة أخرى.....لقد تفحصت الأمر وبحثت عن الموضوع في الشبكة العنكبوتية اثناء طريقي ....أخذتُ نبذة سريعة عنه......ووجدت ايضاً أنه الآن هو عز الطلب وأوج الموسم وأكثر وقت مناسب للتنفيذ........ما رأيكما؟! .....هل انت موافقة يا رهف؟!...."

ظلت صامتة لوقتٍ يسير تقلّب كلامها في عقلها ثم كانت اجابتها النهوض من مكانها تقبل عليها تحتضنها بحرارة وتقبّل خدها ثم تلصق وجنتها بوجنتها لتنزل دمعات مع ضحكتها القلبية وهي تهمس:
" شكرا لك ألمى....شكرا.....موافقة بالطبع ما دام الشيء سيكون فيه مصلحتك قبل مصلحتي...!!..."
×
×
×
احتفلن بالموافقة على مشروعهن الجديد أثناء السهرة ...خططن للكثير بشأنه ومن أين سيبدأن وخضن بأحاديث شتّى.....أخبار الجيران....أخبار عامة وما إلى ذلك....لكن بعد كل هذا ورغم أن السعادة كانت ضيفة الشرف في جلستهن وعليهن استغلالها إلا أن السيدة ( سهيلة) العاقلة لا ترضى على حياة صغيرتها وما وصلت إليه وهي أكثر من تشعر بها!! ....تتقطع أحشاءها عليها رغماً عنها....تراها تدّعي الفرح بينهن إلا أنها عندما تغوص في سماء عينيها تلمح طيف الحزن الذي يلازمها....تستشعر النقص الذي تعيشه داخلها.....تلحظ حاجتها لشخص يجب أن يكون أقرب لها من أي مخلوق آخر....كانت من فترة لأخرى تتكلم مع السيدة (ايمان) بالخفية لتطمئن الأخيرة على أمانة غاليتها وقد حافظت على قسمها ووعدها بألا تخبرها بشيء يخص حملها.!!.....كان من حسن حظهن أن السيدة (إيمان) أغلقت مقر صحيفتها في هذه البلاد بعد وفاة صديقتها التي كانت خير داعمة لها أي السيدة (فاتن) رحمها الله وعادت من بعدها في غضون أيام لم تتجاوز الشهر إلى بلادها الأم ....وطننا الحبيب!!.....لكنها عادت متخلية عن دورها....رأت نفسها قامت بالواجب وقد حان وقت استقرارها بين أقاربها وأهلها......لم نضغط عليها بشأن عملها معنا فنحن نعلم مدى الحزن الذي تعيشه بعد رحيل توأم روحها وتركنا لها حرية الخيار رغم اعترافنا بقيمة ما خسرنا !!.....لقد كانت إنسانة من خيرة الناس وأشجعهم....إنها صحفيتنا الثائرة ...فارسة الثوار إعلامياً...كانت اللسان الناطق ذو الوجه الخفي لكتائبنا..!!....فتلك الفارسة لو بقيت في بلاد اللجوء لقامت بزيارتهن حتماً ولكشفت سرهن الصغير ...!!....لن تيأس السيدة (سهيلة) من محاولاتها المتباعدة بين حين وآخر لتذكير ضيفتها الصغيرة وابنة من كان سيدها بوضعها الحالي وبهذه السهرة الجميلة قررت أن تفاتحها مجدداً قائلة:
" صغيرتي ألمى.."

وضعت قشرة الموز بعد انتهائها من أكلها في الصحن أمامها وهمهمت مجيبة وهي تتطلع عليها بوجه بشوش:
" ها خالتي؟!.."

ناظرتها بعينين باسمتين وملامح حنونة وهتفت:
" ألن تغيري رأيك بشأن اخبار زوجك بحقيقة حملك؟!.."

عبست ملامحها في الحال وأشاحت نظرها جانباً مجيبة:
" كلا....لن أخبره..."

وبنبرة عتاب وملامة أعادت حدقتيها إليها مردفة:
" لمَ هذه السيرة الآن خالتي؟!.."

" أتظنين أنك ستتخلصين من هذه السيرة ألمى؟!....صدقيني مهما هربتِ من هذه الحقيقة ستجدك!..."

بصوتٍ موجوع مغلّف بالقوة ردت:
" لتجدني....كلما تجدني سأهرب ولو أمضيت كل حياتي هاربة منها .."

قالت بنبرتها الهادئة:
" بنيتي!...غبتما شهرين عن بعضكما.....ألا يكفي؟!...ألم تخمد نيران الغضب والكراهية داخلكما؟!....لا تنتظريه بل حاصريه....لا مكان للكرامة هنا....أنتما زوجين مهما عشتما من حروب.... يوجد ابن يربطكما....مخطئ أنه لم يسمعك أجل...لن أعذره!!...لكن كما أنت امرأة مجروحة هو كذلك رجل غاضب !!....اذهبي إليه ليضمد لك جراحك ..واقبلي عليه لتطفئي غضبه.....كفاكما عناداً كالأطفال...."

هتفت بهجومية وانفعال متألمة:
" أقبلتُ إليه فأدبر....غاب عني ولم يسأل....عشقه ما كان إلا سراب ووعوده أوهام .....أين هو ؟!...لمَ لأذهب إليه وهو من رماني؟!.."

قررت أن تضغط على الوتر الحساس ...فهي تعلم طباعها وشدة غيرتها وكان الهدف لمصلحتها فقالت:
" صغيرتي....رجل متزوج الى متى سيتحمل غياب زوجته عنه ؟!.....عليكِ المحافظة على زواجك قبل أن تخطفه غيرك!!...زوجك رجل محترم وشاب ما شاء الله عنه إي فتاة تتمناه.....أعلم علم اليقين أن ما حصل بينكما ليس هيّن....لكن إلى متى ستبقيان متباعدان تعصف بكما الرياح وتتركان فجوة لتتسرّب الشياطين لحياتكما أكثر فأكثر؟!.."

رجف قلبها من كلمة * تخطفه غيرك* ...لم يتقبّل عقلها الفكرة ...اشتعلت الدماء في منابعها غصباً عنها وهي تتذكر آخر لقاء لنا....لم تنسَ نظرات تلك وجرأتها...أخبرها حدسها آنذاك بأن من كانت أمامها ....معجبة بزوجها!...تلاعبت بها الوساوس...ماذا لو؟!...ماذا لو تقاربنا أكثر بغيابها ؟!...فهي تفقه جيداً أنها تمسك قضيتنا إذاً من الطبيعي تكرار اللقاءات بيننا...خُيّل لها أشياء كثيرة....وما ضخّم خيالها...حدسها...غيرتها...وبا? ?تأكيد هرموناتها!!....وعند هذا الخاطر أثيرت أكثر حفيظتها فهبّت واقفة وهي ترتدي قناع لونه عدم الاكتراث والقوة لتقول كاذبة بينما لم تستطع اخفاء السحب التي غشت سماءيها :
" فليفعل ما يشاء....لن أهتم لأمره!.."

وكريحٍ عاتية أسرعت بخطواتها متجهة الى الغرفة المشتركة بينها وبين (رهف) حتى وصلتها!!....فتحت الباب ونزعت القناع الذي كانت ترتديه قبل قليل بغل عنها مستسلمة لضعفها بعيداً عن الأنظار....ألقت حدقتيها إلى حقيبتها الكبيرة المركونة عند الخزانة...مشت بصعوبة إليها مثقلة من همّها وحزنها....قرفصت أمامها وفتحتها وأخرجت منها واحدة أصغر ...تلك ذاتها التي جهّزتها لها أمي حين عودتها.....سحبت سحابها برخاوة وأخرجت كنزها الذي سرقته من غرفتي....فهي رأت أن هذه من حقها!!...إنها صورتي بالأبيض والأسود بشكلي الذي رأتني به بلقائنا الأول في المخيم والتي أخذتها معها برحيلها.....مسكتها بيدٍ مرتجفة ونهضت من مكانها بالحركة البطيئة وخطت الى الوراء حتى ارتطمت بالسرير من خلفها....جلست عليه وراحت تتأملها.....وبإبهامها الأبيض الرقيق مسحت بحنية وحب متجذر من الماضي على وجهي وهي تتمتم بحرقة واشتياق:
" لا تدري أي نار أعيش في بُعدك....في اليوم الذي وجدتُ حضنك الآمن مرة أخرى... فقدتك...!.....أين أنت الآن وماذا تفعل؟!...هل نسيتني؟!...شهران...شهران يا هادي لم تحاول الاتصال بي ؟!..قل لي....ماذا يساوي ما فعلت لك مقابل ما فعلته بي وبأبي ؟!...لمَ غضبك لعين وكبرياؤك عنيف ؟!.....أنا أخطأت...وغضبت مثلك... لكني أتيت للإصلاح ....أما أنت....حرمتني حنانك وأمانك....حرمتني يا حبيب العمر...حرمتني والله أعلم ما الذي تفعله الآن دون أن أخطر دقيقة على بالك !....هل حبنا مزيّف؟!....هل نسيت بسهولة ما حصل بيننا ؟!....هل...هل سـ...ستستبدلني بأخـ...بأخرى؟!...."

شدّت على الصورة بقبضتها دون ادراك كلما زادت بكلامها وأطلقت سراح عبراتها الساخنة المكلومة لتساند مشاعرها الجريحة.....أشاحت عينيها عنها ناظرة للسجادة الزيتية أمامها....وعصفت بها الأوجاع التي نتجت عن غيرتها وهي تسترجع لقاءنا الأخير بحذافيره فتمتمت بأسى من شدة هذه الغيرة ومن قهرها وهي ترفع يسراها تضعها على صدرها لتربّت بها على قلبها:
" فأرة بغيضة....أكرهك أيتها المتملّقة.....ابتعدي عنه ....اذهبي للجحيم يا منافقة....اسأل الله أن لا يجمعكما بمكان واحد...هو لي...لي أنا ...حضنه لي...قلبه لي....أنفاسه لي...عطره لي........."

وبجزع وقنوط أكملت بصوتٍ ضعيف بائس:
" مهما غضبت منه وحتى لو لن نعود لبعضنا يوماً وإن كان البعد قدرنا.... سيبقى هو بكل ما يملك لي وحدي...وحدي أنا...."

تسارعت دقات قلبها....ارتفعت حرارة جسدها انفعالاً...شعرت بتمرّد يسري في عروقها فأعادت زرقاويها للصورة ...ضمتها لصدرها تحتضنها مغمضة العينين وذرفت أنهاراً من الدموع على وجنتيها لتسقط على بلوزتها تلقى مصرعها....دقيقة ودقيقتين وأكثر ظلت تشدد باحتضانها وتشد أكثر على عينيها تطرد دموعاً أغرقتها....توقفت عن البكاء وسكنت أنفاسها ...أبعدت الصورة عنها تتأملها من جديد ثم أخفضت بصرها لبطنها بعد ركلة من صغيرها ...كأنه يوقظها من هيامها والضعف أمام غرامي.....قطبت حاجبيها بغضب وقست ملامحها...فزّت عن السرير وأرجعت الصورة إلى مكانها.....أغلقت السحاب وهمست مغتاظة ببراءة وعفوية كلمات معظمها من وراء قلبها:
" لن أضعف أمام حبك....لن أسامحك مهما عشقتك...أنت ظالم....ظلمتني وظلمت أبي ....تركتني وحدي ولم تسمعني فوصل ظلمك لابني....إذاً لا حق لك بأن تعرف عنه ....وعش حياتك كما يحلو لك وكما تشدقت لي آنفاً ...لن أهتم ولن أغار عليك.....واسأل الله أن لا تلتفت أي أنثى بغيضة لك أيها الحائط المغرور عديم الاحساس ....أنا أكرهك أكرهك ولست بحاجتك ...ولا بحاجة حضنك ذاك ولا لأموالك..."


~~~~~~~~~~~~~~~~~


حان وقت قطف وردة السعادة من الحقول ليزرعها في حوضه ويزيّن بها بيته ويصب عليها اهتمامه والاعتناء بها....إنها فرحة عمره التي طالما انتظرها....شهرا بشهر وساعة بساعة .....ها أتى اليوم الذي سيجتمع بها في بيتهما الزوجية......صبر فنال وما أروع ما نال......هي أجمل نساء الكون في عينيه.....إنها الحبيبة والصاحبة.....الحنونة وخير داعمة.....المطيعة الطيبة.....وحدها (سلمى) التي اختارها لتكون شريكة حياته فأصبحت الحياة بكل معانيها .......لقد خطف لنفسه اسبوعاً واحداً فقط يتجهز به لزفافه.......اشتعلت الحرب على الحدود كما اشتعل الشوق لقربها بقلبه.....سمح له المسؤولين بأن يترك مهماته هناك ويأتي للمدينة الجبلية ليزف هذا البطل عريساً لعروسه بنفس الوقت الذي حدده منذ شهور .....لن تؤجَّل أفراحنا مهما كان السبب ....فالوقت الضائع لن يعود....وما سنهرب منه ربما نلقاه في المستقبل.....إذاً لنزرع ورود سعادتنا بأيدينا ونسقيها بالتوكل على الله والتفاؤل .......ليلة البارحة احتفلا بحفلة الحناء المشتركة لكليهما بمشاركة الجيران والأصحاب والمعارف.....اما اليوم هو يوم وليمة الزفاف الكبيرة.......وما يميز هذا اليوم هو العادات والطقوس المصاحبة له ومن أهمها ما يدعى (حمام العريس) والذي يُجرَى في بيت مَن دعاه مِن الأصدقاء......ولعريسنا (بلال) لن يكون حمام اعتيادي.!!.....لأن المستضيف هو الأشقر الغليظ واسمه كافي ليعلم الجميع ماذا سيفعل به ؟!.....جلبة تحدث في بيت سيادة اللواء منذ الصباح .....حبال الزينة تمتد بين الأشجار.....وكراسي تفرد بشكل مرتب دائري تاركين فراغ على العشب الأخضر ليكون ساحة الرقص أو لنسميها ساحة العراك ....أفضل اسم لما يحدث أثناء الحمام بعاداتنا ..!!...لقد جمع صديقي (سامي) صغار الحي ليساعدوه بالتجهيزات وجعل شقيقي (شادي) يترأسهم كونه أكبرهم ...فعليه الالتفات لأمور أكثر أهمية.....فور انتهائه من بعضها صعد الى غرفة نومهما ليستحم ويزيل عن جسده العرق بعد عمله الشاق وحرارة الجو ...ارتدى من ملابسه اليومية مؤقتا ليتابع مهماته ثم نزل متوجها الى المطبخ ليستمد الطاقة.... من ضفدعته.....كانت تغسل أواني الفطور الذي شاركهم به جيشه من أطفال الحي .....دنا منها وحضنها من الخلف يحوط بذراعيه بطنها الذي غدا أكثر بروزاً عند دخولها شهرها السابع ثم أطل برأسه من جانبها يقبّل وجنتها وهمس:
" دنيتي......اسأل الله أن يكرمك بالصحة والعافية!.."

جففت يديها بالمريول المعلق بعنقها نزولا لجسدها ثم استدارت ليصطدم بطنها به وقبل أن تتحدث داعبه بيده ثم انحنى يقبله وهو يهمس لمن بالداخل بمشاكسة:
"كيف حالك اليوم ؟!.....هانت بنيّ هانت....شهران بإذن الله وتشرفنا يا أسدي!!..."

استقام بوقفته ووضع ذراعيه خلف ظهرها يجذبها إليه ليلصقها به ثم سأل وهو راسماً ابتسامة الرضا على شفتيه:
" أجل يا عينيّ الشهد....متى ستذهبين الى بيت أهلك وإلى سلمى؟!...."

قطبت حاجبيها بضيق وردت:
" في الحقيقة أنا غير مرتاحة ......أعلم ما مدى الجنون الذي تقومون به وقت الحمام......أنت اخبرتني أنك لن تسمح بأي فوضى وأي خراب لكن ماذا إن فعلوها؟!.....أرهقت من تنظيف البيت ولا حمل لي لأنظف خلف حربكم الثقيلة!......سأبقى هنا كي يروني وينحرجوا ولا يفعلوها....وبعد انتهاء حفلتكم أذهب.."

أفلت يديه ورفع حاجبه باستنكار وهو ينحني نحوها يقرب أذنه من فمها وقال ساخراً باستياء:
" ماذا ماذا ماذا؟!.....أعيدي جملتك الأخيرة لم أسمعها"

أجابت بعبوس:
" قلت...سأبقى هنا كي يروني وينحرجوا ولا يفعلوها"

انتصب بهامته وهتف مستهزئاً:
" أنا تزوجت من ضفدعة وليس من فزّاعة .."

هتفت منزعجة:
" سامي كن جديّاً ولا تسخر..."

بنبرة جادة رد:
" باختصار لا أريد أن اسمع جملتك مرة أخرى....هذا هو الناقص أن تظهري للرجال.....لن تكون أي أنثى بالقرب منا...."

رفعت كتفها معترضة وهي تجيب:
" أنا سأكون جانباً محتشمة سيد سامي.....طوال عمرنا تتواجد النساء في حمام العريس لمشاهدة جنون الفرح....ماذا تغير الآن؟!......لمَ منعتم حضورهن؟!....ألا حق لأمه وأخته وقريباته بمشاهدته؟!"

أجاب ببرود:
" إن أتين ....لن يأتي شيخنا أحمد وبعض الرفقة.....والحمام لن يكتمل إلا بوجود الأصدقاء وأنت تعلمين مدى تقاربهم من بعضهم...ثم أنا ايضا أريد ذلك...لا مكان لكنّ من الاعراب بين الشبان وجنونهم وطول ألسنتهم..."

تنهد وأكمل:
" يكفيكن الزفاف نفسه ولا حاجة لحضور الحمام!.."

استوقفها قوله * لن يكتمل الا بوجود الأصدقاء * فهمست بحزن:
" وهادي ؟!.....أعز وأقرب وأول صديق لبلال لن يحضر زفافه!!......لقد اخبرتني سلمى أنه شديد الحزن لأنه لن يشاركه فرحه وهو الذي جمع بينهما..."

داعب وجنتها بحنان وهتف:
" صحيح...لقد رأيت انطفاء الفرح بعينيه لأنه يفتقده....نحن حاولنا يا دنيا حتى آخر دقيقة........شقيقك أصبح المعسكر كل همه وبات مسكنه لدرجة تشعرين أنه يريد أن يتواجد بكل الجبهات .....يحمل مسؤولية كبيره على كاهله لذا لم يستطع أن يهرب لبضع ساعات للاحتفال معنا.......لكني أعلم كم هو مستاء حتى لو لم يتكلم !..."

زفرت أنفاسها مستسلمة وهمست:
" عله خير.....اسأل الله أن يحفظه أينما كان ويسعد قلبه......ربما المعسكر هو أفضل مكان لينشغل عن مأساة حياته.......زواجه الفاشل!.."

وضع يده على كتفها يواسيها هاتفاً:
" ربما يكون هناك أمل بعد الحكم على الوغد....ربما تعقل ابنته وتعي كم كانت هي مخطئة بحق هادي ....الأمل بين يديها ....إن عادت تحمله له فأنا واثق كيف سينقلب ويتبدل حاله مهما حاول اخفاء مشاعره أمامنا مدعيا أنه ليس مهتم بها او لا يريدها ......غضبه جاء موازي لعشقه ....فلتأتنا بالأمل ابنة عاصي ليعود لنا هادي السعيد..!!.....رغم أن قصتهما لا يستوعبها عاقل....عشق الأعداء......"

زفر آهة يائسة مردفاً :
"آاه كم أن شقيقك شخصاً صعباً يفعل ما بدماغه.....ماذا لو أعطى نفسه فرصة مع فتاة تستحقه......مثلا كتسنيم او رفيف.... "

لوت فمها بعدم اعجاب لكلامه وردت:
" أتريد الحقيقة؟..."

ركّز معها فأكملت:
" لا هذه ولا هذه تناسباه..."

" كيف قررت؟"

سألها فأجابت:
" كلتيهما جميلتين وذاتا حسب ونسب .....لكنهما ليستا من ذوق هادي.....أنا أعرف ذوقه جيدا.......تسنيم فتاة مطيعة لأبعد الحدود إن قال لها اللبن أسود ستوافقه....وهادي يلزمه من تشاكسه قليلا او تتدلع عليه لترضي غروره وتحرّك حياته لا لتعيشه روتين ممل بطاعتها العمياء.....أما رفيف فهي جريئة بشكل مبالغ كونها تربية الخارج ووالدها منفتح اعطاها الحرية الكاملة........لقد قابلتها صباح ثاني يوم من زيارتها لأهلي.....يا الله مع أنها مرحة وابنة ناس الا أن جرأتها مستفزة وفيها تملّق.....وهذه النوعية اكثر ما يكره هادي....يريد أنثى رقيقة بريئة تكون تحت جناحه ولا تبارزه بالجرأة فتفقد الحياء وانوثتها..."

" يعني نعود لابنة عاصي....هي من تحمل الصفات التي يريد...."

عبست متنهدة وأجابت ناظرة للأرض:
" ليتها كانت ابنة أناس آخرون....ليتها ....لكن هذا نصيبه شقيقي المسكين ...."

صمتت قليلاً وسلطت بصرها عليه وهتفت:
" آه صحيح.......أخبرتني أمي أنك أنت من ستتابع القضية مع رفيف ....هل هذا صحيح.؟!..."

" أجل......طلب مني هادي هذا سابقاً....كان بإمكانه التوفيق بين المتابعة معها وشؤون المعسكر لكنه قرر غير ذلك......الله أعلم ما يدور برأسه..."

عبست بدلع ومدّت يدها تداعب ياقته وهمست:
" ألا يمكن لأحد غيرك التواصل معها ؟!...مثلا كأحمد؟!.."

ضحك ضحكة رجولية وأجاب:
" أحمد؟!....ورفيف؟!.....أتريدين أن تقوم القيامة؟!.....رفيف إن قابلت أحمد بشخصيتها هذه التي تقولين عنها سيحولها من محامية لمجرمة وسيخرب قضيتنا........يا إلهي مجرد التخيل مرعب ....إن كان هادي خلقه برأس أنفه فشيخنا لا خلق لديه من الأساس بما يخص النساء عامة والجريئات حد المبالغة خاصة ....."

أخرج نفساً قويا واردف:
" آاه منك يا أحمد أنت الآخر... متى سنفرح بك أيها الغراب المنحوس.....ابتلاني الله بشلة نكد.."

قالت ضاحكة:
" لا تناسبه إلا تسنيم.....كما يريد... محجبة...خلوقة.....خجولة....مطيع ة وبالطبع جميلة!.....نصيحة لا تفلتوها منه....ايجاد فتيات جيدات بهذه الأيام أمر صعب....."

رد عليها وكأنها أصابت:
" أتعلمين ...لقد اقترحتها عليه منذ زمن....لكنه كان بأوج عزوفه عن الزواج وتشبثه بقراره.....ثم بعدها نسيت الموضوع وبسبب ما مر به هادي هي من جاءت في بالي لتخرجه من احزانه........من الجيد أنك ذكرتني بها فهو أصبح ليناً بعض الشيء ولا يرفض رفضاً قاطعاً كالسابق بسبب ضغط والدته عليه لتفرح به......"

قرصها من خدها بين اصبعيه وغمزها متابعاً:
" فلتسلمي لي يا ضفدعتي النبيهة....سأكثف جهودي لإقناعه.......مؤكد سيقتنع بها...."

ثم تنحنح بعد انتهاء كلامه وعاد ليسألها:
" لم تقولي ....متى ستذهبين الى بيت أهلـ....."

قبل أن يتابع جملته مد جسده نحو نافذة المطبخ يطلّ برأسه ليتأكد مما لفت انتباهه ثم شهق معترضا:
" ويلك مني يا ضفدع.......هل هذه المسؤولية التي اعطيتك اياها؟!..."

استدارت بالحال تنظر لما ينظر وهي تقف على أطراف أصابعها لتتمكن من الرؤية ولما نجحت أرخت ملامحها وقالت ضاحكة لتستفزه:
" ما لك عليه يا سيادة اللواء....لقد تعب حقا بمساعدتك لا تنكر......فليدلل نفسه الآن !...لا تضخّم الأمر.."

رمقها بنظرة استنكار وتعالي ثم اتسعت عيناه بصدمة عندما اعاد عيناه للخارج وهتف:
" لاااا هذا كثير....وردتي البنفسجية التي ربيتها شبر بمتر يقطفها شقيقك الضفدع...."

ثم شهق شهقة أقوى من ذي قبل وهمّ للخروج بغيرة وحميّة فأوقفته تمسكه من معصمه هاتفة:
" إلى أين؟!.."

قال بعدم رضا ينفث أنفاسه الحانقة:
" قطف وردتي وصبرت......أما أن يقطفها ذاك اللعوب ليضعها على شعر ابنتي ملأ فلن أسمح له ....!!....ما كل هذا التقارب !؟..."

ضحكت من غيرته وهتفت:
" ما زالا صغاراً ما بك انفعلت ؟!.."

ألقى كلماته واثقاً بحدسه :
" أي صغار؟!......نحن الآن نعيش مع أكثر جيل مخيف.....الفأر يلعب في صدري أنا غير مرتاح لشقيقك خاصة أنه في سن المراهقة..!!.."

أنهى محاضرته وولاها ظهره بعزم قاصداً هدف واحد ووحيد وهي أكثر ما تعرفه !!.....فتمتمت مستسلمة:
" آه أيها الشبر ونصف ...كم سيتحمل عنقك من وراء صفعات الأشقر!!.....كن ذكياً وتوارى عن أنظاره يا أخي عندما تقترب من ملأ......ألا تعلم أنها أغلى من عينيه ؟!....لك الله ولتتحمل نتيجة غباءك وكشف نفسك أمامه.!!"

رفعت رأسها للحائط تنظر للساعة وقالت لنفسها:
" يا الهي ....سأتأخر عن سلمى....إنها تحتاجني الآن..."

وأسرعت خطاها قدر الامكان بعد ازدياد حملها تصعد السلالم متجهة الى الحمام لتحضر نفسها وتوضب أغراضها التي تحتاجها من أجل ليلة زفاف صديقتها لتأخذها معها وبعد أن أنهت كل شيء وتجهيز نفسها....جلبت قصاصة ورقة وكتبت [ لا تنسى.....بيتي في أمانتك....لا أريد أن أرى قشة بغير مكانها بعد احتفالكم وإلا تعلم كيف يكون عقابي.....وقد أعذر من أنذر سيادة اللواء....]

وضعتها على طاولة الزينة ثم حملت أغراضها ذاهبة بحماس للقاء صديقتها العروس.....!!

×
×
×

بدأ يتوافد الأصدقاء لبيت سعادة اللواء ومن دعوا الى حفل الحمام من الرجال......الشاعر الخاص بالزجل الشعبي يمسك مكبر الصوت ويجلس بينهم ليحيّي الضيوف بطريقته الخاصة.....والحلاق يفرد أدواته تجهيزاً لحلاقة العريس......أجلسوا (بلال) على كرسي وسط الساحة وبدأت أول مراسم الاحتفال وهي حلق وتهذيب ذقن وشعر العريس وأصحابه يلتفون من حوله يصفقون له مع الاغنية الشعبية الخاصة بالحلاقة ولما أصبح جاهزاً غمز (سامي) للأصدقاء ليبدؤوا بطقوسهم وهي تلطيخ العريس بسكب العصائر عليه وما تطاله أيديهم فصرخ (أحمد )معترضا:
" سامي.... لمَ هذا التبذير؟!..."

أجاب هازئا:
" من دعاك أنت أيها الغراب ؟!....نريد أن نفرح !!.....هذه عاداتنا هل نغيرها لحضرتك سيد أحمد؟!......فليلعبوا الشباب ويبتهجوا بنتف ريش بلبلنا...."

حرّك رأسه رافضاً باستياء وقال مشيراً لما سكب على الأرض:
" انظر....هذه نعمة الله .....من قال أن عليك اتباع العادات التافهة ؟!....."

تأفف الاشقر الغليظ واختصر الطريق على نفسه كي لا يقلب شيخنا الوسيم الاحتفال لمحاضرة شرعية أو خطبة الجمعة فاقترب منه وهمس:
" ارتح يا غراب......لقد عملت حساب هذه اللحظة.....أي دروسك التي لا نهاية لها.....لذا جلبت من البقالات عصائر بتاريخ منتهي الصلاحية من أجل اغراق بلبلنا بها .....يعني بلبلنا أولى بها بدلاً من سكبها سدى......هل أنت راضي الآن ؟!..."

تبسّم ورد مستفسرا:
" أرحتني......لكن هل ستكمل طقوسك الغليظة دون البيض؟!.....ماذا فعلت بهذا؟...هل أتيت ببيض فاسد يا ترى لتعمّ رائحته بالأرجاء.."

تنهّد بتصنع وهتف:
" احمد الله ان زوجتي حامل فألغيت هذه الفقرة لأني مهما اخفيت من جرائم ما سنفعله بالبيت من وراءها مع عريسنا لن تخفى عليها رائحة البيض سواء صالحة او فاسدة....فأنا احتفل الآن تحت التهديد....هي لا تدري عن الكوارث التي تحدث ببيتها..."

ثم رفع كتفيه بتفاخر وأردف:
" لكن بالطبع العصائر وحدها لن تكفيني لأشمت ببلال وهو معذّب ...."

كانا يتحدثان بينما الآخرين منشغلين بسكب العصير على العريس الذي لم يستطع الافلات منهم في ساحة العراك وهو يحاول الفرار منهم يلقي شتائمه عليهم ..!!...

رفع (أحمد) حاجبه بتساؤل بعد جملة (سامي) فأكمل الأخير مشيرا لأكياس تحت الطاولة:
" لقد جلبت إسمنت بودرة لنرشه بها وطين وألوان مائية خاصة بالأطفال بدلا من الطحين ومن البيض وصلصة البندورة ......"

ثم دفعه بخفة من كتفه مردفاً يحفزه:
" تناول كيس واسكبه على بلال ....هيا..."

رفع يده باستسلام وقال له:
" شكرا....اتركني من كل هذا......لا أحب هذه العادات.....سأجلس لأتفرج على جنونكم جانباً.....هداكم الله...."

رمقه باشمئزاز مصطنع وهتف:
" اذهب اذهب......أصحاب نكدين لا تعلمون كيف تسعدون أنفسكم ......تخلصت من رأس الصوان هادي فأتيتني أنت....."

وجّه يديه للسماء ناظرا لفوق واستطرد:
" صبرني يا الله على شلة المناحيس قاطعي الفرح...."

وعاد بعدها ليستمتع مع البقية في مهمة تلطيخ وتعذيب العريس ولما انتهت هذه المرحلة.....حان وقت دلوف (بلال) للداخل من أجل تنظيف نفسه والاستحمام مع تطفل بعض الاصدقاء لإزعاجه .....انتهى من الحمام وارتدى بدلة الزفاف الرسمية بمساعدتهم وهتافاتهم الحماسية من أجله ....اقترب منه المستضيف ورش العطر الفاخر عليه بكل حب وفرحة من عمق القلب لأجله ثم أخرج ليرة ذهب وعلّقها على صدره هدية زفافه وتوجهوا للخروج من المدخل للعودة الى ساحة الاحتفال في حديقة بيت سيادة اللواء وما إن حطت أقدامهم الخارج حتى حمله شقيق الأشقر على كتفيه ليزفه راقصاً به ثم تعالت أصوات الرصاصات التي أطلقها (سامي) بالهواء بعد سحبه لمسدسه تعبيراً عن الفرح والسرور لصديقه وتزامناً مع غناء الشاعر الشعبي إحدى أغاني الحمّام :
[ طالع من الحمّام.. بإيده ضمة ورود
نادوله ع أعمامه ..طخوله بالبارود
طالع من الحمّام....ريته يتهنّى
نادوله ع احبابه....العريس بستنّى
طالع من الحمّام...وإمه ترضى عليه
واسحجوا للعريس واصحابه حواليه
ويا شمسي غيبي من السما عالأرضي في عنا عريس
عريسنا زين الحِمى ما يرضا بالمهر الرخيص]
((من التراث الفلسطيني))

تقدموا وهم يتراقصون وفرحة عارمة تملأ المكان ولما أصبحوا في وسط الحديقة ظهرتُ لهم من خلف الناس اتقدم نحوهم شامخاً بمشيتي ليصيب الجميع الذهول والتفاجؤ غير مصدقين أنني أمامهم ....توقف الغناء وتوقف الاحتفال ونحن الأربع أصدقاء نتبادل النظرات لبعضنا باشتياق ووفاء للحظات ليعود ويكمل الشاعر الشعبي غنائه مع دقات الطبل ولم أشعر بنفسي الا وأنا فوق بعد أن حملني أحد الشبان على كتفيه ليتبعه آخر يحمل (أحمد) ثم (سامي) يقربونا الى العريس فشبكنا أيدينا نرقص معا وتضاعفت سعادتنا واكتملت الفرحة عند عريسنا الذي حضنني بشدة فور انزالنا هامساً بحرارة:
" الحمد لله الحمد لله أنك أتيت....كنتُ ناقصا دونك....والآن لا يضاهيني أحد بالسعادة ..."

لقد فعلتُ المستحيل لأنهي أهم أعمالي بالمعسكر وآتي من أجل الوقوف جنب اصدقائي بأجمل أوقاتهم وأغلاها !!.....(بلال) اعز صديق عرفته اثناء اللجوء وأفضل رجل أهديته لعائلة خالتي (أم سلمى) ........لم يكن باستطاعتي تفويت فرحتي به أو كسر خاطره فقدومي كان واجباً عليّ وحقٌ له..!!.....انتهى الاحتفال وذهب الناس الى بيوتهم ليتجهزوا لوليمة الزفاف ليلاً......بقينا أنا والأصدقاء وأخوة توأم روحي وبعض الأقارب في الساحة التي أصبحت شبه فارغة من الجمهور والتي تغطيها فوضى ليس بعدها فوضى بعد العراك الذي أحدثوه ....شردت بالمنظر الكئيب ازائي وكأنها بقعة حرب ...ثم وجهتُ كلامي لـ(سامي):
" من سينظف هذا كله سيد سامي؟!...هل أشفيت غليلك بتعذيب بلال؟!.....بل السؤال الأهم ...هل شقيقتي تعلم عن الكوارث التي حدثت في بيتها؟! ...."

أسند ظهره للخلف بغرور مصطنع ووضع ساقاً فوق الآخر وقال:
" صبركم عليّ.....سترون......ساعة وسيختفي كل شيء بإذن الله....."

غضن (أحمد) جبينه وقال:
" تحتاج أيام لتنظيف مخلفاتك....لا تنسى علينا أن نتواجد بالقاعة لنصلي المغرب هناك جماعة ونستعد لاستقبال الضيوف"

وأشار للنوافذ المطلة على الحديقة مردفاً:
" أنظر هناك....اختفى لون الزجاج من رشقات العصير والإسمنت والألوان المائية......صدقني لو أنا بدل زوجتك لدخلت بك السجن المؤبد بعد فعلتك هذه...."
بعد قليل وصلت سيارة شرطة كبيرة....تطلعنا باستغراب جميعنا إلا سيادة اللواء كان يبتسم بثقة وعجرفة....انتصب واقفاً ثم خطى نحو مدخل الحديقة......دقيقتان او ثلاثة ليدلف الى الساحة رجال مكبلين بالأصفاد بأيديهم وأرجلهم.....كانوا ستة مساجين......ارتبنا من هذا المنظر .....وقف عنصرين من الشرطة كالحرس على البوابة الكبيرة وأشار صديقي لاثنين آخرين لفك قيودهم......جلس على كرسي بعد أن طلب من شقيقي احضار حاسوبه النقال من الداخل.....أراهم شيء وركّز يشرح لهم ثم عاد إلينا يمشي متبختراً ...فقال (أحمد):
" ما قصة هؤلاء المساجين وماذا أريتهم؟... أمرك مريب .."

تطلعنا عليه جميعنا ننتظر إجابته فهتف منتشياً:
" هؤلاء مجرمين متهمين لقد عذبوني بقضاياهم.....لم أستطع ايجاد أي أثار لجرائمهم ....لم يتركوا دليلاً واحداً...لولا اعترافهم بألسنتهم لكانوا أحرارا..."

ضيقتُ عينيّ وسألت مخمّناً ومرتاباً:
" لمَ أتيت بهم هنا؟....ولم حررتهم ما داموا مجرمين؟....غير مطمئن لحركاتك..."

رفع ذراعيه يشبكهما خلف رأسه وأجاب وهو يتمطى:
" بما أنهم متخصصون بإخفاء الجرائم فكرت بالاستفادة منهم...."

" كيف؟!"

سأله (بلال) فرد بالحال:
" أريتهم البيت بزواياه من الداخل والخارج كيف كان قبل حدوث فاجعة الحمام وطلبت منهم أن ينظفوه ويعيدونه مثل السابق دون أي زلة وبساعة فقط....ليخفوا جرائمي قبل أن تمسك بي أم سليمان !!..."

أطلقت ضحكة مبتورة ساخرة وقلت:
" مجانين....لو كنت مكانهم لفضحتك في المركز..."

كشّر وأجاب متحفزاً بدهاء:
" هيه أنت....هذا مقابل اعفاءهم غداً من الأعمال اليومية المكلفين بها بالإضافة لأزيد لهم فسحة التنفس عشر دقائق أخرى.....لا يوجد شيء بلا ثمن اليوم.....تبادل مصالح يعني!..."

ثم تركنا يسحب كرسيه وجلس وسط الممر الذي ينتصف الساحة وهو يحمل عصى مكنسة كالراعي يهش بها على غنمه ...يلقي أوامره عليهم ويوجههم دون أن يبالي لأي أحد...!!.....لقد انشغل بإخفاء جرائمه أما عريسنا (بلال) انضم لأشقاء الغليظ فبتنا أنا و(أحمد) لوحدنا نجلس في طرف الحديقة بعيداً عن البقية.... بصوته الرزين سألني باهتمام:
" كيف الأمور في المعسكر؟!.."

غمغمت مجيباً:
" الى حد الآن تمام....الحمد لله"

أردف مستفسراً:
" ألا جديد بشأن عز الدين ومساعده خالد؟! "

سحبتُ كرسي قريب مني لأتكئ بذراعي على ظهره وقلت بوهن بسبب ارهاقي في أيامي الأخيرة:
" لم نمسك شيئاً عليهم....أخشى أن نظلمهم إلا أن ما زال قلبي غير مرتاح لأمرهما !!.."

بملامح قاسية هتف مشدداً:
" بالضبط...أمرهما مريب وخاصة مساعده حركاته مشبوهة....يعني لا مكان للرحمة والعطف حتى نقطع الشك باليقين..."

" معك حق....انتبهت لحركاته ...نريد طرف خيط فقط لنتأكد!..."

تنهدتُ بعمق وأردفت:
" مشكلتي أنني منشغل بعدة أشياء هنا وهناك لذا لا أستطيع أن أركّز كامل اهتمامي بهما رغم أنهما في سلم الأولويات...."

بشهامته ووفائه ربّت على كتفي يساندني ورد بجدية:
" لا تهكل همّاً أبا محيي...سأتولى مسألتهما بنفسي في حال مجيئي للمعسكر...."

طبطبتُ على فخذه ممتناً وبقيتُ صامتاً فنفث أنفاسه ثم أرجع ظهره للخلف يجلس براحة وأضاف بتردد:
" في الحقيقة أود الحديث معك بموضوع آخر.."

تطلعتُ عليه قاطباً الجبين منتظراً كلامه فاستطرد:
" أعلم ما مررت به الفترة السابقة حتى لو لم أعرف السبب الرئيسي لهذا...يعني أقصد بشأن زوجتك التي قررت هجرها!!..."

تبدّلت ملامحي للخشونة دون أن أنبس ببنت شفة فأكمل بلباقته وأدبه :
" ليس من حدّي التدخل...وقد أخبرني سامي أنك لن تسمح بهذا...لكن.."

بنبرة جافة مرتابة خفيضة سألت:
" لكن ماذا؟!.."

ردّ واثقاً:
" برأيي عليك حلّ مشكلتك من جذورها!."

" ماذا تقصد؟!."

سألت ليجيب بهدوء معاتباً:
" لا يمكنك أن تبقيها هكذا معلّقة....يعني ألّا تكون زوجاً لها وأن لا تقوم بواجباتك اتجاهها وأقلها السؤال عن أحوالها وكذلك ألا تحررها منك لترى حياتها..."

تشنّجت عضلاتي استعداداً لا أود أن يتدخل أحد بقراراتي وقلت بصوت خفيض شديد:
" أحمد من فضلك....الموضوع يخصني وحدي وأنا أتحمل كافة المسؤولية بأي قرار اتخذه..."

هتف بشجاعة:
" كلا يا هادي....قم باختيارك!!....إما أن تهتم بها مهما كان ما بينكما أو تحررها منك..."

استشطتُ غضباً بداخلي منه ومنها ومن حالي إلا أنني حاولت المحافظة على هدوئي الخارجي لأجيب:
" أحمد....أنا هجرتها ولي أسبابي وأعرف تماماً ما أفعله.....قلت لا أريد التدخل من أيٍ كان..."

ردّ دون اكتراث لاعتراضي:
" للهجر وقت ووقتك شارف على النفاذ.....لا أريدك أن تؤثم يا صديقي!!.."

ضغطت على شفتيّ واستدرت جانباً بينما عيناي كانتا تشعّان بلهب الاشتياق والغضب معاً والخائن خلف أضلعي ضائع بينهما ثم أعدتُ وجهي إليه مجيباً بقهر:
" أنت ترى بماذا انشغلت....أريد الاطمئنان على جميع مهماتنا ثم الالتفات لمسائل حياتي لاحقاً....بالطبع لم أنسَ مسؤولياتي....فقط احتاج للقليل من الوقت لتسوية أموري على الحدود ثم بعدها سأهتم بأموري الشخصية.....أنا يا صديقي لا أفكر بنفسي أبداً....أما هي تركتها عند إنسانة تفديها بروحها ...مربيتها التي تلقي بنفسها للموت حماية لها.....وهناك فتاة تقية مؤمنة فلن أخاف من ضياعها.... هي بأمان وأثق أنها لن تموت جوعاً ولن تخدشها وردة عندهم بإذن الله ..."

بنبرته الهادئة ذاتها قال:
" كل هذا لا يسد حاجتها لك.....كزوج... وخاصة أنها مقطوعة من شجرة.."

بقهرٍ أكبر وانكسار وطعم المرار هتفت:
" ربما أنت مخطئ ....هي لا تحتاجني .... صدقاً وأنت أكثر من تعلم ..لا يمكنني الآن الانشغال بحياتي وحياتها ....فروحها ليست بخطر بينما على عاتقي شيء أكثر أهمية عليّ الاعتناء به..."

لم يكن راضياً من ردي الى حد ما فقال باتزان :
" أعلم أي مسؤولية تحمل... أعانك الله يا صديقي...وأجل أنت أدرى بحياتك وعذراً لتدخلي لكني أنصحك بألا تنسى واجبك فعليك حقٌ لها ......أحببتُ تذكيرك بهذا....فذكّر إن نفعت الذكرى!.."

اومأتُ ايجاباً رامشاً بعينيّ شاكراً اهتمامه بمجاملة ولم أفصح له عما يدور في ذهني....لا أريد أي تأثيرات من أحد....أردتُ أن أدرس كل ما يخص علاقتنا في قلبي وعقلي سوياً....ونويت!....نويت عند ذهابي لتلك البلاد لإحضار أمانة أبي بأن أزورها على الأقل....فأنا متأكد أنها لن تأتي معي وخاصة أننا ننتظر موعد المحكمة وصدور الحكم....أي أننا الآن داخلين على أكثر وقت حساس بيننا...فأحدنا سيكون خاسر والآخر منتصر....أيٍ كان منا هذا او ذاك بكلتا الحالتين ربما سنخسر علاقتنا وكذلك حبنا....!!....لذا تركتُ محاولة ترميم الشروخ بزواجنا بشكل جدي غير قابل للنقاش بعد المحكمة فقط..!!....إلا أنني سأزورها...سأزورها.....إذا شاء لي ربي..!!....فإذا شاء كان وإذا لم يشأ لن يكن....!!

×
×
×
في العاشرة ليلاً انتهت مراسم وليمة زفاف صديقنا الغالي ...أخذ عروسه إلى الشاليه المحجوز باسمه هديتي له لقضاء أسبوع من العسل وعاد كلّ منا إلى بيته........قبيل الفجر تجهّزتُ للرحيل إلى أرضي ومكاني على الحدود.....دخلت غرفة والدتي اودعها واستودعها الله وهي نائمة ثم توجهتُ لغرفة صغيرنا ....قبّلت جبينه وعدّلت الغطاء عليه بحنو أبوي ثم استودعته الله هو الآخر .....لن نتخلى عن عادتنا عند الافتراق.... نودع بعضنا لأننا لا نعلم إن كان لنا نصيب باللقاء أم أن هذا آخر لقيانا....فنحن دائما نذهب للقتال مدركين أنه ربما يكون.....ذهاب بلا عودة.!!......ولأني ابغض رؤية دموع نبض الحياة لم اودّ أن اودعها وهي مستيقظة فدموعها تنزل كالجمر على بدني لذا اختصرت كي لا تتوجع ويزداد مع وجعها وجعي........تركت قلبي ودعائي لهم وخرجت أشق طريقي الى الجنوب الغربي...الى ثورتي وحربي.....!!

~~~~~~~~~~~~~~~~~~

مرّ علينا اسبوعين لم يكتملا من بعد طلب (رفيف) مني أن اجلب أمانة أبي لأحلها واعطيها الاسماء!!... كنتُ خلال هذه الأيام ماكثاً في المعسكر وقد نجحتُ بتوفيق من الله بإتمام مهتمي التي خططت لها بيدي وصممتُ على تولّيها بنفسي!!...الأهم هو أننا خرجنا منها بإصابات متفاوتة بين الطفيفة والمتوسطة دون حصاد بالأرواح !! ...زادت بعدها مسؤولياتي وتراكمت مهماتي فتضاعف الضغط على كاهلي بشكل أكبر فلم أفلح بالذهاب لتلك البلاد رغما عني لجلب الأمانة....وبهذا ضاعت مخططاتي وفشلت زيارتي لتلك البعيدة العنيدة......من سيشعر بي وبقلبي المكوي ؟!..من سيشعر بجسمي الذي أمسى كحطبٍ يتلظى بالنار؟...إنها نار اشتياقي لها وقلقي عليها!!.....أكاد أختنق لا استطيع التنفس...يؤنبني ضميري بشدة.....أوجاع وأوجاع تحتل كل خلية بي!!....أنا نويتُ زيارتها فخرجت الأمور عن سيطرتي !!....يا الله وحدك الأعلم بحالي .....يا الله وحدك من تعلم نيتي ...أنا عاجز أمامك يا الله ولا اهتدي لشيء....فاغفر لي تقصيري بحقها!!....العراقيل التي أتت في طريقي جعلتنا نضطر لنستعين بأبي (ابراهيم) كي يحضر تلك الأمانة من بيتنا الهاشميّ الى معسكرنا في تلك البقعة أي المقابلة للوطن على أرض اللجوء...!!.....استلمتُ الأمانة من السيد (ماجد) الذي قام بدوره بالالتقاء به هناك.....دخلتُ الى مكاني والبال مشغول....كيف سأفكر وفي قلبي تقرع الطبول؟!....غير مطمئن !!....أريد سماع كلمة واحدة فقط تطمئنني عليها !!.....فكرت حتى اهتديت للوصول إليها......أجل السيدة (ايمان)...... ما زلتُ احتفظ برقمها معي....جلست على مكتبي في غرفتي الخاصة وأغلقتُ على نفسي!!....أخرجتُ الهاتف وترددتُ قليلاً!....الخائن هدر بجنون!....أكان قلقاً أم شوقاً ليسمع خبر عن حبيبته والسلطانة عليه ؟!..لا أعلم....العلمُ عند الله ومن ثم خائني!!.....زفرتُ أنفاسي لاسترجع ثباتي ولأنظم دقات نابضي الملهوف!!.....ضغطتُ على اسمها وبعد عدة رنّات ردت بالتحية لأرد بمثلها....سألتها عن حالها وأخبرتها عن افتقادنا لها بمجاملة لطيفة ثم دلفتُ إلى لبّ الموضوع :
" سيدة إيمان.....أريد أن أطلب منكِ طلباً لو سمحتِ!.."

ردت بشهامتها المعتادة:
" أنت تأمر سيد هادي!."

" لا يأمر عليكِ ظالما!!.."

قلتها وتنحنحتُ مكملاً بخجل رجولي:
" أنت تعلمين بما حصل بيني....و...وبين تلك...لا؟!.."

بمكر طيّب سألت راسمة ابتسامة على وجهها:
" من تلك؟!.."

قلتُ بعفوية:
" تلك....يعني....أقصد... ألمى!!.. "

ردت واثقة متعجبة:
" وأخيراً تذكّرتها.!!...لا أصدق أنك تفتح سيرتها أمامي!....أتعلم أنني كنتُ سأفاتحك بالموضوع لكن السيد أبا لؤي منعني تفادياً من ردة فعلك أيها الفهد الأسود الغاضب...!!..."

أطلقتُ ضحكة مبتورة وأجبت مختصراً:
" يعني....هذا ما حصل!....لا يمكننا الآن تغيير شيء!.."

وعدتُ الى نبرتي الجادة قائلاً :
" لا بد أنك تتواصلين معها وتعرفين اخبارها....أليس كذلك؟!.."

تنهدت بأسى وردت:
" مع الأسف ليس معها مباشرة.....هي سامحت خالتها لأنها توفت لكنها ما زالت حانقة على البقية!!...نتواصل أنا ومربيتها بالخفية عنها.....إنها أمانة خالتها ولا يمكنني تجاهلها!!.."

ضربتني على الوجع ذاته.....أجل هي أمانة السيدة ( فاتن) التي اوصتني بها!!....كم من كلامٍ أسمعتني لأجلها.؟!....حمّلتني مسؤوليتها ولا تدري إلى أين وصلنا ....آه سيدة (فاتن)....أين أنت؟!...ليتك معنا لتحتويها....لتحتويها بجنونها وسكونها...بكرهها ومحبتها.....لتداعبي لها شلالها الأسود....ذاك معذبي الذي اشتقتُ لرائحته حد الهلاك!! ....أنا لم أكن على قدر حمل هذه الأمانة الصغيرة المتمردة الشرسة .....ابنة شقيقتك أتعبتني معها وأحرقت كل طاقتي...!!....آه تتلوها آه ...تلك الآهات أصبحت اللحن لنبض قلبي!! .....لا أدري كيف أحل مشكلتي معك يا ألمتي؟!....لا أدري..!!.."

كنتُ ألوذُ بالصمت فأردفت هي:
" المهم سيد هادي.....صحيح أن زوجتك بأمان الله إلا أن هذا لا يعني ألا تسأل عنها وألا تحاول اصلاح ما بينكما...."

نفثت أنفاسها بهدوء وأكملت بنبرة أعلى:
" حسناً أنا أعلم مدى انشغالك ووصلني عن تصاعد الاشتباكات وما آلت إليه الأحداث في جهتكم ....حماكم الله وسدد خطاكم لكن أرجوك ثم أرجوك ألا تنساها من بين أولوياتك وقم بزيارتها حين تسنح لك أول فرصة!!....."

بنبرة ثابتة قلت:
" إن شاء الله سيدة ايمان وهو كذلك!!....لكن طمئنيني عن وضعها العام فأنا مشغول البال لأني لم استطع زيارتها كما كنت أنوي.."

ردت مسرورة:
" لا تسأل....تلك الصغيرة المدللة افتتحت مشروعاً صغيراً يأتيها بدخل وأيضاً لتتسلى به مع ابنة شقيق المربية منذ أيام ....مطبخ للطلبيات من أجل المناسبات..."

تعجبت من هذا الخبر ومع تعجبي كان اعجابي!!....حبيبتي سموّ الملكة المدللة تعمل؟!.... أين كنا وأين أصبحنا؟!....لكني ما زلتُ حانقٌ عليها لتركها الأهم فسألت بجدية استفسر دون أي تعليق عمّا قالت رغم يقيني بالإجابة:
" ألم تغير رأيها بشأن استئناف دراستها ؟!."

" كلا...سألت السيدة سهيلة واخبرتني أن هذا الموضوع مغلق تماماً عندها ولا تسمح بفتح سيرته!!.."

أتمت جملتها فتمتمتُ بعد أن اعتصرني الغيظ :
" حمقاء...ما زالت حمقاء لا تفهم أين مصلحتها!.."

وبينما نحن مندمجان بحديثنا وصلني صوتاً مدوياً فتحركتُ بالحال من مكاني متأهباً....كانت غارة من قذيفة مدفعية سقطت على أرضٍ غير مأهولة بل جرداء قريبة منا...!!....اختفى صوت السيدة (ايمان) ...نظرتُ للتغطية فوجدتها أصبحت ضعيفة....صرتُ أنادي عليها .....كان كلامي يصلها فتابعت حديثها ظناً منها أن كلامها يصلني......وددتُ اخبارها بأنني سأغلق لأن الاتصال سيقطع لكنها سبقتني تقول جملتها الأخيرة والتي لم اسمعها بسبب انقطاع الخط فيما بيننا نهائياً وقد اعتقدت هي أن الجملة وصلتني :
" أبارك لك بارتداء ألمى للحجاب أخيرا الحمد لله....مربيتها من بشّرتني....ثبّتها الله "

وضعتُ هاتفي جانباً وخرجتُ أتفحص الأوضاع واستشف الأخبار من رجالنا....بعدما اطمأننتُ أن الوضع مستتب حالياً وأن الاتصالات عادت للعمل عدتُ أدراجي الى مستقري !....وقفتُ على الباب ونظرتُ للهاتف فوق سطح مكتبي...ابتسمتُ متنهداً براحة ومتمتماً:
" الحمد لله.....زوجتي حبيبتي بخير!.....يمكنني الآن خوض معركتي بسكون مع أمانة أبي!!.."
×
×
×

" يا الله ساعدني"

زفرت أنفاسي راجيا من الله أن يسهل أمري...لقد اوشك المؤذن على رفع آذان الفجر....يكاد رأسي ينفجر...صداع صداع من كثرة التفكير......ما زلتُ في نفس الدائرة....منذ المساء وأنا أعارك ما بيدي.....أريد طرف خيط بسيط لأفك الرموز وأكشف عن أكبر أسماء المعاونين لـلنجس (عاصي رضا).....ورقة أمامي مليئة برسومات كرموز مشفرة رسمها والدي كي لا يفهمها من وقعت بيديه عن طريق الخطأ.!!....عليّ تذكر كل شيء علمني اياه في صغري....فهذه تختلف عن رموزنا الأخرى لأنها أشد أهمية وحساسية....اقلب وأشقلب أتحدى نفسي....فكر يا هادي فكر...هذه وظيفتك الآن.....نهضت عن الكرسي في غرفتي الخاصة بالمعسكر وصرت أصول وأجول هنا وهناك ممسكا بصدغيّ...." يا رب...يا رب..."...عدت لمكاني أحدق بالسطر الأول ثم اتخطاه واروح للأخير اتخبط بينهما....هذه رسومات من معادن ....كمسمار وحذوة حصان وسيف وأخرى أشكال....بعد دقائق محروقة من وقتي.....هتفتُ بنجاح:
" أجل ...أجل...ربما حداد..."

(حداد )هو كنية الاسم الأول!!...فتحت محرك البحث باحثاً عن كل السياسيين في بلادي ممن يحملون هذه الكنية...."اووه إنهم كثر...." قلتها هامساً ثم تابعت مهمتي.....اقتصرت على الأسماء التي وجدت بالساحة السياسية منذ حوالي خمسة عشر سنة أي قبل اغتيال والدي....تقلصوا لخمسة ...أخذت أقارن بينهم وبين الرموز أمامي الخاصة بهذا الاسم فحمدت الله بعد أن توصلتُ لنتيجة....لقد كشفت الاسم الأول ولكني اصبت بعدها بخيط من خيبة الأمل........صليت الفجر وتابعت باقي الأسماء وقد اهتديت لفكها بشكل أسرع فالصعوبة كانت تكمن بكيف ابدأ.....اتصلت بالسيد( سليم) فرد بصوتٍ ناعس أجش:
" اصبحنا واصبح الملك لله ...ما زلت على سجادة الصلاة "

قلتُ ضاحكا بقهر:
" هل نبحث عن أموات؟"

سأل بفضول:
" ماذا تقصد؟!.."

أجبتُ متنهداً:
" الاسم الاول هو للمرحوم صابر الحداد الذي توفي منذ ثماني سنوات بمرض عضال "

"من؟؟؟"

صرخ بها مصدوما ثم أكمل:
" يا الهي آخر شخص كنت اتوقعه....غير ممكن!!....رحمك الله يا محيي الدين...كيف كشفته وهو يختبئ تحت قناع الوقار والتواضع؟"

صمت وقال:
" والثاني؟!"

نطقتُ كلمتي بسخرية:
" لو تدري!!.."

"من؟!"

" من كان رئيساً للوزراء....نظمي سعادة....والد الزوجة الثانية للوغد عاصي...الذي هاجر لهولندا عند ابنائه..."

بنبرة جادة استطردت:
" عليكم جلبه للوطن بالقريب العاجل....وقبل أن يلفظ أنفاسه فهو ببداية العقد الثامن من العمر"

قال يطمئنني:
" لا تقلق.....أثق بالقاضي اسماعيل....سيشغل معارفه المربوطين بالجنائية الدولية من أجل اعادته.....ولو أعادوه جثة هامدة."

سألتُ مستبعداً الأمر:
" هل يمكنه يا ترى جلبه قبل محكمة الوغد ؟...أي قبل شهر على الأقل؟"

أجاب:
" معظم الاختلاسات التي حصلت كانت في عهده وهي موجودة بملف القضية وبالتواريخ والأرقام......لذا اطمئن سيكون طلبه طلباً عاجلاً وعلينا البدء من هذه اللحظة دون اضاعة للوقت....."

×
×
×

تعاقبت علينا الأيام برتابة قمنا بها بتكثيف جهودنا من أجل القضية ونجحنا بعد ضغوطات منا على المسؤولين باستلام قرار يستدعى به رئيس الوزراء السابق ( نظمي سعادة ) من هولندا الى أرض الوطن مجبراً لإجراء تحقيقات تخص قضايا جنائية وأمنية يشار أن له ضلع فيها مع نخبة من الخونة أمثاله!!.....تشابكت القضايا في بعضها وثار المتورطون بها يفضح أحدهم الآخر وكلّ منهم يكشف المخفي ليبعد التهم عنه أو يخفف من عقوبته وجاء أمر رسمي من القاضي أن يعقدوا الجلسة الأولى بعد اسبوع لتتبعها الثانية قبل المحكمة الرئيسية سامحاً بممارسة حقوقهم كتوكيل محامين للدفاع عنهم ....!!

~~~~~~~~~~~~~~~~

توالت أيام قليلة ولحقتها أخرى.... كانتا قد نفذتا فكرتهما بمساعدة خطيب (رهف) ثم روجتا للمطبخ بإعلانات بسيطة على قدر ماديتهما وكان المهم هو البداية وعدم القنوط والاحباط وانتظار الفرج وأن يسألن الله بأن يفتح عليهما ابواب رزقه الحلال المبارك به .....!!.....مع شروق صباح هذا اليوم جهّزت (ألمى) نفسها للذهاب لزيارة طبيبة النساء من أجل فحصٍ روتيني في قسم رعاية الأم والطفل.....وكان هذا مع اقتراب موعد محكمة الوغد والدها التي ستكون نهاية الشهر الجاري! .....ارتدت فستاناً سكرياً مرسوم عليه دوائر صغيرة باللون الوردي العتيق والحجاب بهذا اللون كانت قد اشترتهما من ربحهما اليسير من المطبخ.....مبهرة كما هي ....كل شيء يليق بها !!..أشرق بالبهاء وجهها!!...غابت ساعة عند طبيبتها ثم عادت الى البيت....عادت نقيض ذهابها....أين البهاء؟!...كيف اختفى؟!...بدت شاحبة شحوب الموتى منكسرة كغصن مثقل بحبات الزيتون ...حالتها يرثى لها ..تملّكها الهم ورافقها الغمّ....عيناها تملأها سحبٌ من الأحزان......أجلستها مربيتها قبالتها بعد أن ساورها القلق عليها فسألتها مرتابة بصوت مهزوز:
" ما هذا الحال بنيتي؟!....ما بك؟!..."

أجابتها متأثرة وبنبرة شجية يتبعها انحدار للدموع على خديها الباهتين:
" الطبيبة منعتني من السفر....قالت لي أن حملي في خطر وعليّ الاستقرار على الأقل حتى اجتاز هذان الشهران وصولا للسابع ....."

انخرطت ببكاء مرير وتابعت:
" كيف لا أكون مع أبي في أهم أوقاته؟!....ماذا سأفعل؟!....يا ربي ما هذا الحظ؟!..."

اقتربت منها بكرسيها المتحرك وسحبتها تضمها لصدرها تربّت على ظهرها تواسيها هاتفة:
" لا تزعلي حبيبتي....عساه خير.....ما منعتك إلا لمصلحتك ومصلحة الجنين وهذا الأهم .....لا تبتئسي صغيرتي....اسألي الله أن يأتك بالخير أما بما يخص المحكمة كلّفي محاميك هنا بالذهاب بدلاً عنك!....لا ضير!...لكل مشكلة حل....عليك الاستماع لتعليمات الطبيبة كلها وبعدها نحل باقي الأمور بإذن الله.....وإن لم تسافري هذا ليس آخر الدنيا.......اصبري ولا تضغطي على نفسك وضعي في بالك الاهتمام بصحتك وجنينك..."

كانت مصغية مستكينة على صدرها فأبعدتها عنها مازحة تداعبها لتبدل مزاجها وهي تقرصها من خدها قائلة:
" ها اخبريني .....هل ايضاً اليوم صممت كالسابق بألا تعرفي نوع الجنين رغم أنه أصبح الآن ظاهر بوضوح جنسه؟!....لا تقولي أنك تشبثتِ بقرارك ونحن نتوق لنعرف أي الاسماء سنختار لابننا او بنتنا....."

تبسّمت تجاملها وملامح الأسى لم تفارق وجهها وأجابت:
" قلت لك في السابق خالتي......أريد أن اتفاجأ بهدية الله لي......لا أريد أن ارهق نفسي بالتفكير لا بالاسم ولا بغيره....ألم تقولوا أنه يأتي ويأتي اسمه معه......إذاً فلننتظر ونرى أي النوعين سيزين حياتنا إن شاء الله.......سنختار حينها اسماً يليق به او بها.....لكني الآن خائفة!..."

تحشرج صوتها العذب في حنجرتها وتابعت بشجن وهي تطرق رأسها تحسس على بطنها :
" خائفة خالتي....مِن...من خسارته لا قدر الله بعد أن صار حياتي وأملي!!.."

نهرتها قائلة:
" لا تخافي ولا تفكري بتشاؤم!....اهتمي بتعليمات الطبيبة ووكلي أمرك كله لله....احسني الظن به واعلمي أن ما يأتيك منه هو خير مهما كان عطاءه .."

~~~~~~~~~~~~~~~~~

في دجى الليلِ كنتُ مستلقياً سارحاً بالغد وما سأواجه به .....حككتُ شعري فتذكرتُ أنه قد طال ..فأنا لم أجد سابقاً الوقت لحلاقته...فززتُ من مكاني قاصداً العسكري (إياد) لأنه هو من يتولى هذه المهمة وبما أنني متفرغاً هذه الليلة مع صباحها إذاً عليّ الاهتمام قليلاً بنفسي!....يجب حلاقته بتسريحتنا المعهودة.....الشعر القصير الذي يميز الجنود!!.....ناديته من أمام غرفتي بصوتٍ جهوري فأقبل مسرعاً رافعاً اصبعيه بتحية العسكر الخاصة هاتفاً:
" أمرك سيدي!!.."

قلت باسماً:
" جهّز ماكنة الحلاقة لتحلق لي شعري....لم أجد وقتاً من قبل!!.."

" سيدي!!."

حدّجته مستمعاً فهتف بنبرته المرحة:
" لو كنتُ مكانك لما حلقته.....بسم الله ما شاء الله تبدو كممثلين هوليود بشعرك الأسود الناعم!!.."
قلت ببرود ساخراً:
" وبحلقه كيف أبدو؟!.."

رد بطيبة قلبه وعفويته:
" تبدو كقائد بجيش الكوماندوز..."

وأشار إلى أعلى جسمي مكملاً:
" وخاصة بعضلاتك هذه ما شاء الله "

هتفت بهدوء وثبات:
" إذاً هات الماكنة والحق بي لأننا لن نقوم بتصوير فيلماً ننال عليه جائزة الاوسكار.....وكفاكَ ثرثرة!!.."

اومأ برأسه ايجاباً ثم هتف رافعاً يده وضارباً الأرض بقدمه:
" حاضر سيدي....حالاً.."

×
×
×

أشرق الصباح على أرض المعسكر بلطافة حاملاً نسماته العليلة لتدغدغ الروح وتغمر قلبنا بالسعادة...استيقظتُ براحة عجيبة..."يا اللــــه".....تنهدتُ بعمق لافظاً لفظ الجلالة مستعيناً به مغمض العينين!.....هذا اليوم ليس كغيره.... أخذتُ به إجازة من معسكري لأنه هذا اليوم الموعود... نسأل الله خيره ونعوذ به من شره!.....سرتُ بهدوء خارجاً من مقرنا بعدما أعلمني صديقي (سامي) أنه بانتظاري في الخارج لنذهب معاً إلى العاصمة!!...شخصتُ بصري للسماء الزرقاء وشعرتُ كأن الطبيعة تضحك لي!!....نظرتُ من حولي ورأيتُ أن الشجر والحجر يضحك لهذا اليوم المنتظر!!....أكان هذا فعلاً أم أن فرحتي تضاعفت بسبب قرار اليوم ومن أجل من سأراها ؟!......وصلنا الى العاصمة والتقينا أمام تلك البناية العريقة بمن سبقانا... السيد(سليم الأسمر) وأبي (ابراهيم الهاشمي) اللذين قدما لحضور قرار المحكمة معنا!!....تصافحنا ودلفنا إلى القاعة التي ستجري بها المحاكمة ....كانت القاعة مليئة بمختلف الناس من رجال ونساء ....منهم من دعي بشكل خاص ومنهم من جاء للوقوف جنب ذويهم من المتهمين.....جلتُ بنظري لكل زاوية تصلها عينيّ ولم أجدها....طال الانتظار فكادت تهدني الهواجس والوساوس..." أين هي؟!...لمَ لم تظهر بعد ؟!.."..سألتُ بسري!!......لمحتُ في النهاية محامي شركة والدها في تلك البلاد ...فلعب الفأر في صدري!!..ثم تبسّمت بمكر رغم قهري هامساً لنفسي.." يا جبانة لم تقدري على المجيء وسماع الحقيقة ومواجهتي!!..أليس كذلك؟!....لك هذا الآن....من قال أنني لن آتيك بنفسي؟!.."
..دخل القاضي(اسماعيل) بهيبته وحضوره الطاغي....فهو رجل عُرف بقوة شخصيته وذكائه وصدقه مما يجعل جميع أفراد المحكمة حتى المحامين يحسبون حسابهَ!....وكيف بالمتهمين؟!.....وقفنا جميعنا بمن فينا من محامين...متهمين...احتراماً له حتى أشار لنا بالجلوس...افتُتِحت الجلسة على مرأى ومسمع الحضور!!....تخللها نقاشات....حوارات....اسئلة ذكية واعترافات....استراحة قصيرة ثم العودة لأماكننا.....منذُ امساكنا به حتى فك الشفرات واحضار باقي المتهمين والقاضي لم يذق طعم النوم لا ليلاً ولا نهاراً مع فريقه الخاص من المساعدين كمحققين وغيرهم!!.....حان الآن اتخاذ القرارات اللازمة بما يتعلق بالمتهمين وذلك بعد أن سمع كل هذه المدة من التماسات وأدلة مختلفة .....والآن يقع على عاتقه اصدار الحكم العادل بإذن الله !!....غالبية من يقبعون خلف القضبان اعترفوا لسانيا بأفعالهم الشنيعة إلا ذاك المجرم العاصي ( عاصي رضا) ما زال مصراً على براءته وما زال يتكتم عن شركاء له ولكنه لا يفقه أنه مهما وصل بظلمه عنان السماء سيأتي اليوم ويرتطم بالأرض مصعوقاً بالحقائق التي يبيّنها الله لنا مع البيانات الموثوقة!!.....فأصدر الحكم على رئيس الوزراء السابق (نظمي سعادة) بالسجن خمسة عشر سنة بتهمة الاختلاس من خزائن الدولة والتغطية على نسيبه .!!....وآخر حكم عليه بالسجن ثلاثة عشر سنة!!...وعضو سابق بالبرلمان حكم عليه ثمانية عشر سنة بتهمة بيع أراضي بطرق غير قانونية وتزوير معاملات لصفقات أسلحة وأخرى قضايا خفيفة....أما (عاصي رضا) حكمت المحكمة حضورياً عليه بمؤبدين اثنين مع الأشغال الشاقة بتهم لا تعد ولا تحصى وكلها ثبتت عليه....التحريض على القتل والقتل المتعمد ...التزوير...الاختلاس...المتا? ?رة بالأسلحة بطرق غير قانونية.....اشعال فتنة واثارة شغب يزعزع أمن الدولة....وأهم تهمه هو خيانة الدولة لمصلحة دولة أخرى!!.....قطع الهدوء الذي كان يغطي القاعة بعد انتهاء القاضي من الادلاء بأحكامه صوته الجهوريّ الغاضب بنقمة :
" حضرة القاضي....انتظــــر"

سلّطنا جميعنا عيوننا إليه وقد سبقنا القاضي يرمقه بنظرة توحي له بأن يتحدث فتابع بعينين تفيضان حقداً كريهاً:
" السيد أسعد الأحمدي نائب الرئيس الحالي متورط بجرائم تخص الدولة وأمنها!!.."

قالها بخباثة وبركان من الحقد والقهر يحرق باطنه ...لقد قرر أن يلقي بصديقه المقرّب والمعاون له بجرائمه الى جحيم السجن عندما تأكد أن لا أمل له بالخروج من خلف القضبان إلا إلى قبره..!!....عمّ الذهول أرجاء القاعة إلا أنني كنتُ مع جماعتي نحتفل بصمت بصدور الحكم....قال (سامي) مبتسماً للسيد(سليم) بعد أن نطق الوغد باسم شريكه :
" لقد صدق حدسك....اخبرتنا سابقاً بشكوكك نحوه!.."

ضربه على كتفه مازحاً:
" هذا منطق وليس حدس"

انتهت المحكمة وسط صرخات الاعتراض بينما شرعنا أربعتنا بالعناق الحميميّ حامدين الله على ظهور الحق بحقنا وحق كل مظلوم..!!....فككتُ حالي عنهم ثم سجدتُ في مكاني سجدة شكر لله حتى عانقت دمعتين هربتا مني الأرض تحت وجهي فرحاً واحتفالاً بانتصارنا ...!!
×
×
×
رجعتُ إلى مكاني في المعسكر...دلفتُ إلى غرفتي وفتحتُ خزانتي الخاصة....تبسّمتُ لها بحب عندما وقع نظري عليها....عانقتاها ذراعيّ برقة وعيناي تتأملانها بشغف...انحنيتُ برأسي وقربتها من شفتيّ أقبلها ....الآن استحقها بجدارة دون خجل منها!! ...لقد أعدتُ لها اعتبارها وحق صاحبها المسلوب ....إنها معشوقتي(عهدي) وعليها باقي بإذن الله حتى النصر التام ....!!....اتجهتُ الى سريري في غرفتي الداخلية وحملتُ صورة أبي مرتاح البال بفضل الله وبدأتُ أقصّ له عبر ذبذبات مشاعري انتصارنا على عاصي وأمثاله....!!
~~~~~~~~~~~~~~~~~~

توقف الزمان عندها... ما بها عـــقـارب الساعة لا تحذو الى المستقبل ؟!!....اليوم أعلنت صيامها.....لن تأكل ولن تشرب...تسمّرت في غرفتها تحتضن هاتفها....لا تريد ادخال شيئاً إلى جوفها حتى يرن بالفرح نابضها ....ها هي جالسة على سريرها تنتظر ذاك الاتصال الذي سيغير مجرى حياتها!!....أجل.....إنه بريء!!.....كلمة أمضت ليلتها تستدعي ربها راجية سماعها ....أجل....سيخرج والدها وتعود الضحكات لها.....سيستعيدون القصر..!!...خططت كثيراً وما أكثر خططها...بنت أحلاماً جديدة لمستقبلها....سيحتضن والدها ابنها....ستعود الى دراستها وسابق عهدها...لن ينقص ابنها شيئاً كما لم ينقصها!...سيأكل ما يشتهي ويشتري ما يريد!!...سيكون والدها العوض لابنها....ربما!!...هكذا تمنّت من صميم فؤادها...أليس ابنها حفيداً والحفيد له اهتمام خاص لا يشبه اهتمام الابناء!؟؟..فهي بالأيام القليلة في الحيّ رأت أطفالاً مع أجدادهم وجداتهم ورأت كيف يكون الاهتمام بهم ودلالهم فالآن إذاً عندما يخرج والدها عندما سيفعل هذا وأكثر مع ابنها!!...في لحظة تمتمت طالبة شيئاً لم تهتم به قبل. وهي تضع كفها الأبيض الرقيق على بطنها..:
" يا رب ولد...."

تطلعت على بطنها خافضة رأسها بانكسار الرجاء وتابعت هامسة بشجى:
" أنا أعلم ...إن كنتَ ولداً سيحبك أبي اكثر من ما أحبني!!..."

رفعت عينيها لفوق داعية ببراءتها:
" يا رب أرجوك...هب لي ولداً يحبه أبي ويهتم به !!.."

عادت تغوص في أحلامها فأشرق الأمل على وجهها....إلا أن جسدها ما زال محنطاً لم تحرّكه...شلّت أطرافها....مرّت الساعة والساعتين عند البشر بشكل اعتيادي إلا عندها لم تدرك ما الوقت!!...فالاتصال سيكون هو تاريخها الجديد وساعة مولدها....ارتجف الساكن في صدرها فاختلت نبضاته لتتسارع وجلاً عندما همست بتلقائية:
" أو سيكون الاتصال ساعة موتي ودفني!.."
علا رنين هاتفها بين يديها لحظة دخول (رهف) إليها!!....رمقتها بنظرة خاطفة خائفة ثم نقلت حدقتيها للذي ما زال يصدح بصوته راقصاً بكفيها!!...تبسّمت لها الواقفة جوارها رامشة بعينيها تشجعها على الرد إلا أنها كانت تتفتت من فرط التوتر عليها خشية مما ستسمعه!!...رفعت يدها تضعها على كتفها بحنية هامسة برقة:
" ردي ألمى....ردي وارتاحي....والأهم مثلما أخبرتك ليلاً....ستتقبلين كل ما يأتيك من الله ....لا تجزعي ولا تغضبي!! ولا تحزني!!.."

هزّت رأسها مبتسمة بابتسامة مائلة كأنها فقدت التحكم بشفتيها من شدة ما تعيش الآن من معارك بمشاعر مختلفة....أمل وفرح...خوف وقهر....قلق وسكون ....بسملت ضاغطة على الشاشة ...تنحنح من كان على الطرف الآخر وهو المحامي خاصتها بعد القاء التحية فهمست متلعثمة وهي تتمنى أن لا يسمعها:
" ها ...بشّـ....بشرني..."

ألقى الخبر على مسمعها بعدما اعطاها بضع تفاصيل إلا أن ملامحها تبدو كمن استعصى عليه الفهم....فهتفت بنبرة خفيضة:
" لـ...لم.....أسـ...أسمعك...ماذا قلت؟!"

كرر كلامه بإيجاز فالتفتت ليسراها حيث تقف صديقتها.!!....تصادمت نظراتهما المرتبكة....لوهلة....ظنت (رهف) أن الجالسة توقف نبضها فقد كانت متصلبة كلياً ليلحق تصلبها انفلات الهاتف من يدها يلقى مصرعه على السجادة!!...ثواني تجر ثواني وهذا حالها....دنت منها تجلس جوارها تبذل قصارى جهدها لتعيدها الى وعيها ....انتصبت واقفة بعزم فتخلخلت مكانها لتتبعها الاخرى تنتصب معها وأمسكتها هاتفة:
" ابقي جالسة حتى تعيدي اتزانك!!.."

تسلّحت بقوة لا تشبهها وسارت تخطو بالغرفة ذهاباً واياباً مرة لطاولة الزينة ومرة للمنضدة ....تقرفص عند حقيبتها ثم تنهض مجدداً وكل هذا وهي تصدر تمتمات غير مفهومة وملامحها متجهمة تكسر تجهمها بين الحين والآخر بابتسامة سقيمة مزيفة!!.....أطلقت ضحكات مقطوعة على مراحل ثم اتخذت سريرها....جلست منكمشة فوقه تحتضن ساقيها تنظر الى الأمام نظرات خاوية....تطلعت على التي ترافقها وبدأ جسدها يرتجف....يرتجف....حتى أطلقت سراح عبراتها بنشيج يمزق الأكباد وهي تقول بحرقة من قعر أوجاعها:
" أبي بريء.....بريء.....هذا ظلم ...."

أطرقت رأسها على ذراعيها تخفي وجهها وما زال جسدها الهزيل يهتز من شدة بكائها بينما لسانها لم يكف عن شرح قهرها وخذلانها وجروحها النازفة الملتهبة:
" لماذا فعلتم هذا بأبي ؟!...لماذا؟!...."
" لماذا لم تتركوا لي أحداً.؟!.."
" لماذا تودون أن تبقوني وحيدة؟!."
" حسبي الله بكم....حسبي الله ونعم الوكيل !!.."

وانهدم ما تبقى من صمودها وهي تحتضنها مربيتها بعد دلوفها إليهما لحظة سماع صرخاتها ...تبكي وتندب حظها ....تبكي وتتحسر على حياتها ....تبكي تشكو ضعفها وهوانها.....ظلّ هذا حالها حتى جفت دموعها واستكانت فساعدتها (رهف) على تعديل نومتها على السرير ثم قامت بتغطيتها وجرّت كرسياً جوارها تفتح مصحفها واضعة يدها على جبين النائمة وشرعت بقراءة آيات تمّدها بالسكينة والطمأنينة حتى تأكدت أنها رحلت إلى عالم النوم بسلام..!!
بعد مرور حوالي شهر دخل إلى تلك الغرفة المهجورة الموجودة بآخر الرواق في معسكرنا والشرر يتطاير من عينيه يكاد يحرق من يقع عليه !!....يضرب الأرض من تحته بخطواته الرجولية الشجاعة ...كعاصفة هوجاء صفق الباب الحديديّ دون أن يجفل من قوة ارتطامه ....حركاته عدوانية ....تلك الحركات لا يطبّقها إلا على أعدائه .....وكيف بالخيانة ومن خانوا؟!....ما أسوأها وما أقساها إن أتت من القريب وليس العدو!!....هي جريمة وعلى مرتكبها دفع الثمن وبأبشع الطرق....وعد فأوفى و يا لروعة من أوفى.....هو الصديق الذي نجده وقت الضيق....إنه البطل في الميدان و الابن البار والعبد الصالح.....الأفضل بعمله دون منازع ...وحده قناص كتيبتنا المحترف ...لا يخطئ هدفه...واثقاً بنفسه ..ماهراً بعمله.....إنه شيخنا الوسيم (أحمد)....عمل لأيام وليالي دون كلل أو ملل....عزم وأراد وهو أكثر من يشجع متابعيه عن الإرادة....إرادة زرعها داخله ونمّاها بالتوكل على الله.....فها هو منذ قرابة الأربعة أسابيع وبشكل شبه يومي يأتي إلى ذلك الخائن الذي راقبه عن كثب بكل دقة وحذر حتى أمسك به متلبساً يحادث طرفاً من الأعداء بعد أن وعدني بإمساكه هذه المسؤولية!!...لقد ظنناه بطلاً شريفاً فوجدناه لم يكن سوى خسيساً , متواطئاً , باعنا من أجل المال...باع وطناً آمناً ليشتري جحيماً حارقاً....أجل....هكذا هم المتخاذلون الخائنون !!....يظنون أن النعيم آت ولا يدركون أي عذاب سيلقون بالحياة والممات!!....انضم الى معسكرنا منذ سنة ....ألقى القَسَم العسكري خاصتنا على مسامع كبار قادتنا وهو الوعد الرسمي...وعد بحماية الأرض والفداء....وعد بالاستمرار مهما كانت المحن والتصدي للأعداء....وعود ثقيلة ونبيلة كلها من أجل الوطن الذي يرخص له الغالي والنفيس...!!.....آه يا وطن كيف باعوك؟!...كيف لم ترتجف ألسنتهم وهم يضعون لك ثمن ؟!....ألا يعلمون أن ترابك هو الدرر المكنون وبحارك وسمائك أغلى ما في الكون ؟!.....
كانت عينيّ فارسنا تبرقان بينما هدر بصوته هدير رعود تزامناً مع الامساك به من ياقته:
" اليوم...اليوم تحديداً ستخبرني ما الذي يخططون له اولئك المنحطين ؟!.."

ثم لكمه بشراسة على خده وأردف بصخب:
" قسماً يا كلب....لن أتركك اليوم إلا ومعي علم عن المهمة التي كلّفوك بها أيها الساقط!!.."

خيط من الدماء نزل من طرف فمه دون أن يأتي بحركة...أصبح جسمه هزيلاً بعض الشيء والجروح تملأ وجهه من أثر الضربات التي تلقاها من ذاك الغاضب الذي أثيرت حميّته ووصلت أقصاها على مدار أسابيع.....فقد حبسه في تلك الغرفة المهجورة ....مكان لا يدخله الا حشرات وقوارض تلهو بين الأغراض المبعثرة.....تغطيها رائحة الرطوبة فبالكاد تدخل اشعة الشمس متسللة من ثقوب النافذة الحديدية محكمة الاغلاق الموجودة أعلى الحائط ملاصقة للسقف لا نصلها إلا بسلّم ....أكثر مكان يليق بخائن حتى أنه خسارة فيه هذا المأوى....فأمثاله يجب أن يربطون فوق كومة نفايات تحت الشمس والبرد ليذهبوا إلى مزبلة التاريخ إن ذكرهم أحد أساساً ..!!.....بسهولة يحلفون اليمين ثم يخونوه دون أن ترمش لهم عيناً !!....كيف؟...أين مخافة الله قبل كل شيء؟!.....فها هو المدعو (خالد) والذي كان المساعد الأيمن للقائد (عز الدين) بالإضافة ايضاً أنه يكون ابن عمه .....كان قد انضم إلينا عن طريقه!!...وتبيّن أن وراء انضمامه أهداف أخرى....دخل إلينا كعميل سري وسمساراً يعمل لجهة معادية لنا......أما الشكوك التي اجتاحتنا منذ فترة بشأن القائد (عز الدين ) بحث عنها ليتأكد منها أيضا صديقيّ (بلال وأحمد) بمساعدة السيد(ماجد) فظهر أنه ليس متعاوناً لكن خطأه كان بأنه لم يشركنا بما عرف عن ابن عمه ومساعده وقد كشفه قبلنا وظلّ صامتاً مكتفياً بنصحه وتحذيره فيما بينهما وهذا يعتبر ذنباً في قانوننا وتهاوناً قبيحاً وإن لم يكن عظيماً إلا أن عواقبه غير مبشّرة لذا تمت معاقبته بسحب منصب القيادة منه واعطائه وظائف أقل أهمية بعيدة عن أمورنا شديدة الحساسية !!.....لم يتكلم ببنت شفة ذاك الذي تلقى لكمة ولحقتها أختها من قبضة الثائر الشامخ أمامه ....تلقّى الضربات بصمت حتى ضعفت قواه فخار جاثياً على ركبتيه أرضاً ...انحنى (أحمد) ناظراً إليه بحدّة يكز على أسنانه وهو يشد على تلابيبه بقبضة حديدية وهمس بفحيح:
" لن تتخلص مني....ستنطق بكل شيء....سألازمك كملك الموت أيها الوضيع ...الماء الذي طلبته من يومين لن تذوقه قبل أن تبوح بأفعالك ضدنا!!..."

شفتاه تتشققان كالأرض العطشة ...لا ريق له ليبلعه ...لم يكحل النوم عينيه الذابلتين ....يشعر بالدوار ....كل شيء يدور من حوله ولأنه بصمته استفز الآخر فزاده غضباً على غضبه ورفعه بيده الممسكة به بطلاقة وقوة مضاعفة ولن يوقفه أحد ...فليتجرأ أيٍ كان ليتصدى لإعصاره!!....سحبه كأنه يجر كيساً من الرمال وسار به بين أروقة المعسكر وصولاً للمدخل ....رفع يده لجبينه يحجب الشمس الملتهبة عن عينيه السوداوين المشتعلتين .....نظر يمنة ويسرة ويده ما زالت تحميه من الأشعة ....صوّب وجهه للأمام لساحة التدريبات الرملية حيث تنصب أعمدة ومجسمات للتسلق والتي تبعد مسافة مئة وسبعون متراً....مسافة يجتازها بلياقته البدنية دون أن يحدث خللاً بأنفاسه وبوقتٍ قياسيّ.....التفت ليمناه حيث يقف العنصر (إياد) يتفرج مندهشاً فأمره بصوتٍ جهوريّ :
" اجلب حبلاً وزجاجة ماء شديدة البرودة واتبعني حالاً..."

هتف بطاعة:
" حـ...حاضر....حالاً.."

استدار يلبي طلبه في الحال بينما هو دعس على الأرض بحذائه الجلديّ الاسود الخاص بزيّ الثوار يبصم عليها قوة خبطاته ليأتي المجرور من خلفه يمسحها بجسده الذي انكشف مع حركته فأضحى بنارٍ حامية تصلاه من تحته لشدة حرارة الجو وشمس الظهيرة الملتهبة !!..وما هاته النار تكون أمام جهنم؟!....اللهم اجرنا منها!!.....وصل إلى مبتغاه وهدفه ولحق به (إياد) لاهثاً....قام أحمد برفعه من ذراعيه بقبضتيه بعنف ثم ألصقه بأحد أعمدة ذاك المجسم الخشبي العريض المعد للتدريب على التسلق ودون أن يلتفت للواقف جواره مد يسراه يأخذ منه الحبل الذي لفّه على الخائن كالأفعى تحاوط جذعه وذراعيه وشرع بربطه مركّزاً عينيه الفحميتين الثاقبتين بينما بشرته البيضاء الرجولية شابها احمرار من أشعة الشمس فتعرّق جبينه وما إن أنتهى منه قبض بيده أسفل ذقنه يرفع له رأسه المثقل الساقط على صدره وكزّ على أسنانه مقترباً منه هاتفاً بكراهية يخص بها تلك الفئة النجسة وهو يشير بالأخرى للزجاجة بين يدي (إياد) :
" أنظر جيداً للماء البارد.......إن اعترفت بكل شيء ستناله وإن أبيت واستكبرت سيكون مصيرك الموت محروماً منه !!...."

وأفلته بقوة آمراً بصرامة من يقف جانبه:
" إياد....ضع قبعة أو تظلل بأي شيء بالقرب منه كي لا تضر نفسك من اشعة الشمس.....اعرض عليه الماء كل عشر دقائق دون ان تعطيه....إن أفصح عن كل شيء اتصل بي بالحال ولغير ذلك لا أريد ورود أي اتصال لهاتفي....أتسمعني؟!"

قال جملته وسمع الإجابة ايجاباً منه وبذات الإباء والشموخ الذي كان به استدار تاركاً إياهما من خلفه عائداً إلى مقره حتى حين....!!

~~~~~~~~~~~~~~~~~

اسبوعان مرت والأجواء غير مستقرة في بيت المربية بعد اصدار حكم السجن المؤبد على (عاصي رضا) فقد كانت ابنته بنفسية يرثى لها ... وخاصة بالأيام الأولى بعد غرقها بموجة عميقة من الأحزان ....وقفت جنبها السيدة (سهيلة) وابنة شقيقها وكذلك القريبات والجارات اللواتي بدأت بالتقرّب منهن في الآونة الأخيرة رويداً رويداً لتندمج مع حياتها الجديدة وأناسها الجدد!!...قمن بنصحها ومؤازرتها بمحنتها والتخفيف عنها متسلحات بالدين وبتسليط الضوء على من تحمله بأحشائها كونهن يعلمن مدى خوفها وحرصها عليه وقد نجحن بالأكثر بسببه إذ أنها تعلم أن الحزن الشديد والعيش بأعصاب مشدودة ربما يضر جنينها وحملها !!.....وهكذا مع نهاية الأسبوع الثاني بدأت تستجمع قواها وتخرج من بئر هذه الأحزان والهموم متأقلمة مع مصابها وما ألمّ بها على الأقل ظاهرياً أمام من يستضيفوها!! ...غدت أقوى من أجل صغيرها !!...وقد أعلمتها مربيتها أن حملها يشبه حمل والدتها بها وكيف كانت تحافظ على صحتها ونفسيتها لأن حملها كان تحت بند الحمل في خطر وهذا زادها مقاومة لضعفها وحذراً من أي أذية واي مكروه !!.....عادت لتنشغل بمشروعهما لتتناسى معاناتها واوجاعها ....فالضربة الكبرى تلّقتها والآن عليها المضي قُدماً وقد جاء العوض فهي الآن تفكر كم كان الأمس متعباً وممتعاً بذات الوقت.....فمنذ فتح مطبخهما الخاص أي منذ ما يقارب الشهران كانت ليلة البارحة أجملها على الاطلاق إذ أنها عملت هي و(رهف) وزوجة شقيقها بالإضافة مع مساعدة والدتها لتجهيز طلبية مميزة من المعجنات والبسكويت بأنواعه مع المعمول بكمية كبيرة كانت خاصة بحفل عقيقة مولود جديد !!....يا لها من متعة رغم الارهاق الذي أحلّ بهما !!.....كل شيء كان لطيفاً ولذيذاً وبشهادة تلك السيدة صاحبة هذه الطلبية والتي شكرتهما ومدحت ما صنعت ايديهما ووعدتهما بجلب زبائن من معارفها لمطبخهما !!....بدأت تهلّ النِعم عليهما حمداً لله ..والرزق يزداد!!...غاب التعب عنهما في صباح هذا اليوم عندما قامت بزيارتهما هذه السيدة لتدفع مستحقاتهما وأجرهما ولتعيد بعض الأطباق الثمينة التابعة لمطبخهما!!....وما زاد تلك الجالسة سروراً هو تلقيها أول هدية من أجل صغيرها والتي كانت عبارة عن ملابس بيضاء تناسب النوعين أحضرتها من قامت بزيارتهما من أجلها بعدما عرفت أنها حامل بالإضافة لعلبة على شكل زجاجة حليب لونها أزرق توحي بأن المولود ذكر وداخلها الحلوى اللذيذة توزّع في العادة على ضيوف الاحتفال !!....أمسكت العلبة وقلّبتها بين يديها وضحكتها التي غابت عنها منذ اسبوعين أصبحت تملأ عينيها قبل شفتيها فتزيّن وجهها الجميل وأضاءها وقالت للتي تستلقي على الأريكة مقابلة لها :
" انظري يا رهف ما ألطفها....أحببتها كثيراً....سأجلب مثلها واوزّعها على أطفال الحي!....ما رأيك؟!.."

آزرتها بضحكتها وأجابت فرحة لأجلها:
" إن شاء الله سنجلب أجمل الأشياء لصغيرنا .....أتوق لذلك !....يا ترى هل ستكون بألوان وردية أم زرقاء ؟!..."

فتحت العلبة وأخرجت حبة من الحلوى الملوّنة أكلتها وأجابت:
" المهم أن يأتي بالسلامة وغير مهم اللون.....آااه كم إني متلهفة لأراه!!.."

تحشرج صوتها بعد أن تجمّعت العبرات بمقلتيها عند تذكرها ذاك البعيد عنها والذي حُرمت من التواجد جانبه ومساندته بسبب حملها وهمست همسات شجية:
" يا رب....متى سيأتي لنذهب معاً لزيارة والدي ؟!....أودّ بشدة أن يأتي هذا اليوم كي يرى حفيده...."

اختنق صوتها وانهارت حصون دمعاتها فتساقطت بتلاحق وهي تتابع:
" علّه يخفف عنه ما يعانيه من ظلم هناك.....مؤكد سيفرح به عندما يراه...."

ورفعت سماءيها للسقف تزامناً مع يديها داعية :
" يا رب كن معه يا رب ....يا رب اظهر الحق أمامنا ولا تعذبه بسبب الظالمين والحاقدين!!.."


~~~~~~~~~~~~~~~~~~

كان يجلس مع زملائه بغرفة مكيّفة يناقشون أمورنا العسكرية ....كان مصغياً ويتبادل معهم الحديث إلا أن فكره ما زال منشغلاً بالمنصوب في الساحة صامداً من الظهر الى ما قبل الغروب بساعة ونصف دون أن يعترف بشيء يذكر!!....وبينما هو غارقٌ وسطهم رنّ هاتفه بالاتصال المنتظر ممن كلّفه بمهمة مراقبة الخائن ...رنّ قلبه مع الهاتف رهبةً مما سيسمع!!....فالقلوب الطيبة المخلصة مهما كان صاحبها شجاعاً لا يمكنها تحمّل سماع شيئاً مؤلماً عن عزيز وكيف إن كان هذا العزيز هو الوطن الغالي بأبنائه الشرفاء ؟!....استقام واقفاً ممسكاً بالهاتف بإصبعيه جانباً يضعه على أذنه بعد أن لمس شاشته للرد وهتف بجديّة وصوتٍ راكز:
" ها؟...اعطني زبدة الحديث.."

اختصر عليه من كان على الطرف الآخر للهاتف واصلاً للكلام الأهم والأخطر وهو يرتجف انفعالاً وتوتراً من هول ما سمع حتى أن صوته كان أقرب للبكاء لتتسع عيناي المستمع وترتجف حدقتيه هو الآخر ولكن لا وقت للخوف...لا وقت للانفعال....لا وقت للغضب والانتقام....الآن هو وقت الانقاذ وتدارك الحادثة ....لذا بحكمته وعقله المتزن وقلبه الباكي خوفاً والنازف ألماً هتف بكلماته المقتضبة قبل أن يغلق الهاتف:
" اسقه الماء حتى يروى...وانتظر!..."

ثم بريحٍ صرصر عاتية ترك خلفه رجالاً مذهولين من ردة فعله والذين ارادوا أن يستفسروا عن أسبابه ولكنه خرج دون اعطائهم شيئاً فهو يحتاج لكل ثانية هذه اللحظة ولن يوقفه إلا خروج روحه من جسده ...سيقاتل الزمن لعلّ وعسى أن يصل قبل فوات الأوان......ركض في الرواق متجهاً إلى غرفة الاتصالات الخاصة بأجهزة الاتصالات العسكرية اللا سلكية وأمر المسؤول بالاتصال بالشبل الثائر ( ضياء) لأنه يعلم هو أسرع من يمكن الوصول إليه كونه الوسيط بين الميدان والمقر....قام باتصاله السريع دون تأخير ثم قصد غرفته الخاصة وتوجّه الى درج مكتبه يخرج مفتاح الخزانة الخاص الموجودة ورائه ....فتحها وتناول منها رفيق دربه ومعاركه سلاح القنص الأكثر تطورا الخاص به....بندقية
( الصياد Am-50 )...........جهّزها بطلاقة وخرج من الغرفة مسرعاً حتى وصل مدخل المعسكر ووقف ناظراً لذاك الخائن الذي يبعد عنه مئة وسبعون متراً وبكل ثقة وأنفة مدّ البندقية أمامه تاركاً فرجة بين ساقيه دون أن يتحرك قيد أنملة مع انحناءة طفيفة تمكّنه للثبوت مكانه ونظر من العدسة الموضوعة أعلى سلاحه وبضغطة على الزناد دون مجهود أطلق رصاصته على جبين الخائن من هذا البعد يرديه قتيلاً حاكماً عليه بالإعدام دون أن يحتاج لأخرى ككل خائن وعميل يُعدم ميدانياً فقناصنا المحترف ذو النظرة الصقرية الثاقبة ماهر بالميدان ويتمتع بقدرة رهيبة بل فائقة لقنص اعدائه والرماية بشكل عام حتى مسافة تجتاز الألف متر...!!

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

تجلس (رهف) في الشرفة تكلّم خطيبها بالهاتف بعد أن صلّت العصر بينما كانت صديقتها السيدة الصغيرة تستلقي في غرفتهما من أجل القيلولة فتعب الأمس ما زال يلازمها ولم ينفك عنها !!....كانت مندمجة بحب معه وفجأة أزاحت الهاتف عن أذنها لتتأكد إن كانت قد سمعت اسمها فعلاً أم يهيأ لها فوصلها بالفور مرة اخرى:
" رهـــــف...رهـــــف الحقي يا بنيتي!!.."

اغلقت الهاتف في الحال بعد أن استأذنته سريعاً ودلفت مهرولة للتي تنادي عليها حتى وصلتها شاهقة عند وقوع نظرها على التي كانت تسند رأسها للحائط تبسط وتقبض جسدها بعنف شبه مستلقية على الأرض تتململ كالدجاجة المذبوحة وتحرّك رأسها يمنة ويسرة تحتضن بطنها بقوة صارخة بعويل من شدة آلامها:
" آاااه بطني....بطني...يا أمي....لا استطيع ...سأموت!!.."

ألقت هاتفها على منضدة قريبة ثم جثت جانبها تقرّبها منها مبسملة لتهدئها وهي تقول:
" ماذا جرى حبيبتي؟...بسم الله.....ما بك ألمى؟...اسم الله عليك.....كنتِ جيدة ما الذي حصل ؟!..."

لم تسمعها....لم تكن معها....هي غارقة بأوجاعها...من سيخفف عنها؟!...من سيساعدها ؟!....لم تجبها واستمرت بحركاتها فدمعت عينيّ (رهف) وجلاً عليها ونظرت لعمتها قائلة بصوت ضعيف:
" عمتي....ما بها ؟!..."

باستعجال ردت:
" اتصلي بالإسعاف يا رهف اتصلي.....هذه علامات ولادة!.....نسأل االله الستر!.."

" ماذا تقولين عمتي ؟!....هي ما زالت بالشهر السابع !!"

نطقتها برهبة واستغراب فأجابت بعزم :
" أجل وأنت تعلمين أنه يتم الولادة ايضاً بهذا الشهر....هيا عجّلي يا رهف....التأخير ليس من صالحنا !!..."

هبّت واقفة بعد أن ازاحتها عن حجرها والتقطت هاتفها عن المنضدة واتصلت بالإسعاف في الحال وبعثت لهم المكان ثم اتصلت بخطيبها ليستقبل الاسعاف وبينما هن في حالة الانتظار وتلك ما زالت على وضعها تشعر بتقلّصات مؤلمة بأقصى درجات وضغط كبير منطقة الحوض أحست بالقليل القليل من الراحة لوهلة...تحرّكت تعدّل جلستها فأحست كأن شيئاً نزل منها ...نظرت إلى مكان جلوسها على السجادة فاتسعت عيناها واهتزت شفتيها واهتز معها بالخوف قلبها فجاهدت بشق الأنفس بعد أن لمست بكفها المكان ليتلطّخ منه ورفعت يدها ببطء ترتجف تنظر تارة إليها وتارة للجالستين ازاءها هامسة بتلعثم:
" دَ...دَمـ....دم...دم.."

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

قبل اسبوع وبظرف اضطراري سرقت ساعات يتيمة من وقتي سافرتُ خلالها لتلك البلاد لجلب أوراقاً لصفقات خاصة بأسلحة للمعسكر وكانت موجودة في خزنة مكتبي في بيتنا الهاشميّ وتلك الخزنة لا تفتح إلا برقم سري مع بصمتي....قضيتُ سويعات فقط داخل البيت ولم يكن بإمكاني الانشغال بشيء غير غايتي ....لن أكذب !...عند دخولي البيت رفرف مغرماً مشتاقاً خائني وودّ لو سافر بين ذكراها باحثاً عن رائحتها ولكن لأن الوطن بقائمة الأولوية فكان القرار هنا لعقلي ولا غير عقلي....فعند الوطن والواجب يُهزم كل شيء.....نحن تربينا وغرسنا هذا في أدقّ شعيراتنا الدموية وحفرناه في خلايانا.....تعلمنا أن نصمت إذا اشتقنا أمام الواجب....تعلمنا أن الألم يكتم وممنوع اصدار أنة واحدة أمام الواجب.....فأن تكون جندياً...مجاهداً...مقاتلاً...? ?سكرياً هذا يعني أنك تخوض حرباً تهزم بها مشاعرك بل تدوس عليها لتظهر فقط قسوتك....لا مكان للرأفة...لا مكان للتردد....تعلمنا أن سلامنا يصل للأحبة بالابتهال لا بالاتصال....تعلمنا كيف نقبل بطيفنا وحده مرافقاً لنا لا غير....تعلمنا أن الشراسة تزيدنا ثقة....تزيدنا قوة ....وإن أردنا أن نحب فلنحب.....لكن ندفن هذا داخلنا لنمارس حبنا بصمت....بصمت يفتك قلوبنا.....اخترنا هذه الطريق بملء ارادتنا إذاً سنواصل حتى النهاية لنحصل على نصرٍ مشرّف لا يناله إلا الأبطال وأعظم الرجال...!! .....ولأني استغلالي عندما فتحتُ خزانتي واخرجتُ أوراقي أخرجتُ صورة لها كنتُ قد التقطتها لها أثناء خطوبتنا بالخفية عنها....قمتُ بتحميضها ثم مسحها من هاتفي آنذاك!....وكانت هذه عندما ذهبنا الى رحلة في الطبيعة مع الأصدقاء حينها وهي تجول بين الأزهار كالفراشة البراقة ....صورة قتلتني.... وما زالت....ببراءتها وفتنتها تقتلني.!!...حبيبتي المدمّرة الصغيرة!....تبسّمت بعشق وأنا أمعن النظر بها وبسماء عينيها ثم وضعتها بحقيبة يدي الخاصة بالأوراق ....وعدتُ إلى مقرّي ومستقرّي...إلى أرضي الطاهرة!!....
×
×
×
كنا قد وصلنا إلى الحدود بمجموعات كبيرة من مختلف كتائبنا مع أسلحتنا الحربية من دبابات وقذائف ومدفعيات وغيرها بعد أن سيطرنا بالكامل على ثلاثة مناطق حدودية بفضل من الله منذ أسبوع وراح خلالها ضحايا من الجهتين والفرق أن قتلانا بالجنة بإذن الله أما قتلاهم بالنار....فشتّان ما بيننا ...شتّان ما بين مبادئنا وقيمنا ومبادئهم.....شتّان ما بين أهدافنا ومطامعهم...وشتّان ما بين من يفدي الدين والحق بدمه وبين ما تذهب دمائه هدراً لمصالح دنيوية بنيت على جثث الأبرياء من أطفال وشيوخ ونساء ورجال عوازل.!!... نحن نعيش الآن حرباً ضروساً في أوجها.....حرب أشعلوها بعد فتنة اقتراب الانتخابات ووصلت إلى القمة بشراستها !!.....ها نحن مستمرين لنقاتل بعدة جبهات..!!.......كل قائد أخذ كتيبته بوحداتها المختلفة حسبما تقاسمنا ورسمنا خططنا العسكرية الاستراتيجية....توزّعنا ....لنكون بين الدفاع والهجوم ....كتيبتي أخذت خط الدفاع ......صلينا في جماعة صلاة الظهر سائلين الله النصر وحفظ أرواحنا قبل النزال الحقيقي.....توجهتُ إلى سيارتي رباعية الدفع العسكرية....أخرجتُ دوسية فيها مخططاتي....وأخرجتُ من بينها صورة حبيبتي....ناجيتها بكل ذرة حب أحملها لها وأنا أتامّلها ناظراً إليها نظرات شغوفة هيماناً بها :
" ألمتي...زوجتي الحبيبة !....اقرؤك السلام من أرضنا يا مهجة القلب والروح ....ها أنا سأباشر بمعركتي وسننتصر بإذن الله ....الله معنا وهو حسبنا....ستنتهي الحرب وسينتهي النزاع ...وسآتي مقبلاً عليكِ بإذن الله لنرسم حياة جديدة....لن استسلم لكِ ولعنادك.....سـأخطفكِ لبيتي مثلما خطفتِ قلبي.....سأجعلك تسامحينني عن كل دمعة قهر نزلت منك!.....سأعوضك واعوض نفسي عن كل دقيقة ضاعت منا في البعد...مهما تمردتِ لن أسمح بغيابك عني...سأجعل حبك لي ينبض من جديد داخلك ...لن أسمح له بالموت إلا إذا سبق موته موتي......!!.....أحبك ...وسأبقى أحبك يا سمائي...."

قبّلتُ صورتها راجياً عشقها ثم وضعتها في جيبي على صدري قرب خائني خلف مصحف أبي الصغير ذو الغلاف المخمليّ الأخضر والذي ما زالت بقعة من دمائه موسومة عليه... فهو أصبح رفيقي في معاركي من بعد أبي رحمه الله...!!

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

رافقت (رهف) وخطيبها تلك النازفة الموجوعة إلى المشفى ولحقت السيدة (سهيلة) بهم مع ابن شقيقها ولمّا وصلت إليهم وجدتهم ينتظرون خارج قسم الحالات العاجلة متوترين...مرتبكين وخاصة صديقتها التي بكت بكاءً أليماً على حالتها ...رأت معاناتها مع آلام المخاض المبكرة ولم تستطع تخفيف هذه الأوجاع عنها ....بعد السلام سألتهما مربيتها :
" طمئنوني .....ماذا قالوا لكم ؟!.."

ردّ (بكر) خطيب ابنة شقيقها:
" لم يخرج لنا أحد حتى هذه اللحظة عمتي....سننتظر قليلاً...إن تأخروا سأسأل بنفسي!!..."

تقبّلت كلامه على مضض وشرعت بالحوقلة والاستغفار والدعاء لمن ترقد بالداخل والتي لا يعلم إلا الله عن وضعها! ....جلسوا الثلاثة على المقاعد المعدة للانتظار وبقيت السيدة (سهيلة) على كرسيها المتحرك...مرت دقائق...فنصف ساعة ولا خبر عنها!!...ذهب (بكر) إلى طاولة الاستعلامات الخاصة بهذا القسم فأخبرته الموظفة أن لا معلومات لديها وعليهم الانتظار حتى خروج الطبيب أو الممرضة إليهم لتخبرهم بوضعها أو عن أي مستجدات !!...اومأ بقلة حيلة وعاد للانضمام إليهم وأخبرهم بالرد!!.....اكتملت الساعة وفجأة انفتح الباب الكهربائي فخرج الطبيب بوجهٍ شاحب يكسوه العرق وسأل عن الأقرب درجة لها ثم وجّه كلامه إليها محاولاً الحفاظ على هدوئه بعد أن أشاروا إليها كي لا يزيدهم توتراً:
" سيدتي....علينا اجراء عملية عاجلة لها !!.."

ردت عليه بخوف:
" ما بها صغيرتي؟!....كيف هي؟!.."

حك عنقه ورسم ابتسامة شاحبة مصطنعة ثم رفع يديه بحركة توحي لأن يهدؤوا بعدما رأى تحركاتهم وهمهماتهم القلقة وقال:
" اهدؤوا....اهدؤوا......كله بأمر الله.....المريضة في حالة ولادة وعلينا الاسراع بإنقاذها لأن وضعها صعب ....المهم انقاذها هي.."

صرخت (رهف) من غير ادراك:
" والولد؟!.."

أغمض عينيه لوهلة متنهداً ثم أعاد فتحهما ليجيب بهدوء مزيّف:
" الاثنين في خطر....نحن نفعل المستحيل بالطبع ولكن في النهاية وفي مثل حالتها المستعصية نختار الأم طبعاً لإنقاذها ....هي الأولى....اسألوا الله لها السلامة... والعوض!!..."

~~~~~~~~~~~~~~~~~

اشتباكات مسلحة عنيفة في بقعتنا التي سبق وجهزناها من أجل تكتيكاتنا وبخطة دفاعية مدبرة نصد بها العدو المهاجم كي لا نسمح له باختراق حصوننا والسيطرة على أرضنا....كان دفاعنا ثابت نستخدم به في المقدمة مدرعاتنا ومدفعياتنا أما نحن الجنود نتوزّع خلف أكياس الرمال المرصوصة جوار بعضها حماية لنا ....مرت ساعات من العراك....دخان متصاعد ....نيران مشتعلة من أثر إلقاء القنابل....زخات من الرصاص تحلق في الجو....إصابات من الجهتين .....إلى الآن لم ينل أحد شرف الشهادة!!.....ساعات من الصدام ...تعبنا إلا أننا لن نستسلم....بقي القليل وبإذن الله سنرفع رايتنا....إن استمررنا على هذه الوتيرة سننهي الحرب خلال أيام لا تتعدى الأسبوع....ها نحنُ نقاوم بكل ما نملك من ذخيرة وأسلحة ....ها نحنُ نجاهد بعون الله ثم قوتنا....!!....بجهاز الاتصال خاصتي قلت لقائد كتيبة النسور على الجهة الأخرى بعدما وردني بعض المعلومات من الوسيط الرئيسي بين المعسكر والميدان شبلنا (ضياء) والذي يرافق كتيبتي:
" نحن كتيبة الفهد الأسود.....القائد هادي...هل تسمعني؟"
" أسمعك سيد هادي..."
" ازحفوا إلى الشمال اشتد القتال هناك !!....هيا حالاً..."
" ما زال الاشتباك مستمر سيادة القائد هادي..."
" اترك مكانك نستطيع نحن مضاعفة جهودنا لحماية جهتنا بإذن الله....هيا حالاً ازحفوا دون تأخير!.."
" أمرك....سنزحفُ حالاً.."

انهيتُ الاتصال وعدتُ للقتال والعرق يتصبب مني....بعد دقائق نفذ مخزون سلاحي الاوتوماتيكي المتطور ...فاضطررتُ لاستخدام بندقية أبي الـ(عهد) ولكن رصاصاتها الخاصة غير كافية ....أفرغتُ ما فيها ....تأففتُ من حظي!...استقمتُ واقفاً ووضعتُ يدي على جبيني احجب ضوء شمس الغروب عن عينيّ....تطلعتُ للبعيد لجهتها حيث معركتنا الضارية ثم التفتّ للوراء مكان ايقاف سياراتنا العسكرية ....لا بديل لي إلا أن أعيد الـ(عهد) فهي ترافقني لالتمس منها بركة أبي بحُب وكي أشعر أنه معي بعد الله.....بالطبع لن اعتمد عليها لأنها من الطراز القديم رغم قوتها وصمودها!!...استدرتُ عازماً على جلب ذخيرة سلاحي المتطور...مشيتُ قليلاً ثم نزعتُ الواقي عني لأنه مدجج بالقنابل وجهاز الاتصال وناظور وقنينة ماء صغيرة ....أردتُ التخفيف من حملي لأعود سريعاً ..!!....انتبه لي (ضياء) فقال:
" إلى اين سيدي القائد هادي؟!"

" سأعود حالاً ان شاء الله....سأعيد العهد وأجلب صندوق الرصاص كاملاً.."

" ارتح سيدي....سأذهب بدلا عنك!!.."

" لا حاجة ضياء....ِشكرا لك...استمر بعملك وسأعود بإذن الله دون تأخير..."
" ارتدي الواقي تحسّباً.."

ضحكتُ من وراء لثامي والضحكة وصلته من عينيّ وأجبت:

" هناك أمان بإذن الله عند سيارتي!....لن تصل الرصاصات الطائشة هناك لأني أوقفتها اسفل المنحدر قليلاً .."

" حسناً سيدي القائد....بأمان الله"

حرّكتُ رأسي برضا وهمست:
" شكراً لك.."

هرولتُ مسرعاً بخطاي نحو مركبتي العسكرية....وعند كل ضربة مدفع أحاول الانبطاح حذراً.....!!...بينما من خلفي حيثُ كنت وصل اتصال عبر اللا سلكي لـ(ضياء) مصدره المعسكر وتحديداً من صديقي (أحمد)!..

" لقد اعترف الكلب خالد أخيراً عن مخططتهم ...يوجد طرف آخر بالأمر..."

شرح له بكلمات مختصرة سريعة ماهيّة المخطط..!!

"ماذا تقول؟"

سأل مرعوبا ثم اشرأب بعنقه ليرنو إليّ فوجدني كنتُ قد اجتزت العشب وأمتار قليلة تفصلني عن مركبتي رباعية الدفع الخضراء الخاصة بالمعسكر فابتلع ريقه صارخا :
" هاااادي "

وصلني صدى صوته فالتفت التفاتة يسيرة وتطلعتُ عليه ولم يرَ لمعة السعادة بعينيّ ولا الابتسامة المخفية تحت لثامي الأسود والتي كان سببها شعور لحظيّ براحة غريبة لم اذقها منذ زمن وما إن أكمل بصراخة قائلا:
"توقف وعد حالا!!.."

حتى أصبح الجو ضبابيا إذ أن الدخان غشى الأرجاء ورافقه تراب الأرض مع رائحة النيران التي امتزج بها الوقود ، الرصاص، احتراق العجلات وذوبانها إثر انفجارها بجزء من الثانية بعد تفخيخها بنية اغتيالي مما أسفر عن قذفي امتارا بالهواء لأرتد بعدها مرتطما بالأرض وقطعة حادة من حديد المركبة تغرز في بطني جاعلة الدماء تسيل بغزارة !!....سالت الدماء وجسدي التحم بالتراب طالباً الانتماء.....وتلك الوفية أبت مفارقتي....سقطتُ وسقطت فوقي....أيا عهدي استمري ناضلي من بعدي!!... أيا كرامتي انهضي مع الأشبال وقاتلي!! ...أيا روحي هذا الوطن فلا تنسي !!...أيا أماه ويا نبض الحياة ألم اخبرك عن عرسي؟!.....شعرت ببرودة ألمّت بي ثم استرخاء ثم لم أعد أحس بشيء بعدها سوى أصوات متفاوتة بين القريب والبعيد وآخر ما رأيتُ من واقعي وجه (ضياء) أحد اشبال كتيبتي الذي كان يهزني مع هتافه مرتجفاً:
"سيد هادي...أرجوك....لا تستسلم ....ستأتي الإسعاف حالاً إن شاء الله......حاول التحمل ولا تغلق عينيك !!....."

وبعدها أغمضتُ عينيّ هاربا من الواقع الى دنيا أخرى وحلم جميل ظهرت به أمامي حورية بيضاء مشرقة تختبئ ملامحها وراء دخان ...تناديني بترانيم عذبة... حاولتُ اللحاق بها وقبل امساكها انحجب النور من أمامي وغدا كل شيء حولي ظلاماً دامساً وتلاشى صوتها ليحل مكانه هدوء غريب مريب يتبعه حبس للأنفاس ثم النبض بقلبي أعلن ضعفه وحركتي سكنت بسلام وفوق دمائي وعلى أرضي رفعتُ لروحي راية الاستسلام...

[لا تَسلْ عن سلامتِهْ روحه فوق راحتِهْ بدَّلَتْهُ همومُهُ كفناً من وسادِتهْ
صامتٌ لوْ تكلَّما لَفَظَ النَّارَ والدِّما قُلْ لمن عاب صمتَهُ خُلِقَ الحزمُ أبكما
لا تلوموه قد رأى منْهجَ الحقِّ مُظلما وبلاداً أحبَّها ركنُها قد تهدًّما
هو بالباب واقفُ والرَّدى منه خائفُ فاهدئي يا عواصفُ خجلاً مِن جراءتِهْ]
(( كلمات الشاعر ابراهيم طوقان))

×
×
×

أنا هادي محي الدين الشامي
لمن سألوني من تكون؟
أنا لاجئ في سمائها والنازح في بلدها
وأنا الثائر في موطني ضد العادون
الفادي بدمي وسلاحي وأنا لمن احتاجني العون
وأنا الهيمان في حبها
أنا الولهان أنا المجنون
أنا العاشق المتيم المفتون
أنا المحترق بنار الغيرة
ولو طلت لخبأتها مخابئ الدر المكنون
أنا الديوان في قصائدها و الشعر
وأنا الدستور في حكمها والقانون
أنا المجروح برمحها. أنا المغدور. أنا المطعون
أقبلت عليها فاتحا صدري وحنايا قلبي
ودثرتها برموش العيون
وأقبلت عليّ برماحها تلطمني
وتغرز في قلبي العاشق خنجرها المسنون
جرحتني بغدرها وقتلتني بالظنون
أقبلت تزفني الفرحة وأدبرت تشيعني أحزان الكون
قاتلتي أنت. ألمي وجرحي
وأنا في زنزانة الوفاء لك مسجون
فاتنتي أنت. ولعنتي وفرحة مبثورة وبكاء وشجون
يامن اختزلتِ زرقة السماء في عيون
وظلام الليل الحالك أمام سواد شلالك يهون
يامن سرقتي من "المها" عيونها وقدها ورقتها
والجموح منها سبعون
آويتك في أرضي يا سمائي
فجرت لك منبع حناني عيون
وجعلت لك صدري ملجأ حنون
صبرت عليك يا قاتلتي وسيفك في ظهري مطعون
صبرت على جنونك حتى الرمق الأخير
وكنت الحد الفاصل بين الصمت والسكون
بين العقل والجنون
بين الاستقامة والمجون
ترأفي بحالي. يا ظالمتي
فمهما صبرت أنا البركان الهائج في ثورتي
أنا الطوفان. أنا السيل الجارف. أنا الغضب الملعون
أنا هامة الجبل الشامخ في الكبرياء
أنا الوفي لا أغدر ولا أخون
أنا الراقي في تعاملي أنا الحنون
وأنا الكابوس إن غضبت
وأنا الجفاف في أحاسيسي
أنا الجاثوم والمنون
وإن كان قدرنا الفراق رضيت
فالطيور على الشجرة لا تختارها الغصون
سأخط النهاية بيدي إن جرحت
حتى لو كنت بعشقك مفتون
وفي حنايا قربك ثمل حد الهذيان وحد الجنون
سأنتزع قلبي إن خانني
ونسيانك تتكفل به الأيام والسنون
يا ألم هادي وجرحه المدفون
(( كلمات من المتألقة الطاووس الابيض ))
شعرت ببرودة ألمّت بي ثم استرخاء ثم لم أعد أحس بشيء بعدها سوى أصوات متفاوتة بين القريب والبعيد وآخر ما رأيتُ من واقعي وجه (ضياء) أحد اشبال كتيبتي الذي كان يهزني مع هتافه مرتجفاً:
"سيد هادي...أرجوك....لا تستسلم ....ستأتي الإسعاف حالاً إن شاء الله......حاول التحمل ولا تغلق عينيك !!....."

وبعدها أغمضتُ عينيّ هاربا من الواقع الى دنيا أخرى وحلم جميل ظهرت به أمامي حورية بيضاء مشرقة تختبئ ملامحها وراء دخان ...تناديني بترانيم عذبة... حاولتُ اللحاق بها وقبل امساكها انحجب النور من أمامي وغدا كل شيء حولي ظلاماً دامساً وتلاشى صوتها ليحل مكانه هدوء غريب مريب يتبعه حبس للأنفاس ثم النبض بقلبي أعلن ضعفه وحركتي سكنت بسلام وفوق دمائي وعلى أرضي رفعتُ لروحي راية الاستسلام...

×
×
×

القنابل كالرعود تقصف مدوية على أرض الحرب تخلّف وراءها نيراناً براقة ودخاناً غزيراً يحجب أنوار الغروب.....النزاع مستمر...والمقاومة ثابتة!!....ثوّارنا صامدون لا يبرحون الأرض...تبادل مكثف للرصاص!...الإصابات تتفاوت والانتصار يتأرجح!!....المشفى الميداني المتنقل القريب يحتل بقعة تبعد عن ساحة المعركة أربعمئة وبضع من الأمتار!!...يتواجد في مكان أكثر انخفاضاً مما يمنع عنهم متابعة التطورات الميدانية بوضوح!!.....يُنقل إليهم المصابون بحالات متوسطة بواسطة مركبات عسكرية صغيرة ومن أصيبوا اصابات طفيفة يقدّم لهم العلاج الفوري مكانهم من قِبَل فريق طبي صغير مجنّد لهذه الخدمة ليعود الجريح للقتال من جديد فنحن نحتاج لكل عنصر سواء كان أساسياً أو بديلاً!...أما الحالات بالغة الخطورة والحرجة ينقلونها بسيارة إسعاف الى مشفى المعسكر الاكثر تطوراً!!....اتصال يتبعه انقطاع للاتصال دقائق على هذا الحال!!.....كان أحد أطباء الفريق المصاحب لكتيبتنا يعمل جاهداً على إيقاف النزيف بما لديه من معدات بسيطة ومحاولاً بشتى الطرق منعي من الغياب عن الوعي!!...مزّق قميصي للوصول الى الجرح دون أي عراقيل بينما تلك القطعة الصلبة الحادة ما زال جزءًا منها يغرس للداخل لا يستطيع تحريكها فهو لا يعلم لأي عمق تصل وأي عضو داخلي تضر!.....العرق يتصبب منه ....يركّز مرتبكاً تارة بإصابة بطني البالغة ثم يعود ليلقي نظراته للجرح العميق الذي أصاب ساقي بينما لسانه لم يكف عن القاء أوامره بتشديد لمساعده الأول كي يضغط جيداً بقطعة قماش معقّمة على المكان النازف بساقي قدر الامكان!!وكذلك بتكرار طلبه من مساعده الآخر للوصول هاتفياً للمشفى الميداني ....بعد عدة محاولات نجح بالاتصال ووضع على مكبر الصوت فقال الطبيب بصوت مرتجف لهم:
" اتصلوا بالمقر حالا حالاً واخبروا السيد سليم ليبعث لنا مروحية لنقل مصاب بحالة حرجة لمشفى المعسكر!!.."

مسح جبينه يزيل قطرات العرق بكم ذراعه وتابع لاهثاً:
" يوجد تشويش بأجهزة اتصالاتنا مع المقر والاسعاف لن تتمكن من الوصول إلينا فالطرق وعرة والوقت لن يسعفنا!..."

وعلا صوته بصراخ مشدداً:
" الإصابة بالغة الخطورة!...أسرعوا هيا وابعثوا لنا حالياً جهاز التنفس الاصطناعي من عندكم ريثما تصل المروحية!!.....لا نريد أي تأخير!..."

" من المصاب؟!"

ردّ محذراً بصوت مرتبك:
" القائد هادي!...عليكم التكتم عن الموضوع لمن حولكم وفقط اوصلوه للسيد سليم مباشرة وهو يتصرف بمعرفته!!...أحذركم ....يمنع تسريب الخبر!..."

حذرهم من ذلك لأن الخبر شديد الحساسية وبدستورنا عندما يكون الجريح من القادة يُكتم عن هذا لسببين أولهما منعاً من حدوث أي بلبلة وزعزعة لقوة الجنود تؤدي لإضعافهم واستسلامهم خوفاً او احباطاً !!....فللقائد دور كبير بتوجيههم ثم تشجيعهم وتحفيزهم للاستمرارية بالنضال والجهاد ويكون هو رأس القوة والقدوة في الصمود!!..فإن ذهب يتركهم بحرب نفسية اضافة للحرب الحقيقية!....والسبب الثاني عندما يكون بالأمر اغتيال فالأكثر حرصاً هو عدم نشر الخبر خشية من وصوله للأعداء الذين لم يتموا مهمتهم بنجاح وربما يعاودون لإتمام عملهم الناقص!....

استمر الطبيب بمحاولاته اليائسة كي لا استسلم...يكابد بجهد كي لا افقد وعيي كلياً فقد كنتُ بين الوعي واللا وعي!!....بعد عشر دقائق رجع إلينا المشفى الميداني باتصال يخبرهم بأن المروحية بدأت بالتحرك وستكون في الميدان بظرف دقائق قليلة!!.

×
×
×

عاصفة رملية هوجاء اجتاحت المكان حيث الأرض المستوية القريبة سببها هبوط المروحية العسكرية المجهزة بأجهزة طبية خاصة للحالات الحرجة.....قبل أن تلامس الأرض انفتح بابها فقفز منها السيد (سليم الأسمر) راكضاً بلهفة إلى بقعة تجمّعنا حيث يُقدم لي الاسعافات الأولية.....لم يأتِ كرئيسٍ للثوار ولحزبه....بل أتى مرتديا لباسه العسكري الذي يزيده هيبة وأتى كصديق ليطمئن على أمانة صديق من زمن ليس بعيد....أبي (محيي الدين الشامي).....أتى كأبٍ قلبه مرعوب على ابنه.....أتى كقائد يهتم بأشباله.....جاء إلينا كابنٍ لهذا الوطن الطاهر!!......يركض ملتاعاً مقبلاً نحوي حتى وصلني ثم بكل عزم وإصرار للانتقام تبعه الذي قفز من المروحية راسخاً على الأرض كالطود الشاهق وسلاحه يلازم ظهره كأنه وتدٌ يمنع انهياره ثم سار بخطواته الأبية مخلّفاً غباراً خلفه يشي عن سخطه متجهاً نحو هدفه المرصود إلى أن وصل ووقف مكانه ناصباً كتفيه بشموخ العز والكرامة هاتفاً بثبات:
" نحن جنودك يا ابن الشامي وأرواحنا للوطن وشرفاؤه فداء .....سندك حصون الأعداء لنعيد حقنا والدماء.....وسنجعل نهارهم ليالي ظلماء....قسماً بمن رفع السماء "

ثم استلّ رفيق درب المقاومة خاصته سلاح القناصة وأطلق رصاصاته المتوعدة الغاضبة بالهواء غير سامحاً لأي دمعة أن تبوء عن مدى حزنه الغائر في قلبه.....!.....سبقه الأول وقرفص جواري يحاول اخفاء وجوم وجهه من الحال الذي وجدني به بينما أعاد نظره فوراً يسلطه على ذاك الثائر الغاضب المرافق له والذي أفرغ خزينة سلاحه.!!....تبعهما الفريق الطبي المتخصص ينزلون من المروحية ويحملون المعدات الطبية اللازمة للتدخل الفوري !!.....الجو كان مشحوناً بالغضب واللوعة مع رائحة الرصاص المختلطة بالروائح الأخرى التي صدرت إثر تفجير السيارة والدخان الخانق والدماء الزكية !!.. ..منظر يرج الأبدان .....دمار يتبعه دمار.....ما أبشعه من منظر!!.....وما أوجعه من حال!!.......انتصب السيد (سليم) واقفاً بجسارة يدوس بها على آلامه ثم تطلع على تجمع لعصبة من الأشبال الذين كانوا الأقرب للحادثة وانشغلوا معنا يتراوحون بين العشرة والاثني عشر جندياً وقطب حاجبيه بقوة صارخاً بصرامة وهو يشير نحو شمس الغروب التي يظهر نصفها العلوي قبل الانغماس كلياً بالظلام وهي البوصلة لنقطة النزال الضاري:
" مكانكم هناك......ما إن أنزل يدي سأجدكم على أرضكم بالحال ولا أريد أي كلمة عمّا حدث...."

وتبع جملته يشير لستة منهم آمراً بخشونة:
" أما أنتم عليكم تمشيط المكان حالاً وجلب الكلب الخائن الذي فجر المركبة......يوجد سيارة مشبوهة ما زالت متوقفة بعيدة قليلاً عن المنطقة...... لقد تفحصنا الوضع من فوق بالمروحية....أي أنه ما زال في دائرتنا ......مؤكد يتخفى الحقير مرتدياً لباس بلون رملي وأعشاب للتمويه والأكيد أنه لم يبتعد كثيرا عن هنا........"

رفع ذراعه الأيسر ينظر لساعة يده العسكرية ثم ضرب شاشتها بإصبعيّ يمناه الوسطى والسبابة بحزم مضيفاً:
" معكم نصف ساعة ويكون تحت قدمي وإلا لا تروني وجوهكم!!......هيا انصراف...."

رفعوا أيديهم محاذاة جبينهم بتحية العسكر مجيبين بصوت واحد:
" أمرك سيدي..!!"

ثم انفكوا عن بعضهم ينغمسون بعدة اتجاهات بين التلال والحقول الشاسعة لمهمة البحث عن الخائن !!......عاد السيد(سليم) يركّز نظره مع الفريق الطبي الذي يعمل بطلاقة كيدٍ واحدة يتساعدون من أجل السيطرة على وضعي....!!...بدأت تمتماتهم تعلو وانتابتهم حالة من التوتر فهتف سائلا:
" ماذا يجري...؟!"

ردّ أحدهم مقرّاً بشحوب:
" نبضه ضعيف وضغطه منخفض جداً.......علينا نقله سريعا للمشفى وهناك نكمل....لا يمكننا ابقاءه هنا......لقد نزف بشكل مبالغ.....يحتاج لصفائح دم بديلة للذي فقده ولربما نحتاج لضربات كهربائية!!....أتمنى أن يسعفنا الوقت...."

التفت للذي أصدر شهقة خوف مغلّفة بالحزن الشديد ورآه يمسح دمعته فوقف بصلابة يكلّمه :
" ضياء......هادي لن يرضا بالضعف والاستسلام ......هيا اذهب لزملائك وكن جانبهم .....اذهب واتحد مع المساعد الأيمن لهادي ......عليكم سد فراغه حاليا..."

بصوتٍ حزين مرتعد ردّ عليه وهو يمسح دمعة أخرى:
" لا يمكننا أن نكون مكانه مهما فعلنا ......نحن نحتاجه سيدي !!.....أرجوكم افعلوا ما بوسعكم!!...."

لم يردّ عليه إنما أخفض رأسه من فوره يتابع بحدقتيه المحروقتين حزناً عمل الفريق الطبي الذي قرر وضعي على السرير النقال بكامل الحذر دون الاتيان بأي حركة خاطئة يمكنها ان تحرّك تلك القطعة الدخيلة فتزيد الوضع سوءاً ولمّا نجحوا بمهمتهم وتوجهوا للمروحية تقدّم بخطواته الصلبة ذاك الثائر الغاضب قناصنا وشيخنا الوسيم نحو السيد (سليم) هاتفاً بجدية وصلابة وبملامح أحد من السيف:
" اسمح لي لأكمل المعركة عن صديقي..."

رمقه بنظرة عابرة ثم ألقى حدقتيه للذين يسيرون نحو المروحية وقال بهدوء:
" اذهب....لا مكان لك هنا!!.. "

بانفعال رهيب وشموخ مهيب ردّ في الحال:
" مكاني هنا....لن أبرح الأرض حتى آتي بحق صديقي ووطني .."

بصرامة وتصميم بارد ظاهريا:
" قلت لا مكان لك هنا.....اذهب معهم"

بحرقة دم وقلب يئن بالألم هتف وهو يهز سلاحه بيده:
" سأقود المعركة عن هادي......سأكمل مشوار صديقي.....لن أسمح بدمه المهدور أن يضيع هباءً.....السيطرة شبه كاملة لنا......"

تقدّم نحوه بصلابة وقبض جانب كتفيه بقسوة يهزّه يريد أن يسنده لأنه يعلم عن الانهيار الداخلي الذي يعيشه وصرخ:
" أحمد....أنا من سأقود المعركة......الخطة معي ...لا يمكنني المجازفة بك وبالبقية ....."

بعينين سوداوين محتقنتين بدماء الغضب ودموع الحزن تملأ المقلتين ساخنة كاللهب ردّ مقهورا برجاء:
" سيد سليم أرجوك.....سأنفجر بمكان خطأ إن لم أحارب مكانه......سأتمزق من الداخل إن لم أكمل رسالته....سأحترق إن لم أجلب حقه!!.....اسمح لي أرجوك.....أنا أيضا أفهم ماهية الخطة وأعدك لن أزل والله معي !!...."

أفلت ذراعيه عائدا خطوة للوراء منتصباً اكثر بوقفته المهيبة ثم أشار بيده نحو المروحية آمراً بحزم لا يقبل النقاش:
" قلت أنا سأقود المعركة بإذن الله ....أما أنت جاء دورك الآن لتقوم بمهمتك السامية .....أن تكون الرفيق لصديقك في محنته ....أن تكون السند بأصعب اوقاته......إبقَ معه وافعل الاجراءات اللازمة هناك...صديقي الطبيب نضال موسى سيستقبلكم بمشفى الشمال....لقد أرسلتُ له رسالة عاجلة فمشفاهم من أقوى مستشفيات دولتنا تطوراً ....يديره نخبة من أمهر الأطباء..!... .هيا اذهب......لا تؤخرهم ....ستقلع الطائرة!..."

وأضاف حاسماً الأمر:
" اذهب بأمان الله ...سيلحقك سامي الى هناك بطائرة الشرطة التفقدية ...لقد طلبت من بلال اعلامه!.."

من سيطفئ غضب هذا الزلزال الناقم ؟؟....لم تعد عينيه الفحميتين سوداء بل أضحتا جمراً ملتهباً....يكاد يختنق...إنه وبكل ما فيه يحترق.....دماؤه ثائرة وحميته نافرة .....انصهر قلبه بين الوطن الذي نادى والصداقة التي نادت.....كانت قد مرت دقائق قليلة على نشر الاشبال للبحث عن المجرم الخائن !!......استدار يحاول ابتلاع سخطه بعد أن زمجر كالإعصار معترضاً .....مشى خطواته بقوة مضاعفة متجهاً ناحية المروحية حيث ينتظرونه ......وقبل أن يصلها بمترين التفت الى يساره عند سماعه أصوات زملائه الذين يمسكون بالوغد الذي كان ما زال على مقربة من الانفجار للاطمئنان على عمله ولم يتمكن من الهروب والافلات منهم بعد سماعه الأمر بالقبض عليه!....كانوا يصرخون مناداة على قائدهم الأكبر السيد (سليم الأسمر) هاتفين :
" سيد سليم...لقد تم القبض على المجرم الخسيس .."

دقة في النابض خلف أضلعه كانت الحاسمة...الدافعة...الداعمة.. ..أجل!.....لقد رآه بينهم....أجل لقد أكدوا أن ما بين أيديهم هو من فعلها.....فعلها وباع الوطن!....فعلها واغتال صديقه !.....كيف سيخمد ناره؟!....بماذا سيريح ضميره؟!.....باستدارة كاملة لجسده الصلب مزلزلة الأرض من تحته وبصرخة مجلجلة الأفق من فوقه هتف بغل وغيرة على وطن وصديق وكلينا نتقاسم قلبه:
" انظر إليّ أيها الكلب الحقير ..!!."

التفت إليه بالحال مع عصبة الأشبال وبشموخ الثائر الأبيّ ومهارته الفذة بالقناصة ....وبمجازفة دون ارتجاف او تردد صوّب سلاحه بكل دقة عالية واحترافية وثقة لا متناهية رغم وجود ذاك الخائن بين زملائه ثم أطلق رصاصاته ثاقباً بها جسده النجس تزامناً مع صراخه:
" مُت أيها الخائن ..."
" كن عبرة لغيرك يا وضيع.."
" كيف تجرأت وغدرت صديقي ؟!"
" جهنم وبئس المصير..!!.."

لينهي الأمر برصاصة على جبينه يطرح جثته المليئة بالثقوب والدماء النجسة ارضاً ونفخ ببرود من بين شفتيه على فوهة بندقيته ثم اشرأب بعنقه دون ندم أو خوف من سخط الذي كان يقف بعيداً مذهولاً ومصدوماً من فعلته وقد فهم على الفور سبب صدمته فصرخ بذات الثقة ليصل صوته إليه:
" سيد سليم اطمئن......لا تخف....أعلم لأي جهة كان تابعاً...لقد أخبرنا الخائن الآخر بذلك...."

ثم أضاف بعد سكتٍ يسير:
" ما كنتُ استطيع أن أكون جنب صديقي وانظر لعينيه لو لم أفعلها .!."

ورفع السبابة والوسطى بيمناه كتحية وسلام بينما كان يحتضن سلاحه بيسراه وابتسامة ماكرة مرتاحة تزيّن وجهه توازي دموع قلبه وقال:
" استودعكم الله....غزوة مباركة بإذن الله..."

وقفز صاعداً للمروحية ليبدأ رحلته الصعبة برفقتي....!!


~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~


من في البلاد لا يتابع أخبار حربنا ؟!....المهتم والغير مهتم....المساند والمعارض....الخائن والوفي!....تعددت النوايا ولكن المتابعة واحدة!!....فكيف بعوائل الأبطال؟!....كيف بأهالي الجنود؟!....كيف بمن وهبوا قطعة من روحهم لأجل الوطن ؟!....كم بيتاً خرج منه شبل؟...سواء كان ابناً او زوجاً او شقيقاً وأباً......هؤلاء هم الأكثر وفاءً واهتماماً بما يحصل في أرض المعركة....يرجون النصر للحق من أجل الوطن ويبتهلون من الله ليعيد الثوار سالمين إلى بيوتهم!!.....وهذا كان الحال في بيتنا الجبليّ.....كان (شادي) يتابع بلهفة آخر التطورات وكانت والدتي تطهو الطعام وقت الغروب....لقد أخبرتها شقيقتي أنها ستأتي وزوجها لتناول العشاء عندهم !....وبينما كانت منغمسة في عملها بالمطبخ شعرت فجأة برجفة في قلبها فوضعت يدها على صدرها بالحال متمتمة:
" يا رب لطفك....استر يا رب واحمهم وسدد رميهم ....يا رب كن معهم لا عليهم....يا رب اعد لنا ابناءنا بصحة وعافية...."

ثم تابعت عملها وشيء في باطنها يزعزع طمأنينتها....!!..

" شادي.....افتح الباب...الجرس لا يعمل وهناك من يدق علينا!!.."

صرخت بجملتها من المطبخ الأكثر هدوءاً فبغرفة العائلة صوت التلفاز يصدح بقوة ولم ينتبه للطارق.....لبّى نداءها في الحال وبعد دقيقتين دلفت إليها بمرح:
" السلام عليكم يا أم هادي ..."

ثم اقتربت ببطء من ثقل حملها وكبر بطنها فهي الآن في شهرها وقبّلت خد والدتي التي تفاجأت بمجيئها الآن قائلة:
" وعليكم السلام.....ما بكِ أتيت باكراً؟.."

والتفتت الى الوراء باحثة وهي تكمل:
" الطعام لم يجهز بعد....هل أتى زوجك معك؟!.."

عبست بدلال وردت :
" آه يا أمي...كان قد وصل الى البيت من توه....استحم واستلقى ليرتاح فجاءه اتصال عاجل هبّ من فوره على اثره وارتدى ملابسه اليومية بعفوية دون اهتمام وقال لي فقط...* عليّ الذهاب لخارج المدينة لاجتماع طارئ يخص عملنا....لا تقلقي ....ربما لن اعود الليلة ....اذهبي وابقي عند أهلك!..*....يا إلهي كم كان حانقاً متجهماً..."

ثم زفرت أنفاسها وتابعت بعطف عليه :
" بالطبع سيغضب وينزعج......لم يتركوه يرتاح مسكين.."

وضعت يدها على كتف ابنتها وقالت بهدوء فيه حزن لم تدركه:
" علّه خير ابنتي....لا نصيب له اليوم ليتعشّى معنا ..."

ثم مسحت على بطنها بمداعبة وأكملت:
" كيف هو حبيب جدته ؟!....أصبحتِ في منتصف شهرك وما زال ملتصقاً بك!.."

مسّدت بطنها بحنية وردت ضاحكة:
" بالفعل!... أظن أنه ينتظر انتهاء الحرب بإذن الله وعودة خاله هادي سالماً ليحضر ميلاده .."

ضحكت تجاملها ثم هتفت من جب فؤادها:
" يااااا رب "


~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~


لم تتزحزح من مكانها وهي تلهج بالدعاء ....قلبها منفطر عليها وروحها تتألم لأجلها .....ابنتها الروحية وسيدتها الصغيرة تعاني في غرفة العمليات وتصارع من أجل الحياة ولم يكن الحال أفضل عند (رهف).....كانت تدعو لها بقلبٍ خالص وهي تجوب رواق المشفى متوترة ....خطيبها يساندها في محنتها ويهدّئ من روعها عليها ....لقد فكرت السيدة (سهيلة) للحظة بأن تحاول الوصول إليّ ولو عن طريق السيدة (إيمان) بعد أن أدلى الطبيب بالخبر المؤلم الحزين!......ظلت حائرة في أمرها !...رأت أن الأصوب هو إعلامي بالأمر ولكن التيه الذي عاشته مع خوفها على من بالداخل جعلاها أن تتأنى بقرارها وأن تنتظر الساعات القادمة على خير!.....لقد مضت ساعة وأكثر بعد عودة الطبيب لاستئناف عمله !...العملية القيصرية لا تأخذ وقتاً ولكن حالة المريضة ليست طبيعية وعليهم الانتظار والصبر !.....انفتح الباب الكهربائي الفاصل بين غرفة العمليات وغرفة الانتظار .....خرج الطبيب إليهم وكان وجهه قاتماً بسبب الجهد الذي بذله فهرولت إليه (رهف) وخطيبها لتسأل بلهفة ورجاء مع دمعة سقطت من مقلتها:
" أرجوك أيها الطبيب...طمئنّا على كليهما!.....أرجوك لا تفجعنا!.."

أنزل كمامته عن فمه....تنهّد بعمق وأجاب بجدية:
" الأم بخير الحمد لله....لقد استعملنا بنجاً كاملاً معها لذا ما زالت نائمة !....."

قاطعته التي اقتربت منهم جالسة على كرسيها المتحرك وهي تقول:
" والذي في بطنها !....كـ....كيف حاله؟!.."

ضغط على شفتيه قليلاً وهو يهزّ رأسه ورد وهو ينقل حدقتيه بين ثلاثتهم :
" لقد أنقذنا الطفل بفضل الله ....وضعناه بالحضانة الخاصة لاكتمال نموه....لكن!!.."

ابتسمت (رهف) ابتسامة صادقة وسائلة:
" هل أنجبت ولد؟!.."

ليتبع سؤالها سؤال عمتها المرتبك:
" لكن ماذا ؟!."

تبسّم مجاملاً وهو يومئ برأسه ايجاباً ناظراً للأولى هامساً:
" أجل ولد..."

ثم اخفض نظره للأخرى مستطرداً:
" لكن الولد سنضعه تحت الرقابة المشددة لمدة أسبوع.....في الحقيقة وضعه ليس جيداً.....سنبذل قصارى جهودنا والأمر كله في الأول والآخر على الله .....دعواتكم!!..."


~~~~~~~~~~~~~~~~~


كم مرّ من الوقت؟!...لا يعلم !....كيف استطاع الصمود أمام زوجته دون أن يشعرها بخطب ما قد حدث ؟!....حقاً لا يدرك!.....أتاه الاتصال المشؤوم تاركاً قلبه مكلوم ....نزل عليه الخبر كالصاعقة وهو في البيت إلا أنه بقدرة الله ثم قوته تمالك نفسه حتى ارتدى ملابسه وفرّ خارجاً منه بعد تحججه لها بعمله وقاد السيارة بجنون حتى وصل مركز الشرطة ومن هناك أوصلوه إلى تلة الصقور حيث تنتظره المروحية الخاصة بالشرطة أعلى الجبل...!!....وها هو دخل الى مبنى المشفى في شمال البلاد بعد هبوط طائرته في ساحتها!....كان يسير مسيّر حيثما يأخذه قلبه وأينما يهديه حدسه ....خطواته كانت واسعة كاد يكسر بها الأرض الرخامية من تحته.....قاطب الجبين والدمع في العين حزين!....يسير ويا ليت له جناحاً ليطير!....لا يعي ولا يفقه من أين أتته تلك المقاومة للثبات بينما عقله يقول له...ماذا ستفعل لو توأم الروح قد مات ؟!.......أخيراً مال يساراً الى الرواق الواسع حيث كراسي الانتظار وباب كهربائي عريض خلفه مريض بحالة حرجة...وربما!....بحالة احتضار!.......اسرع بخطاه أكثر ليُكشف له المكان بصورة أكبر ويرى صديقنا بلباس الثوار الأسود يجلس على كرسي وهو يتكئ بمرفقيه على ساقيه ويحاوط رأسه بكفيه يطرقه للأرض ولسانه يتمتم بالدعاء بينما يهز رجله بتوتر وارتباك ليحرر وضعه ذاك عند سماع الهمس المخنوق للآتي من بعيد :
" أحـ....أحمد!..."

تلاقت أعينهما المجمرتين وتعانق قلباهما النازفان بوفاء واخلاص ليهمس الجالس ووجهه محتقن بدماء الوجع:
" سـامي!!....لقد أتيت!.."

ثم انتصب واقفاً يقابله وهو يجول بنظره لياقة بلوزته الكحلية الغير مرتبة ولشعره المبعثر ووجهه المصفر وكأن الدماء هربت منه وأكمل بصوت ثابت مزيّف:
" هادي يا سامي....ادعُ له...."

هل حاله يسمح بالدعاء؟!...هل مظهره يوحي لمعالم الحياة عليه اصلاً؟!...كلا....بقيَ صامتاً وملامحه مبهمة....يقف صامداً وقواه آيلة للسقوط....من قال أنه حيّ؟....هل الحياة بالشهيق والزفير والنبض بالقلب فقط؟!....كم احياءً أمواتاً على الأرض ؟!....وهو أصبح منهم!....أجل.....لن يعيش إلا إذا برق الأمل عند فتح ذاك الباب!...لن يتكلم إلا إذا بشّره الطبيب بالجواب!....يتطلع عليه (أحمد) بينما هو يلوذ بالصمت.!....رفع يده إلى كتفه يشد من أزره وقال وهو يشير بالأخرى إلى المقعد الملاصق لهما:
" اجلس يا صديقي......أنت ليس على ما يرام!.."

ألقى حدقتيه البنيتين للباب ثم لصديقه وبالكاد سحب قدميه ليرتمي بوهن على المقعد وجاهد بخوف شديد ليخرج سؤاله:
" كـ...كيف هـ...هو؟!....مـ...ماذا حدث معه بالضبط؟!"

جلس جواره ووضع يديه بين ساقيه ناظراً إليهما وأجاب وهو يصك فكيه بغيظ:
" حثالة لم يستطيعوا مواجهته وجهاً لوجه فلجأوا إلى الغدر...."

شد قبضتيه ثم رفع قبضة يسراه وضرب ذراع المقعد وهو يكز على أسنانه مردفاً بسخط :
" تأخرت....تأخرت بحمايته!.....ذلك الحقير خالد لم يعترف عن مخططهم إلا باللحظة الأخيرة...تباً لهم وتباً لي ولتأخري!..."

لام نفسه كثيراً ....رأى أنه قصّر باستجواب الجاسوس.....ما كان عليه لينتظر حتى ينطق.....كان عليه اخراج الاعتراف منه ولو اضطر لاجتثاث لسانه ..لو أنه عاد إليه قبل الغروب...لو أنه صمم اكثر...لو استخدم أساليب التعذيب..لو...لو..لو...لكن ما الجدوى الآن من الملامة...لم يزده هذا إلا غلّاً وقهراً....بل ضاعف من عذابه لنفسه وهو بأمس الحاجة للحفاظ على قوته دون حرق طاقته...فاليوم أمامه طويل والمشوار في الصبر أطول!!.... عليه الرضا بما قضى الله...ما به حانق وساخط وهذا قدر لا يستطيع تغييره مهما فعل.؟!....مسح شعره بغيظ من أفكاره ثم تمتم مستعيذاً بالله من الشيطان الرجيم ومستغفراً ....التفت ليمينه حيث يجلس الآخر لحظة همسه الخافت الذي خرج بسبب صوته المخنوق:
" أين إصابته تحديداً؟!.."

صمت برهةً ولمعة ألم اجتاحت عينيه المحمرتين وأجاب وهو يشير لبطنه :
" قطعة حديد من السيارة مزقت بطنه....."

قاطعه متسائلا:
" هل اخترقت الواقي؟!"

" لم يكن يرتديه !....نزعه ليخفف حملاً عنه كي لا يتأخر عند جلبه الذخيرة من سيارته"

تنهد موجوعا ثم أشار لساقه وفوق الركبة تحديدا ليكمل:
" وإصابة أخرى بساقه ....رأيتها ليست هيّنة ...أعانه الله وشفاه ..."

واستطرد بالحال:
" الحمد لله أن رأسه لم يتأذى على الأقل.....كان يرتدي الخوذة!.."

هزّ رأسه ولا يعلم ماذا يجيب وماذا يقول له وعن ماذا يسأله ثم عدّل جلسته يحني ظهره يتكئ بمرفقيه على ساقيه ويضرب برتابة قبضة يمناه ببطن يسراه من شدة قلقه وغضبه ووجهه الأشقر محتقن بالدماء الحانقة على الخونة وعيناه متكدستان بدموع أبت الخروج من بيتها فعاد الآخر لجلسته الاولى يحاوط رأسه ليستأنف أدعيته ثواني ثم دقيقتين وبذات اللحظة رفعا رأسيهما وانتصبا واقفين معاً بطولهما متأهبين لحظة خروج ممرضتين تهرولان بتوتر لتناديا على الطبيب الأعلى شهادة صاحب المشفى وصديق السيد (سليم) لأمر عاجل ثم اعترضا طريق ممرض ثالث خرج من نفس المكان بعد لحظات ليسأله الأكثر تحكماً بانفعالاته هذه اللحظة:
" ماذا يجري ؟!"

قبل أن يجيب تطلعا لحالة الاستنفار التي حدثت خلفهما وهو قدوم الطبيب المطلوب راكضاً مع مساعديه والممرضتين فتتبعا دخولهم حتى اختفاءهم بملامح مبهمة وذهول وعيون حائرة ضائعة ثم عاد (أحمد) ليسأل الذي ما زال بقربهما:
" أجبنا!.....ماذا يجري في الداخل؟!"

طرق رأسه وأجاب بإيجاز :
" المريض......توقف قلبه!"

* المريض توقف قلبه*...
جملة رنّت بأذنيّ أولهما لتصل مخترقة أذنيّ الآخر !!....

المريض توقف قلبه!!....
توقف يا زمن وسجّل ....هناك لعهد الصداقة من خان......اكتب يا قلم وبالتاريخ سجّل ....بطل يموت على يد جبان.....انزل يا غيث وعلى التراب سجّل ....في بلادنا ضاع الأمان!.....ابكي يا عين ويا دمع على الخدّ سجّل....متى سيكون الإنسان إنسان؟!.....اغضب يا قلب وبنبضاتك سجّل ..... هان الوطن هان هان !.....امضِ يا عمر وبين أيامك سجل ....لم يكن للسعادة مكان.......الزم مكانك أيها الزاهد العابد وعلى سجادة صلاتك سجّل......دعاء يبعد عنا الأحزان......أفكار عاثت بهما ولم يجدا لحالهما عنوان.......متى ولمن سيشيعان الخبر وكيف سيبشّران نبع الحنان؟......بأي حال ستغدو ؟.....أببكاء وعويل أم ستعلو بالزغاريد وستفرش الأرض بالورد والريحان؟!..........ما بالهما واقفان بجمود؟....ألم يستوعبا بعد؟....هي ثواني لم تجتاز الدقيقة جمعت كل الخواطر السيئة في ذهنهما .....صدى الجملة عاد ليرنّ داخلهما وكأنه ينبههما ليستيقظا من سكوتهما.....قرعت الطبول في قلبه هذه اللحظة حال ادراك ما سمع وتغيّب عقله عن التفكير ذاك الأشقر ومن هول صدمته أمسك تلابيب الممرض وهو يهزّه صارخاً:
" كيف تقول هذااا؟"

يهزّه ويتابع بذات النبرة:
" أتعي ما تفوهت به؟!"

كان (أحمد) ليس أحسن حالاً.....كان يجاهد للثبات وهو تائه أيمسك الدموع من عينيه أم يسكت صراخ أوجاعه أم يوقف نزيف قلبه؟.....ومن بين توهانه لفت انتباهه حركات صديقه العدوانية مع الممرض دون ذنب له......فاختار الصمود أكثر غير سامح لحاله بالتحطم وفك بصعوبة تلك الضحية من براثن غضب الأشقر الذي لم يعد يتمالك نفسه بعد أن أفلته وهو يدور هائجاً ناقماً يركل المقاعد تارة ثم يقلب غيرها ويدنو من خزانة زجاجية تحوي على مطفأة الحرائق يضربها بلكمته الصلبة ليتناثر زجاجها وتتناثر معها دماؤه الملتهبة غير آبه لها ولا للمكان الذي هو فيه ولا للتجمع الذي بدأ يحدث من نوبة الغضب التي اقتحمته ....مغيّب مغيّب كلياً فقط يركل ويرعد ويزبد ناقما ساخطا كارها كل غدار وكل خائن بعد أن صرخ صرخة خرجت كزئير الأسد الهائج بينما من يحتاج للسند مثله تضاعفت مسؤوليته وهو يحاول أن يهدئه ويسكته قائلا :
" استهدي بالله يا سامي....لا تفعل هذا بنفسك!"

لم يعره اهتماماً وأكمل بثورانه يدور ويدور دون أن يخف هياجه فاقترب منه بعزيمة وأمسكه من كتفيه يحاول تثبيته صارخاً به:
" كفى يا سامي كفى....ما هذا الجنون؟"

رغم غضبه المستعر وعروقه النافرة الا أن الانكسار كان واضحاً عليه بمظهر اكتافه المنحنية وانخفاض رأسه أرضا ولكن عند كلام صاحبه الأخير استقام بقامته ثابتا وحدّجه لثواني ثم رفع يديه يمسكه بقوة هاتفاً:
" أين ذاك الحقير....أين ال***....أريد أن أقتله بيدي.......دلّني عليه....دلني....سأريه الويل ..."

شدّ أكثر على جانبيّ كتفيه وهزّه هاتفاً بصوت جهوري متين خارجه القوة وباطنه حزن دفين:
" لقد قتلته.....قتلته يا صديقي ولن يجدوا عضوا واحدا سليما داخله......مات موتة الكلاب....ذهب الى الجحيم...ارتح يا صديقي.....ليس أحمد من يترك وضيعاً نجساً يتنفس خلفه.....لست أنا من أترك دماء أخي ورفيقي وأمضي في حياتي!....."

ما زال (سامي) يمسكه من ياقته وما زال (أحمد) ممسكا بكتفيه.....حلّ الصمت بينهما لثواني سقيمة يلقطا أنفاسهما ليكسر ذاك الصمت الأخير الذي همس:
" إنا لله وإنا إليه راجعون.....إنا لله وإنا إليه راجعون"

قالها وهو يدنو برأسه لا شعوريا لرأس الآخر الذي هتف بضعف ونبرة قاتلة من شدة ألمها وهو يفعل بالمثل ليلصقا جبينيهما ببعضهما :
" لا تقلها ...أرجوك....لا أستطيع السماع....أي حمل سيتركه لي لو راح !....أي جراح سيوشم بقلوبنا ؟....لم يمت.....صديقنا قوي...سيقاوم وسيشهد على استقلالنا واستقرارنا....سيحتفل معنا بانتصارنا الذي بات قريب..."

" يا ليت يا صاحبي يا ليت....ليتنا في كابوس وسنصحى منه......ليتنا لم نسـ...نسمع بـ..بآذاننا أن قلبه ....تـ...تـ..و..قف.."

والى هذه النقطة انهارت الحصون واغلقت الجفون بعد ان غرقت العيون وهما على وضعهما جبهاتهما ملتصقة وناصية الحزن تربطهما دون همس يخرج من أيٍ منهما تزامناً مع نزولهما أرضا ليقرفصا متقابلين يشبهان طفلين فقدا أمهما ثم ينفجران ببكاء مرير يمزق نياط القلوب ويذهب العقول...كان الوجع في القلب دفّاق والدمع من العينين يراق...عجز...ضعف ثم احتراق...يبكيان بحرقة وألم دون أن ينفصلا وكأنهما يشدان من أزر بعضهما....يشعران بفراغ مميت....وكأن شيئاً ينقصهما....صورتهما غير مكتملة......هناك قطعة مهمة مفقودة....قطعة لا يستطيعان التنفس دونها.....لا يمكنهما الاستمرار قُدماً من غيرها ......قطعة ستحرمهما تذوق الفرح مهما صار......قطعة فككت عقد عهد الصداقة.....!!.........قطعة ربطت صداقة ثلاثي بمتانة ...ثلاثي لم يزعزع علاقتهم غضب.....ولم تفرق قلوبهم هجرة......ولم تصبهم عين.....قطعة نفيسة بنظرهما سرقها منهما الموت على يد جبان وكل خوّان......اسودت الحياة أمامهما وضاقت الدنيا عليهما وسدت الطرق بوجهيهما وفي بالهما....انتهى العهد...... وذهب (هادي)...!!
وكانت آخر همسة مستضعفة هربت من شفتيّ شيخنا:
" فلنعزي أنفسنا....إن ملتقانا الجنة بإذن الله"


~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~


مرّ اسبوع وحالها لم يتغير.!!....فبعد استيقاظها من تأثير البنج واستيعابها لما حصل معها كانت ردة فعلها الأولى البكاء والبحث عن صغيرها بهيستيرية مما اضطرهم لإعطائها مهدئ بالحال ...فلم ينفعهم الكلام معها واخبارها أنه حيّ......لقد دخلت العملية وفي بالها فقط أنها فقدت طفلها!!....نامت وصحت على هذه الفكرة ....وبعد ساعات قليلة من أخذ المهدئ والنوم عادت إليها مربيتها و(رهف) مجدداً ...انشغلتا لتهدئتها من انفعالها وحدّثتاها عمّا حصل معها وبشّرتاها بأنها أنجبت ولدا وبأنه بخير وموجود في الحضانة لاكتمال نموه....لم ترَ سابقاً رضيعاً عن قرب....لم تخالط أطفالاً بهذا العمر....لقد عاشت طوال عمرها منعزلة عن المجتمع وتقابل فئات قليلة منهم....وفجأة أصبحت أماً خرجت منها روح أخرى!.....عندما هدأت بالفعل وأصبحت بنفسية أفضل قليلاً قررت (رهف) مرافقتها لغرفة الحضانة الخاصة بابنها كما قال الطبيب بأنه سيبقى بها تحت الرقابة للاطمئنان عليه!....كانت تمسك بها صديقتها وتتقدمان بتمهّل الى تلك الغرفة.....كم عاد إليها الأمل والشوق لتحتضنه!....تمشي بانحناء تمسك بطنها لشعورها بالألم وهي ترتدي رداء المشفى الخاص وحجابها يحيط رأسها بعشوائية.....وصلتا إلى هدفهما....لم تستطع لمحه من النافذة الزجاجية ....دخلتا إليه وكانت باستقبالهما ممرضة لترشدها على كيفية اخراجه والتعامل معه.....في البداية رغم الوجع كانت سماءيها تبرقان بالفرح توقا لرؤياه وقلبها يخفق بالحنان الفطري....ما زال بالحاضنة الشفافة التي تبعد عنها امتاراً قليلة وهي تقف بمنتصف الغرفة......فجأة....تسمّرت مكانها لحظة اخراج الممرضة له منها ....ما هذا؟...من هذا؟....انخطف اللون عن وجهها....تصلّبت شرايينها....ابتلعت ريقها وعلا وجيب الخوف بقلبها!...بصعوبة وبطء التفتت الى يسراها من حيث تمسكها صديقتها وعيناها جاحظتان وهزت رأسها برفض هامسة:
" مـ....مـ....ما هذا ؟..."

وضعت يدها تمسح بها على ظهرها لتسكنها وهي ترد:
" تقدّمي حبيبتي....هذا ابنك...هيا اقتربي!.."

حثّتها لتتقدم وفعلت بتثاقل لأنها هي من تدفعها ....دنتا من الحضانة ثم التفتت للتي همست وهي تحمله بابتسامة:
" انظري لصغيرك ما أجمله.."

ثم مدّت يديها لتقربه منها بالمجال الذي تقدر عليه لأنه مربوط بأسلاك تخص مراقبة الاعضاء وجهاز للنفس فحالت بين الاستجابة لها والهروب من هنا صدمة جعلتها تتحنّط مكانها وكأنها تمثالٌ في متحف يعبر عن صورة بائسة لفتاة محطمة حملت كل هموم الأرض على أكتافها !....لم تتزحزح قيد أنملة....ولم تبدر منها همسة!...فقط ما كان يوحي بأن هذه مخلوق من البشر هو حركة صدرها بفعل اضطراب نفسها الذي يتضاعف وجلاً!......كررت تلك طلبها بهدوء....مرة تلتها مرات!....فحررت نفسها من جمودها وهي تستدير لتهرب من المكان متمتمة:
" لـ...ليس ابني!.....هذا ليس طبيعي!....انتم تكذبون!....!..."

وبدأت تسرع خطاها وهي تتأوه ممسكة ببطنها والحجاب انزلق عن شعرها غير آبهة له أو غير مدركة لحالها ...تحاول الركض متعثرة بأوجاعها و(رهف) لحقت بها فوراً لتسندها حتى وصلتا غرفتها ثم أشارت لخطيبها ليذهب ويؤذن بأذنه وبقيت هي عندها.!!....لقد دخلت بصدمة من صغر حجمه ومظهره الذي لا يشبه الاطفال الطبيعيين ....لأول مرة ترى هذا المنظر!....فعقلها لم يستوعب وحدود معرفتها لم تتقبّل أن الطفل السباعي يكون بهذا الشكل والحجم وخاصة بعد ما عاشت من معاناة قبل دخولها غرفة العمليات....معاناة أذهبت ما تبقّى عندها من عقل!.....والآن ها هو الأسبوع مرّ على هذا الموقف وهي ما زالت في غرفة المشفى بالكاد تأكل وتشرب دون أي كلام يذكر....لقد دخلت بنوبة اكتئاب ما بعد الولادة...عبّرت عنها بالصمت التام والشرود في الفراغ....دون بكاء ودون صراخ ودون اعتراض.....أضحت كدمية يسيّرونها ...لتأكل...لتستحم...لتنام!...اس? ?وع لم تفكر بزيارته رغم وجودها معه!!....
كان هذا هو اليوم المتفق عليه من أجل تسريحها للبيت......فصحتها الجسدية جيدة بفعل المغذيات ومكان العملية وضعه ممتاز.....لا حاجة للبقاء......فقط عليها العودة للمشفى بشكل يومي لزيارة ابنها ومحاولة ارضاعه !!..ارضاعه؟!...وهل حالتها تسمح؟!....هل وضعها طبيعي؟!......اسبوعا كاملا والممرضات ومربيتها وصديقتها تستنزفن طاقتهن لإقناعها بأن تضعه على صدرها علّه يتذوق حليبها ....لكن محال...ما من مجيب!!....هي في عالم آخر بعيداً عنهم....ما زالوا لم يفقدوا الأمل منها فوصوا من ترافقاها بأن لا تستسلما بمحاولات اقناعها لإرضاعه ...فقد كان لديها فائض من الحليب لدرجة كان يلطخ ملابسها ويجعلها رطبة ....خسارة!....كان يضيع سدى دون استغلاله ...سيجف حليبها دون أن تغدق على ابنها به...فلا يوجد أفضل من حليب الأم الطبيعي!!....لكن!...ما ذنبها إن كان المشفى حكومي يرتاده البسطاء ويفتقر لنواحي كثيرة منها أطباء بدرجات عالية أو اخصائيين واستشاريين نفسيين لمثل هذه الحالات وغيرها؟!...اخصائيين يشخصوا حالتها ويفعلوا اللازم من أجلها!......لم يعيروا حالتها اهتماماً وظنوا أن هذا مؤقتا وسيختفي تدريجيا في غضون أيام قليلة....أو ربما تجاهلوا ولتنزع هي وذويها أشواكها بيدها!!...قمة الاهمال والتسيّب!!....مشفى مثل هذا لن يكلف نفسه كثيراً لتوظيف هذه الفئات لنشر التوعية والارشاد فهو بالكاد يعمل على المهم...إنقاذ حيوات!.....لا يدركون أن هنالك أناس يُقتلون بالحياة إن لم يجدوا أحداً يمسك يدهم!........ على الأهالي الانتباه والسعيّ لتدارك حالات بناتهم قبل تفاقم الوضع وقبل الوصول لمراحل صعبة للاكتئاب مما لا يمكن التعامل معها ومن الممكن أن تصل الى حد الأذية....سواء الأم لنفسها أو لابنها!....فكم من حادث حصل....سببه اكتئاب ما بعد الولادة!........ساعدت (رهف) تلك البائسة ذات الحظ العاثر بارتداء ملابسها وحجابها ثم توجهتا برفقة السيدة (سهيلة) الى غرفة الطبيب الذي أشرف على حالتها بعد أن طلب منهم ذلك من أجل اجراءات الخروج...!!.....جلست (رهف) على كرسي أمام مكتبه بعد أن أجلست (ألمى) على الآخر المقابل لها والمربية بقيت على كرسيها المتحرك تتوسطهما فافتتح الحديث مبتسماً بطيبة وتواضع ناظراً إليها ثم سألها:
" كيف أنتِ الآن سيدة ألمى؟!"

تطلعت عليه تنظر إليه نظرات خاوية دون إجابة ...كرر سؤاله بأسلوب آخر حتى تجاوبت معه تهز رأسها رامشة بعينيها إيجاباً وكأنها تريد أن تتخلص منه!....تبسّم لهذا التجاوب الفقير....وحرّك أنامله بمهارة على لوحة مفاتيح حاسوبه يكتب عن حالتها وما يترتب عليها عمله كزيارة طبيبة نساء بعد شهر للاطمئنان على رحمها وما عليها أخذه من فيتامينات وأدوية ثم قام بطباعة ورقة ليسلمها لها وبهذه اللحظة دخلت الممرضة المسؤولة عن طفلها تريد توقيع من الأم يوثق معرفتها وموافقتها أنهم سينقلون ابنها الى قسم الخدّج الكبير بعد تحسن حالته وتقدّمه!...وقبل اخذ التوقيع بدأت تملأ استمارة اخرى بتفاصيل عامة لبعثها للداخلية من أجل اضافته لهويتها! ....تنقل عن ورقة غيرها رقم هويتها وتاريخ ميلادها وعنوانها وجاء الدور المهم والأكثر حماساً عند كل أم وهو تسمية مولودها!....رفعت رأسها باسمة تسألها بهدوء:
" أجل سيدة ألمى....أي اسم يا ترى اخترتِ لابنك؟!.."
هل قالت ابنها؟....إنها لا تعترف به!....سألت مرة وتبعتها بمرة ومرة ولم يصلها أي رد....تنهدت الممرضة بتعب واحباط واستقامت واقفة رغم محاولة الموجودين معها لجعلها تنطق بالاسم ولكن كل هذا لم يجلب أي نتيجة فانتقلت تمد لها الورقة الأخرى تطلب توقيعها على الأقل....سلّطت حدقتيها عليها تنظر بلا مغزى ثم بكل برود وهدوء قامت عن كرسيها واستدارت خارجة غير مهتمة لأصواتهم ونداءاتهم واسئلتهم فاستقامت واقفة (رهف) واحتارت وهي تنقل نظراتها بين طيف الخارجة والطبيب وعمتها والممرضة ثم لحقت بها يائسة لتتمتم الجالسة على كرسيها المتحرك بالحوقلة والاستغفار حزينة عليها فقاطعت تسبيحاتها التي هتفت لها:
" سيدة سهيلة....بما أنك الأقرب لها...يمكنك التوقيع عنها وتسمية الولد.....لا بد أنها قالت أمامكم مرة أي اسم ترغب تسميته!....اريد الاسم الكامل ضروري لأني سأرسل الاستمارة للداخلية من أجل تسجيله في الدولة."

مطت جذعها قليلاً نحو مكتب الطبيب تخط توقيعها بعد أن هزت رأسها موافقة على التوقيع وعند الاسم شردت قليلاً تبحث عن طرف خيط يرشدها الى أي الاسماء تحب فلم تتذكر أنها خاضت معها حديث عفوي يخص هذا وكذلك لم تنس رفضها لانتقاء اسماء إن كان ولدا أو بنتاً وأنها تركت هذا لهذه اللحظة التي حُرمت من لذتها !!....بحثت وبحثت في أروقة عقلها وتلك الواقفة تنتظرها بصبر.....لاح أخيرا في بالها اسم برأيها هو الأنسب....تبسمت ابتسامة واهية ...زفرت أنفاسها ثم نطقته وأكملت في سرها بريب " سامحيني صغيرتي....هذا ما يجب أن يكون....وعليك القبول به لا مفر "

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~


وبمشفى الشمال كما الوقت في بلاد اللجوء ازدهرت الآمال وربما القلب عن الفرح سيبوء!!.....إنه صباح اليوم السابع على التوالي يصعدان فيه الى الطابق الثالث ويتوجهان تحديداً الى الغرفة المنفردة التي نقلوني إليها بعد أيام من تواجدي بقسم العناية المكثفة وهما يستعدان للحظة على مدار الاسبوع انتظراها وهي لحظة ايقاظي من المنوّم الذي استمروا بإعطائي إياه كي لا اشعر بآلامي وجروحي العميقة الشديدة .......رغم ذبولهما الصريح ونفسيتهما الشبه محطمة من الأرق والقلق وسهاد ليلهما إلا أنهما متحمسان كثيراً لسماع صوتي ورؤيتي مستفيقاً فاتح العينين.......الفرحة لا تسعهما وتفيض منهما كالشلال المتدفق فهما لم يلبثا أن ينسيا ما عاشا قبل أيام ساعة وقوع تلك الجملة البغيضة على مسمعيهما......فبعد انهيارهما التام وتسليمهما لأمر الله بدقائق قليلة خرج إليهما نفس الممرض ليلقي إليهما البشرى بأن بعد رحمة الله وكرمه وقدرته نجح كادر الأطباء بإعادة نبضات القلب إلى مسارها الصحيح مستخدمين كافة الأجهزة المتطورة لديهم بما فيها جهاز الضربات الكهربائية.....وقتها انقلب حالهما وتبدلت سحنتهما فأضحت عبرات الحزن دموع فرح وتكشيرة الوجه ابتسامات صادقة وهما يحتضنان بعضهما بقوة غير مصدقين أن هناك شيئا أشبه بالمعجزة قد حصل وهما أكثر من يوقنان أن لا يرد القدر إلا الدعاء والله استجاب لندائهما الصادق وأن طالما رضا الوالدين يرافقنا فسينجينا الخالق من سابع سمائه...!!.......يومها صليا معا ركعتي شكر لله على عطاياه بقلب خالص وأمضيا ليلتهما حتى الشروق بالمشفى دون أن يغلق لهما جفن وبعدها أصرّ الصديق الطيّب وشيخنا الوسيم على (سامي) ليعود أدراجه إلى المدينة الجبلية بعد اطمئنانهما على استقرار حالتي كي لا يثير الشكوك والشبهات وخاصة أمام أهلي فما حصل معي ما زال طيّ الكتمان وهم يعلمون أنني بالجنوب أحارب وقد أمضى الأخير أيامه بين العمل وزيارتي أما اوقاته القليلة التي تواجد بها أمام زوجته كان يتحاشى النظر إليها ليخفي معاناته من الكارثة التي ألمّت بي!!.......خفف الأطباء من جرعة المنوم تدريجياً وجاء وقت استفاقتي!......بدأتُ بالتململ أشعر بجفاف حلقي وشفتيّ ثم قمتُ بالشد على عينيّ......أحسستُ أنني بدنيا غير دنيانا....رأسي ثقيل ثقيـــل ....جفوني ملتصقة....بالكاد حتى فلحتُ بفتح عينٍ واحدة ثم تبعتها بالأخرى وما إن فتحتهما بشكل أكبر حتى قفز كل منهما على جانبيّ متحمسان وباسمان وهامسان بصوت كأنه خرج من فم واحد:
" هادي.....حمداً لله على سلامتك"

" مـ...ماء....أريدُ ماء..."

نطقت حروفي ومررتُ لساني على شفتيّ ليتحركا بنفس الخطوات يبحثان عن قارورة قريبة هنا او هناك فتبسّمت الممرضة التي كانت ترافقهما مع الطبيب وهو رئيس المشفى وصاحب السيد (سليم) وهمست لهما:
" انتظرا......سنسقيه عن طريق إبرة أفضل الى حين أن يصحصح أكثر..."

ثم بعملية وهدوء قامت بالأمر تسقيني قطرة قطرة دون ارتواء....!...

تفحص الطبيب جروح العمليات بمساعدة الممرضة وتبسّم مطمئناً لأنها غير ملتهبة ووضعها سليم ثم نظر لصديقيّ هاتفاً بعد أن رأى حماسهما لمساعدتي:
" يمكنكما عند استيقاظه جيداً مساعدته بارتداء منامة المشفى....البنطال والقميص......وإن عاد لوعيه بالكامل اخبرا الممرضة لتوجهكما كي تدعماه ليتمشّى قليلاً إن استطاع وأراد ذلك!....طبعا مع مساعد المشي الخاص."

×
×
×

بعد أن تفحص الطبيب قيمي وحالتي تركنا ومعه الممرضة ليبقى بجانبي رفيقيّ درب طفولتي وشبابي ...كان احدهما يجلس على الأريكة التي تحتل زاوية جانب النافذة والآخر على كرسي يجاوره.....يتبادلان أطراف الحديث تارة ثم يراقبانني بعيونهما ....مرّ وقت طويل كنتُ فيه اخرج تمتمات غير واضحة غالبيتها ثم أعود لأغط بنوم عميق......ساعات طويلة أمضياها ما بين تواجدهما جانبي او خارج الغرفة يتمشيان......يتناولان وجبات تسد رمقهما ويشربان قهوتهما ليستمدا القليل من الطاقة .....حلّ المساء فوصلتُ الى مرحلة كاملة من الوعيّ.....كنتُ أتأوه بها عند محاولاتي التحرك...تناولتُ وجبة عشاء خفيفة وبدلت رداء المشفى المفتوح بمنامة ثانية من قطعتين وهذا بالطبع بمساعدة الغاليين على قلبي!.....شرحا لي مع الطبيب حادثتي وكل ما مررت به !....سمح لي الطبيب بالتحرك دون بذل جهد .....جلبوا لي أداة المساعدة على المشي كخطوة أولى....كنتُ أرتدي لباس المشفى الخاص وفي يدي تغرز ابرة مربوطة بالكيس المغذي ....أعانني صديقيّ لأنهض جالساً على فراشي ....باغتني الدوار لوهلة وكأني أحمل جبالاً على كتفيّ نزولاً لعضديّ.....انتظرتُ قليلاً ثم زفرتُ نافثاً أنفاسي لأقف....لقد شعرتُ بالملل حال افاقتي الكاملة ....كرهتُ تيبس أطرافي..واختنقتُ من الغرفة أريد استنشاق هواءً طبيعيّاً.....المرة الأولى كانت صعبة والثانية لم تكن أقل منها صعوبة وعند الثالثة شددتُ عزيمتي ...عليّ النهوض ...لن أحاول بل سأفعلها حتماً.....ما زال صديقاي يقفان جانبي ولم اسمح لهما بمساعدتي بهذه المرحلة رغم اصرارهما لكني العنيد الأكثر اصراراً.....توقفتُ أخيراً ثابتاً مكاني....بفضل الله....تبادلت النظرات والابتسامات معهما فربّت (سامي) على كتفي هاتفاً بحماس:
" أجل....هكذا أيها الفهد الأسود...يمكنك فعلها...لم تخيّب ظني بك!"

ضحك (أحمد) ضحكة رجولية معتزاً بي ليضيف على كلام الأول:
" هذا صديقنا العنيد....لن يثنيه شيء ولن ينال منه أحد حمدا لله"

مع تشجيعهما شعرت بدمائي تجري بحماس بمنابعي وداريتُ أوجاعي....الوجع سيزول....المهم أنني حيٌّ برعاية الله...نجحتُ بالوقوف والآن عليّ أن ابدأ كطفل أتعلم خطواتي الأولى.....انحنيتُ اتكئ على قابض مساعد المشي وحركته قليلاً لأحرك قدميّ ....تقدمت بيميني السليمة وأردت أن اتبعها بيساري السقيمة وهنا بالذات ...كانت الفاجعة.... ومركز التحول الأصعب بحياتي.....لم أشعر بها ولم استطع نقلها .....في البداية لم الفت انتباههما وفي النهاية ظهر الأمر كإشراقة الشمس على وجهي وجوارحي....انتبها لعروق يديّ البارزة الممسكة بالمساعد ولأوردتي النافرة على عنقي وأنا اجاهد بنفاذ صبر على جعلها تتزحزح غصباً عنها ويجهدني العرق......تبادلا نظرات بينهما بدت مصدومة لكنهما يفقهان ماهيتها دون أي همسة وارتأيا السكوت دون تدخل.....بقوة تملكّتني بفضل النيران التي اشتعلت داخلي عدتُ للوقوف دون دعم المساعد وأمسكتُ بيديّ أعلى ساقي اليسرى لأحملها كي أدفعها خطوة للأمام....نجحتُ بنقلها وأردت الصمود لأنقل الأخرى معطياً الأمر لعقلي...لكن عند تمركز ثقلي على الجريحة الرخوة اختل توازني وتقلقل ثباتي وكبناء شاهق انفجرت أساساته انهرتُ سامحا لنفسي ان أتحول على الأرض كالركام بضعف واستسلام إلا أنني لم أصلها بسبب اللذين بمحبة ودعم لا محدود وبحركة شهمة أخوية متوازية من كليهما أمسكا بذراعيّ يسنداني بما اوتيا من قوة وارجعاني لأجلس على السرير ليهمس توأم روحي وهو يضع يده على كتفي:
" ارتح هادي....ربما استعجلنا على هذه الخطوة..."

وتبعه (أحمد) يضع كفه على مؤخرة عنقي يمسدها بدفء وعطف قائلا بصوته الهادئ:
" ستفعلها يا صديقي......الله ثم نحن معك "

لم اعطهما أي ردة فعل ...ربما يشعران بي وما أعيش داخلي أنا واثق من هذا فنحن الأصدقاء منذ الطفولة نقرأ افكار بعضنا.!!...حرارتي وصلتهما...حرارة منبعها بركان يحرق دواخلي!.....كم تمنيتُ الهروب منهما ومن نفسي هذه اللحظة.....كم وصلتُ لدرجة صعبة من القنوط....شعور لم أعشه آنفاً وانا الانسان الصابر المؤمن بقضاء الله وقدره....لكن العجز أطاح بي...بدد أفكاري وشتتني من ذاتي......نفسي محطمة والقلب مكسور واي انكسار؟....انكسار عميق جعل الروح تنوح.....القلق من وضعي يجري في منابعي كجري النار بالهشيم!...."ما بي؟..."...اتساءل بسري..." أهناك شيئا لم يخبراني به؟"....أكملت تساؤلاتي لنفسي بنفسي!........كيف الهروب وأين أذهب!.....ناشدت وحدتي....أريدُ عزلتي ...فألقيتُ كلماتي إليهما وكانت كجمرٍ لاذعٍ عليهما:
" اخرجا.....لا أريد أي أحد!"

ربما لسعتهما كلماتي....لكني مجبر....اشعر أني أحتضر وانتظر ملك الموت ليرفع روحي للسماء!....الى الحنّان المنّان ....لأطوف في أعالي الجنان.....فأنا سئمت...سئمت هذه الدنيا.....كل المشاعر السلبية تكابلت عليّ هذه اللحظة الأليمة....وكأن حياتي توقفت هنا....اليوم أعلن تاريخ وفاتي عن عمر يناهز السابعة والعشرون عاماً....أجل أنا متّ ....شيعوني واجعلوا تراب بلادي يحتضن جثماني!......لمّا لم أرَ أنهما تحركا ثرتُ أكثر فخرجت نبرتي من بين أسناني بشكل أقسى وجافة:
" قلت ...اخرجا..."

رمش شيخنا الوسيم مع ايماءة برأسه للأشقر الذي لم يهتم لكلامي يطلب منه الخروج معه متفهماً حالتي وأني ارغب بالبقاء وحدي فانصاع ذاك دون رضا يسحب قدميه بتمهّل ولما خرجا وأغلقا الباب خلفهما نزعتُ بغلّ الابرة من يدي والقيتها لحيث تستقر ثم اتكأتُ بمرفقي على فخذيّ منحنياً للأمام وحاوطتُ رأسي من الخلف شابكاً كفيّ ببعضهما سامحاً لعبراتي أن تتحرر من محجريهما لتتساقط على بنطالي ...بكيتُ وبكيتُ وآاه كم بكيتُ....بكيت لضعفي وقلة حيلتي....شريط أحلامي وأهدافي مرّ من أمامي وكلها تحتاج قوة وجسد سليم وأنا الآن غرقتُ بهوّة وساقي غدا سقيم ....كم من الجراح تحملت وكان أكثرها هذا أليم.....اختفى شريط الأحلام من أمامي دون رجعة وصارت أهدافي أوهام....هذا ما رأيت ....كل شيء تحطم وكل طموحاتي تلاشت.....شردتُ بالنافذة أمامي لا أصدق أن بعد الليل سيضيء النهار.....ظللتُ شارداً دون هدف يرصد......لأدخل بحالة اكتئاب ما بعد الصدمة..!!....أما بالخارج يقف البطلان حزينان على وضعي ولكنهما يشجّعان أنفسهما أنهما لن يستسلما.....منذ متى كان الاستسلام موجوداً في عهد صداقتنا ؟؟....تحرّك (سامي) يسير ذهاباً وإياباً يفكر ويفكر بينما (أحمد) يستند على الحائط يقف على رجل والأخرى يرفعها للخلف يكتف ذراعيه يسرح بالرواق الواسع ليشارك صديقه بالتفكير والذي توقف عن حركته سائلا:
" ماذا سنفعل معه؟!....عليه أن يعلم."

ردّ عليه بهدوء وركازة:
" علينا الصبر والانتظار أياما أخرى!.."

اقترب منه عابساً وجزعاً ليقول:
" نصبر وننتظر ماذا؟!.....لن يغير شيء هذا!..."

بذات الهدوء المريح أجاب:
" مع الصبر والتروّي تأتي الحلول من عند الله..."

بغيظ من الوضع هتف بوجع:
" سمعت بالحرف الواحد ما قاله الطبيب لنا ولا أدري لما طلبتَ اخفاءه عنه؟!....."

ثم تحرّك مكانه يمسك صدغيه مرهقاً من التفكير وحائرا ليضيف:
" أنا في دوّامة ....لا اهتدي لحل....كيف سأخبر أهله؟...بل كيف سنخبره !..."

حرر ذراعيه وانزل قدمه المرفوعة على الحائط ثم قطب جبينه منزعجاً ورد مصمماً:
" أهله لا تخبرهم.....فليظنوا أنه ما زال في ارض الحرب وتحجج بأي شيء عن قلة تواصله معهم الى حين تحسّن نفسيته ليتكلم معهم!......أما هو قلت لن نخبره عن وضعه...!"

" وضّح لي لماذا أنت مصر؟.....أليس من الأفضل أن يعلم بأن ساقه أصبحت في شبه إعاقة دائمة وعليه التعايش وتقبل نصيبه؟!.."

قال معترضاً على طلبه فدنا منه ذاك الذي يكون هادئ بقرارته وغاضب عند غيرته ليجيبه واثقاً:
" إن علم عن وضعه سيستلم للأبد ولن يقاوم...عقله الباطني سيقتنع ويقنعه أن يتقبل عجزه....ستهبط عزيمته وتهرب إرادته ....ألم يقل لنا الطبيب أن بمثل حالته تكون نسبة ضئيلة جدا ليتماثل للشفاء ولكنه يحتاج للإرادة والاهتمام وكذلك معجزة من الله....تلك النسبة لو كانت جزَيء بسيط ...سنعتمد عليها وننميها له....سنصنع الإرادة ونطلب العون من الله.....سندفعه ونقنعه أنه يستطيع.....سنتكاتف ونتعاون لنثبّت أمامه حلمه الذي تمنى الوصول إليه ....بالإيمان بالله والتوكل عليه والقرآن......وبالتشجيع والإصرار....لن نقبل الهزيمة ولن نيأس.....سنعتبرها معركتنا وعلينا الانتصار على الألم...على العجز......نحن قاتلنا أقوى الرجال بفضل من الله أنضعف أمام عجز بسيط قادر أن يشفيه؟!......"

تنهّد يستعيد أنفاسه وتابع بصوت أقوى إنما ما زال يحافظ على هدوئه:
" هذه مهمتنا السامية يا سامي .....مهمة من أغلى المهمات!.."

ومدّ له يده يبسطها أمامه مردفاً بتحدي:
" أتريد أن تكون معي لنقضي على عجزه ونعيد إلينا هادي البطل بإذن الله؟"

تطلع على تقاسيم وجهه الوسيمة الرجولية ثم أخفض عينيه ليده ولم يتوانَ ولم يعطِ نفسه مهلة للتفكير وهو يلثم كفه بكفه ثم يشدّه إليه يحتضنه ويضرب بخفة على ظهره بيده الأخرى يؤكد له كلماته:
" لا تسأل يا صديقي....معك حتى النهاية...أشر لما تريد وأنا جاهز إن شاء الله"

شدّ من احتضانه وربّت مثله على ظهره وهو يبتسم بفخر واعتزاز هاتفاً:
" ها نحن جددنا العهد وسيعود إلينا بإذن الله صديقنا الفهد ....سيعود كالسابق وأقوى وسيحصل على مراده...ودائما الله معنا..."

تبسّم براحة متنهداً وكأن حملاً أزيح عنه وهو ينفصل عن حضنه هامساً:
" نعمَ المولى ونعمَ النصير.."


~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~


هناك في أرضنا الطاهرة الفسيحة ما زالت الاشتباكات على حالها ....قاد معركتي السيد(سليم).....كان ينقسم جنودنا ويتناوبون كل يوم....قسم يرتاح وآخر يقاتل في الليل والصباح وبما فيهم القائد.....أكثر من أسبوع مضى على حادثتي حتى أتتنا بشرى كدنا نفقد الأمل منها في السابق بعد انتظارنا لها ....بشرى جاهدنا لنحصل عليها ...فقد كان بعض من إداريي حزبنا وقادتنا والمتحدث الرسمي الأول بشأن الثوار مع المتحدث الثاني أي اختصاصي العلاقات العامة وهو شيخنا الوسيم يبذلون جهودهم ومساعيهم وهم يلتقون بشكل سري بكبار ومسؤولي جنود الدولة من أجل اقناعهم بالتحالف للقضاء على زمرة نتنة باقية من النظام السابق تحاول توسيع دائرتها وتكثيف جنودها واتباعها الخونة لإعادة قوتها والسيطرة على الحكومة والرئاسة ثم الوطن بأكمله من أجل مطامعهم التي لا تنتهي وجشعهم الذي لا يزول وها هو أتى اليوم الذي وافق به جنود الدولة للانضمام الى معركتنا يصفّون جنبنا كتفا على كتف ويدا بيد وبهذا ازدادت قوتنا وتضاعفت عزيمتنا فاشتد القتال والنزال.......خطط تغيرت وتبدلت باتفاق .....رسموا تكتيكاً لحصارهم ...جنود صفوف أولى وثانية وعتاد رهيب متطور للاستخدام العسكري.......قاموا بإنشاء حصوناً ولجأوا لخنادق كنا قد حفرناها سابقا استعدادا لمثل هذه الأيام....بدأوا يقاتلون من فوق الأرض وتحتها.....حرب ضروس واستنزافات هائلة وخسائر بالأرواح وبالمادة.....المدفعيات تنتشر بكل مكان ومدرّعات ثابتة .....أسلحة مختلفة تتصدى لنيران العدو ....منا المهاجم ومنا المدافع .....تكتيكات متقنة ومدروسة على أيدي أكبر الخبراء من القادة ....تحدّي منا وعناد....إصرار وتصدّي هدفه تحرير البلاد وتطهيرها من الأوغاد.....الأيام تمرّ والساعات الطويلة عسلها بالحرب مُر......فأي حياة هي حياة الحروب.....أي نفسية يعيش الجنود البواسل....أي طاقات يستنزفون....بأي ثمن يضحون من أجل مستقبل باهر فيه الأمان والاستقرار لأولادهم......أي كلمة شكر تكفيهم....أي حق سنوفيهم؟......جنود وثوار يحملون أمل لغدٍ مشرق مكلل بالنجاح والعيش بسلام........وها نحن كنا وما زلنا وسنستمر حتى نذوق لذة الانتصار على كل خائن، عميل، مجرم وجبّار......!!


~~~~~~~~~~~~~~~~~~


مرّت من أمامهما كأنها طيف أو شبح تسير بلا روح خارجة من الحمام متجهة إلى غرفتها المشتركة مع (رهف) ...جسدها غدا أكثر نحولاً وبياض بشرتها صار شاحباً وسماءيها حزينتان تحيطهما ظلمة من الذبول أما شعرها تربطه لها صديقتها بعفوية للخلف كأنه غير مسرح ومهملٌ دون عناية!!.....نظرتا إليها بأسى على حالها ولمّا اختفت عن أنظارهما تطلعت الجارة ليمناها حيث تجلس السيدة (سهيلة) والتي لم يخفَ على أحد انطفائها من شدة تأثرها مما حلّ بصغيرتها وسيدتها ثم سألتها فضولاً ترتجي من خلفه الاطمئنان على ضيفة حيهما :
" ألم تتحسن بعد؟! هل ما زالت مصدومة ؟!"

هزّت رأسها بحركات بطيئة من ثقل همها بعد أن زفرت أنفاسها الجريحة ثم استدارت ليسراها لترد بهدوء ونبرة يائسة:
" منذ اسبوعين أي منذ خروجها من المشفى وهذا حالها يا أم وجيه !!.....عجزنا عن اخراجها من صدمتها ....تمضي يومها متقوقعة على سريرها ....بالكاد تدخل لقيمات قسراً لمعدتها ...تجبرها عليها رهف....."

حشرت الكلمات بحلقها فخرجت منها باختناق وهي تكمل:
" قلبي منفطر لما آلت إليه ولم أعد أقوى على رؤيتها بهذا الوضع.......ما بيدي حيلة....ما بيدي حيلة ....اسأل الله أن يتولاها......والحمد لله على كل حال......الحمد لله.."

وسكتت لتسمح لدمعاتها المحروقة بالإفصاح عن مدى وجعها وقهرها عليها...!!

تركت تلك الجارة الطيبة لها المجال لتفرغ كبتها وحزنها على أمانتها وهي تلتزم الصمت ...وكم تعاطفت معهن وشعرت بضيق من أجلهن وراحت تفكر كيف ستساعد وكيف بإمكانها مد يد العون لهن.....فهي لمّا سمعت ورأت ما حل بضيفة الحيّ الحسناء الفاتنة اختلجت صدرها غصة ....فتاة بعمر الزهور تَضيع وتُضيع معها طفلاً لا ذنب له .....طفل يحتاج حضن الأم والحنان ......رضيع يتواجد في احدى زوايا المشفى منذ اسبوعين وبقي أياما وليالي أخرى قليلة من أجل تسريحه لبيته ....ينتظرون اكتمال نموه وتحسن وضعه أكثر فأكثر.....ابنها الذي تطور بشكل ملحوظ بفضل من الله والذي لم تفكر بزيارته كل هذه المدة....ليست قسوة ....ليس نفور .....إنما لا مشاعر لديها لا إيجابية ولا سلبية.....انعدمت أحاسيسها ....تعاني من اضطراب ما بعد الصدمة......صدمتها بكائن تراه بحجم لا يتصوره عقلها ولم يتقبله......لجأت للصمت والصمت فقط ....لم تبح عن شيء منذ رؤيته ....عن ماذا أساسا ستبوح وهي معطوبة التفكير؟!.....لم يأتِ في بال إحداهما أي مربيتها مع ابنة شقيقها أن هذا ممكن أن يكون بداية اكتئاب ما بعد الولادة .....تراكمت الهموم والغموم عليهما من أجلها وصدمتهما بردة فعلها إزاء ابنها الذي عدّت الثواني وهي بانتظاره لاحتضانه لم يعطهما الفرصة للتفكير السليم والبحث الدقيق عن حالتها !.......كانت الجارة ما زالت تبحث في عقلها وفجأة تذكرت حالة مشابهة لحالتها حدثت بالسنوات الخمس الأخيرة مع كنة شقيقها فتبسّمت متحمسة تقطع شرود جارتها العزيزة السيدة (سهيلة):
" صحيح تذكرت........لا بد أنك تذكرين أنت كذلك ما حصل لكنة شقيقي عندما أنجبت ابنها الأخير .....كانت حالتها مطابقة تماما لحالة ألمى...."

رمقتها بنظرة لثواني معدودة تحاول بها استرجاع ذاكرتها التي تخونها أحيانا ثم غضنت جبينها عندما وصلت لمبتغاها لترخي بعدها ملامحها وتبتسم هامسة:
" أجل...أجل....تقصدين ممكن أنها تعاني من اكتئاب وعلينا اللحاق بها ومعالجتها قبل تدهور وضعها؟!...يا الله كيف لم يخطر على بالي هذا ....توقعت مجرد صدمة ومع الأيام ستزول "

وضعت يدها تربّت على فخذها وأسنانها البسيطة تظهر من ضحكتها البشوشة التي تنير وجهها الطيب وهي تجيب:
" بالضبط......أتذكرين يومها زوجها حفظه الله لأنه انسان واعي ومثقف ويحبها أدرك حالتها الغير طبيعية وسعى من أجلها فانقذها قبل فوات الأوان حمدا لله..."

اختفت الابتسامة عن وجه السيدة(سهيلة) ونكست رأسها لحجرها وهي تضع كفها فوق الآخر ثم همست بأسى:
" يا ليت....ليت زوجها هي الأخرى بجانبها!.....حرمت نفسها منه .......كان سيفعل مثله وأكثر مؤكد...لم يكن ليتركها تعاني .....خسرت رجل من زينة الرجال وعائلة لها مكانها بالمجتمع بسمعتها الطيبة ورقيها .......فليسامحه الله والدها الذي دمر حياتها وفرّق بينهما .....كنتُ سأضعف وانكث عهدي وقسمي معها وأتصل به إلا أنني بالدقيقة الأخيرة ألغيت فكرتي خوفاً من ردة فعلها....خفت أن أخسرها للأبد فهي مكسورة الجناح وربما لو فعلتها كانت ستضيع كلياً لأنها عند عنادها وعزة نفسها تثور وتتهور دون تفكير فتغرق بمصائبها أكثر هداها الله....."

هزّت رأسها جارتها تتفهمها وهي تحوقل وتدعو بإصلاح الحال ثم علت نبرتها لتشجعها قائلة:
" الله يفرج الحال ....صبرٌ جميل والله المستعان......ها ماذا قلتِ؟!....."

لاذت بالصمت للحظات ثم وجّهت وجهها للأخرى وهي توجّه سؤالها:
" لكن....المستشارة النفسية أو الأخصائية العاطفية ألن تحتاج لمال كثير؟!....."

هزّت رأسها إيجاباً وهي تجيب:
" بالطبع لا يوجد اليوم شيء دون ثمن او مقابل.....لكن مؤكد حسب حالتها والمدة التي ستستغرقها بالعلاج !.....هي ما زالت في البداية فالحقوا بها هذا أفضل من أجلها ومن أجل التكلفة الأقل ...يعني آمل ذلك وأتمنى ألا أكون مخطئة بتقديري!........فأصحاب الخبرة هم من يعرفون تشخيص حالتها ويقررون كيف العلاج يكون! لكن بالنهاية تحتاج لمال ليس بقليل بالتأكيد...فهذه مراكز خاصة وليست حكومية..."

سرحت قليلاً مربيتها فاستطردت جارتها:
" ماذا ستفعلين؟.....كيف ستدبرين أمر المال؟!..."

تنهّدت وهي تنظر للفراغ ثم أعادت حدقتيها إليها وردّت مجبرة على هذا الحل:
" عندما سافرت لوالدها من أجل اللقاء الأول ...كان قد مضى أيام يسيرة على وفاة خالتها ....يومها زارتني صديقة خالتها السيدة إيمان تحمل بعض الأمانات من أجلها ونبهتني أن لا أسلمها لها إلا عندما يعود لها عقلها بعد معرفتها بالحقائق وكانت قد جلبت معها رزمة من الدولارات تعود لزوج ألمى هو من سلّمها إياها كي نصرف عليها ما تحتاجه تلك الفترة قبل أن يحوّل لها مبلغاً طائلاً لحسابها أعادته له في الحال لا تريده........ولأنها عادت ثائرة وحانقة عليه آنذاك لم استطع اخبارها بزيارة السيدة إيمان ولا بالمال الذي اجبرتني على أخذه بأمر مشدد من زوجها...فأنا أعرف صغيرتي مجنونة....ستمزق المال لا تدرك قيمته ولن يهمّها أساسا والمهم أن تدمر كل شيء منه!....خبأتُ هذا المال وقلت لنفسي حد الله ما بيني وبينه.....حرّمته علينا وخبأته ولم أخبر حتى رهف عنه.......فيومها قررت أنني لن أطعمها وأكسوها منه لأنها لو علمت سيجن جنونها وستكرهني!.....لكن الآن الصحة وسلامة عقلها أهم......الآن تفكيرها ليس سوي وعقلها غير سليم لأستشيرها واطلب رأيها ..أنا مجبرة على استخدام هذا المال وقسما لو كان معي مثله لما ترددت ولما فكرت لألمس هذا.......ينتظرها طفل كأنه يتيم الأبوين ملقى بين حيطان المشفى !!.....فليرضا الله على رهف وخطيبها الذين يقوما بزيارته يوميا للاطمئنان عليه والاهتمام به وتسميعه آيات من الذكر الحكيم!.......آن الأوان لأتصرف ولن يهمني لو علمت لاحقاً بأن مصروف العلاج من زوجها .....فلتفعل ما تريد لن أهتم والمهم هو أن تعود لوعيها لتحتضن طفلها البريء ...!!.....المستشارة النفسية ستساعدها بالكثير الكثير بعد تراكم مصائبها عليها مصيبة تلو مصيبة...."

تنهّدت بأريحية هذه المرة بعد أن اهتدت للطريق وتبسّمت بامتنان لجارتها التي فتحت ذهنها ثم طبطبت على يدها شاكرة وهي تضيف بهمس:
" بارك الله فيك يا أم وجيه.....لولاك لما كنتُ أعرف كيف سأتصرف وماذا سأفعل من أجلها.....أراحك الله مثلما أرحتني واسأله أن تفرحي بأولادك...."
دخل بيته متسللاً بساعات متأخرة من الليل.....لا يريد أن يوقظها....فهذا حاله منذ أسبوعين.....يهرب منها....يهرب بوضوح!.....لا يقدر على مواجهتها....يعيش أوجاعه بصمت أمامها لأنه لا يريد أن يشركها...كل مرة يبتكر حجة لكثرة غيابه......ماذا سيخبرها؟.....شقيقك عاد من الموت وأصبح بعاهة شبه مستديمة؟.....ربما...ربما لو أنها ليست حاملاً كان سيخبرها وستكون أكثر تفهما وتحملا......لكن حالتها لا تسمح بأن تستقبل صدمات وخاصة مع الهرمونات التي تجعلها بحالة غير طبيعية!......صعد الى غرفتهما ولم يشعل النور ....توجّه الى طاولة الزينة وخلع ساعته ووضع هاتفه ومفاتيح سيارته!. ثم أشعل الإضاءة الخفيفة الصفراء التي تحيط بالمرآة ....أصدر جهازه رنة قصيرة واضاءت شاشته....حمله يقرأ الرسالة الواردة ...تبسّم ابتسامة مائلة قبل أن يرد على ما ورده فهتفت من خلفه حانقة:
" أضحكنا معك!..."

أيعلم كم هي مشتاقة لحضنه؟....أيشعر كم هي تواقة لقربه؟....كم هي بهذه الأيام تكون بأمس حاجته..؟.....إنها بأيامها الأخيرة من شهرها التاسع.....كل تفكيره يصبه بهمّه الموجود بمشفى شمال البلاد......يحبها.....يعشقها ...لا خلاف!...يشتاق وآه آه من نار الاشتياق ......لكنه يمر بأوقات عصيبة تجهلها.....أهملها بشكل جليّ وهو الذي كان الأكثر حماساً لهذه الأيام ينتظر ولادتها!.........لا مزاج للمداعبة والمشاكسة...روحه المرحة يكاد يختفي أثرها من البيت....روحه التي تملأ الأرجاء بطاقة إيجابية......طاقة اعتادت عليها وفقدتها قبل أيام ...لكم اشتاقت لسماع ضحكته...إنها حتى افتقدت نعتها بالضفدعة......تراه على غير عادته وبدأت تعصف بها الأفكار وتذروها الوساوس.....ليس ذنبها....هرمونات منها وهروب منه ما عساها أن تظن؟!.......أجفل من همسها بعد نهوضها من السرير وزلوفها إليه فاستدار والهاتف بيده هاتفاً بخفوت:
" دنيا.....ما بك مستيقظة؟......إنها الساعة الثانية بعد منتصف الليل!..."

راقبت نبرته وراقبت يده وتحديداً اصبعه الذي أغلق الهاتف من الزر الجانبي ظنا أنها لم تنتبه فخفق قلبها ثائراً بسخط وغيرة وحاولت تجاهل اسمها الصحيح الذي كادت أن تنساه من شفتيه لأنه نادراً ما يلفظه فهو يناديها...دنيتي وغيرها من قائمة تحببية لا نهاية لها عنده وكذلك تجاهلت عدم طبع قبلته على وجنتها التي هي من طقوسه اليومية عند دخوله البيت ووقوع عينيه عليها وهمست بصوت مهتز :
" منذ متى تبقى بالعمل لهذه الساعات؟"

ضحك ضحكة هازئة مبتورة وأجاب معترضاً:
" نعم؟!......منذ متى تتدخلين بساعات عملي ؟!"

ارتج الشهد بعينيها وعلا صوتها مجيبة:
" سأتدخل.....هذا حقي!.....ألا تلاحظ حالتك بالأيام الأخيرة؟....فقط تهرب من البيت ......دوما عمل....اجتماع....لقاء اصدقاء ....معسكر.....وأين أنا من بين كل هذا؟!.....أجبني!..."

استدار للمرآة يوليها ظهره بعد أن وضع هاتفه وبدأ بفك أزرار قميصه دون النظر لانعكاسها وهو يقول ببرود حازم كي يحسم الأمر دون فتح مجال للنقاش:
" أنتِ في قلبي.....وهذه ظروفي الحالية وعليك تقبلها"

ثم رفع حاجبه بحدة ورمقها بنظرة أكثر حدة من المرآة وهو يتابع عمله وقال بنبرة خافتة تحذيرية:
" وألف مرة قلت لك.......صوتك لا يعلو.."

دنت من جانبه مشتعلة وأمسكت ذراعه ليستدير نحوها وهتفت بثبات :
" الآن ستشرح لي ظروفك هذه كي أتقبلها كما تريد......لست مجبرة لأتقبل شيء أجهله!.....ألا تفكر أن خلفك امرأة على وشك الولادة....أين حماسك؟...أين مسؤوليتك اتجاهي ؟"

التفت إليها بكامل جسده بهمّة نارية وأمسكها من ذراعيها منحنياً بوجهه الذي اكتسى احمرارا بعد إثارتها لحفيظته....يدرك...يدرك كل شيء لكن ما بيده حيلة....أيجلس جانبها ويلاطفها ويفيض بعشقه عليها وهنالك من ينتظر دعمه قبل السقوط الى الهاوية؟؟....تضغط على أعصابه وتزيد عليه وهو ضائع يؤنبه ضميره لأنه مقصر بحقها هذه الفترة.....تمنى في سره أن تصبر عليه وتتفهمه دون أن يبوح بالهموم التي اثقلته....لكنه يعي أنها لن تصل الى هذه النقطة من فهمه دون أن يشرح لها ولو القليل ويعلم أن لا يوجد أحد يسمع من أخرس وهذا حاله.....لكن ضغطها الآن ولو محقة به ولّد انفجاره فهزها دون قصد وصرخ بها:
" لستُ ملزماً لأشرح لك برنامج أعمالي....أنا أعلمك بما عليك معرفته لا أكثر لا أقل .....طلبتُ منك البقاء هذه الفترة عند أهلك ورفضتِ....لم أجبرك إنما أجبرتُ أخي ليكون دائما مستعدا من أجلك ووصيتُ والدتي عليك....وهاتفك يلازمك لأي حالة طارئة لتتصلي بهم كما قلت لك!....ماذا يمكنني أن أفعل أكثر وهمومي تغرقني من رأسي لقدمي؟...أجيبي!.......أما حماسي بابني إن لم أعبر عنه هذا لا يعني أنه تغير.....ومسؤوليتي اتجاهك لا تعلميني إياها وأنت أكثر من تعرفين بأنني لا أقصر بواجباتي اتجاه أي أحد يخصني.......فاستهدي بالله واختصري ...لننام بهدوء لأنني مرهق ومنهك ...."

تساقطت الدموع على خديها واحتقن انفها باحمرار طفيف لطيف ...احمرار غضب وألم واحمرار من رغبتها به....تريده بشدة....وتشتاق....وتشعر أنه يخفي شيئا عنها!!.....أفلتها فرأى آثار اصابعه الطويلة تدمغ على عضديها ...." تباً تباً.."....شتم نفسه بسره....لم يقصد أذيتها وإيلامها......رفع بصره لوجهها وكم كان لونه لذيذاً دافئاً وتلك العينين تلمعان ببريق ذهبي من اختلاط الدموع بالعسل مع انعكاس الضوء الأصفر بهما فعاد ليحيط ذراعيها الصغيران بقبضتيه الكبيرتين وجذبها إليه برغبة دون أن يسمح لبطنها البارز بأن يبني سدّا بينهما ولثم شفتيها بشفتيه بقبلة نارية كم كان عطشاً لها وهي الأكثر ظمأ منه ثم أفلتها يلقطا أنفاسهما ونظر إليها يتأملها...بتقاسيمها الناعمة ووجهها البريء الذي لا يشبه حدة طباعها ....ظلّ ثواني يتأملها ومدّ يده بحنية يسحب مشبك شعرها البني الناعم المموج بتعرجات خفيفة لينسدل على كتفيها والقاه جانبا على سطح الطاولة هامساً بعشق حد الذوبان:
" اشتقت يا عينيّ الشهد..."

ثم عاد ليضع يده على شعرها خلف رأسها وقرّبها منه برقته الرجولية ليخطفها الى عالمه بقبلات هادئة متروّية ولمّا حرّك يده ليزيل عباءة قميص نومها استيقظت من غفلتها وخنوعها بين يديه ثم رفعت كفيها لصدره تبعده عنها قاطبة حاجبيها بغضب كاذب محرجة من استسلامها وابعدت عنه تسب نفسها وضعفها وهي تتجه الى مكانها على السرير هامسة باقتضاب :
" تصبح على خير..."

وشدّت لحافها تدثر جسدها المشتاق توليه ظهرها تاركة إياه ينظر إليها بعتاب وانهزام ولم يكن يقوَى على مناورتها فالتعب وقلة نومه أخذا منه ما أخذا ....اتجه الى الخزانة يخرج بنطالا قصيراً ليرتديه وينام أما هي ادّعت النوم كاذبة تحرمه نفسها وتحرم حالها منه ولم تدرك أن هذه الليلة من الحرمان ستطول أياماً معدودات وما أكثرها...!!

×
×
×

بعد صلاة الفجر عادت الى سريرها واستلقت ثم نهضت لشعورها أنها تحتاج لدخول الحمام ....أشعلت الأباجورة جوارها وجلست على السرير ببطء من حملها تنزل قدميها أرضا ثم التفتت للخلف ورأته ما زال نائماً فتساءلت" يا ترى هل صلّى الفجر أم أنه لم يستطع النهوض؟"....تذكرت أنها دخلت الحمام للوضوء قبل قليل وكانت أرضه جافة أي لم يستخدم الماء...إذاً عليها ايقاظه للصلاة.....حسناً ستدخل قبله وتعود مجبرة على ايقاظة كي لا يفوته الفجر!!....ما إن استقامت بوقفتها متكئة بيدها على الظهر العالي للسرير حتى أخرجت أنّة تزامناً مع وضع يدها الأخرى أسفل بطنها...ولمّا حاولت السير كالفيضان نزل الماء من رحمها دون أي سيطرة منها مع شعورها بانقباضات باغتتها بقوة فصرخت بالحال:
" بطني....سااامي....ساامي.....ربم? ? سألد الحقني!...."

لا يدري كيف فاق من نومه وقفز ليصبح عندها مصدوماً ومرتبكاً لا يعلم كيف يتصرف وهي تتأوه وجعاً من شدة الانقباضات التابعة لطلق الولادة وكذلك ماء الرأس ما زال يتدفق منها فاستجمع قواه وبسرعة بديهة ألبسها عباءة بسحاب ولف حجابها على رأسها وهي تبكي موجوعة بينما هو يهتف يهدئ من روعها بشفقة عليها ومرة يبتسم متحمساً ومرة يعبس متألما لألمها ضائع بين الحالتين:
" سنذهب دنيتي ....تحملي حبيبتي ....دقيقة ارتدي ملابسي وسأوصلك الى المشفى بسرعة البرق بإذن الله"

تخبط في حركاته لا يستطيع الابتعاد عنها وتركها واقفة ويريد ارتداء ملابسه.....نظر الى المشجب القريب فرأى ملابسه الرياضية البيتية معلّقة....سحبها في الحال وارتداها غير مهتم لمظهره كلواء معروف في المنطقة فهو الآن زوج وأب فقط وسيقوم بدوره على أكمل وجه!......دس هاتفه ومحفظته بجيبه وعاد إليها يساعدها على السير ووجدها لا تقدر التحرك خطوة فبقوة من الله وبلياقته البدنية رغم ازدياد وزنها في الآونة الأخيرة بالإضافة للذي ببطنها حملها على ذراعيه خارجا من غرفتهما ونزل بها الدرجات بخطوات واسعة سريعة ثم سحب مفتاحه الآخر الخاص بسيارة الشرطة ليذهب بها كي يبعد المركبات من أمامه ولما كانا في طريقهما الى المشفى اتصل بحماته يعلمها لتجهز نفسها ثم بشقيقه ليجلب والدته ويصطحبا حماته معهما..........كان يقود بجنون حذر....تارة ينظر للشارع وتارة إليها يمد يده يمسّد لها يدها بدفء يحاول أن يسكنها ويطلب منها أن تستعن بالله بينما هي غارقة بأوجاع لا شبيه لها وهي أوجاع المخاض ...غرق يفتك بها ويبعثر له الدقات بقلبه من أجلها!....الأشقر مراعي لأبعد الحدود....لم يصمت وهو يكلّمها ليسليها ويلهيها عن آلامها......كم كان حنوناً معها ونسي أنها تعيش جنوناً الآن ما بعده جنون...!!

" ساااامي..."

اهتز قلبه من صراخها فسألها مرتبكا وهو ضائع بين الطريق وبينها:
" أجل حبيبتي..."

" اخرس يا سامي اخرس....فجرت مخي تبا لك....!!"

أجابته وهي تتلوّى ألماً فبهتت ملامحه مصدوماً لكنه تذكر أن عليه الصبر مهما فعلت لأن الله وحده يعلم ثم كل أم ما تعاني تلك اللحظة فعاد يركز بالطريق يبتلع كلماته بصمت....خيّم الهدوء عليه إلا من أنينها...يريد أن يتكلم لكنه لا يجرؤ أن يستفزها بصوته...مرت دقائق فصرخت:
" ساااامي.."

همس ب:
"ها؟"

" لماذا تصمت ولا تتكلم؟...اقرأ قرآن ....هيا اقرأ سأموت من الألم.....أريد أن أفهم من أين نزل عليك الهدوء الآن ولسانك لا يدخل حلقك"

أمرته بجنون متناسية أنها من طلبت فأجاب بطاعة كالطالب المجتهد وهو يستغفر بسره ويسأل الله أن يلهمه الصبر وفكر أنه ربما يحاسبها بعد أن تقوم بالسلامة على صراخها وقلة أدبها معه:
" حاضر....حاضر دنيتي سأقرأ... "

بدأ يرتل آيات بيّنات ما يخطر على باله بصوت هادئ فقاطعته صارخة تنظر إليه حانقة بينما بيديها تمسك قاع بطنها:
" ضع يدك على بطني وأنت تقرأ..."

تمتم محوقلا ومستغفرا وهو يمد يمناه لبطنها بلطافة فصرخت:
" ماذا قلت؟"

" لا شيء!.."

" بلى بلى....سمعتك تستغفر.....أنا أعلم لا تطيقني"

ولما فتح فمه ليبرئ نفسه أصمتته هاتفة:
" حسناً لن افتعل مشكلة الآن.....تابع قراءة قرآن"

لم يجرؤ هذه المرة على نطق أي حرف خارجي سوى آيات قرآنية وهو يهز رأسه ودماؤه تغلي في منابعه من جنونها الذي جننه !!...أمسكت يده التي على بطنها تحتضنها كأنها تلتمس منها أمان وقوة فتبسّم ثغره وفرح قلبه يبدو أنها استكانت قليلاً.....هذا ما ظنه!...
" آاااي.."

صرخ متأوهاً بشدة يسحب يده من يديها ينظر لجانب كفه وتحديدا لمكان عضتها حيث آثار غرز أسنانها والاحمرار !.....كادت تمزّق جلده من قوتها ...فصرخ منفجراً بها:
" ماذا فعلتِ يا مجنونة؟!...."

ردّت باكية ببراءة:
" لا تصرخ بي!..."

قال مغتاظاً وهو يمد يده أمامها:
" سأصرخ.....مزّقتِ جلدي....انظري!..."

تململت بشدة بعد أن عاد إليها الألم بصورة أكبر وأجابت وهي تشتمه صارخة بنحيب تلقي عليه قاموس لأول مرة يسمعه منها وهي لا تفقه ما تتفوه به:
" تستحق يا جبان ....هذا كله من أفعالك يا ***.....تريد ولد ...تريد ولد......لن أحمل مرة أخرى يا***...اذهب واجلب ولد بنفسك يا***.."

طفح به الكيل منها ونفذ صبره بعد أن فاجأته بقاموس شتائمها.....يبدو أنها خزّنته لهذا اليوم كي تنتقم منه!!...توعّد داخله لها...سيحقق معها ويؤدبها على الفاظها النابية!... لكنه الان يعلم كيف يسكتها فبكل برود أجاب مع ابتسامة ماكرة:
" حسناً لا تحملي يا ضفدعة.....سأتزوج غيرك لتجلب لي اولادا كثر"

استغلت أوجاعها فاستدارت له وبدأت تلكمه وتضربه بقبضتها الصغيرة فقهقه ضاحكاً وهو يدخل الى ساحة المشفى ويقول بعد أن تذكر كلام أمه والنساء أن هذه ما هي الا طلقة منسية وستعود لتحمل طوعاً لا كرهاً بفطرة الأمومة التي تحملها كل أنثى:
" حسناً حسناً...آسف. توقفي.....لن أتزوج ولن ننجب غيره"

لما وصل مدخل المشفى أوقف سيارته وترجّل واتجه ناحيتها يفتح بابها هاتفا:
" ها نحن وصلنا أخيرا الحمد لله....هيا دنيتي انزلي"

"سامي"

كانت قد استكانت قليلا لما خف الطلق فهمستها متوسلة تنظر ببراءتها وتشبثت بأطراف الكرسي تحتها وتابعت:
" اعدني الى البيت.....لا أريد الدخول...خدعتك....لن اولد!..."

طوال الطريق ظل متوتراً مشدود الأعصاب حتى وصلا ولما سمع جملتها الهادئة الكاذبة دون أن ينبس ببنت شفة انحنى وحملها رغماً عنها هاتفاً بابتسامة ثعلبية:
" حسناً حبي.......اخبري الطبيبة بذلك وأعدك إن أثبتت صحة كلامك سأعيدك الى البيت بالحال...."

وغمزها وهي على ذراعيه مضيفاً:
" ألا تعلمين أن دخول الحمام ليس مثل خروجه......وأنك بوضع لا تراجع عنه؟...."

ودخل بها البناية على عجلة يضعها على كرسي متحرك متجها بها الى قسم النساء والولادة ...يدفعها مسرعاً بحماس بينما هي يصدر منها شهقاتها التي ترافق بكائها كالطفلة الخائفة تتمنى الهروب حتى اصبحا أمام الباب الواسع للقسم لتبدأ مراسم استقبال ابنه الغالي وأسده....(سليمان)
"أُف..."

تأففتُ ناظراً لساعة يدي.....لقد بدأتُ أشعر بالضجر بعد مرور وقت أكثر مما تبجح!!........لا يمكنني الانتظار سدى ودون هدف وما جعلني حانقاً هو تواجدي بنفس المكان المسجون به النجس قبّحه الله ...فلم يفل من تفكيري كوني هنا بالقرب اشعر بطاقته السلبية النجسة.... والفكرة بحد ذاتها تثير اشمئزازي !!......سامحك الله يا صديقي.. سامحك الله يا (سامي)!!...ليتك أنهيت عملك قبل مرافقتي!.....مرّت دقائق كثيرة وأنا ما زلت في الخارج وعلى نفس الحال!! ....قررتُ التوجه للداخل لاستعجله لنمضي في طريقنا فنحن لا نعلم حركة السير كيف ستكون!!.......استفسرت عن مكانه ولما قصدته وجدته منشغلاً مع رئيس السجن يحتسي الشاي ويثرثر كعادته....." يا إلهي!..".....أخرجتُ تنهيدة حارة......أريد الذهاب للمعسكر !!...لا يمكنني أن أتأخر!!......نظرتُ لغرفة الانتظار الواسعة...كانت خالية من الناس إلا من عربة طفل مركونة أمام مقعداً فارغاً وباعتقادي أنها فارغة ايضاً!!.....هذا جيد فأنا لا أحب الضجيج والازدحام..!!....جلستُ على أقرب كرسي للباب وأخرجتُ هاتفي ألهي نفسي به!!....بعد قليل أجفلتُ ناظراً للأمام عند صدور بكاء طفلٍ من ذات العربة.....اشرأبيتُ بعنقي أتفحص إن كان أحدٌ بقربه.....لم أجد!!.....تطلعتُ يمنة ويسرة.....لا أثر !!....علا بصرخاته المنادية بكاءً ولم يُقبل عليه أحد!!....يبدو أنه كان نائما واستيقظ!.......لا أعلم كيف يتركون طفلاً لدقائق دون رقابة وإن كان نائما؟!....ما هذا الإهمال؟!....".يا ترى أين ذهبت والدته؟!"......تساءلتُ بضيق!!....صبرتُ دقيقتين او ثلاثة ولم يظهر لنا أيّ كائنٍ بشريّ؟!....حسناً ربما واجبي الآن القيام بدور المربية !.....فتلك المخلوقات الصغيرة نقطة ضعفي مهما كان دينهم وعرقهم...رحمةً وحباً......أحسستُ بعاطفة شديدة تدفعني إليه.!!....خطوتُ بهدوء واتزان نحوه وما زلتُ اتفحص بحدقتيّ قدوم فردٍ تابعٍ له من أحد أروقة هذه البناية!!.....وما إن أبصرته بعد وقوفي ثابتاً ازائه حتى راودتني كتلة من المشاعر الجميلة الجياشة.!!.....هدأ لثواني لما لمحني فانخطف قلبي وانشرح صدري!!....رباه على البراءة والجمال!...كان طفلاً في سن السابعة أو الثمانية أشهر .....هكذا بدا لي حسب تقديراتي !.....عاد لبكائه يتململ مكانه منزعجاً فدبّت في نفسي الشفقة عليه ووجدتني انحني امسح على شعره الاسود الناعم الخفيف بحنان!! ...لم يسكت فاضطررت لحمله محاولاً اسكاته وتهدأته.!!......أجل لقد صمت وبدأ يتفحصني بعينيه ويا لسحر عينيه !!...تبارك الله أحسن الخالقين!!....تابع بوصلة الصراخ بعد أن تأكد أنني لا اخصه ولا أمت له بصلة!!.......هذه فطرتهم!!......هززته برفق اداعبه واسكته بينما كنتُ ابتسم له هامساً بحنو ومشاكسة:
" ششش اهدأ ....ستأتي ماما حالاً.....لكن لا تغضب مني سأوبخها لأنها تركتك دون رقيب!....اتفقنا؟!.....ششش.... اهدأ .... اهدأ .....لا تبكي يا صغيري....."

نجحتُ بإسكاته أخيراً.....الحمد لله!!.....جلستُ على المقعد المجاور لعربته وهو ما زال في حضني اضعه بشكل جانبي على حجري!......رفع رأسه لوجهي من جديد يتأملني.....لاحظتُ أن ذقني المهذبة تشغل تفكيره....ربما والده غير ملتحي لذا استغربها!!.....مدّ يده يتحسس منها ثم أنزلها بالحال مع انكماش ملامح وجهه الابيض البريء وانتفاض جسده فابتسمتُ هاتفاً:
" هل نخزتك ذقني ايها الشقيّ؟!......غداً ستكبر وسيصبح لك مثلها ان شاء الله!...."

رفع يده الناعمة الصغيرة مرةً أخرى لذقني فكبّلتها بقبضتي بترفق وقبّلتها له بحب وكان منايَ التهامها!! .....اوقفته على فخذيّ ثم الصقته لصدري احتضنه باحتواء حد الاستحواذ...كانت حركة عفوية مني افعلها بشكل خاص مع (سليمان) ...لكن....سبحان الله... دخل قلبي هذا المخلوق بل خطفه دون أدنى مجهود منه وشارك ابن شقيقتي الحضن !!...استنشقتُ بشرته الحليبية من جانب عنقه بانتشاء مغمض العينين هامساً بأذنه:
" الله....كم أدمن رائحتكم المميزة !!....شذاكم له سحر فريد على روحي......"

صرتُ أداعبه وادغدغه لأسمع ضحكاته التي أطربت الفؤاد بعد وقت من الملل ودقائق قاحلة !....ما زال لم يأتي أحد!!.....أيعقل هذا؟!......كان يتلمس أزرار قميصي تارةً بأنامله الشهية...ثم يرنو بنظره مع مد يده يحاول الوصول الى شعار الرُتبة الموجود على كتفي تارةً أخرى ...ألوانه جذبت انتباهه!!....كان يناغي بكلمات لا معنى لها وأحيانا يصدر حروفاً وكأنه ينادي أبيه وأمه:
" با....ما...با..."

حملته ورفعته للأعلى أهزه وألاعبه وضحكاته اللذيذة تعلو وتتضاعف وشعوري بالسعادة يتضاعف معها وعند لحظة إنزالي له أخرج القليل مما بجوفه من الحليب على قميصي الخاص باللباس العسكري!!.....ذاك الشقيّ تقيأ عليّ ولطخني!.......عدتُ لأوقفه على فخذيّ مسلطاً عينيّ بعينيه وقلت معاتباً بعدما أخذتني الذاكرة وأشعلني الحنين لتلك البعيدة عندما كنا بالمعسكر لحظة استفراغها على ملابسي:
" قل لي أيها الرجل......هل التقيؤ على الآخرين هي عادة عند أصحاب العيون الزرقاء؟!"
" أخبرني ما العمل الآن وموعد هام بانتظاري ؟"
" هل تريد أن أذهب بهذا الحال .؟!"
" أترضى لي بذلك يا صديقي؟!"

كان يستمع إليّ ضاحكاً وسنيه الصغيرين الأماميين السفليين يلمعان وما إن أنهيتُ كلامي حتى أقبلت فتاة ثلاثينية تهرول نحوي تحمل زجاجة الحليب خاصته وهي تقول:
" اوه...أنت....لمَ ..تمسك...هذا...الصغير ؟!.....ماذا جرى؟!...ما به.... الصغير؟!...."

كانت امرأة متوسطة الطول ..حنطية اللون....ملامحها تبدو عربية لكن لهجتها متكسرة!!......أجبتها موبخاً:
" كيف تتركين الطفل دون رقابة؟....أين كنت؟....هل هو ابنك؟!....ما هذا الإهمال واللا مبالاة؟؟!....انتبهي له......"

امتقع وجهها تنظر للخلف بارتباك وأجابت:
" اوه ...نو...نو...كلا...يا...سيد...صغير ...ليس ..ابني...انا ..مربية هو......زجاجة....ذهبتُ...لغسلها. ...واستخدمتُ الحمام!.."

قطبتُ حاجبيّ لما مدت يديها تأخذه بعد أن وضعتْ الزجاجة بالحقيبة الخاصة به وقلت:
" إذاً قومي بعملك على أكمل وجه ولا تتأخري عنه مرةً اخرى!!.."

هزت رأسها ايجاباً مرتبكة ثم ألقت حدقتيها لقميصي المتسخ وانحنت تخرج مناديل رطبة من حقيبته بحرج وهي تحمله على خصرها ومدت يدها لتمسح لي البقعة وهي تتمتم:
" آسف..سيد....آسف سيد..."

نصبتُ كفي أمامها بجدية أمنعها هاتفاً بخشونة:
" لا تلمسيني!! .....اعطني المناديل أنا سأنظف نفسي!..."

ظلت واقفة أمامي بينما انشغلتُ أنا بإزالة آثار القيء عن قميصي ولما انتهيتُ سألتُها مستفسرا:
" أين أهله؟!.."

تطلعت للخلف ثم أرجعت وجهها لي وأشارت للطفل بإصبعها وهي تجيب:
" ماما هو...زارت....بابا هو في السجن..."

" أجل...حسنا.."

قلت باقتضاب واستقمتُ واقفاً بطولي الفارع ناظراً إليهما ثم ثبتّ عينيّ على الصغير....ضحكته البريئة دغدغت عمق كياني ..." ما هذه المحبة وهذا الانجذاب يا جميل؟!"....قلتها في سري وأملتُ جذعي أقبل خده قبلة طويلة بحب امتص رحيقه حتى احمرّ مكانها ثم بطرفيّ أناملي قرصته برقة وسألتها بفضول دون أن احيد بحدقتيّ الترابيتين عنه وقبل أن أوليها ظهري:
" ما اسم الطفل؟!.."

أجابت بسلاسة:
" موهي.."

رفعتُ حاجبي مستغربا مكرراً جوابها في دماغي ومتسائلا " موهي؟!...ما هذا الاسم الغريب والذي اجزم بلا معنى ؟!...."....حدّجتني بابتسامة تلقائية فطنتُ لها فخرجتُ من تساؤلاتي الفضولية مبدلاً ملامحي لابتسامة خفيفة كمجاملة مع رمشة عينين ثم وليتها ظهري أخطو خطواتي خارجاً من المكان!!....موهي؟!..كدتُ أتهور واسألها ما هذا الاسم السخيف؟!......طفل بكل هذا الجمال يحمل اسم (موهي)؟!......لا بد أن أمه اجنبية أو من تلك الفئات المدمنات للمسلسلات التلفزيونية الأجنبية والآسيوية ومعجبة بأحد الممثلين او الشخصيات الوهمية وسمّته على اسمه .....ماذا سيكون غير ذلك؟!....فالتافهات كثيرات .....يقتدين بأشباه الرجال ويجعلن لهم قيمة.......لم يعد يعجبهن أسماء دينية أو ابطال حقيقيون.!!......أو.....أيعقل أن هذا اسم الدلع خاصته ...ولربما أنه ليس من ديانتنا !؟.......أجل....ممكن ذلك......"أوف....ما بي أشغلتُ تفكيري ؟!.....ربما من الملل فهذا ليس من طبعي"......حدثت نفسي واستغفرت ربي محركا رأسي برفض من الفكرة التي أثارت حفيظتي ولوصولي لأفكار لا تعنيني وأكملت سيري حتى وصلتُ الباب وتوقفتُ لا ارادياً مكاني.... التفتّ برأسي للخلف لتشق ثغري ابتسامة ودودة صادقة ارتسمت لأجله وأنا ألقي نظراتي الأخيرة عليه أودعه بينما كنتُ في داخلي احرصه من عيني المعجبة ومن قلبي الذي أحبه ثم أدبرتُ غائباً عن أنظارهما مخلّفاً بصماتي الخاصة عليه...!!
×
×
×

سرنا بخطى متوازية خارجان من مبنى السجن الأمني المركزي متجهان الى سيارته رباعية الدفع البيضاء فقلتُ له ساخراً:
" مؤكد أن الساعتين اللتين أمضيتهما في الداخل كان منها ربع ساعة مهمة تخص العمل أما النصيب الأكبر كان لمزاحك وثرثرتك الغليظة !!.."

ضربني بيمناه أعلى ظهري ضاحكاً وأجاب متفاخرا بتصنع:
" كل دقيقة أنا موجود بها بأي مكان تكون مهمة للآخرين يا صديقي......حتى النفس الذي أتنفسه ذو أهمية كبيرة لهذا الكون.......فقط أنت وشقيقتك الضفدعة من لا تقدّران قيمتي!!.."

" اوه .....ليتك تذكرت البني آدم الذي كان منصوباً في انتظارك لتغدق عليّه بأنفاسك الذهبية ولم تحرمه وجودك الثمين !!....."

قلتها هازئاً ثم أكملت بجدية :
" تأخرت كثيراً سامي وأنت تعلم أن هنالك اجتماع والأهم الاختبار الخاص بالجدد بانتظاري!......لن أعيد هذه الغلطة مرة أخرى وارافقك!....توبة!..."

ضغط على زر مفتاحه عند وصولنا الى سيارته ثم استدار مستندا عليها بظهره ليجيب وهو يكتف ذراعيه ويرفع احداها متكئا بذقنه عليها :
" أشعرتني وكأنك أنت من ستخوض الاختبار وقلقاً لهذه الدرجة خوفا من عدم قبولك!...."

مط جسده نحوي يضرب جانب ذراعي بتكرار وتابع بتباهي مسلطاً أنظاره على تقاسيم وجهي:
" يا رجل.....أنت رئيس أركان الجيش....يعني الآمر الناهي......الجميع ينتظرك حسب ظروفك.....لن تقوم القيامة لو تأخرتَ قليلاً عن لقائهم ولن يهربوا الشبان الذين سيتم اختبارهم!!..."

واستطرد مازحاً:
"على العكس اتركهم يتنفسوا ويستعدوا للقاء الفهد الأسود الشرس والقائد الأكبر الذي لا يقبل أي زلة......مؤكد يحمدون الله الآن لأنك لم تظهر أمامهم بعد!...."

نظرت له رافعا حاجبي بعدم رضا مع انحناءة صغيرة بجذعي وقلت:
" احترام المواعيد واجب يا سيادة اللواء........يبدأ النجاح من هنا......علينا تقدير الوقت .....الوقت له قيمته وعلينا استثماره دون تضييعه باللهو والعبث الغير مفيد"

ردّ بانزعاج مصطنع وهو يشير لنفسه:
" أتقصد أنني كنتُ ألهو بالفعل في الداخل يا حضرة القائد .؟!"

" حاشاك.....استغفر الله.....أنت تلهو؟!....."

قلتها بسخرية فرد غير مبالياً:
" اسخر....اسخر كما تشاء...العمر واحد....هل سأمضيه جامدا مثلكم لا تعرفون للمزاح والمرح طريق؟!.."

أجبته في الحال بصوت جاد:
" لم أنهك عن المزاح.....لكن الله أقسم بالوقت ورسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم حثنا على المحافظة عليه واستغلاله جيداً......."


وأردفتُ ممتعضاً اؤنب نفسي:
" ثم إذا أنا كقائد أهملت هذه النقطة أمامهم كيف سيقتدون بي ويؤمنون بمبادئي وقراراتي وخاصة أن هذه دفعة جديدة منتسبة ؟!."

تنهّدت وعدّلتُ وقفتي مستقيما بينما كان هو يصغي إليّ وأضفت مغيراً نبرتي ومشيراً له لباب سيارته أحثه على الركوب:
" هيا يا غليظ .....كفانا ثرثرة.....علينا الاسراع .....سيفوتني الموعد !..."

ضيّق عينيه ناظراً لقميصي بتدقيق واقترب ببطء مني ومسكه بطرفيّ إصبعيه جانب البقعة سائلا:
" ما هذا الذي على قميصك؟!..."

احنيتُ رأسي لصدري أنظر لمكانها ثم لاحت على وجهي ابتسامة تلقائية وأجبت:
" لا تهتم...!.."

قال بفضول:
" ماذا فعلتَ بغيابي؟!.....اعترف!..."

ثم أمال جذعه مقترباً من البقعة يشمها لينتصب بعدها من فوره هاتفا باستغراب:
" يا الهي....ماذا تفعل رائحة سُليمان عليك وأنت لم تره اليوم؟!..."

أملت شفتيّ بابتسامة رزينة واستدرتُ قاصداً المقعد الأمامي جانب السائق وأنا أقول:
" اركب...اركب.....سأخبرك!....."

لما ركبنا فتحت الدرج الأمامي من فوري منحنيا بجسدي أبحث عن مناديل رطبة فيبدو أنني لم أقم بتنظيفه جيدا وقلت:
" ألا يوجد معك مناديل رطبة؟!"

شغّل المحرك وألقى نظرة سريعة نحوي ثم أشار للصندوق بيننا قائلا:
" ستجدها هنا......أخبرني ما هذا الذي على قميصك؟!"

دعس على الوقود بينما اشغلت نفسي بفرك البقعة جيدا وأنا أرد:
" طفل صغير تقيأ عليّ.. ....يخطف القلب ببراءته وجماله الملائكي....بسم الله ما شاء الله.....فليحفظه الله لأهله....!"

رمقني متعجبا وأعاد عينيه للأمام وهو يقول بجدية:
" ما أتى بالطفل لك حتى يتقيأ عليك ومن يكون أصلا؟! "

ثم بدّل نبرته في الحال للسخرية كطبعه متابعاً ينقل نظراته بيني وبين الطريق:
" هـــيه أنت.....أخشى أن تكون متزوجاً بأخرى من خلفنا وأصبح لديك طفل !!....أي هذا ابنك!...سرك ببئر ....اعترف يا صاحبي !..فأنت من شهور مشغول ....قبل الحادثة وبعد شفاؤك......متحججا بالوطن والأمور السياسية والأمنية وكل ما يخص الدولة!....."

" يا ليت ".....وددت...وفي قلبي كم تمنيت...ويا لصعوبة ما تمنيت .....يا لصعوبته!!.... .....فكل أحلامي الأسرية بنيتها معها وحدها......أولادي لم أرغب بهم إلا من رحمها.......مخيلتي لم ترسم إلا ليالي لحبنا....ليالي نشعل بها لهيب العشق ونذوب بلذة الغرام ......كم تمنيتُ من ليالي آتية يكون نتيجتها الأمل......ابنتي...أملي.....الخا ئن تضخم مع الزمن بين أضلعي ليحمي حبها .....ليمنع تسلل أي دقة لغيرها !!...ولكن...للأسف....أين هي عني ؟!.....أين؟!........عدتُ من سرحاني بما مضى وأحلامي بعيدة المنال أروي له حكايتي مع الصغير خاطف قلبي ولما انتهيتُ منها ولم أفلح من محو البقعة جيدا هتف (سامي) بمزاح وهو ينظر تارة إليها وتارة للطريق:
" لا ترهق نفسك كثيراً......مفعول القيء خاصتهم على الملابس اسوأ من مفعول الكلور ....اسألني !..."

وأكمل بصوت جدي:
" أتريد أن نذهب لمحل ملابس تشتري قميصا بدلا منه؟؟"

اتكأتُ بمرفقي على النافذة مسترخياً بظهري على المقعد بأريحية قائلا دون اهتمام:
" لا تكترث.....تابع طريقك......ربما يجف من الهواء قليلا أو سأبدله من المقر العسكري بأي شيء وإن لم أفعل لن يهمني!......هذه دمغة براءة ممَ سأخجل؟!..."

ضحك بمكر وقال:
" البراءة أنا وأنت نعرفها لكن هيبتك ستضيع بين ظنونهم!.....اسمع نصيحتي!..."

أجبته بهدوء واثقاً:
" فليظنوا ما يشاؤون.....لستُ مجبراً على تبرير شيء لأي أحد كان.......وبصمة ذو الوجه الملائكي لن تعيبني..."

تأفف باصطناع ثم ركّز عينيه للطريق مضاعف سرعته وهاتفا:
" ربما سينوّر الملح في البحر يوماً ما....لكن رأسك الصوّان لن يلين أبداً........أنتم جميعكم شلة فاسدة خسارة بكم نصائحي الذهبية....!!.."

~~~~~~~~~~~~~~~~

انتهى وقت اللقاء الذي بدا ثقيلاً على عاتقها وليس كما تمنت وظنت!!... ودعته بعناق صادق بادلها صدقه ...فهي أميرته المدللة وجفائه لا يعني عدم حبه لها إنما طبع في شخصيته المعقدة القاسية أما بالنسبة لابنها هو لم يشعر بأي شيء اتجاهه...لا تجاذب ولا تنافر.....اكتفى بالحياد ....لن يحقد عليه حالياً فهو يبقى طفل والأكيد لن يحبه لأنه من صلب الد أعدائه ...لا يستبعد بأن يصبح يوماً غريماً له فربما دمه دماً مصفى من دماء( آل الشامي) وجيناته بالكامل عليهم...هذا ما أسره في نفسه لحظة رؤيته للحفيد الوحيد.!!.....عادت أدراجها نحو غرفة الانتظار تسير باتزان بحذائها الأبيض المريح وهي تعيد طرف حجابها المورد بزهور وردية وخلفيته بيضاء للوراء بعد انزلاقه لكتفها وصدرها وكانت ترتدي فستانا خفيفا ورديّا ورغم بساطة مظهرها إلا أنها بدت أنيقة كما هي بل جميلة الجميلات!.....عند وصولها للمكان تفتحت أساريرها وأزهر وجهها بفطرتها الأمومية عند وقوع نظرها عليه بعد غياب ساعة زمنية عنه وأقل قليلاً أحستها كأنها يوماً كاملاً....فمع أنه يرهقها بمرحلته العمرية هذه إلا أنها تعلّقت به ولا تراه إلا الوجه المشرق بحياتها بل كل حياتها!!... كانت المربية تجلسه في حضنها وتداعبه بإحدى العابه الخشخشة الملوّنة .!!......التفت الصغير بتلقائية لصوت خطواتها فضحك ضحكة واسعة أظهرت سنيه الصغيرين في الأسفل وبدأ يرفرف بيديه لها كي تحمله وهو يناغي:
" ما...ما...ما.."

نبض قلبها بالحنان لحركاته والفراشات رقصت في جوفها ....مدّت يديها نحوه بالهواء وهي تقبل عليه تشرق الابتسامة على ثغرها وتناغيه تعيد حروفه :
" ما....ما.......ها قد أتيت يا روح ماما..."

وما إن وصلته حتى أحنت جسدها نحوه تغضن جبينها وتضيق عينيها بإمعان لتمدّ يدها تتحسس خده متسائلة باستياء:
" إيلا.....ما به خد محيي الدين؟!....لماذا لونه أحمر؟!....هل لسعته بعوضة لعينة وأنت لم تنتبهي لها؟!.."

ارتبكت قليلاً وردت:
" نو...سيدتي...كلا...هذا مكان قبلة سيد..."

انتصبت بوقفتها مستقيمة بتأهب دون أن تأخذه وتابعت استفسارها باستياء أكبر:
" أي سيد؟!.....ماذا تقصدين؟!...!.....اشرحي لي حالاً..."

ثم أمالت نفسها قليلا تحمله بينما كانت تنظر للمربية تنتظر إجابتها لتقول الأخيرة وهي تقف مباينة لها:
" ذهبتُ ...غسلتُ زجاجة....كان موهي نائماً....ولما رجع أنا هنا.....وجدتُ سيد تحمل موهي لأنه كان يبكي !!.."

عبست ملامحها وهمست معاتبة بصوت هادئ:
" ما هذا الاستهتار إيلا؟!.....ماذا يفعل الغريب مع صغيري؟!......احمدي الله أننا داخل محل آمن لا يستطيع أحد الإتيان بأي حركة خاطئة !.....ماذا لو كنا في الخارج؟....ألا تفكرين أنه من الممكن أن يخطفه أحد أو يؤذيه؟!..."

" آسف سيدتي...آسف.."

اومأت برأسها تقبل اعتذارها ثم حوطته بذراعيها تحتضنه بقوة ومشاعرها الأمومية تتدفق حبا وخوفا عليه ثم قبّلته من خده وتحديداً المدموغ بالأحمر وهي تهزه برقة وتلاطفه بصوت شجيّ يقطر حنية :
" هل بكيت يا حبيبي ؟!....هل تركتْـ..كَ....إيلا...وحْـ..دكَ. ؟!"

أكملت كلماتها الأخيرة بتقطيع عندما لامس أنفها عنقه ثم بدأت تمرره بالتدريج على جلده حتى سائر جسده فوق ملابسه ليبدأ قلبها يخفق بجنون وحشيّ مع انخطاف لون وجهها والتماع سماءيها وعادت تحتضنه بتملك رهيب وكأنها أحست بأمرٍ مريب ثم تعاقبت أنفاسها بانفعال ضاري وبالكاد همست باختناق وتلعثم وهي تجول بحدقتيها في الأرجاء بعد أن اخترق عطري الرجولي الصاخب الخاص بي أنفاسها وكل ذرة بجسدها حتى وصل لعمق ذاكرتها :
" مـ....من...من.....الـ..سيد؟!...."

ما زال القلق يعتريها والوجوم يخيّم على ملامحها وما زالت عيناها تتفحص الأرجاء بحذر وهي تأمرها:
" اجيبي...مـ...من....الـ...سيد؟!.... كـ...كيف...يبدو؟!..."

تبسمت المربية فهي لم تستطع الوصول لتفكيرها وأجابت بحالمية وهي ترفع يدها لفوق:
" اووه...ما شالله...ما شالله .....طويل سيد كثيراً.....وسيم سيد جداً........تلبس سيد ملابس جيش......له ذقن مهذب وأنيق.....اوه سيدتي...ما شالله عيون ما شالله ....."

قاطعتها بسرعة بديهة لاهثة ومتلهفة:
" هل له حاجبا مشقوقا من الطرف؟!..."


ردت متعجبة ومعجبة:
" اوه ...صحيح...سيدتي....كيف عرفت؟!......هل أنت تعرف سيد؟!....محظوظ أنت لو يعرفه.....كله رجولة وشموخ وسيطرة.....كما نحب نحن نساء....."

" لـ..لا...لا أعرفه ...."

فرّت حروفها منها متبعثرة فسألتها تلك:
" حقاً سيدتي؟!.....أنا ظننت أنك تعرف سيد..."


"كـ...كلا....لا أعرفه ..من أين سأعرفه؟!...لكن....وصفك ....ذكرني برئيس أركان جيش هذه البلد!......يعني ...اقصد....يعني توقعت.... لأنه هكذا شكله...."

قالتها بتوتر كاذبة ,هاربة من هيجان مشاعرها وانحنت تدس لعبة الخشخشة التي كانت بيد ابنها بالحقيبة بارتباك وسرعة متابعة أوامرها:
" هيا إيلا......اجمعي الأغراض...علينا الذهاب الى الفندق بأقرب سيارة أجرة!....هيا إيلا اسرعي!...."

مصدومة.....مرتعبة......القلق يغمرها من رأسها لقدميها ....ستلغي أي خطط رسمتها وستفر من هنا بأسرع وقت ممكن تحميه ونفسها!!.....هل احتجبت وحجبت الحقيقة معها شهوراً لتكشفها بمكان ووقت لم تفكر بهما أبدا وبعد كل هذه المدة التي نجحت بها بإخفائها ؟!....

هتفت المربية تذكرها:
" لكن ....قلتِ ...سنذهب للسوق القريب من هنا سيدتي!"

" كلا إيلا....غيرت رأيي......أنا متعبة جدا.....طائرتنا في الصباح الباكر....أريد أن أذهب للفندق فقط....هيا...هيا..."

ردت معترضة بصوت حاولت به استجماع قوتها وودت كثيرا لو أنها كانت الآن فوق السحاب في الطائرة تعود أدراجها الى تلك البلاد التي احتضنتها....لتذهب بعيدا...بعيدا.....عن كل شيء في هذا الوطن المزعوم الذي لم تجد به إلا ضربات قاضية أنهكت شبابها وحطمت آمالها وخاصة بمثل هذا اليوم بعد أن خذلها والدها بابنها وموقف الرعب الذي تعيشه الآن والذي أدى لتجميد دمائها وتجفيف حلقها...!!.........اومأت لها مرافقتها صاغرة ونفذت أوامرها بصمت !!....خرجتا من بناية السجن الامني المركزي وهي ما زالت تتشبث بابنها بقوة وسيطرة وبعينيها تتابع تفحصها للمكان بحيطة وحذر مضاعف حتى وجدتا سيارة أجرة قريبة أقلتهما إلى الفندق القديم ذو الثلاث نجمات في العاصمة وتحديدا وسط البلد حيث الاحياء الشعبية !!.

×
×
×

لما وصلتا بأمان إلى الفندق الذي تنزلان به توجهتا معاً الى غرفتهما المشتركة.!!....دخلت (إيلا) الى الحمام بينما هي تنهدت تضبط أنفاسها براحة بعد شعورها بالطمأنينة بين جدران الغرفة وفي هذا المكان المغلق عليهم....كان (محيي الدين) في حضنها فهمست له بارتياح بعد أن داعبت عنقه بأنفها وقبلته له:
" الحمد لله...نفدنا يا صغيري.....نفدنا......ماذا كنتُ فاعلة لو كشفنا؟.....كيف سأواجهه؟!....."
سرت رعشة في أطرافها جعلت قلبها ينتفض وجلاً مما جعلها تعصره بذراعيها على صدرها كأنها تستولي عليه بكل قوتها لتهمس له بنبرة متذبذبة مع سقوط بضع قطرات من سماءيها :
" يا الله....حقاً ماذا كنتُ فاعلة لو أخذك مني؟!....يا الله التفكير بهذا لهو مرعب كثيراً يا صغيري.......لا أتخيل ذلك....سأموت.....سأموت لو عرف عنك وحرمني منك!!.....لن أسمح له .....لن يأخذك إلا على جثتي!!..."

زلفت من سريرها وخلعت حذاءها ثم جلست عليه تستند على ظهره وترفع ساقيها لتضع ابنها بحجرها متكئا عليهما يقابلها وغلّفت قبضتيه الصغيرتين بقبضتيها الرقيقتين البيضاوين وداعبته قليلاً ليضحك ثم لاذت بالصمت تفكر سارحة بالفراغ أمامها لتعود تحدق به وعيناها تلمعان.....تبدد الخوف منهما الآن وجاء مكانه......العشق....ذاك العشق المحرم عليها......قبّلت له كفيه ثم دنت منه لتعيد تمرير أنفها تستنشق بانتشاء مسكر كل ذرة تجدها من عطري الصاخب عليه مستغلة وجود المربية بالحمام!......همست بذوبان تناجيه وكأني أنا ماثل أمامها على هيئة صغيرها :
" آه.....ذبحتني....لمَ تترك بصماتك؟!....ألِكَي تأسرني بك فوق أسري؟!......أشتاق.....وربي أشتاق.....واحترق بهذا الاشتياق يا معذبي بهجرانك !!....."

ولأول مرة لم تسمح لكلمات والدها أن يرّن صداها في ذاكرتها ...تلك الكلمات التي جلدها بها وهو يخبرها بأبشع الاحتمالات.....عشيقة أو امرأة أخرى!!....وارتأت أن تشبع نفسها الجائعة العطشة لقربي بأن تحتضن ابنها تستنشق رائحتي عنه وتقبّل خده المدموغ بقبلتي كالمغيبة المدمنة قبل أن يتبخر كل هذا ولا يبقى أثر يروي القليل من ظمئها ....!!.....كان ما يخرجها من سكرتها الأصوات التي يصدرها ابنها استعدادا للبكاء ....فبعد أن أشبعت رغباتها القت نظرة خاطفة متفحصة للرواق الصغير الموصل للحمام لتتأكد من غياب تلك ثم همست له بنعومة وعينيها تشع عشقاً لا ينضب من قلبها رغم الأحزان:
" أخبرني يا حبيبي......ماذا قال لك والدك؟!....بماذا همس لك؟!....كيف كان صوته؟!....حدثني عن دفء أنفاسه ....أوصف لي الأمان الذي يحمله حضنه.... هل شعرت به كما شعرت أنا ؟....حضنه لا ينسى يا صغيري.....حضنه كان كفيلاً ليشعرني بالأمان ويغنيني عن ثروة بأكملها!!.....أما زال شامخاً قويا؟!......أما زال لطيفاً مع الأطفال كما عرفته؟!.....ألم يراني بك كما أراه أنا بملامحك..؟!....آه يا صغيري من سوء النصيب وفراق الحبيب!!......"

قطعت حديثها عندما أقبلت عليها (إيلا) ...رفعته بسرعة فخضته دون قصد ليخرج القليل من فمه الصغير الورديّ سائله الأبيض الجامد فتلقاه صدرها ....وما إن لبثت أن تتأفف بنزق باحثة عن منديل بالقرب لتمسحه حتى انفجرت مقهقهة حد الشماتة تهتز مكانها عندما قالت الأولى بعفوية:
" نسيت أن أخبرك سيدتي.....موهي فضحنا .....تقيأ على قميص جيش للوسيم ذاك .....ولطخ له هو .....أنا أحْرِجَ سيدتي كثيراً....."

ولما خبتت ضحكاتها الشامتة تدريجيا لقطت أنفاسها ثم غمزت لابنها بمكر وقالت مشجعة بغرور وتباهٍ تنتصب بعنقها وكتفيها:
" أحسنتَ محيي الدين....هكذا أريدك.!!...إنه يستحق هذا وأكثر.....لم تقصّر بما فعلت بالحيطان المغرورة "
×
×
×

سارت الأيام برتابة ومرّ اسبوعان لتأتي تأشيرة (إيلا) التي طال انتظارها سابقاً لتودع بهذا اليوم من عرفتهم من أهل الحيّ وكان الوداع الحميمي الدافئ خاص بها وبابنها اللذين أخذا مساحة كبيرة من المحبة عندها فامتلأت المحاجر بالدموع وحزن القلب على الفراق الذي كان لا بد منه إن عاجلاً أو آجلاً وعادت لتتكفل بكامل المسؤولية لصغيرها وتقوم بكافة المهام الخاصة به حباً وإجباراً حتى يبعث الله لها حلاً يخفف من وطأة حملها.....!!

~~~~~~~~~~~~~~

تتهافت الأصوات من كل حدبٍ وصوب ....منهم من يحمل الدلاء المملوءة بالماء ومنهم من يجر خرطوم بيته القريب.. يحاولون انقاذ المكان الى حين أن تأتي سيارة الاطفاء والاسعاف والشرطة بعد الاتصال بهم!!......الدخان الأسود يتصاعد بكثافة وكأن الليل أسدل ستائره وقت الظهيرة.....هناك من يسعل اختناقاً وهناك من يبكي حسرةً .....هناك من يحوقل شفقةً....كلهم بقلبٍ واحد وألمهم واحد واقفون ينظرون لشباب الحيّ العاملين بشهامة وجد وجهد كبير بانتظار أن يخمد هذا الحريق الذي نشب في بيتها الصغير سابقاً المجاور لبيت مربيتها قبل أن يتحوّل لمطبخ تسترزقان منه وكان سببه تماس كهربائي من مقبس يحتاج صيانة خاص بالفرن الكبير الذي تحيطه الخزانة الخشبية ومواد كثيرة قابلة للاشتعال خلّفت أضرار جسيمة وقد امتدت النيران وصولاً لبيت مربيتها فلحقه ضرر هو الآخر لتدخل شعلتها من نافذة مفتوحة كانت تتدلى ستارتها البسيطة فلقفتها النار وأكلتها لتسقط بقاياها على السجادة فتسري عليها كالأفعى حتى تنتهي عند منضدة متوسطة الحجم فيها أدراج عدة وكان أهم ما بداخلها ...مالاً تذخره من عملها لتصرف على ابنها والآن غدا رمادا وكأنه لم يكن شيئا يذكر فهي لم تعد تتعامل بحسابها الخاص والمصارف بل قامت بإغلاقه منذ أن رحل والدها عنها بعد أن أعادت تحويل ذاك المبلغ الكبير الذي أودعته به من أجلها وكانت وكأنها أعلنت الحداد عليه تاركة خلفها كل ما استعملته بوجوده ليبقى مع الذكرى وأي ذكرى؟!!.......الدخان طال ما طال من بيت مربيتها ولكن الحمد لله استطاع الشبان أن يلحقوا بغرفتها التي كانت تشاركها بها (رهف) ونجحوا بالسيطرة عليها وإيقافها قبل انتشارها بكامل البيت وقبل أن تبدو ركاماً وحطاماً فما تأذى منها المنضدة ذات الأدراج والسجادة والستارة ولم يمس الضر باقي أركانها...حمدا لله......أما مصدر رزقها أصبح سراباً أو حلماً جميلاً استفاقت منه لتصفعها الحقيقة بمصيبة تلحق بكل مصائبها!!......كانوا يجلسونها على كرسي بلاستيكي في شرفة لمدخل بيت أحد الأقارب مقابل لمطبخها المحروق.... تحيط بها النساء ...تجاورها خالتها (سهيلة) على كرسيها المتحرك وتقف تحمل لها ابنها (رهف) الراضية بقضاء الله المتوكلة عليه...فإيمانها الراسخ بروحها منع تهويل الكارثة عندها رغم كبر حجمها بينما تلك البائسة التعيسة ما زالت هشة وتحتاج الكثير حتى تصل لدرجة كبيرة من القناعة بنصيبها والرضا بما يحل بها والإيمان الذي ينير بصرها وبصيرتها... أجل...ما زال لديها الكثير حتى تصل لذاك الشعور ...شعور السلام الداخلي الذي يبث الطمأنينة بالقلب...لكنها ستصل له ولو بعد حين بما أنها خطت أول خطوة مقبلة الى الله بإرادتها مخلصة النية!!.....كانت تبكي بحرقة مزقت القلوب ....وجهها محمراً وعيناها مجمرتان ليس من تأثير اللهيب الذي تراه رأيَ العين بل لسعها حريق الحزن داخلها ....يكويها....يؤلمها...يشتتها من ذاتها أكثر وأكثر!!.....تحاول جاراتها تهدئتها لا يعلمن ما الذي يزيد من نحيبها لهذه الدرجة ....يوجهن نظرها للنصف المليء من الكأس وليس الفارغ وهن يهتفن بمواساة صادقة:
" انظري مثلا....بيتك أنت وخالتك سهيلة لم يكن الضرر به كبير الحمد لله..."
" احمدي الله أنكم كنتم عند رهف جميعكم ولستم به ....فهذه نعمة....لقد حفظك الله وحفظ لك صغيرك..."

وبأخرى كلمات حانية وزّعنها على مسامعها عسى أن تربّت على قلبها وتكون بلسماً لجرحها.!!...شهقت من شدة البكاء وهمست باختناق وهي تمسك رأسها والعبرات تغرق ثيابها :
" هذه مصيبة......ليس فقط مالي ما خسرته ...."

ورفعت رأسها نحو شريكتها وكأنها تتوسلها بنظراتها الضعيفة وبعينيها المغمورتين بالدموع متابعة بهمسها المختنق:
" مصيبة يا رهف.....المال الذي جمعناه وأحصيناه لنوزعه على التجار وأصحاب الحق وبما فيه ربحنا كان بدرج المطبخ حيث نضع ما نحصل عليه..."

انقبض قلبها لوهلة ...فعلاً مصيبة!!.....هذا ديْن وعليهما سداده...لكنها حاولت طمأنتها قدر الإمكان مشفقة على الحال الذي وصلت إليه وقالت برزانة تمسك الدموع المترقرقة بمقلتيها:
" الحمد لله...فليعوضنا الله بخير منه ....هذا قدرنا المحتوم ورزقتنا المكتوبة .....حكمة الله جل في علاه.....لا تبتئسي ....سنجد الحل معاً بعد الاستعانة بالله وهو لن يضيعنا ......اهدئي ألمى ....لا تفكري الآن..."

واستدارت نصف استدارة حيث تضعه على الطرف الآخر من خصرها لتقرّبه نحوها وهي تهزّه مردفة:
" أنظري لمحيي الدين كيف ينظر إليك...يبدو خائفاً فهو لم يرك بهذا الوضع سابقاً...."

مدت يديها تأخذه منها وأجلسته على حجرها تحيطه لتمده بحنانها وتستمد منه أنسها وأمانها وهي مستمرة ببكاء صامت كي لا تخيفه بينما دموعها تهطل مدراراً وتجري على وجنتيها تحفر من الأسى أنهاراً...!!
×
×
×

حضرت الشرطة وباشرت التحقيقات بعد إخماد الحريق الهائل الذي سرق وقتاً طويلاً من أهل الحي وبمساعدة رجال الاطفاء وهكذا أغلِق الملف بعدما أُكِد أنه لم يكن بفعل فاعل ولا يوجد خلفه جريمة أو خسائر بشرية .....لقد سدّ باب رزقهما الوحيد وعليهما بالرضا ...إنه كان أمراً مقضياً... !!
×
×
×

بعد يومان من الكارثة ...اجتمعت هي وشريكتها لتقيّما حجم خسائرهما ولتفكرا بطريقة السداد والتي وصلتا إليها أخيرا وهي بيع قطع من ذهب العرس الخاص بـ(رهف) مع قطعتين من المجوهرات الصغيرة خاصتها وقد كانتا مما تبقى معها بالإضافة لأخرى أسوارة ثمينة أبقتها كقرشٍ أبيض ليومها الأسود ....فالكوارث التي أحلّت بها علمتها الكثير وكانت قطعة أخرى لن تتخلى عنها!!......ها هو أسبوع مر بسلام ....لا ديْن لهما أو عليهما....نامت كلّ منهما قريرة العين هادئة البال راضية طوعاً أو كرهاً بهذا الحال!!..... وبهذا انطوت صفحة أخرى من كتاب حياتها كُتبت بنار حبرها أسود لتضاف الى سلسلة المصائب التي تلحقها منذ وفاة والدتها حتى اللحظة التي تتنفسها....!!.....وأعلن هنا عهداً جديداً تبايع به الفقر الحقيقي الذي سيكون مسار حاضرها ومستقبلها فقد سُدت أمامها السُبل وتقطعت الطرق.!!...بعد مرور أيام اضطرت أن تبيع الأسوارة الثمينة لتبدأ بالصرف من ثمنها...على نفسها وابنها بحذر دون تبذير حتى يأذن الله لها إيجاد عملاً يناسبها تجعله مصدر رزقها......عقدت النية للسعي وأعدّت العُدة وستجوب الشوارع العامة الكبيرة وأزقة الأحياء الصغيرة لتجد ما يناسبها وطفلها...!!

~~~~~~~~~~~~~~~~

أعيش مرحلة ذات أهمية بل من أهم المراحل في حياتي وبأكثر وقت حساس تمر به بلادنا ...فيها الاستقرار واثبات الذات وإصلاح ما دُمر من أرضنا بعد أن عاثوا فيها فسادا........تلك المرحلة امضيتها مثابرا أجري وراء مصلحة بلادنا لحماية مساعينا وجهودنا وربط ما وصلنا إليه بوثاق شديد لا يمكنه الانفلات!! ...فقد كانت هذه مرحلة حاسمة قاسمة لوطني لننهض به وكانت كذلك فرصتي لأثبت صدقي وولائي لمنصبي بتفاني وإخلاص!! ....مسؤوليات انهالت على عاتقي بعد استلامي له وازدادت ضغوطاتي وها أنا كعادتي ما زلتُ لم أجد الوقت لأتنفس....كثّفتُ جهودي له وصببتُ جلّ وقتي لأجله....وبعد توفيق الله فلحت خلال شهرين بإعادة الكثير من الأمور لنصابها متمكناً من مكاني مستعداً لتخوض البلاد انتخابات بنزاهة ليس لها مثيل وبنظام ورقابة عالية وحماية شديدة من الجنود في الداخل وعلى الحدود لمنع أي دخيل أو عميل بزعزعة أماننا واستقرارنا فارشين ورود السلام بكل بقاع الوطن..... وقد أتى هذا اليوم وأتت معه البشائر ليمسك الحكومة الحزب الجديد الذي كان نتيجة ائتلاف حزب الثوار خاصتنا وحزب جنود الدولة ليصبح باسم (عهد الأحرار) بعد فوزٍ كاسح بفضل المحبة والثقة التي منحه إياها الشعب بكافة أطيافه وطبقاته ليمثلهم ويكون.... صوتهم... صوت الحق... ودرعهم...درع الشرفاء.... ورايتهم...راية السلام....من بعد فضل الله.....وأصبح رئيس الحزب الرسمي ورئيس الحكومة الرجل المنتخب من الأعضاء السيد (سليم الأسمر) حفظه الله ووفقه لما يحبه ويرضاه... !
×
×
×
بعد استقرار بلادنا ووضع أسس ونظام للمكان الذي أنا به (رئيس أركان الجيش) حان الوقت لألتفت لمسؤولياتي الأخرى .....وعدي لنبض الحياة....العمرة التي وعدتها بها في زمن من الأزمان....لقد حجزتُ لنا تاريخاً في هذا الشهر لمدة عشرة أيام وتذكرتين لنحلق متجهين إلى أرض الحرمين كي نؤدي مناسك العمرة عنا وعن روح والدي سائلين الله أن يتقبلها منا...!!.....كان هذا اليوم اجازتي التي هي من حقي بعد غيابي لثلاثة أيام عن أهلي!!....عدتُ دالفاً بيتنا الجبليّ منتعشاً أريد أن ألقي عليها البشرى بعد أن استقبلني شقيقي دون اشعارها......وجدتها تقوم بغسل الأواني في المطبخ....اقتربتُ منها ثم احتضنتها من الخلف وأملت جذعي متخذ جانب وجهها لأقبّل خدها ناطقاً شوقي وسلامي:
" السلام عليكم يا أم هادي......كيف حالك أماه؟.....لقد اشتقتُ لك!"

جففت يديها بمريولها واستدارت تعانقني تتشبث بي لتصل طولي جاهدة وتقبّل وجنتي هاتفة:
" وعليكم السلام يا مهجة القلب ...أنا بخير يا عزي وسندي طالما أنتم بخير!!...."

وكعادتها أكبر اهتماماتها خدمتنا وعدم إنقاص شيئا عنا فقبل أي كلام التفتت للموقد ثم إلي مردفة بحنان:
" هل أنت جائعاً بني؟!"

وربتت على صدري وهي تتابع:
" لا بد أنك جائع...اجلس لأسكب لك الطعام ..ما زال ساخناً.."

تبسّمتُ بحبٍ لها فرحاً بحنانها وأمسكتُ كفها أسحبها لأجلسها على إحدى كراسي المطبخ قائلا بنبرة متزنة هادئة:
" اجلسي أمي.....سلمت يداك لستُ جائعاً....لديّ ما أقوله لك..."

فعلت مطيعة طلبي وفعلتُ مثلها مقابلاً لها ولما رأت عيناي تلتمع سروراً وتقاسيم وجهي تنطق بهجة وحبوراً قالت من فورها متحمسة:
" هل قررت إعادة زوجتك بنيّ؟!..."

" هل ستعود ألمى إلينا؟!.."

هتفها شقيقي باندفاع يفيض سعادة والذي دخل من توّه المطبخ ملتقطاً سؤال أمي فرميته بنظرة ذات مغزى بعد أن تبدّل حالي واصفرّ وجهي وعدتُ موجها حدقتي إليها مع خروج كلامي بنبرة جافة:
" كلا أمي....ليس هذا....شيء آخر...."

دنا منها بتباطؤ يقف جوارها بينما هي طالعتني بنظرة باهتة وقالت بنبرة فرّ حماسها:
" إذاً ماذا بني؟؟"

أخرجتُ التذكرتين من جيبي وغمزتها بمشاكة لأعيد الحياة لتقاسيمي هاتفاً:
" استعدي للسفر لأداء العمرة إن شاء الله بعد أسبوعين من الآن..."

لم تبخل عليّ بابتسامتها الحنونة لكني لامست انطفاء روحها عندما ردّت كمجاملة منها :
" الحمد لله....الحمد لله....رضي الله عنك وارضاك هادي يا ولدي..!!"

قلت رافعاً حاجبي باستغراب:
" ألم تفرحي أماه؟!...."

"بلى...لكن"

أشاحت وجهها جانباً هاربة بنظراتها مني وأكملت بخفوت:
" كنتُ سأفرح أضعافاً لو أصلحت حالك وحياتك أولا ثم ذهبنا جميعا إلى هناك..."

وعاد يشرق النور على صفحاتها وهي تقول:
" ما رأيك بنيّ أن تذهب وتجلبها ولربما يهديها الله وتتحجب ثم تقتنع لتأتي معنا الى هناك....لعلّها تكون بداية جديدة لكما بصفحة بيضاء.. ؟!"

وضعتُ التذكرتين على سطح الطاولة أمامنا ومددت يديّ أضع كفها بدفء بين كفيّ وهمست بهدوء:
" لا يمكنني هذا الآن أمي.."

قطبت جبينها وسألت مستفسرة:
" لمَ لا يمكنك هذا؟!..."

تنهدتُ تعباً وأجبتها:
" لأن لا صلاحية مطلقة معي الآن لأسافر كيف ومتى وأين أشاء أما العمرة استثناء !!.."

ساد صمتاً يسيراً وهي تطالعني ثم هتفت:
" إذاً اتصل بها هاتفياً .....آن الأوان لإعادة كل شيء للمسار الصحيح يا هادي بعد مرورك بظروف كانت أقوى منك ومنها....لا تؤجل أكثر!.."

شردتُ بالأرض مجيباً:
" لا أريد أمي اتصالاً.....أريد أن أقف أمامها بكامل حواسي وأن أشعر بها وبكامل حواسها.....لنضع النقاط على الحروف!!.... "

" ولمَ التعقيد هذا؟!....صدقني النساء لسن متحجرات مثلكم يا رجال...كلمة واحدة تطيب خاطرها تملكها....وكلمة أخرى كفيلة بهدمها وخسارتها!!....اتصل وطيّب خاطرها على الأقل!.."

تنهّدتْ بهدوء وأردفتْ:
" الحمد لله......انتهت الحرب وعدت من الموت بسلام وحصلت على ما تمنيت بفضل الله واستقرت بلادنا أخيرا وها أنت ستحقق وعدك لي بالعمرة.....أسبوعين تبنى بلاد وتهدم بلاد......قم بإصلاح علاقتك بها ولو هاتفياً حالياً...."

لذت بالصمت...أفكر كيف سأجيب وبمَ أجيب وأساسا هل أنا واثق من هذا؟!.....أغمضت عينيّ وحررتُ أنفاسي بهدوء...فتحتهما وهمست بنبرة منخفضة:
" أمي....أنا سأذهب إليها بعد العمرة ولو خطفتُ نفسي عن طريق الأنفاق .....وسأطرح سؤال بخيارين ليس لهما ثالث.....ولن أجبرها أبداً وسأنفذ إجابتها فور وصولها لقلبي قبل سمعي...هذا وعدي....سأسالها...ماذا تريد؟....إما أن تأتي معي الى هنا ....حيث بيتها وزوجها وبلدها الأصلي ...أو..."

قاطعتني متحفزة الملامح:
" أو ماذا؟!.."

استصعبتها ...أجل....ليس سهل النطق بها.....كم يكون شاقاً على اللسان قول بما لا يتمنى القلب!!....لكني أدركتُ أنني كنتُ ظالماً بحقها ومع حقها حق قلبي....لم أكن جازماً لكني كنت شبه متأكدا أن بعد ما مررنا به وعشناه مرغمين من مشادات وفراق وبعد ...باتت عودتنا معدومة....كنتُ في البداية أنانيا بما فيه الكفاية والآن عليّ أن أنصفها...ومجبرٌ على هذا......عند عودتنا بالسلامة بإذن الله من تلك الأرض المباركة....سأسير أو أطير ...لا يهم....إلى بلاد اللجوء التي لم أزرها منذ شهور....حيث تقبع سمائي...هذا التفكير بحد ذاته لا يزدني إلا لوعة وعذاباً وكأنني أجلد ذاتي وأعاقب نفسي!!......لقد جمعنا حب ملطخا بانتقام وفرّقنا كبرياء غذاءه العناد وسوء فهم أحمق.....كم أخطأنا بحق أنفسنا....سمحنا لتوسيع الشرخ بيننا حتى أضحينا غريبين لا نسأل عن بعضنا ولم نجد من يقدر على لم شملنا ....فالظروف كانت دوماً ضدنا وأقوى منا.......حبي لها محفور في أوردتي.....ووفائي لها لا يقبل النقاش.....كانت السماء لأرضي وصارت الروح لروحي وستبقى الحبيبة الحاضرة في قلبي الغائبة عن عيني!.......ولأني أعشقها سأسعى من أجل هذا عسى أن تغفر لي ذنبي بحقها !!....انتظريني يا مدمّرتي....سأنصفك بإذن الله وأرجو أن تسامحيني!!.......كانت هذه أفكار وقرارات لم أشرك أحدا بها سابقا وأبقيتها أسيرة يصونها صمتي!!..أما الآن جاء وقت إطلاق سراحها متمماً كلامي لنبض الحياة بكلمة واحدة ألجمتها :
" أو الطلاق"

أطلقتها من بين شفتيّ مؤكداً للخائن في صدري أن يتقبل الحقيقة المرة ويرفع راية الاستسلام لأني واثقاً وأكيداً سيكون هذا قرار المدللة سمو الأميرة....سلطانة قلبي....ستحكم علينا بالهلاك حين تنفينا من حياتها...ولكن.....إن كانت راضية سنكون راضين ....وسنفرح لفرحها ملزمين....وسأدعو لها في الهداية للدين وأن تتخذ طريقها لرب العالمين لأنني عشتُ هذه السنين وأنا على يقين أنها ليست لي في هذه الدنيا راجياً أن تغدو حوريتي في جنة الخالدين !! ..

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

دفعت العربة خاصته على الرصيف خائرة القوى.....وصلت الى مدخل بناية تضم مؤسسات عامة ومكاتب مختلفة لمهندسين ومحاماة ....توقفت تحت مظلة البوابة خاصتها تلقط أنفاسها اللاهثة وتستظل من أشعة الشمس التي ورّدت بشرة وجهها حتى كادت تحرقها!!.....أخرجت هاتفها من حقيبتها المعلقة على مقبض العربة لتنظر لساعته....تأففت ساخطة..... أوشك المؤذن أن ينادي لصلاة العصر.......لقد خرجت للبحث عن عمل يناسبها من قبل صلاة الظهر بأسبوعها الثاني على التوالي من رحلة السعي لرزقها ...كل مرة تتجه لمنطقة مختلفة.....لكن يومها هذا كان مغايراً عن باقي أيامها بعد اضطرارها لاصطحاب ابنها معها فخالتها (سهيلة) لديها فحص روتيني بمنطقة بعيدة و(رهف) من ترافقها وقد أحرجت من أن تضعه عند فتيتان ممن تعرفهن بالحيّ لأنها فعلتها الأسبوع الماضي بالتناوب وهي لا تريد أن تثقل عليهما مجددا..!!....حمدت الله أنه ما زال نائماً منذ ما يقارب الساعة والنصف رغم ضوضاء الطريق وأصوات الناس!!.....تطلعت بيأس للباب الداخلي الخاص بالبناية المقفل بإحكام معلناً انتهاء الدوام....كم كانت آملة أن تجد عمل بأحد المكاتب هنا ....لا يهم سكرتيرة أو عاملة قهوة أو أي شيءٍ كان!!.....فالمكان قريب نوعا ما لحيها وطريقه سلس ومريح.......لكن لا نصيب!!.....عادت تجر عربته بخطى واهية وجرت معها أذيال خيباتها....مرت عن محلات عدة فتوقفت عند زقاق نظيف على يمناها....الغرابة به لفتت انتباها!!....والفضول جذبها لتخوض مغامرتها ....إن وجدت عمل فهذا رائع وإن لم تجد سيكفيها هذا الانجذاب!.....وجّهت العربة لمدخلة وبدأت تسيرها بتباطؤ تلتفت يمينا ويساراً تتعرف على أسماء المحلات به أو تنظر لأبواب البيوت العتيقة بألوانها المتفاوتة.....ركّزت بأرضيته فتذكرت....إنه نفس البلاط الخاص بذاك الحيّ.....من أحجار الرصف الرمادية!!....خفقة في قلبها أنعشت ذكرياتها .....إذاً هذا مكان مصغر عنه.....باتت أكيدة!!.....أكملت مسيرتها فالتمعت حدقتاها عندما وقعت على لافتة أحد المطاعم الصغيرة هنا.....خاص بالأكل الايطالي!......وليس هذا فقط ما أشعل نظرة الفرح بعينيها ورسم الارتياح والانشراح على محيّاها إنما الورقة المعلقة على الباب ومكتوب عليها بثلاث لغات ...ايطالية وانجليزية وعربية [ مطلوب عاملة مطبخ ].....لم تنتظر دقيقة لتفكر بل سحبتها قدماها لتدفع العربة بسرعة أكبر وتصل للمحل بإقدام وحماسة كأنها تخشى أن يطير من بين يديها....ففيه وجدت ذاتها....الأكل الذي تحبه...العمل الذي تحتاجه....والوظيفة التي أضحت تتقنها لحد كبير.....فتحت بابه الزجاجي ليصطدم بالجرس النازل من السقف ليصدر رنيناً ويخبر أصحاب المكان أن هناك من جاء!!....تلفتت في الأرجاء ووجدت طاولتين يشغلهما الزبائن بينما ثلاثة أخريات شاغرات!!....فهو لا يتسع لأكثر!!....خرج رجل خمسيني شعره يغزوه الشيب ويرتدي قبعة الشيف وملابسه....ملامحه عربية ....هي واثقه أنه كذلك!!....سألها بوجهٍ باسم ولكنة عربية تختلف عن لكنتها:
" تفضلي سيدتي.....كيف أستطيع مساعدتك؟"

شعرت بالراحة اتجاهه فاقتربت خجلة وهمست وهي تشير للخارج:
" رأيت الاعلان على الباب...!!"

" أجل.....هل تريدين العمل؟"

اومأت برأسها إيجابا فقال:
" ما هي قدراتك في مجال المطبخ؟!"

ردت باستحياء:
" أجيد تقطيع الخضار....وصنع أنواع مختلفة من المعجنات وبالطبع غسيل الصحون!!"

تبسّم برضا وهتف يشرح لها:
" جيد جداً........أنا شريك صغير بالمطعم مع رجل إيطالي له عدة مطاعم متفرقة....يحب الدقة في العمل والنظافة على سلم الأولويات عنده طبعا....يهتم بسمعة المكان......لا بد أنك لاحظتِ بأن الزقاق وكأنه مقطوع من أحد أحياء إيطاليا....وأنهم يتنافسون بالمحلات..."

هزت رأسها توافقه وهمست بوجنتيها الوردتين:
" أجل لاحظت....يشبه الحيّ الإيطالي الكبير الراقي في مركز المدينة..."

ضحك وقال:
" تماماً.....ذاك أصبح مكتظاً فانتقل بعض الايطاليون الى هذا الزقاق وامتلكوه رسمياً ثم حولوه ليصبح كطابعهم وثقافتهم وتراثهم !!.."

همست:
" جميل ..."

فهتف في الحال:
" نحن نحتاج عاملة من الصباح حتى الظهيرة فقط.....إن كان يناسبك يمكنك البدء من الغد...ما رأيك؟!.."

أشرقت الشمس بسماءيها وردت مستبشرة:
" بكل سرور....لن اتأخر إن شاء الله"

غيوم حجبت شمسها عندما تذكرت أن غداً لن تكون( رهف ) متواجدة بسبب مشوار خاص مع زوجها ومربيتها لا يمكنها الاهتمام به وحدها لوقت طويل فأردفت بنبرة يائسة وخجلة:
" هل يمكنني اصطحاب ابني... فقط للغد؟!.."

فكّر قليلاً وكم كان طيباً متعاوناً عندما أجاب:
" حسناً إن كان لمرة وبسبب ظرف مؤقت ...وشرط أن لا يعيق عملك!!.."

انبسطت أساريرها من جديد وحمدت الله على هذه النعمة ....شكرته بحبور واستأذنته مدبرة والسعادة تغمرها كأنها ملكت الدنيا...!!
×
×
×

ارتدت بنطالاً شبه ضيق أسوداً يستره قميصاً طويلاً يصل لركبتيها بلونه البنفسجي ويتوسطه حزاماً يتماشى مع البنطال والحجاب بلونيهما....ملابس بسيطة لا تعد لباساً شرعياً كاملاً إلا أنها تصبح فاخرة عليها بجسمها المرسوم بإتقان ووجهها الفتان ....النور يشع من محيّاها والجمال يخجل من جمالها.....العينان تتألقان كالشمس في كبد السماء وبشرتها الحليبية تتورد في بهاء...!!..حزمت أمتعته في حقيبته الخاصة ...وضعته في عربته وخرجت باكراً حتى تجد سيارة أجرة دون أن تتأخر !!.....وصلت للعنوان المنشود واستقبلها ذات الرجل الطيّب.....عرّفها على المطبخ وأدواته ....ومن حظها السعيد لليوم أن (محيي الدين) سهر كثيرا في الليل مما جعله يتوق للنوم الآن....رضا من الله....هكذا فكرت!......وضعت عربته القابع بها بسلام وسكون في ركنٍ فارغ بالمطبخ بعيدا عن الفرن والموقد وشرعت تطبق المطلوب منها بتركيز ....بعد ساعة أرادت أن تستفسر عن شيء احتاجته ولما همّت للخروج من المطبخ متجهة نحو طاولة الحساب حيث يتواجد ذاك الرجل الذي أخبرها أن شريكه سيأتي جحظت عيناها ذاهلة فتراجعت خطوة للوراء تحتجب بأطار الباب تزدرد ريقها وتحاول تنظيم ضربات قلبها التي تسارعت مع أنفاسها!!....همست في سرها ومقلتيها تجمع الدموع " يا الله....لا يعقل!.....إذاً شريكه يكون إدوارد...ذاك الايطالي.....صـ...صديق ...... هادي ...صاحب المطعم !....يا رب استر عليّ ولا تجعله يراني!....."....لم تفلح بالسيطرة على المعركة التي يخوضها قلبها ولم تلبي نداء الاستغاثة من قدميها اللتين أوشكتا على الانهيار من شدة توترها واضطرابها .....حارت ماذا تفعل؟!...كيف تنقذ نفسها قبل أن يناديها....همست في سرها " لمَ ليناديني"...أجابتها نفسها ..." مثلا ليتعرف عليك كونك عاملة عنده !."....فكرت ضائعة لثواني ثم استجمعت قواها وفرّت هاربة للحمام تختبئ إلى أن يذهب مصدر رعبها......كان وجهها يعتريه القلق وجبينها يلمع بحبيبات من العرق......تفرك يديها وتدعو في سرها أن لا يطيل في مكوثه رغم أنه أخبرها الرجل الطيب أنه سيأتي لأخذ بعض الأوراق.....صارت تواسي حالها بكلامه....بعد قليل بشرها الجرس بانفتاح الباب فخرجت تزفر أنفاسها بقوة وتسللت وصولا لباب المطبخ لتتأكد ولما وجدته فارغاً منه أحست بحمل ثقيل أزيح عن كاهلها رغم قلقها من الأيام المقبلة كيف ستتصرف بوجوده وما إن قررت العودة لمتابعة عملها حتى دخل الرجل الطيّب ليقول لها:
" سيدة ألمى أنا مضطر للخروج وسيصل ابني وسام ليأخذ مكاني بعد قليل ....عملاً موفقاً"

رمشت بأهدابها توافق على كلامه واتجهت للثلاجة تخرج ما تحتاج من الخضار ولما خلى المطعم من الزوار وأصحابه......غسلت يديها ودنت من النائم ترمقه بنظرات حانية مبتسمة تملأ عينيها به ثم انحنت تقبله وهمست برقة وهي تداعب خديه بظهر كفها بلطافة :
" نوم الهناء حبيبي.....نم عني وعنك ....أمك تكاد تقع من شدة النعاس!!"

شمّرت عن ذراعيها لتباشر تقطيع الخضار وصارت تدندن بصوتها العذب تسلّي وقتها تركز على ما بين يديها لا تشعر لا بالدقائق ولا بنفسها ولا بالذي كان واقفاً متكئاً على أطار باب المطبخ مبهوراً بالفتنة واللوحة البديعة التي يراها أمامه !!....تنحنح يخبر عن وجوده وما إن أجفلت شاهقة حتى جرحت طرف إصبعها ليندفع نحوها يخرج منديلاً ورقياً من علبة بقربها ثم يمسك لها يدها ويغلف مكان إصابتها بجرأة ودون استئذان هامساً بنبرة عاطفية متقنة:
" أعتذر يا جميلة.....لم أرد إجفالك"

سحبت يدها منه بخوف وقطبت جبينها بضيق وسألت بجدية:
" أنت....أنت السيد وسام أليس كذلك ؟"

" وسام....دون سيد رجاءً....أبغض الرسميات"

بابتسامة هائمة غير مريحة رد عليها فتابعت بنبرة حاولت أن لا تكون فظة :
"كيف دخلت؟....لم أسمع الجرس!"

أمال جذعه ساندا مرفقيه على السطح المعدني الأكثر ارتفاعا من الذي تعمل عليه وهمس بصوت رخيم!..:
" يوجد باب خلفي خاص....لا جرس فيه!"

امتقع وجهها وابتلعت لعابها ترطب حلقها الذي جف رهبةً لحظة إجفالها ثم فتحت الأدراج القريبة منها باحثة بتوتر ظاهر عن لاصق طبي ولم تكن ترى أمامها جيداً ....مشتتة تماماً!!..... لتُجمّد بحثها لما مدّ أمامها واحدا يلقي غمزة جريئة لها هامسا بمكر مبطن:
" أتبحثين عن هذا؟"

هزت رأسها بـ نعم ومدت يدها لتأخذه وهي تشكره بخفوت لتتسمر مكانها لما لم يعطه لها بل دنا منها مجتازا الحدود حتى كاد يحشرها بينه وبين السطح المعدني خلفها وهو يتابع بنبرة خافتة مقصودة:
" مدي يدك لأضعه لك بإحكام..."

استجابت محرجة ثم سرت قشعريرة في جسدها خوفاً عندما شعرت بقرب أنفاسه الساخنة منها وهو يهمس :
" حرامٌ على هذه الأنامل البيضاء الرقيقة أن تعمل...."

خطفت يدها من أمامه مرتاعة لحظة انتهائه من مهمته معها وعادت لتشكره مجاملة وفي داخلها كمٌّ هائل من الشتائم والدعاوي تنهال عليه بسبب انزعاجها منه والقلق الذي يساورها!!....لاحظت كم أنه شخصٌ غير مريح خلافا لوالده....رغم أنها لا تنكر بأنه يعتبر وسيم.....طويل بجسد متناسق وبشرة سمراء بملامح جذابة ....ولكن شخصيته المستفزة اللعوبة منفرة جداً .....خاصة لمن مثلها!....فتاة لا دخل لها باللعب ولا بالعلاقات كلها وكيف إن كانت تعشق رجلاً وذائبة في هواه ....ولا ترى غيره......زوجها وأب طفلها...؟!.......ابتعد قليلاً يتيح لها التحرك ويتيح لنفسه تقييمها بشكل أدق عن كثب ....كانت تعمل وتتمنى أن تنشق الأرض وتبتلعها ....احمرار خديها وتأثيره عليها وارتباكها أعجبه جداً......بدت له شهية .....فاتنة بشكل جنوني رغم أنها لا ترتدي لباسا مغريا.....لكن الحزام الذي نحت خصرها وأظهر رسمة جسدها جعله يدرك كخبير نساء الحسن الذي تحمله ...دمية الباربي... هكذا اسماها بعقله ...وكان يكفيه السحر في عينيها والجمال في وجهها والنعومة القاتلة في بشرتها !! ....ليضعها فريسة لرغباته الوقحة !!......أكملت عملها دون إنجاز.....فيدها تتحرك ببطء مناقض لعقلها المسرع بالوساوس والهواجس..!!......ضاق المكان عليها وضيّق أنفاسها وخاصة وهو يطلق صفيراً منغماً بخباثة ...تركت السكين من يدها وبدأت تحرك كفيها تهف على وجهها المشتعل من سوء أفكارها به!!.....لم تنتبه لشظية صغيرة من البقدونس المفروم كانت عالقة على اصبعها وأضحت على خدها بسبب حركتها......لمحها بنظرته الدقيقة المتفحصة من كان يسند نفسه على دولاب المطبخ يكتّف ذراعيه ببرود وهو يراقبها فاستقام يرفع زاوية فمه بابتسامة ثعلبية مقترباً نحوها....نكست رأسها هاربة من عينيه التي تخترقها فانحنى قليلا بجذعه ومد سبابته لذقنها يرفعه لها تزامنا مع حركة من ابهامه ليزيحها عنها فانتفضت متكهربة مقشعرّة وصرخت بحدة تنهره:
" سيد وسام ...ماذا تفعل؟!.."

رداً باسماً بنبرة لعوبة:
" لا تخافي يا فاتنة.....هنالك قطعة بقدونس على خدك ..."

بصوت مرتجف ومشاعر مختلطة من الاحراج والرهبة همست راجية:
" لو سمحت سيد وسام....ابتعد أريد أن أكمل عملي..."

واستدارت تتابع تقطيع الخضار وإذ به يغلق الطريق من خلفها بجسده الذكوري ونيته الشيطانية.. يميل من فوق كتفها ...يدنو من عنقها الموؤد تحت الحجاب مغمض العينين يستنشق بانتشاء هامساً بوقاحة ودناءة :
" تفوح منكِ نكهة أناناس ....أهو عطر أم صابون أم ماذا؟؟"

صاحت بارتياع وهي تستدير بطلاقة تدفعه من صدره:
" ابتعد...أرجوك ...ابتعد عني!.....ماذا تريد؟.."

ببرود وعدم إحساس أطلق ضحكة مبتورة وهو يستجيب لدفعها له متعمدا وقال بجرأة:
" أريدك....تعجبيني...."

صرخت بنبرة دفاعية تتشبث بما عندها عله يعتقها:
" لطفا سيد وسام.....ما هذه الجرأة؟!....انا امرأة متزوجة.....ألم ترَ ابني هناك؟"

" رأيت.....أود أن أقول يا حظ زوجك ...لكنه لا يستحق أي كلمة جيدة ما دام يترك هذا السحر الناعم للشقاء والعيون الجائعة....!!...لا بد أنه أحمق!..."

وعاد ليقترب منها بسفاهة وفجور هاتفا بغرور:
" إن تماشيت معي....سأعطيكِ مالا يغنيك ولا تحتاجي لأي عمل يشقيك.!!..."
ليباغتها يمد ذراعه الطويل يتحسس خدها بظهر اصبعه بطريقة مقززة ونظرة وله مريضة الفكر هامسا:
" يا ويل قلبي على هذه الفتنة التي تحملينها!..."

أبعدت يده بعنف وصرخت بشراسة:
" أنت قليل أدب ...ابتعد!!.. لا تلمسني...أو سأصرخ...."

حشرها ضاحكاً وهتف بثقة نجسة:
" أستطيع أن آخذ ما أريد منك بسهولة....في هذا الوقت لا يرتاد مطعمنا الزبائن ولن يسمعك أحد......ثم أنتِ عاملة عندنا وطاعتك لرب عملك واجبة"

ثم مد يده قبل أن ترد بحرف ليجذبها إليه بفظاظة فقاومته وهي تنفجر بكاءً كله حرقة وألم وسخط من كل شيء وعلى كل شيء تتوسله أن يتركها....تخبره عن ابنها...تهدده بوالده الطيب....تشد على عينيها لا تقوى على رؤية مصيرها هذه الساعة...تفتحهما فترى ظلام الظلم يحيط بها ...تقاوم والعبرات تغرقها...تدفعه والضعف بأطرافها يخيفها فماذا تكون قوتها بجسدها الغض النحيف مقابل جسده الصلب؟!..حاولت قدر الإمكان عرقلة يديه من الوصول لياقة قميصها....تخدشه بشراسة وهي التي تئن متألمة على حالها... أناتها نصفها مكتومة ونصفها تخرج متقطعة مع تقطع أنفاسها...شراستها دفاعية وشراهته بالنيل منها مرضية.... ولم تعلم كيف واتتها الفكرة بأن تضربه بساقها بين ساقيه بأقوى قوتها التي نبعت من غلّها وكراهيتها قبل أن ينجح بشق أزرار قميصها فابتعد مجبراً موجوعا منحنياً يشتمها بكلمات نابية....سافرة....كلها بذاءة لا تليق إلا ببنات الليل وهربت مستغلة انشغاله بألمه منتحبة...تجر عربة ابنها مسرعة ..خارجة من المكان المشؤوم الذي كان سيكون رزقها وأضحى عارها....حجابها غير منظم وملابسها مبعثرة ....الصدمة مما عاشت ترج كيانها ...وجهها مصفر لا دماء تجري بمنابعها...حلقها جاف...تبخرت المياه من جسدها....يهتز بدنها النحيل ...وتشهق بقسوة تمزق أوتارها....نوبة نشيج داهمتها لا تستطيع إيقافها ...الصراع معه أنهكها ....أنين يفتك بروحها ...تتأوه من لمساته... كارهة.. مشمئزة... .تركض والعربة تسبقها.....لا تعلم أين تذهب وأين تتجه....الرؤية أصبحت ضبابية.....كل الطرق متشابهة أمامها ....كلها معبدة بالخذلان والأوجاع...وكلها لا تأخذها إلا للضياع.....رأت الوجوه التي تقابلها جميعها كأنها وجوه الشياطين....تسرع خطاها والخوف على ابنها كان وقودها كي تتحمل ولا تنهار....تجري وتجري حتى وصلت لحديقة عامة بسيطة على طرف شارع......دخلتها والدموع لا تتوقف من سماءيها ....تنزل بتدفق وتبلل قميصها ....ألقت نفسها على أول مقعد خشبيّ بهتت ألوانه من عوامل الطقس يصادفها.....حاولت ترتيب ملابسها تخفي ما كان ممكن أن يسلب منها .....كانت منهكة...متعبة....تفقد ..حصانتها.....تلهث وتلهث لم تتحكم بأنفاسها ...أوصالها مرتجفة...وقلبها ملتاع....ناقمة...حانقة....تسبّ كل شيء يأتي ببالها....استيقظ ابنها فحدقت به بضياع والعبرات تغشى عينيها ...حملته وهي تشهق من أثر نشيجها وحملته تحتضنه بقوة تستمد منه بعض الأمان ....داعبته دون روح لتعطيه اهتمامها الفطريّ....شرع بالبكاء ليزيد بالضغط عليها ....حاولت اسكاته ولم تفلح فأخرجت زجاجته المعدّة سابقاً وعدلت جلسته بحضنها لترضعه وأوصالها ما زالت ترتجف ...هو يأكل يملأ معدته الصغيرة....وهي تفكر بحياتها المريرة.... لما انتهى أرجعته للعربة تثبّت حزامه عليه.....بعد نصف ساعة استطاعت أن تستكين قليلاً......شعرت بالغثيان ..الجوع يعتصر معدتها....لم تفطر في البيت وأجلته للعمل.....ولكنها انشغلت هناك ثم انتهى يومها قبل أن يبدأ بمأساة حُفرت في ذاكرتها لتضعها عند شبيهتها السابقة......حادثة (صلاح) ....ثاني تحرش تتعرض له في عمرها الصغير...ما ذنبها بجمالها؟...لمَ تصادف حثالة البشر وهي وحدها؟!.....تشعر بالازدراء من كل شيء حولها.....ستعود للبيت بعد أن تهدأ كي لا تلفت نظر مربيتها وتزيدها اوجاعا عليها....فيكفيها أنها تتحملها مع مصائبها!!...لا ينقص أن تضيف همّا فوق همومها!! ...ارتأت البقاء في الحديقة تتنسم نسمات عليلة تبرد احتراقها بكل ما فيها!!.....تذكرت قطعة الشوكولاتة التي بحقيبتها.....أخرجتها تسكّت نداء معدتها ....فتحت الغلاف وقضمت أول قطعة منها برقتها المهلكة....كان ابنها يلعب بلعبة معه وهي سارحة تسترجع أوجاعها التي تتبارى لقتلها.....تنهّدت بعد أن ابتلعتها وقبل أن تقربها مجددا لتقضم لقمتها الثانية وقع نظرها على طفلة بائسة....تقف بالقرب منها....وجهها مغبر...شعرها مشعث...ملابسها بالية.... تطالعها بحسرة وخاصة على اصبع الشوكولاتة الذي بيدها وتسرط ريقها بجوع قاهر...!!....نظرت إليها بتحديق تتأمل حالتها الرثة...تبدو ابنة ست سنوات ....دارت الذكريات بعقلها لتتذكر كلامي لها في يوم لم تنسه.../// " * لا تعلمي !!...من الممكن أن يأتي يوماً وهذه الصغيرة يصبح لها شأن ومكانة عظيمة وربما أنتِ في حينها تكونين من تستجدي اللقمة لإطعام طفلك الجائع ويضعها الله في طريقك كرزق...لذا لا تغلقي الأبواب أمامك!!...* "\\\.....قناعة تامة داخلية بكلماتي اجتاحتها وشعرت بغصة تختلج صدرها......رأت كم كنتُ محقاً وخاصة عندما عاد صدى صوتي يرن بمخيلتها وهي تتابع نفس الذكرى والموقف ......///..." * تقلب الموازين في لحظة....تنتقلين من مكان لآخر برمشة عين !!...تكونين في نعيم السماء وفجأة تجدين نفسك في قعر الأرض !!.... لا تدري ماذا يخبئ لك الزمن......ارجو ان لا تري هذا اليوم.....هداكِ الله..* " \\\.....انسكبت عبراتها مع انسكاب ذكرياتها وحدّثت نفسها كأنها تحدثني متسائلة بضياع ووهن " كيف تنبأت بمستقبلي.؟!...أيا ترى كنتَ تدرك أن هذا سيحصل لي فعلا؟!.....كم قاسي وصعب الأمر عليّ...صعب جدا.......في السابق رافقتني بقوتي وعزّي ...واليوم تتركني في قمة ضعفي أتجرع الويلات وحسرتي وحيدة....لا سند ولا معين .....كم نحتاجك الآن ....أنا وأخرى قطعة من روحك...ابنك الذي يحمل دماءك......أين أنت؟!...أين....وربي نحتاجك أكثر من ذي قبل...".....خرجت من ذكرياتها وحديثها لنفسها تسحب أنفاسها وتمسح دموعها بظهر كفها....مهما اكتوت بنار الاحتياج لن تُقبِل...مهما نبض نابضها بالغرام لن تعود.....فهي ذات كبرياء عالٍ وهو ما تبقّى من عزها وثروتها...أنه ميراثها الوحيد الذي ستتشبث به وتحافظ عليه ولن تحيد مطلقاً عن قرارها!!.......تنهّدت ورسمت بسمة عطوفة على ثغرها ثم نادت بحنان وهي تمد يدها تحركها نحوها لتأتي:
" تعالي حبيبتي عندي......."

اقتربت منها فرفعت يدها تضعها على كتفها تمسده بحنوٍ مغاير لاشمئزازها في الماضي لمن هم بمظهرها وهمست بنعومة:
" ما اسمك"

ردت ونظرتها لا تفارق ما بيد تلك:
" نورا..."

قالت بمحبة ومداعبة وهي تمد لها اصبع الشوكولاتة:
" هذا لكِ....لكني سرقتُ منه لقمة ...سامحيني!..."

تهللت أساريرها بفرح عارم وسحبتها من يدها بالحال لتضعها في فمها وولت تركض مدبرة حتى دون أن تشكرها من شدة لهفتها وجوعها لتبتسم بأسى من خلفها ثم تناظر صغيرها تحدثه:
" الجوع كافر بنيّ.....اسأل الله أن لا يضعك بهذا الظرف "

بعد قليل مر رجل من أمامها يحمل بالونات للبيع...وقع قلبها لرؤيتها واهتز جسدها وانتفاضة رهيبة حدثت في احشائها ...إنها عقدة طفولتها التي تلازمها....الخوف من الانفجارات...!!....أغمضت عينيها وبدأت تدعو الله برجاء مستضعفة بأن يختفي هذا البائع من أمامها.....أحست بحركة صارت بالقرب منها تزامناً مع مناغاة ونغمات تصدر من صغيرها....فتحت عينيها بذهول لما رأت ذاك الرجل أصبح عندها بابتسامة خلوقة يسألها:
" ما رأيك سيدتي أن