📌 روايات متفرقة

رواية لاجئ في سمائها الفصل الرابع 4 بقلم الحان الربيع

رواية لاجئ في سمائها الفصل الرابع 4 بقلم الحان الربيع

رواية لاجئ في سمائها الفصل الرابع 4 هى رواية من اجمل الروايات الرومانسية السعودية رواية لاجئ في سمائها الفصل الرابع 4 صدر لاول مرة على موقع التواصل الاجتماعى فيسبوك رواية لاجئ في سمائها الفصل الرابع 4 حقق تفاعل كبير على الفيسبوك لذلك سنعرض لكم رواية لاجئ في سمائها الفصل الرابع 4

رواية لاجئ في سمائها بقلم الحان الربيع

رواية لاجئ في سمائها الفصل الرابع 4

*من ألمى إلى هادي*

لمن أشكي من بعدك يا حبيبي همي؟!
و أتلو له فاجعات غمي...
و قد كنت أنت قاتلي و معذبي..!!
فكيف يصير الأمان خوفا؟!!
و الحب حربا..
أينقلب الحنان إلى جفاء؟!
و يحتضر وحيداً الوفاء؟!
كيف تكون داءً بعد ما كنت دواء؟!
كيف يصير حبك علة و قد كان هو الشفاء؟!
أتبخل الشمس يوما بنورها عن السماء؟!
و تهاجر النجوم بحار الفضاء؟!
قلي كيف سأصبر هذه المرة؟!
و قد كنت صبري في كل مرة...
قبلك كان لي وطن كان لي حلم...
و لما أتيت صرت وطني و صرت لي الحلم...
فكيف يا معذبي أتجرع من يديك ويلات الظلم؟!
كيف أتألم منك فيهفو قلبي إليك؟!
كيف تمزق روحي فتخونني لتدافع عليك؟!
ليتك تدري يا حبيبي أنني بحاجتك و كل ما سواه لا معقول...
ليتك لا تصدق أبدا ما أقول...
و لا ترضى بأي من تلك الحلول...
فما من حقيقة في الكون غير أني أحبك...
فلتنهار بعدها كل الوعود لأظل أنا بقربك...
تعبت يا عذاب قلبي فهل تحنو علي؟!
أرهقت أيها الغالي فهل تأتي إلي؟!
(( كلمات أميرة المشاعر نورهان الشاعر))

×
×
×

" ليس هكذا تنال منه!!.....سنحتاجه ليعترف بجرائمه ومن يكونوا أعوانه.....فالمخفي أعظم!!......هو الآن بقبضتنا.......ستدمر كل شيء بغضبك الذي لم تعد تتحكّم به....!!..."

صرخ بها بعد أن فعلَ فعلته.....!!

أتلومونني على غضبي ؟!!....بربكم!....ألا أثور وأغضب بعدما سمعت ما سمعت منه ورأيت ما رأيت....ذاك أبي الحنون !!.. لا تعلمون ماذا يعني هذا عندي!....أبي...من كان لنا الأمان والبيت الدافئ...الحب والحنان...السند ورمز البلد!!..متى يلام الابن في حب والده ؟؟!...هل أقف صاغراً وأنا أتوجع مع أنينه ؟؟!...أأصبر وانا اشاهد تدفق دمائه الطاهرة؟!... هذا النجس سلب مني حياتي بقتله لأبي وكان السبب بخروج روحي مني.....ألمى الروح..!!...هو السبب في شتاتي وعذابي وجرائمه التي لا تعد ولا تحصى بحق الوطن والبشرية...أأنساها له ؟؟!!.... صفحته مليئة وسوداء كسواد قلبه!!....لا نجد نقطة بيضاء واحدة فيها !!......فأمثاله لا يستحقون الّا أبشع ميتة لتشفي غليل ما في الصدور..!!!

أفلتُّ المسدس من يدي حتى سقط ارضاً وأمسكتُ بها ذراعي الأيسر الغارق بالأحمر بعدما اضطر السيد (ماجد) إطلاق رصاصته عليّ مجبراً من مكانه بعيداً عني قرب الباب ليوقف تهوري وهو يرى الوغد كاد أن يلقط أنفاسه الأخيرة بقبضتي !!.....لقد حاولوا كل المحاولات في ايقافي لكني أبيتُ الخنوع!!.....احمرّ وجهي والذي أصبح كأنه مرآة لدمائي الحامية التي اريقت مني!!....صرختُ بألم وكان هذا ألماً من قلبي وليس من ذراعي...فجروحي الداخلية أشد وأعمق :
" سأنال منه...سأسحقه...سأحرقه وأعذبه!!..."

اقترب مني صديقي (سامي) وامسكني حتى أجلسني على كرسي قريبة منا ريثما يصل الاسعاف من مقرّنا القريب بعد أن اعلموهم بشكل عاجل كي يأتوا ويخرجوا الرصاصة ويضمدوا جرحي النازف من عضلي...آآآه يا ذراعي الأيسر الى متى ستتحمل اصابات بسببه ؟؟!..... وكان البعض يهتمون بالوغد ويساعدونه على اعادة تنظيم أنفاسه حتى يأتي طبيبنا مع الإسعاف ..!!...قاموا بنقله من أمامي للغرفة الأخرى عند وصول الفريق الطبي فهم ما زالوا يلاحظون ثورتي وأنفاسي اللاهثة ونظراتي الكارهة القاتلة له مما أدّى لنزف دمائي الحامية بشكل أسرع..!!....ذهب صديقي والسيد(ماجد) للاطمئنان عليه ...بالطبع ليس عطفاً!!...انشغلا ممرضان بي لإخراج الرصاصة والسيطرة على الدم بينما كنتُ أكمش ملامحي وأضيّق عينيّ مجاهداً على دفن وجعي داخلي دون اخراج أي أنّه ..!!...بعد قليل عاد صديقي وكان الممرض يضع لمساته الأخيرة ليثبّت الضماد ....دنا مني وهمس بصوته القلق عليّ:
" كيف أصبحت الآن؟!.."

قلت باقتضاب وأنا أمسك ذراعي المصاب فور انتهاء الممرض ناظراً للضماد ووجهي يبدو عليه علامات الألم :
" جيد!....لا مشكلة!.."

وضع كفه على كتفي الأيمن يشدّ عليه ليبث لي الطمأنينة ويشد أزري مردفاً بلطف:
" سنذهب الى المشفى....حمداً لله أنهم نجحوا بإخراجها دون ضرر كبير ولكن علينا الاطمئنان على الجرح خشية أن يلتهب ويحدث مضاعفات لا قدّر الله...."

قلت بإصرار وضيق مما آل إليه حالي:
" اجلب الطبيب فور انتهائه من الحقير ليطمئن عليه.....لا أريد الارتباط بالمشافي!..."

هزّ رأسه مستاءً من عنادي واتجه الى احد الرجال في الخارج ليعلم الطبيب!!.....بعد انتهائه من معالجة الوغد والذي كان كالقطة بسبعة أرواح ولم يتأذّى قدِمَ إليّ وتفحّص الجرح...عقّمه من جديد ولفّه بضماد أقوى ثم علّقها على عنقي منعاً من تحريكها تفادياً لحدوث نزيف!!.......

مرّت ساعتان على الحادثة...!....كنتُ أقف في الخارج استنشق بعض الهواء النقي فاقترب مني السيد(ماجد) ووضع يده على كتفي هامساً بهدوء وثقة:
" أنت اجبرتني على فعلها يا هادي....هذا آخر شيء كنت سأفكر به!!....لمَ جعلتني أن اؤذيك ؟!....أربعة رجال لم يستطيعوا تحريره من قبضتك..!!"

بقي نظري مثبتاً للأمام بعزّ وإباء سارحاً بالأرض الخالية المظلمة والتُي يكسر ظلامها بصيص من نور القمر المحتجب خلف غيمة تسير ببطء ثم همستُ ببرود دون الالتفات إليه:
" غير مهم!!....حصل ما حصل!..."

قال بصوت متزن:
" سننطلق بعد نصف ساعة الى الحدود وهناك عند باب النفق على أرض الوطن سيكون بانتظارنا فريق من معسكرنا المقابل لنقله مكبّلاً...وكذلك صحافتنا الخاصة..."

أشحتُ رأسي جانباً أخفضه للأرض بمرارة واستدرتُ بجسدي لأعود للداخل هامساً بإيجاز:
" ممتاز!.."

تنحنح وقال وهو يتبعني للداخل:
" بالنسبة لإعلام عائلته أو نشر الخبر بصورة عامة لن يكون اليوم حتى نتأكد من وجوده خلف القضبان!..."

توقفتُ واستدرتُ نحوه بجديّة وشماتة:
" بقي ثلاث ساعات للفجر.... سيكون الخبر بين يدي السيدة ايمان عند حلوله بإذن الله.....وقبل الظهيرة ستفجر قنبلتها !....لن يؤجل أي شيء!..."

اعترض قائلاً:
" لا اظن أن سليم سيوافق.."

بثقة وشموخ ونبرة آمرة مسيطرة قلت:
" المهمة مهمتي وأنا أقرر.....سينتشر الخبر قبل الظهر....اريد ان يستيقظوا النيام عليه!!....انتهى!!..."

ولم يكُن في بالي غيرها....الأميرة المدللة النائمة!...فلتريني كيف ستتثبت براءته !...فأنا متشوق لذلك!....رمت حبي وكأنه لم يكُن يوماً من أجل مجرم وخائن وأنا الذي اضعتُ عمري محترقاً بعينيها...!!...هيا يا مدللة ......قومي وحاربي!.....برّئي من لم يمتّ للبراءة بصلة!....اتحفيني بشجاعتك !!....أتقدرين اثبات أنني الظالم بينما لا سواكِ ظالمة ؟؟!...يا من ظلمتِ حبي!!....اشكوكِ لمن وأنتِ السلطانة على قلبي.؟!...أنتِ الحاكم والجلّاد لروحي.....قومي وتحدّيني بأدلة من سراب..!!.....تعالي وواجهيني يا مستبدّة..!!...على الرحبِ والسعة.....سأكون بانتظارك.....!!

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

تركض في الخلاء ...تتعثر وتنهض .....أنفاسها تتعاقب...تلهث ....وتلهث....جبينها يتصبب عرقاً....تشدّ عينيها بألم....هناك مجهول يلاحقها في الظلام.....تبصر قبساً من نورٍ بعيـــد المدى...تزيد خطواتها الّا أن ذاك النور يبتعد عنها......شهقت بعد أن أمسك بها فهبّت من سريرها مرة أخرى تضع يدها على عنقها بعد أن أحست بشيء يخنقها ويقطع نفسها ....ازدردت ريقها وتنهدت بعمق !!...أضغاث أحلام!!....تذكّرت ما علّمتها إياه بشأن أمثال هذه الكوابيس المزعجة.!!.....تبسّمت بأسى واستعاذت بالله من الشيطان الرجيم وتفلت على يسارها ثلاثاً.......نبض قلبها نبضة حب وحنين والحاجة للأمان.....أزاحت الغطاء عنها....أشعلت نور الأباجورة الموضوعة على المنضدة جانب سريرها.... جرّت قدميها الحافيتين جرّاً دون اكتراث ببرودة الأرض إلى أن وصلت أريكتها لتتناول عنها حقيبتها التي أخذتها معها من بيتنا !!..فتحتها وبحثت بعشوائية عن مُرادها.....أخرجتها ولمعت عينيها بالطمأنينة بعدما استشعرت تأثير حضن صاحب الصورة عليها والتي سرقتها عن مكتبتي !!...ضمّتها لصدرها وعادت إلى مكانها تستلقي جانباً ونسيت أن تغطي بدنها ....أي سحر دافئ غلّفها ؟؟!....لا تشعر بالبرد اطلاقاً....سرحت بالفراغ لتستحضر شعورها بتركيز أكبر عندما تكون بين أحضاني وجسدها العاري البارد يلتصق بجسدي الحامي المتأثر من قربها !!...شقت ثغرها بابتسامة ناعسة نقية ثم حاولت النوم بأريحية بعد أن استمدّت الوصال والسلام من صورة تحمل روحاً وهمية وقبل أن تغفو عاد لها العقل ليذكّرها بصاحبها فعبست مخذولة ومدّت يدها التي تحملها الى المنضدة جانبها لتبعدها عنها....قلبتها واستدارت الى الجهة الأخرى واحتقنت مقلتيها بدموع قلة الحيلة وهمست بتحشرج:
" سأقاوم حبي كي لا احتاجك يا من كنتَ الأغلى عندي.."

~~~~~~~~~~~~~~~~

استعذتُ بالله من الشيطان الرجيم ثم استجمعتُ قواي قبل دخولي الغرفة المجاورة التي يتواجد بها الوغد وقسم من رجالنا يحاوطونه وكان (سامي) يراقب هاتفه بين الفينة والأخرى ينتظر الأمر بالتحرك ممن يتواجدون على ضفة النفق الاخرى في ارض الوطن وعندما أصبحت أمام النجس رمقني بعينين تفيضان حقداً وقال بسخرية:
" لم اكن أعلم أنني زوجتُ ابنتي لثعلب خبيث..."

وتابع بعنجهية:
" أيا ترى عرفت حقيقتك تلك الساذجة أم أنك فعلتَ كل هذا وهي نائمة بأحلامها الوردية بحماقة؟!.."

دنوتُ منه بعظمة وخيلاء راسماً ابتسامة شماتة وافتخار:
" أجل عرفت !!....بما يهمك الأمر الآن؟!.."

انقلبت سحنته بانفعال مكفهرّاً وقال بتلقائية دون التحكم بأنانيته:
" ناكرة الجميل السافلة عرفت ولم تحذرني ؟!...سأريها!!.."

درتُ حوله ثم ثبتّ مكاني من خلفه وأنا محافظاً على ملامحي بينما نيران الغيرة عليها استعرت داخلي وانحنيتُ ممسكاً بقبضة يمناي كتفه وبغلّ وكراهية ضغطتُ حتى كدتُ اسحق عظامه دون أن اشعر من حولي بقوة ضغطتي وهمستُ بفحيح بأذنه:
" احفظ لسانك عنها أيها ألـ***.....صدقني لا تود أن تجرب غيرتي عليها.."
ضحك ضحكة مستفزة بغطرسة وقال بيني وبينه:
" سأطلقها منك ولن ترى شعرة منها ....أساساً لن اتعب نفسي فأكيد هي من ستلقي بكَ كالكلب خارج حياتها.....ابنتي واعرفها!!.....أميرة والدها لن تبيعني بتاتاً مهما فعلت او سأفعل بها وأنت خير شاهد بالماضي يا ......"

ورفع نظره إليّ بتحدي وسخرية:
" صحيح ماذا أناديك....ابن ابراهيم أم ابن محيي الدين ؟!.."

" اعتزّ بكلاهما يا نذل لكن أنت لن تجد من يذكُرك يا قليل الأصل......حتى ابنتك سيأتي يوماً وتعرف حقيقتك السوداء وستخجل أن تُنسب اليك !!..."

كنتُ أحاوره وأنا أعلو قمة الكراهية والحقد لكن من أمامي لا يرضى بالخنوع والاستسلام .....يفضّل الموت مهما أحبّ الحياة على أن يرضخ ويظهر ضعفه ....المكابرة من أكبر سماته والتي يعززها بحقده وتعاليه اتجاه الآخرين فقال بدمٍ بارد :
" اظن انك لا تنتمي لمحيي الدين!!....فهو لم يلجأ يوماً الى أبخس وأدنى الطرق لانجاح مهماته...."

ورفع كتفيه بزهوّ وتعاظم قائلاً بثقة:
" عليّ أن اعترف بهذا....لقد كان ذكياً ونزيهاً وشجاعاً ووقف في طريقي وجهاً لوجه دون استخدام اساليب عوجاء وخادعة مثلك!....أنت مسكين اعتمدت على فتاة لا ذنب لها ....!!.."
حاول أن يدعس على عرق النخوة والرجولة عندي وهو يطلق ضحكاته الكريهة وحاولتُ امساك نفسي والثبات رغم نجاحه باستفزازي داخلياً بسببها وقلت بابتسامة زائفة:
" مع الأسف ذنبها أنها تحمل على هويتها اسم احقر وانجس مخلوق على وجه الأرض...!.."

وقف (سامي) ليخوض الحديث معنا ودنا منه واثقاً بنفسه ثم انحنى يتكئ بكفيه على ذراعيّ كرسي الوغد ليواجهه ببرود:
" ألم تسمع بالمقولة التي تقول وداوها بالتي كانت هي الداء؟!.."

وانتصب بوقفته مردفاً بذات البرود:
" يعني أمثالك داءهم الغدر...المكر.. ...الطرق الدنيئة والنفوذ والجبروت فكان علينا معالجتك بنفس اسلوبك بالضبط والحرب خدعة وانت وقعت بالفخ بعد سنين من الانتظار الحمد لله ..."

ابتلع ريقه وقال بصوت فيه نبرة مطعونة لم تخفَ علينا وركّز عيناه على عينيّ :
" طبعا لا تحتاج المسألة لذكاء لأدرك أنك اخذت كل هذا من خزنتي في العاصمة!!..اي شريحة آلة التصوير وتقارير الجثة ....لكن السؤال ....كيف علمت بشأن الجثة وبالرقم السري؟!....فالخزنة لم يكن عليها أي أثر لاقتحام غريب!!..."

ضحكتُ بثقة وهتفت دون النظر اليه:
" الله يمهل ولا يهمل......السيدة فاتن شاهدة على فعلتك الاجرامية تلك!...وجاء الوقت لكشفها وهي من ساعدتنا على الرقم السري وأتمنى أن يرزقها الله السلامة حتى تحتفل بك وانت خلف القضبان أيها الخسيس!!...فهي أكثر من تستحق رؤية هذه الصورة!.."

استشاط غضباً وصك على اسنانه مزمجراً بحقد:
" العاهرة الحقيرة...فلتذهب الى الجحيم بمرضها ولا تهنأ بعافيتها !!.."

لم اتحمل دعائه عليها فاندفعتُ بخطوة واسعة من غير سيطرة على نفسي ثم لكمته على أنفه بيدي السليمة حتى صرخ متأوهاً ووضع يده مكان الضربة يحاول مسح قطرات الدم التي نزلت وقال وهو يبصق جانباً لعابه:
" سأنال منها تلك الخبيثة....لقد كنت اطعم أفعى في بيتي!..."

تدخّل السيد(ماجد) مقاطعاً لحديثنا بعد سماعه جملته الأخيرة لحظة دخوله من الباب:
" فكر كيف ستنقذ نفسك من حبل المشنقة أيها المعتوه!!.."

أجاب من فوره بعنجهية وضحكة ثعلبية:
" لا تقلق.....سأخرج منها مثل الشعرة من العجينة!....لن اعترف بشيء حتى صوتي بالشريحة لا يتطابق تماماً مع صوتي الآن بسبب قِدَمها وسأقول أن احدهم افترى عليّ وطبعا سيكون في ظهري أكبر المحامين.."

ضحك السيد (ماجد) وقال:
" حسناً احلم كما تشاء فالحلم لا يوجد عليه جمرك..."

والتفت صوبي انا و(سامي) قائلاً بجدية:
" هيا السيارة جاهزة.."

اعطينا الاشارة لاثنين من عناصرنا لتكبيله بحبل متين ووضع لاصقاً على فمه وغمّ عيناه بالقماش الأسود وأركبناه مرغماً وسط مقاومته البائسة لتحرير نفسه حتى وصلنا الى الحدود والنفق ثم أرض الوطن....!!

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

استيقظت من النوم وكانت الساعة الحادية عشر ظهراً.....أنزلت ساقيها عن السرير تضع قدميها أرضاً ولم تستطع النهوض بالكامل...مرهقة جداً!! ....وضعت يديها على رأسها تشد عليه من شدة شعورها بثقله عليها...غضنت جبينها متأوهة وجاهدت لتقف مكانها وما إن ثبتت منتصبة على قدميها حتى عادت وارخت جسدها لتسقط مجدداً جالسة على السرير بوهن.....نامت وقت كافي بعد الكوابيس الّا أنها تشعر بحاجتها للنوم أكثر!!.....انزعجت من نفسها لمَ اصبحت هكذا؟! فقد كانت تكفيها الست ساعات وهذه الليلة نامت اربع ساعات اضافية عن المعتاد وجسدها يطمع بالمزيد.....ومعدتها لم تعد تحتمل الجوع....انها منذ أيام لا تأكل بشكل كافي بسبب توعكها البغيض وهذا الجوع يزيدها ألماً وغثياناً.....شجّعت نفسها مرة أخرى لتقف وقامت بترتيب منامتها الخفيفة التي كانت تكشف عن فخذيها بسبب جلوسها ومشت بتثاقل تتثاءب برخاوة ...وفجأة شدت جسدها بتأهب وعينان جاحظتان بعد أن اخترق مسامعها صرخة آتية من الأسفل صدحت في الأرجاء!....لم تعطي لنفسها مهلة لتستوعب بل انقضت على الباب تفتحه بهمّة حافية القدمين فلم تعي انتعال خفيها....نزلت السلالم على عجلة بقفزات سريعة تختصر عدد الدرجات رغم صداعها وشعورها بالدوار حتى وصلت آخره وتوقفت ناظرة للذي يحمل صحيفة بيده يلوّح بها بغيظ ومن صدرت منها الصيحة تجثو على ركبتيها متسمّرة في ارضها دون تصديق لما حدث..!!....اقتربت بحذر وارتباك تهيء نفسها لكارثة هي أكثر من تفقهها فأخرجت صوت أبح ضعيف جاهدت ليصلهما:
" مـ...ماذا جرى كرم ؟!.....ما بها الخالة سوزي؟!...."

رفع يده يمد الجريدة نحوها ووجهه لا يبشر بالخير هاتفاً:
" تم القبض على والدك في أرض الوطن بتهم عديدة لم يذكروا تفاصيلها.....انظري للصورة......لقد التقطوها له الثوار على الحدود!..."

مدت كلتا يداها المرتجفتين وكأنها عجوز في التسعين من عمرها لا تقوى على حمل ورقة.....أخذتها كارهة هذه اللحظة التي ستشوه عيناها بذاك المنظر الذي تخشاه لوالدها والذي تمنت حتى آخر العمر أن لا يتحقق!!....بسطت الجريدة المطوية ليقع نظرها على صورة تحتل نصف الصفحة لاشخاص بوضع جانبي قليلاً ومعالم وجوههم مظللة لاخفاء هوياتهم وأجسادهم واضحة ولم يفتها جسد والدها ولباسه وهو مكبّل يتوسط رجلان ضخمان...احدهما يمسكه من ذراعه ليدفعه للسير وهو صديقي والآخر ذراعه معلّق بعنقه ولن تحتاج لأدلة لتتأكد من هويتي فلقد عرفتني ايضاً من وقفتي وجسدي وملابسي ولم تهتم لإصابتي بقدر اهتمامها لمن أصبح أسيراً بقبضاتنا!!.....كانت تحدّق بالجريدة الراقصة بين يديها اثر ارتجافها وكانت الدموع تهرول ساقطة لتبلل الصورة المشؤومة عسى أن تمسحها من أمامها ولكن وا أسفاه من سيمسحها لها من ذاكرتها ؟!....
تمتمت بهمس ينبئ عن احتضار قوتها لتعلن جملة النهاية في حياتها بعد أن دفنت آخر أحلامها:
" لقد فعلها ...كما قال... دون ان ينتظر ....ودون أن يرحمني !..."

ركّز سمعه وبصره وجلّ حواسه لما قالت ورفع حاجبه سائلاً:
" من هذا الذي فعلها ؟!.."

رفعت حدقتيها ترمقه بنظرات لا معنى لها بينما الدموع ما زالت تتدفق دون سيطرة منها وهمست والغصات تعيق أنفاسها:
" يامن.....يامن من فعلها ....ظننتُ أن سيرق قلبه ولن يفعلها بي....لكـ....لكنه ها هو فعلها!...هو من خطط للقبض على أبي"

استعادت قوتها المسمومة واستقامت واقفة لتنقضّ هائجة مندفعة نحوها لسماعها جملتها ثم امسكتها من تلابيب منامتها وهزّتها بقوة صارخة في وجهها دون رحمة:
" أيتها الفاجرة الخائنة....هل تكتّمتِ عمّا عرفتِ وساعدتيه ضد والدك ؟!..."

بكت بكاءً يحمل كل المرارة وعلا نشيجها دون أن تتمكن من الدفاع عن نفسها فسحبتها تلك نحو الباب لتطردها وهي تغرز اصابعها بين طيات شلالها الاسود لتمسكها منه والذي طالما كرهته بينما كان يعلو اكثر نحيبها مع محاولاتها بتحرير نفسها منها وهي تتلوى ألماً وتتوسل فالأفعى تمتلك جسداً ببنية أقوى وما يزيدها قوة هو كيدها وحقدها عليها :
" ارجوكِ ....ارجوك خالة اتركيني إنك تؤلميني..!!.."

تقدّم ابنها منها ومسكها محاولاً ابعادها عنها قائلاً:
" لنفهم اولاً القصة...!.."

صرخت برفض:
" ماذا سنفهم من سافلة باعت والدها لزوجها ؟!.."

ثم اطلقت ضحكة شيطانية بشماتة متابعة:
" وها هو زوجها ألقى بها كالكلبة بعد أن أخذ حاجته منها..."

واكملت بسحبها بحركات عنيفة تصمم على اخراجها فصرخت أخيرا بها:
" أنا لم أبع أبي ....لم أبعه وسأسعى لتبرئته!..."

استطاع (كرم) تحريرها من قبضة والدته التي قالت بسخرية:
" عن أي تبرئة يا غبية تتحدثين؟!...لا بد أن لديهم أدلة ترسل والدك للجحيم!..."

صرخت بغيرة:
" اصمتي....كل ما لديهم مزيف ليوقعوه هؤلاء الانذال!!.."

ردت الأخرى صارخة :
" اذهبي الى جهنم لتبرئته ...لم يعد لك مكان هنا بيننا!.....هيا اخرجي..!!."

قالت بقهر:
" لن تستطيعي طردي من بيت والدي !.."

ردت بغطرسة:
" لا شيء لكِ يا وقحة بعد أن تزوجت وأصبحت تحملين اسم عائلة أخرى!..."

لقد ظنت أن القصر عاد لعصمة زوجها الخائن كما ادّعى امامها ذات يوم ليحافظ على كبريائه المزيّف.....!!

هدرَ بهما هاتفاً بصلابة:
" كفى!!.....على أي أساس تتقاسمان الورثة؟!....هل تظنان أنها ستبقى لكما؟؟!.....خلال ساعات ستتجمد كافة حساباته بالمصارف وبما فيهن الخارجية وستصادر أملاكه جميعها سواء شركات او بيوت!.."

ونظر إلى (ألمى) متابعاً:
" ألم تقرئي السطر الأخير أن مسؤولون ذوي مناصب مرموقة في بلاد الأم طلبوا من هذه البلاد مصادرة اوراقه وملفاته من أجل التحقيق وكذلك تجميد حساباته؟؟!...يعني سيصبح كل شيء هباءً منثورا.....!..."

هزّت رأسها برفض وهي تشدّ على شفتيها المرتجفتين انفعالاً وأرسلت دموعاً صامتة لتتلألأ على وجنتيها فوجّه كلامه لوالدته:
" أمي....وضّبي اغراضنا.....يجب الرحيل فوراً قبل أخذ كل شيء منا!!..."

سألت بصدمة:
" ماذا سنفعل واين سنذهب؟!.."

قال:
" سأحجز الآن حجز فوري على الشبكة العنكبوتية قبل تجميد الحسابات لأقرب طائرة تأخذنا إلى أخوالي وجدي في هولندا... لقد عادت شبكة الاتصالات والعنكبوتية للعمل في الصباح....وهناك نتدبر أمورنا..!"

سألت مستنكرة:
" وجامعتك؟!.."

رد بلا مبالاة:
" أي جامعة أمي ؟!...تعلمين أنني لا اهتم بها والآن حريتنا هي الأولى قبل أن نغدو على الرصيف !!.."

توسعت عيناها مرعوبة وهتفت بريب:
" وأنا؟!....ماذا سأفعل؟!.."

" اذهبي وتوسلي ابن الهاشمي ليأويك في بيته ولا تنسي دموع التماسيح للتأثير عليه ...."

ورمقتها بنظرة من أسفلها إلى أعلاها متابعة بفحيح خافت:
" أو استخدمي دلعك وجمالك الذي تتباهين به.....أم أنه اكتفى وسيبحث عن غيرك؟!.."

قالتها بسخرية وهي تتطلع عليها ثم اشاحت نظرها لابنها مردفة:
" وكأننا نحن مجبرون بها!........هيا بنيّ احجز كما قلت وانا سأذهب لأرتب حقيبتي وحقيبتك واخرج المجوهرات ..!!.."

ولمّا صعدا الى الأعلى غائبان عن انظارها جلست بقلة حيلة على درجة السلم تمسك عاموده الخشبيّ بانكسار وحزن شديد تملّكها على حالها وبعد دقائق قليلة قرع الجرس فهجمت لتفتحه تحمل الأمل معها غير مكترثة لملابسها البيتية لتتفاجأ بالمحامي خاصتنا الذي جاء لتسليمها اوراق بعد ان عرّف عن نفسه وتأكد من هويتها وقال:
" تفضلي سيدة ألمى ....هذه الأوراق تثبت أنك مالكة هذا القصر بأمر من السيد يامن !!..."

صُدمت في البداية من قوله وما يحمل في جعبته لكنها رفضت بعزة نفس واباء قائلة :
" لا اريد أي شيء منه ولا انتظر عطفه عليّ ....اخبره بذلك!.."

قال:
" عفواً سيدتي انا مجرد مرسال بينكما غير أن هذا القصر من حقك....اقرئي الأوراق ....لقد سجّله باسمك بعد زواجكما كاضافة لمهرك وليس الآن فعلها.."

صمت قليلاً وتابع:
" إن لم توقعي وتستلمي الأوراق سيضطر للتنازل عنه من أجل هذه الدولة فهو لا يريده ولا يريد أي مال يأتي من وراءه ...يعني لن يبيعه بيعاً....إما أنتِ أو الدولة ولا يمكنك استرداده لاحقاً !!..."

اعادت حساباتها في عقلها وقررت في النهاية التوقيع من أجل والدها لا غير آملة لربما انه سيعود له يوماً.....بعد أن اغلقت الباب دلفت الى المطبخ لتضع شيئاً في فمها....تكاد تموت جوعاً ....طلبت من الخادمة اعطائها حبة تفاح فهذا ما اشتهته هذه اللحظة.!!......كانت تود أن تفطر كالناس الطبيعيين الّا انها غيّرت رأيها فور رؤيتها للمطبخ وما فيه وقد لاحظت تقبّل معدتها للفواكه والخضروات أكثر من أي شيء آخر.....صعدت الى غرفتها وهي تقضم من التفاحة بنعومة ثم أخرجت هاتفها القديم لتشغّله بعد معرفتها ان الاتصالات عادت فالجديد تهشّم في بيتنا اثناء حربنا الاولى!!....نجحت بفتحه وتبسّمت ابتسامة واهية لانه ما زال يعمل واتجهت لحقيبتها التي كانت معها في سفرنا تبحث عن الشريحة لتحاول الاتصال بصديقتها (ميار) التي اشتاقت لها بشدة ولثرثرتها عسّى أن تخفف عنها وتقف جانبها الّا أنها انتهى بها المطاف صافعة جبينها بعد تذكّرها أنها لم تأخذها عن المنضدة الموجودة جوار باب بيتنا الهاشميّ حيث وضعتها لها!!.....خرجت من غرفتها بخيبة أمل وملامح الانهزام تكسو وجهها الجميل ومع خروجها خرجت الأفعى من غرفتها الزوجية وتبعها ابنها يجر حقيبتيهما ....هدر قلبها بوجل من فكرة أنهما سيتركانها وحدها فازدردت ريقها وهمست برجاء:
" ابقيا معي هنا....لن يأخذوا القصر منا....يـ...يامن سجّله بـ...باسمي..!!..ارجوكما ابقيا...ماذا سأفعل وحدي في بيت كبير كهذا؟!!."

اطلقت ضحكة بغيضة ودنت منها بعتوّ وتطاول هاتفة:
" اذهبي وابحثي عن عمل افضل لكِ....ففاتورة الكهرباء والماء والهواتف ستأتي بعد اسبوعين وإن لم تقومي بسدادها سيقطع عنك كل شيء ووقتها لن يفيدك او يفيدنا هذا القصر الذي سيتحول لقبر ...أظن بتِّ تعلمين أن كل الحسابات ستتجمد ولن تستطيعي سحب قرش واحد!!....ربما لقمة طعام لن تجدي!.."

لم يأبها لتوسلاتها ورجائها ورمقاها بنظرة أخيرة باستخفاف وعنجهية كأنها قذارة ثم نزلا السلالم بعجلة ليتجها الى مطار العاصمة فقد نجح ابنها بايجاد طائرة تنقلهما الى بلجيكيا بعد منتصف الليل ومن هناك سيتوجهان الى هولندا حيث اشقاء (سوزي) يقيمون مع والدها العجوز الخائن الذي كان رئيساً للوزراء قبل حوالي احد عشر سنة ....!!.....رحلا يختفيان عن مجال رؤيتها وسط بكائها المكتوم فتشبّثت ببقايا أمل وبعض الأماني لوجود الخادمة معها في البيت فنزلت لتتسلّى معها علّها تؤنس وحدتها وتخفف من آلامها ولما دلفت الى المطبخ لم تجدها وما إن خرجت حتى لاحظت خروج تلك من الغرفة الخاصة بها حيث انها الوحيدة من بين الخدم التي تقيم معهم وكانت تجر حقيبتها خلفها فهفت قلبها برهبة واتسعت عيناها بصدمة واقتربت منها هامسة:
" أ...أين تذهبين ليلي؟!.."

اسبلت اهدابها تهرب بعينيها عنها كي لا ترى الألم الذي يحتل تقاسيم سيدتها الصغيرة وأجابت بمشقة محرجة منها:
" سامحيني سيدة ألمى ......عليّ الذهاب لايجاد عمل آخر على الفور ...فأنت تعلمين أنني أعيل عائلة بأكملها في بلادي وينتظرون كل قرش مني بفارغ الصبر !!...لا يمكنني أن اتأخر عليهم..."

وسقطت دمعة من عينها مسحتها ثم مسكت يدها بعطف متابعة:
" ارجوك سامحيني سيدتي ....لو كان الأمر بيدي لبقيت معك لكن الله وحده يعلم بظروف عائلتي !!....واسأله ان يفرجها عليك."

أفلتت يدها برخاوة واومأت برأسها توافقها بلا حول ولا قوة منها وحبست دموعها بمقلتيها لألّا تكشف ضعفها وتخدش كبرياءها وهي تشيح وجهها جانباً وهمست بلطف تصنّعته:
" لا عليك ليلي....انت محقة....اذهبي واتمنى ان تجدي ما يرضيك!....لا تقلقي بشأني!!..."

لحظات لتسمع بعدها صوت اغلاق الباب فتسمح لنفسها بالانفجار والانهيار على ركبتيها عند اقرب جدار وتتبع انهيارها بصرخة ألم هزّت كيانها :
" آآآه آآآه.!!.."

لقد بدا المكان موحشاً!!...اندثرت معالم الحياة فيه وتحول الى مقبرة تضم أشلاء الموتى!!.....فتحت مناحة تمزق نياط القلوب كأنها في جنازة لروحها.....استندت بظهرها على الجدار وضمت ركبتيها الى صدرها ترتجف وتنظر يمنة ويسرة بمنظر يفتت الصخر ويمزق الأكباد....كان مشهدها مؤثراً تملأه الأشجان ويثير اللوعة والحسرات عليها ...!!.....رحل الجميع عنها دون أي ذرة من الانسانية .....تركوها تضيع بين توسلاتها لتبث وتشكي همومها لجدران قصرهم العريق الذي بكل ما يحمل من فخامة غدت قيمته كقيمة بيت العنكبوت....بنيَ بجهد ووقت طويل وهدم بسرعة كلمح البصر!!....دثّرت رأسها وخبأت وجهها على ذراعيها المكتفتين على ركبتيها وازداد صوت أنينها وعويلها وجسدها الرقيق يرتجف مع شهقاتها...!!...تملّكها خوفٌ غليظ من مستقبل تجهل معالمه !!...من ساعات تخشى قدومها !!...أصبحت وحيدة في هذه الدنيا الواسعة....أجل إنها وحيدة ....لقد ضاقت عليها الأرض بما رحبت !!..لا أهل ولا جيران ...لا أقارب ولا خلّان!!....وُلدت وحيدة وستموت وحيدة....انتابتها الهواجس لتضاعف قنوتها ويأسها وتفيض باسرافها من أوجاعها !!... رفعت وجهها للسقف تسلّط عينيها النجلاءين الملتهبتين للأعلى فتساقطت دموعاً حارة غزيرة على وجنتيها وسالت على عنقها حتى وصلت نحرها فصدرها ثم استقرت لتكوي قلبها ومن عمق الوجع الذي يسري في عروقها هتفت بأسى وشجى وقهرا لا يُنتسى:
" آآآآه يا أمي آآآآه...ليتك ما أنقذتني من الحريق وتركتني لأرحل معك عن هذه الدنيا الكاذبة القاسية....!!....أتشعرين بي يا أمي ؟!...هل تسمعيني؟!..أترين حالتي الآن ؟....هل شاهدتِ الغنيمة التي قدمتها للذئاب البشرية ؟!.....أين أنتِ عني يا أمي؟.....أتراكِ كنتِ ستحبينني لو بقيتِ على قيد الحياة؟.....هل عرفتِ كيف باعتني خالتي لهم ؟....خالتي التي أحببتها أكثر من أي شيء باعتني وكأنني لا أساوي شيء !!...وهو الذي غدرني ..هو من كان أماني في طفولتي وحضنه الذي لم أنساه...كيف استطاع فعل هذا بي ؟!..لمَ جعلني اذوق الحب معه واتعلم حروف السعادة ومعنى الحياة ثم هدمني ودفنني بنفس الحياة التي ما كنتُ سأحبها لولاه؟؟!...هل أمضيتُ عمري اعشق وانتظر من كان سيرميني الى حتفي بيديه ؟؟!....أنسي أغلى الليالي التي عشناها معاً وإن كانت قليلة ؟؟!...ألهذه الدرجة ابنتك رخيصة يا أمي ؟!.....اخبريني عن ذنبي الذي جنيته لأعيش كل يوم من بعدك بعذاب لا يضاهيه عذاب؟...أم....أم أن الله يعاقبني لأني طلبتُ أن آكل الطعام حينها من يديك وليس من يدي المربية ؟!....هل انزعجتِ مني يومها؟....هل أرهقتُكِ بدلالي فغضب الله عليّ وحرمني منك ؟!...أتراكِ تسامحينني أم أنك لم تعفِ عني ؟!......كيف سأمضي كيف ؟..... سرقوا أبي مني ليضاعفوا عذابي.....ألا يمكنك حمايتي؟....خذيني عندك وانقذيني من جحيم الدنيا والبشر!!.....ياااا رب...ياا رب اقبض روحي وارحمني..!!.....لم أعُد أقدر على البقاء!!.....ليتني أموت وارتاح واريح الجميع مني!....ما عُدتُ أريد العيش بأرض تتسع للجميع الّا لي أنا.!!......أنا عالة على الحياة يا أمي.!!..أنا عالة لا أسوى ذرة غبار!!...لا أحد يحبني كما أحببتني أنتِ!!...لمَ انقذتني يا أمي ولم تتركيني لأموت معك ؟؟!...لمَ؟؟..لمَ؟؟.."

وعادت لتدفن رأسها من جديد على ركبتيها مرتجفة مع نحيبها وشهقاتها التي تخرج بعد أن شقّت لها صدرها لتبقى على هذا الحال الى وقت لم تدركه فقد عزلت نفسها الى عالم آخر كمن تقف تنتظر بين محطتين يمثلان الدنيا والآخرة ....لا عاشت في الأولى ولا نالت الثانية....!!
كان ألمها صعب ...صعب جداً وأصعب ما فيه أنها لم تجد من يشاطرها إياه أو يخفف عنها من حدته وقسوته....ما عاشت وما أحست في تلك اللحظات أعظم من أن يختصر ببضع كلمات ....لو كان الألم شيئاً يتجسد لربما لتشابه مع السماء المظلمة لحظة انشقاقها من البرق...!!....
ولو قال لي احدهم عبّر عن ألمك بكلماتك لاختصرته بـ...
ألم الألمى يؤلمني مهما كذّبتني ولامتني..!!
تحرّكت عــقارب الساعة متمهلة حتى سجلت ساعات عديدة على مكوثنا في المعسكر الثاني الموجود في بلاد الأم بعد ان اجتزنا النفق الذي يربط الأرضين.....اشتد الألم في ذراعي نتيجة اهمالي للدواء الذي اوصوني به وكذلك عدم تعقيم الجرح مرةً اخرى وتغيير الضماد.....كان مزاجي سيئاً للغاية ولم اسمح لأحد بالاقتراب مني....اواجه صراعات داخلي ونيران تلتهم احشائي.....أليس من المفترض أن ازفر أنفاس النصر والراحة بعد سنين لامساكي به ؟!....أليس من المفترض أن يعلو صوت ضحكاتي وان اجهر باحتفالاتي ؟!...لكن محال لم افعل ايٍ منهما.....فقط وجع وجع يجثم على صدري وصداع حاد يلازمني....أصبتُ بالحمى بسبب التهاب ألمّ بجرح ذراعي... أم أنها من الجروح التي تنزف من أعماق حبي وخذلاني؟!....وقد أدّى ما مررتُ به لتأخيرنا في الانتقال الى العاصمة!......كان (عاصي رضا) محبوس في غرفة مشددة بالحراسة لا تستطيع ذبابة الدخول اليه الا بأمرٍ منا ....كنا ننتظر قدوم السيد (سليم الأسمر) الذي قرر المجيء للحدود أما صديقي (سامي) عاد ادراجه الى العاصمة فور وصولنا للمقر لاتمام باقي الاجراءات الامنية كجلب قوات حماية خاصة من الشرطة لنقل المجرم الى المركز الامني الكبير في العاصمة من اجل ايقافه على ذمة التحقيق الى حين موعد محكمته !!.....بعد جهدٍ جهيد أرغمني السيد(ماجد) للذهاب الى مشفى معسكر الثوار لتلقي العلاج اللازم وقد وافقتُ مكرهاً دون المكوث هناك وعند حلول ساعات الليل الأولى بعد هروب شمس الغروب وصل من كنا بانتظاره مع حرسه الخاص وكانت هذه المرة الأولى التي أرى به وجهه مكفهراً... بدى كأنه شخصاً آخراً جُبل على الكراهية يحمل خلفه غضب وغيظ وحقد السنين على غريمه خائن الوطن..!!.... جاء اليوم الموعود وهو مواجهة خصمه وجهاً لوجه....في البداية مرّ الى غرفتي ليطمئن عليّ بعد معرفته باصابتي ثم سأل بغلظة موجهاً نظره المشتعل لمن كان يقف أمام النافذة مكتف الأيدي:
" في أي غرفة موجود الوغد؟!.."

حرر ذراعيه رافعاً احداهما مشيراً الى يمينه بصوت ثابت:
" في غرفة توفيق المتحدث باسم الثوار...!.."

هزّ رأسه موافقاً وقال بصوت أجش:
" جيد...هيا اتبعاني !..."

نهضتُ من السرير مثقلاً بمساعدة السيد (ماجد) وسرنا حتى وصلنا الغرفة المنشودة لنشاهد العرض الخاص بكليهما .....ابتعد الحارسان عن الباب ليركله السيد(سليم) بعنف حتى طرق بالحائط الداخلي مصدراً ضجيجاً جعل المستلقي يفزّ من مكانه وصاح بصوت جهوري هادراً به:
" لا راحة لك أيها النجس!.."

ثم انقض عليه هائجاً بقوة لم تتضاءل منه رغم سنين عمره وامسكه من تلابيب قميصه مكملاً بصوته الغاضب:
" واخيراً وقعت بين ايدينا أيها الحقير.."

ليتبعها بلكمة شديدة انزلها على وجهه جعلته يسقط على السرير خلفه!...لكنه يبقى هذا الثعلب (عاصي رضا) ....لن يسمح لأحد بالشماتة به !!...ضحك بدناءة هاتفاً ببرود اتقنه مخفياً آلامه:
" لقد ضعفت قبضتك أبا معتز ....أين القوة التي كنا نراها بالميادين؟!.."

نطق كلماته من بين اسنانه مجيباً:
" ليست قبضتي من ضعفت ...إنما أنت فقدت الاحساس بالألم من كثرة سواد افعالك اللا انسانية والتي أدّت الى تحجر ضميرك...هذا إن وُجد عندك من الأساس أيها اللعين!.."

هتف بثقة بينما كان بإبهامه يمسح زاوية فمه ليزيل قطرات من الدم :
" هل تظن أنني سأسجن وأبقى مكتوف الايدي؟!....لديّ من يدمركم ويهز مضاجعكم أيها الحثالة!..."

اطلق ضحكة ساخرة يرد عليه بثقة:
" سنسحقك ومن تبعك ولن نبقي لكم أثراً..."

سأل متهكماً:
" ما لديكم ايها المساكين لتثقوا بأنفسكم الى هذه الدرجة؟!..."

اجاب بصرامة :
" كان علينا افلات اول حبة خرز من المسبحة وهي أنت ليلحقك باقي الأوغاد!.....أوتظن أننا لم نعلم من هم؟!.."

بثقة وتجبّر اصدر قهقهة بغيضة وقال:
" لن تصلوا إليهم ."

وحدّجني بخباثة وشماتة مضيفاً:
" من كان يعرفهم لقد مات واخذ اسراره معه!!....محيي الدين لم يخبر أحد عنهم كي لا يعرّض أي شخص للخطر فهو كان يعلم أن مصير من كان يحمل بحوزته معلومات عنهم سيكون الموت.....مثله تماماً..!....لا تنسَ أنني كنت صديقاً مقرباً منه يوماً واعلم كيف يفكر وكيف يحافظ على من يخصه؟!..."

وتابع بضحكاته المستفزة....فصفق يديه ببعضهما من كان يقف نداً له مطلقاً ضحكات جهورية واثقة ثم ولاه ظهره يخطو حتى وصلني واستدار مجدداً ليواجهه واضعاً يده على كتفي وهاتفاً بفخر واعتزاز:
" يقال الذي انجب لم يمت!.."

ناظره بتوجس يحاول قراءة ما بفكره فأردف السيد (سليم) وهو يربّت على كتفي:
" محيي الدين رحمه الله كان قد ترك عناوين واسماء والغاز برموز مشفرة لثقته أن ابنه يستطيع فكّها!!....وها قد حان الآن وقت استعمالها لنسقطكم واحداً تلو الآخر من غير رحمة!...."

ابتلع ريقه وفكّ اول زر من قميصه المبعثر متمتماً:
" حتى وهو ميت لم نسلم منه ذلك الخسيس!.."

رؤيته لوحدها تضني اعصابي وصوته يثير اشمئزازي وكيف إن تجرأ على أبي؟!....هجمتُ عليه مصعوقاً ساخطاً بعد أن أثار حفيظتي وقبضته من عنقه مجدداً محدجه بنظرة قاتلة ومزمجراً به:

" اصمت ولا تأتي بسيرة أسيادك الشرفاء أيها النجس!..."

رفع يده آمراً بنبرة جافة وصوت جهوري:
" اتركه يا هادي....لن يخلص منا....سيرى الويلات قبل أن يتمنّى الموت!..."

ثم جلس بأريحية على كرسي جانبي واضعاً ساق فوق الآخر بعد أن حررتُ الوغد وهتف يتابع حواره معه:
" من كنت تدعمهم سيبيعونك بقرش.....الآن أنت أصبحت كما ولدتك أمك بفارق صغير أن صفيحتك مليئة بالذنوب والجرائم .....ما اقصده أنت الآن صفر اليدين!....لا مال...لا جاه...لا منصب....وحتى هذه ملابسك ستخلعها ولن تضعها على جسمك مجدداً....لم تعد تملك أبسط الاشياء حتى!.....لقد تم الحجز على جميع ممتلكاتك..."

وضحك بسخرية مستطرداً:
" زوجتك المصون وابنك بعد ساعات قريبة سيكونان بهولندا عند والدها ...أما ابنتك!..."

تعاقبت انفاسه وشحب وجهه فهتف مقاطعاً جملته:
" ما بها ألمى!....أين هي؟!..."

نطق اسمها من بين اسنانه وكأنه ألقى على قلبي قذائف تحوله الى اشلاء وتزيد من اوجاعي!...ألمى!....سمائي!..حتى في هذه اللحظات الأقسى عليّ اخترقت كياني لتحدث زلزالاً داخلي؟!...يا ترى ما اخبارها؟!....ماذا تفعل؟!....هل استطاعت تجاوز ما مررنا به؟!....كيف استقبلت الخبر وكيف تحمل قلبها الصغير البريء؟!....ماذا قررت وعلى ماذا نوت؟!....أيوجد أمل لتعود إلي بارادتها لتنير أرضي؟!....ساعات سُجّلت على فراقنا وأنا اشتاق لها رغم جروحي واوجاعي!...أحبها لدرجة كرهتُ نفسي من حبها!...كيف سيشفى القلب المكلوم وكيف سألملم بقايا روحي في بعدها؟!.....ما أقسى الحياة معنا ...ذاقت دفء احضاني وعشتُ اللجوء في عينيها ثم بكل بساطة.....نفترق دون رجوع!.....صبرٌ جميل والله المستعان..!...ربنا الطف بنا وارحمنا ولا تجعلنا من عبادك القانطين...!!.....
بعد سؤاله عن ابنته حاول الآخر التلكؤ بالرد ليعذبه فصرخ الأول:
" ما وضع ألمى واين هي اساساً؟؟!.."

ببرود ساحق أجابه وربما لا يعلم أنه يسحقني معه عندما يكون الشيء يخصها حتى لو لم يكن حقيقياً:
" لا نعلم عن مكانها....فلتتدبر أمورها!.....انتهت مهمتنا معها!....فقط عليها أن تسعى لتجد مأوى لها قبل الاستيلاء على الاملاك!..."

رغم معرفتي انها مجرد مسرحية ليغيظه ورغم معرفتي بكل الحقائق وأنها ستبقى معززة في بيتها ولن يستطيع أحد اخراجها منه الّا أنني لم اتحمل المزيد من الحديث عنها وبكل ما يتعلّق بها وبمصيرها ومعاناتها فبهمّة نارية تركتُ المكان بمن فيه خارجاً لأتنفس هواءً نقيّاً يجدد قوتي ويبرّد على فؤادي المشتعل قهراً عليها....!!

فاردف ضاحكاً ليستفزه:
" يعني....ستتشرد!.."

ثم نظر الى السيد (ماجد) وقال بذات النبرة يتابع مسرحيته:
" سيد ماجد....سجّل اسمها مع اللاجئين لربما تحصل على خيمة ما ...فهي بالنهاية ابنة الوطن ولا ذنب لها بأفعال والدها السوداء..."

بصوتٍ خفيض ضعيف وقلق عليها سأل مستنكراً:
" كيف...سمح لنفسه ذلك السافل بفعل هذا بها ؟!...أليس هو زوجها ؟!..."

أجابه بهدوء واضعاً عينيه بعينيه:
" مثلما سمحت لنفسك بتشريد العائلات وخاصة عائلته هو ومثلما سمحت لنفسك بقتل والد زوجتك القائد ياسين النجار ومثلما سرقت ونهبت واجرمت دون ان يرف لك جفن....ماذا سنذكر ونذكر فقائمة اعمالك حدّث ولا حرج ....ثم تأتي لتسأل بهذه البساطة كيف فعل هذا بها ؟!...."

تنهد بثبات وأضاف:
" هذا من بعض ما عندكم سيد عاصي!...."

وبكل هيبة ووقار نهض من مكانه منتصب القامة تاركاً خلفه كلب يعيش صراعاته لوحده الى حين قدوم الفريق الأمني الرسمي الخاص بالدولة!....

×
×
×

مع سكون الليل وصرصرة الحشرات انطلقنا متوكلين على الله نحو العاصمة بموكب أمني خاص لنزف معالي الوزير السابق المدعو (عاصي رضا) مع حراسة مشددة الى السجن الامني المركزي ولم يكن ذلك احتراماً له كرجل سياسي إنما كان احتياطاً من محاولات تحريره من حلفائه او حتى اغتياله فمناصريه كثر واعداءه أكثر وخاصة بعد أن اشيع خبر امساكنا به....!!

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

بعد الحروبات مع النفس التي عاشتها كانت قد استجمعت القليل من قواها لتتجه تجرّ قدميها مع أذيال عجزها وانكسارها الى غرفة العائلة ورمت جسدها الهزيل والذي ازداد نحافة بسبب امتناعها عن الطعام على الاريكة البيضاء الطويلة ثم فتحت التلفاز وللمرة الأولى تضع على قناة تعرض الاخبار اربعة وعشرون ساعة يومياً وهي التي كانت اكثر ما تكره تلك المحطات ولم تكن هذه في مجال اهتماماتها اطلاقاً لكن يبدو أنه جاء الوقت لتكون نفراً جديداً من المتابعين وتزيد نسبة المشاهدة والأهم ان هذا كان أول تغيير يطرأ عليها بعد الانقلاب الذي حدث على حياتها وبينما كانت في حالة تركيز تقرأ الاخبار الاخيرة الموجودة على الشريط اسفل الشاشة قرع جرس بيتها وقرع معه قلبها ...الساعة السابعة ليلاً!!....توجست خيفة في البداية الّا أنها لن تغلق أبواب الآمال الجميلة في وجهها لذا قامت بهدوء غير مكترثة لمنامتها المبعثرة وشعرها المنكوش المشعث وجفونها المتورّمة اثر البكاء.....فتحت الباب بحذر وغضنت جبينها عندما رأت امرأة غريبة تقف أمامها....قريبة لسنها وشعرها يصل لكتفيها يميل للأحمر ...حتى أنها لم تستطع تحديد لونه من اختلاط صبغات كثيرة فيه.....ونظراتها غير مريحة نهائي!!....نزلت قليلاً بحدقتيها سريعاً فعضت شفتيها بخجل لاظهار تلك لمفاتنها بشكل ملفت ومبالغ فيه فقطعت الزائرة سرحانها هاتفة:
" هل أنتِ ابنة عاصي رضا ؟!."

ضيقت عينيها وهمست:
" أجل!...بماذا يمكنني أن اخدمك؟!.."

مدّت لها ورقة كانت تحملها بيدها تزامناً مع القاء قنبلتها:
" أنا عشيقة والدك....واريد حق ابني الذي ارغمني على اجهاضه!.."

بردة فعل سريعة وانفعال شديد هدرت بها متخلية عن صوتها الناعم:
" ماذا تهذين ايتها الكاذبة ؟....هل هذه اساليب تسول جديدة تبتدعونها ؟؟!..."

وهمّت باغلاق الباب الّا أن تلك اوقفته بمرفقها بقوة وتابعت:
" أنا لا اكذب ولا اتسول منك!....كنت احمل شقيقك في بطني لكن والدك اصرّ على انزاله ووعدني بمبلغ كبير منذ اسابيع والى هذا اليوم وانا ما زلتُ انتظر.....لكن لما علمت ما حصل له لم استطع الصمود أكثر وجئت لأخذ حقي وحق ابني !!......"

قالت كلماتها بينما كانت تحاول دفع الباب لفتحه والاخرى تدفعه لإغلاقه فصرخت بها فور انتهائها:
" كاذبة... انصرفي من هنا!!...أبي لا يعرف امثالك ايتها السافلة... "

حاولت فتحه بقوة أكبر وهي تصرخ:
" لست كاذبة ...كان يستأجر لي شقة تطل على البحر ويأتيني ليلاً إليها ليستمتع معي لأن زوجته الشمطاء كانت تثير اشمئزازه بتجاعيدها وبالعلامة اسمها سوزان والشهرة سوزي ....صدقيني لا اكذب !....."

وعلت نبرتها اكثر تقول بحدة بينما كانت (ألمى) تكذّبها وهذا كان اكثر ما باستطاعتها فعله والرد عليها :
" اعطيني مالي وسأذهب دون شوشرة والّا سأفضحه واشهر اسمه .."

الشيء زاد على قدرة تحملها....لا يمكنها اكثر من ذلك....طفح الكيل ولا تعلم الى متى ستذوق الويل من الظالمين لوالدها....هذا على حسب ظنها!!...فهي ما زالت تؤمن به وبنزاهته وشرفه !!....لا تعلم من أين قوة غريبة وافتها فضغطت اكثر بجسدها على الباب حتى اطبقته صارخة:
" انصرفي ايتها الكاذبة ....كاذبة!....كلكم كاذبون!....!!.."

ثم انزلقت بجسدها من خلف الباب وعادت لوصلة نشيجها... كانت تغمض عينيها والألم يعتصرها ولم يرحمها وهي تتمتم من بين عبراتها بصوت ضعيف بعد ان هربت قوتها:
" كاذبون!....ماذا بعد ايها الكاذبون؟!...آاه يا أبي....سامحني.... لم استطع الوصول إليك لأحميك منهم قبل الامساك بك ..."

وعند كلمتها الأخيرة ارغمت نفسها للتوقف عن البكاء ومسحت انفها بكم منامتها ثم كفكفت دموعها وقامت عن الأرض الباردة وهي تقول بتمتمة بينما كانت تلك تواصل طرقاتها وتنادي لتفتح لها:
" سأفعل المستحيل لتبرئتك أبي!....تحمّل من أجلي!.."

دلفت الى المطبخ بعد احساسها بجفاف حلقها وكل بشرتها فكل الماء بجسدها فاض خارجاً منها على هيأة دموع بكتها مدراراً.!!...فتحت الثلاجة لتشرب الماء فوقع نظرها على زجاجة عصير برتقال وأخرى لمشروب غازي.!...ابتسامة طفيفة ظهرت على محيّاها عندما تذكرت صديقها (شادي) الذي كان يهتم بما تحب وفعل الكثير من أجلها بالايام القليلة!!....أخرجت عصير البرتقال واخرجت كأس ثم جلست على الطاولة الدائرية الصغيرة التي تتوسط المطبخ وسكبت لنفسها لتشرب....أرهفت السمع لتتأكد من اختفاء الطرقات على الباب بعد أن يئست تلك المومس المتسولة والتي جاءت تفتري على والدها.....كان هذا ما تعزّي نفسها به!....أجل مجرد متسولة لعوبة اعماها الجشع وجاءت تسلب اموالهم !!....ضحكت بغصة للفكرة التي اقتنعت بها بل واثقة كل الثقة منها ثم تنهّدت تسند ظهرها لظهر الكرسي وتتابع شرب عصيرها وما إن اوشكت على انهائه حتى علا رنين الجرس مع طرقات قوية على الباب وقد خمّنت أن هنالك اكثر من شخص .....اتجهت ببطء متسللة حتى وصلت النافذة القريبة من الباب...ازاحت الستار قليلاً فهالها المنظر الذي صاحبه صوت جهوري ينادي :
" افتحوا الباب ....نحن الشرطة .....إن لم تفتحوه سنضطر لكسره !!...."

الى متى سيتحمل قلبها وماذا ستعيش بعد؟!....خفق خافقها برعب ...رجال شرطة كثر مسلحون ويمسكون بكلاب مسعورة متدربة!!....اغمضت عينيها ووضعت يدها على صدرها تسحب هواءً جديداً ثم زفرته بقوة وفتحت لهم ليدخلوا الذين عرّفوا عن انفسهم ووظيفتهم وهم يسلموها ورقة للإذن الرسمي والذي كان بشكل عاجل من قيادات عليا...!!....استلمتها صاغرة دون اعتراض لأنها قد هيأت نفسها بالنهار لهذا المشهد بعد أن ألقى على مسامعها (كرم) الخبر!!....بخيبة سارت لتجلس على اريكة جانبية تتواجد عند السلالم أو بالأصح لتسمح لجثتها الحية بالانهيار فاسحة المجال للدخيلين بالقيام بعملهم دون عراقيل منها ...!!....قاموا بتفتيش القصر متراً فشبر ولم يتركوا ركناً واحداً....الخزنة الموجودة في غرفة النوم وجدوها مفتوحة والاوراق التي بها مبعثرة ليست ذات اهمية لهم ...ولا اثر لأموال او مجوهرات!!...أما في الأسفل وتحديداً في كهفه والغرفة التي شهدت ايام اعتكافه ليطبخ طبخاته فتشوا الرفوف وبين الكتب والادراج وأخذوا ملفات كثيرة والخزنة الكبيرة بما فيها !!....بعد ساعة من الزمن انتهت المهمة بنجاح ...لقد أخذوا ما أخذوا وتركوا ما تركوا..!!.....لم تعد تهتم بما اخذوا وما تركوا ولم تقوَ على مجابهتهم !....هل هي على مقدرة أن تقف خصماً لهذه الدولة الكبيرة ؟!...ما لها وما لهم ؟....لن توقع نفسها بمأزق فكل ما يؤرقها ويأخذ الحيز الاكبر من تفكيرها هو المتواجد في الوطن وكيف ستنقذه ؟!..تحبه وتحترمه ولن تتخلى عنه وستفعل المستحيل من أجله ...لكنها لم تكتفي بهذا!....لقد زادت اصراراً وتحدي لتفرك بصلة في عين غريمها أي انا وتثبت لي كم كنتُ ظالماً وكم كانت هي محقة!!....في ليلة وضحاها أصبحتُ أكبر اهدافها وأسمى طموحاتها بل ألد أعداءها !......بعد أن خرجوا تاركين مخلّفات رهيبة وخسائر فادحة لم تفعلها الزلازل والبراكين بحد ذاتها جالت بنظرها بنظرات تحمل كل الأسى على الطابق الأرضي وصعدت السلالم مجبرة علّها تجد شيئاً يرشدها لطرف خيط!!...عند وصولها لباب غرفة والدها أضناها المنظر المأساوي الذي أحلّ بها !...ملابس والدها غدت كالمماسح على الأرض...اقتربت أكثر وحملت احدى مناماته ثم ابتركت الأرض ساندة نفسها لسريره وباشرت باستنشاق بقايا رائحته منها وهي تقرّبها لأنفها وتضمها لصدرها بحنية واحتياج بليغ لم تطلبه آنفاً مثل الآن ...!!....بعد لحظات من الانعزال في عالمها الخاص وبينما كانت في غمرة روحانياتها ابعدتها كالمجفلة وكأنها تجبر نفسها لعيش واقعها ....لفت انتباهها الخزانة المفتوحة على مصراعيها والخزنة الصغيرة ببابها الموارب فهم لم يحكموا اغلاقها ضحكت بنشوة وكأنها وجدت شيء تتشبث به او ما ينقذه وينقذها وهي تعلم أنهم لم يتركوا شيئاً لها ...لكنها مجرد امنيات طفولية لفتاة وجدت قطعة حلوى تأكلها بعد المرار الذي ذاقته!!....نهضت متكئة بمرفقيها على السرير من خلفها ثم اتجهت إليها وبضحكة مبتورة همست لنفسها بعد أن لمحت خلوّها من المجوهرات " حرصت الافعى على الا تترك خاتماً خلفها "....نزلت بحدقتيها للاسفل وفتحت الدرج الموجود تحت رف الخزنة حيث كان يصفّ ساعاته الثمينة فوجدته فارغاً !!....إنها (سوزي) أخذتها كلها !!....كانت متأكدة أن لا غيرها لأنها علمت عن الاغراض التي أخذوها الشرطة فقد سجّلوها على ورقة وناولوها إياها!.....لم يجدوا مجوهرات وكان جلّ تركيزهم وصبّ اهتمامهم بالملفات والاوراق والاجهزة الالكترونية خاصته مثل الحاسوب واللوح الرقمي....رفعت بصرها للرف الاعلى مجدداً تصوّبه داخل الخزنة واخرجت الاوراق القليلة الباقية فيها ثم شرعت بقراءة ما بها بشكل عشوائي دون تدقيق!!....تقرأ واحدة وتضعها خلف الأخرى...ليست ذات أهمية!!....استوقفتها واحدة اصفرّ لونها بفعل الزمن!...امعنت النظر بها لتستشف بعض ما كتب عليها !!...شعرت بالحنين لأصحابها!...أمها وجدّها ...وخالتها (فاتن)....انهم يتنازلون عن شركة جدها والمصنع وأراضيهم لوالدها .... " يا الله كم كانوا اوفياء له ويحبونه ويثقون به ".... هذا ما جاء في بالها !! ..لقد رسمت في مخيلتها انهم كانوا عائلة سعيدة ووالدها هو المسؤول عنهم بحبه لهم وتفانيه من اجلهم لذا سلّموه كافة أملاكهم!.....لكن لمَ خالتها باعته؟!..لا أحد يشعر بقهرها منها!!..مؤكد سيأتي يوماً وتسألها عن اسبابها...لكن ليس الآن فهي ما زالت حانقة عليها ولا تستطيع مكالمتها!!.....ركّزت للتواقيع اسفل الورقة!...هذا توقيع امها (كريمة)...وهذا خالتها (فاتن)....لكن هي تعلم علم اليقين أن جدّها انسان متعلم ومثقف!...ما به وضع بصمته وليس توقيع بقلم مثل امها وخالتها ؟!...." وماذا في هذا ؟!..."..ازاحت السؤال التافه من دماغها وتابعت تتفحص الاوراق لتتسع عيناها دون تصديق وشهقت بابتسامة شقّت وجهها وكأنها ولدت هذه اللحظة بعد يوم شاق وتعيس عاشته عند وقوع عنوان بيت صاحبة الورقة تحت نظرها !!....يا الله لا تصدق حقاً....كيف لم تفكر بها ؟!....نظرت الى ساعتها وكانت تقارب على التاسعة والنصف!...اعادت الاوراق بعشوائية للخزنة وأخذت ما تنفع غايتها !...

×
×
×

لأول مرة تخرج وحدها في هذا الوقت المتأخر ..في العاشرة ليلاً...بل وماذا؟!...تركب سيارة أجرة!.....كانت الدنيا لا تسعها بعد حصولها على عنوانها....لا تعلم كيف بدّلت منامتها لملابس الخروج...بنطال جينز فاتح اللون بركبتين ممزقتين ويلتصق بجسدها وبلوزة وردية من الوبر الناعم بكمين طويلين .وشعرها رتبته بسرعة ...تضع جاكيتها الابيض الجلدي الخفيف على ذراعها وحقيبة صغيرة تحمل بها عدة ورقات من المال والورقة التي اخرجتها من الخزنة والهاتف القديم الخالي من الشريحة!....لقد جلبته معها كي تشتري شريحة جديدة لاحقاً لكن الأهم الآن الوصول الى صاحبة العنوان !!......بعد ما يقارب العشرون دقيقة وصلت الى غايتها!....الحي القديم!....وهو حي يتواجد في المناطق السكنية لمتوسطي الحال والأقرب للفقر وليس كحيها لفاحشي الثراء!....دفعت للسائق ونزلت في شارعه المسمى بشارع الأقواس المضاء بمصابيح متفرقة بعضها يعمل والبعض يحاول لفظ أنفاسه الأخيرة... تارة يضيء وتارة ينطفئ ...اضاءات خافتة جار على زجاجها الزمن ..!!....اجتازت الشارع بسرعة لتقترب اكثر للحي ....بيوته بسيطة...تختلف الوانها...منها المبني من الحجر القديم ومنها بطلاءات باهتة!!....حملت الورقة تنظر لرقم البيت لتقرر من أي زقاق ستبدأ بحثها....سألت نفسها .." يا الله لمَ لم آتي الى هنا سابقاً مع خالـ..."...وبترت سؤالها وغصة العمر بقسوة وقهر تختلج صدرها...غصة كانت سببها الأغلى عندها ..السيدة (فاتن) الحنونة!!.....لم تستدل من أيها تبدأ!!....كلها متشابهة ولا امارة للبيت الأول!...كانت البيوت متراصة على بعضها وازقتها ضيقة بالكاد تتسع لسيارة صغيرة!...قالت في سرها.." يا الهي ما هذا الاكتظاظ والتشعب؟!..كيف سأجد البيت من بين هذا الكم الهائل من البيوت؟!.."...وكان ما يصعب عليها عملها ويعيق مسيرتها هو الليل وعتمته وافتقار الطرق للانارة القوية!....دخلت احداها على غير هدى لتجرّب حظها....دنت أكثر من اول بيتين صادفاها تتفقد رقميهما ...عبست ببراءة وتابعت طريقها....لم ينفعاها....بعيدان كل البعد عن رقم (53)...فجأة وجدت نفسها بين مفترق ازقة ...طرق متشعبة!!...شعرت وكأنها أرنب في متاهة البحث عن الجزرة!....رقم الهاتف مسجل على الورقة لكنه لن يفيدها فهاتفها لا يتصل!..." سحقاً غبية "....شتمت تلوم نفسها لمَ لم تحرص على شراء شريحة قبل قدومها ؟...ألم تفكر أنها قد تحتاجها ؟!....هل ظنت نفسها في حيها العريق النظامي كل شيء مسجل بشكل دقيق لتسهيل الوصول الى العناوين دون عناء ؟!....غاصت بعفوية تسلّم زمام امورها لقدميها أينما تأخذانها!....ارتدّت للخلف مجفلة تضع يدها على قلبها الذي هدر بفزع بعد أن قفز أمامها قط كبير يخرج من برميل للنفايات! ....لهثت انفاسها من شدة هلعها وكأنها كانت في سباق الماراثون.....تعترف بنفسها كم انها جبانة وقلبها ضعيف!....تخاف من أي شيء دون تفكير !!...اخرجت هاتفها لتستخدم كاشفه بعد أن وصلت الى نقطة دامسة الظلام!!...لم ترَ الا انعكاسات لعيون قطط جائعة ...حرّكته قليلاً للحائط فلمعت لمعة طفيفة قطعة حديدية اكل عليها الدهر وشرب...مليئة بالصدأ لكنها استطاعت قراءة الرقم!...اسدلت اهدابها وزفرت محبطة يائسة لاكتشافها انها بعيدة كل البعد عن البيت المنشود!......شتمت نفسها .." تباً لكِ يا متهورة عديمة التفكير !...الم تستطيعي الانتظار حتى الصباح؟!..."....ارخت كتفيها ونكست رأسها عائدة ادراجها وبينما هي تسير على مهل وصلها من زاوية قريبة قهقهات ودندنات فعاد ينبض نابضها بارتياب ووجل.....لقد شكّت أن اولئك هم من المتسكعين في الطرقات إذ انها كانت تشاهد افلاماً كثيرة ويكون امثالهم في الاحياء الفقيرة يشربون السجائر واحيانا الخمور والويل إن وقعت فتاة بين ايديهم!!...عند هذه الفكرة شهقت تنظّم أنفاسها المرعوبة واسرعت في خطاها دون اصدار صوت منها وهي تلتفت بحذر الى النقطة التي سمعتهم منها ...عجّلت أكثر من شدة ارتياعها فركلت دون انتباه علبة معدنية ملقاة ارضاً فضحت مكانها !....ثواني ليصلها صوت صفير اعجاب من احد الشبان الذي أطلّ من امامها بعد ان لمحها...كيف لا تدري!!...لم تعطي نفسها المجال لتفكر وفقط بدأت تركض وجبينها يتصبب عرقاً وكاد قلبها يخرج من صدرها واضطربت انفاسها ...زادت من سرعتها ....تركض وتركض حتى تعثرت بحجر مبلط يبرز قليلاً عن اخوته فوقعت على ركبتيها وتأوهت تكمش عينيها بحسرة ووجع.!! .قاومت اوجاعها ونهضت من جديد....قطعت مسافة لا بأس بها وعند شعورها انها ابتعدت قليلاً انحنت تضع كفيها على ركبتيها وهي تسعل بشدة ...تنتصب تلقط نفسها ثم تعود للانحناء ...انهكها التعب وفعل ما فعل بها!!..بدت وكأنها عجوز فاقدة لصحتها !....ثقلت حركتها ...نال منها الاعياء الشديد وقيّد قدميها....اصفرّ وجهها اصفرار الموتى من شدة الفزع وكان يهتز قلبها خيفة خلف اضلعها ....استسلمت لجبنها ولانعدام عافيتها .....لا يمكنها البحث أكثر والمغامرة والمخاطرة !!...أحسّت بحركة ما تقترب منها فلم تدري كيف استردت حصانتها لتبتعد اكثر وعند وصولها لطرف الحيّ سقطت جالسة على حافة رصيف سامحة لانهدام حصونها ...اعترتها رجفة هائلة بسائر جسدها صاحبتها ارتجاف شفتيها ....عجزت عن كل شيء!....غدت عاجزة جداً ...كأن شيئاً علق في شعبها الهوائية وشلّت اطرافها...لا سلاح لديها تدافع به عن نفسها ولا دواء تملكه يخفف عن الآمها.... لم تملك سوى البكاء والبكاء فقط !!...لو مرّ أحد وسمع أنينها لأدمت فؤاده عليها...كانت صورة لامرأة جريحة مكسورة الخاطر في حالة ميؤوس منها....ضمّت ساقيها تلصقهما بصدرها علّها تدفئ نفسها بعد موجة الصقيع التي داهمتها ليس من الجو إنما مما عاشت ...بنظرات مكلومة يشعّ منها الأسى تطلعت على الجرح النازف من ركبتها والذي تشعر بحريق يخرج منه!!..ثم رفعت رأسها للسماء بليله الحالك يكسره بعض النجوم.!!..لم تنطق حرفاً.!!..كانت عيناها كفيلة لتوصل رسالتها وهي تبثّ حزنها وتشكو همها لمن خلقها فسوّاها ....!!

[ يا مَن هواهُ أعـزّهُ و أذلني
كيفَ السّبيلُ الى وِصالِكَ دُلّنِي
يامن هواه أعزّه و أذلني
كيفَ السّبيلُ الى وِصالِكَ دُلّنِي
أنتَ الذي حلّفتَني وحَلفتَ لي
وحَلفتَ أنكَ لا تخون فَخُنتَني
وحلفتَ أنّكَ لا تميل مع الهوى
أينَ اليمينَ وأينَ ما عاهَدتَني
تركتني حيرانَ صبّاً هائِماً
أرعى النّجومَ وأنتَ في عَيشٍ هَنِي
لأقعُدنّ على الطَريقِ وأشْتَكي
وأقولُ مَظلُومٌ وأنتَ ظلمتَني
لأقعُدنّ على الطَريقِ وأشْتَكي
وأقولُ مَظلُومٌ وأنتَ ظلمتَني
ولأدعونّ عليك في غسق الدجى
يبليك ربي مثل ما أبليتنـي ]
((الإمام سعيد بن أحمد بن سعيد))
حجبت وجهها على ركبتيها غير آبهة للمكان المتواجدة فيه وكانت شهقات صغيرة تصدر منها بعد أن سكن نحيبها ...دقائق رتيبة مرت عليها وهي صامدة على حالها وفجأة شعرت بخبطات لقدمين ضعيفتين وصوت شيء يطرق على الأرض يدنو إليها....رفعت رأسها بتأهب فظهر لها رجلٌ من العدم....شيخٌ كبير!!...يرتدي ثوب ابيض وفوقه عباءة سكرية بحواف ذهبية...يتكئ على عصاه الخشبية العتيقة وعمامة بسيطة تعلو رأسه...ذقنه تنبت بعشوائية بلون رمادي غامق يخالطه الشيب ..وجهه ابيض وملامحه مريحة...يبدو عليه الطيبة ..سيماهم في وجوههم.!!...دنا منها أكثر واشاح وجهه جانباً يغض بصره وقال:
" السلام عليكم بنيتي!!..."
كانت ما زالت تتأمله ولمّا شعرت ببعض الأمان وتأكدت بقلبها أنه لن يأتيها خطر منه ردت:
" وعليكم السلام.."

" ماذا تفعلين على قارعة الطريق بنيتي ؟!....الوقت متأخر والدنيا غير آمنة لكِ !!.."

" تهتُ في طريقي!!.."

" توقعت هذا....فأنت تبدين غريبة عن الحيّ!!..كيف يمكنني مساعدتك ؟!.."

فكّرت قليلاً...نهضت من مكانها فتأوهت تخرج أنّة صغيرة بسبب ألم ركبتها...نفضت الغبار عن بنطالها من الخلف وأجابت :
" أبحث عن بيت السيدة سهيلة خضور .....كانت مربيتي!.."

×
×
×

* من ألمى لهادى*

لا ...يا من كنت حبيب..!!
طفلة صغيرة انا للحنان تروب..!!
رحلت أمي ومالت شمسي للغروب...
أباً لا يدري بي ولا يؤوب..!!
هو من تبقى لي.. فكيف أثوب؟!
حضناً منك كفاني كل الخطوب...
من هاديٍ حلمت به عمراً شبيب...
سيرتني أقداري لعهد جديد..!!
أب يشترى به مجده التليد..!!
بيامنٍ بين الود والقسوة عنيد...
احكمَ وثاقي بقيدٍ من حديد...
تناسيت وسلمت قلبي لحب وليد...
وعدت إلى هاديٍ بوجهٍ بعيد..!!
والآن تغتال قلبي لثأر شديد...
كيف أختار وخياري كله وئيد؟!
يمناي أنت ويسراي.. عمري.. بل يزيد..!!
طلقة اطلقتها على قلبي وكله وجيب...
كيف الوصول وقد تهت بين الدروب؟!
إخترت ...وجرح قلبي بلا مجيب..!!
(( كلمات الرائعة shezo))
*من هادي إلى ألمى*
((جباااار في رقته جبار
جباااار في قسوته جبار))
وما تجبر قلب العاشق إلا عشقا فاض، ولكنه استعصى على عشقه فعليه جار، وإحتار ما بين عشقه وكرامته فهنا صَعُبَ الاختيار.!
*****&&*****
((نعم يا حبيبي بحبك وأعيش ملك أمرك وأعيش ملك إيدك ))
نعم أردت الحب منكِ ولكِ
نعم أَحبكِ القلب وتعلق العقل
نعم أنا ملككِ وما تأمرين
ولكن!!بعد ما ملكتِ.. لقلبي هجرتِ ولحبي تَعصين.!
*****&&*****
(( في حياتك يا ولدي إمرأة عينيها سبحان المعبود
فمها مرسوم كالعنقود ، ضحكتها أنغام وورود))
وعن أي عيناً يتحدثون ولم يروا عينيّ عشقي وسماء أرضي
وهل رأوا حبيبتي ليصفوا ضحكتها وجمال بسمتها بعينيّ؟!
فما تفتحت ورود إلا بصفو سمائها، ونعومه ضحكاتها أنغام تطرب قلبي!
*****&&*****
((دمرتني لأنني كنتُ يوماً أحبها، أحبها
وإلى الآن لم يزل نابضاً فيكَ حبها، لست قلبي أنا إذاً.. إنما أنتَ قلبها))
دائما انت خائني تنبض عشقا لها ولو رغما عني
عشق أسعدني فأبكاني...عشق ملكني فباعني
عشق سعدت به فأحزنني...وعشق اخترته فهجرني
أيا نابضي لست إلا قلبها وتنبض عشقا بحبها.
*****&&*****
((وصفولي الصبر لقيته خيال وكلام فالحب يا دوب يتقال))
أي صبر وهل للعشاق صبر؟
ومن أين الصبر وعلى ما الصبر؟!
على فراقكِ وبعد سمائكِ عن أرضي
أي صبر يتحمله قلب الهادي؟!
صبر لهجر من طلبت الهجر!
صبر لفراق نبضاته، صبر على هلاك ما بقي من روحي، ومن أين يأتيني الصبر؟!
((اقتباسات مع خواطر من الغالية رعد السما))
×
×
×



فكّرت قليلاً...نهضت من مكانها فتأوهت تخرج أنّة صغيرة بسبب ألم ركبتها...نفضت الغبار عن بنطالها من الخلف وأجابت :
" أبحث عن بيت السيدة سهيلة خضور .....كانت مربيتي!.."

شرد قليلاً يحاول تذكّر الاسم ولما خانته ذاكرته قال:
" ما هو رقم بيتها؟...أتعرفينه.؟!.."

" ثلاثة وخمسون"

قالتها بلهفة كلها أمل فهزّ رأسه مجيباً:
" اوه يا ابنتي.....لقد ابعدتِ كثيراً...هو في الجهة المقابلة!!....الآن عرفتها السيدة سهيلة!..."

نكست رأسها محبطة ناظرة لموضع قدميها ثم عادت لترفعه هامسة بخيبة:
" كيف سأصلها اذاً؟!.."

فكّر قليلاً ونقل عصاه مستديراً بجسده هاتفاً برفق:
" تعالي يا ابنتي.....اتبعيني ولنرى كيف سنوصلك الى هناك!.."

رغم أن حدسها أكد لها طيبته الا أن ومضة ريب وخوف وافت قلبها لأنها لم تعتد على الغرباء!!....ها قد جاء اليوم الذي ستواجه به ناساً ليس من عالمها ولا ضمن حدود معرفتها ....لم تتبعه وظلّت مكانها متوجسة !!...ماذا لو كان هذا رجلاً نصاباً؟!...فهي خُدعت بأقرب الناس إليها... لمَ ليحنّ عليها الغرباء ؟!..من تكون بالنسبة لهم ؟!...هل ستثق من جديد؟!..وبينما هي في خضم ترددها وتساؤلاتها التفت إليها برويّة برأسه ثم لحق الالتفاتة استدارة بسائر جسده يضع يده فوق الاخرى الممسكة بالعصى ليحكم اتكاءه وقال بصوته المتعب من الزمن المختلط بالحنية:
" لا تخافي بنيتي!...أنت في سن احفادي!....برأيك هل يقوى الأشيب المنصوب أمامك على أذيتك؟!....تعالي وسترين بنفسك زوجتي واولادي واحفادي! وان لم تطمئني لا تدخلي بيتنا...!!.."

تبسّمت مجبرة كمجاملة له وقررت المجازفة فهي الآن كالغريق المعلّق بقشة....ثم هل سيكون هذا العجوز أخطر عليها من وحوش الشوارع؟؟!!....سار أمامها بتباطؤ سببه ضعف صحته ليصلا بعد دقائق قليلة الى بيته القريب والذي يلعب في الكرة أمامه العديد من أطفال الحيّ غير مكترثين للوقت رغم أن المدرسة تنتظرهم في اليوم التالي وما إن لمحه اثنان منهم حتى هجما نحوهما يصرخان بحماس:
" جاء جدي....جاء جدي!..."

وقفزا يتسابقان على احتضانه وسط ضحكاته الحنونة المختلطة ببحة التقدم بالعمر.....كان احداهما يبدو في التاسعة والآخر في الحادية عشر وكانت تراقبهم بصمت مع ابتسامة تشق ثغرها لبراءتهم ولبساطة الحياة التي يعيشونها فملابسهم ومدخل بيتهم وحتى الشارع كل هذا يظهر معالم مستواهم وكم شعرت بالغبطة لصوت ضحكات المحبة الصادقة التي تصدر منهم والتي تعني أي هداة بال هم يعيشون ....لا هموم...لا مشاكل ....لا قضايا تنتظرهم .....لا تشرد.....لا انتقامات ولا اتهامات.....حتى بهذا المشهد البسيط شردت متمنية لو أنها كانت مثلهم لتعود بعدها الى ارض الواقع بعد ان همس لها:
" هيا يا ابنتي ادخلي!..."

لم تتردد بالدخول هذه المرة بل ولجت مطمئنّة لأنها حكّمت قلبها فكم قالوا إفتِ قلبك!!.....لقد اخطأ من قال القلب يخطئ...على العكس ...اول ما يلمس قلبك قبولا او نفوراً يكون هو اشبه برسالة ربانية.....كحدس يرشدك اما ان تفعل او لا تفعل ...اما ان تحب او لا تحب......وسط ثقتها بقلبها عبست مجدداً تلومه....ان كان هذا صحيحاً لمَ اذاً غدرها وجعلها تحب ؟!....سألت نفسها إن اخطأت في حب الهادي كما اخطأت بحب يامن؟!...هي غاضبة نعم ولن تسامح ابداً...لكن لمَ قلبها لم يمتلئ كرهاً وحقداً على خالتها وعليّ أنا؟؟!...تشعر به ينزف مجروحاً اكثر من ان يكون ناقماً!.....أيكون هذا المرشد المختبئ خلف اضلعها مخطئاً بمن احبهم وهل توجد حقائق أعظم ستصدمها يوماً ما؟!..بل هل ستتحمل المزيد من الصدمات اساساً؟!..عند هذه الفكرة اجتبت أن تنفض افكارها التي تضاعف تعبها لتلتفت مجفلة بعد سماعها صوتاً انثوياً مرتفعاً حنوناً من عجوز تضع يدها على ظهرها تدفعها برقة هاتفة :
" هيا يا ابنتي تفضلي...ادخلي!.."

خطت باستحياء فأشارت لها لتجلس على احدى الارائك المغطاة بغطاء ابيض مورّد بالجوري الأحمر في غرفة متواضعة ووسطها طاولة خشبية عليها شرشف يوزّع فوقها كؤوس شاي عديدة كانوا قد شربوها في تجمعهم العائلي قبل وصولها اليهم وسجادة كبيرة بهتت الوانها تغطي الارض.!!....بعد أن اتخذت مكانها نظرت حولها فوجدت الغرفة مليئة بأشخاص بمختلف الاعمار من نساء واطفال وكان رجلان وهما من ابناء العجوز واللذان استأذنا في الحال فور استقرارها مكانها لأنها اجنبية عنهم فهما من الرجال الملتزمين دينياً.!!....كانت تخفض رأسها وتفرك يديها ببعضهما توتراً وخجلاً كونها غريبة فرفعت رأسها بغتةً بعد أن وصلها صوت طفل في السابعة من عمره يبدو عليه الفراسة والمشاكسة وهو يشير لقدميها قاطباً حاجبيه ببراءة ومعترضاً:
"جدتي...جدتي...لمَ تسمحين لهذه الفتاة الدخول بحذائها ونحن لا ؟!.."

نظرت لقدميها وتململت محرجة فصاح به الجد قائلاً:
" اصمت يا ولد واخرج العب مع الأولاد!.."

تنحنحت هامسة بحرج ووجنتاها متوردتان:
" أنا آسفة لم انتبه!.."

ونهضت من مكانها تخلع حذاءها والجميع يحدّق بها وكأنها مخلوق غريب!....كانت فتاتان تبدوان في سن المراهقة تقفان عند باب المطبخ المطل على الغرفة وتتهامسان بينهما وكنّتا العجوز تجلسان على أريكة مقابلتان لها يظهر على وجهيهما الطيبة ...!!

" هيا يا نُهى اجلبي من عصير المانجا الذي حضرته!.."

هتفت الجدة لإحدى حفيدتيها الواقفتين عند باب المطبخ فهمست برقيّ:
" لا داعي يا خالة....لا تتعبوا انفسكم!.."

ردت بحنان وصوت يميزها بسبب نبرته المرتفعة:
" لا تقولي هذا!!...لم نفعل شيئاً يا ابنتي والجود من الموجود!...لا تآخذينا!.."

صرخت فتاة صغيرة متأوهة عندما لسعتها الفتاة المراهقة الاخرى فنهرها الجد لتصمت فقالت وهي تمسك ذراعها:
" لسعتني ديما لأنني قلت لها سأسأل ضيفتنا الجميلة عن اسمها لأنها تشبه سالي في كرتوني المفضل!.."

حاولت كتم ضحكتها ووجهها اكتسى بالحمرة ثم اخذها الحنين لصوت من الماضي لحظة اخبار خالتها لها بأن والدتها كانت ستسميها (سالي) وقبل أن تشتعل مشاعر الاشتياق لكل شيء من ماضيها اكثر واكثر وقبل ان تتجمع الدموع بعينيها تسلّحت بالقوة تحارب هذا الحنين واجابت الصغيرة بهدوء:
" اسمي ألمى....لكن أمي كانت تود تسميتي سالي !"

هتفت الطفلة باعتراض عابسة:
" يا الله لو كان اسمك سالي لذهبت لأغيظ صديقاتي واقول لهن ان سالي قامت بزيارتنا!.."

ضحكت لكلماتها وقالت:
" وانا وددتُ أن يكون اسمي سالي لكن أبي اختار ألمى!..."

عند ذكرها لوالدها تحشرج صوتها وابتلعت ريقها قلقاً عليه فهتفت الطفلة ببراءة:
" هل هذا لون عينيك أم عدسات لاصقة؟!.."

وتابعت بانبهار:
" لأن لونهما جميل جدا كلون السماء الصافية!.."

رسمت ابتسامة وداخلها غصة وهي تتذكر نعتي لها بسمائي وردت بألم تحاول اخفاءه:
" لون عينيّ!.."

فتحت فمها لتتابع اسئلتها فأغلقه لها الذي قال :
" هيه...شام!....كفاكِ ازعاج للسيدة....ادخلي الى المطبخ!..."

رفعت كتفها رافضة تزم شفتيها ثم قالت حانقة:
" لا اريد جدي!....اريد ان اجلس مع شبيهة سالي.."

ضحكوا جميعهم واقتربت تجلس جانبها بعد ان اشارت لها بيدها دون ان تهمس أي كلمة.!!...اما الجدة كانت تحملق بها وتتأملها وتسمي بالله لتحصينها من العين بسبب جمالها رغم شحوبها بعد ما مرت به على مدار ايام ثم هتفت بتلقائية دون مراوغة وتفكير:
" لمَ لا ترتدين الحجاب لتخفي جمالك بنيتي؟!....كي يحفظك الله من شر الانس والجن ومن عذابه!.."

بدا عليها الاحراج لكنها اجابت متهربة وهي تقول في نفسها " ما بها اذا كذبت فهم لن يروني مرة اخرى وسأختصر على نفسي سماع محاضرات.."...:
" قريباً خالتي...أنا انوي ذلك!.."

تبسّمت برضا من اجابتها وهي تربّت على فخذها بحنوٍ وأكملت بفضول بينما كانت عيناها على الخاتم ببنصرها الايسر:
" لا أعلم كيف سمح لك زوجك بالخروج هكذا وبهذا الوقت؟!....لو كنتِ زوجتي لألبستك النقاب لأخفي وجهك الفاتن ما شاء الله ولرافقتك اينما ذهبت!.....يا ترى أين زوجك بنيتي؟!.."

تطلعت على الخاتم بإصبعها بأسى وحرّكته بأناملها الأخرى شاردة والحزن يغلّف قلبها واختارت أن تجيب كاذبة على السؤال الأخير فقط دون أي تعليق على ما قبله لتنهي فضولها:
" زوجي مسافر وسيعود قريباً.."

بعد فترة من الزمن تخللها نقاشات مختلفة تنحنح العجوز لينقذها من ثرثرة عائلته هاتفاً برفق:
" سأرسل معك حفيديّ ليرشدانك الى بيت السيدة سهيلة....لكن اولاً عليك تناول الشاي مع كعك الحاجة أم عبد الرحمن..."

هزت رأسها بهدوء رافضة وهمست وهي تنظر لساعة يدها:
" شكراً لكرم ضيافتكم....لكني على عجلة من أمري وعليّ الذهاب اذا سمحتم.."

بعد محاولات كلها كرم وجود منهم قوبلت بالرفض نهضت من مكانها تعدّل لباسها وتمسك حقيبتها الصغيرة ثم شرعت تصافح نساء البيت ممتنة لاستقبالهم لها وعند اقترابها من العجوز وقبل ان تمد يدها هتفت الطفلة (شام):
" لا تصافحي جدي....انه لا يصافح النساء الغريبات فقد علّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم..(( لأن يطعن في رأس أحدكم بِمخْيَط من حديد خير من أن يمس امرأة لا تحل له))..."

تورّد وجهها حرجاً كيف لطفلة صغيرة تعرف في الدين أكثر منها بل تعلّمها ايضاً لكنها حمدت الله في سرها أنها لم تقع في موقف هي بغنى عنه وسط هذه الأعين التي تراقبها ..ماذا لو أنها مدت يدها وظلّت معلقة في الهواء ولم يتجاوب معها؟!!.. ومن بين طيّات ذاكرتها مرّ عليها مواقف عاشتها معي مثلاً عندما لم اصافحها بالمخيم نكاية بها وكم كان موقفاً مخزياً وجارحاً بالنسبة لها ثم انتقلت لمواقف أخرى عند رفضي لمصافحة النساء خوفاً من ربي فباغتتها بسمة صادقة ثم التفتت للذي وقف امام الباب هاتفاً:
" نعم جدي!....نادتني شام من أجلك!..."

دنا منه ببطء يضع يده على كتفه هامساً بحنان:
" اذهب يا ولدي أنت وعصام مع السيدة لتوصلاها الى البيت رقم ثلاثة وخمسون في الشارع الداخلي المقابل لنا......عند السيدة سهيلة خضور ولا تعودا حتى تتأكدا من دخولها هناك!..."

اومأ باحترام هامساً:
" حسناً جدي..."

ثم نظر إليها بأدب وقال:
" تفضلي معي ..."

سارت معهما بين الأزقة وكانت تتوسطهما وكأنهما حارساها بعد أن شدد الجد في توصياته عليها ليحميانها .....كانت تسير في ثقة وأمان عكس لحظة دخولها الحيّ.....شعرت بشيء من الأُنس اتجاه هذه العائلة وهذان الصبيان اللذان يبدوان انهما تربيا على الاخلاق والدين وكأنهما رضعا الرجولة منذ صغرهما وهي تراهما يمشيان بعنفوان وينقلان انظارهما بتأهب على الجهتين ولم تستغرب هذا بعد الوقت الذي امضته في البيت الأسري الدافئ ولشهامة العجوز معها.....لقد شعرت أن هنالك من يهتم بها حقاً ويعطيها قيمة .....كم كانت متعطشة هذه اللحظات لإهتمام بسيط بعد أن فقدت كل علاقاتها وبعد أن غدت وحيدة وكأنها بالفعل مقطوعة من شجرة!!...أحياتها السابقة كانت حلماً واستيقظت منه ؟ هل كتب عليها أن تذوق المرار في عيشها من ساعة ولادتها حتى مماتها؟!...لن تستسلم ليأسها .....بل اصطفت أن تعيش على أمل والأمل فقط.....أجل ربما هذا كابوس وستفيق منه قريباً....والدها مظلوم وستثبت براءته !!...الجميع مخطئ باستثنائها !!....وفي لحظة وسوسة داهمتها فجأة لاحت فكرة في بالها.."..ماذا لو...ماذا لو كان أبي الظالم والبقية هم المظلومين؟!...".....عبست ملامحها ولامت نفسها....كيف تسمح لنفسها بالشك فيه؟!....إنه والدها ومهما كان قاسياً هي تعلم أنه لا يصل به الحال حد الخيانة والقتل!!.....لم تشعر بالوقت الذي سارت فيه بين الصبيّان في هذا الحيّ الغريب وأجفلت على صوت الذي يظهر عليه علامات بداية البلوغ قائلاً:
" ها هو البيت ..."

تبسّمت بامتنان لشهامتهما ودنت تطرق الباب برقة طرقات خفيفة فالوقت الآن يعتبر متأخر نوعا ما وهي لا تعرف كيف يكون نظام النوم هنا..!!...عدّلت وقفتها عائدة خطوة الى الخلف تنتظر أن تفتحه لها صاحبة الصوت الناعم التي همست:
" لحظة ...لحظة....لقد أتيت!.."

فُتح الباب لتظهر لها فتاة تخفي نصف جسدها السفلي وراءه والقسم العلوي ترتدي الحجاب الخاص بأسدال الصلاة وتمسك طرفه لتلثّم وجهها وتظهر عينيها فقط دون تمييز لونهما وقد استغربت (ألمى) حركتها تلك هامسة بعقلها.."..هل وجهها مشوّه وتخفيه يا ترى؟!.."..ثم عادت لتركّز معها عندما همست تلك بنعومة وهي تحدّجها:
" تفضلي....أي خدمة؟!.."

استدارت وابتسامة تشرق على محيّاها تهديها لحارسيها وتشكرهما ثم تحررهما من مهمتهما ولما بدآ بالركض أعادت وجهها لتجيب :
" مساء الخير....هل السيدة سهيلة موجودة؟!.."

حدّقت بها تتفحصها وسألت بتشكك:
"أجل...من أنت يا آنسة لأخبرها؟!.."

ردّت بعذوبة:
" أنا ألمى عاصي رضا.."

اتسعت عيناها متفاجئة وهتفت:
" أهلاً أهلاً سيدة ألمى....آسفة لم اعرفك....تفضلي رجاءً..."

قالتها وهي تتنحى جانباً وتشد الباب لتسمح لها بالدلوف ثم اغلقته من خلفها .....انحنت (ألمى) تخلع حذاءها بعد أن تعلمت أول درس عن عادات هذا الحي القديم ولما انتصبت بوقفتها صدمت مما رأته في وجه هذه الفتاة بعد ان افلتت طرف اسدالها وفكرت داخلها .."...رباه....ما هذا الجمال الفاتن؟!..لمَ تخفيه اذاً؟؟ " ليوقظها من صدمتها اللحظية صوت التي ضحت بجسدها من أجلها وهي تسأل من غرفة جانبية:
" من على الباب يا رهف؟!.."

ردّت عليها بنبرة سرور وحماس:
" انتظري ولتري بنفسك!..."

ولأن البيت صغير وأبوابه تقابل بعضها البعض في هذا الرواق الضيق لم تنتظر كثيراً حتى أضحت امامها تقف على الباب هامسة بصوت متحشرج تبتلع ريقها وسماءيها ترقرقتا بالدموع:
" هذه أنا خالتي....مساء الخير!.."

وقبل أن ترد السلام عليها فتحت لها ذراعيها بكل محبة تكنّها لها لترتمي بأحضانها فاندفعت تجثو أمامها وتحتضنها وهي تدفن رأسها على صدرها وشرعت بالبكاء دون مقدمات فالبكاء هو الذي يتكلم عنها وهو الذي يترجم ما يحمله قلبها ...بكاء تخرج به ألم صدماتها واحتياجها لشخص يفهمها ويساندها ...لروح تحتويها وتحتوي اوجاعها دون مصالح او شروط....دون انتقامات وصفقات....فقط تريد قلباً يحتضنها لأنها هي (ألمى) الانسانة....لأنها (ألمى) الطفلة....لأنها (ألمى) اليتيمة ولأنها المجروحة والمطعونة من أقرب الناس لها!!....ترتجي من يشاطرها عواصفها وعذابها..... لا يحمل اسراراً ضدها..... ولا أي نوايا خبيثة..!!..أهذا كثيرٌ عليها ؟!...ألهذه الدرجة هي سيئة ولا تستحق ذلك؟؟!...

أحكمت الجالسة على الكرسي المتحرك من احتضانها وقابلتها تذرف دموعاً على حال صغيرتها...تربّت على ظهرها وتومئ بعينيها لابنة شقيقها لتتركهما كي تعطيها الخصوصية وحق الارتياح من غير قيود ولا احراجات ففعلت تحترم طلبها وعلا نحيب الجاثية على الأرض لتخرج مع عبراتها القهر الذي ألمّ بها مِن طعنات مَن كانوا أقرب المقربين وأصبح كل واحد منهم في عالم بعيداً عن عالمها ولم يعد يربطها بهم الّا ذكريات قليلة...قصيرة المدى...ذكريات بدايتها اشراقة أمل.... وأوسطها وجع وألم لكن آخرها كان ندم ليس بعده ندم......!!
مدّت يدها تحت ذقنها لترفع لها رأسها بعد أن خَبُتَ صوت نحيبها وقد تقطّعت احشاؤها على منظرها الأليم بوجهها شديد البؤس المطلي بلون الدم وكانت جفونها منتفخة من كثرة البكاء فهمست لها وهي تمد يدها الأخرى لتمسح مجرى الدموع الذي اخترق وجنتيها الناعمتين:
" حاولتُ الاتصال بك صغيرتي لكن هاتفك كان مغلقاً..."

مسّدت شعرها وهي تتطلع عليها بنظرات حانية وتابعت:
" فضفضي حبيبتي لترتاحي....ما بك؟!....هل السبب موضوع والدك؟!.."

لن تتفاجأ من سؤالها فالخبر السيء يدور الكرة الأرضية بأكملها ومع ذلك الى الآن لم ترَ أن ما حدث لوالدها شيء مخزي بل تتشبث باعتقادها أنه يقع ضحية ظلم وسينجو منه بالتأكيد وإن باعت عمرها من أجله..!!.... رمشت وهزّت رأسها ايجاباً واجابت ببحة خفيفة وهي تمسح انفها ومحجريها بيديها :
" أرأيت خالتي أي ظلم تعرّض له والدي؟!..."

بحسرة ولوعة وايماءة خفيفة برأسها أجابت بـ نعم ثم أمسكت يديها لتساعدها على النهوض وهي تقول:
" اجلسي على الأريكة وارتاحي ..."

أطاعتها من فورها وجلست جانبها وهي تزيح خصلات من غرتها نزلت على عينها بينما كانت تشعر وكأن قبضة خشنة تعتصر معدتها فاستدارت تلك بكرسيها المتحرك لتصبح ازاءها وهمست بعطف :
" اخبريني قصتك يا ابنتي!..وكيف وصلتِ الى هنا ؟!.."

وقبل أن تبدأ بسردها لها طلبت السيدة (سهيلة) من ابنة شقيقها لتحضّر كأس حليب بالشوكولاتة وهو المشروب الساخن المفضل عندها وبعد أن انخرطتا في بدايات قصتها لحظة ارتباطها بي وبينما كانت تصغي لها مربيتها بحنان جارف وشفقة جليّة وقبل الغوص في غمارها أكثر دخلت إليهما (رهف) بعد أن تنحنحت واستأذنتهما وهي تحمل الصينية لتقدّم ما عليها للضيفة وما إن اقتربت منها حتى اغلقت مخارج انفاسها لتحجب الرائحة عنها وهي تحرك يدها الأخرى تزامناً مع رأسها رافضة هذا المشروب فاستغربت السيدة (سهيلة) ردة فعلها ورمقتها بنظرة توجس فهي التي لم تنسى أي شيء يخصها سواء كانت تحبه او تكرهه وحتى أبسط الأشياء تذكرها لها وقد جاء في بالها عندما كانت طفلة تعتني بها بكل صغيرة وكبيرة وبعد طيف الذكريات قالت باستنكار:
" ما بك صغيرتي؟.....إنه المشروب الافضل لديك فأنت تعلمين أنني احفظ كل شيء يخصك...."

رجعت الواقفة للخلف خطوتين منتصبة تنتظر أمر عمتها بينما كانت الأخرى تجاهد وهي تجيب باشمئزاز رغماً عنها:
" لم أعد أحبه خالتي....ارجوك ابعديه لا اطيق رائحته!.."

أكملت تطالعها بريب:
" هل أنت بخير؟!..."

" أين الحمام؟!.."
فزّت من مكانها تلحق سؤال تلك بسؤال مستعجل ثم اغلقت فمها بكفها وتبعت التي سبقتها هاتفة:
" اتبعيني!."

بعد أن استفرغت ما في معدتها خرجت تغسّل وجهها ويديها في مغسلة خارج الحمام فناولتها الواقفة بانتظارها منشفة صغيرة وسألت بقلق:
" هل اصبحتِ بخير سيدة ألمى؟!.."

همست بصوت موجوع ووجهها يكسوه الشحوب بعد خروجها من حربها الشعواء:
" لستُ بخير....أشعر أن احشائي تتقطع!..."

وضعت يدها على ظهرها قائلة بلطافة مع بسمة صادقة :
" هيا تعالي ارتاحي لاحضّر لكِ كوباً من النعناع ....مفيد لمثل هذه الحالة!.."

لما دخلت الى الغرفة التي تتواجد بها مربيتها رفعت الأخيرة نظرها إليها هامسة بخوف عليها:
" كيف انت الآن بنيتي؟!.."

اتخذت مكانها حيث كانت تجلس في البداية وقالت لتطمئنها:
" سأكون بخير بعد قليل!...سلّمها الله الآنسة رهف ستحضّر لي مغلي النعناع.."

زلفت اكثر بكرسيها المتحرك ووضعت يدها على فخذها تمسّد عليه بحنية وألقت سؤالها بتشكك:
" هل أنتِ حامل؟!.."

جحظت عيناها لوهلة ثم عادت لطبيعتها لأنها لم تعد تستغرب هذا السؤال الذي القي على مسامعها للمرة التي لا تدري عددها وسرحت بعقلها .." ما بهم جميعهم مصرّون على حملي؟!....كأن هذا ما ينقصني الآن...هل يظنون أنني تواقة لذلك؟!..." ثم اجابت هاربة بعينيها جانباً:
" كلا....لمَ سأكون حاملاً؟!.."

رسمت ابتسامة عطوفة وقالت:
" ألستِ متزوجة؟!...ما الغريب في الموضوع؟.."

اجابت ببلاهة:
" ها؟...بلى!...لكن لا يمكن!..."

شعرت بها محرجة فبدّلت سؤالها:
" أين هو زوجك؟!.."

غامت عيناها حسرة على حالها وهمست بنبرة مختنقة:
" لقد انفصلنا!..."

شهقت تضع يدها على صدرها هاتفة بعدم تصديق فهي ما زالت لم تخبرها باقي حكايتنا:
" ماذا؟!...لمَ؟!....السيدة فاتن لم تنفك يوماً عن امتداحه!....ماذا حصل بينكما؟!...."

امالت زاوية فمها بابتسامة ساخرة وتكدست عيناها بالدموع ألماً وردّت بشجى:
"اكتشفت أنني كنت البطلة المغفلة بمسرحية دنيئة يتشارك بإخراجها زوجي وخالتي!....خالتي الحبيبة باعتني يا خالتي سهيلة!....ولا أعرف أي ثمن حصلت عليه منهم !..هما السبب بما ألمّ بأبي.....حقاً أنا....."

قطع كلامها التي دخلت تحمل بيدها كوباً من مغلي النعناع وتمدّه إليها هامسة بلطف:
" تفضلي سيدة ألمى عسى أن ترتاحي!.."

أخذته منها بحذر ووضعته على الحافة الخشبية العريضة للأريكة وأسندت ظهرها للخلف وهي تسحب مخدّة صغيرة مربعة من جانبها وتضعها على بطنها ثم نظرت للتي كانت على صفيح ساخن منتظرة سماع حكايتها هامسة لها بفضول:
" اخبريني صغيرتي بكل شيء!.."

بدأت تسرد لها الحكاية الأساسية دون أن تغفل عن كلمة وبين الكلمة والكلمة غصة تختلج صدرها وألم يحرق روحها وسراب لذكرى مشاعر جميلة لم ولن تنساها لينتهي حديثها وصولاً لوجودها هنا في بيت من كانت تصغي لها بكل جوارحها والتي ختمت الحديث محوقلة مصدومة ومقهورة لأجلها ثم تبع صدمتها صمت يسير وبعد الصمت اتسعت عيناها اثر تذكرها شيئاً مهماً هامسة بحيرة:
" إذاً مِن أجل ذلك بعثت لنا السيدة ايمان ظرفاً مغلقاً كأمانة لك وجعلتني أقسم على عدم فتحه وعلى تسليمه لك مهما كلفني الأمر!.."

قطبت حاجبيها وضيقت عينيها قائلة كلماتها على مهل:
" أي ظرف؟!..وممن بالضبط؟!....أنا لا افهم!.."

رفعت كتفها بحيرة هامسة بحزن:
" لا اعلم ما به صدقاً.!!..لكنها تواصلت معنا أنا ورهف وقالت أنه أمانة لكِ من خالتك فاتن شافاها الله لأنها تخشى ألا تعود حيّة لا قدّر الله..!.."

ختمت كلماتها بنبرة متحشرجة أما المستمعة لها سواء أنكرت أم لم تنكر!!...إنها لم تستطع منع الرعشة التي سرت بجسدها خيفة دون ارادتها بعد أن اخترق أذنيها * ألا تعود حيّة *...ولكن الجرح النازف من أعماق قلبها زادها صلابة وتجاهلاً فظلّت على رأيها هاتفة:
" يريدون أن يقنعوني بمسرحيتهم التافهة بشتّى الطرق!....لن أصدقهم....خذلوني وأحرقوا كل ذرة ثقة مني اتجاههم.....حتى لو نفترض أن كلامهم صحيح مع أنه مستحيل.... هذا لا يعطيهم الحق بما فعلوه بي!....كيف كانوا بلا رحمة وتلاعبوا بقلبي بهذه البساطة؟!...."

تململت في مكانها تنظر بضياع للأرض وأردفت بكآبة وأسى:
" يا إلهي....أنا الى الآن ما زلت لا استوعب ما فعلوه بي وكيف غدروني بكل صفاقة!....كيف يثقون أنني سأستمع أو اؤمن بأي كلمة منهم؟!.."

" لكن بنيتي عليك استلام الأمانة مني ...لا تتسرعي بالحُكم دون أن تأخذي بالأسباب!..."

وما إن أنهت جملتها حتى التفتت للواقفة تطلب منها احضار الظرف من خزانتها وقد عادت تحمله بعد قليل وأعطته لعمتها لتناولها إياه ولمّا أخذته بتردد قلّبته تتفحصه بعدم اكتراث ثم دسّته دون اهتمام بحقيبتها الصغيرة لتهتف السيدة (سهيلة):
" ألن تفتحينه؟!"

أجابت بامتعاض وهي تحاول رسم ابتسامة مجاملة:
" لاحقاً في البيت!....الآن اتركي اخباري الكئيبة وحدّثيني عن أحوال صحتك وإلى أين وصلتِ بعلاجاتك!؟؟.."

اومأت لها بامتنان لسؤالها واجابت:
" حمداً لله....بالطبع لن اعود ابنة العشرين...ألمهم أنني لا أشعر بالألم بسبب الأدوية الفعّالة وأنا راضية بقضاء الله....!!.."

أمضت ساعة ونصف من الزمن لم تدرك كيف انقضت بينما كانت (رهف) تشغل نفسها بالداخل لتفسح المجال لهما بإعادة ذكريات أيامهما الماضية مرةً ومرة الخوض في قصص شائكة بعيدة عن المصيبة التي تقع بها وقد تعمّدت ذلك مربيتها لتخفف من وطأة الأحزان التي يحملها قلبها الصغير البريء وبعد برهة انتبهت لساعة يدها التي تشير للواحدة وربع بعد منتصف الليل لتقف بتأهب شاهقة مع تلوّن وجهها محرجة وهي تسلط حدقتيها المهتزتين انفعالاً مِن تطفلها على أهل البيت:
" ويلي....لم أنتبه للوقت...أنا حقاً آسفة خالتي.....لقد اقلقتك وأفسدت نومتك!!..سأذهب بالحال!..."

مدت يدها لتمسك بيد الواقفة امامها تهدئ من ارتباكها وبوجهها البشوش وضحكتها الحنونة هتفت:
" ومن قال أنني سأسمح لكِ بالذهاب وخاصة في هذا الوقت؟!....ستباتين عندنا أنا ورهف ابنة أخي فهي تبقى معي لتسلّيني ولتهتم بي....ويا لسعادتي سأنام الليلة وفي بيتي ابنتيّ الجميلتين!!.."

" لكـ....لكن خالتي لا يمكن ذلك..."

همست برقة وهي تجول بعينيها على أركان البيت متابعة:
" سأسبب لكم الازدحام!....لا تؤاخذيني ...البيت صغير ولا ينقصك وجودي!...."

هتفت موبخة اياها بلين:
" سأغضب منك صغيرتي!....لقد زارتنا البركة والبيت بيتك والخير خيركم.....ثم ألم تسمعي بالمثل القائل ....البيت الضيّق يتسع لألف صديق؟!.."
بحياء وعدم راحة حاولت الاعتراض:
" حقاً خالتي تعلمين كم أنت غالية عندي....لكني لن أرتاح وسأشعر أنني متطفلة عليكم وأزعجكم.....سأزورك مجدداً.."

بحزم وجدية وذكرى لن تنساها ما حييت هتفت:
" لن تذهبي يعني لن تذهبي!....هذا البيت أنتِ الأحق به!...من بعد الله لولا والدتك السيدة كريمة رحمها الله لغديتُ متنقلة دون استقرار بين بيوت أخوتي ..."

غضنت جبينها وسألت بعدم فهم:
" كيف؟!...ما دخل والدتي؟!.."

شردت بالفراغ تسبح في صفحات ماضيها ولمعت عيناها بدموع عزة نفسها الجريحة وأجابت:
" كنتُ متزوجة من رجل خُدعت به ....ظننته رجلاً شريفاً وتبيّن أنه لا يمت للشرف بصلة!...نصّاب عديم مروءة....كان يسقيني الويل من لحظة معرفته بحملي ....في الصباح والمساء كان يتلذذ في ضربي لأجهض وأنا صاغرة صابرة عليه....لم اشأ أن أهرب منه لأزيد حملاً على اشقائي البسطاء الذين يكدّون ليلاً ونهاراً ليعيلوا عائلاتهم الكبيرة آنذاك وفي النهاية نجح في مهمته وسقط الجنين...كنت في بداية الحمل!...ولكن الله يمهل ولا يهمل فجاء الرد من السماء على الفور في اليوم التالي بعد أن سقط من مكان عالي في ورشة بناء يعمل بها ليلحق ابنه....ولكن الظُلم لم ينتهِ بموته فبعد انتهاء شهور العدة خاصتي بدأ اشقاؤه بالمطالبة بالبيت بحجة أن ابناءهم أحق به لأن لا اولاد لي!...صاروا يضغطون عليّ لأتركه فأجبرت على ذلك بعد حملة مضايقات يعلم بها الله ولما عدتُ هنا إلى حي اشقائي شرعت بالبحث عن عمل ووجدت جمعية تهتم بمربيات الأطفال والأطفال نقطة ضعفي وأكثر ما أحب فيسّر الله ذلك بالحال عندما زارت جمعيتنا التي التحقت بها في ذاك الوقت والدتك وهي حامل بك في الشهر الأخير ولأن القبول يضعه الله في قلوبنا دون اختيار منا ولأن نصيبي كان جميلاً حينها فقد أشارت والدتك إليّ دوناً عن الأخريات بوجهها السموح وقلبها المحب لتهديني مهمة الاعتناء بأجمل طفلة رأتها عيني..!!.."

قرفصت أمامها تمسك يديها وتتطلع بعينيها وسماءيها احتقنتا بالدموع تعاطفاً مع قصتها وهي تهمس ببراءتها:
" أحبك خالتي...أنتِ من أغلى الهدايا في حياتي!"

رغم الألم....تهدي الجميع حبها...هكذا هي وهكذا فطرتها....تنثر الحب الذي تبتغيه....لا تبخل بقول شيء زاحم قلبها!!....

لتتابع الأخرى حكايتها بامتنان خالص:
" وبعد مدة لا باس بها من العمل عندكم أصبحت علاقتي بالسيدة كريمة والسيدة فاتن متينة وجعلاني كشقيقتهم الكبرى ...تعاملاني بود واحترام ويأتمنني على كل شيء...يستمعن لنصائحي ولم تشعراني ابداً أنني عاملة بالقصر وفي ذات يوم وبعد سنة من معرفتي بكم قررت السيدة كريمة زيارتي في بيتي فصدمت لما عرفت أنني أعيش كالبدو الرحالة كل يوم في بيت أحد اشقائي الخمسة....لم أفصح عن وضعي هذا يوماً !!...لم أظهر لهن ما أعاني ففاجأتني تغدق عليّ بكرمها بعد يومين دون تأخير وهي تشتري هذا البيت خصيصاً من أجلي وتسلّمني ملكيته الكاملة كي لا يجرؤ أحد على طردي وقد اختارت أن يكون وسط عائلتي الدافئة بأفرادها الذين يحبونني حقاً ويعتنون بي...!!.."

وبابتسامة تزيّن ثغرها مدت يدها التي ارتسمت عليها خطوط الكد والشقاء طوال سنين لتمسّد على وجنة صغيرتها وهي تقول:
" أرأيت بنيتي أنه بيتك!...رضي الله عنك لا تعانديني وستبقين معنا.!!.."

استسلمت للأمر الواقع ولِكَم ارتاحت بالفعل لهذا الاقتراح فنصف منها كان يريد الذهاب حفاظاً على عزة نفسها وكبريائها والنصف الآخر متردد خائف مما سينتظرها في القصر الكبير ألذي أصبح مليئاً بأشباح الوحدة...!!
نادت السيدة (سهيلة) على (رهف) لتطلب منها تجهيز مكان لنوم ضيفتهما فأقبلت عليهما ترتدي منامة وردية ترسم جسدها الممشوق بطولها الأنثوي وكان شعرها الكستنائي المتعرج ينزل بأريحية ليصل منتصف ظهرها وبرزت عيناها الخضراوتان بعد أن خلعت أسدالها التي كانت تتفتل بها قبل قليل وظلّت (ألمى) تحدّق بها مبهورة بجمالها الملفت ومستغربة داخلها كيف لهذه الفاتنة أن تخفي حُسنها تحت الحجاب والنقاب ولا تتباهى به مثل أي فتاة تمتلك هذا القدر من الأنوثة الطاغية والسحر ..!!....هتفت (رهف):
" تفضلي معي سيدة ألمى الى غرفتي.."

بابتسامة راقية همست:
" شكرا لكِ...أتمنى أن أكون ضيفة خفيفة عليكِ...وسأكون مرتاحة لو ناديتني ألمى فقط!!.."

اومأت بابتسامة رقيقة توافقها على اقتراحها واستدارت تتجه الى الغرفة لتلحق بها بهدوء ولما دخلتا الغرفة اقتربت(رهف) من سريرها قائلة وهي تتناول عنه منامة تخصها:
" بدّلت غطاء السرير وهذه المنامة ممكن أن تناسبك.."

تطلّعت على الواقفة أمامها وأكملت بخجل:
" ربما تكون طويلة بعض الشيء عليك!...لكنها تفي بالغرض!..."

اخذتها منها هامسة بمزاح:
" ما شاء الله من اين لك هذا الطول ؟! ..."
وأضافت:
"..سلمت يداك!.."

قالت ضاحكة:
" هكذا عائلتنا جميعنا عمالقة وحتى أنني اعتبر أقصرهم..."

انهت جملتها وخرجت على صوت ضحكة ضيفتها لتتركها على راحتها تبدل ملابسها ولما عادت بعد قليل وجدتها تجلس على السرير تنظر إلى صورة داخل اطار موجودة على المنضدة وكانت لشاب ملتحي وخلفه الكعبة المشرّفة فاقتربت منها التي دخلت للتو وجلست جوارها وهتفت باسمة:
" هذا خطيبي بكر عاد من العمرة حديثاً...!.."

" هل هو شيخ ؟!.."

باعتزاز وفخر اجابت:
" يمكنك قول ذلك!.....لديه معهد لخدمة القرآن في الحيّ ويؤم احياناً في المصلين عند غياب إمام الجامع!...."

دون تفكير وبتلقائية سألت:
" هل هو من اجبرك على الحجاب ؟...وأظن انك تضعين النقاب ايضاً لتغطي وجهك أليس كذلك؟!.."

ضحكت وقالت بثقة:
" أجل أضع النقاب!.....لم يجبرني أحد على شيء....تربيّت في أسرة تحاول الالتزام قدر المستطاع!...كنت محجبة دون نقاب وكنت في الليالي ادعو أن يرزقني الله الزوج الصالح فالحمد لله الذي رزقنيه من غير حول مني ولا قوة !...عندما خطبنا منذ سنتين تعاهدنا أن نأخذ بيديّ بعضنا الى الجنة!....كان حلمه أن يفتح معهداً للقرآن وكنت خير داعمة له معنوياً بفضل من الله ....لطالما حكى لي أنه تمنى دوماً أن يرزقه الله زوجة ملتزمة تقتدي بأمهات المؤمنين قلباً وقالباً....وكان يقول لي أن أعلى درجات الرقيّ في المرأة هي التي تحمل بقلبها الايمان وعلى لسانها تردد القرآن والتي تستر جسدها ووجهها من أعين الناس والجان....كانت كلماته تلامس شيئاً داخلي يوماً عن يوم....تحيط به هالة ايمانية تبث السكينة لمن حولها فلم أتردد بوضع النقاب ولن أخفي عنك أي راحة وطمأنينة شعرت بها حينها وقد تلقيتُ تشجيعاً يثلج الصدر ممن حولي وكانت الفرحة الكبرى من نصيب بكر الذي بدأ وقتها يعلمني تجويد القرآن بالطريقة الصحيحة بكل حُب واخلاص وتفاني من أجل مرضاة الله.."

عند آخر كلماتها لمعت عينيّ المصغية لتفرّ دمعة حنين رغماً عنها وهي تتذكر دروسي القليلة في تعليمها ترتيل القرآن مسحتها بظهر كفها وشقت ثغرها مبتسمة كمجاملة ومجيبة:
" هل تحبينه ؟!.."

" كيف لا أحب من يخاف عليّ من غضب الله ؟!...كيف لا اعشق من يغار عليّ من اعين الانس والجن ؟!...كيف لا أغرم بمن يمسك بيدي ليأخذني معه الى الجنة ؟!....كيف لا أهيم بمن يهتم لأمري بكل صغيرة وكبيرة؟!.....نتوه في هذه الحياة القصيرة ونقع في الفتن والمعاصي ...نحن في النهاية بشر ...لكن المحظوظ من وجد يداً تنشله من كل هذا والتعيس من حُرِم من ذلك!....."

ألقت خطابها ثم مدّت جذعها لتتناول هاتفها عن المنضدة....عبثت به قليلاً وقالت قبل أن تضغط على التشغيل:
" اسمعي صوته ما أجمله...حماه الله وحفظه من كل سوء.."

وما إن بدأ يصدح صوته في القرآن حتى بدأت كل خلية في جسدها تقشعر من شدة تقارب صوتي بصوته ليتبع القشعريرة دموعاً تنساب من عينيها كالشلال الذي يتدفق من الجبال بعد أن أحست بحسرة ومرارة لاذعة فانتبهت (رهف) لحالتها واغلقته في الحال مستغربة وهمست بخفوت قلقةً عليها:
" ما بك ألمى؟!...لمَ تبكين ؟!.."

تنهّدت بعد أن استبدّ عليها اليأس والكآبة من حالها وغمغمت مجيبة:
" صوته ذكـ...ذكرني ...بزوجي هادي!..."

سألت متعجبة:
" أليس زوجك رجل الأعمال يامن الهاشمي ؟!.."

رمقتها بنظرة مجروحة تفيض من الأسى أنهاراً ثم قالت وهي تبتلع ريقها وتشيح عينيها عنها:
" هادي ويامن .....اسمان لشخص واحد!...سلب قلبي وازهق روحي وتركني بقايا جثة تسير فوق الأرض من دون هوادة..!!...."

ثم رفعت بصرها إليها وسألتها وهي تبسط كفّها على صدرها وكأنها تربّت على نابضها النازف:
" كيف سأطفئ اللهيب المستعر داخلي؟!....لهيب وقوده عشق يأبى أن يتركني!.....هل أكذب وأقول أني لا اشتاق له؟؟...وربي اشتاق لكن هو من جرحني!....احتاجه بشدة وهو من بشدة خذلني ....كيف سأتخلص من العذاب الذي أنهكني ؟!...حبه عذاب وكرهه عذاب....قربه عذاب وبعده عذاب....لا اهتدي لشيء لا ..انا ضائعة في هذه الدنيا بتّ لا اعرف ما اريد وأين أذهب وماذا أفعل..؟!...فقط اسئلة واسئلة تدور في عقلي دون اجابات !!...وددتُ أن أفوز به وبأبي...قلت لنفسي إن كان مخطئاً وتراجع عن خطأه سأسامحه على التهم الشنيعة بحق أبي .....لكنه عاند وأصرّ وبعناده أسقى عنادي ....أنا وهو والقضية بيننا ...ربما عندما يخسر وأراه امام عينيّ مخذولاً ستخمد حينها نيران الجوى داخلي......لا بد أن أفوز...بل عليَّ أن أفوز.....سأفوز عليه وأرى انكساره كما كسرني حتى لو متّ وآخر أنفاسي كانت أنفاس عشقه...."

استمعت إليها موجوعة لأجلها ....فتلك السيدة الصغيرة التي طالما حكت لها عمتها عنها...حكت لها عن جمالها....براءتها وطيبتها....وحكت لها عمّا مرت به طوال حياتها ....لذا تعاطفت معها للنهاية دون أن تشك ولو لوهلة بصدق ما باحت به لها ولكن بحكمتها ونضوجها الذي يتخطى سنوات عمرها الخمسة وعشرون ترى دائماً أن الحلول بين ايدينا....كل مشكلة بنظرها لها حل وكل حل يأتينا ممن خلقنا.... من يكون أقرب إلينا منا ذاتنا....أليس هو من قال ...{{ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ }}..؟؟

فأدلت بمحاولتها الأولى قائلة قبل أن تستقرا للنوم :
" في الصلاة والقرآن يتلاشى الهم والحزن...يندمل الجرح ويذهب الوجع....في قربنا الى الله يأتينا الفرج ....في قربه لذة تزيل الغشاوة عن أبصارنا وقلوبنا....سبّحي بحمد ربك وكوني من الساجدين وسيكون كل شيء كأنه لم يكن ..."

وتابعت تالية عليها بتجويد بعد بسم الله الرحمن الرحيم:
" ...{{ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ(97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ(98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ(99) }}...."

كل كلمة منها وصلتها كأنها بصوتي.!!...كلمات تكررت على مسامعها في الماضي حين حطت يدها بيدي بأيامنا القليلة التي عشناها معاً كزوجين متحابين....كنت لها الهادي (المرشد) لسبيل مزروع بالأمل والنور تكون نهايته الجنة وكنت لها اليامن (المبارك) وأنا أقوم بالأعمال الحسنة من أجلها ومعها لأزيّن لها دنياها.....ولأنها ربطت كل كلمة صدرت من الجالسة قربها بي فاختارت عدم الرضوخ والانصياع واستسلمت لشياطينها رغم أن بين نبضة وأخرى كان وميض يحاول دفعها لتفعلها !!...يدفعها لتنهض وتتوضأ وتصلي بعد أن تركت الصلاة قبل حوالي اسبوع ونيف نكايةً بي لتحرقني !...وبينما كانت تسير في أروقة شتاتها لا تستطيع تحديد كفّتها..أتفعلها أم لا.... هزمها الشيطان ولمعت الفكرة في بالها لتكابر وتكابر وتلجأ الى الكذب هاتفة وهي تسدل الستار على سماءيها :
" لا يمكنني الصلاة.... لديّ عذر...الدورة الشهرية!!.."
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

أخرجتُ أنفاسي بقوة وأنا ألقي بثقل جسدي على سرير الطفولة والصبى في بيتنا الجبليّ بعد أن صليتُ الفجر قبل الشروق بدقائق قليلة..!!....مررتُ بساعات قاسية جداً منهكة للروح والجسد!!....لكن لا بأس فكلي كان فداءً لمهمة العمر.....تبسّمتُ سارحاً بسقف غرفتي حامداً ربي على اتمامها بنجاح رغم نكسة عشقي...كأني أعيش حلماً !!...لا أصدق أنني وأخيراً رأيتُ ذاك الوغد خلف قضبان السجن الأمني المركزي في العاصمة..!!....كنتُ قد تسللتُ الى البيت بخلسة كي لا اوقظ النائمين وقبل أن تراني أمي...نبض الحياة!.....فهي مؤكداً ستبدأ بموشحات البكاء على حالي بسبب اصابة ذراعي!!...تراءى أمامي الماضي وحالة القهر التي انتابتها عند ضرب الحرّاس لي في المخيم ...والآن سنعود من جديد للمشهد نفسه!....الذراع ذاته والمسبب الرئيسي للألم ذاته!....حقاً يا له من مسكين هذا الذراع...كم تحمّل بسبب ذلك اللعين!.......انقلبتُ على يميني بعد أن أحسستُ بتشنجات عند كتفي الأيسر المتأثر بالجرح الملتهب فلمع شيءٌ بعيني يختبئ تحت الاباجورة خافتة الاضاءة والتي توضع على المنضدة جانب سريري!....قفز الخائن فرحاً وشقت ثغري ابتسامة الحُب!....إنه مشبك شعرها الكبير بلونه النحاسي والمصمم على هيئة ورقة خريفية فيها ثقوب!!....لقد أهدتها إياه مربيتها في الماضي فهو كان من يتحمّل كثافة شعرها....كانت تهتم به كولد صغير!....حريصة جداً عليه!....إنه غالي عليها بسبب صاحبته وفائدته !!.....يا إلهي!...بدأ وجيب قلبي بالارتفاع بعد أن سخنت دمائي عشقاً وشوقاً وحنيناً لمالكته!....اتسعت ابتسامتي اكثر رغماً عني فخائني كعادته عندما يتعلق الأمر بها هو من يستلم قيادة مشاعري.!!....كيف لا ابتسم ولا افرح وأنا أرى بقايا أثر من روحي القابعة في تلك البلاد؟!.....عدلتُ جلستي مستقيماً , مستعيناً بمرفق يمناي وسحبته برفق وحذر وكأنني أحملها هي خائفاً أن تخدش اصابعي بشرتها أو كأنني امسد على شعرها الليليّ برقة......قربته من أنفي واغمضتُ عينيّ لاستنشق بعمق رائحة شعرها الأناناسي والتي تصيبني حد الثمالة....شعرتان ملتصقتان بأسنانه كانتا كفيلتين برد روحي هذه اللحظة!....زدتُ بسحبي لشذاها لأحبس ذرّاتها داخلي قبل أن تتبخر مع الزمن!....لو دخل عليّ أحد ورآني لظنني معتوهاً فاقداً لعقلي او مدمناً وسأكون في موقف مخزي ومحرج!....فليظنوا.... ما عاد شيء يهمني!....أجل أنا مدمن رائحتها ومجنون في حبها ولن يستطع أحد معالجة حالتي!...اتركوني أتنفس غرامها ...اتركوا خائني ينبض هيماناً بها ....اتركوا أرضي تشتاق لسمائها ...أو اقتلوني وحرروا دمي الذي يجري في عروقي علّكم به تنزعوا (ألمى) الروح من جسدي الحيّ والحيّ فقط مفتوناً بعينيها...!!.......ربي كريم معي!...فقدتُ عقدها الذهبي الذي عشتُ معه لسنوات محلقاً بسماءيها والذي لم يفارق لياليّ ليعوضني بقطعة أخرى منها تخص شلالها وبحرها الأسود وكأنه كُتب عليّ أن أغرق به دون الخروج من أعماقه!....كيف تنجحين باحتجازي بين سماءك وشلالك يا ابنة (عاصي)؟؟!....ما هذه الحرب التي تخوضينها ضدي ؟!....من قال عنك ضعيفة وساذجة ؟!....أنت تمتلكين أقوى العتاد العسكري لتهزميني دوماً.....تأسرين فؤادي بقطعة صغيرة منك....جعلتيني مريضاً مدمناً هواكِ... .تشرّديني من حالي بذكراكِ!!.....ماذا سأفعل وكيف النجاة؟!.أين سأذهب ومتى الشفاء ؟!......
هاجرتُ وكنتُ أظن أن اللجوء هو خيمة أو مأوى وسأتركه يوماً لأعود الى بلادي وبيتي.....لكني غرقت بلجوء آخر!!..فأينما ذهبت ومهما حاولتُ الاستقرار ظللتُ أحمل اسم لاجئ.....لأني ..... لاجئاً في سمائها..!!
[ آهٍ على قلبٍ هواهُ محكّمُ ..
فاض الجوى منه فظلماً يكتمُ ،
وَيْحي أنا بحتُ لها بِسرِّه ..
أشكو لها قلباً بنارها مغرمُ ،
ولمحتُ من عينيها ناري وحرقتي ..
قالت على قلبي هواها محرَّمُ ،
كانت حياتي فلمَّا بانت بنأيها ..
صار الرَّدى آهٍ عليَّ أرحمُ. ]
(( عنترة بن شداد ))

استلقيتُ مجدداً احتضن مشبكها بقبضتي واضمه لصدري شارداً بفكري الى عالمها الساحر للحظات حتى خلدتُ إلى النومِ.....ساعات قليلة ثم صحوتُ في أواخر وقت الضحى على أصواتِ كركبة وضجيج آتٍ من خارج الغرفة.....آه يا أمي.!!...إذاً هذه حملة تنظيف البيت!!!....قمتُ من مكاني جالساً على حافة سريري متمهلاً بحركتي وفركتُ شعري بيمناي ثم تأوهتُ متألماً فأنزلتها اقبض يسراي الجريحة....استقمتُ واقفاً واستدرتُ أتناول عن فراشي أمانتي الجديدة....مشبكها!....حملته وأملتُ فمي بابتسامة بائسة ومرارة بُعدها عني شعرتُ بها في حلقي....تنهدتُ بأسى ووضعته بدرج المنضدة وعزمتُ الخروج لنيل رضا نبض الحياة...فتحتُ الباب بهدوء فالتفتت مستقيمة بوقفتها من فورها مجفلة تضع يدها على صدرها تسمّي بالله لتتبعها شاهقة تلقي عصا المكنسة جانباً وتندفع نحوي لرؤيتها الضماد على ذراعي وأمسكت بيسراها يمناي وبأنامل يمناها أخذت تتحسس بحنية على اصابتي تنقل حدقتيها اللتين اغرورقتا بالدموع بين وجهي وذراعي وهمست بصوت متحشرج بينما كان وجهها يعتريه الوجوم ويغلفه القلق:
" ماذا أصابك يا ولدي؟!....ما..ما به ذراعك؟!....ما هذه الدماء؟!..."

وقبل أن أجيبها رفعت كفيها تحاوط وجهي وتداعب بإبهاميها ذقني وهي تمعن النظر بملامحي بعينيها الدامعتين وتابعت:
" متى عدتَ بنيّ؟!...اخبرني ماذا حصل؟!..."

عادت بنظرها تتحسس بيدها الضماد بخفة سائلة:
"هيا قل لي ما اصاب ذراعك؟!."

أجبت بهدوء محاولاً الهرب من مواجهة عينيها:
" اصابة خفيفة بالخطأ...لا تقلقي ولا تشغلي بالك....أنا بخير"

" إصابة سلاح أليس كذلك؟!.."

سألت بريب وهي تبتلع ريقها بحدقتين متسعتين فقلت بإيجاز:
" أجل!..."

وأكملتُ من فوري:
"قسماً أنا بخير!.."

وضعت قبضتها على كتفي اليمين تشد عليه وهتفت صارخة بلوعة قاطبة حاجبيها بضيق:
" كم أكره السلاح....كم أكرهه.....متى سننتهي من كل هذا؟!"

رفعت يدي احسس على صدغها وادخل خصلات هاربة من تحت حجابها اتطلع عليها بحنّية جارفة بينما كنتُ أنا مبتغياً حنيتها وهمست :
" عدت بعد الفجر ولم اشأ أن ازعجك..!!...ثم ألم تعتادي يا أمي؟!....بالله عليكِ لا تزعجي نفسك!!....كلٌّ منا خلق لأداء رسالة ونحن عندما اختارنا الله لنتواجد على هذه الأرض تحديداً والتي كتب لها أن تتجرع ويلات الحرب والظلم بسبب الخيانة والاستخفاف بالدين إذاً ستكون رسالتنا أن نحارب ...أن نحمي الوطن حتى آخر نفس في أعمارنا....أماه ....عليكِ أن تكوني أقوى ...تذكري كم أم فقدت ابنها ....كم بيت هدم وتهجّر أصحابه....كم طفل تيتّم؟!...دموع القهر لن تفيدنا ولن تفيدهم....فقط الدعاء ورضاكِ لأمضي في هدفي ساعياً لنشر السلام والأمان هو سيكون زادي ووقودي.....نحن حماة الوطن....سنفديه بدمائنا إن لزم الأمر لنكتب لأولادنا غداً أجمل بإذن الله...."

طرقت برأسها للأسفل وأسدلت أهدابها هامسة بحزن:
" لا ينفك لساني عن اللهج بالدعاء بنيّ من أجلك ومن أجل كل ابناء الوطن الشرفاء الذين تركوا لذّات الحياة واللهو بها فداءً للدين والأرض...كل ليلة أرجو من الله أن يحفظكم وينصركم...أن يسدد خطاكم....لكن خوفي عليك ليس بيدي يا مهجة قلبي والروح..."

رفعت رأسها تتطلع إليّ وحبست كف يمناي بين كفيها تبث دفء حنانها مستطردة بحرقة:
" أنا....أنا لا أتحمّل ان تصاب بخدش..كيـ....كيف لا قدّر الله...."
ابتلعت ريقها واستأنفت:
" كيف لو افقدك؟!...سأصاب بالجنون.."

لمعت عينيّ وتبسمتُ بعطف هامساً:
" ليكن الشر بعيداً عنك يا أم هادي.....الموت حق وسيأتينا لا محالة!....لا تسمحي لوساوس الشيطان أن تضعف ايمانك!...أنتِ زوجة القائد الشهيد البطل محيي الدين رحمه الله ....كوني قوية وخيرُ قدوة للنساء ولتكُن قدوتك أنتِ....الخنساء..."

رمشت بعينيها حباً لذكراه ....ذكرى بطلها وحبيبها الذي لن ينبض قلبها لسواه وشقت ثغرها باسمة بفخر ثم قرصتني من وجنتي بمداعبة هاتفة:
" وأم البطل القائد هادي محيي الدين الشامي ...فخري وعزّي حفظه الله!!.."

ثم جذبتني إليها تعانقني وتتوسد بوجنتها صدري وقالت بصوتها الحنون:
" حمداً لله على سلامتك يا مهجة قلبي....حمداً لله أنك عدت إليّ.... "

حاوطتها بذراعي السليم بقوة وقبّلت أعلى رأسها من فوق حجابها البيتيّ الوردي الذي تعقده للخلف وقلت بينما عينايَ تلمعان بعبرات كانت مزيجاً بين القهر من حالي والفرح لإتمام المهمة بنجاح :
" سلّمك الله أماه....سلّمك الله... ها أنا عدتُ إليكِ في النهاية وغير مهم اصابتي فالأهم الآن هو أنني عدتُ سالماً حاملاً معي انتصاري...."

وأبعدتُها عني حتى بدأت دموع الوجع وغصّة فراق حبيبتي بالهرولة على وجنتيّ بينما الضحكة لم تفارق شفتيّ وأردفتُ ومشاعر مختلطة تداهمني:
" الآن باركي لي أماه....اجتزنا أصعب مرحلة في المهمة وسيكون احتفالنا الأكبر بإذن الله بعد صدور الحكم في حقه ....ادعي أن لا تطول المسألة....ادعي في صلاتك لنحرر أحزاننا من داخلنا ....ادعي لننقّي بلادنا من الخونة....ادعي لنرفع علمنا في العالي من أجل وطننا وأبي الغالي.."

كانت تشاركني الدموع والضحكات وكنتُ أقتل بإبهامي بلطافة كل دمعة تجرأت للسير على وجنتيها وتابعتُ منحنياً أكثر صوبها لأصل طول قامتها :
"زيدي بدعواتك لي وضاعفي رضاكِ عليّ....صدقيني هذا جل ما احتاجه كي أستطيع المتابعة دون أن أنهار!!..."

وأضفتُ بنبرة أخرى:
"يا لسعادتنا أمي...يا لسعادتنا.....نجحنا بتوفيق من الله "

لفت انتباهها تهدّج صوتي في جملتي فقطعت ضحكتها ورفعت كفها تمسح شعري ونزلت بها لتمسح دمعة تركت اثراً على خدي وهمست بتساؤل:
" عزيزي هادي.."

" اؤمريني يا نبض الحياة..."

استمرت تداعب وجهي بأناملها وقالت:
" هل أنت حقاً سعيد بنيّ.؟!.."

انتصبتُ بجذعي ثم تهرّبت بحدقتيّ جانبا...تنهدتُ بخفية وعدتُ راسماً ابتسامة صلبه وهتفت مسترداً القوة بصوتي :
" أتسأليني أمي وأنت تعلمين أن هذا اليوم كان هو حلم حياتي ومن أعظم طموحاتي وأصعب أهدافي؟!.."

" وألمى؟!.."

حروف اسمها جعلت تياراً كهربائياً يسري حتى في أدق عروقي لكني تسلّحتُ بالثبات وأجبت:
" ما بها أمي ؟!....انتهى كل شيء بيننا!...اختارت طريقها التي تشاء!... "

ثم أكملتُ مغيّراً الموضوع واضعاً كفي على بطني بضحكة مزيّفة:
" يا ترى ماذا ستطعمني اليوم أم هادي؟!...فأنا جائع..."

ضحكت ووضعت ذراعها خلف ظهري متناسية موضوع تلك المدللة عمداً ودفعتني برفق للنزول معها على السلالم الدائرية العملاقة هاتفة بصوتٍ مرح:
" الآن ستتناول فطورك لتستردّ صحتك...وجهك شاحب !....أما الغداء سيكون ان شاء الله طبقك المفضل.."

سبقتها هاتفاً كأنني عدتُ طفلاً بين يديها:
" ورق العنب؟!..."

ضغطت بذراعها على ظهري وخصري شوقاً تشدد باحتضاني عند وصولنا آخر السلالم وقالت:
"أجل ورق العنب.... لن اتركك اليوم....سأحرص على أن املأ لك معدتك كل ساعة ....لا يعجبني نظام أكلك ولا أستسيغهُ في عقلي!..."

اطلقتُ ضحكاتي قائلاً عند دلوفنا المطبخ:
" ماذا؟...هل ستسعين لبناء كرش لي وتدمير جسدي ؟!..."

قالت وهي توليني ظهرها لتخرج بيضاً وخضاراً من الثلاجة بينما انا اتخذتُ كرسياً عند الطاولة في وسط المطبخ:
" لا تخف على جسدك وعضلاتك...ستبقى جذاباً مهما زدت في الوزن او تقدمت بالعمر!..."

" بالطبع فأنا ابنك...لن تريني قرداً ابداً .."

قلتُ مازحاً ثم حككتُ رأسي مضيفاً بعد أن خطرا في بالي:
" صحيح تذكرت!....سيأتي أبي ابراهيم وخالتي مريم خلال يومين....هل لديك علم؟!.."

" أجل....أخبرتني خالتك....بالسلامة ان شاء الله..."

" ان شاء الله.!!..."

قلتها ثم أردفتُ هاتفاً:
" سيقيمان بفندق في مدينتنا.....لقد رفض المكوث عندنا ولكن بالطبع علينا تحضير عشاء معتبر فهذه ستكون الزيارة الأولى لأبي ابراهيم لبيتنا كما أنه من المحتمل وليس مؤكداً أن يأتي السيد سليم لمناقشة بعض المواضيع الهامة وكذلك لتهنئتنا بإتمام المهمة الحمد لله..."

اومأت توافقني وهي تتابع تحضير الفطور بينما أنا صمتُّ برهة ثم لحقتُ كلامي سائلاً بفضول:
" أين الشقيّان؟!....هل ذهب شادي للمدرسة؟!.."

" كلا....سهر حتى وقت متأخر ونحن نتابع الأخبار وننتظر قدومك...فأشفقتُ عليه ولم ابعثه للمدرسة...هو ما زال نائماً ولن ينهض الّا بعد الظهر بعد أن يرهقني حتى لو حدث زلزال في المكان"
تبسمتُ وسألت:
" ودنيا؟!."

" اضطرت للذهاب الى الجامعة عليها تسليم مهمة ..."

أجابتني ثم التفتت نحوي تتابع:
" يومان أو ثلاثة على الأكثر ان شاء الله ثم سيأخذها سامي ليستقرا في بيتهم..!."

" حقا؟!."

ردت بصوت خفيض يفيح منه الحزن:
" أجل!...لا اعلم كيف سأعتاد على غيابها؟!....الآن سأشعر أنها تزوجت فعلاً.."

ضحكت وقلت:
" يا إلهي....أمي ها هو بيتها على بُعد بيتين او ثلاثة منا ...لو ناديتِ ستسمعك في الحال!....هذا الأصح لها...أن تستقر في بيت زوجها وتهتم به وتواصل بيت حماها....عليها أن تتحمل مسؤولية ما هي مقبلة عليه !...غداً ستصبح أماً بإذن الله...."

" وأنت؟!.."

غضنتُ جبيني بعدم فهم وسألت:
" ما بي أنا؟!.."
ردت فوراً:
" ماذا ستفعل بشأن زوجتك؟!...إلى متى ستبقيان على هذا الحال بعيدين عن بعضكما؟!.."

تبدّلت ملامحي ليصبح وجهي متجهّماً وقلت بجدية أخدع نفسي:
" موضوعنا منتهي...لقد افترقنا!...نحن لسنا لبعضنا.....لا حاجة لفتحه..."

هتفت غير مصدّقة تعرّيني من ذاتي :
" لمعة عينيك وتوهّج أنفاسك وصوتك تقول غير ذلك!.."

رددتُ بانزعاج مشيحاً نظري جانباً:
" مظهري أو ما وصلك مني لا يغير حقيقتنا وطبيعة علاقتنا....فلنغلق هذا الموضوع أمي من فضلك!.."

" اذاً متى ستطلقها؟!.."

بسؤالها هذا كانت كأنها أطلقت رصاصة لتستقر في قلبي!....ربما سيأتي هذا القرار لتفترق طرقنا فعلاً....لكنه صعب....صعب جداً....يكفيني أن أعيش باقي حياتي واسمها يرتبط باسمي ....أن تكون تابعة لي حتى لو لم أرها.....أنا أعلم كم كلبٌ سيحاول اصطيادها إذا تحررت مني وهذا ما لا اطيق التفكير به....لتكُن أنانية مني... فالوقت مبكر بالنسبة لي على هذا الحديث ولتبقى معلّقة.....اسبوعين...شهرين....س نتين...وربما لآخر العمر!!

أجبتها متهرباً بهدوء يعاكس ضجيج أفكاري:
" لستُ متفرغاً للانشغال بهذه التفاهات الآن....سأرى عندما اتخلص من كل شيء يخص القضية ويرتاح بالي....حتماً...سأطلقها...."

قالت وهي تضع طبق الخضار المقطعة أمامي بينما تحرك رأسها رافضة الحال الذي وصلنا اليه:
" الموضوع مهم وأساسي لحياتكما وليس تفاهات!!....والحمد لله أنكما لم ترزقا بأطفال وإلا لضاعوا بينكما..."

وأدبرت الى الموقد ترفع الغطاء عن ابريق الشاي الذي يغلي واستطردت:
" أرجو أن لا تتأخر بتحريرها منك ما دمت تنوي الطلاق....مسكينة علّها تبني حياة جديدة لها....لا يصح حجزها إن كنتَ لا تريدها فعلاً ولن تسعى للإصلاح بينكما"

حياة جديدة لها؟!..أنا لا أريدها؟!..هل أسلّم بنفسي عينيها لآخر؟!...أأقدم روحي بيديّ لغريب؟!.....جميعكم متوّهمون فصاحب الحُكم هو الخائن الوفيّ لها...من ينبض حبها ....هو فقط!...حتى عقلي لم يعد يحاربه وترك كامل السلطة له....!!

بينما كنتُ أجيبها داخلي بصمت التفتت إليّ مكملة:
" وأنت ما تخطيطاتك بشأنك؟!.."

أجبتها كاسراً صمتي بحماس متقن:
" أول مشروع بعد الحُكم على المجرم عاصي هو ذهابنا أنا وأنتِ إن شاء الله الى بلاد الحرمين لنؤدي عمرة عن روح أبي ...نسأل الله أن يوفقنا ويتقبّلها منا!.."

تفتّحت أساريرها وبرقت عيناها بحماس حقيقي هاتفة:
" رائع....كم أنا تواقة لذلك...أرجو من الله أن يكتبها لنا!.."

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

ضوضاء لم تسمعها آنفاً.....تمتمات جديدة عليها....صوت جارة تنادي على جارتها.....طرقات قوية تأتي من الخارج.....هؤلاء النساء يطرقن السجاد لتنظيفه!!....فزّت من نومها تجلس مفزوعة بشعرها المنكوش الذي يغطي جزءاً من وجهها... تغضن جبينها وتفتح عينيها نصف فتحة بسبب النور القوي الآتي من النافذة على يمينها والتي تطل على زقاق الحارة وحرّكت رأسها على الجهتين وهي تزيح خصلات شلالها الأسود التي يلتصق بعضها بفمها لتستوعب أين هي ثم أزاحت الغطاء عنها وأنزلت قدميها الأرض وتمطّت في مكانها مبتسمة مرتاحة بعد أن شبعت نوم.....تفحّصت حالها وأفرجت شفتيها لتظهر ثناياها اللؤلؤية وهي ترى المنامة الطويلة والواسعة الى حدٍ ما عليها بسبب جسدها الصغير وقامتها القصيرة مقارنة بـ(رهف) ثم وقفت متجهة تفتح الباب خارجة من الغرفة لتلتقي بتلك الفتاة وتهمس بنعومتها:
" صباح الخير رهف.....هل استيقظت خالتي سهيلة؟!.."

" أجل..."
اجابتها باسمة بتواضع واردفت :
" آمل أن تكوني ارتحتِ في نومتك.."

ردت عليها بإيماءة خجولة برأسها تؤكد على جملتها لتتابع الأولى هاتفة بهدوء وهي تشير لآخر الرواق:
" اذهبي الى الحمام ثم الحقي بنا الى الشرفة هناك لنفطر معاً.."
×
×
×
كانت الشرفة صغيرة المساحة لكنها ساحرة تبهج النظر وتشرح الصدر فيها جلسة من الخشب مع فرش بسيط مورّد وتلتقي بسقفها لتعانقان بعضهما شجرتيّ البسفلورا والعنب ومن الجوانب تحفهما الأزهار بألوانها الزاهية التي توزّع على سطح سورها وبينها قطة تستلقي وتلعب بذيلها ناظرة للأعلى تراقب العصفورين المحبوسين بالقفص المعلّق بالسقف....كانت كأنها جنة تخص بيتهم المتواضع.....كانت (ألمى) تجول بنظرها مستمتعة بهذا المنظر والجو الساحر ومن حين لآخر كانت تختلج صدرها الغصة عندما تسترق النظر لعصفوريّ الحب مما لفت انتباه التي قالت بحب وهي تراقبهما:
" هذان عصفورا الحب جلبهم بكر لي....جميلان أليس كذلك؟!.."

شعرت بطعم العلقم بفمها والحزن هذه الدقيقة عاد ليستوطن فؤادها ليظهر بدموع أُحتجزت بمقلتيها عندما ربطتهما بعصفوريّ الحب خاصتنا وما كان مصيرهما وأشاحت وجهها جانباً مجيبة بخفوت وصوت مبحوح :
" أجل..جميلان..!.."

قالتها بألم بينما تابعت (رهف) تحكي لها بعض من حكاياتها مع خطيبها والعصفورين....كانت تلك تحكي والسرور يغمرها أما هي أحسّت بالغبطة منها وكادت تحسدها على السعادة التي تعيشها رغم بساطة حياتها....لقد أيقنت أنها المسكينة وليس أهل هذا الحيّ البائس!!....امتلكت الماديات وفقدت المشاعر.....يا الله كم أن حالها يثير الشفقة!...لقد أشفقت على نفسها من النقص الذي تعيشه والفقر المدقع الذي تعانيه بحياتها شحيحة المشاعر!!...ومع أن الفتاة كان حديثها جميلاً لا يمل منه بل كان سيكون ممتعاً لأي شخص طبيعي الّا أنها هي بالذات كان يصلها كنار تحرقها وإبر تنخر جسدها وسكاكين تغرز بروحها ...كانت بقصصها تقلّب عليها المواجع وهي تعود بذكريات حبنا واللحظات الحلوة التي لا تُنسى مهما كانت قليلة ففضّلت اغلاق هذا الحديث الذي أحيا آلامها وأعادها الى مرارة واقعها قائلة توجّه كلامها لمربيتها السيدة (سهيلة):
" عليّ الذهاب خالتي!.."
بحنوٍ ونظرة عطوفة مدّت يدها تضعها فوق يد (ألمى) المركونة على الطاولة وهمست:
" اخبريني صغيرتي ...ما هي خطوتك التالية؟!.."

ردّت واثقة بقرارها بعد أن عصفت بها الأفكار ليلاً باحثة عن حلول لمعضلتها والكارثة التي المّت بحياتها :
" سأذهب للحديث مع محامي شركة أبي السيد وجيه رستم لنوكل محامي ثقة وقوياً ومناسباً ليمسك قضية أبي!...كل دقيقة احتاجها لا اريد أن اتأخر"

وأغمضت عينيها بأسى لتقفز دمعة من احداها عطفاً على والدها وأكملت:
" الله اعلم كيف حاله وكيف نام في السجن.."

وفتحت تكشف عن سماءيها الملبدتين بغيوم القهر وقلة الحيلة وتابعت تهز رأسها لينزل ماء عينيها بغزارة هاتفة بنشيج وأنفاسها مضطربة:
" لا استطيع أن أتخيله....أبي حبيبي الذي عاش بالعز يأتي يوم ويُذل به بسبب خونة ظالمين يسعون وراء مصالحهم الشخصية ومطامعهم..."

" اهدئي صغيرتي...اهدئي يا ابنتي...لا توجعيني عليكِ حبيبتي....ما اراده الله سيكون....سيظهر الله الحق مهما طال الزمن وسيبدّل الحال لأحسن حال.......لا تبكي !.."

حاولت تهدئتها والتربيت عليها بحنان ولما هدأت وانتظمت أنفاسها استأنفت هامسة بتساؤل:
" أتعلمين أي مبالغ تحتاجين لمثل هذه القضايا ؟!.....وخاصة أنك ببلد ووالدك ببلد!....و...وكذلك الدولة حجزت على ممتلكاته وحساباته كما قلتِ وكما أشيع في الصحف.."

هزّت رأسها ايجاباً بينما كانت تسلّط حدقتيها على الطاولة وهتفت دون تردد:
" سأبيع القصر لأوكل أمهر المحامين هناك ثم سأشتري بيتاً صغيراً يكفيني..!.."

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

الجو لطيف يتشح بأنوار المساء الناعمة وتداعبه نسمات ربيعية تسبق أوانها لتحرك ستائر غرفة الضيوف بخفة وكأنها ترقص على صوت ضحكاتنا لتشاركنا سعادتنا ونحن نجتمع في بيتنا الجبليّ بعد أن تناولنا وجبة العشاء بحضور أبي (ابراهيم) وخالتي (مريم) وصهرنا الغالي توأم روحي برفقة صديقيّ (بلال وأحمد).....كانت من أجمل الأمسيات التي عشناها بعد ثلاثة ايام من انهاء مهمتي !...كنا نتسامر ونتمازح كرجال بين بعضنا بينما كانت النساء يجتمعن في غرفة المعيشة لننتقل بعدها لأحاديث أكثر جدية وبينما كان (سامي) يمدّ صينية القهوة ليضيّف أبي (ابراهيم) تنحنحت موجهاً سؤالاً للأخير:
" هل قررتما الاستقرار هنا؟!"

أجابني بحيرة شارداً بنظراته للفنجان الذي بيده:
" لم نقرر بعد!...لكني أفكر بأن أشتري بيتا صغيراً لنا هنا لأجده في حال جاء أي قرار مفاجئ مني أو حتى لمثل زيارتنا هذه رغم أن هذه الفترة تراكمت الأعمال عليّ بسبب انشغالك وما أنا متأكد منه ايضاً أنك ستستلم ادارة شركتي والدك بعد الآن ولربما لاحقاً نستطيع ربط شركاتنا ببعضهم بشكل رسمي لنتعاون بسهولة!...."
أجبته مؤكداً على كلامه:
" بالضبط هذا ما فكرت به....أن نربط الشركات ببعضها!....أما بالنسبة للإدارة فأظن أنني سأديرها بشكل جزئي وليستمر بلال وأحمد ومراد صهر سامي بالاهتمام بهما..."

تنهدتُ متابعاً:
" فأنا لديّ طموحاً آخراً أكبر من ادارة الشركات!.."

تململ (سامي) ناصباً كتفيه وسائلاً بفضول:
" أتعني أنك كلمت السيد سليم وأخبرته برأيك؟!.."

لويتُ فمي بتيه مسلطاً نظري الى الفراغ وأجبت:
" ليس بعد!....لنرى أولاً الى اين سنصل بقضية الوغد!.."

نطق أبي(ابراهيم) متسائلاً بريب:
" هل تقصد أنه من المحتمل رفضك لقيادة الحزب مثلما رسم وخطط لك السيد سليم على مدار سنوات ؟!.."

انحنيتُ لأتناول فنجان القهوة عن الطاولة أمامي وقرّبته لفمي مرتشفاً منه ثم هتفت بصوت هادئ وواثق:
" تلك الأمور ليست ضمن مجال اهتماماتي!.."

عدّل جلسته متأهباً يضع فنجانه بالصينية وهتف مستنكراً:
" ما الذي تقوله؟!...نحن سعينا وما زلنا نسعى لتصبح رئيس حزب الثوار ومن ثم لمناصب أهم وأعلى من أجل ادارة الوطن!....ماذا دهاك بنيّ؟!.."

نظرتُ مع ابتسامة طفيفة ترتسم على محياي لوجوه اصدقائي الجالسين ازائي يصغون لحديثنا لأعود مجدداً مثبتاً عينيّ بعينيه مجيباً بهدوء تام:
" هذا المنصب يليق فقط بالسيد سليم علّه يسير من خلاله ليكون وزير الدفاع!....أما أنا هدفي هو الانضمام لجيش الدولة مثلما كان أبي....لكنني لن اخطئ خطأه....لن أتنازل عن بندقيتي ولا منصبي ودوري أبداً....بل أطمح أن أكون رئيس أركان الجيش والقائد العام!!... ..لن أعطي الفرصة للخونة في الداخل أن يسرحوا ويمرحوا ويعيثوا الفساد أو يبثوا الفتن التي تنخر أساساتنا وتزعزع بلادنا كما فعلوها بالسابق!!......أبي نجح ببناء عائلة موحدة متينة من الثوار ليكون نداً ويسحق هؤلاء الانجاس أما أنا سأبقى بينهم....لن أكون نداً الّا للظلم.....سأجاهد حتى نكون جميعنا سواء ثوار, جنود بمختلف قواتهم, شعب, معارضين وحلفاء عائلة واحدة مترابطة ومتصلة في بعضها ....فمهما اختلفت آراؤنا لن نفسد للود قضية!....نختلف على طاولة المفاوضات ولكن يبقى حب الأرض هو من يلمّ شملنا....نختلف ونحترم بعضنا وفي ساحة المعارك نتكاتف لنكون كالجسد الواحد لحماية وطننا من الأعداء داخله وخارجه...أتمنى أن أبني جيشاً قوياً مخلصاً...ارشدهم للحق والطريق الصحيح...أبدأ معهم من الصفر...أكون مثالاً للأب الحقيقي..أمسك بيدهم في خطواتهم الأولى...أراقبهم في الوسط خوفاً أن يزلوا حماية لهم ثم أثق بهم بعد أن أجني ما زرعت داخلهم في باقي سنواتهم.....كنتُ أرى دائماً أن الجيش هو القلب النابض للدولة التي تشبه الجسد...بنجاحه الحياة وبفشله سقوطها ثم الموت!....لطالما ربطتُ هذا بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم ((ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت، صلح الجسد كله، وإذا فسدت، فسد الجسد كله، ألا وهي القلب))...القلب هو السلطان على الجسم وكأنه الملك....إذا صلح هذا الملك صلحت معه حاشيته وستكون مخلصة له...وهكذا الجنود اللذين يعتبرون مصدر القوة للدولة....إن صلحوا سيصلح كل شيء أي الرعايا والشعب بأكمله.....لن أتنازل عن طموحي هذا سأخلص النية وسأصل بعد توفيق من الله بعزيمتي وشغفي وحبي لوطني...."

اتسع فمه بابتسامة حقيقية حنونة يملؤها الفخر ورفع يده يشدّ على كتفي وقال باعتزاز:
" حفظك الله يا بنيّ....لو كان والدك بيننا لتباهى بك بين جميع الناس.."

قاطعنا (بلال) قائلاً بقلق:
" إذا استلم الحكم حزب الثوار سيسهل عليك الوصول لما تسمو إليه.....ماذا لو كان عكس ذلك؟!.."

رددتُ بقناعة محافظاً على هدوئي وابتسامتي:
" أتمنى أن يأخذها حزب الثوار ليس من أجل حلمي!....بل لأنني واثق كل الثقة أنه حزب اصطفى خيرة رجال الوطن.....يجمعهم الحق ويفرقهم الموت!....وإن لم يكن نصيباً لهم سأسعى لأثبت نفسي بمجهودي ثم أتقدّم وأترقّى حتى أصل لهدفي دون يأس....كأي مواطن شريف في الدولة له حقوق وواجبات دون انتماء لأي حزب..!.."

أسند(أحمد) ظهره ليجلس براحة وقال بتباهٍ وشموخ :
" هذا هو صديقي ابن محيي الدين الشامي.....من الآن سأكون أول المساندين لك وسأمضي معك في طريقك..."
أهديته ابتسامة الصداقة الحقيقية ووقفتُ ليتبعني واقفاً ثم تقدمنا بخطواتنا لنلتقي وتعانقنا عناق رجولي ثم تحررنا لنضرب قبضتينا ببعضهما وقلت وأنا ابسط كفي أمامه :
" اذاً هيا لنجدد عهدنا.."

رفع حاجبه بإباء وابتسم ابتسامة مائلة كلها ثقة وهتف وهو يضع كفه بكفي:
" على العهد باقون.."

وما إن لبث ينهي كلمته حتى أضحى جانبينا (سامي) و(بلال) يضعا كفيهما فوق كفينا هاتفان بعزيمة واصرار:
" ونحن للعهد أبداً لن نخون..."

فتعالت ضحكاتنا الرجولية مع نبضات قلوبنا النقية الوفية ثم وضعنا أيدينا على أكتاف بعضنا وأملنا رؤوسنا لنلصق جباهنا ببعضها ونغلق الحلقة بقوة ومتانة كأننا نخبر الجميع أنه لن يستطع أحد فك صداقتنا أو تخلخل وتقلقل عهدنا مهما حاولوا وهتفنا بصوت واحد:
" دماؤنا فداءً للدين والأرض "

وعلى صوتنا تحررت دمعة أبيّة من الجالس يراقبنا بسرور وبهجة معتّزاً بنا....!!

~~~~~~~~~~~~~~~~~
دائماً ليلة الزفاف حيث سيجتمعان الزوجين تكون ليلة من ليالي العمر المميزة والفريدة وخاصة إن كانا عاشقان لبعضهما ومن عاش فيها أجمل اللحظات يرغب لو أنها تتكرر مرة وأكثر من شدة روعتها وجمالها.....وجاء اليوم ليحالف صديقي وتوأم روحي الحظ لتتكرر عنده هذه الليلة بمميزاتها وسحرها....فها هما يدلفان إلى ساحة بيتهما بعد منتصف الليل مباشرة فور انتهاء سهرتنا اللطيفة ليكتبا ليلة جديدة من عمرهما ولتكون أول ليلة في بيتهما الزوجيّ الحقيقي وعشهما الدافئ دون مداخلات ودون كبت للمشاعر ومراقبة التحركات ....سيعيشون الحُب دون قيود....سيمرحان دون شروط....ستشهد كل زاوية لهما على أوقاتهما المليئة بالعشق....سيبصمان بأنفاس غرامها حيطان هذا البيت.....لقد أتت اللحظة الحاسمة بعد غيابهما عن بعضهما أياماً عديدة.....فأي عقبات قد مرّا بها ؟....سوء الفهم الكبير الذي حصل بينهما ليتبعه قدومي وزوجتي الى الوطن مما أجبرهما على عيش هذا البُعد لحين تجهيز مسكنهما.....كم كان قاسياً عليهما الفراق المؤقت هذا!!....كيف وصلا لحال أن يناما بشكل منفصل؟....كيف تحمّل ذاك الجبل الشامخ العاشق لشهد عينيها بُعدها؟....كيف سمح أن تفارق حضنه ؟....أما هي كانت تنام كل ليلة وكأنها تتقلب على الجمر....الغرفة التي جمعتهما في قصرنا أصبحت كئيبة من بعده...كانت تشعر كأنها فقدت قطعة من روحها وكأن الفراغ القاتل استحوذ على عمرها ....كيف لا تشعر بهذا وهي بعيدة عن حبيب عمرها ؟!...عن أشقرها الوسيم...زوجها الحنون ووالد ابنها!.....
حين توقفت السيارة أمام مدخلهما الذي يحيطه عن جانبيّ درجاته النصف دائرية القليلة قوارير من الورد الطبيعي بألوان بهية تسرّ النظر وتنعش الروح ترجّلت (دنيا) تحمل حقيبتها الصغيرة الأخيرة الباقية لها والتي تحوي على بضع من ملابسها فأخواتها قد سبقنها لبيتهما هذا!! ومسكت طرف عباءتها السوداء الواسعة كي لا تتعثر بها....لقد ارتدتها لتغطي ما تحضّره من مفاجأة تحتها فهي الآن تعيش وكأنها عروساً حقاً....بيت جديد واشتياق من بَعدِ بُعد.!!....إذاً لن تبخل عليه وعلى نفسها ليسجلا ليلة مذهلة يضيفان بصمة من بصمات عشقهما !!..تجهّزت له وأخفت زينتها ......لحق بها (سامي) من فوره يمسك بها وهي تصعد أول درجة هاتفاً بحماس يتضاعف في قربها:
" انتظري..!"

تطلعت عليه مبهمة وطيف من الحياء المولود بعد توقها له يزيّن وجهها وهمست:
" لمَ انتظر؟....معي مفتاح!.."

شبك أنامله الطويلة بأناملها الناعمة بتملّك دافئ يسحبها برفق خلفه بعد أن رمقها بنظرة تذيب الجليد من حلاوتها حتى وصل الباب مما جعل تماساً كهربائياً يصعق قلبها ويخلّ نبضاته وهي تسترجع لحظة بلحظة ليلتهما الأولى معاً وكان هذا التماس لم يرحم ذاك ايضاً المحروم من نار قربها الفاتن ففتحه على عجلة وجذب حقيبتها منها ليدخلها خلف الباب من الداخل ثم عاد مسرعاً ليلقفها بين ذراعيه كما حلم دوماً أن يلج بها البيت مسمياً بالله وهو يغلّفها بحضنه مع صوت ضحكاتها السعيدة التي تصدرُ منها بكل حُب وقد شهقت متفاجأة من حركته ولم تخذله فعلاً وهي تشعره بما تمنّى وكانت سريعة البديهة تتجاوب معه تلف ذراعيها على عنقه وتتكئ بوجنتها على كتفه كطفلة تحتاج للحنان والأمان وأنثى تستعد لاستقبال الهوى ولحظات الهيام من شريكها المتيّم بها ثم ركل الباب بقدمه ليغلقه ولم يكُن يرى أي شيء من حوله ولم يهتم ليلقي أي نظرة هنا أو هنا وكان كل ما يشغل تفكيره أن يريها مفاجآته لها ومن ثم الغرق في نبع العسل الموجود في حدقتيها ليجدد عهده بحبها فهو العاشق الولهان لهذه الدنيا صاحبة عينيّ الشهد والتي لن يسمح لقلبه بالنبض لغيرها كعهدٍ قطعه على نفسه ساعة وقوع عينيه عليها في أول لقاء جمعهما بعد العودة من الهجرة..!!...صعد بها السلالم وحدقتيه لم تفارقاها مع ابتسامته الحنونة التي تصهر قلبها ثم توقف عند باب غرفة مخطط أن تكون لابنهما (سليمان) وأنزلها من حضنه قائلاً بثقة والحماس ذاته:
" استعدّي للمفاجأة..."

علا وجيب قلبها بلهفة لترى ما يخفيه أشقرها خلف هذا الباب !....عدّ للثلاثة ثم فتحه بطلاقة لتقف متسمّرة مكانها عند وقوع نظرها على ثلاثة أسرّة خاصة للأطفال بلونٍ أزرق والطلاء يتناسق مع تصميم الغرفة وباقي اثاثها باللونين الأبيض والأزرق وليس هذا ما صدمها فقط !...إنما متجر الألعاب الذي يغطي الأرض بأحجام مختلفة وأكثر ما ضاعف من صدمتها هو ما كانت تخشاه دوماً عندما كان يلقي مزاحه رغم أنها كانت تواسي نفسها أنها مجرد مزاحات لا صلة لها بالواقع....أجل.!....الضفادع!!.... الغرفة مليئة بالضفادع بكافة الأحجام والأنواع كما توعد دوماً....كانت من البلاستيك والقماش ولم يكتفِ بهذا بل أغطية الأسرّة يرسم عليها ضفادع صغيرة ويا ليت توقف على هذا !....إنما المصباح الكبير الذي يتوسط السقف عبارة عن ضفدعة خضراء كبيرة تخرج لسانها ويمكن التحكّم بلون الضوء المنبعث منها فمع كل ضغطة على المفتاح الكهربائي يتبدّل لونها ...تارة أبيض وتارة أصفر والثالث هو أخضر خافت لإضائته أثناء النوم....!!....أغمضت عينيها وسحبت أنفاسها ثم زفرتها على مهل تحاول السيطرة على انفعالها بينما كان هو يراقب التحولات على وجهها والتي كان يتغير معها الملامح على وجهه من قمة السعادة لمعالم بلا مغزى فهتفت بصوت خفيض خرج جافاً:
" ما هذا سامي؟!....أيعقل حقاً ما اشاهد أمامي؟!.."

أجاب رافعاً حاجبه باستنكار:
" لمَ أنت متفاجئة بصدمة؟!....لطالما أخبرتك أنني سأملأ غرفة الأولاد بالضفادع...فأنا احبها...."

تنهّدت تكرر ضبط انفعالها وقالت بينما ما زال نظرها داخل الغرفة:
" لم اتوقع أنك كنتَ جاداً لهذه الدرجة!...."

حرّكت رأسها لتتطلع عليه تحدّجه بنظرات غاضبة وأكملت:
" والأسرّة؟....ما قصتها ؟!....أنا حامل بولد واحد وليس توائم!.."

اقتربَ منها باسماً ووضع كفيه على كتفيها منحنياً ليقابل وجهها وهمس جاداً:
" قلتُ لكِ ايضاً أنني أريد ثلاثة اولاد خلف بعض أي كل تسعة شهور بإذن الله !....قلتُ لكِ أم لا ؟!..."

ضغطت على شفتيها مقهورة ثم فتحتهما ناطقة:
" أنت غير معقول يا سامي...حقاً غير معقول!....هل أنا آلة لصنع الأطفال وأنا لا أدري؟!..."

وتركته تستدير بهمّة دون أن تنتظر أي رد منه وتخطو بغضب حتى وصلت غرفتهما وما إن فتحت الباب حتى صرخت وهي تضع يدها على جبينها :
" يا إلهي ...يا إلهي!!....ماذا يفعل هذا السرير في غرفتنا ايضاً؟!..."

فأجاب من بعيد بكل برود وكأنه ينوي على اصابتها بسكتة قلبية:
" بالطبع لن نترك سليمان ينام وحده في شهوره الأولى.....أليس كذلك حبيبتي؟!.."

تأففت تضرب قدمها بالأرض ثم تابعت دخولها للغرفة ليلحق بها على عجلة وعند وصولها لجانبها من السرير جلست ترمي حمل جسدها عليه وسحبت حجابها ثم ألقته جوارها وشرعت بفتح سحاب عباءتها تريد أن تنام وتنام فقط وليجرؤ على الاقتراب منها هذه اللحظة إن استطاع وهي تنفث لهباً من النار المتأججة داخلها ولما وقفت لتحررها عنها بالكامل التفتت صوب المنضدة فرأت فوقها عدة كتب وهنا نجح بإعادة الابتسامة على محيّاها لأنه وُفّق بجلب شيء يسعدها....الروايات البوليسية وروايات الرعب...أكثر ما تحب!...نفضت جسدها لتنزل العباءة عنها فظهر من تحتها قميص النوم الليلكي الناعم الذي يدمج بين الانوثة والبراءة وعادت لتجلس على السرير متهللة الأسارير فرحانة بهديته وحملت الكتب جميعها ووضعتها في حضنها لترى عناوين الروايات السفلية فالأولى قرأت اسمها ولمّا أزاحتها انقتلت ضحكتها وهي تقرأ على الكتاب الثاني ( الأكل الصحي أثناء الحمل )....صبرت ولم تبدي أي ردة فعل وأبعدته ليخرج من تحته ( تعليم الرضاعة الصحيحة ).....ثم ( أنت وطفلك )....و ( الأم المثالية )...كانت تقرأ عنوان تلو عنوان بينما هو يراقب متكئاً بظهره على أطار الباب يستعد لأي قذيفة ستلقيها عليه فقد خمّن أنه لربما قد بالغ قليلاً وتسرّع بجلب الكتب دفعة واحدة وهمس بسره " أكان عليّ جلب كتاب كتاب حسب المرحلة التي تمر بها يا ترى؟!.. "...وبالفعل لم تخيّب ظنه هنا ايضاً عندما نهضت بحركة نارية تلتفت نحوه وتشدّ جسدها وتكوّر قبضتيها بغيظ صارخة وهي تجز على اسنانها:
" سااااامي....سأرتكب جريــــمة!..."

ثم أخذت بالقاء كتاب وراء كتاب حيث كان يقف متابعة بصرخاتها مع البكاء :
" ابتعد من أمامي....ابتعد....لا تجعلني أن ارتكب جريمة الليلة !!..."

ولمّا نفد بجلده مغلقاً الباب خلفه خوفاً أن تشوه وجهه قذيفة منها أسرعت في الحال تقفله من الداخل وهي تشتم ليلة العمر التي انتظرتها وتشتمه وابنه معه وتمتمت :
" نجوم السماء أقرب لك مني هذه الليلة.......اذهب ونم بين ضفادعك أيها الغليظ لأرى بما ستفيدك!..."

وأسندت جسدها على الباب متنهدة تمسح عنقها بعد أن سالت عليه دموعها وحررت أنفاسها أكثر ناظرة للسقف ثم تبسّمت فجأة بمكر بعد أن لاحت في بالها فكرة ...لقد قررت أن تحاربه بسلاحه ذاته ابتداء من الغد...لم تذكر له يوماً هذا....لكن يبدو أنه آن الأوان....ستشن الحرب عليه....الضفادع سيكون مقابلاً لها .....الخراف ....ستملأ البيت بخراف من الدمى وستشتري مناماتها برسومات كلها منها وربما ستعلّق على الحيطان صوراً لها ....والأهم ستغيّر رنة هاتفها الخاصة به....بصوت الخروف وستجعله يندم على اللحظة التي اشترى بها ضفادعه....!!

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

تعاضدت الأيام ليمرّ على هذه الأرض أسبوعاً ويومان من الزمن الذي سطّر لكل منّا حكاية سعى لتأليفها وفق أهدافه ونواياه ....نشترك بأبطالها ونختلف في حبكتها ...ففي طرفِ الوطن كنا نكابد بتلك الأيام الماضية متنقلين وباحثين بإصرار وعزيمة عمّن يمسك قضيتنا ويجعل الوغد تحت الحُكم بأشد العقاب الذي يستحقه لنظهر الحق ونزهق الباطل وننشر العدالة الحقيقية أما في الطرف الآخر من تلك البلاد كانت تشاركنا بسعيها عمّن يمسك ذات القضية ولكن بنوايا مغايرة يسودها الجهل والحماقة ببصيرة مغشي عليها لتدثر الحق وترفع راية الباطل مضحية بما لديها من امكانيات... !!.....

" انظري يا رهف....رائع....الطلبيات في ازدياد...حمداً لله.."

هتفت تلف شاشة هاتفها برقمه وشريحته الجديدة للجالسة جانبها على طقم الجلوس الموجود في شرفتهما الصغيرة الساحرة والتي بدورها فرحت من أجلها هامسة برقة:
" لقد أحسنتِ اختيار محاميك....ها هو حلّ أمر بيتك بسرعة ..أي يومان فقط ان شاء الله وسيكون مباعاً وتستلمين النقود التي انتظرتها ..."

ضمّت هاتفها لصدرها رافعة بصرها للسقف هامسة بصوتها العذب ممتنة:
" حمداً لله...حمداً لله.....وعد ونفّذ...وجد في الحال شركة بيع عـــقارات مضمونة وناجحة ..."

عبست لوهلة سابحة بين أمواج افكارها العاتية ثم تحدّثت بضياع:
" سيحل أمر البيع....ويكون الاستلام بأقل من أسبوع....يا الهي احتاج لوقت كي أفرغه من أغراضي المهمة! والأهم كيف سأجد بيتاً صغيراً مناسباً لأضعها به؟!.."

تنحنحت وفركت قبضتيها ببعضهما وهي تركنهما في حجرها مسدلة أهدابها بخجل محرجة وهمست:
" ها نحن بالأسبوع الثاني وأنا ما زلتُ أقيم عندكم ....حقاً أنا محرجة!...."

قطبت حاجبيها باستياء مما تفوهت به وقالت :
" ما هذا الذي اسمعه منك؟؟....رأيت بنفسك كيف أقسمت عمتي سهيلة بأن تبقين عندنا حتى تضبطين أمورك.....لا داعي لهذا الكلام ألمى..."

أرخت ملامحها ووضعت كفها على فخذها تواسيها وهمست:
" لا تفكري بشيء الآن....انهي أمورك الأساسية أولاً وسنساعدك في الباقي!...لا تقلقي!..."

استدارت جانباً لتواجهها أكثر وترقرقت العبرات في حدقتيها وهمست تقديراً لمعاملتهما معها وهي تضع كفها فوق تلك:
" أشكرك رهف...وأشكر خالتي سهيلة....لولاكما لما عرفت كيف أتصرف وماذا أفعل.....ظهرتما أمامي وأنا بأمسّ الحاجة لمن يقف معي!.....لن أنسى معروفكما هذا معي حتى آخر عمري..."

حررت يدها بابتسامة واسعة لتبدّل أجواء الحزن عنها وقالت متحمسة تقترح عليها ما جاء في بالها:
" أنتِ قلتِ أن الحياة هنا أعجبتك أليس كذلك؟!.."

هزّت رأسها ايجاباً مع ابتسامة مكلومة ومسحت بظهر كفها دمعة هاربة فأضافت الأولى:
" اذاً ما رأيك أن تشتري بيتاً صغيراً جوارنا؟!.."

تهللت أساريرها وتسارعت نبضات قلبها انشراحاً وهتفت دون تصديق:
" هل أجد هنا بيتاً يمكنني شراءه فعلاً؟!...أنا ظننت بسبب الاكتظاظ لن أحصل حتى على غرفة لذا لم اسألك..."

اسندت ظهرها للخلف وتطلعت على الطاولة وهمست بتيه:
" يوجد بيت خلف بيت عمتي مكوّن من غرفتين ...كان عليه مشاكل ولم يستطع أحد شراءه من صاحبه الطمّاع البجح ...وهذا إن اشتم رائحة النقود الوفيرة سيبيع أمه....وأنتِ عند بيعك قصركم سيستطيع محاميك شراءه منه ....لا أحد في الحيّ يمكنه دفع ما تستطيعين أنت دفعه.....خشيتُ أن اقترح عليكِ هذا من قبل لأنك....دون مؤاخذة.."

وأعادت بصرها إليها هاتفة دون أن تقلل من قيمة نفسها:
" يعني أنتِ تربيتِ على العز والدلال ونحن هنا مستوى معيشتنا على قدر حالنا الحمد لله....خشيتُ أن لا يعجبك هذا أو تسخرين من اقتراحي..."

مسكت يديها وضغطت عليهما بحب وامتنان وهتفت:
" ما الذي تهذينه؟.....أولاً برأيك هل أنا بحال يسمح لي الاختيار أو النظر لفوق ؟!....ثم من أنا لأسخر؟!....انظري إليّ....انظري جيداً....أنا مشرّدة يا رهف...أنا غديتُ دون أهل أو زوج....دون عائلة مثل باقي البشر....دون بيت ودون تعليم....أنا لا شيء يُذكر يا رهف.....أعيش فقط أيامي من أجل اظهار براءة أبي..."

آزرتها بالشد على يديها وأجابت بحزن على حالها:
" نحن أهلك يا ألمى...لكن...لا تتركي دراستك كما قلتِ لنا...أرجوك....لا تتنازلي عن أحلامك بسبب ابتلاء نزل عليك وسيزول بإذن الله.....ثابري لتتابعي تعليمك....أنتِ أخبرتِني أنه....يعني أقصد....زوجك.... أخذ منك وعداً بإنهاء تعليمك مهما حصل....لا تنكثي الوعود ألمى....الوعد دين...."

حررت نفسها منها وعبست ملامحها وأرجعت خصلة إلى خلف أذنها وأجابت باقتضاب منزعجة بينما دقات قلبها تعارض ما نطق به لسانها :
" لا أنكث وعدي لمن يستحق....ليس لمن خدعني...لم يعد يهمني أمره ولا أي شيء آتٍ منه....ما يهمني الآن فقط ويشغل بالي هو أبي وعندما يخرج سأستأنف تعليمي من ماله....ثم من أين سأجلب المال لدفع أقساط الجامعة وميعاد الدفع للسنة المقبلة يكون بعد شهرين؟!...أي لن يفيدني الذهاب هذه الفترة ومستقبلي الدراسي مجهول المعالم.....لا أعرف إن كان أبي سيخرج قريبا ويعود ليدفع عني أم أن قضيته ستطول وأنت تعرفين مثل هذه القضايا لا تحلّ بسهولة كما أخبرني المحامي...!!....سأترك كل شيء لأوانه أما الجامعة لا يمكنني دخولها غير أن الطلبة سيبدأون بالتهامس والنميمة عمّا يخصنا أنا وأبي.....لستُ قادرة على مواجهة أحد يا رهف صدقيني رغم ثقتي ببراءة أبي الذي سأبقى أفتخر به...."
دلفت إليهما تجرّ كرسي العجلات من كانت تقرأ وردها في غرفتها وبعد القاء تحيتها وتبادل أطراف الحديث واخبارها باقتراح ابنة شقيقها بما يخص بيت (ألمى) الجديد ألقت عليها ما يؤرقها ولم يخرج من بالها طوال هذه المدة:
" ألمى.."

ارتسمت ابتسامة لطيفة على محيّاها ورمشت بعينيها كإشارة أنها معها تسمعها فأضافت:
" ألن تتصلي بالسيدة ايمان للاطمئنان على خالتك؟!.."

دون تردد ردت من فورها:
" بلى.."

أحست بالرضا منها ولم يدم احساسها بعد أن استمرت تخيب ظنها:
" لكن عليّ انهاء اموري كلها أولاً سواء من بيع القصر حتى اطمئناني على توكيل محامين للقضية وبعدها سأقوم بمكالمتها.."

لم يرُق الأمر للسيدة(سهيلة) فما وصلها من أخبار أخيرة كان قبل زيارة صغيرتها لها أن وضعها الصحي يزداد سوءاً فحاولت بلين تقنعها دون أن تذكر وضعها خشية من ردة فعلها التي لا تعلم كيف ستكون:
" عليكما أن تتصافيا صغيرتي.....لا يعقل أن تنسي أفضالها عليك وحبها لكِ بسبب سوء تفاهم!....تكلمي معها وتسامحا بنيتي....لا أمان من الفراق بهذه الدنيا....اتصلي واسمعيها صوتك واعطيها مسامحتك واطلبي مسامحتها..."

وجمت ملامحها وغضنت جبينها وكتّفت ذراعيها تشيح وجهها جانباً وقالت بينما كان الماكث خلف أضلعها ينزف قهراً ولوعة ويبكي حسرات على حالهما:
" كلا خالتي....صحيح سأتصل لأسأل عنها وسأكلمها لكن هذا كرامة لأمي رحمها الله وللسنوات التي كانت بجانبي بها....هذا لا يعني أنني سامحتها..."

تنهدت تنهيدات أسية وشحب وجهها من عناد تلك وهتفت مستنكرة وغصة تحتجز في حلقها:
" الى متى سيقسو قلبك؟!...لا تعاندي ...كيف نسيتِ حنانها؟!....كيف بعتها دون أن تسمعي منها شيئاً.....حتى الظرف ما زلتِ تخبئينه وأكاد أجزم أنك ألقيته بسلة المهملات دون قراءته....لا يجوز هذا بنيتي.....لها حق عليك ....الخالة بمنزلة الأم.....واجبٌ عليك برّها.....كلميها قبل أن يفوت الأوان وتبكي حسرات صارخة بـ يا ليت...."

اغرورقت عيناها بالدموع والأوجاع بدأت تسري في جسدها تنهش خلاياها وأجابت بصوت مهزوز مختنق:
" لن يفوت الأوان.....لن يفوت....سأعاقبهم على ما فعلوه بي وبعدها سيكون للحديث بقية...."

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

لو كان تاريخ فراقنا هو التقويم الذي سنمشي حسبه إذاً مضى أسبوعين بالتمام والكمال علينا.....!!

" إنا لله وإنا إليه راجعون.."
همستُ بها مغلقاً الهاتف في ساعات متأخرة من الليل لحظة دخول أمي الى عندي في غرفة المعيشة لتأخذ باقي الأطباق التي استعملناها في سهرتنا أنا وهي عندما كنا نشاهد التلفاز فانتفضت مجفلة تقف بجمود مكانها وعينيها تتسعان ذهولاً ثم هتفت بتوجس وضربات قلبها تتصارع في صدرها:
" خير بنيّ؟!...من كان على الهاتف؟!...ما هذا الاتصال بهذا الوقت؟!.."

ظللتُ صامتاً للحظات وشددتُ على شفتيّ ثم هززتُ رأسي محوقلاً وقمتُ من مكاني أقف أمامها بانكسار لأجيبها بألم:
" السيدة فاتن.....رحمها الله..."

شهقت تضع كفّها على صدرها الذي بدأ يعلو ويهبط انفعالاً وتكدست الدموع بعينيها وقالت بصوت مرتجف:
" كيف ؟!...من يومين تحدّثنا مع السيدة ايمان وأخبرتنا أن حالتها مستقرة رغم أنها خطيرة....ماذا جرى؟!......"

ونكست رأسها أرضاً بينما كانت تمسح دموعها وتثابر لتستجمع قواها وهي تتمتم:
"إنا لله وإنا إليه راجعون..!!.."

فقلتُ من فوري:
" سأعود إلى بلاد اللجوء .....سيد ماجد من كلمني....عليّ الذهاب إلى هناك لأتواصل مباشرة مع صديقي آرثر من أجل تعجيل الاجراءات في نقل الجثمان...!!.."

وأردفت بنبرة مجروحة مطأطئاً رأسي بحزن:
" فأنا صهرها رسمياً وأقرب الناس إليها وواجبي التكفل بكل شيء....عن إذنك أمي سأصعد لغرفتي لأحجز في الحال تذكرة لأقرب رحلة جوية تأخذني إلى تلك البلاد !..."

قبّلت رأسها بحنوٍّ وتركتها صاعداً السلالم بقفزات سريعة وكانت قفزات قلبي تنافسها سرعةً وأنا أفكر بالمدللة متسائلاً في سري بأي حال سأقابلها وماذا ستكون ردة فعلها حين وقوع الخبر على مسامعها ؟!!...ويا ترى ماذا ستفعل بي عند رؤيتي وأنا المجرم في عينيها بل سأغدو الآن المتهم الوحيد الذي فرّقها عن خالتها ؟!!..

×
×
×

وكيف لك يا قلبي أن تلقى السلام؟
أن تمسح من عمري ألم السنين و أمل الأعوام
هل لك أن تضمد جروحي بقصاصات الأحلام؟
و تمنحني هناءً و إن كان من النسيج الأوهام
رويدك عليّ أيها الغالي ..ترفق بحالي!
غادر صدرا قتلته المواجع..!!
فارق روحا نهشتها الفواجع..!!
كفاك يا قلب عذاب لي و لك..
إنصرف وخذ معك حياة لم تمنحني إلا الشقاء..
إذهب ما عاد لي في الدنيا هناء
إرحمني و أنت مني! ...ما رحمني الأغراب و لا الأحباب
إنصهر من جنبات صدري وخلصني من العذاب
إمسح ما أعطيته لي من وهم كذاب!
إرحل أيها الضعيف أنت آلامي..
إذهب مشيعا حطامي...
إرحل كما فعلوا و ذرني وحيدة!
علني ألقى هناك تلك البعيدة..
تحنو عليّ بصدرها فما كان ليرحمني سواها
توقف أيها الغالي علني ألقاها
فليظل هذا الجسد باردا كالجليد..!
فلتغمض عينيّ على حلمي الوحيد...
إكتفيت وما عدت قادرة على المزيد...
فليس بين أيامي يوم سعيد..
لا حبيب لي أنا و لا رحيم..
أتجرع الشجن لاذعا كالحميم..
فلتنهشني أشباح الموت كما شاءت وارتضت
علّ آلامي تكون بعدها قد انقضت
إني أنا قد انتهيت!
(( خاطرة أميرة المشاعر نورهان الشاعر))
رافقتني مخلفات جنون غضبي أثناء طريق العودة!!....ظننتُ أن المسافة ستكون كفيلة لإطفاء النار التي أتلظى بها.....لم أنفك عن استرجاع الموقف الذي عشته مع......تبا!!....مع الغدارة!!....يا لها من وقحة....لو كانت رجلاً لأصبح اسمها في سجلّ الوفيات!!....أتضربني وأنا الذي لم يجرؤ أحد على فعلها بي سابقا؟!!......أبي وبكل اخطائي لم يلمس وجهي يوماً ليصفعني!!...حتى تأتي ابنة النجس وتهينني بأسوأ طريقة أتلقّاها ورغم كل شيء جميل حملته معي بذهابي إليها!!.....مخيلتي أبت أن تترك ما عشتُ بسببها في العاصمة وهذا جعل ضغطي يرتفع مما يشعرني بلهيب يكوي وجنتي !!...آه من حماقتي !......كنتُ أعيش دوامتي أما صديقي جاهد ليخرجني من حالتي وهو يخوض شتّى الأحاديث لكني عزلتُ نفسي جاعلاً هالة من الصمت تحيط بي!!.....كأنها حصنا تمنع أي شيء من اختراق دواخلي وغياهب فكري !!.....كنتُ كالأبكم والأصمّ معه بينما هياج أنفاسي يشي عن حالي الثائر !!......التزم الصمت من كان بجواري بعدما وصلته رسالتي بأن لا مزاج لي للخوض بأي حديث وإن كان يخص مصلحة وطني!!......فتح المذياع على صوت الوطن يستمع لمنوعات بين برامج ترفيهية واخرى اخبارية بينما أنا فككتُ زرّيْن من قميصي الذي يخنقني وارجعتُ ظهر الكرسي للخلف بزاوية منفرجة علّني أرخي جسدي المشدود قليلاً وتوسّدت ذراعيّ شارداً بسقف السيارة لأفكر باللا شيء وفقط اللا شيء ....لأن لا شيء يستحق التفكير!!

×
×
×

بعد ما يقارب الثلاث ساعات وصلنا الى مدينتنا الحبيبة وبيتنا الجبليّ فترجّلت من السيارة لحظة وقوفها وجملة مختصرة طرحتها بنبرة آمرة مع انحنائي لداخل السيارة:
" اجلب لي سيارتك الخاصة حالاً...!!..."

ثم سبقته عاصفاً كريحٍ خريفية هائجة ودّت لو تقتلع كل ما يواجهها ولحق بي ليأخذ زوجته التي كانت بانتظاره عندنا !....فتحت أمي الباب تستقبلنا بعدما وصلها صوت اصطفاف السيارة في ساحة بيتنا فدخلت ملقيا السلام بوجهٍ متجهم لم استطع اخفاءه رغم أنني لا أحب أن تراني نبض الحياة به وواصلتُ خطواتي واضعاً قدمي اليمنى بهمة على الدرجة الثانية لأصعد الى غرفتي فاستوقفتني بعد أن ساورها القلق من حالي قائلة:
" حمدا لله على سلامتكما!.....ما هذا الحال بنيّ؟!"

ظللتُ على وضعي لم التفت إليها هروباً وبأنفاسي الساخنة أجبت باقتضاب:
" لاحقاً أمي.....عن إذنك!!..."

وتابعت صعودي السلالم الدائرية بقفزات واسعة بينما التي تركتها خلفي استدارت للذي دخل من توّه لحظة اختفائي قائلة بلهجة متوجسة:
" ما به هادي؟....ماذا حدث معه؟.."

تبسّم مرغماً ليضفي بعضاً من الطمأنينة وأجاب:
" لا تقلقي عيوش......سيكون بخير!..."

وتطلع على المقبلة نحوهما مردفاً:
" لم تسر الأمور كما أراد....لذا انزعج قليلاً....اتركوه سيهدأ!"

ثم وجّه كلامه لزوجته هاتفاً بنبرة متعبة فهو لم يرتح منذ الصباح ضائعا بين العمل والسفر:
" هيا دنيا احضري اغراضك لنعود الى بيتنا...كذلك عليّ احضار سيارتي الخاصة لهادي !.."

غضنت حماته جبينها باستفهام هاتفة:
"خير!!....إلى أين العزم ونحن شارفنا على منتصف الليل وقد عدتما لتوكما ؟!.."

رفع كتفه وهز رأسه ولوى فمه بحيرة وقال:
" لا أعلم...لم يخبرني ....فقد طلبها مني عند وصولنا !!..."

ارتفع صدره عند خروج تنهيدة منه وأكمل:
" أظن أنه سيذهب للمدينة الساحلية!!....فأنتم تعلمون البحر منفسه الوحيد عند غضبه!!"

اعترضت هاتفة:
" ما هذا الهراء؟...هل سيذهب في هذا الوقت من الليل كما أننا ما زلنا في بداية الربيع والجو غير مستقر ومؤكد الأمواج عالية الآن.....لن أسمح له!!..."

دنا منها أكثر راسما ابتسامته اللطيفة ثم همس وهو يضع يديه برفق على كتفيها :
" أمي....أرجوك لا تقفي في طريقه الآن .....اتركيه يفرغ غضبه كما يحب لأنه إن لم يفعلها سينفجر بأماكن خاطئة.....هو معتاد على ذلك في تلك البلاد وأنت تعلمين هذا ....وهو والبحر صديقان متفاهمان لا تقلقي واستودعيه الله ..!!..."

تمتمت مستغفرة ثم صمتت برهة قبل أن تناظره بريب هامسة بفضول أم يغشاها القلق على ابنها:
" اخبرني ماذا حدث معه ليقلب سحنته هكذا وقد خرجتما في النهار وهو متفائل والضحكة لم تفارقه؟."

لم يردّ إنما أزاح حدقتيه جانبا نحو التي هتفت تسأل بنبرة جافة:
" هل تشاجر مع ابنة عاصي؟"

شدّ على شفتيه ورفع حاجبيه مع اتساع عينيه كأنه يقول هذا ما حصل ثم ردّ بصوت هادئ:
" ربما هو من يخبركما لاحقاً ما حصل أما أنا ليس من حقي التفوّه بأي شيء"

وتابع ينهي الحديث بجدية وملامحه مرهقة:
"هيا حبيبتي احضري اغراضك ....سأجلب السيارة وأعود لأنام ....أكاد أسقط مكاني .....غداً سأخرج باكراً للمحافظة الشرقية من أجل مؤتمر مغلق وعليّ أن آخذ كفايتي من الراحة!..."

أومأت برأسها توافقه محوقلة وأدبرت ذاهبة لغايتها وهو يراقبها بنظراته ثم أعاد عينيه لحماته هامساً بحنوٍ:
" وأنت أمي اذهبي ونامي مطمئنة ....سيكون بخير بإذن الله......لا تسألينه شيئاً ومؤكد سيخبرك عندما يجد نفسه مستعدا للكلام......اتفقنا؟"

لم تتغير تقاسيم وجهها البائسة الا انها أرغمت نفسها على الاستسلام فهي تثق بصهرها واكتفت هامسة:
"إن شاء الله بنيّ.."
×
×
×

دلفتُ الى غرفتي ولم أطق صبرا حتى أفك أزرار قميصي الأبيض الناصع واحدا تلو الآخر بل أمسكته من طرفيّ ياقته وفتحته بغل لتتناثر أزراره متساقطة ارضاً ثم نزعته بخفة وأنا أشد على فكيّ ساخطاً من حالي وكمشته بعصبية ثم ألقيته على سريري فلم أعد أرى به إلا سواد كراهيتها وفعلتها معي وكأن بياضه شرب كل هذا شاتما من بين أسناني تلك الحقودة وحظي العاثر معها ...." من تكونين لتفعلي بي هذا ؟!...تباً يا ابنة الحقير! ...عليّ أن أنساك وأنسى عمري الذي ضاع معك ولك...."...اخرجت كلماتي النافرة وصرتُ أصول وأجول في الغرفة دون هدى وبعد دقيقتين اتجهتُ الى خزانتي وارتديتُ بلوزة ضيقة دون أكتاف بلونٍ أزرق رغم أن الطقس ما زال بارداً لكن نيراني حولت ربيعي الى صيف شديد الحرارة ثم خلعت بنطالي وارتديت آخراً رياضيا قصيرا بدرجات أغمق من البلوزة كي لا اضطر لتبديل ملابسي هناك فطاقتي ثائرة من اجل الغوص وكأني أريد أن استغل كل ثانية ثم لحقته بارتداء آخر طويل لونه أسود استر به نفسي لحين وصولي وأخرجت حقيبة صغيرة وضعتُ بها منشفة وعطري وملابس أخرى بديلة ومحفظتي......نزلتُ بعد أن سمعتُ صوت محرك سيارة صديقي رباعية الدفع عند دخوله الى ساحة منزلنا !!.....استأذنتُ أمي التي استودعتني الله دون أن تسألني شيئاً...مؤكد صديقي(سامي) وضّح لها بعض الأمور فهو توأمي الذي يفهمني دون النطق بكلمة..!!......ركبت خلف المقود وأوصلته إلى بيته وكان قد أوصاني بتوخي الحذر واستودعني الله هو الآخر ثم انطلقت في مهب الريح لحبي وغايتي علّني أجد راحتي بمصدر سعادتي....صديقي الوفيّ ...بحر بلادي!! ......
الطريق كان شبه خالي من السيارات ولم اكن اشعر بقوة ضغطي على الوقود لذا وصلت المدينة الساحلية بسرعة قياسية بوقت أقل من الطبيعي فدائما سرعتي مضاعفة عندما يكون هو غايتي لأن غضبي المتولّد بي هو من يتحكّم بالدوّاسة تحت قدمي!! ....
للبحر شواطئ مختلفة لكل منها مدخله الخاص....كنت معتاداً على واحد منذ طفولتي وقبل وصولي إليه تذكرتُ أنه المكان الذي تعرفت به على العم (حافظ الصياد) عندما أتينا لمهمة رحلة شهر العسل لوطننا الغالي!! ...اشتقتُ له ولكلامه ...لا أنكر!....لكنا تواعدنا أن يكون لقاؤنا الثاني هو احضاري للمدللة معي بعد أن تنصلح علاقتنا!.....أملتُ زاوية فمي بابتسامة مصدراً صوت ضحكة مبتورة ساخراً من الفكرة......يا له من متوهّم عمي الصياد !!.....لا يعلم أن الوضع ازداد سوءاً.....يا الله إن التقيتُ به ماذا سأقول وماذا سأحكي وعما سأشكي؟؟.....أأقول له انظر الى خدي لترى خيبتي وخذلاني منها؟؟!...بل أنظر الى جرح قلبي!!......كلا لن أفضح نفسي !!......أدرتُ المقود قاصداً وجهةً أخرى وشاطئاً آخراً قريبا هروبا من مواجهته!!......أركنتُ السيارة بمكان مناسب وخلعتُ بنطالي الطويل وبقيتُ بالقصير .....وضعتُ منشفتي حول عنقي وترجلتُ مجتازاً الأرض المبلطة وصولاً للرمال .....توقفتُ اتأمل البحر وانعكاس القمر عليه......كانت رياح بين المتوسطة والخفيفة تحرّك مراكب الصيد المربوطة جانباً على سطح الماء!!.....ومصابيح عامودية بإضاءات خافتة توزّع بالمكان!!..........دنوتُ من المياه ووضعت ُ منشفتي على حافة قارب قريب وخلعت بلوزتي ووضعتها فوقها....وقفتُ لثواني اراقب الأمواج القادمة من الأعماق فينتهي بها المطاف مرتطمة بالقوارب أو على الرمال!!....تنفستُ الصعداء مستعدّا لمغامرتي مع بحر غرامي الأبديّ......أنا أثق به لن يخذلني كالبعض من معشر النساء ذوات القلب المتحجر والعقل الصغير!!.....سحقاً لها سحقاً!!...سأجبرُ نفسي على نسيانها!!....ماذا أتاني منها غير العذاب والإهانة؟!....عليّ أن أنساكِ ...اخرجي من حياتي اخرجي أيتها الحقودة!!....بقلبٍ هادرٍ وجرحٍ غائرٍ حركتُ يدي تمرّناً للسباحة ولأشد عضلي.....توكلتُ على الله وسرتُ نحوه حتى غمرني ماؤه الى خاصرتي وبعدها غصتُ مختفياً عن سطحه ذاهباً الى اعماقه متحدياً أمواجه ببراكين الغضب المتفجرة في احشائي .....سبحتُ وسبحتُ حتى تفككت عظامي وارتخت عضلاتي!.....خرجتُ بعد ساعتين وجففتُ حالي ثم ارتديتُ بلوزتي وصعدتُ الى قارب رث مهجور بلون أخضر باهت واستلقيتُ داخله متوسداً شبكة صيد مهترئة وغطيتُ منطقة بطني بمنشفتي وسرحتُ بالسماء الظلماء أعد النجوم وأفكر بالهموم لبعض الوقت وعند دلوف الفجر ذهبتُ الى الحمامات وتوضأتُ وارتديت بنطالي الطويل وصليتُ جنب السيارة ثم عدتُ مجدداً لأدغدغ جسدي بين أمواج حبي حتى شقشقة الضوء ...!!.....
في وقتٍ متأخر من الضحى قبل الظهر بدقائق عديدة استيقظتُ من نومي بعد عودتي إليه عقب الشروق على صوت رجل غاضب قريب مني..!!....جلستُ اتفحص الوضع فوجدته يوبخ فتىً أسمراً ببنية ليست نحيلة ولا ضخمة ،...وعلامات الفقر المدقع مرسومة عليه من رأسه لقدميه....يبدو أنه طالب في المرحلة الثانوية!!...كان يصرخ به بعد أن سحب دفتراً كان بيده ومزّقه بغل:
" قلت لك ألف مرة نحن لسنا بمدرسة هنا....ألا يستوعب عقلك الغبي الكلام؟!.."

طرق رأسه أرضاً رهبةً!!....أكانت رهبة أم إنها الحاجة!؟...لم أميز ماهيتها!!..ثم رد بصوت مهتز..:
" آسف يا معلمي.....لكني نقلتُ الصناديق كلها من القارب الى الغرفة الباردة وأنت طلبت مني أن انتظر ريثما تأتي الحمولة الأخرى..!!....."

وأكمل وهو يشير لتحت على دفتر آخر:
" لذا في هذا الوقت أردتُ أن أنقل مادة العلوم عن دفتر صديقي لأني سأعيده له عند عودته من المدرسة..!! "

دفعه بيده ببغضاء من كتفه وعلامات الاشمئزاز منه تحتل ملامحه وقال:
" هيا اذهب واسأل عاهد إن كان يحتاج لمساعدة بدلاً من مضيعة الوقت بدراسة لا جدوى منها......قلت لك في السابق تعلّم صنعة أضمن لك من الدراسة التي لن تفيدك يا ابن الغريبة..!!....أولاد بلدنا وبصعوبة حتى يحصلون على وظيفة!....أتظن أنت الذي لا خير بك ولا اصل لك ستحصل عليها ؟!...."

ثبت مكانه وأجاب بحرقة يشوبها الاعتزاز برأسٍ شبه منخفض احتراماً:
" لي أصل يا معلم ....إن كنتُ غريباً في بلادك لا يعني أن لا أصل لي!!.....ثم هذه بلاد الله الواسعة!!..."

قفزتُ من القارب وشددتُ بلوزتي من طرفها لأرتبها بسبب فوضى النوم وبدأتُ أتقدّم نحوهما بتمهّل عكس ما يختلجني من انفعالات استعداداً للهجوم على عديم المروءة والانسانية...لقد أثار حفيظتي...تنهدتُ تنهيدة حارة وتابعت سيري!... فجأة توقفتُ مكاني ناظراً ليسراي عند قدوم فتى آخر نظيف الهيأة يبدو في مرحلة الاعدادية حاملاً ورقة بيده يلوّح بها متفاخراً ومنادياً:
" أبي...أبي....لقد حصلتُ على المرتبة الأولى بامتحان اللغة الانجليزية ......وزعوه علينا ثم حررونا من المدرسة حصة رابعة فجئتُ على الفور عندك لأبشرك قبل ذهابي لبيتنا.."

استدار ناحيته وظهرت أسنانه المتآكلة من تحت شاربه وقال وهو يفتح ذراعيه:
" تعال يا فخر أبيك تعال.....تعال يا طبيب عائلتنا المستقبليّ"

لما وصله احتضنه بقوة بينما كان الفتى يراقبهما بصمت وأنا أقابله من الجهة الأخرى أراقبهما كذلك عن كثب فربّت على ظهره وهو يشدّ عليه مردفاً:
" هكذا أريدك دوماً أن ترفع رأسي.....أنا واثق أنك ستحقق أمانينا بدراستك بنيّ.!!...."

ضحك بعنجهية واستطرد:
"اليوم سأُصْمِت أبا فرج المتباهي بابنه الأبله لحصوله على المرتبة الثالثة بامتحان العربي!...."

وانقطعت ضحكته مع التفاته صوب من كان مستمعاً لهما عندما قال بغصة:
" لماذا؟!....لماذا تشجّع ابنك على الدراسة بينما أنا تحطم لي طموحي وتخبرني أنها لا تجدي نفعاً ؟!.....يمكنني أن أكون بمستوى ابنك واحصل على ما حصل يا معلمي..."

دفعه باستصغار وقال هازئاً:
" أتقارن نفسك يا ابن الغريبة بابن المعلم عاطف رئيس الصيادين؟!.."

ردّ بإباء بعد أن شمخ بهامته:
" كلنا سواسية يا معلم خلقنا الله من طين!....لم يخلق أحدنا من ذهب!.."

لقد استفزني هذا الناقص حامل داء العنصرية !!.....كيف لا يتمزق نسيجنا الاجتماعي وأمثال هؤلاء يعيشون بيننا ؟!....ما هذه الكراهية وهذا التعالي اللذيْن يحملونهما في جنباتهم ؟!....لمَ يظنون نفسهم أفضل من غيرهم؟!......ألا يعرف هذا المتعجرف أنه يصنع بتمييزه العنصري إما مجرماً ناقماً على من حوله أو رجلاً مهزوز الشخصية يعيش حياة بائسة ؟!....تباً لعجرفتك أيها الأرعن ..!!

" أحسنتَ يا بطل!!.."

قلتها معتزاً به بعد أن صرتُ ملاصقاً لهم واضعاً كفي على كتفه فناظروني بغرابة لثواني لأقطع نظراتهم موجّهاً كلامي للرجل الفظ بهدوء راسماً ابتسامة ماكرة:
" أسمعت يا معلم ؟!....كلنا سواسية!!..."

قطب حاجبيه وفتل شاربه وهو يتفحصني من تحت لفوق وقال:
" تبدو لي أنك غريب عن منطقتنا..!!.."

وأكمل وهو يتابع بنظراته المتفحصة:
" وأرى أنك ابن ناس....أم أنني مخطئ؟!.."

" بالطبع مخطئ!!... بدايةً بالنسبة لقولك ابن ناس فكلنا أبناء ناس لا فرق بيننا.....فنحن في النهاية أبناء آدم وحواء....الا اذا كان لك رأيٌ آخرٌ بما يخصك!!..أما غريب فما غريب الا الشيطان.!!.....لأن الأرض هي أرض الجميع من أقصى الشمال الى أقصى الجنوب ومن شرقها الى غربها....وكل قدم داست هذا التراب ستصبح تابعة لهذه الأرض مهما كان المكان الذي أتت منه ....فأرضنا كريمة تحتضن من أوى إليها دون أن تلفظه أياً كان عرقه ودينه وقوميته وميوله...خاصة اذا احترمها واحترم أهلها!....يا معلم!!..."

لم يعجبه كلامي وتهكّمي بين الحروف فأمال زاوية فمه بضحكة ساخرة وقال:
" اترك كلام الشعراء وشعاراتهم الوهمية وعش الحقيقة .....كل واحد منا له أرضه ومكانته وهذا لاجئ مشرّد جاءنا هاربا من الجنوب الغربي منذ خمس سنوات.....أي ليس له شبرٌ هنا وعليه احترام اسياد هذه الأرض الذين اعطوه المأوى والطعام والعمل بدلاً من رد الكلام بوقاحة أو رفع سقف طموحاته الذي سينهار عليه يوماً ما عندما يدرك من يكون ومن أين أتى!!...."

بدأت اعصابي بالانفلات .....أرسل لي الصبر والفرج من عندك يا الله !!.....ما بهم الوقحون يتهافتون عليّ بالآونة الأخيرة؟!.....جئتُ الى هنا لأطفئ ناري من ابنة (عاصي) فوجدتُ نسخاً أخرى من أمثال أبيها وإن اختلفت مساعيهم !!...استغفرتُ في سري محاولاً التحكّم بانفعالي فأنهى كلامه مستديراً وصدم الفتى صارخاً بدناءة يحثّه على التحرك:
" هيا امشِ أمامي يا ابن الغريبة......هذه الدقائق تحسب من وقتك ....لذا لكيّ تتعلّم بألّا تهدر اوقاتك بأشياء لن تفيدك سيكون عقابك عدم استلام راتبك لهذا اليوم ....هيا تحرك أو طردتك من غير عودة ..!!.."

رغم أن النيران التهبت بأحشائي الا أنني ما زلتُ مسيطرا على نفسي وارتأيت أن اراقب بصمت ردة فعل الفتى متعمداً لأرى مقوّماته لغاية في داخلي !!...وبينما كنتُ أقاوم ثباتي انتفخت اوداج الفتى بقهر والتمعت عيناه بأسى الا أنه رد من بين أسنانه بجسارة:
" الرزاق هو الله وهو من يوزع ارزاقه علينا.....أنت ليس سوى وسيلة يا معلم .....ربما اعطاك المال وحرمك شيئا آخراً وربما حرمني المال والأب وخبأ لي شيئاً أعظم سيأتي بوقته......"

وخلع مريول النايلون الذي كان يرتديه للعمل وألقاه أرضاً هاتفا بعز وشموخ:
" كل يوم كل يوم تُسمعني الاهانات وأنا صابرٌ ادعو لك بالهداية ...تنعتني ابن الغريبة وأنا صامت ....الى هنا و كفى......أنا لم أعد أرغب بالعمل لديك وسيتولاني الله...."

استشاط غضباً منه وانقض عليه يمسكه من تلابيبه وهو يزعق:
" من أنت لتقرر وحدك ترك العمل ؟!...لن تتركه الا اذا اردت أنا ذلك !!.....أتظن أنك ستجد عملاً آخراً ؟!..."

وضحك بعنجهية ساخراً ثم تابع بغضب وهو ما زال يمسكه ويهزّه:
" أنسيت أنكم منبوذون من الجميع هنا ؟!.....فأنت تعلم لو كان بكم خيرا لما رماكم الطير .....وفهمك كفاية يا ابن الغريبة!..."

هالني تصرفه هذا الخسيس باستصغاره وثارت دمائي بعد أن سحق آخر ذرة صبر كنت اتكئ عليها فهجمتُ عليه وسحبته عن الفتى ممسكاً قميصه من صدره بقبضة واحدة غاضناً جبيني وعروقي تكاد تنفجر من غضبي ثم نظرتُ ليميني سائلاً:
" ما اسمك يا بطل ؟!..."

أجاب وهو يرتب بلوزته المهترئة:
" شُجاع..!!.."

" ووالدك وكنيتك؟!.."

" حسن الراقي !.."

عدتُ بحدقتيّ المشتعلتين بجمر الغضب للذي في قبضتي وصرختُ به وأنا اجذبه تارة نحوي وتارة ابعده :
" صبرت عليك علّك ترتجع لأنك رجل كبير وإذ بك لا تمت للرجولة بصلة ....ضع في دماغك ولا تنسى.....هذا البطل....اسمه شجاع حسن الراقي ....أعدك بإذن الله بإذن الله اذا اراد الله لنا الحياة ثلاثتنا أنك عند سماع اسمه في المستقبل القريب سترتجف رهبةً وستبكي ندماً وستركع عند قدميه متوسلاً إن لم تعتذر منه وتنعته باسمه الشخصي باحترام ولن أكون هادي ابن محيي الدين الشامي إن لم انفذ وعدي في حال رفضت الاعتذار الذي يليق به .!!..."

أفلتّه بكراهية حاملاً نخوتي حتى ارتد قليلاً للخلف ووازن نفسه يصلح هندامه ثم أردفت رافعاً سبابتي بوجهه:
" احذر من غرورك وعنصريتك اللذين سيأخذانك الى الهاوية ...."

وحرّكتُ رأسي ناظراً للفتى لأسأله:
" ما طموحك والى اين تريد أن تصل ان شاء الله بدراستك ؟!.."

تبسّم ابتسامة تشع أملاً وأجاب بحالمية:
" طبيب......جرّاح قلب ان شاء الله !.."

عدتُ مرة أخرى للرجل وقلت:
" هذا الشاب سيدرس في افضل المدارس والجامعات بمشيئة الله.... فكّر أنك ربما تحتاجه يوما لك أو لشخص يخصك ...فالصحة والعافية ملك لله وحده وليست بقوتنا....تخيّل أن تتوقف حياة ابنك لا قدّر الله على عملية لا غيره يمكنه اجراءها له... وقرّر إن أردت الاستمرار بعنصريتك وعدم الاعتذار أم أنك ستعتدل..."
ثم دنوتُ من الفتى (شجاع) ممسكا بذراعه اوجهه ليسير معي والتفتُّ للخلف بنظراتي الحادة النارية هاتفاً لذاك الناقص بنبرة يفوح منها الوعيد :
" أظن أنك تعلم عنوان بيته ....عجّل باعتذارك قبل أن يغلق الباب امامك!.."

وسرنا معاً متجهين الى السيارة لأن عملي لم ينتهِ معه بعد....فأنا رسمتُ عليه أشياء كثيرة وأرجو أن لا تخيب آمالي...!!
×
×
×
عند اقترابنا من السيارة تبسّمتُ بوقار وأشرتُ له قائلاً بعد ضغطي على المفتاح:
" هيا اركب معي ..!!.."

تنحنح مشيحاً رأسه جانباً وهو ثابتٌ مكانه ثم اداره نحوي مجيباً:
" اشكرك سيدي على وقوفك معي....لكن لم أفهم....لمَ لأركب معك ؟!.."

وضعتُ ذراعي على سقف السيارة متكئاً بذقني عليه ناظراً للجهة الأخرى حيث يقف وقلت:
" لم أفعل شيئاً لتشكرني.....وأنا رغبتُ بالتعرف عليك....لذا أريد دعوتك لنتناول غداءنا معاً وندردش....ما رأيك ؟!.."

قطب حاجبيه وقال وهو يمعن النظر بوجهي:
" لا نحتاج لغداء كي نتعرف على بعضنا.!!.....ثم يبدو أنك ليس من سكان هذه المنطقة أي اصبح من واجبي ضيافتك..!!"

واستدار برأسه للخلف يمد ساعده هاتفاً وهو يشير بسبابته لبقعة فيها بعض البيوت المتهالكة المبنية من المعادن الصدئة والأخشاب تقع بالطرف الآخر من الشارع :
" تفضل لتشرب كأساً من الشاي في بيتنا المتواضع إن أردت!!.."

انتصبتُ بوقفتي رافعاً حاجبي مدققاً بالبقعة التي اشار إليها ثم عدتُ بعيني إليه وقلت بعدما لمحتُ عزة نفسه الأبية:
" بكل سرور!.....لا أفضل من كأس شاي والبحر أمامي ورائحته تعطر أنفاسي !!.."

أقفلتُ السيارة مرةً أخرى بعد أن فتحتها وأقبلتُ نحوه ثم بسطتُ يدي هاتفاً بابتسامة:
" إذاً تفضل أيها الشجاع لنتذوق شايكم.."

كنا نسيرُ على مهل فسألته بهدوء:
" ألا يفترض أن تكون بهذا الوقت في المدرسة ؟!.."

نظر إلى موضع قدميه حيث حذاؤه الممزق وأجاب بغصة:
"أنا أدرس لوحدي....المعلم عاطف اختار أن أعمل في الوردية الصباحية ونحن نحتاج لهذا العمل لا استطيع رفضه ....لذا آخذ المواد المهمة من صديق طيب لي وأراجع عليها بنفسي وقد وضع الله بطريقي مدرس كريم كان يحبني فتواسط لي عند المدير لأقدم الامتحانات مع زملائي الحمد لله..!!.."

" منذ متى تعمل عنده ؟!.."

" منذ ستة شهور!!...لا أنكر فضله عليّ من بعد الله لكني سئمت من اهاناته .....ابتداءً من الغد سأبدأ بالبحث عن عمل جديد ان شاء الله .....لا يمكنني البقاء من غير دخل لبيتنا..!!.."

وضعتُ قبضتي أمام فمي ساعلاً ونظرتُ إليه بعد اجتيازنا الشارع:
" لا تؤاخذني بسؤالي!.....لمَ يناديك بابن الغريبة ؟!....أين والدك؟!.."

لاذ بالصمت فشعرتُ كأنني تخطيت حدودي بالسؤال فبدلتُ الموضوع مستفسراً:
" أي البيوت بيتكم؟!.."

" أبي أسير في سجون النظام السابق الظالم منذ خمسة أعوام....تبدّلت الحكومات والأنظمة ولم يتبدّل الظلم.....كل نظام يأتي اسوأ من الذي قبله..."

أجابني بنبرة مجروحة على سؤالي الأول فاقداً الأمل ومحبطاً فسألته بفضول:
" أتعلم ما تهمته ؟!..."

تطلعنا كلينا نحو الطفل القادم مسرعاً , مقبلاً نحونا صارخاً بسعادة قبل أن يجيبني:
"جاء أخي شجاع....جاء أخي شجاع... جاء وجلب لي الحلوى..."

يا الله...عاد بي الزمن وعادت معه أوجاعي....!!...كأنني أرى أمامي مشهداً معاداً بطلاه (هادي)و(شادي).....هذا الفتى يذكرني بنفسي!!....انحنى يحتضنه بحب وحنان أبوي فتأكدتُ أنني لستُ وحدي من أصبح رجلاً قبل اوانه.....كان طفلاً في السابعة من عمره ولمّا أفلتا بعضهما تطلع على يديّ شقيقه الفارغتين وقال بخيبة وبراءة:
" أين الحلوى خاصتي؟.."

تنحنح ورمقني بنظرة جانبية سريعة ثم عض على شفتيه يسكته ورد وهو يمسّد خده:
" غداً ان شاء الله سأجلبها لك....الآن معنا ضيف لا يجوز ابقاءه واقفاً ....اذهب الآن يا حمزة والعب مع فطين صديقك!!..."

طرق رأسه أرضا ومطّ شفتيه حزناً واستدار يخطو خطواته المكسورة فناديته في الحال:
" حمزة..."

تطلّع عليّ فأردفتُ:
" ألن تصافحني وأنا ضيفكم ؟!.."

وقبل أن يصلني نقلتُ حدقتيّ إلى (شجاع) وقلت:
" هيا اغلي الماء للشاي سأنتظرك هنا ..!.."

اومأ برأسه ايجاباً ودخل غرفتهم المتهالكة المسمّاة بيتاً فعدتُ لأنادي الطفل ولما وصلني صافحته وداعبته قليلاً ثم أخرجت ورقة من المال وقلت له مشيراً لبقالة بسيطة موجودة على مدخل حيهم الصغير:
" اذهب أنت وصديقك فطين واشتريا لكما ولباقي الأطفال الحلوى.!!.."

سحبها من يدي بحماس ضاحكاً واختفى عن الأنظار فأطلّ (شجاع) هاتفاً:
" تفضل الى الداخل..."

دلفتُ بعد أن استأذنتُ أهل البيت وألقيتُ السلام ....ما هذا الحال ؟!...تصلّبتُ مكاني برهةً من الزمن!..بيت يفتقر لأدنى مقومات المعيشة !!....حتى خيمتنا في بلاد اللجوء كانت أكثر صحيّة ...ربّاه ربّاه....اعتصرني الألم على حالهم وغمرتني موجة ذات بأس شديد!!....كان مفروشاً بحصير متآكل وجلسة أرضية هي ذاتها للنوم....احدى زواياه عبارة عن مطبخ توضع الأواني القليلة بوعاء بلاستيكي كبير على الأرض وبالون غاز صغير عبارة عن موقد يوضع عليه ابريق قديم كان ذهبي اللون قبل أن يُقشر طلاؤه خاصاً للشاي!!....والحمام في زاوية أخرى بابه من ستارة لم استطع تحديد لونها والدش عبارة عن اناء بلاستيكي لصب الماء ووعاء كبير كحوض استحمام!!....مستوى حياة أصعب من الحياة البدائية!!.....يعيش داخل هذا البيت عجوز كان يجلس مكانه ويتمتم وهو يلتفت يمنة ويسرة كأنه يكلم أناساً من عالم آخر لا نراهم...وخطوط لهموم جزيلة ترسم كخرائط على بشرته و(أم شجاع )كانت تفرم البصل لتقلّبه بالزيت كوجبة غداء دسمة لهم... وعلى جانبيها يجلس فتيان تتراوح أعمارهما بين التاسعة والعاشرة... أحدهما يحمل كسرة خبز شبه يابسة يقضم منها بصعوبة !.....نهضت المرأة من مكانها حال دخولي حيث كانت تقرفص ومسحت جبينها بذراعها ثم انزلت كميها هامسة بقوة فيها الحياء:
" تفضل أخي...."

شكرتها خافضاً بصري احتراما ثم قعدتُ مجاوراً للعجوز ووضعتُ يدي على فخذه هاتفاً بنبرة مرحة:
" كيف حالك يا عم ؟!.."

تطلّع عليّ وقال:
" كيف حالك يا عم ؟!..لا اله الا الله"

رفعتُ حاجبي بريب صامتاً لبرهة ثم استأنفت:
"محمد رسول الله ... الحمد لله أنا بخير ما دمتَ أنت بخير..!!"

رفع حاجبه مثلي وكرر نفس جملتي مع اضافة لا اله الا الله!!....لم أفهم حالته بعد!!.....أما المرأة وابنها البكر (شجاع) حدّجا ببعضهما صامتين ثم اقترب الأخير منا وقعد على الجانب الآخر ومدّ يده لذقن جده يصوب وجهه نحوه وقال برفق :
" جدي....انظر إليّ....هذا رجلٌ طيب !!...لا داعي لتكرار كلامه.....إنه ليس من هؤلاء.....يُدعى..!!.."

وحدّق بي لأعرّف عن نفسي بنفسي فقلت مبتسماً:
" هادي الشامي!.....من المدينة الجبلية!!.."

اتسعت عيناه مذهولاً وهبّ واقفاً من فوره هاتفاً باعجاب:
" مدينة الثوار؟؟!!.."

رفعتُ رأسي ناظراً إليه لأقرأ مقصده وأجبتُه بسؤال:
" ما الذي تعرفه عنها ؟!!."

عاد لمكانه وشقت ثغره ابتسامة صادقة فأصبح وجهه أكثر بشاشة وقال:
" قبل خمسة سنوات عندما كنا بقريتنا على الحدود الجنوبية الغربية عند حدوث (معركة العزّة ) حين انتصر الثوّار الأحرار بكافة الكتائب على عصابات الدولة الخونة قالوا لنا أن أبطال هذه المعركة معظمهم من المدينة الجبلية!!...لم أنسَ ذاك اليوم...كان عمري أحد عشر سنة.....تمنيتُ أن أزورها يومـَ....."

وقطع جملته ملتفتاً للتي صرخت به وهي تجول بعينيها لأنحاء البيت وعلى المدخل بحرصٍ شديد كأنها تخشى أن يسمعه احد :
" شجاع....أصمت...."

أجابها بتحدي:
" أمي....أنت تعلمين أن المدينة الجبلية اشتهرت بإخلاص ووفاء أهلها للوطن وهي رحم ولادة الثوار...المدينة الوحيدة التي لم يجدوا بها خائناً واحداً.. وأبطالها من وقفوا معنا وضَحّوا بدمائهم حماية لنا..!!..."

ونظر إلي ثم أرجع عينيه نحوها مكملاً:
" حدسي أخبرني أن أخي هادي ابن أصل من موقف صغير وإلّا لم أكن لأدخله بيتنا أمي...وها هو تبيّن أنه ابن مدينة الأبطال...أي لا خوف منه!!.....ثم ما الذي نخشاه وقد خسرنا حياتنا الكريمة ؟!..."

بنبرة مكلومة تفيض أنهاراً من الوجع قالت:
" يكفي ما خسرنا.....لا أريد خسارتك ولا خسارة مأوانا!....بالكاد استقرينا هنا بنيّ....فكّر بي لو أخذوك ماذا سيكون مصيري !...."

يا الله....شبيهة أمي!!...ذكّرتني بها عندما كانت في البداية تخشى عليّ من كل شيء.....نفس الكلام ونفس القلق سبحان الله !!......آآه من تلك الأيام يا نبض الحياة....!!

تدخلت بأدب ورزانة مشتركاً بحديثهما:
" أختي من فضلك لمَ تصمتينه ؟!.....أرجوكِ لا تصمتيه....نحن نحتاج لأمثاله من هذا الجيل الصاعد !.....نريدهم أن يقولوا الحق دون مهابة ودون أن يخشوا لومة لائم.!!.....إن سعى كل أم وأب لإخراس ابنائهم عند قول كلمة الحق سيضيع الوطن وسيتم التلاعب بالدين وسيهون العرض وستسلب الأرض!!....شجاع اسمٌ على مسمّى حفظه الله ورعاه وأنت ستفخرين به ولن تخسريه بإذن الله.....لا أعلم لمَ تتعاملون كأن النظام السابق ما زال يسيطر الى الآن على الدولة وشعبها ؟!!....ذاك الزمن ولّى والنظام في طريقه الى الزوال ....قطعناه وبقي ذيله يتحرك كذيل الأفعى المبتورة عندما تتحرك دون أن تؤذي !!...اقترب بإذن الله اليوم الذي سندفن به هذه الذيل لنمسح آثارهم عن بكرة أبيهم !!....استبشري خيراً..."

تربّعت على الحصير وشدّت ثوبها المرقّع عن جسدها بعد التصاقه بها وهتفت بأسى وقهر:
" من سيمسح آثار ما فعلوه بنا ؟!....من سيعيد لنا ما ضاع منا ؟!....من سيثأر لسمعتي وشرفي ؟!....أي أثر ستمسح لهم بالضبط ؟!...."

انقبض قلبي وشعرتُ أن شيئاً قاسياً عانته ووجع شديد ألمّ بها ولمحتُ بكلامها جروحاً عميقة لم ولن تندمل بينما قام ابنها ليحضّر الشاي بعد رؤيته لغطاء الابريق يتحرك فوق النار من شدة غليانه!!.....
كانت امرأة في نهاية العقد الثالث, متوسطة الجمال..!!.. سألتها وعيناي أرضاً:
" اخبريني ما فعلوا بكم علّني استطيع المساعدة أختي....ثقي بي رجاءً....أنا معكم....أنا هادي ابن المدينة الجبلية ...مدينة المجاهدين ألتي أنجبت القادة والشهداء!....هادي محيي الدين عبد الهادي الشامي!!..."

" القائد محيي الدين الشامي ؟!.."

هتف بها العجوز ناصباً كتفيه اللذين كانا متهدلين بانكسار فنظرتُ إليه على الفور مؤكدا:
" أجل.....القائد محيي الدين الشامي....هل سمعتَ به ؟!.."

" هل سمعتَ به؟. لا اله الا الله.. هل سمعت به ؟!.لا اله الا الله."

كرر كلامي مجدداً وهو يطوف بحدقتيه الضعيفتين على الحصير كأنه يبحث عن ضالته واستمر بتكرار آخر كلامي فأمالت زاوية فمها (أم شجاع) بابتسامة ساخرة ورفعت يدها مشيرة بلا مبالاة كأن الأحاسيس قتلت داخلها من شدة ما تحمل من اليأس وهتفت:
" انظر ...هذا عمي...حماي !!....أول الضحايا!...اسمع لقصتنا التي سأحكيها لأول مرة كاملة لغير عائلتي!.....لكن عدني أنك ستوصل كلامي للعالم الصامت عن الظلم....لمدّعيي حقوق الانسان....لمن يبنون امجادهم على اشلائنا...لمن يستخدموننا كسلعة لجلب مشاهدات وأموال لم نرَ قرشاً واحداً منها.....للصحافة التي تزين صفحاتها بصورنا.....لكل من اولئك غاية ونحن أضعنا غايتنا...!!...."

تململتُ مكاني أعدّل جلستي ...نظرتُ إليها قائلاً قبل أن أعود لأخفض بصري :
" اسمعك أختي.....سأفعل ما أقدر عليه بإذن الله...أعدك!.."

زفرت أنفاسها الممزوجة بالآهات والحسرات وحاولت المحافظة على نبرة صوتها :
" في يومٍ ككل يوم من أيام الحرب على الحدود قبل خمسة سنوات زارنا قائد من الثوار مطلوب للدولة طالباً الحماية ريثما يأتي اصدقاؤه ويأخذونه الى مكان آخر.....فتح له زوجي بيتنا وأكرمه....يشهد الله أنه كان رجلاً شهماً شجاعاً فخراً للوطن وأثناء مكوثه في بيتنا ورده اتصال ممن ينتظرهم فاقترح عليه زوجي بأن يوصله لمكان معين في ساعات الليل بدلاً من قدوم رجال غرباء إلينا كي يبعد الشبهات عنا ومنعاً لأي خطر نحن بغنى عنه....فالجواسيس كثر وإن رأوا سيارة غريبة في حينا سيبيعوننا ..!!....كان كل ما فعله زوجي أنه قام بإيصاله لأطراف القرية أي الى منطقة غير مأهولة!!....ولم نكن ندرك أن أحد الجيران الخونة يعمل لصالح الدولة مقابل بضع قروش كان يراقب تحرّكات زوجي في غفلة منا !....حاصرت بيتنا القوات المسلحة وأصروا أننا نتعاون مع الثوار وأن لدينا معلومات حساسة تخصهم...لم يصدقوننا أبداً رغم قسمنا لهم بأننا لا نعرف شيئاً عنهم!!.....بطريقة ما عرف زوجي بحصارهم لنا وأنه مطلوب فلم يعد للبيت ظناً أنهم سيسأمون ويتركوننا في حالنا .....ظن الخير بسلالة الشياطين!!...."

ابتلعت ريقها تبتلع غصاتها واستطردت بصوت بدا ضعيفاً وهي تنظر للعجوز:
" كان عمي يصلي قيام الليل آنذاك....سحبوه عن سجادة الصلاة قبل أن يسلّم من صلاته بعد ثلاث ساعات من الحصار...لم يحترموا المعبود فهل سيحترموا العابد ؟!... لم يأبهوا لتعثر خطواته وسقوطه وقالوا لي وهم ينظرون بصفاقة ودناءة * قولي للديوث زوجك أن يسلم نفسه لنا قبل أن نلبس والده خلخال ونتسامر على رقصه *.. وأخذوه من أمامنا وسط استنكارنا وبكاء أطفالي....كان شجاع في الحادية عشر من عمره!!...مرّت الأيام ولم يظهر زوجي ولم يتواصل معنا وكان بعض الشرفاء يطمئنونا أنه بحماية الثوار!!.....أما عمي ذاق من العذاب ألوان في سجون النظام....كانوا يتركونه عارٍ في عز البرد ويسكبون الماء البارد عليه !!.."

ضحكت هازئة وقالت:
" طبعاً هذا الكلام أخبرنا به زملاؤه في السجن ممن أنعم الله عليهم بالحرية فهو منذ فك اعتقاله وهو على هذا الحال!....يعيد الكلام الذي يسمعه متشبثاً بـ لا اله الا الله......"

ثارت دمائي في منابعي وصككتُ فكيّ بغيظ رغم أن هذه القصص أعلمها لكن أن أخالط وجهاً لوجه أناس عاشوها كان وقعه كبيراً عليّ ولم يتحمله قلبي....شعرت بضيق يجثم على صدري يزيد من قهري إلا أنني رغبت بسماع القصة كاملة فقلت بهدوء مزيف وأنا أمد يدي لأتناول كأس الشاي من الصينية التي يحملها (شجاع):
" أسمعك أختي...تابعي!.."

مسحت بظهر كف يدها دمعة يتيمة خانتها وتابعت:
" كانوا يصلبونه في احدى الغرف الباردة وهو عاري وكل نصف ساعة يدخلون إليه ويجلدوه بالسوط ليقر ويعترف عن مخابئ الثوار وعن زوجي وهو حقاً لا يعلم شيئاً عنهم..... لقد أوصلوه لهذا الحال تحت اجباره على النطق بشعاراتهم....لذا أصبح يكرر ما يسمع.....كانوا يضغطون عليه ليعيد كلامهم تمجيداً لرئيسهم وأن....أن.....استغفر الله...."

" أن ماذا؟!.."

سألتُ بخشونة فأجابت وهي تستغفر وتطأطئ رأسها لحجرها:
" كانوا يرغمونه ليشرك بالله إلا أنه بقوة ايمانه أبى وتمسّك بأن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله .....أعادوا علينا زمن الجاهلية وقريش بل هم أشد كفراً...."

" أوغاد لعنة الله عليهم..!!"

قلتها وأنا أجزُّ على أسناني وعروق يدي تكاد تنفجر من الشد على قبضتي فأضافت:
" عندما كان يجف حلقه ويطلب الماء كانوا يسقونه مجبراً من بولهم أكرمك الله .."

تلاحقت دمعاتها وتهدجت أنفاسها وبدأ صدرها يعلو ويهبط انفعالاً وهي تسترجع الموقف واردفت:
" عندما أخبروني بكل هذا ظننتُ أنهم يحدثوني عن أحد أفلام العصابات حتى جاء اليوم المشؤوم!..."

" أي يوم ؟!..."

حاولت استعادة رباطة جأشها ومسحت دمعاتها بأناملها ناظرة لفوق مبعدة حدقتيها عني وهي تضغط على شفتيها وكأنها تشهد الله على ما مرت به ثم تنهدت بقوة وأجابت:
" لقد عتقوه وأخذوني بدلاً عنه ليضغطوا على زوجي بتسليم نفسه !!..."

" ماذا ؟!.."

سألت مستنكراً وبركان الغضب يتفجر داخلي فقالت:
" أخذوني بعد اسبوع من تحرير عمي ....سحبوني من بين اولادي..."

أشارت للخارج مضيفة:
" كان حمزة ابن عامين وفي حضني....أخذوه عنوة ووضعوه أرضاً بقسوة دون أن يرف لهم جفن ولم يحرك انسانيتهم منظره وهو يرفع يديه نحوي باكيا بحرقة وينادي عليّ لأحمله...كان مريضاً وملتصقاً بي....طفل فرّقوني عنه وهو بأمسّ الحاجة لي!!.."

وأشارت لبطلنا وهي تكمل والعبرات تتسابق لتشهد على مصابها :
" أما شجاع....هجم يسحبني منهم فجرّوه بعنف وركلوه غير مهتمين لصغر سنه!!....ركلوه كأنهم يركلون كلباً ضالاً....أو كيساً مليئاً بالرمال....أخذوني وحبسوني في سجن انفرادي....منعوني من الصلاة لأيام وأنا داخله....في الوردية المسائية كان يأتي ضابط حقير يدخل إليّ في ساعة معينة ليتحرّش بي بنية الضغط عليّ لأعترف بما لا أعرفه!!....كانت الساعة التي تسبق زيارته أمضيها مبتهلة الى الله بأن يقبض روحي قبل أن يغتصبني !!....بعدها وضعوني في سجن مليء بالضحايا شبيهاتي.....تتراوح أعمارهن بين الثامنة عشر والخمسون....غرفة تتسع لعشرين يضعون بها أربعين امرأة......ولا واحدة كانت تعلم ما تهمتها!!....يحتجزوهن كطعم للضغط على من يخصهن...!!....أذكر....أذكر...."

علا نشيجها وأخفت عينيها بكفيها وهي تهز رأسها للجهتين عسى أن تطرد المنظر من أمامها !....شجعتها لتكمل رغم أني فقدتُ قدرتي على تحمل ما أسمع فأكملت بشق الأنفس وصوتٍ متحشرج:
" أسماء...!!....رحمها الله ....فتاة في التاسعة عشر من عمرها!....كانت ترتدي النقاب وتحفظ كتاب الله!....آية من السحر والجمال!....كانت تحمل أحلاماً تكفي لتعمّر الأرض ...فتاة طموحة متفائلة!...أتعلم أنها كانت هي من تحثّنا على الصبر؟....أتعلم أنها حتى معنا نحن النساء كانت حريصة على حجابها ونقابها وكأنها كانت مستعدة دوما لدخول مباغت لأحد أشباه الرجال!!.....وجاء اليوم الذي كشفوا به عن وجهها ففتنوا بها!!......كانت معتقلة حديثاً نسبياً ليضغطوا على شقيقها.....لا أعلم كم يوماً بالضبط فنحن هناك كنا نجهل الليل من النهار وغدت كل أوقاتنا متشابهة ....فكانت ساعاتنا الظلم والعذاب ودقائقنا القهر والإرتعاب أما الثواني هي دموعنا التي لم تجف وأملاً بحرية من سراب!!... تلك الفتاة أخذوها من بيننا الى احدى غرفهم المشبوهة وتناوب ثلاثة على اغتصابها بكل حقارة وشراسة....عادت إلينا بقايا روح بشعر مشعث وملابس ممزقة تمشي على مهلها نازفة!!...الدماء تنزف منها وقلوبنا تنزف معها.....منظر لم يبرح عن مخيلتي....لن أنساه ما حييت!!....حاولنا اسعافها واخراجها من حالتها وظننا أننا نجحنا وما كانت إلا أوهامنا!!....فعند الفجر استيقظنا لنجدها جثة هامدة بعد أن شنقت نفسها بحجاب احداهن كان متروكاً جانباً.....لتصبح أسماء ضحية أخرى لظلمهم وتجبرهم ...الضحية التي لا نحصي عددها.....رحمها الله.."

" إنا لله وإنا إليه راجعون.."

ماذا أعلّق وبماذا أعبّر؟!...من أين ابدأ وكيف أنتهي ؟!....ضاعت الحروف ونزفت المشاعر وشلّ اللسان!!.....لعنة الله تنزل على الظالمين....لعنة الله .!!....يا رب عجّل في عذابهم!!.... اكتفيت باسترجاعها الى الله وهذه كانت مقدرتي من هول ما سمعت فرغم اعتيادي على سماع القصص الأليمة الّا أنني بكل مرة أموت آلاف المرات معها!! ....استجمعتُ قواي الهاربة وقلت محافظاً على حبالي الصوتية مع أن الحزن الممزوج بالغضب نهش خلاياي:
" وأنتِ ماذا حصل لك؟!.."

" بعد شهر من اعتقالي وصل الخبر لزوجي فاضطر لتسليم نفسه ....لم يعجبهم أن يتركوني دون أن يحرقوا قلبه عليّ.....ربطوه على كرسي وسلّطوا نظره صوبي واغلقوا فمه بشريط لاصق كي لا يعبر عن غضبه...خلعوا عني حجابي ومزّقوا ملابسي أمامه رغم محاولاتي المستميتة لردعهم سواء بالدفاع أو بالتوسل !!....رجوتهم ليستروا عليّ.....لكن منذ متى الظالم يرق قلبه ؟!....تحرّشوا بي أمامه ثم أوصلوني بسيارتهم وألقوني عند بيتي على مرأى الجميع وسط النهار!!...ومن منظري ظنوا أنني تعرضت للاغتصاب فبدأوا يعايروني وأولادي.....شهران ولم نتحمل اضطهاد الناس لنا .....صاروا ينعتون أولادي بأولاد المغتصبة!.....فقررنا الهجرة وجئنا الى هنا بعد أن ضقنا ذرعا وذقنا مرارة الظلم !!....لم يكن الحال هنا يسرّ البال إلا أنه كان أسهل الصعبين!....سمّوني الغريبة فعمي بعقلٍ غير سويّ وأولادي يعتبرون صغار....لم يحفظوا اسمي وبلدي بل عرّفوني بالغريبة.....تعرضنا لمضايقات في بادئ الأمر وطعنوني بشرفي....اتهمونا أن أهل بلدنا من رمونا بسبب سمعتي!!....التزمتُ الصمت ولم أحكي قصتي الى يومنا هذا !!.."

توغّر صدري أكثر وأنّ قلبي وصباً على حالها ثم سألت:
" وزوجك ما أخباره؟!..."

" زوجي ما زال بالسجن ولا تهمة ثابتة عليه ....لكنهم عذّبوه بشتى الطرق فهم قانونهم عذّب أولا ثم باشر التحقيق!!...إن كنتَ منا فلا بد أنك تفقه مبادئهم!!......أصبح يعاني من فشل كلوي بسبب قسوة العذاب.....كحرمانه من الماء أو أبسط حقوقه الانسانية ...وهي التبوّل حتى صار يفعلها على نفسه!!....وضعوه بمكان مغلق ومظلم لينام على صوت نزول قطرات ماء يصله من سماعة مثبتة في الغرفة كإحدى الطرق من طرق العذاب..."

حكت عن زوجها بصمود وثبات وهي تبذل قصارى جهدها لتمد القوة والعزيمة لأطفالها فقلت:
" هل تزورونه ؟!.."

لاذت بالصمت لثواني وأمالت فمها بابتسامة مجروحة ثم أجابت:
" كنّا في البداية لكن الآن كيف سنزوره وهو في سجن الجنوب؟!.....مصروف المواصلات....أو الحصول على محامي يسهّل علينا زيارته !!....من أين سآتي بكل هذا ونحن بصعوبة نحصل على قوت يومنا ؟؟!......نتواصل من حين الى آخر هاتفياً مع أقربائنا في القرية فبالكاد تصلنا أخبار خفيفة عنه !!..."

" هل اعترف زوجك عن الثوار؟!.."


" أبي ليس خائناً ليبيع الشرفاء.....أبي مستعد أن يضعنا قرباناً فداءً للوطن "

صرخ بها (شجاع) فأهديته ابتسامة رضا وفخر وسألته:
" وأنت ؟...ماذا عنك؟....ما الذي يمكنك أن تقدمه لنصرة الحق وردع الظلم وفداءً للوطن؟.."

ضرب على صدره صوب قلبه وأجاب بشموخ:
" إن كان قلبي سيجعل تراب الوطن ينبض بالخير والسلام ...إن كان قلبي سيعلّي راية الحق والدين ....إن كان قلبي سيقضي على الظلم وينشر الأمن والاستقرار فأنا من هذه اللحظة مستعد أن أجتثه فداءً للوطن ليعيش شعبنا بسعادة وأمان...."


لم اخطئ في غايتي!!....حدسي أخبرني أن هذا الفتى سيكون له شأناً عظيماً.....من يواجه الظلم بجسارة يستحق أن يحمل الأوطان !!....بزيارتي هذه تعرّفت على عائلته ومعاناتهم .....ختمتُ لقائي حاملاً الوعود لهم بعد جهد بسبب عزة نفس (شجاع) .....اتفقتُ معهم أن ألحق الأولاد بالمدرسة أما بطلنا أقنعته ليلتحق بمدرستنا الثانوية العسكرية التي انشأناها منذ ثلاث سنوات ....سيقوم بالدراسة والتدريب معاً....لقد عزمت على تكفل هذه العائلة بكل احتياجاتها!!....وعدتهم باصطحابهم لزيارة قريبة لوالدهم بعد تسوية بعض الأمور ولنبحث عن قُرب ما يخص قضيته لعلّ وعسى ننجح في تحريره !!....وسيكون هذا بالطبع من مسؤولية توأم روحي (سامي).....أنا اثق بلوائنا الجديد!....من استطاع الحصول على ترقية من عقيد للواء بوقت وجيز بسبب نجاحه يمكنه فعل المستحيل لمساعدة المظلومين..!!

بعد أن وافق ذاك الفتى الشجاع على مساعداتي صرّح قائلاً:
" أوافق على هذا لكن بشرط...."

ضحكتُ مبتهجاً بحبور لثقته بنفسه وقلت:
" أسمعنا شرطك..!!.."

أردف ثابتاً على رأيه:
" أريد أن أعطيك المقابل لهذا....قل ما تريد أو نُبطِل اتفاقيتنا!!.."
ربّتُ على كتفه معتزاً به وأجبت راسماً ابتسامة على محيايّ:
" المقابل الذي أريده.....وعد.."

تطلّع لعينيّ بإمعان وكله آذان صاغية فاستطردت:
" وعد بأن تتكفل عائلة مستورة عندما تحقق أحلامك بدراسة جراحة القلب وتبدأ بالعمل!.. وعد بأن تعطي من مالك لطالب علم محتاج......وعد بأن تقف ضد الظلم وتساعد المستضعفين ....وعد بأن تجتث قلبك إن احتاجه وطنك! ولا تنسَ أخذَ وعدٍ مماثلٍ ممن كفلتهم لنستمر على هذه الطريق دون انقطاع......فبتدفق العطاء وحمل الشهامة نحيي أمةً كاملة وبالأخلاق النبيلة ونشر العلم نبني خير البلدان !!..."

غزت ثغري ابتسامة وقورة ثم غمزته بمشاكسة مضيفاً بتأكيد:
" باختصار.....كُن إنساناً..... بما تحمل الكلمة من معنى...... هكذا ترد الجميل إن رأيت أنني أقدم لكم الجميل...!!.."

[[..وأنت تعد فطورك، فكر بغيرك.. (لا تنس قوت الحمام)
وأنت تخوض حروبك، فكر بغيرك.. (لا تنس من يطلبون السلام)
وأنت تسدد فاتورة الماء، فكر بغيرك.. (من يرضعون الغمام)
وأنت تعود الي البيت، بيتك، فكر بغيرك.. (لا تنس شعب الخيام)
وأنت تنام وتحصي الكواكب، فكر بغيرك.. (ثمة من لم يجد حيزا للمنام)
وأنت تحرر نفسك بالاستعارات، فكر بغيرك.. (من فقدوا حقهم في الكلام)
وأنت تفكر بالآخرين البعيدين، فكر بنفسك..(قل:ليتني شمعة في الظلام(.]]
(( كلمات محمود درويش ))


أنهيتُ زيارتي متشبثاً بمبدئي منذ الصغر!!....بأن كل شر يأتينا وراءه خير لا نعلمه.....فيسوق الله لنا الأسباب بحكمته التي نجهلها!!...لقد أغضبتني خاطفة قلبي فوصل بي الحال أن أكون سبباً بانتشال عائلة كاملة من الضياع والهلاك !....
اسأل الله أن يكون مسعاي خالصاً لوجهه الكريم...!!

~~~~~~~~~


ساكنة مكانها على الأريكة كأنها تمثال حجريّ منحوت لا حياة فيه فروحها ظلّت حيث أُزهقت في تلك البقعة بأرض الوطن!!...هناك لفظت أنفاسها الاخيرة من اقرب اثنين إليها ...والدها الذي بثّ سمومه بدماغها وزوجها الذي أعطاها الضربة القاضية على قلبها!!......لقد وصلت الى بيت السيدة (سهيلة) منذ ساعة واستقبلتها (رهف) التي هالها منظرها الكئيب الشاحب لكنها لم تشأ أن تزعجها بأسئلتها لأنها قادمة من سفر ومرهقة...ستصبر عليها حتى ترتاح قليلاً وبعدها تستفسر منها عن كل ما حدث!!......في البداية كانتا لوحدهما في البيت فمربيتها ذهبت مع أحد أبناء أشقائها لإجراء فحص روتيني ولما عادت تهللت أساريرها لحظة ولوجها غرفة المعيشة ووقوع عينيها على ابنتها التي لم تلدها محنطة مكانها فقالت مبتهجة.:
" حمداً لله على سلامتك بنيتي!.....حللتِ أهلا ووطئتِ سهلا !.."

بحركة واهية ضعيفة حرّكت رأسها صوبها لتنظر إليها وردّت بصوت مبحوح:
" سلّمك الله خالتي..!!.."

أصابها القلق من نبرتها فسألت مرتابة:
" ما به صوتك تغير؟!....هل أثرت عليكِ الأجواء هناك؟!..."

فضّلت الصمت ولم تجبها....ماذا ستشرح لها ؟!...هل تخبرها أنها جاهدت نفسها لتتوقف عن البكاء عند اقترابها فقط من المدينة الساحلية لبلاد اللجوء ؟!....أتقول لها أنها أمضت ليلتها وصباحها غارقة بدموعها ؟!...هل تعترف لها بما حدث بيننا ثم توجهها بعد ذلك الى المشفى لتطمئن على من تحمله في رحمها بعد النغزات التي أحستها أسفل بطنها ؟!......آثرت السكوت فلا يوجد لديها ما تقوله وسرحت بكلام الطبيب الذي أوصاها مشددا على الاعتناء بصحتها وحملها لأن جسدها هزيل وينقصه فيتامينات وسوائل سببه طبعا اهمالها لنفسها كل هذه الفترة والذي زادها قلقاً على حالها عندما شرح لها عن احتمالية خسارة جنينها أو ربما تعرضها لولادة مبكرة إن استمرت بعدم الاهتمام بصحتها وتناول المغذيات اللازمة فترة الحمل ..!!.....عاشت كل هذا في دواخلها ولم تخرج من عالمها الا بعد أن نادت عليها الجالسة على كرسيها الخاص أمامها والوساوس تلعب بها:
" ألمى!....ما بك؟!...أين شردتِ"

عادت بحدقتيها اللتين ما زالتا تلمعان بعد رحلة شاقة من الدموع وتبسّمت مجبرة وهمست :
" لا شيء خالتي....أنا متعبة فقط من السفر وأريد أن أستحم وأرتاح!.."

جمّدت اسئلتها لا تريد أن تزيد عليها بينما قلبها كان مقبوضاً لوضعها الشبه مأساوي الذي لا يمكنها اخفاؤه مهما ألّفت من حجج وأقاويل وهمست لها بصوتها المحب الحنون :
" اذهبي الى الغرفة وارتاحي بنيتي....رهف ستتولّى أمر ترتيب أغراضك!..."

حثّت قدميها المثقلتين من التعب والخذلان للسير الى الغرفة المشتركة بينها وبين صديقتها الجديدة ولمّا اختفت عن أنظارهما تطلعت (رهف) إلى عمتها وهمست بصوت منخفض:
" ماذا جرى يا ترى ؟!...أيعقل أنها علمت شيئاً يخص الحكم على والدها ؟!.."

تنهّدت بأسى وأجابت بلوعة:
" ما زال الوقت باكراً للحكم....لا أظن ذلك!...لكن.!...لكن!.."

رفعت حاجبها بريب والتفتت خلفها لتتأكد أن ضيفتهما ليست بالقرب وسألت بفضول:
" لكن ماذا عمتي؟!...أخفتني!.."

مالت الى يمينها بجذعها هي الأخرى لتتأكد من خلو الممر خلف الواقفة ازاءها وردت هامسة:
" صحيح ما زال الحكم باكراً لكنه سيأتي في النهاية....وجلّ ما أخشاه هو انهيار المسكينة لحظة اعلان الحكم!.."

أكملت تسأل بفضولها:
" لمَ تقولي هكذا عمتي ؟!......كنتِ تطمئنيها وتعطيها الأمل بأنه سينال البراءة!...ماذا تغيّر الآن؟!.."

زادت من تنهداتها لتخفف من حمل موجود على عاتقها وهمست بحذر :
" كنتُ حيادية ولم اوهمها على براءته البتة....اخترتُ أن أكون في موضع التي تجهل الأمور والحقائق لأنني لم اشأ كسرها ...كان عليّ تصديقها لا ردعها عن أفكارها....هي حاربت الجميع من أجله...لو وقفتُ في صفهم عليها ستكرهني ايضاً وتتركنا!....وأنا لن أسمح بأن تضيع صغيرتي في متاهات الحياة ...عليّ أن احتويها واشعرها بالأمان وأني معها وما يأتينا من المستقبل نتركه على الله ..!!.."

" أتقصدين أن التهم ثابتة عليه وليست افتراءات وأكاذيب ؟!."

سألتها بعينين جاحظتين لأن هذه أول تلميحات تخرج منها فنكست رأسها الجالسة بحزن وهزت رأسها يمنة ويسرة رافضة كل ما يحدث ثم حوقلت لتتبع الحوقلة بالنظر إليها مجددا وهي تجيب:
" وما خفي أعظم بنيتي!.....هي تعلم فقط عن التهم السياسية والوطنية ولا تعلم سبب تعاون خالتها مع الثوار ولا تعلم عن حقارته حتى عندما كانت أمها على قيد الحياة!..."

بانكسار لحال صديقتها وسيدتهم الصغيرة عاتبتها بصوت خافت:
" لكنك يا عمتي اعطيتها الأمل دوماً....لمَ فعلتِ هذا إن كنتِ تدركين كل هذه الأمور وأن الحكم القاسي عليها آتٍ لا محالة ؟!..."

برضا وملامح كساها الاستبشار ناظرتها مجيبة:
" أعطيتها الأمل ولم أحدد لها أين موجود!!....ربما ما تظنه خير لها هو الشر بعينه والعكس صحيح.......والدها شخص فاق المعايير كلها بالسوء....أي خير وأي أمل ستجد به ؟!.....عليها برّه واحترامه لكن هذا لا يعني أن تسلّم حياتها له .....لقد حلّق عالياً لسنوات بأجنحة الجشع والخيانة والغرور وحان وقت سقوطه! ...لا أخفي أنه كان ودوداً معي خاصة ولكني أدرك جيداً السبب لهذا!!....فإن فعل الكافر عمل إنساني لمرة لا يصبح ملاكاً بفعله.... وهو كذلك!!...."

تنهدت وهي تهز رأسها توافقها على كلامها ثم التفتت للخلف لتتأكد من جديد أن ضيفتها المسكينة لم تسمع شيئا من حوارهما ثم عادت لتقول:
" أرجو أن ينير الله بصيرتها للحق....هذه الفتاة مدمرة نفسياً ....أنا أشفق عليها ....أنت محقة لا نستطيع الضغط عليها أو التلميح لها عن الحقائق لأننا سنخسرها لذا سنستمر متحفظتين بما يخص والدها بالذات ونتركها للأيام وأنا بتّ أجزم أن الظرف الخاص بخالتها فيه شيء من الحقائق وهي تأبى أن تفتحه ...رفضها الأول كان من غضبها على خالتها فلم تهتم به ورفضها الآن أكثر صلابة وصعوبة وصدقيني سببه خوفها من الوصول لشيء يجعلها أكثر ندماً وحسرة !!...اختارت الهروب و التناسي ولا أعلم الى متى حقاً؟!!.....أما بشأن زوجها ما زلنا نجهل ماذا حدث معها عند لقائه وسنفهم منها بعد أن تأخذ قسطا من الراحة ان شاء الله ...."

استقامت اكثر بوقفتها وبدّلت نبرة صوتها هاتفه بمرح:
" والآن عن اذنك عمتي....سأعود الى مطبخي لأتابع مغامرتي مع الطبخ .....يبدو أن غداءنا سيصبح عشاءً لليوم !!.."

أومأت ضاحكة لها وهمست بحنوّ:
" رضي الله عنك بنيتي.....اذنك معك ومغامرة موفقة....اما انا سأقرأ وردي ريثما يؤذن الظهر...!!.."
×
×
×

بعد أن استحمّت ارتدت منامتها بسكون شاردة ...كان سكون مخيفاً يسكن جنباتها.....تركت شعرها كما هو واكتفت بتجفيفه بالمنشفة ....لم تسرّحه ولم تهتم به كعادتها وخطت برخاوة نحو سرير (رهف) الذي أصبح سريرها الى حين ترميم بيتها الجديد الملاصق لبيت مربيتها!....لقد تكفّل شبّان الحيّ بترميمه لها لأنه غير آهل للسكن بسبب الرطوبة الشديدة والتصدعات الكثيرة بجدرانه ....كان بيتاً عبارة عن غرفة نوم وغرفة معيشة وحمام ومطبخ صغير....تصميمه يشبه غالبية بيوت الحيّ والآن أغراضها مركونة فيه !!.....كوّرت جسدها كالجنين وسرحت بالفراغ تسترجع كل ما مرت به اليومين السابقين ....لم تتحمل وانفجرت بالبكاء بعد شعور أليم اجتاحها سببه أن كل شيء خذلها ...حياتها مقيتة ...حظها ينافسها تعاسة.....دفنت وجهها بالمخدة وعلا نحيبها أكثر ...تمسك طرفيها بقوة وتحرك رأسها عليها .....تريد أن تطرد أفكارها السوداوية....لا تريد أن تتذكر وتعد خيباتها ....ترغب بأن تكون قوية من أجل ابنها ....قلبت نفسها لتصبح على ظهرها وتطلعت بالسقف المقشور ...حركت يمناها لتضعها على بطنها فأنّت بوجع شديد وهي تكمش تقاسيم وجهها ..الألم يصرّ على طرق بابها!!....رفعتها تنظر إليها والى الاسوارة التي تطوق معصمها....لم تكن من إكسسوار الزينة التي اعتادتها....إنها إسواره تتدرج باللونين الأزرق القاتم والأحمر!...ألوانها كانت من الوجع و الحسرة......
إنها بصمات يدي العنيفة عليها ....رفعت يدها الأخرى ومسّدت آلامها علّها تسكن قليلاً لكنها لم تستطع الوصول لتمسّد على جرحها النابض بين أضلعها !....ماذا سيسكنه ؟!...من سيشفيه ؟!....عادت لتكوّر نفسها وتضم ذراعيها لصدرها وهمست ببحة والدموع تتدفق كالسيول على وجنتيها:
" أكرهك هادي....أكرهك...لن أسمح بأن تعلم عن ابنك....سأربيه بعيداً عنك ......أنا للتسلية ودمائي نجسة ؟!....أنا من لن ترضى بأن يكون لك ابناءٌ منها ؟!.....كيف خدعني قلبي وأحبّك؟...هل أنت نفسك من اهديتني حضنك ؟!.....ما الذي غيرك ؟!....كيف غسلوا دماغك ؟!.....أنت أقسمت أنك لن تسمح لأحد بذكر سيرتي أمامك كأني نكرة أو نجسة وأنا أقسم أنني سأحمي ابني بروحي من كل شيء وأي شيء إن لزم الأمر... وأولهم أنت.."

وبعد فضفضة الكراهية والثورة التي حدثت بدمائها استكانت قليلاً وأنزلت يسراها لبطنها تحسس عليه وبهدوء مضاد لثورتها التي عاشتها قبل قليل همست بحنية ورقة:
" أحبك ولن أسمح بأن يطولك الأذى حتى من أقرب الناس إليك.....وأنت كذلك ساعدني لأتخلص من مصيبتي....أي عشقي لوالدك...يجب أن أتعافى من هذا الإدمان...المسمّى هادي..."

ظلّت لدقائق تداعبه بكلماتها العفوية البسيطة حتى ارتخى كل شيء فيها وراحت لنومٍ عميق دون أن تشعر..!!

~~~~~~~~

بعد ليلتي التي قضيتها مع بحري ويومي الذي خضتُ به مغامرة جديدة مع (شجاع) عدتُ الى بيتنا الجبليّ وكان الوقت يقترب من العصر.....دخلتُ وألقيتُ السلام على أمي وكان مزاجي معتدلاً.....اقتربتُ منها أقبّل رأسها هامساً بمداعبة:
" ماذا ستطعمني أم هادي ؟!.."

تبسّمت بحنوٍّ وهي تمسك يدي ناظرة إلي وأجابت:
" ألن تنام أولا؟!.."

ضحكتُ وقرصتها من خدّها منحنياً صوبها مكملاً بمداعبتي لها وقلت:
" لن يزورني النوم وأنا جائع ...."

استقمتُ بوقفتي وأردفت بجدّية:
" سأستحم وأنزل في الحال إن شاء الله.....أريدك بموضوع هام !!"

اومأت ايجاباً فهي هذا ما تنتظره منذ البارحة ....لم تنم جيداً قلقاً لأمرين....ذهابي الى البحر الذي تخشاه وكذلك أي سبب الذي أوصلني لتلك الحالة التي أوجعت قلبها ؟!....

خرجتُ من الحمام وارتديتُ ملابس بيتية خفيفة ...نظرتُ لنفسي بالمرآة ...تنهّدتُ بعمق عازماً على صك قانوني الجديد الخاص.....نزلتُ متجهاً إلى المطبخ حيث نبض الحياة....كان (شادي) يلعب بلعبته الإلكترونية فناديته مشتاقاً وكذلك ليسمع قانوني ..داعبته قليلاً وشاكسته...ثم تجمعنا ثلاثتنا حول طاولة المطبخ.....تناولتُ طعامي ولما أنتهيتُ أسندتُ ظهري للكرسي براحة حامداً الله وقلت جازماً:
" من الآن وصاعداً لا أريد سماع اسمين داخل هذا البيت..عاصي...وابنته!!....مهـم� �تـنـا انتهت بنجاح الحمد لله...ننتظر الحكم فقط.....لقد حان الوقت لنلتفت إلى حياتنا ونتقدّم....سننساهما ونحذفهما من حياتنا.....اخبروا دنيا بذلك....لن أتسامح أو اتساهل بهذا الموضوع."

رفعت حاجبها معترضة بريب وقالت:
" ما الذي غيّرك ونحن نعلم حقيقة علاقتك بها ؟!...."

تدخّل (شادي) ببراءة مشتاقاً:
" ألمى ليست ابنة الكلب عاصي....أنا انتظر متى تنصلح الأمور لتعود إلينا.....أفتقدها كثيراً ...كانت صديقتي الطيبة....وتمنيتُ أن تأتينا بمحيي الصغير أو أمل .....لمَ تقول ننساها؟!....أليست هي زوجتك؟!..."

نظرتُ لكليهما ثم ثبتّ بصري لشقيقي قائلاً بحزم وتشديد:
" ليست صديقتك.....ولا تنتظر عبثاً....لن تأتيك لا بمحيي ولا أمل......التفت لدراستك فقط ولا تبني أوهاماً.... وها أنا أقول ولن أعيد.....سيرتها لن تذكر بهذا البيت وخاصة أمامي..."

ثم عدتُ بنظري لأمي وبنبرة أكثر هدوءاً أردفت:
" أمي ....علاقتي بها انتهت هناك في مركز الشرطة.....لقد تمادت كثيراً ولن أسامحها على ما فعلت بي!.....هي اختارت أي طرف تكون!!...وأنا سأمسحها من حياتي....."

بفضول وقلبٍ ملتاع لحالنا قالت:
" ماذا فعلت لك حتى تصل لهذا القرار؟!."

شردتُ قليلاً مسترجعاً الموقف ثم عدتُ مسلطاً حدقتيّ عليها وقلت:
" لا يهم الفعل أمي.....المهم هو النتيجة!...."

ثم نهضتُ من مكاني هاتفاً ومؤكداً:
" لا حاجة لتفسير أي شيء ....هذا قراري وانا اتخذته أمي....."

" لكـ....لكن بنيّ...ألا أمل بإصلاح الحال؟....ألا يوجد خيط رفيع بينكما؟!...اخبرني لنجد الحل معاً.."

اتكأت بكفي للطاولة منحنياً أمامها وقلت:
" لا أمل ولا أي خيط يربطنا....قُطعت علاقتنا وانتهت قصتنا !!...وكلمتي الأخيرة......هذا البيت سيخلو من سيرتها ووالدها .....إلى هنا وصلنا....يكفي!"

وانتصبتُ واقفاً قاطباً الحاجبين هامساً بجدية:
" أنا أسعى لأنساها ورجاءً لا تحاولوا التأثير.... .وقد أقسمتُ إن أتيتم بسيرتها أمامي سأهاجر ولن أبقى بهذا البيت......لذا لا تضغطوا عليّ وإلا سأنفّذ قسمي!!......وهنا القرار لكم!..."

ثم استأذنتهما صاعداً إلى غرفتي لأذهب إلى عالم النومِ...!!


~~~~~~~~~

ودت لو تنام نومة أهل الكهف !!....الملاذ الوحيد للهروب من علقم الحياة وضنكها ....لكنها خجلة ممن كررتا المناداة عليها لتناول وجبة الغداء المتأخرة.....ألا يكفي أنها تملأ بطنها دون أن تقدّم مساعدة ....هل ستشغلهما بها ايضا؟؟......قامت من مكانها تتمطى ورتبت منامتها المبعثرة طويلة الكمين ....اقتربت من المرآة فانزعجت من مظهرها المهمل.....متى تركت شلالها الأسود دون أن تسرحه ليصبح بهذه الفوضى؟؟....حملت المشط لتهذب شعرها المشعث وما إن رفعت يدها حتى أصدرت أنّة متأوهة من شدة الألم بمعصمها الذي تضاعف بدلا من أن يزول!!!....تحاملت على نفسها وحاولت كتم أنينها بينما تلاحقت قطرات الماء الطاهرة على خديها وهي تحاول تسريحه بيسراها قدر استطاعتها......كانت تنظر الى حالها ولشحوب وجهها ومع كل حركة للمشط تنقم على حياتها !!....اكتفت بتركه مفروداً على ظهرها ووضعت طوق خاص لـ(رهف) لتبعد الخصلات عن عينيها ثم خرجت لتشارك عائلتها الجديدة الطعام ......اجتمعن ثلاثتهن على الطاولة الدائرية حيث صفّت ابنة شقيق مربيتها الأطباق البيضاء المنقوشة باللون الفضي والمملوءة بأكلات متنوعة صنع يدها.....فتاة ماهرة تمتلك ذوقاً خاصاً ليس فقط بالطعام الشهي الذي تحضره انما بتزيين الصحون كأنها تصنع لوحة فنية تبهج النظر وتفتح الشهية ....ذكية ومبدعة بإمكانها ابتكار وجبة كاملة من أبسط المكونات التي تكون بحوزتها......كان حلمها الحصول على شهادة (شيف) وفتح مطبخها الخاص لتلبي طلبيات الزبائن وتسترزق بمتعة!....لكن ظروفها المادية لم تسمح بكل هذا .......حاولت (ألمى) تلطيف الجو وما كان هذا الا هروباً من اسئلة تتجنّبها فسحبت انفاسها وهي تقترب من الأطباق تستنشق البخار وهمست مغمضة العينين بنشوة ابتدعتها:
" الله ما أطيب الرائحة.....يا لحظ زوجك بكِ"

ارتسمت ابتسامة على محياها ممتنة وقالت مازحة بعد أن غمزتها:
" هيا اذاً لا تضيعي الفرصة .....استغلي وجودي قبل أن أتزوج وتحرموا من طبيخي أنت وعمتي وصغيرنا .."

ردت تمازحها بالمثل:
" الشكر لله أن بيتك بنفس الحيّ!!.....يعني انتظرينا دوماً انا وصغيري على الغداء والعشاء رضيتِ أم لا..."

تبادلن الضحكات ثلاثتهن ولم يفتحن سيرة بما يخص سفرها وعند انتهائهن من الطعام حان وقت توضيب السفرة ونقل الأطباق الى المطبخ.....همّت من مكانها لتساعدها على الأقل برفع مخلفاتهن !!..فهي لم تعد ضيفة بل أصبحت مقيمة وعليها أن تشارك بكل شيء!......حملت بكلتا يديها طبقين فاهتزت يدها المصابة وتخلخل الطبق رغما عنها حتى سقط منها ليلقى حتفه ناثراً بقايا الطعام على السجادة والبلاط فأعادت الآخر مكانه وامسكت معصمها ثم اجهشت بالبكاء بعد انفلات اعصابها بسبب وجعها وشعورها بالإحراج منهما وكأنها طفلة لا تستطيع المساعدة بأبسط الأشياء مما فطر قلب الجالسة على كرسيها لتسألها من فورها والقلق يسود خلاياها:
" على مهلك بنيتي...ما بها يدك ؟!...."

كمشت تقاسيم وجهها تحاول كبح جماح نحيب أكبر يحارب ليخرج منها وأجابت بإيجاز:
" يدي تؤلمني.."

سمعتها القادمة لتتابع مهمتها بنقل ما على السفرة فقالت:
" من الممكن انك قمت بحركة خاطئة أو التهاب في العظم ...سأجلب لك مرهما يسكن هذه الأوجاع تستعمله عمتي....اجلسي ولا تهتمي بأي شيء......انتبهي لصحتك فقط!..."

اعتذرت منها بخجل وشكرتها وهي تطرق رأسها أرضاً فأردفت تلك:
" اخرجا الى الشرفة فشمس العصرية الدافئة وصلتها.....سأحضّر شاي بالنعناع وألحق بكما..."

حرّكت السيدة(سهيلة)كرسيها لتتجه الى الشرفة وهي تقول لـ(ألمى):
" تعالي بنيتي لنرى ما بك....قلبي غير مرتاح لحالك!..."

بعد وصولهما الى مقرهما الدافئ واستقرارهما افتتحت الحديث بفضول كأنها أمها الحقيقية وتريد الاطمئنان عليها:
" أجل أخبريني ما حصل برحلتك... و ماذا جرى بشأن قضية والدك ؟!"

اعتلت وجهها غمّة ضاعفت من شحوبه وردت بصوت خفيض:
" التقى به المحامي ليباشر العمل بالقضية وعلى حسب قوله من المحتمل أن تكون الجلسة الأولى بعد شهر من الآن!!.....يتملّكني احيانا هواجس وانقباضات في صدري خوفاً من فشل القضية واحيانا أخرى يزورني الأمل.....أما أبي منظره صهر قلبي....لم اره قط في حياتي بهذه الصورة وهذا الحال.....أعلم أنه قوي لا يستسلم بسهولة .....لكني أخشى عليه من تدهور نفسيته إن طالت القضية.!!.."

كانت تحكي بلوعة متألمة من أجله!!....قلبها ملتاع والروح سقيمة... شرعت تدعي على الظالمين ولم تدرِ أن هذه الدعوة في نهاية المطاف ستكون من نصيبه وحده....تعيش في عالم رسمته وصدّقته ...والدها المجرم بريء ومصيره أن يخرج لا محالة......حالها يثير الشفقة فهي لا ترحم نفسها ....ما زالت تأبى أن تقتنع بالحقائق قبل أن تصفعها صفعاً وترديها ارضا على غفلة دون أن تعطف عليها!!.....

" وماذا بشأن زوجك؟....هل أخبرته بحملك ؟!.."

نزل عليها السؤال الذي كانت تخشاه كالصاعقة...هربت بحدقتيها جانباً تحاول الفرار من الاجابة فكررت تلك سؤالها بتشكك ناظرة إليها بتدقيق:
" عزيزتي ألمى....أخبرته أم لا؟!.."

اكتفت برفع حاجبيها كإجابة مختصرة بـ (لا) فهتفت بعدم رضا مستاءة:
" لمَ بنيتي لمَ.!؟......كانت هذه فرصتك!!..."

انضمت (رهف) اليهما حاملة صينية الشاي وفهمت فحوى حديثهما بينما عمتها ظلت تضغط عليها تريد أن تعرف السبب وأي تبرير ستلقيه عليها فتعاقبت أنفاسها توتراً وتسارعت خفقاتها انفعالاً ثم كشفت عن معصمها وهي تمد ذراعها بعد اختيارها البدء بالمهاجمة على مبدأ سأتغذى به قبل أن يتعشى بي وصرخت بغيظ مختلط بالبكاء:
" انظرا....انظرا......هو من آلمني....سحق لي يدي بقبضته دون أن يرحمني!...."

واختفى صوتها الناعم بين عبراتها وهي تردف:
"انظري خالتي الى آثار أصابعه......كسرني خالتي....كسر قلبي.....لا أريده أن يعلم ......لا يستحق أن يعلم عن ابني!!"

تطلعتا بذهول على البقعة الموسومة على شكل إسواره بلونيها الازرق والاحمر فهمست (رهف)سائلة بشفقة عليها دون أن تبعد نظرها عن يدها:
" يا الهي!!....لم فعل هذا بك؟!"

وقبل أن تجيبها لحقت السيدة (سهيلة) سؤالها بسؤال آخر أكثر استفسارا:
" أفعلَ هذا بكِ من غير سبب أم استفززته بشيء؟..."

حدّقت (رهف) بعمتها التي تفهم كل حركات صغيرتها ثم التفتت للتي بشفافيتها وعفويتها لا تستطيع الانكار والتكتم وهي تجيب بتلكؤ وبصوتها العذب البريء محرجة من تصرفها بينما كانت تجول بعينيها على الأرض كأنها تبحث عن طوق نجاة ينشلها من عسر الموقف:
"لقد....لقد قمتُ بصفـ.....بصفعه....و...أمام.....ال� �نـاس"

شهقة واحدة صدرت من كليهما بصدمة تلتها حوقلة بعدم رضا من مربيتها التي قالت مستنكرة :
" ماذا فعلتِ يا مجنونة؟!.......لو كسر يدك او عنقك لن يلومه أحد.....أهذه حركة تفعلينها؟!.....أين عقلك؟!..."

ثم أشاحت وجهها عنها خافضة عينيها لحجرها لثواني تستمر بتكرار الحوقلة قبل أن تعيد النظر إليها للاستيضاح:
" ما السبب الذي جعلك تفعلين هذا وكان اتفاقنا أن تخبريه ؟!....ما الذي غيّر رأيك ؟!.."

أغلقت عينيها للحظات وصدى كلمات أبيها يرن في أذنيها ...هاج وماج النبض في قلبها مجدداً فأضحى جسمها ناراً تغمره حمى الخذلان ...كم كان عظيماً وصادماً ما سمعته ؟!...كم كان وقعه قاسياً على روحها ؟!....منذ كشف المسرحية كانت تلك المرة الأولى التي حاولت التنازل بها قليلاً عن غضبها وعنادها من أجل مصلحة ابنها....ذهبت حاملة الأمل الذي سكن عروقها وخلاياها فتبعثرت حروفه الجميلة لتكتب الألم ولا غير الألم الذي كان أشد وطأةً عليها هذه المرة !!....لملمت قواها المتفرقة كاشفة عن سماءيها وشرعت بسرد حكايتها المأساوية عليهما من البداية بصوتٍ متأثرٍ, مؤثر من عسر وفظاعة ما مرت به ثم تسلّحت بقوى دفاعية تنقل بصرها بينهما هاتفة عقب ادلائها بما اخبرها به أبوها :
" ماذا عساي أن أفعل بعد سماعي لهذا؟!...هل أذهب وأشكره؟!"

" معقول؟!."

لهجة استفهام نطقتها(رهف) مستغربة, مستنكرة فلحقتها الأخرى آيسة... قد طفح بها الكيل منها :
"وأنت صدّقتِ على الفور؟! لمَ لم تواجهيه وتتقصين عن الحقائق؟!...هل كل شيء يلقى على مسامعك تأخذينه دون بحث وتمحيص؟!"

لم يرق لها ما سمعته منها وقد اشتمت رائحة اتهام أو تكذيب لوالدها فحدّقت بها مشدوهة معاتبة:
" خالتي!!...هل أكذّب أبي؟!.... هذا ما أفهمه من كلامك !!.."

أجابتها بجدّية:
"والدك على العين والرأس بنيتي...لكنه يبقى انسان يخطئ ويصيب!....مثلاً ضعي احتمالية أنه كان مجرد سوء فهم منه!....ألا يمكن ذلك؟!"

ابتلعت ريقها وتابعت:
" لا تنسي أنهما الآن خصمان بينهما كراهية وانتقام ...فمثلما تتوقعين من زوجك القاء التهم على والدك عبثاً إذاً توقعي أن والدك سيفعل بالمثل وعليكِ أن تكوني هنا حكيمة ,منصفة لا ظالمة فبالتالي كل تصرفاتك ستعود آثارها عليكِ أنت وحدك سواء كانت ايجابية أو سلبية...أجل ألمى....واجبك احترام والدك وبرّه كما واجبك احترام زوجك وطاعته......لا اهانته!!.....تصرفك غير لائق أبداً بل قبيح ...لا تزعلي من كلامي..!!.."

تدخّلت الملتزمة بينهما قائلة:
" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْتُ المَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا )).....معنى السجود هنا هو الاحترام والتقدير له ....يبيّن لنا الحديث عِظم حق الزوج على زوجته فإن كنتِ تقفين في صف والدك حبّاً له وطاعة لله عليكِ ايضاً الوقوف مع زوجك طاعة لله وحتى عندما تتزوج المرأة تصبح طاعة الزوج مقدّمة على طاعة الوالدين وهذا لا ينقص من حقهما واحترامهما شيئاً.....وأنت بنفسك أخبرتني عن زوجك وكرم أخلاقه والتزامه في دينه ....رجلٌ مثله كنتِ تهيمين بحنانه الفطري...رجلٌ دُمغ بقلبك حبه الحقيقي والقلب لا يخطئ هل تعتقدين أنه يمكنه أن يقتل روحاً بريئة؟!...وكيف إن كانت هذه الروح من صلبه وتحمل دمائه.؟!...مستحيل أن أصدّق بأن زوجك الذي ارتجف عليك وضمّك الى صدره بتمّلك فضح مشاعره وأنت تعتبرين ابنة عدوه يمكنه أذية ابنه!!...."

نفثت أنفاسها لتتابع بنبرة صادقة دافئة تفتح ذهنها بمحبة من أجلها:
" أنت أصبحتِ أختي وتهمني مصلحتك....لا تزعلي مني لكنك كنتِ أنانية بتصرفاتك....هذا ما استطعتُ فهمه من كلامك ......هو عاشق لك لكنك لم تحاولي ...أن تفهميه ...أن تصغي له بقلبك وعقلك معاً......أردتِ الحب منه وأخذتيه كنبعٍ دفّاق لكنك لم تقابليه بمثله...مسحتِ الحب واخترتِ أن تكتبي الكراهية.....ربما ما بينه وبين والدك أكبر من أن تدركيه أنتِ....لا اتهم والدك لا سمح الله ولكن لا أريدك أن تكوني ظالمة في حكمك ولا أنانية باختيارك!....لا تستسلمي لعاطفتك دون تفكير فالنتائج مهما كانت ...كلها ستعود إليك أنتِ وأنتِ فقط....وازني أمورك..."

هدوء نفسي وسكينة نزلا عليها بعد كلام تلك الطيبة التي تشع إيماناً ....في داخلها بصيص نور يشتعل عندما تجالسها لكنها ما زالت لم تعثر على مصدره.....تعترف بينها وبين نفسها أن هذه الفتاة لها تأثير خاص عليها....تستقبل كل ما يأتي منها بقبول حسن وحتى إن كانت ما زالت متمسكة بشتاتها وضياعها وإن لم تحاول الحذو نحو التغيير الجذري لأسلوب حياتها الخاطئ ....لكنها تسحرها ...حقاً تملك سحراً خاصاً يبث لها الطمأنينة في خضم ما تعاني من صراعات نفسية وتيه بالأفكار..!!....احتارت وتاهت...ضاعت وضلّت.....تخاف من المجازفة والإقدام لمحاولة أخرى فهي تعي إن كان كلام والدها هو الصحيح لن تقدر على منعي من فعل ما أريد بها.....ثم تعود لتشعل شمعة الأمل ...أمل يأتيها بحياة مستقرة آمنة بعيداً عن كل ما عانت من كوارث ومصائب وخاصة عندما يدق الذي يسكن بين أضلعها دقات لعشقٍ متين كان تاريخها وحاضرها!!...أرادت أن ترشداها وتساعداها باختيارها فتنهّدت تنهيدة ترخي بها أعصابها المتحفزة تبتغي قراراً صائباً يغيّر مجرى حياتها فهمست بقلة حيلة:
" ماذا أفعل إذاً؟!..."

بنظرات حانية وهمسات رؤوفة قالت لها:
" لا بد أنه سيتواجد في الجلسة الأولى بالمحاكمة ....عليكِ الامساك به وإخباره بنيتي...هذه فرصتك ....ربما الأخيرة....أنت بنفسك قلتِ لن تستطيعي زيارة الوطن والسفر متى شئتِ بسبب المصروف الكبير وأنك ستحاولين التواجد في جلسات المحكمة فقط.....وأن باقي تواصلك مع والدك سيكون هاتفياً...... "

رعشة وافتها أخافتها وهي تستحضر أمام عينيها صورتي وهمست متوجسة:
" تلك المرة الأولى التي لم أرَ لمعة الحب بعينيه....المرة الأولى التي أحسست بحسيس أنفاسه النافرة مني!....المرة الأولى التي بلغ بها من القسوة أقصاها !.....والمرة الأولى التي أعلن بها دون تردد عن انتهاء علاقتنا هناك....لا أظن أنه سيرضى بمقابلتي وقد أقسم قسماً حطّم به قلبي كما لم يفعلها من قبل!!....بل متأكدة أنه لن يعطيني فرصة ليسمعني!!.."

طأطأت رأسها الى حجرها تنظر ليديها اللتين تفركهما ببعضهما توتراً وأضافت:
" حتى صديقه قال لي.... * لن يثق بك مجدداً!.....خطؤك كان فادحاً وأظن في قاموس هادي لن يغتفر..*.."

" وإن كان!!....حاولي....بل قاتلي لتوصلي ما تريدين....إن نجحتِ فقد كسبتِ حياة ساكنة كريمة وعائلة عظيمة لك ولابنك ......وإن رفض الاستماع لك وأقصاكِ من حياته بقسوة واصرار دون رجوع لأنه رجل مثل باقي الرجال ...لصبره حدود وقد يكون نفذ صبره.....حينها سنتأكد أنكما لستما لبعضكما....بل كنتما مجرد حكاية كُتبت لهدف وانتهت مع الوصول لذلك الهدف....أي كان هذا هو قدركما ونصيبكما !!.."

ألقت الاحتمالات في وجهها ولمحت تجمّع غيوم من الخوف والوجع ...العجز والجزع ...تكوّنت بسماءيها..... فحاولت تغيير الموضوع بمواضيع أخرى لتخفف عنها وقد نجحت بتحسين مزاجها قليلاً بمساعدة (رهف) وبعد نصف ساعة أفرغت خلالها شحناتها السلبية قامت من مكانها تستأذنهما لبرهة ثم عادت إليهما تحمل رزمة من النقود استلمتها قبل سفرها عند بيعها لقطعة صغيرة من مجوهراتها الثمينة !!...اقتربت بحياء من الجالسة على كرسيها ثم جثت أمامها بتردد ناظرة لعينيها ومدّت ما بيدها هامسة برقة:
" تفضلي خالتي....هذا ليس من قيمتك....لكني أرغب بالمساهمة بمصروف البيت....!!.."

صدمة تبعتها خيبة رسمت الحزن على محيّاها ثم بعتاب ولوم هتفت لها:
" حاشى لله....حد الله ما بيني وبين هذا المال!....لن ألمس قرشاً واحداً....أنت تحتاجين كل فلس الآن لا تبعزقي أموالك هنا وهناك....وأنت مسؤوليتي أمام الله من أجل أفضال السيدة فاتن عليّ والسيد عاصي وقبلهما الغالية السيدة كريمة رحمها الله.....كيف تفعلين هذا بي؟!....أنت الأمانة التي اؤمن أنني سأسلمها لصاحبها يوماً ما....إما والدك أو زوجك ..أو آخر مجهول!!....الله أعلم أين مستقبلك ونصيبك!.....ستبقين مسؤوليتي بالكامل حتى تُرد الأمانات لأهلها بإذن الله !!.."

شدّت على النقود بيدها وما زالت تسلط عينيها الغائمتين عليها وهمست بامتنان للحظات لم ولن تنساها:
" مهما فعل لك كل هؤلاء..."

ثم وقفت بانكسار تقلب يمناها على ظهرها تتأمل آثار حروق الطفولة الباقية وبنغمة شجية أردفت بتشديد:
"مهما فعلوا...صدّقيني......لن يعطوك حقك بإنقاذي!.."

واستدارت لتصبح خلف كرسيها المتحرك تقبّل رأسها هامسة وهي تمرر أناملها على عنقها نزولا لظهرها بعاطفة جياشة وحنان فطري وُلد داخلها لها:
" وظهرك أكبر شاهد على التضحيات التي فعلتها من أجلي يا ثالث أغلى النساء في حياتي ...أنتن مثلّث الأمومة خاصتي والذي خصني به الله وحدي!!.."

رفعت يدها ترجعها للخلف لتسحب كف صغيرتها تقبّله لها ثم أدارتها لتعود تجثو ازاءها وهمست بحنوّ بينما الدمعات الوفيّة التي لامست الماضي فاضت من مقلتيها :
" ولو عاد بي الزمان ولو تكرر الموقف ...سأفعلها ...سأفعلها فداءً لألمى ....مالكة الروح النقية التي زيّنت لنا حياتنا !!.."
ألقت العلبة الصغيرة التي تحملها بيدها على طاولة الزينة ساخطة على حالها ثم حررت حجابها الورديّ عنها وألحقته بالعلبة وفركت خدها بقوة حتى اكتسى بالحمرة لحظة دلوفها الى غرفتها في تلك المدينة الصناعية !!....هي من اختارت!...إذاً فلتتحمل نتيجة اختيارها ....ماذا ظنت؟!....أساسا هل فكرت وظنت؟!...كلا !!....هي وافقت لتكون المنقذ لوالدها حبيبها الغالي لكنها منذ متى كانت تجعل العاطفة تتحكم بها؟؟!...طوال سنين عمرها القليلة كانت تتميز برجاحة عقلها وحكمتها في موازنة الأمور وكانت تجد حلولا بديلة لمشاكل من هم حولها....كصديقاتها مثلا!!....هل تلبّسها الغباء عندما وصل الشيء إليها؟! ....ألم تكن تسمع من بعيد وهي بمدينتهم الساحلية عن تصرفاته ؟!.....متى يصبح ذيل الكلب مستقيما؟!...هل اعتقدت أن سنة كانت كفيلة بتغييره ؟!...مخطئة....بل مخطئة كثيراً !!....كم مضى على الحادث الذي تعرض له ونجى منه بأعجوبة؟!....ذاك الحادث الذي تبيّن بعد فحوصات وتحقيقات أنه كان ثملاً وليس هذا فقط بل وجدوا معه صديقين من فصيلته وفتاتين لا تحملان أبسط الاخلاق!!...تُمحى ذنوبه وتصرفاته المعيبة الدنيئة لأنه ببساطة (تامر) الحفيد المدلل لجدها!.....مرت أسابيع عديدة على عقد قرانهما وهي تعيش في دوامة!!....تلف حول نفسها لتعود لنفس النقطة....هي من وافقت!!....لا يمكنها لوم أي شخص غيرها ..." كتلة حماقة"...نعتت نفسها بسرها !!....في بادئ الأمر أعطت لكليهما فرصة للتعرف عن قرب ....فهم أبناء العم يقربهما الدم مهما فرّقتهما المسافات لانشقاق والدها عن أقربائهم هنا بسبب عمله في المدينة الساحلية !!......أول أسبوعين من الخطوبة استطاع أن يتقن دوره كعريس اتجاهها ....بعدها بدأ يقل اهتمامه مما زعزع قليلا من ثقتها بنفسها وكأن هنالك شيئاً يعيبها أو ينفره منها !!......نجحت بالسيطرة على مشاعرها غير سامحة لأي تأثير خارجي بخدش روحها !!....التمست له الأعذار لأنه درس في الخارج وبلاد الغرب وتحديدا في اسبانيا دولة والدته الأجنبية فلا بد أن طباعهم تغلّبت عليه !!.......كان اليوم هو ذكرى يوم ميلادها فخرجا معا لتناول وجبة العشاء في احدى المطاعم الفاخرة التي يرتادها ابناء عائلة (زيدان) المعروفة بتجارة وصناعة الأثاث والكماليات..... وبينما كانا غارقين في طعامهما أتاه اتصالاً من اصدقائه الطفيليين فضغط عليها لتنهي وجبتها سريعا ....إنه على عجلة من أمره لأنهم دعوه الى سهرة شبابية حماسية ككل سهراتهم ولا يريد أن يفوته شيئا ولما اوصلها الى قصر جدهما حيث تقيم مع عائلتها تذكّر أن يعطيها هديته بيدها والتي لم يكلّف نفسه لفتحها وقبل ترجّلها دنا منها ليقبلها من خدها....قبلة خاوية خالية من أي مشاعر....قبلة يقوم بها كأنها احدى طقوس ارتباطهما ليتقن مسرحيته التي أجبره عليها والده بطلب من جده خوفاً من حرمانهم من الميراث!!......
اتجهت الى حمام غرفتها وتأمّلت الخيبات المرسومة على ملامحها وفتحت صنبور الماء ثم بدأت تحمل كميات بكفيها تسكبها على وجهها لتغسله وتحديداً مكان قبلته التي اثارت اشمئزازها !!.....

" تباً لك أيها البغيض!....إلى متى سأبقى مجبورة على تحملك وتحمّل قبح تصرفاتك؟!..."...

تمتمت بخفوت!!.وظلّت لدقائق تفرك خدّها ثم توضأت وخرجت وارتدت أسدال الصلاة وفرشت السجادة خاصتها متخذة القبلة لتصلي العشاء!!......بعد أن أتمت صلاتها وتسبيحاتها أعادت كل شيء لمكانه واستلقت على سريرها المكسو بغطاء خلفيته بيضاء وتزيّنه أزهار الجوري الوردية والعنابية بعد أن أخذت هاتفها من حقيبتها ودخلت إلى احد مواقع التواصل الاجتماعي وتحديداً على صفحته الشخصية لمشاهدة جديده!!....استقامت من فورها بتأهب تثني ساقيْها تحتها عندما رأت مباركات عديدة موجهة إليه!!....اضطربت ملامحها وخفق قلبها بجنون.....هل خسرت شيخها الوسيم الى الأبد؟؟!.. أظنّت أنه سينتظر جبانة مثلها؟!...ما أكثر وما أتفه ظنونها!!.....ضاع الزلزال وهي من أضاعته بيدها!!...سيكون مِلْكاً لغيرها !!..عند هذه الفكرة اهتزت أوصالها ولم تتمكن من كبح دمعة فرّت من مقلتها رغماً عنها .....أرادت أن تفتح أحد المناشير لتتأكد من أكبر مخاوفها!!....استعدّت لتشييع روحها ورثاء قلبها!!... قرّبت اصبعها السبابة المرتجف الى الشاشة لتشجع نفسها للضغط وقراءة المزيد وهي من تحتاج الى المزيد من القوة والقدرة لفعلها.....!!....بسملت ولمست الشاشة ثم زفرت أنفاسها براحة وارتسمت ابتسامة واسعة أظهرت ثناياها لمعرفتها أن المباركات لم تكن سوى لوصول صفحته الى نصف مليون متابع .!!...اطمأن قلبها الذي أصيب بالوجل قبل برهة....

" اوف...حمدا لله....لم يخطب!..."

نطقت جملتها بعفوية وانفجرت ضاحكة على حالها وعلى الشعور السخيف الذي عاشته...لقطت أنفاسها بعد موجة الضحك وتطلعت على الهاتف بيدها وبدأ يوسوس لها الشيطان لتدخل الى المحادثات الخاصة......هل لشعورها بالفراغ؟!....أم لاشتياقها للزلزال الذي زلزل كيانها ؟!......فتحت نافذة لبدء محادثة وتسارعت نبضاتها وهي تراه متصلاً والصورة الجانبية القاتلة لوجهه الوسيم تحتل هاتفها!!.....

" وربي زلزال ثلاثي الأبعاد....آااه يا الله ماذا فعلت بنفسي وماذا خسرت بحماقتي !!.."

قالتها بلوعة تؤكد خيباتها وتجرأت مجازفة لتكتب [السلام عليكم]....فوقع نظرها على المحبس المزعج الذي يخنق بنصرها......
" ماذا تفعلين يا مجنونة ؟!....تخطئين ومع الشيخ أحمد الذي يبغض الحركات المشبوهة ؟!...."

بصحوة ضمير أنّبت نفسها وغشاها التوتر فحذفت الحروف واستغفرت في سرها لإدراكها أنها تسلك مسلكاً خاطئا يقودها الى الخطيئة.!!...تغضب به ربها....وتخسر سمعتها ثم تفقد به أملاً بعيد المدى يخص شيخها الوسيم !!...هل اعتقدت أنه سيجاريها بالحديث لو فعلتها؟!..أيمكن للشيخ الصارم الوسيم أن يربّت على قلبها؟!..لقد جنّت تماماً !!....ضغطت على اشارة التراجع على الشاشة ولم تدرك أن اصبعها لمس إعجاب على أحد منشوراته دون قصد منها.....ولأول مرة تثبت متابعتها له فاضحة نفسها !!......خرجت من صفحته ودخلت على صفحة الغائبة عنها !!....تأمّلت صورتها فتكدست عيناها بدموع الاشتياق لها والقلق عليها.!!.....صديقتها الحبيبة (ألمى) لم تفتح صفحتها منذ أكثر من شهرين .....تساءلت بحيرة ناظرة لصورة صاحبة العينين الزرقاوين وقلة حيلة تختلج صدرها:
" يا ترى أين أنت يا صديقتي؟!....اشتاق لكِ كثيرا!!...أشتاق فوق ما تتصورين!.....أيعقل أنك في بلاد زوجك؟!.....أرجوك يا الله طمئنّا عليها "
وبينما كانت سارحة في الشاشة تناجي صديقتها الغائبة ارتفع رنين هاتفها ليظهر أمامها اسم (تامر)...تعكّر صفوها ولوت فمها بازدراء ثم دون تردد حوّلت هاتفها لوضع الطيران !!...
" بغيض لا تطاق.."...
تمتمتها بازدراء.......لم تمر خمس دقائق فانفتح باب غرفتها لتزلف إليها والدتها حاملة هاتفها وهي تشير بأن خطيبها على الهاتف فأعطتها اشارة تطلب منها اخباره بأنها في الحمام ولما فعلت وأنهت المكالمة ناظرتها بتوجس وعدم راحة وهمست تستفسر منها:
" لماذا أحرجتني وجعلتني أكذب؟!"

أشاحت وجهها للفراغ أمامها وأجابت:
" لا شيء أمي.....لا مزاج لدي للحديث !!.."

جلست متطرفة على السرير جوارها ووضعت يدها على فخذ ابنتها وتابعت بقلق:
" ما بك ميار؟!....هل حصل شيءٌ بينكما؟!."

" كلا أمي....أنا مرهقة فقط!!.."

بدّلت ملامحها رغم عدم ارتياحها وسألت مبتسمة:
" أخبريني....ماذا أهداك تامر؟!..."

بغير اهتمام وملامح مرخية أشارت لطاولة الزينة وهتفت:
" هناك الهدية بعلبة لم أفتحها!....يعني برأيك ماذا ستكون ؟!....لا بد أنها كعادة آل زيدان قطعة من المجوهرات الباردة كبرودهم !!.....لا تعنيني شيئاً!!"

ضحكت ثم نهضت من مكانها وهي تنهرها بسخرية:
" اصمتي يا بنت.....لو سمعك جدك لألقى عليكِ محاضرات عن تاريخ عائلتهم العريقة حتى يوم يبعثون!!..."

تعالت ضحكاتها لتشارك والدتها بالسخرية ثم قررت مفاتحتها بما فكرت به !!..فيبدو أن مزاجها مناسب لتلقي عليها ما زاحم فكرها من قرارات!!.....ستجرّب حظها لا ضير!!....ربما تكسبها في صفّها!!.....استدارت وأنزلت قدميها أرضاً وأمسكت يد والدتها بقبضتيها وبثبات سلّطت حدقتيها لعينيّ الواقفة وهمست بنبرة خفيضة:
"أمي..."

" نعم حبيبتي!!..."

ازدردت ريقها وقالت بعد أن سحبت نَفَسها لتدفع نَفْسها.... تجازف على الادلاء بما يدور في ذهنها:
" أريد الانفصال عن تامر......أنا لا أحبه ولا اتقبله!.."

حررت يدها من بين قبضتيها وقطبت حاجبيها بغيظ لتقول بنبرة صارمة وحازمة :
" إياكِ أن تعيدي هذا الكلام يا ميار.....تحدد موعد زفافكما فلا تحولي العرس الى مأتم بعد أن تصيبي والدك بسكتة قلبية!....لا تكوني سبباً لفقدانه!!......الحب سيأتي مع العشرة وليس بليلة وضحاها...."

قالت ما عندها وأدبرت خارجة تاركة فلذة كبدها تنهار على سريرها باكية، تتلوى وجعاً من قلة حيلتها بما يخص مصيرها ...وندم قاتل يفتك بها سببه تهورها بقرارها المتسرع....!!...أساساً ماذا بإمكانها أن تفعل غير البكاء والاستسلام إن كان هذا قدرها ونصيبها .؟!!....فلتعش تعض على أناملها وتندب حظها....هي من خسرت زلزالاً ورجلاً حقيقياً أي فتاة عاقلة تتمنّى أن يكون لها .... وكله بحماقتها!!

×
×
×

في البلاد المجاورة وعلى أرض الوطن كان يستلقي على سريره هو الآخر يستعد للنوم.!!... و كروتينه اليومي يتصفح هاتفه قبل الشروع بأذكار النوم !!... ينتقل بين الأخبار العامة وصفحته الخاصة ليرد على اسئلة متابعينه بكل تواضع ووقار!! ....ولما وصله إشعار بتفاعل شخص جديد على أحد منشوراته دخل ليتفحصه.....خفقة مجنونة يتبعها خفقة أكثر جنوناً....
" مِمّن؟؟ ."
همسها بعفوية ولم يقدر على منع رفرفة الفؤاد السقيم من العشق المحظور عليه لحظة وقوع عينيه الفحميتين على اسمها الحبيب ( ميار زيدان) ....ابتسم ابتسامة مائلة رغماً عنه متأثرا بنبضات الحب المدفون التي تمرّدت عليه هذه الساعة وبرقت عيناه توقا لذات الوجه الخمريّ....لحظات....فقط لحظات نسي بها وعوده...أسدل جفنيه يتذكّرها .....بلقاء اخترق عطرها أنفاسه...سقوط تلقّاه بأحضانه.....لمسة رجفت كيانه ...صرخة عتاب تتلوها دمعة اخترقت حصونه....بشقاوتها زلزلت خلاياه الراكدة ثم بضحكتها خرّ القلب عاشقاً وأصبحت هي الملكة وسلطانه....
" ميار!!...الفتاة الشقية!!"
قال اسمها مبتسماً بحُب.... فجأة وهو هائمٌ بطيف ذكراها قرع ناقوس الواقع الأليم والحقيقة المرّة عندما عاد ليعمل عقله بشكل صحيح ليفتح له سجلّات وعده لنفسه!!.....لا حق له بها وأصبحت لغيره!!....لن يسمح بذلك وعليه تجميد مشاعره أو حتى حرقها أفضل..!!....ما به استسلم لشيطانه؟!....
" استغفر الله العظيم .....استغفر الله العظيم"

تمتم مستغفراً ليطرد فتنة حبها المحظور عليه....هي ليست له ...لم تختره ولسانها الطويل كان أقصى حدّه عليه فقط....لم تستخدمه لتدافع عن اتفاق ومعاهدة سلام حدثت بينهما ....إذاً فلتهنأ بقراراتها!....تلاشت ابتسامة العشق وعاد القلب ليدق برتابة ثم غضن جبينه كارهاً حاله وهمس شاتماً بعتاب:
" تباً لكِ......ماذا تفعلين بصفحتي؟؟..وكيف تتجرئين لوضع قلب لي وأنتِ على ذمة رجل آخر؟!...."

تنهّد وما كانت إلا تنهيدة وجع على حب وليد ما زال يقاومه....حب ذاق رشفة واحدة منه ثم حُرم عليه....!!.....وبحركة سريعة من سبابته ضغط على اسمها ثم بدمائه الحامية التي ساندته ليحظر حبها عنه حظر اسمها أيضاً عن صفحته الى الأبد...أجل الى الأبد ليحرمها متابعته ويحرم معها فؤاده المكوي ....من أن... ينبض نبضات العشق لها .....تلك الميار..... العابثة بإعدادات قلبه ومبادئه!!...لقد اتخذ القرار...عليه هو الآخر أن يلتفت إلى حياته......وسينتظر صابراً التي تستحق أن يهديها قلبه المسروق بعد أن يستعيده من تلك السارقة التي تخلّت عنه ...بل سيهدي لها كل حاله..!!.......لكن!....أين هي ؟!...


~~~~~

في تلك البناية العتيقة العريقة وفي الرواق العريض المليء بصور لنجاحاتهم وشعارات عن العدل والمساواة وميزان يزن بالقسط كانت تتهادى في مشيتها ...قدماها يتقدمان للأمام وقلبها يعود للخلف من رهبة هذا المكان!!....جسدها الصغير أصبح أكثر نحولاً وسماءيها بارزتان تتألقان ببريق نضر وبهيّ ....أما ليلها المجدول في ضفيرة ينساب جانباً على كتفها بنعومة...بنطالها من القماش الأسود يبدأ بضيق ثم ينزل باتساع وقميصها الأحمر فضفاض يخفي حدود جسدها!!..وكان يسير على جانبها , يسبقها قليلاً وهو يحمل ملفاته في حقيبته الجلدية البنية!! ...يخطو بقوة وثبات واثقاً بتحركاته...أنيقاً ببدلته الكحلية , حسن الهندام....يعلم الحقيقة وحب المال يعميه!....منظم في وقته.. تهمّه الثانية والدقيقة والدفاع عن الظالم يطربه ويغذّيه!!.....فها هو أخيراً بعد شهر ونصف مرّا بحلوهما ومرّهما جاء موعد الجلسة الأولى للقضية ؟!....أهي قضية ؟!....بل قضايا ...واحدة أهم من الثانية!!......بكل عنفوان وتباهٍ ولج المحامي الكبير المعروف بمحامي الشياطين ( نظير الشيخ ) الى القاعة الواسعة الشبه فارغة عند وصولهما إليها والتي تضم داخلها موظفين مكلفين باستقصاء الجرائم بمن فيهم المدعي العام المعيّن من قِبل الدولة ومساعديه ثم القاضي (اسماعيل) أحد أكبر قضاة محكمة أمن الدولة حاملاً أسمى صفات يجب أن يتحلّى بها القاضي الأمين وهي الحكمة بقراراته...العدل بحكمه....الشجاعة بمواجهة من يقف أمامه ....والثقة بنفسه ...!!....لحقت المدللة محاميهم ثم اتخذت مكانها على أحد المقاعد المصممة كمدرج يشبه حذوة الحصان لتواجه الجميع براحة وتصغي بسلاسة وربما.....لتتدخل بحماقة؟!!......كان على يمينها طاولة يجلس خلفها والدها وجاوره محامي الشياطين ليلتم الشمل وتكتمل الصورة!....أما على يسارها المدّعي العام الذي سيتولّى عرض حيثيات القضية واثبات كل التهم الموجهة لـ(عاصي رضا) فيما يخص شؤون وأمن الدولة من أكبرها لأصغرها....!!.....كانت تلقي نظرها على كل الزوايا تتعرف على الوجوه الجديدة عليها وما هي وظائفهم....انتهت من مهمتها التعارفية وجاءت المهمة الأهم!....مراقبة ذاك الباب الواسع بردفته المواربة ...تنتظر بتحدي وصفاقة خصمها اللدود.....فالآن هي موجودة بساحة قتال لن تسمح للحب أن يضعفها...هي قوية ولن تهزم.....هذه كذبة من كذباتها على نفسها....عروقها نافرة تحسّباً ودماؤها ثائرة حماساً ...أما قلبها له حكاية ونوايا أخرى ....كان يخوض معركة ضروساً....أكانت كُرهاً أم شوقاً؟!....لم تبرح عيناها عن ذاك الركن ...طال انتظارها وطال توقها المتسلل لنابضها بخباثة ..نابضها المغلّف بالكراهية العمياء التي استوردتها بأيامها الأخيرة!!....زمّت شفتيها الرقيقتين بعبوس قاطبة حاجبيها السوداوين بشدة وكتّفت ذراعيها....بعد قليل تأففت تزفر أنفاسها وهي تحرر يديها عن صدرها كأن الخمس دقائق التي مرت عليها هي خمس ساعات من هول ما عاشت من حرائق......دخان ونار....لهيب وشرار...منافسة محتدمة أبطالها الكُره بإصرار والعشق الغدّار....!!...
" يا الله أين هو ؟!.."

تمتمت تسأل الهواء المرافق لها وهي تنظر لساعة هاتفها القديم !!...عادت ترفع رأسها ترنو الى الباب عديم الاحساس....ما له لا يتحرّك؟!....هربت دقائق أخرى ولا علامة لقدوم أحدهم!....
انتظري يا ابنة (عاصي)....هل تظنينني تواقاً لرؤيتك ووالدك ؟!.....انتظري لأرى الى متى ستنتظرين؟!.....
فقدت الأمل بحضور خصمها المنتظر فشتمت بسرها.... " وغد جبان....حائط مغرور...أكرهك!..".....
تلاعبت بها الهرمونات وباغتتها حالة انفصام لحظيّ فرنت مرة أخرى بزرقاويها صوب الباب ورفعت طرفيّ حاجبيها الداخليين بيأس وتمتمت بخفوت للذي يسكن رحمها تصبّ التهمة عليه صبّاً.:
" أعلم أنك تريد رؤيته !..اصبر قليلاً...اصبر... ما بك كالملهوف ؟!.."

ثانيتان ومثيلاتهما لترخي جسدها وكل ملامحها القانطة وهمست له :
" لن يأتي!!.."

ثم ببرهة ادراك لواقعنا المرير والشرخ العميق لعلاقتنا ....وذكرى أليمة لموقفنا الأخير أردفت بعزة نفس وإباء تكلّم ابنها:
" هذا أفضل....لن تهمنا رؤيته!...حائط مغرور سينفّذ قسمه بعدم رؤيتي ونسياني!!...إن طبّق كلامه لن يحلم أبداً بأن أخبره عنك...."

قطعت الأمل وأسندت ظهرها للخلف تنتظر بدء الجلسة ثم دقيقتين لتعود متأهبة تسلّط حدقتيها الى نفس الاتجاه صوب الباب عندما تحرّك مُصدراً صريراً خافتاً اختفى وراء..... رنّة كعب..!!....اشرأبت بعنقها تلتقط الصورة بشكل اكبر وأوضح!!......لحظة!!....."..من تلك؟!.."...جملة فضول كانت في عقلها!!.....تابعت بنظراتها المتفحصة خطواتها التي انتهت بوصولها الى مكانها خلف الطاولة جوار المدّعي العام !!......لحظات قليلة وبدأت الجلسة كلٌّ يعرّف عن وظيفته وسبب تواجده أمام القاضي على مسمع الجميع لينتهي التعارف عند ذات الكعب الرنّان التي هتفت بثقة منتصبة بوقفتها ترتدي رداءها الأملس الليليّ الخاص بالمحامين والذي كان يغطي قميصها الثلجيّ الأنيق :
" رفيف سالم الأسمر....المحامية في قضية جريمة قتل القائد محيي الدين الشامي والد موكلي السيد هادي محيي الدين الشامي !!.."
×
×
×

الصبر سلاحي في الانتظار...أعلم أن اليوم هي جلسة دون قرار.... إنما يكفيني ايماني بأن بعد الظلام سيأتي النهار...وأننا في سبيل الحق سنقضي على كل ظالم جبّار.. وأن الطاغي مهما طغى سيقع وينهار.... وأن الوطن سيعمّر بعد الدمار....وأننا سنبنيه بالمحبة والعزيمة والإصرار....وسنرسم حدوده بالسلام والأزهار ....هذا أملي الذي أرجو وهدفي الذي إليه أصبو مستعيناً بربٍ قويٍ جبّار.....بإذنه سأحقق وعدي وسأزرع البسمة على وجه شعبي وإلا لن أكون الهادي قائد الثوّار..!!

*
ها أنا جالسٌ احتسي قهوتي في المقهى الضيق الموجود في بهو بناية المحكمة بعد أن تفرّقنا عن بعضنا أنا والمحامية (رفيف)....آه يا سيد (سليم) ...أي موقف وضعتني به؟!....لقد تعاقدنا مع مكتب محاماة يُعدّ من أكثر مكاتب المحاماة نجاحاً في العاصمة والذين ينافسون بقوة مكتب المحامي (نظير الشيخ) بخلاف أن الأول يسعى للحق والدفاع عن الضحايا والثاني وسيلة حماية للشياطين أمثال (عاصي رضا) وقد تبيّن أن تلك المحامية التي تكون ابنة شقيق السيد ( سليم الأسمر) هي من ستمسك قضيتنا رغم اعتراضي للأمر لأني لا أرغب بالتعامل أو التواصل مع كافة النساء إلا أنه أصرّ عليها مدعياً قوتها ونجاحاتها في هذا المجال بوقت وجيز إذ أنها كانت تعمل في السويد حيث ترعرعت ودرست هناك الدراسات العليا بالقانون مع عائلتها الذين هاجروا قبل حوالي خمسة عشر عاماً بسبب عمل والدها ليعودوا بعدها للاستقرار بالوطن منذ حوالي سنتين وقد استطاعت خلالهما أن تثبت نفسها بعد انضمامها لهذا المكتب المكلل بالنجاحات..!!....بالمناسبة....أ نا أعرف(رفيف) منذ الطفولة...كنا نلتقي اثناء زيارتنا لعمتي(لبنى) ونلعب معاً ....في الماضي كانت تميل للألعاب الصبيانية لذا كنتُ أتقبّلها أما الآن أصبحت أمامي فتاة أخرى ....انقلبت مئة وثمانون درجة....هي الآن ابنة الستة وعشرون ربيعاً.... تمتاز بعنادها المهني وشخصيتها الطموحة ....وجرأتها... متأثرة بالبيئة التي عاشتها في الخارج فهي لا تشبه تربية عمها الدينية لبناته إلا أنها تضع الحجاب ...ربما كعادة!!....فلباسها لا يتّسم باللباس الشرعي بتاتاً إنما تلاحق موضة اليوم لمحجبات كُثر..!!........في الحقيقة لا يستهويني التعامل مع هذا النوع ...امرأة جريئة.....و....جميلة!!.....حتى لو كان من أجل العمل ...لكنهم وضعوني في مأزق أمام الأمر الواقع الذي لا مفر منه!!....قابلتها قبل الجلسة الأولى ثلاث مرات من أجل قضيتنا وهذه تكون الرابعة....سنرى ماذا يخبئ لنا المستقبل!!...آمل أن نرى خيرها ان شاء الله..!!..
انتهى فنجاني القهوة وتبعته بآخرين غيره عسى أن أسكن توتري أثناء انتظاري لانتهاء الجلسة......فأنا قررت ألّا أتواجد في قاعة المحكمة.....ببساطة.... لا رغبة لي برؤية مجرم.....وغدارة!!.....دقائق رتيبة قليلة لم تتعدّى النصف ساعة مرّت عليّ وبالطبع الجلسة ما زالت في أوجها!!.....نهضت من مكاني لأشتري قارورة ماء بارد... لقد جفّ حلقي من مرارة القهوة ومرارة التفكير برهبة واضطراب بما سيحدث بالداخل وبينما كنت أمدّ يدي لأدفع ثمنها محتجباً بجزء من حاجز خشبيّ على شكل شبكة ...وصلني مع الاوكسجين رائحة أدمنها...أقصد أعرفها...أنفي لا يخطئها....والخائن لا ينساها ليلحق بالرائحة عند وصولها لطاولة الطلبيات والدفع ذاك الصوت العذب الذي يغزوني كترنيمة تطربني:
" عصير برتقال لو سمحت!.."

ارتجف قلبي وكذلك ارتجف قلبها عندما لمحتني أقف جوارها عند التفاتها ليمناها.... كان مترين يفصلانا ودقات عشق خائنة توصلانا .....تجلّدتُ بالبرود والجمود كأني لم أرها أما هي بهتت ملامحها وتوقفت حركتها لوقتٍ يسير قصير بينما ذاك الماكث خلف أضلعها يهدر , يهدر , يهدر بجنون دون توقف متفاجئاً مصدوماً ....ضائعاً حيراناً....مرتبكاً خائفاً والأهم فرِحاً وعاشقاً.....دقيقة عاشت بها كل مشاعرها المبعثرة ثم بجهد جهيد استطاعت تدارك نفسها لتردّ عليّ بالمثل بتجاهلي عند استيعابها مروري من جانبها بكل هدوء اجتازها عائداً الى طاولتي دون أن ألقي لها بالاً كأنها نكرة لا وجود لها فشتمتني في سرّها متحدّية..." ستبقى حائط مغرور كما عرفتك ....أنا ما زلتُ أحمل اسمك وواجبك دفع ثمن العصير عني يا قليل الذوق ولو تمثيلاً ككل مسرحياتك ....حسناً ...أعلم أنك ما زلت حاقداً ...ليكُن... يبدو أن حربي معاك لأكلمك ستكون صعبة .....غير مهم !!....تعرفني جيداً كيف أكون كالعلقة حتى يحدث ما أريد.. سألتصق بك وسترى يا ابن الشامي...لن أستسلم لعجرفتك وكبرياؤك اللعين..."

.جلستُ مكاني جانباً وبعد قليل لما عادت للظهور أمامي حدّثت نفسي..." أف...ظننتُ أنها ستعود الى القاعة ...ما بها تستقر هنا وما زالت الجلسة مستمرة ؟!!...غريب!.....يا رب خير...".

وبما أن المكان ضيق فقد كان من حظي السعـ...أقصد البغيض أن تكون بالقرب مني على الطاولة المجاورة....كان وجهي للباب وظهري لطاولة الطلبيات وهي جلست على عكسي ..بالطبع بقوة جبّارة تمكّنت من الثبوت على نيتي بألّا التفت ناحيتها وألّا تقع عيني على عينها......صحيح أنني بدأتُ بترويض خائني النابض بحبها كل هذه الفترة...لكنه لا يؤتَمن...الخائن يبقى خائناً ولا نعلم متى تأتينا الضربة منه...!!.!!....مرت دقائق فقيرة لا تتعدّى الربع ساعة ...الأجواء مشحونة بيننا تصطدم بها أقطابنا السلبية والايجابية ....قبول ونفور...سكون وضجيج....رضا وغضب....كُره وعشق وكلٌّ منا يعبث بهاتفه.....وصلتني رسالة وكانت من صديقي(سامي) يسألني عن الوضع ليطمئن فرجعتُ إليه باتصال وبعد السلام:
" ما زال الوقت باكراً أي أن الجلسة مستمرة ما بك تسأل من الآن؟!."
أظن أن الأمور تسير على ما يرام لأن أحدهم خرج منذ البداية فمؤكد أن الوضع لم يعجبه أي أنه لصالحنا وليس لصالحه ....خشي الهزيمة فاختار الهروب!.."

فهمت المغزى من كلامي فاحتقن وجهها حنقاً إلا أنها أمسكت نفسها عن أي رد فعل غبي..!!

"..."

علّق صديقي بشيء فضحكتُ على كلامه بصوتٍ غير مكترث لوجودها ثم أكملتُ بجدّية:
" لا لم أدخل اطلاقاً.....أجلس في المقهى أنتظر رفيف لتطلعني بالتفصيل عن كل ما جرى بالداخل.."

" رفيف!!...تلك البغيضة المصطنعة شبيهة الفأرة المتملّقة ذات الكعب الرنّان....هكذا دون آنسة أو سيدة يا سيد هادي المحترم !!....من تكون لك لتدعوها باسمها حاف يا مغرور؟!..."...قالتها بسرّها وهي مندهشة من نفسها اكثر فأكثر كيف استطاعت التحكّم بأعصابها دون أن تخرج لسانها اللاذع وتفضح نفسها أمامي....تستحق جائزة أو شهادة تقديراً لثباتها !!....حاولت السيطرة على لسانها بينما كانت تكزّ على أسنانها مغتاظة ساخطة وتشدّ على قبضتيها من تحت الطاولة بانفعال رهيب وبعد أن انهيتُ مكالمتي حاولتْ أن تهدئ أنفاسها الهائجة رويداً رويداً كي لا أشمت بها ثم ضغطت على هاتفها تتصل بـ(رهف) لتلهي نفسها معها... وربما ترّقع عن أشياء مخفية لا أعلمها وبعد سؤال عن الأحوال همست بضجر :
" ممم....كلا ما زالت الجلسة مستمرة أما أنا خرجتُ...كان حديثهم ممل وخاصة أنه كله ادعاءات كاذبة ....لا تعجبني تلك العروض المسرحية .....صدقاً شعرتُ أنني أضيع وقتي مستمعة لمهزلة!!.."

"...."

" سيكون كل شيء على ما يرام....أنا أثق بالسيد نظير الشيخ وابنه صافي ذراعه اليمين.."

"..."

ردّت معترضة وهي تداعب بدلع خصلة لغرتها فرّت من ضفيرتها كأنها بحركتها تلقي سهامها على خائني لتضعفه :
" كلا ...كلا....لا يوجد حتى قضية واحدة فشلا بها !..إنهما ثنائي ناجح بامتياز......أدخلي للشبكة العنكبوتية واقرئي عنهما ....حقاً ستنبهرين من نجاحاتهما.."

" تمالك يا هادي...تريد أن تستفزك...ألا تعرف ألاعيب حواء ؟!...هذا واضح من نبرة صوتها المصطنعة!!....ستحاول اغاظتك بذاك المتملّق الكريه لتجبرك على فتح الحديث معها !...أنسيت أنها كالطفلة المدللة تحاول لفت الانتباه لها دائماً ؟!....اهدأ يا قلبي...اهدأ ولا تنفعل!....اثبت لها أنك غير مهتم بها...."...
بمشقة وعناء حاولتُ الثبات على هدوئي وخاصة بعد أن أنهت مكالمتها المملة التافهة !!....عادت للعبث بهاتفها وكانت تسترق النظر إلي من حين الى آخر....انشغلنا ببعضنا رغم ادعائنا تجاهل بعضنا لبعض حتى مرت دقائقنا المتكهربة دون أن نشعر!!....قمتُ من مكاني لأجلب فنجاناً من القهوة لا أعلم عدده...فتوتري تضاعف....أتلظّى بنارين....أفكر بما يجري بالقاعة البعيدة ....وأمسك نفسي ألا أضعف ازاء تلك القريبة !!....ارتشفتُ رشفتان بلذة ثم رفعتُ رأسي ناظراً نظرة سريعة للتي دخلت ورنّة كعبها تسبقها ولما وصلتني وضعت روبها الاسود الخاص بالمحاماة على ظهر الكرسي ثم حرّكته لتجلس مقابلة لي بخفة وهي تزفر أنفاسها ضاحكة واضعة حقيبتها التي تحوي على الملفات أرضاً وسلطت عينيها السوداوين عليّ هامسة بمرح:
"عدنا من جديد سيد هادي .. "

قلتُ باقتضاب ونبرة جادة:
" أهلاً..."

ثم عدّلتُ جلستي متحفزاً للاستماع لها دون تأخير وأردفتُ بنبرة ليّنة:
" ها طمئنيني ماذا حصل؟!.."

أسندت ظهرها للخلف بأريحية وضحكت هاتفة بجرأة تظن أننا ما زلنا بالماضي أطفالاً:
" يا رجل...دعني ألقط أنفاسي....ألن تقدّم لي فنجان قهوة على الأقل؟!؟؟"

غليان...ثوران...هيجان....تجاهد ...تكابد ألا تنفجر من غيرتها وهي تسمع حوارنا!!....بكل برود توقفتُ مكاني مرتخياً وسألتُ :
" كيف تشربينها ؟!.."

" مضاعفة ثقيلة....والأهم دون سكر أكيد!.."

" يع....ما هذا الذوق خاصتها ؟...كذوق الرجال!!.."...جملة مرّت من عقل سموّ الملكة الجالسة تراقب وبراكين من الغضب توشك على الانفجار باطنها..!!...

أملتُ زاوية فمي بابتسامة أقرب للسخرية هاتفاً:
" جيد!....لأول مرة أقابل امرأة تشرب مثل قهوتي تماماً.."
ردّت بسلاسة :
" لطالما تشابهنا بأشياء كثيرة....هل نسيت؟!.."

ابتسامة مجاملة أهديتها فقط ثم استدرتُ بجسدي وما إن مشيتُ متجهاً لطاولة الطلبيات حتى مدّت يدها بكل جسارة دون حدود لتسحب فنجاني لناحيتها لتشربه وهي تهمس في سرها.." ما دامت قهوتنا متشابهة إذا لا حرج بأن آخذ فنجانك لأني أحتاجها بشدة!!..فليبقى الجديد لك!..".... ولم تكن تلحظ وجود المدللة القريبة منها عند دلوفها للمقهى والتي انتهى عندها تاريخ صلاحية صبرها لتفزّ من مكانها تجرّ كرسياً عن طاولتها وتوجهه لطاولتنا جالسة بوقاحة ساحبة فنجاني من أمام (رفيف) هاتفة بضحكة مصطنعة:
" لا تؤاخذيني.....تأخرتُ عليكما....."

ومدّت يدها اليمنى برياء والشرر يتطاير من مقلتيها لتصافح المشدوهة من تواجدها ومن أين خرجت لها بينما كانت بيسراها تطوق فنجاني وأكملت بتصنّعها :
" أوه ....نسيت أن أعرفك على نفسي..."

حدّقت بها (رفيف) لثواني كأن الماثلة أمامها معتوهة أو مجنونة وعند وصولي إليهما مشيّداً حصوناً من الصبر اتجاهها بعد صدمتي بانضمامها بصفاقة إلينا رفعتْ حدقتيها مع ارتفاع رأسها نحوي وتابعت بدلع وثقة مزيفة:
" أنا ألمى.....زوجة هادي.."

ثم حررت يد المحامية من يدها وظلّت ممسكة بالفنجان خاصتي أما أنا جلستُ كأنها غير موجودة وقدّمتُ الفنجان الجديد لـ(رفيف) وقلت:
" تفضلي قهوتك.."

لم تعر المدللة أي اهتمام وأخذته مني شاكرة بابتسامة لترتشف رشفات بنعومة ثم تطلّعت عليّ بمعنى ماذا سنفعل بالجالسة وهمست:
" كيف سنتحدث؟!"

فأعطيتها الضوء الأخضر قائلاً بعدم اكتراث :
" تفضلي اسمعك....لا يوجد شيء يخبأ....واثق الخطى يمشي ملكاً.."

تقبّلت الوضع وشرعت بالحديث العام عن الجلسة بينما الوقحة لم تكن مهتمة لفحوى حديثنا بقدر اهتمامها بمراقبة نظراتنا ونبرات صوتنا ولمّا أرادت الخوض بالتفاصيل أكثر بما يخص قضيتنا قائلة:
" أدلتنا موثوقة الحمد لله..."

ردّت تلك:
" أدلتكم المزورة.."

نطقتها بهدوء يخالف أعاصير الغيرة التي تهب داخلها فأكملت (رفيف)متخطية مداخلتها:
" حدث جدال أقرب للسجال بين المدعي العام والسيد نظير الشيخ.....لكن لا تقلق طرفنا قويّ.."

" طبعاً... فأنتم مجموعة عصابة تكاتفت ضدنا سلاحكم الافتراء والاحتيال ....تتخذون أبخس الطرق لتكونوا بهذه القوة!...لكني أثق بمحامينا!!..."

سحبت نفسها تحاول الحفاظ على ثباتها الانفعالي بعد تعليق الحمقاء وكنتُ أنا كذلك أجاهد بشق الأنفس كي لا أنفجر بها مرتدياً قناع التجاهل سلاحي المعتاد الذي يقتلها ...فهي تكره تجاهلها وخاصة عندما يكون نابعاً مني يكون أشد فتكاً بها ثم أكملت الاولى حديثها لتلحقها تلك بتعليق ساخر آخر وهي ما زالت محتضنة فنجاني وهنا ثارت حفيظتها هادمة صبرها والتفتت نحوها هاتفة بحدة وثقة :
" ألم يكفِ طرد القاضي لكِ من قاعة المحكمة بسبب تعليقاتك الغبية السخيفة لي أثناء سير الجلسة....هل جئت الى هنا لتكملي عرضك الرذيل ؟؟....ما الذي تريدينه بالضبط ؟!.."

" ماذا؟!.."
سألتُ واضعاً قبضتي أمام فمي مانعاً انفلات ضحكة مني بعد سماعي أنها طُردت بسبب تدخلها الأحمق وهي التي كانت قبل ساعة تتبجح لصديقتها بأقاويل أخرى!!....هكذا إذاً....الحمقاء المغرورة مجرد مطرودة !!.....إذا عُرف السبب بطُل العجب!!....عادتها لن تستطع السكوت عمّا لا يعجبها ....

اشاحت وجهها نحوي لتجيبني بانزعاج من وجودها :
" طردها القاضي من البداية ....كانت كلما أقول ما عندي تعلّق معترضة بوقاحة غير آبهة للمكان المحترم المتواجدة به!!.."

اكتفيتُ بابتسامة للمحامية دون تعليق فصكت فكيها بغيظ وتعاقبت أنفاسها منفعلة ما بين الاحراج والاشتعال غيرة وفي عقلها تبسمل لتمسك نفسها عن الانقضاض عليها فعادت (رفيف) لتنهي حديثنا وهي تقترح عليّ هاتفة بضحكة مع غمزة بعفوية تشبه جرأتها التي ...أظن....لا نوايا خبيثة من خلفها إنما هذا طبعها :
" ما رأيك أن تأتي الى بيتنا ؟...منه توصلني ومنه تسلّم على أبي...سيسعد كثيرا بك.... ثم نكمل حديثنا هناك؟!.....لا بد أنك علمت من عمي سليم أننا نقيم بالعاصمة وليس بمدينتنا الغربية..!!.."

هل أنا مجبرٌ على هذا؟!....حسناً أنا ليّنٌ وأبذل جهدي لأكون متعاوناً قدر الإمكان ....أولاً لصالح قضيتنا وثانياً احتراماً للسيد (سليم الأسمر) كونها ابنة شقيقه...لكني لا أستطيع أن أتعامل بأريحية مع النساء...هذا ضد مبدئي دينياً أو ميولي....لستُ من مؤيدي هذا التقارب دون علاقة تربطنا!...ما بها تتصرف وكأنني (هادي ) الذي اعتادت عليه في الصغر ..ألا ترى رجلاً بحجم الحائط يجلس قبالتها؟!...
تنهدتُ بهدوء دون أن اشعرهما مستجمعاً أفكاري ثم تنحنحتُ لأجيبها بلباقة :
" هذا من دواعي سروري....في الحقيـ..."

لم أكد ألبث أن أكمل جملتي لتتسع عيناي من هوْل الموقف والكارثة التي تسببت بها ....زوجتي الحمقاء!...احترقت من حديثنا الشبه ودّي وبسبب نيرانها الهائلة من الغيرة شربت على نفسٍ واحدٍ فنجاني البارد الذي كانت تحاوطه بيدها بتملّك كي لا تأخذه غريمتها منها وهي التي تكره هذه القهوة المرة الثقيلة مما جعلها رغماً عنها تبصق كل ما شربته ليتناثر الرذاذ على الطاولة وعلى.....القميص الثلجيّ الأنيق لـ(رفيف) ولم تنسَ أن تضع لمساتها ببعض النقاط ....كالنمش... ليزيّن وجهها..!!...في الحقيقة سأعترف.....تصرّفها أحرجني بشدة ظاهرياً وعقلياً إلا أن هناك خيطاً خبيثاً كان شمتاناً لأنني كدتُ اختنق من جرأتها .....أظن ذاك الخيط أتى كجندي مجهول بعد أن اطلقه خائني النابض بحبها!!.......
أرجعت كرسيها للخلف ...محرجة خائفة ....ورجعت الأخرى بكرسيها للخلف محرجة غاضبة ....ثم صرخت بها:
" ماذا فعلتِ أيتها الحمقاء ؟!....ما هذه قلة التربية !!.."

ثم سحبت مناديل ورقية كانت على الطاولة وبدأت بتمسيح وجهها وقميصها بينما الأخرى تسلّحت بالقوة ولم تستطع منع رجفة قلة حيلة وقهر خالطت صوتها وهي تقف منحنية اتجاهها بوجهٍ واجمٍ :
" لستُ قليلة تربية بل أنت..!!...فنجانه بأي حق أخذتيه ...هل رغبتِ بأن تشربي وراءه ؟!...انظري لنفسك كيف تأكلينه بنظراتك بكل جرأة ووقاحة!!...."

اغرورقت عيناها بالدموع والتفتت ناحيتي مضيفة وهي تعود لتقف بانكسار بعد أن غلب عليها الامر:
" وأنت؟......هل أنت مبسوط الآن ؟!.....تمنعني من التعامل مع الرجال بينما أنت بكل راحة تجالس النساء !!....هل ما حُرّم عليّ حلالٌ لك ؟؟!.....هل تحاول اغاظتي بتلك الوقحة المتملّقة التي تحاول عرض نفسها عليك؟!....."

التهبت أعصابي حرجاً وغضباً فأنا بمكان عام أشعر أنني مكبّل بالأصفاد... مرّت لحظات الموقف متثاقلة ...الدم يغلي في عروقي وكاد أن يخرج من عينيّ المحمرّتين ليحرقها ....لمَ تزيد هموماً فوق همي؟!...لمَ تصرّ على ادخال نفسها في مجال رؤيتي؟!...ألم أقل أنني سأنساها ؟!...ألم أقل لها أننا انتهينا بذاك المكان المشؤوم وأنا الآن أخوض مرحلة تعافي من مرض يدعى.....عشق الألمى....مرّ علينا شهر ونصف لم اسأل عنها متعمداً ولم أسمح لأيٍ كان بذكر اسمها.....لقد أقسمتُ ولجأتُ لمرحلة العلاج.....فأنا إن وصلتُ لنقطة بألّا أفكر بها بين الثانية واختها وإن لم يحتفل الخائن برؤياها ....وإن لم تعد أرضي تنادي على سمائها سأكون حينها شفيت وتعافيت ...وبهذا يمكنني ...اطلاق سراحها!!....لكن لا أعلم متى فالصراع ما زال قائماً بين عقلي وقلبي....ولنرى لاحقاً أيهما سينتصر!...
أخرجني من تيه معركتي الداخلية بعد أن أحرجتني صوت التي قالت بنبرة واثقة خافتة مفتخرة يشوبها الغرور:
"هيـه أنتِ... الزمي أدبك واعلمي مع من تتحدثين...لقد تعدّيت حدودك!!.....أنا المحامية رفيف ابنة المناضل الحر سالم الأسمر وعمي سليم الأسمر والد ورئيس الثوّار الأبطال الذي يرتجف الرجال أمامه...ابنة أصل أباً عن جد!!..وتربيتُ أفضل تربية...أما أنتِ من تكونين ؟!....ها؟!...اخبريني لأرى !....حدّثيني عن أصلك وفصلك!..."

خاضت صراع سريع في عقلها......كيف تسألها من هي ؟!....هي ألمى عاصي رضا الوزير السابق ورجل الأعمال الشهير ....أم أنها تقصد.....بأنه المجرم الخائن القابع خلف القضبان ؟!.....هل أصابتها في مقتل.؟!...كلا ...لمَ لتصيبها وهي على يقين ببراءته...تُهم باطلة ألقوها عليه ... أتريد أن تعايرها بوالدها ؟!...لن تسمح لها ....لن تعطيها غايتها....اتكأت بكفيها على الطاولة منحنية بصورة حادة أكثر أمامها ناطقة من بين أسنانها بينما كانت عيناها تلمعان بوهج الغضب وملامحها كلها ازدراء ونفور منها :
" أما عن أصلي وفصلي فأنت تعرفينني جيداً وربما تحفظين تاريخ ميلادي.....فأنا بنت سيدك الوزير السابق والوزير القادم....عاصي رضا.....أما من أكون.....أنا زوجة الذي تحاولين لفت انتباهه بحركاتك وبطولاتك ....بل وقاحتك!....نحن نساء ونفهم على بعضنا!....إن كان هو غافل عن هذا فأنا لا ....لقد رأيتُ بريق الاعجاب بحدقتيك اتجاهه....رأيتُ حماسك بنبرة صوتك معه......ليس بريق أو حماس محامية لموكلها ......بل أكبر من ذلك....وقلبي دليلي!..."

فتحت فمها لتردّ عليها بقسوة بعد احمرار وجهها وانتفاخ اوداجها لأول مرة....وقد نجحت المدللة باستفزازها بسهولة إلّا أنني قطعت طريقها عندما وقفتُ بحزم طارقاً الطاولة بكفيّ هاتفاً بحدة ملقياً نظرات قاتلة لكلتيهما:
" كفاكما مهزلة ....إلى هنا نفذ خزّان صبري عليكما !!.."

وبحركة سريعة طوّقت معصم خاصتي ثم سحبتها خارجاً من المقهى متخذاً يسراي الى رواق فيه غرفة للعمال ومخزن ومطبخ وحمامات عامة وبأول غرفة فتحتُ الباب وسحبتها ثم أغلقته وحشرتها عليه وهي تنظر إليّ بوجل وملامح مبهمة بينما أنفاسها كانت لاهثة لتزداد ضراوة عندما انحنيت بجذعي ممسكاً كفيها مثبّتاً إياهما لفوق هامساً بكل هدوء وأنفاسي تلتطم بوجهها ورائحة عطري تخترق أنفها:
" ما الذي تريدينه يا قطة ؟!.."

أشاحت وجهها جانباً وابتلعت ريقها مجيبة بخفوت وتلعثم:
" لا..شـ...شيء...أقـ...أقصد أريد أن...أن أكلمك"

اقتربتُ أكثر بشفتيّ قرب أذنها وهمستُ همساً دافئاً:
" ومن قال أنني أريد أن اسمعك؟؟!.."

أعادت وجهها نحوي وثبّتت سماءيها على أرضي...تبادلنا النظرات وقلوبنا تعيث فساداً وخراباً داخلنا وهمست بإصرار وهي خائفة من الاستسلام لي من شدة قربي:
" ابـ...ابتعد عني!!..لنتكلم....وتسـ...وتسمــ� �عـنــي!!..."

"ألا تفهمين عربي؟!...أتريدين أن أكلمك بالإنجليزية يا ابنة كندا .؟ أقول لكِ لا اريد أن أسمعك!....هل صعب فهمها لهذه الدرجة؟!.."

قلتها بوضوح وتمهّل وتابعت هامساً بدفء أكبر وأنا ألصق شفتيّ أكثر بأذنها عابثاً بمشاعرها:
" لا...أريد....أن....أسمعك...يا....ح لوة.."

كاد همسي يذيبها... ...ابتعدتُ قليلاً تاركاً فجوة بيننا أعطي لها المجال لتتنفس وحررتُ كفيها قاطباً حاجبيّ وهاتفاً بنبرة صارمة محدّقاً بها بنفور جليّ لأستر به على خائني العاشق الغبيّ...فقربها أثارني كما قربي أثارها.:
" قلت لكِ سابقاً لقد انتهينا....بأي حقٍ تفعلين كل ما فعلته بالمقهى ؟!..."

ظلّت صامتة فطرقت الباب بكفي قرب رأسها رافعاً صوتي:
" قولي بأي حق تنضمين لنا وتفتعلين موقفاً دنيئاً مع المحامية رفيف ؟!.."

اهتزت مجفلة من طرقتي إلّا أنها استجمعت قوتها لتجيب:
" وأنت بأي حق تمنعني عن التواصل بالمحامي الشاب خاصتنا وتربطني بك بينما أنت تصول وتجول مع تلك الوقحة؟!.."

" لا شأن لكِ بهذا....قلت لك ستبقين معلّقة....لا متزوجة ولا مطلّقة واسمك سيبقى مقروناً باسمي وستصونين هذا الاسم جيداً.... أما أنا سأعيش حياتي كيفما يحلو لي....أظن أنني لن آخذ الإذن منك..!!.."

قلتها باحتقار يخالف مشاعري فهتفت منفعلة:
" ألأنك رجل يمكنك فعل ما تشاء ؟!.."

" كلا....سأفعلها كونك إبنة عاصي .....وزوجة عديمة تربية أهانت زوجها....من أجل هذا سأفعلها ولن أبالي !!.....انتهى عهد الرقة والحنان عندي...."

لذنا بالصمت برهة من الزمن ...وضعتُ يدي على جبيني مستديراً جانباً ثم عدتُ بوجهي متابعاً كلامي بعد تنهيدة خفيفة:
" الطريق التي تسيرين لن أسير خلفك عليها واذا رأيتني بالطريق غيري اتجاهك أفضل لكِ صدقيني!!.."

رفعت طرفي حاجبيها الداخليين وألصقت بطن كفيها بالباب جانبها تستمدّ منه القوة وقالت لتختبرني:
" اذا طلقني ما دمت وصلت لهذه الدرجة...لا تريد أن تسمعني ولا أن نتقابل بنفس الطريق!!...."

ثبتّ كفيّ جانب رأسها وانحنيتُ مجدداً بجذعي مقرّبا وجهي لوجهها وقلت بكل برود وأنا أحرر يمناي مشيراً لنفسي بسبابتي:
" أنا أقرر ذلك متى أريد أنا.... أنا...هل سمعت؟..."

" إذاً ما زلت تحبني!..."

قالتها واثقة بعد أن أنزلت عينيها أرضا فأجبتُ من فوري:
" متوهمة..!!...ما عدتِ تعنين لي شيئا...."

ازدردت ريقها وارتجفت حدقتيها بعد إعادتها لنظرها إلي عند سماعها جملتي وهمست بتردد:
" كـ...كاذب!....أنت ما زلت تحبني..."

" لنرى اذا ...."

اقتربتُ منها أكثر هامساً قرب أذنها وأنفاسي تلفحها ثم مسكتُ ضفيرتها وقرّبتها لأنفي استنشق منها عبق الأناناس كالمدمن وبعدها أفلتّه والتصقت أكثر بعنقها أمرر أنفي على عنقها اسرق عطرها بينما كنتُ بهذه اللحظة أشبك أناملي بأناملها وهي مستسلمة , خانعة , صاغرة.....بل عاشقة مشتاقة ....صدرها يعلو ويهبط انفعالاً بعد لمساتي ونفسي المثير ثم داعبتُ أنفي بأنفها وهي مسبلة العينين تنتظر القبلة الظمآنة لها وقبل أن ألصق شفتيّ لشفتيها التواقتان المستعدتان للغرق في بحر غرامنا فككتُ يديّ من يديها وابتعدتُ عنها محافظاً على شبرين بيننا ورفعتُ زاوية فمي بابتسامة هازئة واثقة وقلت بنبرة ساخرة:
" أرأيتِ..؟!...رغم هذا القرب منك لم تهتز شعرة واحدة لي اتجاهك... ولم يدق القلب دقة صغيرة في هواك.....يعني...لم تعودي تؤثرين عليّ كالسابق!!...أنا في طريقي للتعافي من هذا العشق المسموم الممنوع...."

جرح نزف من عمق روحها...تكدّست الدموع في عينيها وقاومت لتمنع بكاء مرير يشل أطرافها....ضغطت على شفتيها وأسدلت أهدابها بألم...وقلبها يخفق مخذولاً ...تصرفي أرهقها وعبثي بمشاعرها قتلها...ثواني بقيت على حالها....تحاول وتحاول ألا تريني وهنها وانكسارها وبعد ذلك زفرت أنفاسها ثم رفعت الحجاب عن سماءيها لتتحول لامرأة أخرى تود مداراة ضعف قلبها وجرح روحها وكل أوجاعها وهي تبتعد عن الباب لتقترب مني بجسارة ترفع يدها لتضعها على صدري قرب خائني الذي عهدته وفيّ لها كأنها تريد أن تتأكد من نغماته علّها تكون بلسماً شافياً لكدماتها وقروحها تزامناً مع همسة متحدية لي:
" علمتني مرة أن أضع يدي على صدرك لأنه يقول الحقيقة وأن نبضاته تشي بحبك لي...إذاً هيا لنرى صدق كلامك بأنك ما عدت تحبني!....."

كنتُ قد طوقتُ معصمها بيدي قبل أن تلمسني ولمّا أنهت جملتها شقت ثغري ابتسامة أبيّة عزيزة وقلت وأنا أحرك رأسي يمنة ويسرة:
" كلا يا قطة!!....... ليس من حقك لمسه.....إن كنتِ بالماضي تمتلكين نصفه فالآن هو بالكامل.... سيكون ملك لغيرك!...لغيرك أنتِ.....وأنا الاخلاص طبعي... لن أخون من سيعتني به دون غدر!..."

" ماذا تقصد؟...."

سؤال صدر منها مرتجفاً فأجبتها ببرود وعدم اهتمام:
"لا شأن لك بما أقصد.......لم نأتِ هنا لنتحاور ولا وقت لديّ لأضيعه معك......أضعتِ كل حقوقك عندي....."

بثقة وجسارة هشة تخفي خلفها انهيارات ومشاعر تحولت لركام في احشائها هتفت:
" ما زلتُ زوجتك ولي كل الحق بك!...."

" بالاسم فقط حتى اصدار قراري النهائي بما يخصنا للأبد!!...."

"أنت ظالم!...."

"أجل!...لأوازيك ووالدك بظلمكما.......جرّبنا أن نكون ودودين...ليّنين...متسامحين.... عاشقين مخلصين.!!.....ماذا جنينا غير غدر وإهانة ؟!...."

وانتصبت بوقفتي اكثر عائداً خطوة للخلف أقيّمها بنظراتي هاتفاً باشمئزاز اتقنته :
" يبدو أن الظالم يتلذذ وينمو على الشر فقط ....إذا لك هذا مني ....أرايتِ كيف أنني ما زلتُ كريماً معك؟!....."
وبسهولة وخفة أزحتها عن الباب واضعاً قبضتي على قبضته لأفتحه فهتفت:
"انتظر!....."

بنظرة ازدراء كسابقتها قلت :
" من أنتِ لانتظرك؟!....أنتِ لا شيء عندي!.....اذهبي وتابعي حيث وقفتِ....بغدرك...بحماقتك....بـ� �ـغــرورك....وبقلة دينك وإيمانك!!......."

رفعت يدي عن قبضة الباب واستدرتُ نحوها متابعاً بينما طعنات تغرز بها تكاد تزهق روحها من كل كلماتي ومعاملتي لها :
" خالتك التي كانت بمثابة أمك جعلت نفسها شمعة لتضيء حياتك وأفنت عمرها من أجلك لم ترحميها بقسوتك وعنادك...ظلمتيها بظنونك وحرمتيها من مسامحتك ....كل ما قدّمته لها البكاء ...هل حاولت تصديقها؟!....هل حاولت فعل شيء من أجلها ؟!...كلا ....لمَ؟...لأنك ألمى بنت عاصي رضا.....الفتاة المدللة الطائشة المغرورة......."

رفعتُ يدي مشيراً لها متابعاً بذات الازدراء مستنكراً:
" أنتِ حتى لنفسك لم تقدّمي خير!...هل سأنتظر الخير منك لي ؟!...أما بما يخص ربّك عن ماذا اتحدث؟!...هل ابدأ بتبرجك وعرض مفاتنك؟!....أم بتركك للصلاة ؟...صلاتك تلك التي واظبتِ عليها لأيام ثم حذفتيها من برنامجك لتعاقبيني.....لا تستوعبين أنها لله وأنك تعاقبين نفسك!!.....والعطر؟!...قصة أخرى.... كم مرة نبّهتك عليه وعن حرمته؟!...لا أعلم ....ها أنت ما زلتِ كما أنتِ....تظنين أنك تعاندين الجميع ولا تدركين أنك بكل هذا تلقين بنفسك الى الهلاك!.....على ماذا حصلتِ؟....لا شيء...معادلاتك فاشلة....وتجارتك خاسرة.....انظري لنفسك ولحياتك..."

نثرتُ الملح على جروحها وضاعفت ُ أكثر من آلامها وهي لا تدري أنني أفعل بالمثل لي....أعيش بعذاب ما بعده عذاب.....أنا الآن اخوض حرباً خاسرة .....كل ذرة بي تستغيث وجعاً وأحاسيسي تتخبط ضياعاً وأكملتُ متسلحاً بقوتي وقسوة قلبي :
" هل أنت سعيدة ؟!...كلا!!.....كاذبة إن قلت أجل!!...فوجهك يتشح بالبؤس وقلبك ينبض ألماً أما سمائك إن أمطرت لا تمطر إلا قهراً أو ندماً...أين موقعك بدنيا السعادة ؟!....دراستك بحماقة تركتيها.....خالتك بحقد خسرتيها....أما عن عشقنا...عشقنا الذي كان.... لن أتحدث ...لأنه أكبر من أن يستوعبه عقلك!! ....فاسمعيني للمرة الأخيرة فنحن لن نرى بعضنا...لأنني إن قررتُ يوماً الانفصال ستصل ورقة الطلاق إليك من المحامي...لن أريك وجهي ولن أرى وجهك....والآن إما أن تضربي كلامي بعرض الحائط .....ولن استغرب طبعاً ولن اتفاجأ......أو تأخذينه معك بسفرك وتقلّبينه بقلبك وعقلك معا لربما تنقذين نفسك.....سأهديك نصيحة لأني أشعر أن هذا آخر واجبٌ لي اتجاهك.!!... علّها تكون بمثابة نداء صحوة لك!!....لك حرية الخيار .....قلتُ لكِ معادلاتك بشأن حياتك فاشلة وتجارتك خاسرة ....أنت لا تدركين أن كل تجارة من دون الله هي تجارة خاسرة.....لقد قال لنا جلّ في علاه .."

واستعذت بالله تالياً بتجويد بصوت شجيّ خفيض يعطي السكينة والانشراح:
"...{{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ*وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ}}..."

هزّة أرجفت أغوارها لم تعرف مكنونها ...صوتي لامس مكاناً عميقاً داخلها......آثرت الصمت وعدم التعقيب ولم أفهم أكانت مصغية أم أنها ما زالت متـأثرة من كلماتي الجارحة التي فتكت بها وبقي أن تقع صريعة ؟!....

بكلمات قليلة بسيطة مختصرة حاولتُ تفسير معنى الآيات لها :
" تجارتنا في الدنيا فيها الربح وفيها الخسارة....يوماً تفرحين بها ويوماً تبكين منها .....لكن إن كانت تجارتك مع الله وحده.....سيكون ربحها دائم بل سيتضاعف.....وسترين نتائجها بالدنيا والآخرة.....التجارة مع الله تكون بالإيمان به .....وهي مكفرة للذنوب ...."

صامتة لا تتكلم....كدمية اصطناعية لا تتحرك....بالكاد استشعرتُ أنفاسها ...!!.......سحبتُ نفساً خرج عميقاً من جوفي وقلت بتشديد رغم فقداني الأمل منها:
" لتنجح تجارتك مع الله....عليك بالتوبة!!....سارعي الى التوبة النصوح....توبي وانتظري وشاهدي أي أبواب من الخير ستفتح أمامك....إن كانت بالدنيا أو بالآخرة....."

وبضحكة مبتورة متهكمة أضفت في الحال:
" الله وهبك العقل أرجو أن تستغليه للمكان الصحيح ....إلا إذا أخترتِ أن تثبتي أنك ابنة عاصي.....ابنة عاصي لا غير!!.."

أنهيتُ خطابي ووليتها ظهري فهمست بصوت مخنوق:
" ألن تسمعني ؟!.."

دون النظر إليها أجبتُ باختصار جازماً بحزم بينما كان خافقي يخفق خفقات شفوقة يحاول اضعافي :
" لن أسمعك!!.....لو احترمتِ وأطعتِ لأخذتِ.....أما بتمردك وعصيانك...حُرمتِ.....وأنا سأنفّذ قسمي"

" أي أنّك تخليت وأنت الذي قلت لن تتخلى عني ؟!..."

" لم أتخلَّ بل أنت نكثت العهود وتخطيت الحدود.....اخترتِ طرفك وطردتني من سماء اللجوء.....فاخترتُ طرفي!!..."


" أي طرف اخترت؟!.."

" سأهجرك هجراً.......أليماً.."

قلتها بثبات وأكملت بسري حيث أعيش ثورتي واهتزاز مشاعري.."...يا من كنتِ ألمى الروح وبقيتِ كل آلامي..."

وخرجتُ صافعاً الباب موصلاً قسوتي على قلبينا ذروتها دون أن أستودعها الله كما اعتاد خائني بينما هي من خلفي سمحت لانهيار حصونها متكئة بظهرها على الحائط لتنزلق على مهل حتى صارت أرضاً تحتضن ساقيها وشرعت بنحيب ارتجّ له قلبي الذي شعر بها من بعيد فاشتد به الجوى ليبكي نازفاً عليها ...!!....وهمست همسات واهية تمزق الكبد وهي تضع يدها على بطنها والعبرات تتسابق على وجنتيها:
" لقد كنّا يوماً ....والآن لا ولن نكون !!....انتهت قصتي يا صغيري...مع...الهادي والألمى وستبدأ قصة بطليها....أنا وأنت فقط....ولن نخبر الذين تخلّوا عنا بها !!...."
×
×
×
توجّهتُ إلى مدخل البناية بعد تركي لها وذهابي للقهوة باحثاً عن (رفيف) التي لم أجدها ولمّا وصلتُ الخارج وجدتها تقف عابسة بكبرياء فأشرتُ لها لنتابع سيرنا نحو الموقف وبينما كنتُ أسبقها قليلاً لأنها لم تستطع مجاراة خطواتي الواسعة وخاصة بكعبها الحاد هتفت مغتاظة :
" لا أعلم كيف كنتَ تتحمّل وقاحتها وحماقتها !!..أعانك الله..."

التزمت الصمت ولم أنطق ببنت كلمة فتابعت وهي تحاول اللحاق بي بسرعة أكبر:
" سمعت أن حسب تخطيطاتكم بعد انجاح المهمة ستطلقها ....برأيي هذا أفضل حل فهي لا تناسبك أبداً....لا ديناً ولا نسباً...!!"

شهقت مفزوعة متفاجئة عندما توقفتُ بغتةً مستديراً نحوها مشهراً سبابتي بوجهها ناظراً إليها نظرات نارية هاتفاً بجدية وجفاء :
" رفيف!!... ألم تلحظي أنك سمحتِ لنفسك بالتدخل بما لا يعنيك ؟!....لقد تماديتِ بالداخل وأنت تفتخرين بنسبك وتهينيها بنسبها وأصلها .....أنتِ كنتِ تكلمين زوجتي إن لم تدركي هذا .....ألمى زوجة هادي وعلى الجميع احترامها ولن أسمح لأحد بإهانتها.....هل فهمتِ؟!....لا أريد ان اسمع أي كلمة خارج نطاق قضيتنا....قومي بعملك وعملك فقط ولا تظني إن لعبنا هنا وهناك بالماضي ونحن أطفال فإذاً أصبح من حقك الخوض في حياتي الشخصية.... وقد أعذر من أنذر!!.."

وأدبرتُ عنها متجهاً لسيارة صديقي التي أتيتُ بها بعد أن أوقفتُ سيارة أجرة من أجلها فهمست من خلفي حانقة وهي تلحقني بنظراتها:
" ما زلتَ كما أنتَ...لم تتغير!!....هادي المغرور الذي يتحوّل عندما يمس شيئاً كرامته أو أحداً يخصه !!.."

وزفرت أنفاسها المشحونة واتجهت الى سيارة الأجرة وهي تتمتم:
" حاضر سيد هادي لن نقترب من سعادة السفيرة خاصتك ....ولنرى أين ستصل بعلاقتك الفاشلة معها !!..."

~~~~~~
وصلت الحيّ القديم وبيت مربيتها بوقتٍ ليس متأخر من الليل!....كان ميعاد طائرتها قبل المغرب من نفس يوم الجلسة الأولى لقضية والدها.....عادت تحمل هموماً أكبر لا تستطيع تحمّلها.....أغلِقت الأبواب بوجهها .....وحياتها تزداد قتامة .....هي ضالّة حائرة....لمَ لا تستطيع اتخاذ قرار صحيح لمرة بحياتها ؟!...هل هي بهذه الدرجة من السذاجة أم ماذا؟!....لمَ لا تهتدي لشيء.....ضغوط وضغوط تتراكم على كاهلها.....كالمرة السابقة لاحظت السيدة (سهيلة) و(رهف) شرودها وحزنها المرسوم على وجهها .....قلبيهما ينفطران لحالها.....إلى متى ستتحمل كل الكوارث التي تهلّ عليها ؟!...إلى متى ستتشبث بعنادها؟؟!.....لمَ هي بعيدة عن الله لهذه الدرجة ؟!....ألا تعلم أن بقربه مصدر سعادتها ؟!....ألا تعي أن بطاعته تفتح أقفالها ؟!.....ألا تدرك أن الزمن يجري والعمر يقل دون أن تقدّم شيئاً لحياتها الأبدية ؟؟!.....هل ظنّت ستكفيها طيبتها ونقاء قلبها للفوز إن في الدنيا أو الآخرة؟؟.....وماذا عن فرائض الله وشرائعه؟.....أين هذا في حياتها ؟!.......جلسن ثلاثتهن بصمت بينما ضجيج من الأفكار الشعواء يزعج كل واحدة منهن على حدة ولكنهن يشتركن بأنها جميعها تتركز عليها فقط ....ماذا ستفعل؟!...وجهها مكفهراً وحالتها يرثى لها ....الملامح ذابلة .....وعينيها تنذران بقدوم طوفان سيغرقها.....أما قلبها الصغير يجاهد ليبقيها على قيد الحياة بعد الضربات التي تلقاها...ضربة تلو ضربة دون رحمة برقتها ويتمها.......افتتحت الحديث كبيرة الجلسة بعد اخراج تنهيدة حارة:
" ها بنيتي ابشري ماذا حصل معك؟!!.."

ثواني أم دقائق....ظلّت تحدّق بهما تنقل نظرها بينهما دون إجابة...والضجيج يعلو ويعلو حتى كاد يزهق عقلها ...وبهبّةٍ سريعة منها قامت من مكانها متجهة الى طاولة التلفاز وأمسكت المصحف الموضوع عليها ثم عادت جاثية أمام مربيتها تمدّه إليها ناظرة بتوسل ورجاء لتنفجر بكاءً حاولت بكل قوتها حصاره وهي تقول:
" أنا اثق بكِ خالتي وبوعودك لي ....اوعدتني بأنك لن تخبري أحداً عن حملي لما طلبت منكِ....وقد نفذت وعدك والى الآن لم تخبري السيدة إيمان .....لكني الآن لا أريد وعداً....بل أريد قسماً.......بالله عليك خالتي اقسمي......اقسمي أنك ستحافظين على سري.....لن يعلم أحد بحملي....لا السيدة ايمان ولا غيرها .....لا أريد أي زلة منك تجعل ذاك القاسي يعلم أنني حامل بابنه ......أنا لا اتهمه بأنه سيؤذيه .....لكنه باع حبنا ولم يسامحني ...لم يسمعني..."

بهتت ملامحها وهي تسمع لكلماتها واعتصر الألم فؤادها ...كانت تريدها أن تكون أقوى وأشجع لتوصل خبرها فهي تعي جيدا أن حياتها وسعادتها الحقيقة في موطنها الأصلي وقرب زوجها وخاصة أن هنالك طفلٌ يربط الطرفين ....جالت بحدقتيها على وجه الجاثية أمامها بحيرة وذهول وهمست:
"لمَ لم تجعليه يستمع لك لو مجبراً؟؟"

عيناها ما زالتا متكدستين بالدموع وكان وجهها محمراً كأنه جمع كل الدماء من جسدها وبغصة مريرة وجروح عسيرة أجابت:
"كنتُ أريد اخباره.....قسما كنتُ متحمسة لإخباره... لكني رغبتُ بالأول استشعار حبه لي....وددت أن.... أن يهديني حضن صغير ....أو..أو همسة دافئة... حتى نظرة حب كانت ستكفيني....ستكفيني لأطمئن من ناحيته كما كنا وأقول له ما عندي ....رغم ما مررنا به كان هو أماني...كبرت على ذكراه...وعشت معه حتى لو كان باسم آخر أسعد أيامي .....حلمت أن كل شيء سيصبح على ما يرام.......أنا أحبه وقهري منه وخذلاني ذاك شيء آخر لن انكره ولن أنساه......كنتُ قد استجمعتُ أفكاري في الأيام السابقة.....فكرت أن ابننا أهم من أي شيء وسنعطيه حياة كريمة.....وأنا أدرك أنني لا استطيع وحدي حمل مسؤوليته......رهف ستتزوج...وأنتِ لا ينقصك هموماً ومسؤوليات......وأنا أضعف من أن أربي طفلاً لا أنقص من حاجياته شيئاً... والأهم أنا أكثر من تدرك شعور النقص القاتل عندما يفقد الطفل أحد والديه...لا أريد لابني أن يعيش حياته ناقصاً...أريده أن يكون في كنف والديه.....فكرت أن أفصل بين قضيتنا وعلاقتنا ....علاقتنا تبقى كما هي أما قضيتنا بعد الحكم نفتح المواجهة من جديد ....إن كان لصالحه مع اثباتات سأعتذر.....وإن كان لصالحي و لم يعتذر سأسعى لأخذ الاعتذار منه.....وكنت سأحارب من أجل هذا.....قررتُ أن لا افكر بالمجهول وسأعيش يومي بيومه.......انا عشت اسابيعي بصراعات لوحدي حتى اقرر وبفضل كلامكن الذي كان بمثابة تربيته على قلبي ...تسامحت رغم قسوته معي......وكله من أجل ابننا قبل حبنا .....ذهبتُ الى هناك ببصيص أمل متوقف على تعامله معي .....لكني صدمت....لقد قابلتُ شخصاً آخراً مصرّا على انهاء علاقتنا .....لا يرغب بي ومصمم على عيش حياته كما يريد......لم أجد أمامي هادي المتسامح الحنون.....أعلم كسرته وخذلته.....لكن مهما كان ذنبي ...عقابه كان أقسى....هو من أنهى بيده قصتنا ....إذاً أنا سأكتب قصة جديدة لي ولابني.....وستكون بعيدة عنه!!....."

وتحشرج صوتها أكثر وأضحى أكثر ضعفاً وهي تعيد وتكرر طلبها بإصرار:
" اقسمي خالتي....أن حملي هو سرنا ثلاثتنا مهما كان..."

آزرتاها بالدموع والبكاء المصغيتان لها ثم مدّت يديها تأخذ منها المصحف لتؤكد على وعدها لها بقسمٍ لا تراجع عنه ....فعلت هذا من أجلها ومن أجل اراحة بالها وهي واثقة أن الله سيتولّى ما يخفي المستقبل....وبعد أن استمعت لقسمها تنهدت براحة مبتسمة فهي حصلت على مبتغاها وكفكفت دموعها بكفيها وهي تنتصب واقفة ...لاذت بالصمت قليلاً وهدر قلبها بخوف لا تعلم مصدره ....تطلّعت على الجالسة لوهلة ثم وضعت يدها على بطنها ناظرة إليه وعادت بعينيها مرةً أخرى إليها وهمست بوجل وصوت خافت:
" خالتي....أريد أن أطلب منك طلب!!.."

" قولي بنيتي!...أسمعك.."

عادت تقرفص أمامها وأمسكت يديها وهمست :
" أنا أقسمتُ عليك أنني لا أريد أن يعلم أحد بحملي....لكن وصيتي لكِ الآن...إن...إن حصل لي شيئاً بعد ولادته !......سيكون هو أمانتك....أمانة عليكِ إيصالها للسيدة عائشة أم هادي لتربيه على حياة دافئة كريمة وأنا أثق من هي وكيف تكون تربيتها ...فهناك سيكون موطنه وبيته...ليعيش عيش رغيد ساكن دون شتات....أنا أعي ذلك....فبأيامي القليلة معهم ....علمتُ ماذا تعني أسرة وعائلة حقيقة محبة لبعضها.....ما حصل بيني وبين ابنهم لا ينقص من حقيقتهم شيئاً....هذا شيء وذاك شيء آخر !!....سلّمي لهم ابني ليضعوه بأعينهم.....إن لم أكن موجودة.."

انقبض قلبها وجلاً وغضنت جبينها تنهرها:
" ما هذا الكلام ألمى؟....أنتِ بإذن الله من ستربينه وستكونين أعظم أم "

تبسّمت بوجع وهمست:
" ربما نصيبه كما نصيبي في الحياة.....أن يفقد والدته.....لذا أحببتُ أن أحملك هذه الأمانة وأنا بصحة وعافية !!.."

×
×
×

ظلامٌ دامس والناس نيام ....كان الوقت بعد منتصف الليل من نفس اليوم.... واقفة تنظر من النافذة شاردة بالسماء تعيد شريط حياتها .....ومع كل ذكرى تزداد وجعاً واختناقاً....وصلت نهاية المطاف إلى كلامي الأخير الذي عاد يرن في أذنها فغرقت بوجع أكبر وضياع أصعب....حاولت ابعاد صوتي عنها ....لم تفلح!!....تململت (رهف) النائمة على الأريكة فبخفة اتخذت السرير تتصنّع النوم قبل أن ترى أرقها!!......قامت( رهف )تتمطّى واتجهت الى الحمام للوضوء ثم عادت وارتدت أسدالها البيضاء التي تعطيها هالة من نور فوق نور الإيمان الذي يضيء وجهها .....كانت (ألمى) تدثر نفسها تاركة فرجة تراقبها منها.....صلّت قيامها ورفعت كفيها متضرعة الى الله....لم تنسَ الدعاء لكل أحبائها بينما تلك تصغي لكل كلمة تصدر منها وتحاول كبت مشاعر غريبة داهمتها ترغب بالخروج منها رغماً عنها ولمّا وصلت (رهف) إلى:

" يا رب أنت تعلم أنني أحبها وأنها أصبحت لي صديقة وأخت لم تلدها أمي.....يا رب جئتك سائلةً وأنت الذي لا ترد عبداً طرق بابك "

" اللهم إني أسألك لصديقتي ألمى التي أحببتها فيك والتي لم تلدها أمي الهداية والرشاد والخير والسعادة الدائمة في الدنيا والآخرة"

" اللهم اصرف عنها الهم والغمّ والكرب، ربّي أخرجها من حلق الضيق إلى أوسع الطريق"

" يا رب غفرانا وتوبة نصوح لألمى التي أحب ولا أملك سبل الهداية لها"

" يا رب قلت وقولك الحق انك لا تهدي من أحببت ولكنك تهدي من يشاء"

" اللهم هي أمَةً ضالةً في عتمة الحياة فأنر بنورك طريقها وافتح لها بابـ..."

وقطعت دعائها عندما انقضت عليها أرضاً تحتضنها مجهشه بالبكاء تلازمها رعشة قوية وتشعر بصقيع رهيب يجتاح أوصالها ...تبكي وتبكي دون توقف والصقيع يزداد وتلك تشدد من احتضانها هامسة :
" ألمى حبيبتي انظري إليّ...ما بك."

لم تستمع لها ودفنت وجهها على صدرها أكثر مستمرة بنشيجها و(رهف) مستمرة بتهدئتها ...جسدها ما زال يرتجف وفكيها يصطكان ببعضهما ....غثيان مفاجئ أحلّ عليها...وتضغط بقبضتيها على ذراعيّ صديقتها تحاول اخفاء نفسها كأنها هاربة خائفة من شيء يلاحقها وهمست باختناق:
" رهف أنا أموت....اختنق اختنق....أكره حياتي....كل شيء ضدي.....لا سبيل لي يعطيني أملاً.....شيئاً يجثم على صدري.....أنا خائفة رهف...خائفة....كأنني أرى ملك الموت وخلفه جحيم....أرشديني رهف....ماذا أفعل؟...لا أريد أن اموت الآن....أنا لستُ مستعدة ...لستُ مستعدة...
...أنا سمعت دعاءك لي.....سمعت.....خائفة يا رهف ....انجديني....."

ابتسامة نقية زينت محيّاها صاحبتها دمعة تشبهها وهمست وهي تربّت على ظهرها:
" أتريدين أن تتنفسي براحة؟!"
بالكاد أخرجت همسة وهي على وضعها:
"أجل."

" الموت سيأتينا لا محالة ....لكن....أتريدين إن رأيت ملك الموت تضحكين بدلاً من أن تبكين؟؟"

حرّكت رأسها المدفون على صدرها ايجاباً دون همس فتابعت:
" هل تريدين أن تشعرين نفسك خفيفة كالفراشة وكأنك ولدتِ من جديد.....لا هموم....لا ذنوب.....لا عيوب ؟؟"

همست بين الرجاء والوجل:
" أجل.."


" إذاً هل ستستمعين لما سأطلبه منك؟"

ظلّت صامتة دون ردة فعل فأردفت تلك:
" الحل ليس لدي...لكني أعلم تماما أين مكانه هو.....فقط قولي من اعماق قلبك أنك تريدينه!!"

قالتها وكررت سؤالها السابق:
" ها ماذا قلت؟.... هل ستستمعين لما سأطلبه منك؟"

ما زالت قابضة على ذراعيها بخوف باحثة عن الأمان وببطء شديد رفعت رأسها المخنوق عن صدرها وكان شعرها ملتصقاً بوجهها من كثرة الدموع وحدّقت بها تلتمس منها الحلول وحدقتيها باهتتان ترتجيان الراحة والأمان....الفرح والانشراح.....كانت كأنها تحتضر وتريد أن ينشلها أحد من حافة الموت.....كانت نظراتها الضعيفة أعمق من أي كلام.....وضربات قلبها الملتاعة أصدق من أي عهود ....تريد....تريد أمل....تريد فرج....تريد نور وطمأنينة....أجل هي تريد......تريد أن تصرخ أجل دليني أين ذاك المكان لكن لسانها ثقيل...ثقيييل....مترددة خائفة.....ابتلعت ريقها علّها تساعده على النطق وأسدلت أهدابها ثم بشفتين مرتجفتين همست:
" أجل....اريده....قولي لي أين مكانه وماذا افعل؟؟!"

يا الله....يا الله....لم تصدق بأنها وافقتها على أول خطوة.....يكفيها أنها استمعت لها ونطقت أنها تريد لأول مرة.....كم مكثت من أسابيع عندهم وهي تلمح لها لعل وعسى تؤثر عليها لكن كل شيء كان مغلق عندها ومغشياً على بصيرتها......مسكتها من عند كتفيها وهمست وهي تتحرك لتنهضا سويا :
" هيا إذاً معي...."

تجاوبت معها بجسدها الضعيف .....وسارتا حتى وصلتا الحمام وقالت وهي تشير إليه:
" أولا عليك أن تكوني لائقة بذاك المكان.....لذا ادخلي واغتسلي وتوضئي..."

تبسمت ابتسامة مكلومة وعيناها غائمتان من شدة ما عانت واومأت ايجاباً ثم دلفت إليه لتغتسل وحضرت لها (رهف) ملابسها النظيفة ....بعد حوالي عشر دقائق خرجت ترتدي منامتها واتجهت إلى غرفتيهما .....ارتسمت ابتسامة فخر على وجه (رهف)وزلفت منها حاملة أسدال الصلاة البيضاء وناولتها إياها لترتديها.....استجابت لطلبها بكل خنوع....مستسلمة...شغوفة للبحث عن تلك السعادة .....أدارتها للمرآة لتنظر لنفسها وهمست باعتزاز ومحبة:
" بسم الله ما شاء الله ...اصبحت كالبدر الذي ينير الكون علينا.....حفظك الله من كل سوء"
راحت تتأمل وجهها .....منذ أسابيع كثيرة لم تره بهذا البهاء والجمال.....هي نفسها لاحظت كأن تغييرا طرأ عليها بالحال.....كانت دوما شاحبة......أما الحجاب الأبيض اضاء وجهها لتصبح كأنها حورية تسير على الأرض......استدارت لتقابل صديقتها وهمست بصوت أكثر صفاءً عن ذي قبل:
" ها....أين ذاك المكان؟!"

امسكتها من ذراعها واوصلتها لسجادتها الصلاة التي كانت تصلي عليها قبلها وأشارت هاتفة:
" هذا هو المكان.....لا داعي لتصعدي الجبال....ولا ان تدفعي المال.....كل مكان طاهر على الأرض يكون فيه الحل لضيقنا.....نجد عنده من يسمعنا ويلبي نداءنا......هنا تزال همومنا وتنشرح صدورنا.....هنا ستتهافت علينا الحلول دون عناء منا....."

التفتت إليها واضعة يدها على قلبها وأضافت:
"فقط اسجدي وناجي ربك......اسأليه أن يتوب عليك عن كل معصية فعلتها وكل تقصير كان منك اتجاهه....لقد قال الله سبحانه وتعالى..
{{ كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب}}......اسجدي واقتربي من الله .....اسجدي يا ألمى وأفرغي ما في جوفك....اسأليه عن حاجتك .....والأهم اخلصي النية عندما تفعلين كل ذلك..."

رجفة هزّت قلبها....ورعشة سرت في بدنها وهي تستدير بمهابة وخشية لتتخذ قبلتها.....بتمهّل وارتعاش رفعت يديها لخالقها بينما لم تقوى على رفع عينيها....إنها خجلة منه...محرجة من التقصير بحقه ....لكن بطمأنينة زارت قلبها تيقنت أنه الوحيد الذي لن يخذلها....أنه بأي وقت سيفتح لها أبوابه....أنه الرحمن الرحيم الذي سيرحمها .....عندما أوصلتها للمكان الصحيح أدبرت عنها خارجة تاركة لها المجال لتخلو بنفسها مع ربها دون قيود أو حواجز واغلقت الباب خلفها......ما زالت رافعة يديها للسماء وما زالت خافضة حدقتيها للأرض....استحضرت النية الخالصة بأنها تريد وتجزم أنها تريد ولم تدرِ كيف انفكت عقدة لسانها لتلهج داعية بنبرة بين التذلل والاصرار:
" يااا رب...جئتك اعترف بذنوبي ولا يغفر الذنوب الا أنت .....يا الله سامحني وأعف عني...أنا قصّرت في حقك وأنت أكرم الأكرمين .....يا رب إني ظلمتُ نفسي ووحدك الرحيم بي .....أنت من تعلم بحالي فأسألك أن تبدله لأحسن حال ......يا الله انا فتاة ضائعة فدلني ...دلني يا كريم الى صراطك المستقيم....يا رب افرج همي ويسر أموري وارزقني اسباب السعادة وانشراح الصدر....يا الله لا لي سواك يا ....."

ولم تعد تتمالك نفسها بعد ثباتها اليسير داعية بأقل الكلمات التي تفقهها فخرّت ساجدة الى الأرض منهارة وكأن الأرض تزلزلت من تحتها فجعلتها تهتز وتهتز لتنفضها وتزيل عنها ذنوبها وهمومها ....وبرجاء وتذلل...وبضعف وتوسل....وبنية خالصة وعزيمة صادقة همست لربها وهي ساجدة :
"رباه.... اقبل توبتي يا رباه"

فارتفع نشيجها وزاد نحيبها وهي تكرر جملتها بإصرار لتنزل أول دمعة لا سابقة لها عندها.....هي دمعة التوبة!!

~~~~~~~~~~~
غزلت لنا الحياة أسابيع رتيبة فسجّلنا شهرين على لقائنا الأخير......لم أسمح قط لأحد بفتح سيرتها أمامي....وقد لبّوا طلبي.....لم يهمني احتراما أو خوفا من تنفيذ قسمي.....المهم شهرين لم اسمع اسمها....أما الخائن لن اشي عنه وعن ما يفعله بي ليلاً.....وخاصة إن وقعت أرضي على مشبك شعرها المنسي...أمانتي الثانية !!........كنت بهذه الأيام اشغل نفسي ما بين شركة أبي والمعسكر .....لم يكن حالي يسرّ البال وكانت نبض الحياة تتحسر على وضعنا.....أنا أعلم أنها ليست راضية عن قراري بحقنا....فهي لا تقبل بالظلم ولا تريدني أن اكون ظالماً...وبالنسبة لها قطع سيرة المدللة وعدم السؤال عنها هو أكبر ظلم بحقها.....لكني ما زلتُ اعاند وأكابر.....اريد فقط أن اشفى من حبها ....ثم لكل حادث حديث!!......في صباح هذا اليوم الربيعيّ وهو يوم الجمعة تناولنا الفطور معاً أنا وأمي و(شادي) ولمحت أن ذاك الكلام الذي كررته على مسامعي في الآونة الأخيرة آتٍ لا محالة....بإضافة صغيرة تكسر جزءاً من قانوني الجديد بحق تلك (الألمى).....تنحنحت وهمست بجدية فيها الحزم بعد إرتشافها رشفات من كأس الشاي:
" سأقول كلمة وستسمعها للنهاية.....وإياك أن تتخذ قسمك ذريعة"

فهمت قصدها فقلت:
" أمي!!.."

قاطعتني ترفع سبابتها قاطبة حاجبيها:
" قلت ستسمعني ....أنا لا أتغنّى بها أو احكي لك عنها قصة ألف ليلة وليلة....هي كلمة واحدة.."

زفرت انفاسي بضجر وارخيت جسدي هاتفاَ:
" ما هي؟؟!"

قالت:
" لا اريد لك أن تكون ظالم.....أنت قطعت حبال الوصال بينكما وقطعت الأمل أمامنا بما يخص لمّ شملكما........إذاً حررها منك لترى حياتها.......لا تكن ظالما وقاسي!!.."

بوجهٍ واجم وضيق أجبت:
" لستُ ظالم.....أنا أدرك تصرفاتي ....اريد أن أعاقبها واربيها .....رجاءً أمي....أنا أعلم ماذا أفعل ولا اريد اي تدخل......"

تبسمت ساخرة بقهر وهتفت:
" تكذب على نفسك.....أنت ما زلت تحبها لذا تستصعب الانفصال عنها ..اما بشأن عقابها وتربيتها هذه مجرد حجج واهية فلو كان كذلك لما منعت الجميع عن جلب سيرتها واخبارها...."

" أمي...لو سمحتِ لنغلق هذه السيرة.....لطفاً لا اريد أن اعكر مزاجي!!...."

عدّلت جلستها بتأهب وقالت:
" لن تنساها الا اذا اشغلت نفسك بأخرى وهكذا ستحررها منك بسهولة...."

قلت منزعجاً:
" أمي هل تريدين أن تصلي لنفس السيرة؟؟....قلت لن اتزوج!!"

ردت بصوت متحشرج متألمة واحتقنت عيناها بالدموع:
" اريد أن تعيش حياتك....اريد أن أرى اولادك....اريد ان تحررها منك لترى هي الاخرى حياتها....حرام ما تفعله بحقكما ......لم اطلب منك يوما شيئا ولم اجبرك على شيء......لكن عليك أن تتزوج .....لديك فتاتين من أفضل الفتيات.....نسب واخلاق وجمال.......أشرتُ لك بالسابق على رفيف ابنة شقيق السيد سليم.....وسامي اخبرك عن تسنيم شقيقة صديقه عبيدة ......اختار عروسك وامضي نحو المستقبل ...كفى...كفى.."

لوى (شادي) فمه بازدراء وتمتم بسره هازئاً:
" كنا بفأرة وأصبحنا بفأرتين.....لا حول ولا قوة الا بالله"

لم يعجبني الحديث الذي بات يتردد على مسامعي في اسبوعي الأخير فقمتُ من مكاني قائلاً:
" عن اذنك امي.....سأتجهز لصلاة الجمعة...."

اسندت ظهرها للخلف بإحباط وقالت بتصميم وهي ترسم ضحكة ساخرة:
" اهرب....لكن هذا الموضوع سينتهي واليوم!!"
×
×
×

عدتُ بعد العصر الى البيت فوجدتُ شقيقتي (دنيا) عندنا .....سررتُ بوجودها وانضممتُ لجلستهم الدافئة وبعد احاديث عامة عادت أمي لتفتح نفس الموضوع متخذة شقيقتي سنداً لها بمسعاها....ومن صد ورد بيننا بين الاصرار والتشبث على الرأي من قِبلِهن والرفض القاطع من قبلي هتفت أمي بحنق :
" إن لم تختر بنفسك ما ومن يخص مستقبلك ...سأختار أنا........لا تغضبني منك!!..."

لأول مرة تنطق نبض الحياة كلمة غضب أمامي.....قشعريرة خوف أصابتني....وانقباض بالقلب فتك بي......فعزمتُ على اتخاذ قرار ....هي ترغب برؤيتي سعيداً وابني مستقبلي.........استأذنتهم وصعدتُ الى غرفتي....حضّرتُ حقيبة صغيرة ونزلت الى مرآب بيتنا......أخرجت خيمتي وبندقية الصيد ووضعتها بسيارة الدفع الرباعية السوداء خاصتي والتي وصلت أخيراً من تلك البلاد ....عدتُ الى المطبخ وأخذت ما احتاج لتحضير الطعام ووضعت بعض الأطعمة الخفيفة بصندوق حافظ الطعام ....تفاجأت أمي عند دخولها المطبخ ورؤيتها لما أقوم به فهتفت سائلة باستغراب:
" الى أين ان شاء الله؟...أهو هروب؟..؟

ضحكت ودنوتُ منها مقبلاً رأسها وهمست:
" ليس هروبا أمي ....من أجلك قررت أن اعتزل وحدي في الغابة اعلى الجبل لاستجمع أفكاري واختار ما يخص مستقبلي .....وعند عودتي بإذن الله سأخبرك"

فركت كتفها بمداعبة وغمزتها هاتفاً قبل أن أحمل اغراضي:
" المهم رضاكِ عني أماه..."

ضحكت مستبشرة فأصبح وجهها نضراً وهمست:
" رضي الله عنك بنيّ......اسأل الله ان يختار لك ما هو خير لك.....ولا تنس موضوع الطلاق....."

اومأتُ مبتسماً ناظراً إليها بحنان وقلت قبل أن أخرج:
" إن شاء الله يا أم هادي.......استودعكم الله.."
×
×
×

وصلتُ أعلى الجبل بعيداً عن صخب الأحياء السكنية ونصبتُ خيمتي قرب الأشجار .....هذه الأجواء من أكثر ما أحب....ليل ...وسكون....قمر ونجوم.....ورائحة الطبيعة تلفحني ......اشعلتُ ناراً وسرحت بالسماء المظلمة يشق عتمتها القمر بلطافة.......امضيتُ ليلتي أفكر وأفكر......وبين الفكرة وأختها وجهها يزيّن الفضاء أمامي........حاولتُ طرد صورتها واسكات وجيب قلبي النابض بحبها....عليّ أن انساها واتعافى من حبها ....بعد وقت طويل أصابني النعاس فدخلتُ خيمتي لأنام وكنتُ أشعر بطيفها يلازمني....ومع كل خاطرة تكون هي فحواها والمصدر خائني يكون ايضاً العقل منافساً له يحثّني لأنساها والتفت الى مستقبلي......!!.......رحتُ بنومٍ عميق كعاشقٍ بائسٍ غريق وعند الفجر بعد صلاتي مارستُ احدى هواياتي صيد الطيور......وهكذا أمضيتُ يومي بين أحضان الطبيعة بسعادة لم تزرني من شهور !!......وعند المساء عدتُ حاملاً قراري النهائي......بشأن حياتي.....!!
×
×
×

كانت تنتظرني على أحر من الجمر .....لتسمع قراري وترى اختياري....جلسنا في غرفة المعيشة جوار بعضنا والتفتُ إليها فبدأت بالحديث متفائلة:
" اخبرني بنيّ ما هو قرارك؟؟"

كم هو صعبٌ اتخاذ القرار.....قرار يغير مجرى حياتنا.!!....نرسم أحلاماً كثيرة ونسعى لتحقيقها ...وفجأة تخرج لنا عقبة في طريقنا تجعلنا نسلك اتجاهاً آخراً كرهاً لا طوعاً.!!..... لقد أغلِقت السبل في وجهي وتعاقبت العراقيل أمامي لتهدم أحلام سنيني التي عشتها معها....مع من خانت خائني.!!.... فها أنا عدتُ من هروبي سالكاً ذاك الاتجاه مرغماً لأن لا خيار لديّ!!.. لقد وعدتها أني سأخبرها بما فكرت وقررت وعليها تقبّله مهما كان !!....لذا أدليتُ حاسماً الأمر ناظراً لعينيها بثبات هاتفاً دون تردد بما أملى عليّ قلبي وعقلي اللذان اجتمعا أخيراً بعد سنوات من صراع حاد أنهك عمري عبثاً :
" اتخذتُ قراري....لن أطلق... وسأتزوج!!.....وقد اخترتُ عروسي!.."
أتيته بقلب تائب يجر ورائه العذر والرجاء
فما كان منه إلا أن استل خنجرا من كِبر وأخذ يطعن حتى سالت الدماء
أي حال يبقى عليه العاشقين من بعد وجفاء؟!
وقلب كل منهما يستجدي أين الوفاء؟!
في قانون الحب ممنوع الكبر والعناد والجفاء
فهل للمحبين غير الحب طريقا ومن العشق الا الارتواء؟!
ظمأ العاشقين يُروى بالهيام لا بالماء
فأمطر على حبيبك منك عشقا يصل به عنان السماء..!!
(( خاطرة من الرائعة رعد السما ))

×
×
×

كانت تنتظرني على أحر من الجمر .....لتسمع قراري وترى اختياري....جلسنا في غرفة المعيشة جوار بعضنا والتفتُ إليها فبدأت بالحديث متفائلة:
" اخبرني بنيّ ما هو قرارك؟؟"

كم هو صعبٌ اتخاذ القرار.....قرار يغير مجرى حياتنا.!!....نرسم أحلاماً كثيرة ونسعى لتحقيقها ...وفجأة تخرج لنا عقبة في طريقنا تجعلنا نسلك اتجاهاً آخراً كرهاً لا طوعاً.!!..... لقد أغلِقت السبل في وجهي وتعاقبت العراقيل أمامي لتهدم أحلام سنيني التي عشتها معها....مع من خانت خائني.!!.... فها أنا عدتُ من هروبي سالكاً ذاك الاتجاه مرغماً لأن لا خيار لديّ!!.. لقد وعدتها أني سأخبرها بما فكرت وقررت وعليها تقبّله مهما كان !!....لذا أدليتُ حاسماً الأمر ناظراً لعينيها بثبات هاتفاً دون تردد بما أملى عليّ قلبي وعقلي اللذان اجتمعا أخيراً بعد سنوات من صراع حاد أنهك عمري عبثاً :
" اتخذتُ قراري....لن أطلق... وسأتزوج!!.....وقد اخترتُ عروسي!.."

ارتسمت ابتسامة مترددة على محيّاها وهمست سائلة بتعجب:
" لن تطلق؟!..."

" أجل....لن اطلق!!.."

أجبتها ناظراً إليها فتلاشت ابتسامتها وطرقت رأسها إلى حجرها وتمتمت:
" لم أعد افهمك بني!..."

أرجعت وجهها صوبي وقالت مستنكرة:
" حقاً لم أعد افهمك ولا أفهم ما تريد...لن تطلق؟..هل بهذه السهولة ستظلمها؟!.!!"

تنهدت بأسى وأكملت سائلة بخيبة دون أدنى حماس:
" وأيّ عروس اخترت؟!..."

لذتُ بالصمت ناظراً إلى الفراغ سارحاً باختياري لثواني معدودة ثم أعدتُ حدقتيّ إليها مع ابتسامة مائلة وهمست قبل أن اقف مكاني:
" سأريكِ إياها بنفسي!!"

وتابعتُ بعد وقوفي أمامها خافضاً بصري لوجهها الذي كساه التساؤل:
" انتظريني!"

ظلّت مشدوهة لبرهة ثم أمسكت يدي بريب هامسة :
" إلى أين؟!."

تبسّمتُ وقلت:
" سآتي في الحال!.."

ثم غضنتُ جبيني بجدية هامساً رافعاً سبابتي بتأكيد قبل أن أوليها ظهري:
" لن أسمع أي اعتراض أماه.....ستتقبلين اختياري الذي ساقه الله لي !!.."

تركتها لدقائق قليلة بينما كان الفضول يتلاعب بها فتحدثت في سرها " يا ترى من التي اختارها ؟..ولمَ سأعترض وأنا التي ضغطتُ عليه ليتزوج ؟!.."

عدّلت جلستها قاطبة جبينها وأكملت في نفسها " أنا غير مرتاحة.....ابني الذي أعرفه لن يستسلم أو يقبل الارتباط بامرأة بسهولة وخاصة أنه عاشقاً لألمى مهما حاول التناسي!!.."

تأففت وتطلعت صوب باب غرفة المعيشة الواسع وتمتمت بصوت خفيض وهي تنتظرني:
" أم أنه بالفعل اختار عروساً ؟! ...ولكن من منهما؟... رفيف أم تسنيم ؟!...لم أتوقع الرضوخ منه لطلبي بهذه السهولة....أمره غريب..."

ولما رأتني دالفاً إليها ضيقت عينيها تركّز على ما أحمله بيدي لترفع بصرها بعدها إلى وجهي وملامح فضول واستنكار ظهرت عليها وهي تتململ لتقوم إلا أنني سبقتها واضعاً كفي على كتفها لأمنعها قائلاً:
" اسمعيني أمي...!!."

غضنت جبينها وسألت:
" لمَ أحضرتَ هذه ؟!...وما علاقتها بموضوعنا ؟!.."

أحكمت بإمساكها بكلتا يديّ ومددتها نحوها وهتفتُ واثقاً بقراري دون تراجع:
" معشوقتي..."

رفعتها إليّ وقبّلتها بحنيّة وأكملت:
" عهد هي التي اخترتها يا نبض الحياة........عروسي البندقية وعرسي سيكون الثورة ان شاء الله...أما قاعة الاحتفال في المعسكر....سأزفّ هناك على أنغام دباباتنا ورصاصاتنا....سنرقص فوق انتصارنا وأرجو من الله أن يهديني شهر العسل في الجنة بعد حصولي على تذكرة دخولي الثمينة.....وهي الشهادة!!.."

اتسعت عينيها بصدمة وارتجف قلبها وقالت:
" ما الذي تقوله بني؟!....ما هذا الكلام ؟!..."

اهديتها ابتسامتي العطوفة المحبة ثم جلست جانبها وأمسكتُ يدها بيديّ وقلت بهدوء راجياً رضاها:
" أمي.....أنا ذهبت لأفكر كيف سأجعلك ترضين عني دون ارتباط بأخرى.....لا أتحمل زعلك ولا استطيع مواجهة غضبك.....وبينما كنتُ حائراً هناك بكيفية خروجي من هذا المأزق وردني اتصال من السيد ماجد لأذهب للمعسكر بعد تجدد اشتباكات على الحدود وطلبوا مني رسم خطة محكمة ضد الأعداء.......حمدتُ الله الذي اختار لي الطريق وأخرجني من حيرتي معك .....لقد أرشدني لأجمل وأغلى عروس .....بندقيتي في ثورتي....!!....أنا سأستقر هناك الى ان يشاء الله ...سأذهب خلال هذا الاسبوع......"

اطرقت رأسها ليديّ الممسكتان بيدها وتنهّدت ثم همست بضياع:
" بنيّ...أنت كبرت في حب الوطن أجل....تدربت لتدافع عنه وتوهب روحك فداءً له لن انكر.... لكن هذا لا يوقف حياتك ....اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا....عليك الزواج وبناء عائلة !!"

قلت بشيء من العتاب وابتسامتي لم تفارقني وهي ما زالت على حالها:
" أمي....أنا لم اتوقع منكِ الاصرار على الزواج من أخرى وأنت أكثر من تعرفين حالي وأي ظلم سأوقعه عليها بزواجي.....ما الذي غيرك؟!..."



رفعت عينيها الدامعتين من فرط حنانها نحوي وهمست بقوة دفاعية:
"قلت لك طلقها ....لم أطلب منك الزواج عليها ....طلقها لمصلحتك ومصلحتها ما دام طريقكما مسدوداً كما جئت سابقاً وأقسمت...أي منذ حوالي ثلاثة أشهر ونيف....حررها منك لترى مستقبلها كما أنت عليك رؤية مستقبلك....ثم أنا أم يا هادي....أم.... تسيرها العواطف قبل العقل ....لا تلوم أم في حب ابنها...لا تلوم أم تبحث عن سعادة ابنها وإن كانت سعادته ستجلبها بنفسها من تحت القصف وفوق الأنقاض....أعلم أن طلبي كان به أنانية ربما عليها بالأكثر...لكن أنانيتي تقود لمصلحة كلاكما في النهاية مهما كان الشيء موجعاً ....!!....طلّقها بنيّ وتزوج.....أريد رؤية اولادك...أريد سماع ضحكاتك....أريد أن تغمر الفرحة أوقاتك...."

أمسكت يدها وقرّبتها لأثبتها على صدري فوق نابضي الخائن وقلت بنبرات عاشقة يكسوها السقم والألم:
"هذا القلب لم يعد من حقي ولا ملكي.....اكثر من عشر سنوات....كانت النغمة النابضة داخله هي ألمى ......انام ألمى...أصحو ألمى ....اشتاق ألمى ...أحب ألمى....أكره ألمى ....لم أجد نبضة متاحة يمكنني سرقتها لأعطيها لغيرها ........ تريديني أن أتزوج وأنت جربت العشق مثلي أماه؟ "

بمحاولات مستميتة تحاول اقناعي قالت:
" أعلم بني.....وأكثر من يعلم أنا....لكن قصتكما أنتما لا تشبه أي قصة عرفناها.....أنتما مثلتما العشق المستحيل .....تحملان حب كبير لبعضكما لكنكما تصلا لنقطة لا يستطيع أحدكما تجاوزها ليصل الآخر.....لا تنازل بقضيتكما.....أنت لن تتخلى أبداً عن قضيتك والجميع يعرف أن الحق معك.....وهي فتاة سيّرتها العواطف ولم تحكم عقلها لذا لن تسامحك أو تقتنع إلا بمعجزة يرسلها الله لها ينير بها قلبها......أفضل حل ورغم صعوبته وقسوته هو انفصالكما ليبحث كل منكما عن حياة جديدة تناسبه......حررها وتزوج ربما تأتي سعادتك باستقرارك ورؤية اولادا لك....."

بإيجاز وتأكيد هتفت:
" لا تتعبي نفسك...قلت لن أطلق..."

بقلة حيلة ونظرات حائرة قالت وهي تتخبط لإيجاد حلول ترضيني :
" لن تطلق.....إذاً تزوج.....ربما تعقل لاحقاً وتحررها براحة"

بعتاب خفيض يخرج من جب قلبي قلت:
" ناهيك أنني أرفض الفكرة....اخبريني كيف سأتزوج والزواج يربط قلبين قبل جسدين؟؟...ها؟......اخبريني أمي....!!..إن تخلينا عن الرباط الأول فسيكون الرباط الثاني أشبه بحياة الحيوانات........فأنا قلبي دمغ بحبها فقط وغير قابل للتعديل ولن يقبل بالبديل..."

آزر عقلي قلبي فأكملت:
" لو تزوجت امرأة أخرى فأنا سأظلم الجميع بداية أنت.......عندما ترينني بائسا بزواجي وهذا أكيد حينها ستزدادين حسرة وهمّاً وسأعلم كم ظلمتك .....وكذلك سأظلم التي سأتزوجها لأنني لا ولن اعطيها مشاعر صادقة مهما جاهدت لأكون عادلاً بتصرفاتي معها ....وهي ستشعر بذلك مؤكد ......"

رفعت كفي أمسد وجنتها برفق ناظرا باستعطاف لعينيها وتابعت:
" فكري بكمية القهر التي ستعانيها عندما تصل لذلك......فكري بدموع ستذرفها عند اكتشافها أن قلبي ليس من حقها .....ألا يكون هذا ظلما؟؟....."

عدّلت جلستي ناظرا للطاولة أمامي وأضفت والقلب ينبض بجنون العشق من أجلها:
"أما تلك البعيدة.....سأظلمها ايضاً بزواجي .....لأني اسرتها لنفسي وأبقيتها مكبّلة بزواجي لا تمتلك حرية الاختيار بينما أنا سأمارس زواجي بأخرى.."

أدرت وجهي نحوها متسائلا، رافضاً، موجوعاً وهاتفاً :
"لماذا؟....لماذا؟...قولي لي...هل فقط لأني ممسكاً بشيء تحت نطاق أن الشرع حلله لي كما يفعل الكثيرون......كتاب ٌ كامل لا خطأ فيه....قرأننا العظيم .....فيه نهج لحياة كريمة كاملة لدنيانا وآخرتنا.......مع الأسف جزء من الرجال لم يحفظوا منه إلا مثنى وثلاث ورباع بغض النظر أنهم لا يفقهون تفسيرها...........لا يمكنني أن اكون مثلهم أمي فقط لأن لدي الحق......أين العدل سيكون إن امتعتُ واحدة بجسدي وقلبي ملك للأخرى؟ ...أين العدل سيكون إن عرفت مالكة قلبي أن حضني الذي وهبتها لها بالكامل أخذته غيرها ؟؟...أي عذاب ستعيش؟؟...أين الرفق بها وهي ضلع قاصر؟؟.....لا يمكنني أن أتحداها بشيء يفوق طاقتها .....لا يمكنني أن انافسها بشيء لا تملكه.....العدل ان يكون الخصمين بنفس القوة لنرى من الرابح ......وإن ربحتُ أنا سأبقى الخاسر .....لا طعم لربح يكون خصمك فيه ضعيف ....الربح الحقيقي يكون عندما نحمل نفس الإمكانيات .....وشتّان بين امكانياتي وامكانياتها........كما أنني أظلم نفسي بزواجي بأخرى أكثر منكم جميعا.......أي صراع سأعيش ؟...كيف سألملم مشاعري ؟؟.....أحب تلك ويؤنبني ضميري لأني خنتها مع أخرى........وأرى هذه أنها عال عليّ فتشعر بذلك ثم يؤنبني ضميري بسببها.....أغضب مما آلت إليه حياتي ومن وجع قلبي فأخرج غضبي عليها......"

علا صوتي بقهر :
" ما ذنبها؟...ما ذنب الأخرى؟؟.....ما ذنبك؟.....ما ذنبي ؟....بل ما ذنب اولادي إن أتوا وأدركوا أن والدهم لا يحب أمهم؟؟.....أي نفسية سيحملونها؟...وأي حياة سأهديهم؟؟......"

تنهّدت فخرجت دمعة مع تنهداتها وهمست:
" لا أعلم ماذا أقول لك يا ولدي......وإن كنت محق بكلامك هذا ليس حل... ...لا يمكن الاستمرار بهذا العذاب ومثل هكذا قرار.."

حوطّت كفها بقبضتي ثم قرّبتها ألثمها بفمي وهمست واثقاً بمشاعري وقراري:
" لا يمكن لقلب هادي أن يكون لغير ألمى .....قلب كبر على حبها لن يخون وإن خانت.........وغضبي عليها لا يمسح ذرة من حبي .....الغضب هو ردة فعلي لموقف وهذا لا يعطي الحق بأن أبيع قلبي بيع خاسر وأن أدوس على قلبها بلا رحمة!!..........لذا كان أعدل خيار لكلينا حالياً.......أن نعيش بعيدين .....هي تمارس أفكارها التي لم تتخلّ عنها ....تعيش حب وغضب في تلك البلاد......وأنا أمارس افكاري التي لن اتخلى عنها وهي حماية الوطن والاهتمام به ولمّا أكون هناك في المعارك أعلم أنني لن أنساها وربما غضبي منها لن يزول لكني أثق أنني بمكان سيأتي يوم وسأعرف وهي ستعرف أنني لم أكن ظالماً مهما آلمتها بهجراني لها وسأنام مرتاح الضمير او سأرقد تحت الارض بسلام........أنا هجرتها فقط كونها امرأة ناشز...."

قاطعتني ثم استعاذت بالله قائلة:
"....{{وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ..}}.....هذا هو الهجر في ديننا بني...."

قلت:
"....حاولتُ وعظها في السابق...وحتى بلقائي الأخير وإن كنتُ قاسيا....نشوزها لا يعدله الا الهجر علّها تتعلم.....أعلم أن هجراني لها ليس جميلاً بل أليماً.......لكنها ليست ببيتي ولم ترد البقاء معي...أنا أحاول تقويم نشوزها ولو من بعيد.......ولأنها ليست حاملا فلا حق لديها بسكن أو نفقة ....فهي التي تركت بيتها وزوجها ولم اطردها انا...غيابي عنها وإهمالها هو عقابها وسيكون لوقت حدده ديننا وهو أربعة أشهر وقد مضى منهم اكثر مما بقى! ...عليّ الآن الاهتمام بمعسكرنا والوطن وما إن أنتهي من تسوية بعض الأمور سأعود وأقابلها.....إن أصلحت نفسها فأهلا بها وإن تشبثت بغبائها وعنادها ورفضت مرافقتي لن أطلقها ولتركب أعلى خيلها أو ترفع قضية ضدي إن استطاعت...!!.......ثم لربما تتحرر مني دون مجهود يذكر"

اهتز قلبها بين أضلعها وكاد الخوف أن يقيّد لسانها فسألت بتثاقل:
" مـ...مـ...ماذا تقصد؟؟!"

" إن رزقني الله الشهادة.....بشروها حينها أن يوم حريتها قد أتى .....ولتفعل ما تشاء.."

وضعت باطن أناملها على شفتي معترضة وهمست بحزن وخيفة:
" لا تقول هذا......أسكت.....لا أريد أن أسمعك...ما لك تكرر هذا الكلام؟...."

قلت:
" أمي ....وهل نيل الشهادة يستحقها أيٍ كان؟...وهل تمنيها شيء يجب أن نسكت عنه ؟؟...."

قرصتها من وجنتها بمداعبة وسألت:
" متى ستقوّين قلبك يا أم هادي؟!..."

زمت شفتيها وعبست ملامحها ثم قالت:
" وأنت متى ستفهم أن الأم مهما كانت قوية لن تتغير عاطفتها ازاء اولادها وخاصة عند ذكر الموت.......الموت حق والشهادة فخر.....لكن سبحانه قاهر عباده بالموت ....أنت ترى الابتسامة على وجوه أمهات الشهداء وتسمع الزغاريد وترى كيف يشيعنهم بزفة وأجواء فرح.......لكن وحده الله من يعلم ما الذي تعيشه داخلها من قهر وألم ونزيف روح فمهما مهما ابتدعت قوتها ومهما كانت أكيده وسعيدة أن جنات النعيم مأواه إلا أنني لن أصدق أنها لا تعاني أشد الحزن في قلبها وهي تفقده من دنياها "

زفرتُ أنفاسا طويلة أخرج غصات تجثم على صدري ثم أرخيتُ ملامحي مبتسماً وبرقت عيناي وقلت وأنا أضع يدي فوق يدها المركونة على فخذها:
" حسناً ....ربما أنت محقة بهذا...أما الآن... أريد .....رضاكِ يا أمي....ارضي عني دون أن تعترضي على قراري ....ادعو لي من قلبك الجميل يا مهجة القلب والروح......أنت أردت السعادة لي وبرضاكِ تكون سعادتي....يا نبض الحياة ونعيمها.."

لاذت بالصمت لدقيقة ثم همست باسمة وهي تنقل حدقتيها على تقاسيم وجهي وتداعب ذقني بأناملها :
" رزقك الله سعادة الدارين.....الدنيا والآخرة"

وأحاطت وجهي بكفيها ثم ارتفعت قليلاً تمد جسدها لتقبّل جبيني مضيفة بصوتها الحنون:
" رضي الله عنك وأرضاك.."

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

" سبحانك اللهم وبحمدك اشهد ان لا اله الا أنت استغفرك وأتوب إليك "

دعاء اعتادت عليه بعد انتهائها من قراءة القرآن منذ أن سمعته من شيخها الوسيم على صفحته للتواصل الاجتماعي!!.....كم هي ممتنة منه....كم تحمد الله أنه وضع بطريقها شيخٌ شاب يستطيع التعامل مع هذا الجيل الضائع بكل محبة .....يلقي المواعظ بطريقة سلسة تخترق القلب وتسكن في العقل ....بأبسط الطرق يقدّم نصائحه لخوفه عليهم ويشرح مقتطفات عن دينه دون تعقيد ليصل الى كافة المستويات ....يحبونه ويقدرونه وأصبحت هي مثلهم تتابعه بكل شغف ...ما أجمله عندما يجمع بين الدين والدنيا فيسهل عليها التعايش والمضي بحياتها .....فها هي ختمت سورة البقرة من توها بعد أن سمعت وعرفت منه عن فضل قراءتها والبركة التي تأتي معها...بل تلك السكينة التي لطالما انتظرت أن تشعر بها تغلّف روحها ... سكينة احتاجتها بشدة لتستجمع أفكارها وقراراتها ........أغلقت المصحف ونهضت عن الاريكة في غرفتها لتعيده مكانه.......لقد قامت بأول خطوة.....جلب السكينة !!.....وضعت يدها على صدرها وسحبت نفساً عميقاً أمام مرآتها وهي تغمض عينيها ثم زفرته بتمهل وهمست بابتسامة عريضة :
" الحمد لله ...الآن يمكنني فعلها.."

أرخت جوارحها وكل خلاياها ثم اتجهت الى سريرها تجلس على طرفه وتناولت عن المنضدة هاتفها .....فتحته ولمعت عيناها بدهاء عندما وضعت الرقم السري لحسابها الجديد....[ الأسير ]...فبعد أن قام بحظرها منذ ما يقارب الثلاثة أشهر وأكثر انشأت حساباً آخرا باسم مستعار وطلبت الانضمام الى مجموعته الخاصة !!.....هل ظن أنه سيفلت منها بعد أن أصبح مصدر سعادتها بأيامها البائسة بل أملها للحياة وطاقتها الايجابية ؟؟!.....مخطئ شيخنا الوسيم.....إنها (ميار) الفتاة الطموحة التي تكون مستعدة لتحفر الأرض بيديها لتصل إلى غايتها !!.......حسناً ربما هو ليس من نصيبها لكنها لن تسمح له أن يقصيها من صفحته التي باتت تتربع على عرش أولوياتها ....فمن دون دروسه ستبقى الفتاة الضائعة في سراديب الحياة وفتنها وفقط معه تجد ضالتها!!......دخلت على صفحته من جديد لتراجع على الدرس الذي نشره الليلة الماضية عن الارادة والعزيمة....والذي كان عنوانه...

[ لا تستسلم للواقع..دائما يمكن تغييره...دائما يمكن تحسينه...دائما يمكن تجاوزه]((وليام فولنر))

عقدت النية وعزمت على المواجهة ...أجل ستواجه خوفها ...لن يثنيها شيء عن قرارها ....ستمضي والله معها....لن تستسلم وستحسن حياتها......من قال أنها عليها تقبل اختيارها الخاطئ وتحمل عواقبه؟؟......أجل اخطأت لكن آن وقت إصلاح ما جنت بيدها.....لن تحتاج لأحد من بعد الله ....فالسكينة هي أمانها والعزيمة هي وقودها ....لن تجلد ذاتها ....أمها تريد تكبيلها بترهات وأفكار لا صحة لها ....من قال أن والدها ضعيف القلب ولن يتحمل وهو الذي رباها على القوة والشجاعة والتصدي لأي شيء يعرقل طريقها ؟!.......ستحاول أن تخرج بأقل الخسائر لذا لم تشرك أيٍ من اسرتها واختصرت الطريق على نفسها ...لا تريد ادخال أي وسيط ليتحدث باسمها.....وحدها من ستواجه جدها وردود فعله....هيأت نفسها لأي قسوة ممكن أن تبدر منه.....ستكمل ولن تبالي!!.....لقد استطاعت خلال أشهر كشف شخصية خطيبها (تامر) وأدركت أنه ليس الرجل الذي يناسبها ويمكنه أن يشاطرها حياتها.....اختارت وقت يلتزم كل افراد القصر غرفهم وبما فيهم جدها الذي يصلي العشاء ويتصفح جرائده قبل الخلود الى النوم !!.....وضعت هاتفها جانبا ونهضت ترتب منامتها ثم وضعت حجاب بعشوائية لتغطي شعرها....تسللت نازلة السلالم دون اصدار أي صوت....توجهت الى المطبخ لتحضّر كأسين من الأعشاب التي يحبها جدها ...إنها فتاة اجتماعية ومشاكسة مرحة لديها سياسة وامكانيات وفن التعامل مع الغير...ربما تكسبه لصالحها...لا مانع بالقليل من الاهتمام..!!....بعد تحضيرهما أخذتهما واتجهت الى غرفته ...وصلت الى الباب ....وقفت لثواني ....شهيق وزفير يتبعهما بسملة ولن تنكر أن شيء من الرهبة سرى في منابعها رغماً عنها....فمن في الداخل هو رأس العائلة يهابه الكبير قبل الصغير ومع انه يحب احفاده ويهمه مصلحتهم الا انه رجل صارم نادراً ما يخلع ثوب القسوة والجمود .....طرقت الباب بخفة ولما أذن لها بالدخول دلفت وضحكة المرح تنير وجهها ليزداد بشاشة....ستضع الرسميات جانباً لتهدم الحواجز بينهما وستتصرف بعفويتها...يبقى جدها وليس مدير جامعتها !!....رفع حاجبه الأشيب مستغربا مجيئها فزلفت هاتفة:
" لا أشعر بالنعاس وأنا اعلم انك تسهر ...لذا رغبت بشرب كأس من أعشابك الشهيرة والدردشة معك...هل تسمح لي؟ .!!.."

رغم أنه تفاجأ من زيارتها وأحس بشيء من القلق إلا أنه ارخى ملامحه يستقبلها بمحبة مشيراً للأريكة وهاتفا:
" بالطبع ....اجلسي بنيتي ..."

كان يجلس على أريكة منفردة فوضعت له كأسه ثم جلست على الأخرى التي تقابله ....وضع صحيفته جانباً وارتشف رشفة من الكأس وقال بلذة:
" سلمت يداك....أتعلمين أنك تصنعينه مثل جدتك رحمها الله؟...."

تبسّمت وارتشفت من كأسها ثم أجابت:
" ها أنا أسمع منك....رحمها الله.....أتعلم أنني ما زلت أذكرها وأذكر طيبتها وحنانها رغم أننا فقدناها ونحن صغار؟؟..."

" من منا ينساها ؟!.....ذهبت وتركت بصمة غالية !!.."

قال جملته ثم تنهّد مضيفاً :
" لقد كانت تنحاز الى والدك دونا عن أعمامك....هل أخبرك والدك بهذا؟"

أجابت بنبرة اعتزاز:
" كلا....الآن فقط علمت !!.."

وضعت كأسها على الطاولة الصغيرة أمامها وأضافت بفخر:
" في الحقيقة لن استغرب ذلك....فأنتما ربيتما والدي بتفاني وأخرجتماه بأحسن صورة ليصبح ابناً باراً صالحاً مرضياً.....الجميع يشهد بأخلاقه التي لطالما امتاز بها ..."

تبسّم بمكر وهتف بعد ان غمزها:
" تقصدين بخلاف أعمامك؟"

توردت وجنتاها ووضعت قبضتها أمام فمها وتنحنحت مجيبة بارتباك..:
" عفواً جدي.....لم أقصد هذا!....أنتم لم تقصروا بتربية أيٍ منهم!!..."

ضحك وأسند ظهره للخلف بأريحية وقال :
"نحن لم نقصر ....لكن هم تمردوا في شبابهم ولا أعلم أكان عيباً منا أم منهم......على كل حال تغيروا مع الزمن وأصبحوا اكثر طاعة.....ربما عندما جربوا أن يكونوا آباء ......أما والدك كان شاذاً عن القاعدة فمنذ طفولته وهو يحافظ على تصرفاته ....حسبته أنا وجدتك رضا من الله علينا!!..."

بابتسامة عريضة صادقة مع لمعة عينين عطوفة همست:
" حبيبي أبي......نجح أن يكون ابناً يفتخر به....وزوج من خير الأزواج ....ووالد لا مثيل له.....لن انتهي حتى الصباح لو ذكرت عظمة الأدوار التي يقوم بها!!.. وبالطبع بعد فضل الله الفضل لك ولجدتي ...."

تبسّم بكبرياء ثم انحنى قليلاً يأخذ كأسه وقلب دفة الحديث لآخر قائلا:
" ممم......الآن اخبريني؟.....هل اعتدتِ على الحياة هنا؟.....وكيف تامر الشقي معك؟!.."

خفق قلبها نفوراً فشحب وجهها في الحال!...سيرته تزعجها حد الاختناق لكنها شاءت أم أبت هذا سيكون محور حديثها الآن والسبب في مواجهة جدها....!!.......لاحظ صمتها اليسير وتبدل لونها فتوجس خيفة وأردف:
" أهنالك شيء؟..."

ابتلعت ريقها ناظرة الى الفراغ ثم استجمعت قواها وتطلعت عليه لوهلة وهمست بتردد:
" في الحقيقة جئت لنتكلم بشأن هذا الموضوع"

رفع حاجبه وقست ملامح وجهه وقال:
" ماذا هناك؟!"

بالكاد سيطرت على الاضطراب الشديد الذي ألمّ بها في الحال وراحت تفكر كيف ترد ....هل تلقي ما في جعبتها وتفر هاربة ؟....أم تتريث بايصال رسالتها؟....الأولى جبن وهذه لن تكون صفتها والثانية حكمة وهذا سلاحها .....تنحنحت ثم ركّزت عينيها بتحدي دون تجاوز لحدود آدابها وردت بثقة ابتدعتها:
" جدي.....جئت إليك مباشرة وأنا أعلم أنك لا تحب اللف والدوران.....فكرتُ مليّا قبل قدومي.....هدمتُ أي حاجز بيننا....لم أود بأن تتواجه أنت وأبي ....لأني لا أريد أن أخسر أبي ولا أريد له أن يخسرك........نحن نعيش ونموت ونحن نتعلم من تجاربنا.....جميعنا نخطئ لكن لا يوجد مستحيل عند عقد نية الإصلاح إن كان الشيء نابع من داخلنا .....كلانا نعلم الطريقة التي ارتبطت بها فأنا لم أرفض أبداً احتراماً لك ولوالدي ...لكني أيقنت بعد هذه المدة أنني اخطأتُ بقراري.......ولأني أدرك أن ما هذه الا فترة خطوبة في قانون البشرية جمعاء هدفها التعارف بين الشريكين فإما أن تقربهما ليلتحما معاً وإما أن تبعدهما ليشق كلّ منهما طريقه.... لذا تجرأتُ وقدمت إليك وأنت سيد المتفهمين جدي!!.....صدقني لم أقوَ على اتخاذ مثل هكذا قرار دون أن أقلبه في دماغي لأيام أو استفتي قلبي!!..."

قاطعها هاتفاً باستنكار:
" أي قرار تقصدين؟!..."

ازدردت ريقها مجددا وهتفت تلقي ما لديها:
" أريد الانفصال عن تامر"

اتسعت عيناه بصدمة وقال بنبرة رافضة:
" ما الذي تقولينه؟!....باقي القليل على موعد زفافكما!!..."

أجابت بهدوء:
" أجل.....ولكن اخبرني جدي.....أيهما أفضل ؟....الانسحاب الآن تفاديا من اضرار أكبر أم بعد الزواج وربما بوجود أولاد ؟!.....أنا لم استطع تقبّله ماذا عساي أن أفعل؟!!..."

قال بجدية:
" ما به تامر؟....شاب جيد لا ينقصه شيء!..."

ردت بإيجاز:
" ينقصه الدين.....وهو كل شيء!..."

هتف مدافعاً:
" هو الآن شاب طائش هكذا كان والده ...لكن بعد الزواج سيستقر ويتغير.....أغلب الشباب يمرون بمثل هذه المرحلة!!..."

همست له:
" أعلم جدي أنك تخصه بالمحبة لأنه المدلل عند بكرك.....وأعلم أنك تتأمل الأفضل بشأنه......لكن صدقني الأفضل ليس عندي أنا...."

بنبرة هادئة محاولاً التأثير عليها هتف:
" ميار بنيتي.......اخترتك له لأنك مميزة بين بنات أعمامك بشخصيتك وعقلك....ربما تكونين أنت المفتاح لتغييره!!...أنت من يمكنك اصلاحه"

قالت معترضة بصوت راجي:
" جدي....أرجوك افهمني.....أنا أريد من يمسك يدي ويرشدني خوفا من الضياع.....أنا لست قوية كفاية كما تظن لأحدث تغييراً على شخص يأبى التغيير.......هو من عالم وأنا من آخر......تامر شاب يعيش حياته بالطول والعرض دون سائل أو مسؤول ....متأثر بشكل كبير بحياة أخواله الاسبان.......لا يمكنني العيش بهذا النمط.....أفضّل أن أبقى عزباء كل عمري ولا أن أكون زوجة لرجل حياته حياة أجانب ولم يأخذ من عروبتنا وديننا الا الاسم .....إما أن يكون زوجي بدماء عربية صافية وتقياً......أو لا.......ارجوك جدي...حررني منه....أنا لا أريده....سيجد من تتوافق معه وتسعده بعيدا عني..."
قال ممانعاً:
" لا تستبقي الأحداث وتقنعي نفسك بهذا الكلام......تامر ابن ابني ويبقى أصله عربي.....مهما ابتعد عن قيمنا ونهج حياتنا سيعود ..."


لم تتحدث عما تراه منه من قبل.....لم تخبر أحداً ماذا تعيش بعلاقتها معه ....كانت دوماً كتومة بشأنه وبشأن تصرفاته .....لا تحب أن تفضحه أو تقلل من قيمته بالعائلة .....لكن الآن عليها إشهار سلاحها إن كان لصالحها......هي لم تخلق لترضخ فقط ....هي لم ولن تسمح لأحد بهدم حياتها ......العيش واحد والعمر واحد.....من قال أنها مجبرة أن تفني دنياها فقط لإرضاء الغير؟؟.....شخصيتها ذاتها.....الفتاة المحبة للحياة ....فتاة لم يستطع التأثير عليها فكراً وقلبا ً سوى زلزال اجتاحها بالماضي وما زالت آثاره قائمة عليها......ليس ذنبها إن لم يستطع هذا الـ(تامر) محو آثاره والفوز بها ........لا ذنب لها إن كان كل يوم يكبر شيخها في عينها ويتضاءل الآخر حتى كادت لم تره ...قارنت بينهما رغما عنها......يا الله ما هذه الجاذبية التي يمتلكها ذاك البعيد؟....لمَ لا يفارق قلبها..؟...لمَ اصبحت ساعة الاستماع له من أجمل اوقاتها؟!.....أسرّت بنفسها " ربما لن اكون لك يا شيخي الوسيم..لكن الأكيد لا يمكنني أن اكون لذاك البغيض".....زفرت أنفاساً أثقلتها وهمست بقوة:
" لا أريده يا جدي .....تامر لا يهتم بي ....وقته مسخر لأصدقائه والسهر .......دائما يمدح زوجات اصدقائه وأناقتهن لأنه..... محدود النظر...يرى الأناقة بالتبرج والمظاهر لا بالعفة والستر.......لا يراني يا جدي ولا يهتم لرغباتي.....هو معي من أجلك أنت وعمي أنا متأكدة......ربما أنا بالنسبة له عقبة لا خطيبة لكنه يخشى مواجهتكم.....إن كان هو جباناً لا يستطيع الاعتراف بحقيقة ما يريد فأنا لا وألف لا وأدري تماما ما أريد.........إنه يحلل ما حرّم الله بسهولة .....أي اصلاح تتحدث عنه جدي اخبرني؟...... لا يغير الله بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم....وباختصار......تامر يرفض التغيير رفضاً قاطعاً...."

ضيقت عينيها بألم وتابعت بغصة:
" منذ أيام ذكرته بالصلاة لعل وعسى أن يلحق نفسه قبل فوات الأوان ....ذكرته بالحادث وأن الله اعطاه فرصة ليصلح من حاله.....ثم قمت لأصلي ....أتعلم ماذا قال لي؟!"

أمعن النظر إليها مع إصغاء تام فأكملت:
" قال لي ..لا تعيدي هذا الكلام ....أنا أقرر عن نفسي اصلي او لا.....لا شأن لك بي.....هذه حياتي ولا تتدخلي كما أنا لم اتدخل بك .....احمدي ربك أنني لم ارغمك على شيء وأقلها خلع الحجاب....لقد انصدمت عندما أتيتِ إلينا محجبة .....لم أتخيل يوماً أنني سأرتبط بفتاة تخفي جمالها وتشوه مظهرها بهذا الغطاء ........لقد قالها يا جدي دون أي ذرة ندم ...."

تبدّلت ملامحه للغضب على الفور وقاطعها قائلا:
" أنا سأتكلم معه ....لا تهتي لكلامه التافه......لن أسمح له بإهانتك مهما كان....سأقف خلفك ثقي بي وسأجعله يعتذر منك!...."

شعرت ببعض من الاحباط من جدها فأرسلت دموعاً صامتة لتربّت بحنان على خديها بينما نظرة انكسار وعجز احتلت عينيها لكنها قاومت لتقول:
" جدي....لا أريد اعتذار منه....أريد فقط انفصال!!..."

تلاعب بصوته ليصبح بين الخشونة والليونة وقال بحزم جازماً الأمر:
" ميار.....قلت سأتكلم معه بنفسي وعليك اعطائه فرصة.......لا أريد أي كلمة بعد كلمتي!!..."

استبدّ بها اليأس وزارها جواً من الكآبة.....لاذت بالصمت لبضع ثواني ثم فزّت من مكانها تجاهد لامساك نفسها عن بكاء مرير قاهر وهمست تستأذنه وخرجت مسرعة الخطى لتشكو بثها وحزنها الى خالقها في غرفتها.....!!

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

ثلاثة أيام بالتمام والكمال أصبحن من الماضي بعد حديثي مع والدتي ...اضطر الجميع لتقبل الأمر الواقع عليهم بأنني لا أريد لا الطلاق منها ولا الزواج بغيرها....حتى أن أخباري وصلت إلى عمتي (لبنى) والتي كان لها دور بإقناع أمي بالسعي من أجل زواجي ظناً أن هذا الأفضل لي وقد كانت ممن اقترحوا العروس (رفيف) أما صديقي وتوأم روحي سيادة اللواء هو من طرح فكرة ارتباطي بـ(تسنيم) شقيقة صديقه الضابط بعد ملاحظته جهود أمي للارتباط من أجل سعادتي .......مرت هذه الأيام وأنا منشغلا برسم خطط من أجل كتيبتنا ومعاركنا.....وردني اتصال من السيد (سليم الأسمر) يخبرني به بأن ابنة شقيقه المحامية (رفيف) تريد زيارتنا بشكل عاجل للاستفسار عن بعض الأمور المهمة تخص قضيتنا مع الوغد (عاصي رضا) فهو يعلم بأنني لست متفرغا للذهاب بنفسي للعاصمة!.....في المساء كنت جالساً مع والدتي وشقيقي (شادي) في حديقة منزلنا الجبليّ من أجل أخذ قسطاً من الراحة وتناول كأسا من الشاي بالنعناع من تحت يديّ نبض الحياة لأسترجع طاقتي وأتمكن من متابعة عملي......وصلت (رفيف) إلينا....كانت هذه المرة الأولى التي تتقابل بها مع والدتي وجها لوجه بعد سنوات فقامت لاستقبالها مبتهجة وبعد المصافحة والمجاملات دعتها لتنضم لجلستنا ولما اقتربت منا رفعت يدها وقالت بجرأتها المعتادة عليها:
" مساء الخير يا شباب...."

تبسّمت مجاملاً ورددت التحية باقتضاب:
" مساء الخير.."

أما شقيقي ظلّ يتأملها وهي واقفة من تحت لفوق فاقتربت منه تلاطفه تحت نطاق أنها أكبر منه وجلست جواره ثم هتفت ضاحكة :
" لا بد أنك شادي الجميل ..."

ومدّت يدها تصافحه متابعة:
" أنا رفيف .."

تطلّع على يدها الممدودة بالهواء لثواني ولم أكن أعلم ما يدور برأسه فأحسستُ بالحرج منه وتنحنحتُ لأنبهه كي يصافحها ففعل بتثاقل ....أكملت تشاكسه بالكلام مفتعلة حوار معه لم يستسغه....كان يرد عليها مرغماً أظن خوفاً من تأنيبي له .....ولما جلست أمي توجه لها بعض الكلمات وخلصته منها استغل انشغالها وتمتم بحنق:
" بالفعل فأرة كما توقعت...."

ثم أمال جذعه نحوي هامساً:
" ما بها تكلمني هذه الفأرة بهذه الطريقة وكأنني شقيقها الصغير ؟.....من الجيد أنك لم توافق عليها ....الفأرة الأخرى الآنسة تسنيم أفضل منها ....."

مسكتُ ضحكتي ورسمتُ ملامح جادة تصنعاً وهمست له:
" ششش......ستسمعك"

وتابعت موبخاً بهدوء:
" ثم تأدب يا ولد ...ما هذا الكلام فأرة وغيرها؟....من أين لك هذا التشبيه ؟.....أشعرتني أنني جالس في جحر فئران...."

شقت ثغره ابتسامة ماكرة وقال:
" اللقب خاص بالآنسة تسنيم لكني أرى أنه يناسب هذه تماماً....ثم قل لي هل تريد بالفعل أن تعرف من أين لي هذا ؟....."

بنبرة مرحة خفيضة وفضول هتفت:
"أجل أخبرني سيد شادي.....فنحن في بيتنا لم نشبه أحد سابقاً بالفئران .....أم أن سامي أعطاك دروسه عن الحيوانات؟..."

رفع حاجبيه بإشارة (كلا) وقال بخباثة:
" ألن تغضب؟!.."

قلت مؤكدا بنبرة خافتة:
" لن أغضب....اخبرني لأرى من أين تأخذ دروسك للاستهزاء بالناس...."

همس مجيباً:
" حسناً أنت أردت أن تعرف لا ذنب لي..."

ونهض عن كرسيه منتصباً ثم وقف ورائي منحنياً قرب أذني يوشوشني :
" من صديقتي.....يعني حبيبتك ألمى"

ولاذ بالفرار مختفياً عن الأنظار بينما حروف اسمها جعلت الخائن الساكن في صدري يرقص طرباً على ذكراها وشردتُ لوهلة اتذكر حركاتها وتصرفاتها لترتسم ابتسامة عشق على شفتيّ وقلت في سري..." إذاً فأرة أيتها القطة الغيورة.."...لأخرج من أفكاري على صوت ضيفتنا وهي تقول:
" ها سيد هادي ....أنا جاهزة ماذا عنك؟!.."

رمقتها بنظرة سريعة ثم اخفضتُ بصري وقمتُ من فوري موليها ظهري بقلة اهتمام وقلت بنبرة جامدة آمراً بكلمة واحدة:
" اتبعيني.."

تبسّمت أمي لها وهي محرجة بسبب تصرفي الجاف معها فاستأذنت منها تلك وتبعتني تحمل حقيبتها تنظر إليّ من الخلف وهي تتمتم دون أن يسمعها أحد:
" أمرك سيد هادي....سأتبعك لنرى !!.."

وصلنا غرفة الضيوف .....أشرت لها لتجلس على أريكة فردية وجلستُ أنا على الزوجية مقابلاً لها ......أخرجت أوراقها وفردتها على الطاولة وأخذت تستفسر مني بعض الأمور وتشرح عن أخرى وقد أخذنا الوقت دون أن نشعر ثم هتفت بالنهاية:
" يعني خلاصة الحديث......نهاية الشهر القادم سيصدر الحكم ان شاء الله .....لذا عليك جلب الأسماء التي أخبرني عنها عمي سليم بأسرع وقت ممكن للضغط على المجرم عاصي والبقية ...سنضرب الظالم بالظالم ....فلقد قال لي أن جميع اسمائهم مكتوبة كرموز مشفرة وموجودة بحوزتك كأمانة معك من والدك لتفكها عندما يحين وقت فضحهم اولئك الخونة.....والآن آن الأوان يا هادي......نحتاج تلك الأسماء دون تأخير ...."

ألصقت أنامل يمناي بيسراي متكئاً بمرفقيّ على فخذيّ ومفكراً ثم أجبت بعد برهة:
" حسناً.....امهليني بعض الوقت...يعني اسبوع أو اكثر قليلاً...."

هتفتْ بجدية:
" هذا كثير.....علينا العمل عليها بشكل عاجل.."

رمقتها بنظرة حادة رافعاً حاجبي وهتفت بخشونة:
" قلت أمهليني بعض الوقت ....الأمانة ببيتي في تلك البلاد وليست هنا.....عليّ تسوية بعض الأمور بالمعسكر أولاً ثم سأسافر لجلبها ..."

سرحتْ قليلاً ثم هتفتْ :
" لديّ حل ...."

ضيقتُ عينيّ منتظراً حلها فاستطردت:
"تكلّم مع أبيك ابراهيم .....يمكنني انا السفر لهناك....فليقابلني ويعطني إياها لجلبها لك اختصارا للوقت .....ما رأيك؟"

ارجعت ظهري للوراء بأريحية وهدوء وأجبتها :
" كلا.....أريد الذهاب بنفسي الى هناك....يوجد عمل خاص ناقص... عليّ إتمامه ولا يمكن لأحد غيري فعله...."

بنباهة فهمت عملي الخاص وبجرأة كادت تصل للوقاحة هتفت متحمسة:
" هل قررت طلاقها؟!..."

رددتُ بالحال مستنكراً قاطباً جبيني:
" عفوا؟!.."

بارتباك وتلعثم همست:
" أ...أقصد ....يعني لأني سمعت بعض الأقاويل أنك لم ترد تطليقها .....فظننت أنك غيرت رأيك الآن...!"

بقيتُ احدجها لثواني بملامح لا معنى لها ودون أي رد مني وهي تبادلني النظرات ثم رفعتُ بصري ناظراً نحو الباب عند دخول والدتي إلينا تحمل القهوة وبعد أن ضيّفتنا وأدبرت للخروج قلت:
"أمي..."

استدارت برأسها جانبا تتطلع عليّ والصينية الفارغة بيدها فأضفت:
" اجلسي من فضلك ...."

ألقت حدقتيها على الضيفة ثم أعادتهما إليّ وهتفت بمحبة:
" أريد تحضير العشاء من أجل ضيفتنا.....عليها تذوق أكلات مدينتنا الشهيرة....."

أوقفتها تلك هاتفة:
" لا تتعبي نفسك يا خالة ....سأنهي عملي وأتصل بسيارة أجرة تعيدني الى العاصمة.....إن كان لي نصيب سأتذوقه لاحقا ان شاء الله ."

وأردفت متحمسة:
" ربما بعد الحكم على المجرم عاصي...."

وأكملت ضاحكة وهي تحرك سبابتها بمزاح:
" لن أرضى إلا بحفلة شواء وهنا في بيتكم الجبليّ"


ثم رفعت يدها تنظر الى ساعتها التي تحيط معصمها فشهقت مصدومة بجدية:
" يا الله.......أخذنا الوقت ولم انتبه أنها التاسعة والنصف .....اعذروني عليّ ايجاد سيارة حالاً......الطريق طويل والله أعلم متى أصل..."

مدت أمي يدها أمامها توقفها بمروءة وهمست:
" مستحيل....لن أسمح لك بالذهاب والوقت متأخر ....أنت مثل ابنتي ولن أرضى بهذا...ستبقين عندنا......"

ثم وجهت كلامها إلي لأدعمها:
" أليس كذلك يا هادي؟!.."

انقبض قلبي ضائعاً بتصرف أمي...لم أفقه أكانت لها نوايا أخرى تصاحب شهامتها وحنانها أم ماذا ...!!؟

اما ضيفتنا سلّطت عيناها نحوي وكأنها تريد أن تستشف ردة فعلي واجابتي أكانت قبولا أو رفضا ولما لم أحرك ساكناً للحظات أحست بشيء من الخذلان ثم وقفت هاتفة :
" شكراً لك يا خالة ولكرمك.....عليّ الذهاب......"

أضجت سكوني اللحظيّ والدتي التي كررت سؤالها بحزم مغلف بابتسامة :
" أليس كذلك يا هادي ؟!.."

أجبتُ بتيه خارج عن ارادتي :
"ها...ماذا؟....أجل ...أجل....فلتبقى هنا...الوقت غير مناسب للعودة بتاتاً..."

انبسطت أسارير وجهها بعد سماعها اجابتي وهتفت مبتهجة وهي تنقل بصرها بيننا:
" حقاً شكرا لكم .....لا أدري ماذا أقول .....أتمنى أن لا اثقل عليكم...."

دنت منها امي تربّت أعلى ظهرها بحنو وهمست:
" البيت بيتك يا ابنتي ....خذي راحتك وتصرفي كما يحلو لك...."

آه يا أمي آه.....ماذا عن ابنك الحائط ؟ ....هل تريدين تكبيل حركتي؟.....لا يمكنني الذهاب لمكان ....فالأوراق مفرودة على مكتبتي في غرفتي ولا يمكنني أخذها لمكان آخر لأتابع مهمتي......ماذا عساي أن أفعل......صبرا يا الله.....بلطفك يا الله كن معي!.......ولما أنهيتُ عتاب نبض الحياة داخلي وصلني صوتها المنشرح تدلي اقتراحها:
" ما رأيك بنيّ أن نذهب لتناول وجبة العشاء بمطعم الشرق ؟! ..."

هذا ما ينقصني الآن.....تجوال وعشاء وماذا بعد؟!....أنا لستُ متفرغاً......ولستُ مرتاحاً......تبسمتُ أسايرها وقلت متملصاً:
" أمي.....منذ قليل كنتِ ستصنعين العشاء بيدك لتذيقيها أكلات مدينتنا الشهيرة أم أني مخطئاً؟!..."

اقتربت مني وضربت كتفي بمرح مجيبة:
" أجل كنت.....لكني فكرت جيدا.....تحضير الطعام سيأخذ وقت هذا اولا.....ثانيا مطعم الشرق يقدم أفضل أكلاتنا وثالثا بما أنه أعلى الجبل سيكون المنظر خاصته ساحر في هذا الوقت ....الجو صافي والقمر منير والنسمات لطيفة .....لنري رفيف جمال مدينتنا من فوق...."


حاولت التملص مجدداً هاتفا:
" أمي اعذريني..... العمل ينتظرني ......"

حسمت الأمر هاتفة :
" لا أريد أي اعتراض.....أنت لا تنام الليل يعني لديك الوقت لن تضرك ساعتان......هيا ....تجهز ولا تتكاسل....."

ضحكت غامزة وأضافت:
"دلل نفسك باستنشاق هواء نقي.... ودللنا معك...."

قلت مستسلماً:
" امري لله .....وتسألينني من أين آتي بالعناد؟!... "

ذهبنا الى تناول وجبة العشاء بالمطعم الذي اختارته أمي .....كنتُ أشغل نفسي بمشاكسة (شادي) أو بالهاتف.....شعرتُ باستياء لا أعلم سببه......استياء اوصلني حد الاختناق!!......لمَ يوسوس لي شيطاني وكأنني أخون تلك البعيدة؟!.....ما هذا تأنيب الضمير الذي يضغط على عاتقي؟!....لماذا هي حاضرة بكل شيء في حياتي كالقرين؟!......تنفستُ الصعداء عند وصولنا الى البيت.....فأنا اشتقت لوحدتي وعزلتي.....و....ذكرياتي الحلوة مع ألمتي!!......اشتقت.. .اشتقت بشدة لها ...لا أعلم كيف تحملت أن لا اسأل عنها او عن أي شيء يخصها !!....لكن غضبي الكريه المصاحب لكبريائي ما زال يتلاعب بي......عدتُ لانفصام مشاعري نحوها كما السابق....أحبها وأكرهها....أشتاق ولا أريدها .....دلّني يا الله ...أكرمني بحل وانت اكرم الأكرمين.......كنتُ مجبراً على الانقطاع كي اعاقبها دون أن أضعف....وربما لاختبر مدى صبري على بعدها ...أو لأتدرب على الفراق لو كان حتميّ لا قدر الله....كذبتُ على الجميع بقسوتي ولكن لم تقنع الكذبة خائني....رجعت لي معاناتي فيبدو أنها هي ضريبة عشقي لها.....هل ظننتُ أنني الآن مستقر في بلدي وبيتي وغرفتي بعد الهجر؟! ......يا لغبائي.....كيف لي أن أذوق لذة الاستقرار بينما القلب والروح والعيون بل كل جوارحي تعيش في شتات ....كيف؟....كيف استقر وأنا ما زلت وسأبقى اللاجئ في سمائها؟!....

جهزت والدتي غرفة الضيوف في الطابق السفلي والتي كانت خاصة لشقيقتي وزوجها وأعطتها منامة تابعة لـ(دنيا ) لونها كحلي وهلال أصفر يرسم على بلوزتها تحيطه نجوم بينما أنا استأذنتُ صاعداً لغرفتي .....بدلت ملابس الخروج لأخرى بيتية......بنطالاً أسوداً طويلاً وبلوزة بيضاء على صدرها شعار الماركة بالأسود تجسّد جسدي وتبرز عضلاتي!......عدتُ الى مكتبتي أصارع مخططاتي .....في الساعة الثانية بعد منتصف الليل شعرتُ بالعطش فنزلت السلالم متجهاً الى المطبخ وما إن دلفت إليه حتى وجدتُ ضيفتنا تشرب الماء والتي أجفلت عندما تنحنحت هاتفا:
" عفواً...لم أتوقع أنك هنا..."

شهقت مفزوعة من صوتي الذي تفاجأت به وأفلتت الكأس من يدها ليتحول الى شظايا على الأرض ثم انحنت على الفور لتلملم آثار جريمتها بارتباك وخجل هامسة:
" آسفة ....آسفة....تفاجأت بوجودك!!..."

تقدمتُ خطوتين باسطاً يداي الى الأمام قائلا بهدوء:
" توقفي...."
لم تتزحزح بل نظرت إلي بضعف ثم همست مرتجفة من شدة احراجها وهي تطرق رأسها لتنظف مكانها:
" يا الله كم أنا محرجة منك !....ما لي كالخرقاء ؟!.."

دنوتُ منها فأصبحتُ أكثر قربا وهمست لأهدئ من توترها:
"رفيف.....اتركي عنك هذا......أنا سأقوم بتنظيفه.....لا أريد أن تتأذي"

ثم قرفصت لألملم قطع الزجاج بينما هي لم تسمع كلامي وبقيت مكانها لتساعدني وهمست بنبرة رقيقة:
" حقاً أنا آسفة هادي.....لقد أشغلتك معي..!!"

من غير ادراك رفعت رأسي وقلت بلطافة :
" لا تهتمي.....حصل خير بإذن الله!.."

وبهذه اللحظة اكتشفتُ أنني قريب منها بشكل مبالغ وبضع سنتمترات فقط تحول بيننا لأمسك بها تتأملني من هذا القرب بعينيها السوداوين وبنظرات تشع اعجاباً جريئاً وجاذبية ظاهرة نحوي.....هذا ما أخبرتني به قرون استشعاراتي!!......أعلم أنني كنتُ لطيفاً لكن هذا أتى بطلبٍ من أمي التي رأت جفائي وجمودي بتعاملي معها....أرادت أن نكرمها بوجهٍ سموح ولسان لطيف!!..... ......خفق قلبي رفضاً والدماء ثارت في عروقي اعتراضاً الا أنني ظللتُ عدة ثواني ووجهي مصوب لوجهها بينما لم اكن اراها البتة إذ أن عقلي ذهب لعالم آخر بعيد.....بعيـــد...الى...... عالم الألمى من جديد.....ولم أهرب من ذاك العالم إلا لما همست وهي تغمض عينيها وتسحب أنفاسها تستنشقه بضياع وصفاقة:
" يا ويلي.....ما اسم هذا العطر؟!"

رباه....إلى ماذا ترجمت لطافتي حتى تكون بهذه الجسارة؟!...

قرع ناقوس الخطر في عقلي....وتمرّد الخائن خلف ضلوعي ....فتململتُ لأقوم من مكاني أشد على قبضتي منزعجاً منها ومن حالي ونسيتُ قطع الشظايا الصغيرة الموجودة بكف يدي !!....تأوهتُ بتلقائية فور انغرازها بي وانتصبتُ واقفاً بحرارية وقهر ففعلت مثلي وبألم معنوي لجرحي قطبت جبينها ثم بعفوية مدّت يدها تمسك يدي!!.....لوهلة لم استوعب ما فعلت ولكن التماس الكهربائي الذي أحرقني نفوراً جعلني أنفض يدها بغل صارخاً بها:
" ماذا تفعلين.!!؟"

لم تتأثر من صراخي بل أجابت بإقدام واثقة وهي تسلط عينيها بعينيّ:
" لماذا تصرخ؟....كنتُ أرى جرحك..."

وتطلعت ليدي مضيفة:
" انظر الدماء تنزف منك!!..."

ثم بكل جرأة استدارت تفتح الحنفية من خلفها لتعود وتمسك يدي وتشدها قائلة بذات الثقة:
" هيا غسّلها ....الحق عليّ.....أنا من تسبـ..."

ولم تكد تلبث أن تكمل جملتها حتى ارتدت بفزع تلصق جسدها بالخزانة والسطح الرخامي واضعة يدها على صدرها عندما صرخت بغلظة أكبر أرمقها بنظرة نارية بعد أن سحبت يدي من يدها بعدوانية:
" كيف تتجرئين على مسك يدي؟!.."

لهثت انفعالاً ثم حاولت اعادة ترتيب أنفاسها واستجمعت قواها وأجابت بحدة تتحداني:
" على مهلك أيها الغاضب.....على ماذا كل هذا؟!.....لقد أوقعت قلبي بصراخك......أشعرتني أنني ارتكبتُ جريمة "

قلت حانقاً مغتاظاً:
" أجل ارتكبتِ جريمة.....لا أحب أن تلمسني امرأة غريبة بغض النظر أن ديننا نهانا عن هذا........أستغفرك يا ربي"

أمالت فمها بابتسامة ساخرة ثم عاتبتني بلهجة غاضبة:
" لم اصافحك ولم ألمسك بنوايا مشبوهة سيد هادي.....تدخلتُ للمساعدة فقط!..."

بملامح قاسية وكشرة حادة رددت الزمها حدها:
"وإن كان..... لا تتدخلي ولا تعيدي هذه الحركة ....أتسمعين؟!"

انتصبت واثقة أكثر تمط جسدها نحوي وبذات جرأتها هتفت بينما كانت عيناها تشعان اعجاب جليّ مخدوش بالقهر والغيرة :
" لا أعرف حقا ...هل هذا التزاماً ..أم وفاءً لها؟؟!....ولا أعرف إلى متى ؟.."

بتّ متأكدا من نظرتها ونبرتها معي فقد غدتا مختلفتين لم تكونا كبداية لقاءنا....متأكد أنها تحمل شيئا بقلبها اتجاهي ...وهذا ما لا أريده ...لا هو لمصلحتي ولا لمصلحتها.....ساعدني يا ربي....صككتُ فكيّ والغيظ اعتصرني اكثر ثم نظرتُ إليها بتحدّي هاتفاً لأقطع عليها أي أمل تحمله اتجاهي:
" فكري كيفما تشائين.....لكني أقولها لك "

ورفعت يسراي ناصباً كفي محركاً بنصري الذي يحيطه خاتم زواجي الفضي العريض ذا النقوش وهتفت:
" التزاماً أم وفاءً لا تهمني ظنونك.....فقط انظري...انظري
..... انا متزوج وامرأة واحدة فقط يحق لها لمسي ....وهي... ألمى....ألمى زوجتي وحبيبتي وكل كياني....أتفهمين أم أكرر كلامي؟!...."

كلماتي نزلت كطعنة على قلبها لتنزف دمعتان من مقلتيها فتابعتُ وأنا أشهر سبابتي:
" من الغد ان شاء الله سيكون تواصلك مع صديقي سامي بكل ما يخص قضيتنا .....أنا سأقيم بالمعسكر ولا يمكنني متابعة كل شيء أولا بأول....فبالكاد استطيع سرقة دقيقة لأطمئن على عائلتي فقط!!......كثفي جهودك وقومي بوظيفتك على أكمل وجه لتنهي الأمر بسرعة ولك بعد ذلك كل ما تأمرين من المال مقابل عملك....يا حضرة المحامية الآنسة رفيف.....!! "

ثم وليتها ظهري مدبراً بعزم لتسمح بدمعاتٍ أخرى بالسقوط واسندت ظهرها للسطح الرخامي تقبض حافته بكفيها للوراء وهمست همسات مكلومة تبوح بما يجول بصدرها وودت لو سمعتها:
" ما ذنب قلبي إذا لم يعد يرى رجالاً من بعدك؟....ما ذنبي إن أوهموني وخاصة عمتك بأنني رشحت كعروس لك وبنيت آمالي ليتبدل الاعجاب داخلي الى حب؟....لماذا أنت وفيّاً لها لهذه الدرجة؟.....أي سحر ألقته عليك كي لا ترى غيرها؟!....ما الذي يميزها؟...فالجمال موجود الحمد لله كما لديها....بل هي ينقصها اشياء كثيرة......غير متمة لتعليمها!.....ساذجة وغبية....ولا نسب مشرف خلفها!....والأدهى هي ابنة قاتل أبيك.....أتعي؟....قاتل أبيك.....قل لي كيف حملت أسمى درجات العشق من أجلها أيها الشامي ؟!..."

ثم انزلقت بجسدها على الخزانة لتجلس على الأرض ومدت ساقيها للأمام محبطة، شاردة لبضع من الوقت قبل أن تتنهد بعمق تطرد غصاتها وهي تقف من جديد تعيد قوتها هامسة بصوت خفيض تلوم نفسها:
" تباً لي كم أنني غبية ....كيف فضحتُ نفسي أمامه؟!.."

نظرت للسقف بحالمية وتمتمت :
" لكنه مجرم ويجب أن تنزل عليه أقسى العقوبة بتهمة الفتك بقلوب بنات حواء بجاذبيته الرجولية ومع سبق الإصرار والترصد....."

وخرجت من المطبخ تجر معها أذيال خيبتها بعد فشلها بالتقرب مني وبعد أن الزمتها حدها....!!


~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

مرّت أيام قليلة بعد مواجهة جدها .... لم يعلم أحد من العائلة عمّا دار بينهما......كانت تدّعي القوة خوفاً من لفت الانتباه الا أن انقطاع شهيتها من القهر الذي تعانيه لوّث الصفاء في جمالها......كانوا عائلتها يظنون أن الحالة التي تمر بها بسبب امتحاناتها وكان هذا كأنه سترٌ متين بالفعل تخفي وراءه خيباتها وحزنها ....في هذه الأيام تكلم جدها مع خطيبها وقام الأخير بدوره بتأنيبها ولومها لأنها أدخلت جدها بعلاقتهما دون أن يعلم أنها أرادت الانفصال لا الاصلاح !!..حتى أنه لم يعتذر منها كما طلب منه جدهما......في صباح هذا اليوم أرسل لها (تامر) رسالة مفادها أنه يريد منها تجهيز نفسها من أجل احتفال خطوبة أحد أصدقائه بمطعم فاخر باطراف المدينة بعيدا عن مكان سكناهم.....لا يدري ما حجم المعاناة التي تعيشها من أجل التمثيل بهذه العلاقة الخاطئة.....لكنها ستتماشى معهم مسلّمة أمرها لله ....ستنتظر الفرج منه....هي واثقة سيأتيها الحل بأهون الأسباب.....فهذا ما سمعته من الشيخ (أحمد) عن حسن الظن بالله خلال أحد دروسه الالكترونية!!.....ولكنها لن تنسى السعي وراء غايتها وارادتها اضافة لحسن الظن بالله....عليها أن تجد حلول ولكنها ستهدأ هذه الفترة حتى يرشدها الله لحل لمعضلتها ثم إنها لا تريد خوض امتحاناتها بنفسية محطمة..!!.....جاء المساء وارتدت لباسها الشرعي الأنيق....فستان أسود طويل وعلى خصرها حزام أبيض ومثله الحجاب والحذاء.....ستسايرهم كيفما يريدون...قالت في سرها " هذا حالياً....لن أكون ميار ابنة كمال زيدان لو بقيتُ على ذمة شبيه الرجال".......ذهبت معه مثقلة ، مشمئزة،حانقة.....جلسا على طاولة كبيرة مستديرة مع مجموعة من اصدقائه المرتبطين بين المتزوج والخاطب......هي غريبة لا تشعر بالانتماء لهم....المكان ليس لها....الجو يخنقها....ليس هذا ما تريده....هي عاشت في أسرة محافظة الى حد كبير رغم حريتها وحتى عندما كانت متبرجة لم تذهب الى أماكن تفيض منكر....كانت تلزم حدودها ...هكذا تربت!.....من أين خرج لها هذا وخاصة بعد وضع خطواتها الاولى وسلكها طريق الهداية؟!......لن ترضا أن يكون هكذا اسلوب حياتها.....لكنها ستصبر وتنتظر .....الاحتفال في أوجه....اختلاط منفر في ساحة الرقص....تبرج وسفور فاق المعقول ....تقدم أحد أصحابه وسحبه ليرقص ثم طلب بجرأة منها لتشارك خطيبها بالرقص.....ردت بابتسامة مجاملة قاتلت شفتيها لترسمها وهي ترفع يدها برفض:
" عذرا......لا أحب الرقص!"

تركها خلفه وذهب مع صديقه بحماس ....كانت تراقبه باستحقار ليس بغيرة فالمشاعر نحوه تحت الصفر والغيرة خلقت على من نحبهم!!.. ....تتمايل الفتيات عليه بفجور ويقابلهن بالمثل....كان الاحتفال بآخره وضيافة الخمر لمثل هذا المجتمع يكون كرماً وتباهي ....لن يرفض تضييفاتهم ....يشرب ويرقص ويقهقه !!....شعرت أنها تريد التقيؤ من الروائح الكريهة التي يتسببها هذا مشروب الحرام مع الدخان وقد زاد من غثيانها المنظر أمامها وخاصة خطيبها الغير مبالي لوجودها وكانت متأكدة داخلها أنه نسي أنها معه أساساً......توجهت الى حمام المطعم تفرغ ما في بطنها وتغسل وجهها....ظلّت لدقائق بالداخل ....وجدت راحتها بهذا المكان بعيداً عن تلك الأجواء الدنيئة ....بعد ربع ساعة وصلها توقف الموسيقى فقررت الخروج.....عادت الى طاولتها وهي تنظر يمنة ويسرة تبحث عنه.....لم يبقَ الا القليل من الضيوف ....لكن أين هو؟؟.....ظنّت أنه ذهب للحمام.....جلست مكانها ومرّت دقائق أخرى ولم يظهر والناس من حولها يتناقصون......رأت أحد اصدقائه فتجرأت وقصدت مكانه لتسأله عنه ولما وصلته وقبل أن تفتح فمها هتف متعجباً:
" ااوه آنسة ميار.....ألم تذهبي مع تامر والاصدقاء لإكمال السهرة في بيت رسلان؟!"

ارتسمت بسمة مزيفة على محياها سائلة بتصنّع:
" هل حقاً ذهبوا؟!...."

قطب جبينه ورد:
" أجل....منذ قليل....مع نسائهم ...."



امتقع وجهها واجتاحها موج من الصقيع بعد شعورها بالامتهان والاستصغار من قِبَلِه.....قرأ صديقه ملامحها فحاول الترقيع وهو يخرج هاتفه:
" انتظري لحظة....سأتصل بهم...ربما ما زالوا في الموقف .."

حتى لو كادت عروقها تنفجر في جسدها إلا أنها لن تسمح بفضح نفسها أو إعطاء أحد طرف خيط للشماتة بها.....رفعت كف يدها ازاءه لتوقفه هامسة بصوت ثابت ظاهريا..مهزوز داخليا :
" توقف....لا تتصل....أنا من لا تريد الذهاب.....لدي امتحان غداً ولا استطيع السهر معهم ...أعلم أنهم ذهبوا لكني لم أتوقع بهذه السرعة....."

لم يطمئن لاجابتها ولم يصدقها فقال:
" لا تزعلي منه.....تامر طيب....لكنه كما رأيتِ ربما أثقل قليلا بالشرب لذا ضاع عقله ونسي أنك معه...."

أمالت فمها بابتسامة ساخرة وانتصبت بإباء هاتفة :
" أظن أنني قلت لك أنا من لم ترد الذهاب معهم ....لا حاجة لتبريرات وترقيعات......على كل حال شكرا لك وعن اذنك..."

واستدارت توليه ظهرها بينما عاصفة تحمل معها الغضب منه والقهر من اهانته لها والحزن على حالها تكاد تفتك بها!!.....عادت إلى الحمام قبل أن تنهار حصونها ...وضعت حقيبتها على السطح الرخامي بالحمام وصارت تتأمل الكم الهائل من الخيبات التي تخطها ملامحها ثم فتحت أصفاد مقلتيها لتحرر العبرات الجريحة منها ...جرحها كان كونها غير مرئية عنده.....اتكأت بمرفقيها على أطراف المغسلة وبدأ يهتز بدنها ونشيجها يعلو....فقدت السيطرة ولم تتمكن من ايقاف نزيف قلبها....رأت نفسها مهانة بأبشع الطرق.....خطيب باتت تجبر عليه ويا ليته يهتم بها....يا ليت فيه خصلة تتقبلها ......لو أحبها واهتم بها لربما لرضيت ولم تتزحزح عن قرارها.....أخرجت هاتفها من حقيبتها الصغيرة ونظرت الى الساعة ....إنها الحادية عشر ليلاً ......المطعم سيغلق بعد ساعة....هي في منطقة بعيدة....وضعت الهاتف جانباً وقررت أن ترمم حالتها.....فكت الحجاب عنها.....حملقت بوجهها بالمرآة تخاطب نفسها:
" ميار....أنت قوية"
" ميار....عليك أن تحسمي الأمر"
"ميار....لا تسمحي لأحد بأن يهدمك"
" هيا ميار....لم يبقَ أمامك إلا هذا الحل "

ثم فتحت الصنبور وصبّت على وجهها الماء البارد لتبرد هيجان روحها ......جففت نفسها ووضعت الحجاب من جديد.....حملت هاتفها مجدداً وقررت مشاركة شقيقها (قصي) بكل ما حصل معها والبوح بمشاعرها لأول مرة منذ ارتباطها....فهو اكثر من يفهمها ويتصدى للجميع من أجلها مهما كان......هي لم تشركه في السابق لأنها تعرف شجاعته بالمواجهة واصراره ولا تريد أن يوضع بمشاكل من تحت رأسها.....ضغطت على اسمه ولما أجاب قالت بصوتها الانثوي الواثق المعهود:
" قصي.....سأبعث لك مكان تواجدي برسالة....عليك القدوم لأخذي لأني احتاجك بموضوع مهم !!..."

انتابه القلق إلا أن قوة صوتها اشعره بشيء من الطمأنينة فأجابها بالحال:
" حسناً حبيبتي.....انتظر رسالتك لآتي حالاً.."

اغلقت المكالمة معه وقررت أن تمضي بعض الوقت مع تطبيقات هاتفها ريثما يصل.....دخلت إلى صفحة شيخها فوجدته ينشر منشور خفيف للنقاش محوره [ ماذا تعني لك كلمة رجل؟]......سرحت بذكرياتها الصغيرة من ماضيها البعيد القريب تقارن المواقف التي عاشتها بين الماضي والحاضر......خطيبها تركها بمكان غريب بينما هو تعارك مع الغرباء حماية لها.....خطيبها أهانها ولم يعتذر بينما هو زار بيتها حاملاً باقة من الورد ليقدم اعتذاره......خطيبها يسخر من حجابها ويريدها أن تعرض مفاتنها بينما هو خلع معطفه وسترها وبلفحته الرمادية غطى شعرها .....خطيبها لا يهتم لسمعتها ولا لاقتراب اصدقائه منها بينما هو ادعى انها خطيبته ليمنع ذهابها الى مركز الشرطة يوم حادثة (صلاح) خوفا من أن يدرج اسمها بالقضية......لفتات صغيرة منه ذات قيمة لا حدود لها .......عادت من شرودها تقرأ مجدداً كلمات منشوره [ ماذا تعني لك كلمة رجل؟].....رفرف الحب والاعجاب بقلبها فتمتم لسانها من فوره بانسياب:
" الرجل يعني أنت.....أنت يا أحمد ....كلمة تتجسد بك وحدك يا شيخي الوسيم "

ثم ضغطت على صورته الشخصية لتكبرها وشقت ثغرها ابتسامة تائهة بين الحب والندم ليتبع ابتسامتها دمعة نقية تسقط على وجهه وهمست وهي تضمه الى صدرها:
" سامحني....أنا من خنت معاهدة السلام بيننا"

×
×
×

بركان الغضب انفجر داخله ....كان قلبه يخفق جنوناً بعد ما سمعه منها وهما في طريقهما الى البيت ....عاتبها...لامها...صرخ بها من أجلها ....لمَ لم تخبره بكل هذا ولم تشاركه همومها.؟!...شعر أنه ناقص وشقيق لا يليق بها ما دام لم يستطع حمايتها ....دعس على الوقود مسرعاً بعد انفلات أعصابه....لو كان ذاك البغيض أمامه لمزقه إرباً......لكن الآن هدفه واحد ووحيد.....مواجهة جده ليحسموا الأمر ..إن كان برضا فهذا رائع وإن كان أي اعتراض لن يوقفه شيء ...سيأخذها ويذهب من هذه المدينة الصناعية ولن يرَى خطيبها شعرة منها ......وصلا الى قصر العائلة....كان ساكناً.....الوقت متأخر والجميع نيام.....عصره الغيظ يريد الحديث مع جده .....اقترب من باب غرفته يريد أن يوقظه من النوم فلحقت به بالحال تمسك ذراعه هامسة بضيق:
" قصي....أرجوك.....الصباح رباح.....الغضب لن يولد الا الغضب.....ربما خيراً لنا أنهم نائمون .....لنتصرف بحكمة ونفكر بتروي .....أنت تعلم طبع جدي....لو جئته بالعالي سيتمسك أكثر برأيه .....علينا الموازنة بين احترامه وايصال رسالتنا.....لا أريد أن نشتت العائلة والأهم أبي لا يستحق أن نضعه بمأزق ... "

تطلع عليها بوجهه المحمر وعروقه البارزة وقال وهو يجز على أسنانه:
" إلى متى سنعمل حساب للآخرين ؟؟!.....عليّ انهاء الموضوع حالاً......لقد تمادى كثيرا تامر......هل ظن أن ليس خلفك أحد؟!.."

استدارت تقابله وأمسكت كلتا يديه بيديها وهمست راجية والدموع تترقرق بعينيها البنيتين:
" يكفي أنني أعلم بأن الله وهبني أب وأشقاء يقفون كالجبل الصامد من خلفي ....لن يهمنا ما يفكر هو......أرجوك أخي......دعنا لا نفتعل مشكلة في آخر الليل وغداً بإذن الله سنضع النقاط على الحروف....خذ نفسك لترتاح واستعذ بالله من الشيطان...."

رفع يده ومسّد وجنتها ناظراً إليها بقهر وقال بغصة:
" آه شقيقتي.....لم يكن علينا أن نوافق على هذه الزيجة من الأساس.....أنت لا يليق بكِ إلا الأفضل يا عزيزتي..."

ثم سحبها تحت ذراعه يضمها لصدره وأغمض عينيه نافثاً أنفاسه المغتاظة وهتف:
" حسناً فلننتظر الغد ان شاء الله ولن يوقفني أحد.....أعدك"

في صباح اليوم التالي ذهب شقيقها الى عمله وهي الى جامعتها .... كان موعد عودتها عصراً......دخلت البيت وهي تفكر ماذا سيحدث؟!....فيفترض أن أخاها عاد بنفس وقتها .....صعدت الى غرفتها ....بدلت ملابسها وتوضأت وصلّت صلاة الظهر التي فاتتها وتبعتها بالعصر .....استغربت أنها لم تسمع أصوات من أحد......قالت في سرها " ما به قصيّ لم يأتِ إلي إلى الآن؟..."....جلست على مكتبتها تعبث بأوراقها بعشوائية فالقلق يتلبسها ولا تفكر بأي شيء سوى موضوعها .....طرقات على الباب ثم دخول لحبيب قلبها الذي جعل وجهها يشع نوراً.....إنه والدها الغالي ....اقترب منها بحنوٍ.....داعب شعرها وقبّل وجنتها فأمسكت يده وقبّلت ظهر كفه هامسة بمرح:
" أهلا بمن زارني وجلب لي البركة !"

تبسّم ضاحكاً وشاكسها ببضع كلمات ثم صمت قليلاً مما جعل الريب يدخل قلبها ....شعرت أن هنالك كلام عالق على لسانه لم تفهم ماهيته....غضنت جبينها تضيق عينيها وهمست وهي تقف أمامه :
" أهنالك شيء أبي؟!.."

أمسك يدها وسحبها إلى سريرها يجلسان جوار بعضهما ثم تهللت أساريره وقال:
" كم أنا فخور بك يا ابنتي .....لطالما قلت عنك الحكيمة!..."

لم تفهم مقصده وارتجت شفتها لا تعلم أتبتسم أم تسأل عما يعنيه لكنه أراحها مكملاً وهو يربت على كفها المركونة على حضنه:
" في الصباح أخبرني قصي كل شيء من البداية حتى منعك له بمواجهة جدك وهو غاضب.......خير ما فعلتِ حبيبتي"

انقبض قلبها خوفاً وشعرت بالاحراج وتمتمت بتلعثم هامسة والدموع تتكدس بعينيها:
" أ...أبي...أنا.....لم....لم ...."

قاطعها قائلا:
" ششش...اهدئي ميار...."

ثم رفع يمناها وبأطراف اصابعه سحب خاتم الخطوبة من بنصرها مضيفاً:
" مبارك ابنتي......لقد تحررتِ من تامر مبدئياً!!..."

جحظت عينيها مشدوهة وابتلعت لعابها لترطب حلقها وهمست متعجبة:
" كـ...كيف؟.....مـ....ماذا تقصد؟!..."

أجاب براحة وعيناه ترسل اشعاعات المحبة والحنان إليها:
" مثلما سمعتِ ميار......كلمت جدك ولم يعترض!.....وفي المساء سيأتي الشيخ ليطلقكما من بعضكما...."

ظلّت مذهولة فاغرة فيها لثواني قليلة ثم تحدثت قائلة باستغراب:
" هل وافق جدي بهذه السهولة؟!"

وضع يده على كتفها يداعبها بعطف وهتف:
" أجل.....لقد ذكرته بما حصل مع عمتك نجاة في الماضي وكيف تدمرت حياتها بسبب زواجها برجل شبيه لتامر لم ترغب به ...كم عانى جدك وقتها ...لكن يبدو أنه نسي ما عشنا سابقاً......أخبرته بكل شيء فعله معك وقد اخبرني به قصي....ثم قلت له أنا مستعد أن أحني رقبتي لك درجة لتدعس عليها كوني ابنك ....لكن عليّ القيام بدوري كأب ايضا لغاليتي .....فأنا لن أسمح لأحد بأن يهينها أو يدمر حياتها او يسلب سعادتها ولو فعلت المستحيل ........وفي كل الحالات أنا سآخذ عائلتي في القريب العاجل ونعود الى المدينة الساحلية وأرجو أن نذهب ومعنا رضاك .....فيبدو يا ابنتي أن الطريقة السلمية دون غضب مع وجود الحق معنا جعله يلين رغم محاولاته القليلة بالإقناع ....أعطاني الرضا وقال أن نبقيه بعيداً عن هذا الموضوع ونحل الأمر لوحدنا...وحتى قال لي ..هنيئاً لك بابنة مثل ميار....مطيعة...حكيمة.....فجدك كان متأثرا وراغباً بشدة لتكونا لبعضكما من شدة حبه لكما........ايقافك لغضب قصيّ جاء لمصلحة الجميع.....فكما قالوا....في التأني السلامة وفي العجلة الندامة........رضي الله عنك حبيبتي...."

ألقت نفسها في حضنه باكية بكاء الفرح وهي تكرر همساتها:
" حبيبي أبي ....لا حرمني الله منك....حبيبي...أحبك...أنت أفضل أب في الكون...."

وكانت تلك الليلة الأولى التي تنامها وهي بقمة الفرح والسرور في هذه المدينة الصناعية بعد أن تحررت منه رسمياً....!!.

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

التوكل على الله ثم اتخاذ قرار لا رجعة فيه مع قليل من الإصرار يمكننا أن ننجز ونحقق اهدافنا....تركتُ الجميع خلفي عائداً إلى تلك البقعة الطاهرة حيث نمت أزهارها بشموخ على دماء شهدائنا كأنها تبعث رسائلها إلينا بأن نجدد فينا العزيمة من أجل الاستمرار على نهجنا الذي نشأنا عليه حاملين شعار أن الدين والوطن فوق الجميع وبأن الحياة لن تتوقف على أحد فبعد الظلام سينبلج الصباح وإن ماتت روح ستأتي غيرها أرواح ولتخبرنا أن هنالك أمل ....أمل بربيع يزهر أمانينا بعد شتاء عصف بنا ورياح ذرت مشاعرنا الى أراضي بعيدة ...!!
دخلتُ قاعة الاجتماعات السرية بإباء وكبرياء وقوة مضاعفة أحمل عهدي (البندقية) على كتفي وأوراقاً جمّة رسمتُ عليها خططي العسكرية بعد تأجج مناوشات عنيفة و قتال شرس حدث بين كتائبنا وبين بقايا النظام الفاسد والذين كان هدفهم زعزعة سكوننا من جديد للتشويش على الانتخابات الرسمية التي كانت ستقام في هذه الأيام وقد نجحوا بإلغائها فعلاً لنعود الى نقطة التقاء شديدة الحساسية معلنين حرباً إما أن نخرج منتصرين منها أو منتصرين لا خيار ثالث أمامنا فالإنجازات والتضحيات التي قمنا بها على مدار سنوات وخسرنا خلالها الكثير إن كان من حيوات أو اقتصادياً تجبرنا على التصدي بكل ما اوتينا من قوة منعاً من العودة الى الصفر كما كنا قبل أعوام .....ألقيتُ التحية بصوتٍ جهوري على من كانوا ينتظرونني ثم خلعتُ بندقيتي ووضعتها على الطاولة أمامي ومعها أوراقي التي كانت بمثابة خرائط من رموز مشفرة لا يمكن لغيري تفكيكها وفردتُ إحداها منحنياً فوقها وباشرت لأشرح مخططي دون مقدمات فاستوقفني السيد ( سليم الأسمر) هاتفاً:
" لقد وصلت من توك بنيّ .....استرح قليلاً وبعدها نبدأ بالاجتماع.."

ظللتُ على وضعي منحنياً واستدرتُ برأسي يميناً نحوه وقلت بنبرة جادة شبه جافة:
" لم اشكو تعبي لأحد سيد سليم .....أتيتُ هنا للإنجاز وليس لشرب القهوة وكل ثانية من بعد الآن ستهمني..!!.."

تبسّم مجاملاً ورفع ذراعه يربّت على كتفي وقال بنشوة:
" مبارك عليك العروس التي اخترتها!...فتبقى هي الأفضل لنا كي لا نخسرك..."

أملتُ فمي بابتسامة واثقة مغرورة بينما كنتُ استند بكفيّ على الطاولة واومأتُ برأسي ايجاباً ثم هتفت ناظراً لـ ( إياد):
" أين ضياء وباقي الأشبال؟!.."

أجاب:
" لقد أعلمتهم بطلبك سيدي!!..سيأتون.."

زفرتُ أنفاسي بشدة وقلت:
" اذهب وعجّل بهم نحن لسنا بفندق ....لمَ لم يلحقوا بي بالحال؟!.."

رفع يده لجبينه هاتفاً:
" أمرك سيدي!.."

ثم فرّ خارجاً من القاعة ليتطلع بعدها السيد (سليم) على السيد (ماجد) ينظر إليه بنظرات مبهمة فهتف الأخير :
" لكن القائد عز الدين لم يصل بعد لتشرح له المخطط!!.."

بكل برود انتصبتُ بقامتي مجيباً:
" أنا من سأقود المعركة..!!

اتسعت عيناه بصدمة وسأل مستنكراً :
" ماذا ؟!..."

ثم أرخى ملامحه مضيفاً بحزم:
" لا يمكنك ذلك!....يوجد من يقوم بقيادة الكتيبة نيابة عنك !!...أنت نحتاجك للمخططات هنا..!!.."

صفقتُ بظهر كفي فوق الخارطة وهتفت بصوت جهوري آمر:
" قلت أنا سأقود المعركة بإذن الله.....المخطط مخططي والتعب تعبي....الكتيبة كتيبتي وإن سالت دماء فلتكُن دمائي...!!.."

تنهّد بغير رضا ثم ألقى عينيه لصديقه السيد (سليم) الذي تزينت تقاسيم وجهه بالفخر والاعتزاز هاتفاً بحبور:
" هذا ما أريده تماماً.....هذه المعارك خُلقت لك!.."

واستقام واقفاً يسحبني من ذراعي ليحضنني بشوق وتباهي أبوي وهتف وهو يربّت بقوة على ظهري:
" أهلاً بعودة الفهد الأسود..!!."
×
×
×

تجمع أشبالي حولي وكان جل تركيزي على تدريبهم نظرياً وبإحكام على خطتي التي رسمت....مرت ساعتان دون أن نرتشف رشفة ماء.....بعد اختبارهم والتأكد من استيعابهم لها ألقيتُ جسدي على الكرسي خلفي خائر القوى إذ أنني استنزفت طاقتي بالشرح المكثف دون لقط نفسي بغض النظر عن قلة نومي وسهري للتخطيط ...نفثتُ أنفاسي براحة ثم رفعتُ يدي برخاوة مشيراً لهم:
" يمكنكم الانصراف الآن...!!."

السيد (سليم) والسيد (ماجد) كانا ضيفيّ الاجتماع.....الأول افتخر برجوعي وامساكي للمهمة بنفسي لكن الآخر لم يستسغ الأمر وبدا مزعوجاً من قراري ومن صديقه الذي ساندني!.....لم ألقي له بالاً رغم انتباهي لعبوسه واعتراضه ...بعد قليل نهضت قاصداً مطبخ المعسكر لأحضر شطيرة تسد جوعي مع كأس شاي.....عدتُ إلى الغرفة فوجدتهما يتحدثان وقد وصلني صوت الحانق يقول:
" المهمة كانت من مسؤولية القائد عز الدين....لمَ لتوافقه على فعلته التي لا معنى لها!.....سيُكسر الآن القائد عز وقد كان متحمساً..."

وصلتُ إليهم بخطى واثقة ثابتة ناصباً ظهري ووضعتُ الكأس على الطاولة ثم قلت ببرود مستهزئاً:
" ربما لأني شعرتُ بالضجر قليلاً فأحببتُ أن أتولى المهمة....أليس أنا ابنكم المدلل؟!...."

رمقني بنظرة جافة لأن كلامي لم يعجبه ثم أعاد عينيه لصديقه وأجابني بعدم اهتمام:
" بالفعل هذا دلال.....ماذا يعني أن تأخذ المهمة أنت بينما يستطيع غيرك فعلها بسهولة ايضاً؟!....."

وأكمل وهو يناظرني بحدة:
" ما المعنى من هذا وما هي نيتك حقاً لا أدري..!"

ارتشفتُ من كأسي وقلت مبتسماً ابتسامة مستفزة:
" لا بد أن لدي سبب!.....أليس كذلك؟!؟؟

هز رأسه يمنة ويسرة رافضاً وقال:
" لعرفناه قبل أن تأتي..."

بملامح باردة مرتاحة لا تفضح الثورة داخلي:
" ليس بالضروري أن تعرف كل شيء قبل أوانه.....فكّر مثلاً أن الأمر سري!.....وربما حينها ستعذر تصرفي وشدتي."

أمال رأسه السيد(سليم) مع رفعه لحاجبه متسائلا:
" يبدو أن هنالك سبب فعلاً لإصرارك بأن تقودها أنت....أخبرنا ما عندك!.."

شددتُ بغيظ على الكأس بقبضتي وكززت على أسناني سارحاً بالسبب قبل أن أقول بحرقة:
" لأن هناك شك كبير بوجود خيانة يا أفاضل.!!.."

" ماذاااا؟!"

بصوتٍ واحد أخرجا سؤالهما فرمقتهما بعينين اشتعلتا احمرارا من القهر وقلت وأنا أحني ظهري للأمام منفعلاً بعد أن ألقيت نظرة للباب للتأكد أن المكان فارغ:
" أحمد اثناء تواجده هنا شك بوجود خطب ما بين القائد عز الدين ومساعده الأيمن ....لم يصل الى دليل لكنه كان مرتاباً غير مرتاح.....أخبر بلال بالأمر والاخير قام بدوره بمراقبة هواتفهما.....حصل على مكالمة مشبوهة غير ظاهرة المعالم....أسمعني أنا وأحمد إياها فانقبض قلبي.....رغم أنني خفت أن أظلم لأن لا دليل قطعي إلا أنني لن أكون طيباً طبعاً وأقامر على أرواح أشبالي.....فاخترتُ قيادة المعركة بنفسي وإن كان الثمن دمائي...."

بخشونة وصوتٍ غاضب قال السيد(سليم):
" علينا مراقبتهما من الآن...."

أرجعت ظهري لظهر الكرسي بأريحية وأجبت:
" أساساً منذ أسبوع بدأنا بمراقبتهما.....ثق بنا....أرواحنا لن تكون لعبة بيد أي خائن بإذن الله..."

اتكأ بمرفقه على الكرسي يمسك جبينه مقهوراً مسلطاً عينيه أرضاً من كان حانقاً عليّ وتمتم:
" لا حول ولا قوة الا بالله.....لا حول ولا قوة الا بالله.....من أين خرجت لنا هذه المصيبة الآن؟!..."

ثم رنا نحوي محرجاً لسوء ظنه بي وهتف:
" اعذرني هادي.....لم اتوقع هذا ابداً....."

قلت لأخفف عليه من حرجه:
" أنت لست مخطئاً ولك الحق بظنك وأنا لست مخطئاً لأني أخفيت توخياً للحذر..."

ثم تابعت بغصة ضارباً على صدري:
" لا أعلم كم سيتحمل هذا القلب ليتحمل....طعنات لا ندري أتأتي من قريب او غريب.....لقد تمزق كلياً...."

وبشموخ ناصباً كتفي استطردت:
" سأهب نفسي وكل وقتي بعد الآن حماية لهذه الأرض بمشيئة الله....سأبني فوقها عريني ....عرين لا يأوي الا أشبالاً شرفاء..."


لقد تمزق القلب فما عدت اخشى الأوجاع ....أنا من اخترتُ هذا الدرب وعنه لن أميل....لقد أتيتُ لأجدد العهد واستجيب للنداء.....سأتصدى للعدو ولن اسأم الكفاح سأدك الجبال تحتي وأشهر السلاح ....لن التفت للوراء بل سأشمخ بهامتي للسماء فأنا الفارس في معركتي....سأكون أمام الظلم اعصاراً عتياً....عزيز النفس مجاهداً أبياً.....تخليتُ عن دنيا الهوان باحثاً عن سبل الفوز بالجنان.....جئت الى ارضنا المخضبة بالدماء الطاهرة المعطرة بالمسك والريحان.....جئت لأكون الطلقة للثورة....كلا ...لم أخلق لأهاب.....خلقت لأقاوم من تحت الأرض وفوق السحاب.....طوبا لي إن كنت الشهيد أو بطلاً مغواراً يحقق نصراً مجيد.....أنا القائد للقضية وأنا المدرسة للوطنية .....نحن رجال الحرب وأعلامها نحن الحصون للبلد وأسوارها .....الآن هو زماني وهنا مكاني....أنا الثائر رافع الجبين.... أنا الفهد الأسود حامي هذا العرين ... انا هادي الشامي ناصر الدين وربي هو الحق المبين ....!!
حائرة ايهما ترتدي ....هذا الفستان يحتاج أن تبعثه للخياطة من أجل تقصيره كي لا يعرقلها فصديقتها تفوقها طولاً وقد تبرعت به لها .....وهذه ملابس مركبة من ملابسها القديمة ...قميص يصل الى منتصف الفخذين لونه وردي مع بنطالًا من القماش الأسود.....حركت فمها بنزق وتمتمت :
"يا الله يجب أن اشتري ملابس بديلة.......تناسب حياتي الجديدة "

أحنت رأسها تنظر الى بطنها الصغير البارز والذي أصبح عمره حوالي خمسة اشهر ووضعت يدها بحنية تمسده وهي تتابع:
" وتناسب بطني الذي كبر !!"

تنهدت بحرارة بعد أن أرهقها التفكير ....هي الآن (ألمى) جديدة بكل ما فيها.....فتاة تابت منذ ما يقارب الشهرين وعليها تغيير نهج حياتها.....لم تكن تخرج من بيت مربيتها خلالهما الا مرتين لفحص خاص بالحمل استعارت خلالهما من ملابس زوجة أخ (رهف) لذا لم تهتم للملابس وكانت تكتفي بأسدال الصلاة حين خروجها للشرفة أما الآن عقدت النية يجب أن تخرج من أجل الحصول على مصدر رزق لها ...عليها البحث عن عمل يعيلها ويلبي متطلباتها....فالمال الذي وضعته لها بحسابها سابقاً لم تتردد بتحويله مرة أخرى لحسابي رافضة قرشا واحدا منه.....والمال الذي بحوزتها من بعد بيع القصر أوشك على النفاذ ولا يمكنها الاعتماد عليه....الله اعلم كم سيصمد معها.....فهي تدفع لثلاثة محامين ....محامي شركة والدها السابق هنا في بلاد اللجوء لأنه الوسيط والمهتم بشؤونها والرابط بينها وبين بلاد الوطن وكذلك المحامين هناك وما يخص قضيتهم وأخرى مصاريف لا بد منها !! .....أما مجوهراتها تحتفظ بها للشدائد.......لم تدرِ كم ظلت تائهة حائرة لتختار أيهما الأنسب لتنفذ عملها الآن..........حملت ملابسها المركبة بعد ان اهتدت لها.....فقد فكرت أنها لربما تحتاج للسير الكثير وستكون هذه مريحة لتحركاتها ....ارتدت البنطال ولحقته بالقميص وبصعوبة حتى نجحت بإغلاق الأزرار التي تمر من فوق بطنها....فهذا ليس معد للحوامل ...وهي لم تعد الآن ذات الخصر النحيل المنحوت الشبيه بدمية الباربي... والسبب ...من تحمله في احشائها.!!....سحبت حجاب أسود مورّد جلبته لها (رهف) من زوجة أخيها ايضا لأنها غير منقبة مثلها .....أضاعت دقائق عديدة وهي تكثف محاولاتها لتعديله بشكل أنيق ....فما زالت غير معتادة عليه.....تأففت في النهاية هامسة:
" اووف....الحمد لله وأخيرا تم الأمر بنجاح..."

قرّبت وجهها للمرآة ترتب حاجبيها وتدخل شعيرات هربت من تحت الحجاب من شدة نعومتها ....لبست ساعتها وحملت زجاجة عطرها لحظة دخول صديقتها لها والتي أسرعت بمشيتها تمسك يدها قبل أن تنثر رذاذه هامسة برقة وابتسامة تشرق على محياها:
" أنت تعلمين عن كمية السعادة التي أنا بها .....بسبب توبتك...انتظامك بالصلاة.....أنا مجرد فتاة لا تربطنا دماء وأشعر بكامل الرضا من أجلك.....تخيلي واستشعري رضا الله عليك وأنت تقبلين لتسجدي له وتطبقين ما أمرنا به...."

هكذا هي هذه الفتاة التقية....لم تصبّ عليها الممنوعات صبّا كي لا ترهق كاهلها ....ارادت أن تسحبها للدين رويداً رويداً لتغرس القيم بها غرساً تصل جذوره الى أعماق قلبها وروحها....من بعد توبتها كانت تشرح لها أسس الدين وأركانه....لم تتوسع مرة واحدة....فالهدف اصلاح وليس احباط....هي تدرك أن مَن مثلها يكون تغيير نهج حياتهم مرة واحدة صعباً عليهم....سنوات اعتادوا على نمط لن يصبحوا بشخصية أخرى مختلفة كلياً بليلة وضحاها......فضّلت أن تجلبها للدين وعظمته بسلاسة ....فالضغط والتعجيز يولّد النفور ......ويبدو أنه حان وقت موعظتها عن العطر والتطيب....لذا أمسكت بها تمنعها قبل فعلها...!!

أما المعنية ناظرتها بضياع بعد خطابها الصغير الذي القته عليها ثم تململت محرجة بعد أن وصلها ما وراء القصد من رسالتها وبعد استيعابها ماذا كانت ستفعل فأكملت تلك:
" ارجوك....لا تضيعي صلاتك التي جاهدتِ للانتظام بها بالتطيب بروائح محرمة بل تجعلك بمقام الزانية حاشاكِ.....فقد قال لنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم (( أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية))....."

وضعت الزجاجة بتمهّل مكانها تطرق رأسها أرضاً وهمست بصوت حزين :
" كان يخبرني بهذا ...ذا ...ذاك...يعني...ها...هادي...ولم أكن أهتم.....أنت تعيدين لي كلماته ...أنت تشبهينه ...وكأنكما درستما هذا معا..."

تبسمت بلطافة وقالت:
" لأن ما يجمعنا هو الاسلام....ديننا الحنيف.....قرآننا العظيم وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم....قدوتنا...فأينما ذهبتِ شرقا أو غرباً لا تجدي اختلافاً بأسس عقيدتنا بقلب أي مسلم عرف دينه وشريعته بحق وبالشكل الصحيح......وأنت بإذن الله ستكونين ضمن قافلتنا....هدانا وإياك الله وثبت أقدامنا...."

ضغطت على شفتيها محبطة ثم قالت بضياع:
" أنا احب العطر كثيراً....ولم اعتد على الخروج دونه.....استصعب ذلك....أشعر كأنني لست نظيفة!..."

رفعت يدها تضعها على كتفها بمحبة تشرح لها:
" المرأة زينتها في بيتها....سواء لنفسها أو أمام زوجها.....ثم يمكنك المحافظة على نظافتك بالاستحمام والوضوء ووضع كريمات ومواد دون رائحة عطر وهي تحافظ على رائحتنا النظيفة دون أن نؤثم ...هنالك الكثير منها......ألن يكفينا هذا؟!....أم أن يرى زينتنا ويشم رائحتنا كل من هب ودب ومن يسوى ولا يسوى أفضل ومتعة أكبر لنا حتى يطمع من في قلبه مرض ويؤذينا لا قدر الله؟"

شردت بكلامها حتى وصلت لحادثة (صلاح) معها وهي تسبح بين أمواج ذاكرتها وأخذت تسترجع مواقف كثيرة بيننا وكيف كنت امنعها او انصحها وهي تأخذ كلامي باستهتار وسخرية ولم تكن ترى هذا الا تخلّف .....أما الآن بعد أن شرح الله قلبها وأنار دربها وصلتها رسالتي وهي أنني كنت أغار عليها من الغرباء وأخشى عليها من غضب الله....!!.....

بعد الغوص بذكرياتها نظرت الى (رهف) سائلة:
" كيف سأعتاد على هذا؟!..."

شقت ثغرها ابتسامة صادقة ومسحت لها ظهرها بكف يدها بدفء وأجابت:
" ضعي في بالك دائماً.....من ترك شيئا لله عوضه بخير منه....."

×
×
×

جلست فوق سطح جدار موجود على حافة الطريق تضع يدها على صدرها منحنية لاهثة تحاول لقط أنفاسها .....لقد أنهكها التعب فخارت قواها......ساعتين وهي من محل لمحل ومن شركة لشركة تجول في وسط المدينة باحثة عن عمل وكانت كل الاجابات.....[ عذراً....لا مكان شاغر....أو.....لا شهادة لديك.... أو ....ينقصك الخبرة....] ....تابعت سيرها على الأقدام تجرّ رجليها جرّاً من ثقل حركتها..... تلتفت ذات اليمين وذات الشمال دون أن تفقد الأمل بإيجاد أي عمل!.....لا مفر ...انتهى عهد الدلال وكل هذه المدة كانت كافية لتتقبل حقيقتها.....فتاة يتيمة مكسورة الجناح وعليها الاعتماد على نفسها.....لفت انتباهها ضجيج يأتي من طريقٍ فرعيّ....جرّتها أقدامها فضولاً فاكتشفت وجود مخزن كبير خاص لمواد التنظيف مليء بالعمال وشاحنات نقل.....ستجرب حظها!...ربما يحتاجون لعاملة تسجل البضائع الداخلة والخارجة أو تحصي المخزون !!......اقتربت منهم متمهّلة وعند أول عامل قابلها سألت:
" من فضلك.....أين المسؤول عن المخزن؟!"

أفرج عن أسنانه بخباثة يتفحصها دون أن يجيبها!....فتبقى هي الألمى الملفتة بجمالها ....رفع رأسه لزميله الذي كان يتناول منه الصناديق داخل الشاحنة وتبادلا نظرات الوقاحة والنوايا الدنيئة.....أحست بعدم راحة وانقباض بقلبها .....تركته وتابعت خطاها حتى وجدت رجل يحمل اوراق ويحرك يديه هنا وهناك ملقياً أوامره....تبسّمت فها قد وجدت هدفها.....اقتربت منه ولما وصلته أخذت تسعل بعد هبوب روائح من مواد التنظيف المسكوبة بالخطأ....:
" عفواً.."

قالتها له وهي تضع قبضتها أمام فمها تتابع سعالها الذي لم يتوقف فأشار بالحال لأحد العمال بأن يأتيها بكأس ماء....!!...مدّ يده يناولها بعد احضاره للماء فتابعت سعالها وهي تنهاه بيدها أنها لا تريد.....لاحظ المشرف المسؤول نظراتها المتوجسة للكأس فأمره بعجلة:
" احضر من ثلاجة مكتبي زجاجة مغلقة حالا....هيا اسرع.."

كان نبيهاً فتوقع أنها غير مطمئنة لتشرب من شيء مفتوح!!....لمَ لتثق؟!...مَن هؤلاء؟!.....لم تعد تثق الا بنفسها.....فالأقرب خذلها ....أنا وخالتها!......أحضر زجاجة الماء وفتحها لها أمامها فالتقطتها بالحال وهي تشهق لتلقط أنفاسها من شدة السعال.....كان العطش يقتلها وهي تجوب الشوارع ولم تهتم بحالها وزاد جفاف حلقها رائحة المواد الكيماوية الخاصة بالتنظيف......شربت حد الارتواء.....بعد أن هدأت وخفّ احمرار وجهها شكرته بحياء فقال:
" تفضلي بنيتي.....عمّا كنتِ ستسألين؟!"

كان رجلا يتوسط الأربعين من العمر....ردّت برقة:
" أبحث عن عمل ....هل لديكم وظيفة شاغرة؟!"

رمقها باستغراب.....والتفت بعدها للوراء ناظراً للكم الهائل من المواد والعمال الذكور ليعود ويخفض بصره لبطنها قبل أن يتطلع على وجهها ثم هتف بمروءة:
" بنيتي ....أظن أنك حامل ...صحيح؟!"

اومأت برأسها ايجاباً وبحياء فأكمل:
" هذا المكان لا يناسبك ...أولاً كونك حامل ممنوع منعاً باتاً استنشاق هذه الروائح المضرة لصحتك ولجنينك...."

أخفضت رأسها محرجة لأنها لم تفكر بالأمر ثم رفعته لمّا تابع قائلا:
" ثم يا ابنتي انت ترين الكم الهائل من الرجال هنا.....ما موقعك بينهم وأنت...."

تنحنح مستطردا:
"اسمحي لي انت مثل ابنتي....يعني ما موقعك بينهم وأنت فتاة صغيرة وجميلة ؟!....لا تلقي بنفسك الى الهلاك وابحثي عما يناسبك من كل الجوانب ....حماك الله"

شحب وجهها وتسرّب الهلع الى فؤادها من الفكرة فهمست بمرارة وملامحها تفيضُ بالأسى:
" معك حق عمي....شكرا لك!..."

" على الرحب والسعة بنيتي.....انتبهي لنفسك!.."

صمت ثواني وغضن جبينه سائلا:
"ثم لا تؤاخذيني.... أين زوجك؟!......هل يسمح لك بالعمل بين الرجال؟!.."

بعينيها الزرقاوين البائستين ظلّت تحدجه صامتة تاركة لهما المجال للبوح عن أسرارها فانتبه أنها تعاني مشكلة ما وفضّل عدم التدخل ثم قال بذات المروءة بعد أن مرت الفكرة بباله:
" سأعطيكِ عنوان لصديق لي في الحي القريب لديه محل بيع أدوات كهربائية وأظن أنه كان يحتاج لمن تمسك المحل نهاراً وتتعامل مع التجار هاتفياً وتسجل كل شيء على الحاسوب......جربي حظك"

تهللت أساريرها مبتهجة ولمعت الفرحة بحدقتيها ....شكرته ثم ذهبت للعنوان المراد دون تأخير وكأن كلامه كان وقوداً لتعيد بعضاً من قواها ....لما دخلت المحل وجدته رائع....مريح....نظيف....مكيّف .....يناسبها تماماً....ما أجمل الأمل عندما يزورها فيضيء وجهها ويعطي الصفاء لسماوتيها.....عرّفت عن نفسها لصاحب المحل ولفتاة أخرى تعمل معه كانت تركز بشاشة الحاسوب!!.......مهما تبدّل حالها وتضاءلت ماديتها لم يؤثر هذا على شكلها الذي يدل على أنها ابنة ذوات....أنيقة...رقيقة....بريئة وخجولة....كما أن الحجاب زادها رقيّ وزيّنها بالوقار.....وافق الرجل على توظيفها وطلب من الأخرى أن تشرح لها عن سيرورة العمل ...كانت تصغي بكل جوارحها.....لا غبار على ذكائها بتلقي المعلومات ونباهتها وخاصة عندما تريد.....وعندما لا يكون معلمها الذي يزلزل كيانها بعطره وقربه ويفقدها صوابها!!....أي أنا.....حبيبها هاديها.!!......بعد نصف ساعة من الشرح أحست بركلة جنينها الذي باتت تشعر بحركته منذ أسبوع فوضعت يدها على بطنها بعفوية باسمة ....لم تنتبه لها الفتاة بالبداية لأنها كانت منشغلة بالحاسوب أمامها لذا لم تر بروز بطنها الصغير أما الآن أصابها الشك فسألت:
" عفوا.....هل أنت حامل؟!.."

بكل حنان وبراءة أجابتها بـ(أجل) فعبست تلك محبطة وقالت:
" يا الله لم اكن أعلم..."

" ما المشكلة.؟"

ألقت سؤالها بتشكك فأجابتها:
" السيد رياض لا يوظف حوامل.."

بنظرات منطفئة احباطاً ووجهٍ كسته العتمة سألت عن السبب فردت الفتاة بخيبة:
" لأنه جرب هذا سابقاً وأصيب بالإحباط.....توظفت واحدة حامل....علمها وتعب بالشرح...اتقنت عملها ولما حان موعد الولادة أخذت اجازة ولادة ثم مستحقاتها دون أن تعود بعد أن كانت تحمل كافة المسؤولية عن المحل فاضطر ليمسك كل هذا بنفسه من بعدها لوقت ما حتى ارهق كلياً لذا قرر ان لا يوظف حوامل ...يتعب بتعليمهن ثم يتركنه بمنتصف الطريق!!....يعني عذرا منك.....نحن آسفون حقاً....لأننا لا نوظف حوامل...."


*لن نوظف حوامل*...جملة اخرى اضافتها لجميع الجمل التي القيت اليوم على مسامعها ....*لا مكان شاغر*.....إذاً لا نصيب لها....*لا شهادة لديك*....آاه..لقد ضربوها بالصميم وأصابوها في مقتل على أكثر شيء تتحسر عليه داخلها وكم هذه النقطة تؤلمها.!!...ثم.....*ينقصك الخبرة.*...!!......زفرت زفرة من الحرقة والحزن اللذين ألمّا بها....خرجت بتثاقل تنكس رأسها من قلة حيلتها.....سارت على الرصيف عازمة على العودة لمسكنها....مرّت من جوار محلات لبيع المأكولات...اخترقت أنفها رائحة شواء الكباب...أصدر بطنها صوتاً ينادي للطعام....ازدردت لعابها وصارعت حيرتها.....أتشتري أم لا ؟!....تذكّرت أن اليوم وجبة الغداء فاصولياء ...لا تحبها لكن لا وجه لديها لتعترض....باتت تتقبل كل ما يقدّم لها حتى لو على مضض....هل ظنت أنها كما السابق تطلب وتتمنى والخدم تحت أوامرها ؟!....كلا...كان كل هذا من ماضيها الذي لم يكن سوى حلماً واستيقظت منه...هكذا قيّمت حياتها!!..... مربيتها تعرف قائمة مفضّلاتها وتحاول قدر الامكان أن تطلب من (رهف) طهيها لها إلا أنها تبقى مكلفة.!!....لقد مضت فترة الوحام الصعب وعادت لسابق عهدها....أي أن الهمبرجر والمأكولات الايطالية هي من تتربع على عرش أكلاتها....لكن للأسف....لن تحصل عليها بسهولة مهما اشتهتها!!......فتحت حقيبتها وأخرجت نقودها قاصدة التوجه لمحل الكباب.!!....توقفت متسمّرة في طريقها بعد أن حسبت معادلة بسيطة في عقلها..." عليّ شراء فيتامينات خاصة وأدوية....بنطال يناسب للحمل !!...شراء خضروات للبيت....شاحن للهاتف بدلاً من الذي تعطّل.....وايضاً لسيارة الأجرة من أجل العودة ..."....لوت فمها مهزومة...وغصة مريرة أحرقت صدرها....أعادت المال لحقيبتها واستدارت تعود أدراجها مقهورة.....وضعت يدها على بطنها بحنان وهمست لرفيق همومها :
" تحمّل يا صغيري....أعلم أنك اشتهيت الكباب....أعدك عندما أجد عملاً سأطعمك كل ما تشتهي....لكن الآن لدينا أولويات وأكثرها من أجل المحافظة عليك ....المال الذي بحوزتي لليوم لا يكفي ....أرجوك تحمّل من أجلي...!!.."
مسحت دمعة عصية سالت على وجنتها ثم شجّعت نفسها للصمود أمام رياح الذل والهوان !!.... هي ترى نفسها أنها الآن تمر بعثرات لكنها ستتغير...الضربة التي لم تقتلها ستقويها ....أجل ستكون أقوى من سابق عهدها...ستتحدى الحياة وصعابها.!!....إن لم يكن من أجلها فمن أجل الأغلى من روحها....رفيق دربها الذي تحمله في بطنها!!....سحبت نفساً عميقاً وأخرجته بتمهّل ثم تابعت سيرها لشراء حاجاتها...انهت مشوارها ثم استقلت سيارة أجرة.... خلال الطريق سرحت بحظها ..وما عاشته اليوم....فعاد الضغط لصدرها لدرجة شعورها بأن هنالك شيئا يخنقها كاد يكتم أنفاسها!!....كانت تتكئ على مقبض باب السيارة بمرفقها تسند وجنتها بكفها تتابع شرودها وهي كسيرة الفؤاد والدموع تترقرق بعينيها....تنظر الى المباني والى العارضات المثبتة على الشارع الخاصة بالإعلانات وهي تتبدل أمامها ....كل شيء يتبدّل إلا الجروح التي تعانيها ترافقها هي ذاتها.....توقفت السيارة عند إشارة ضوئية فوقع نظرها على إعلان ظلت تحملق به بملامح تائهة إلى أن استوحت منه فكرتها!!........تبسّمت ضاحكة بعد أن غمرتها الفرحة بغتةً..وقالت في نفسها " يا إلهي...لمَ لا نفعلها نحن ؟!.. "......أجل ستفعلها....ستقنعها ....فيبدو.....أن لا بديل بين يديها ....!!.....وصلت الحي القديم وبيت مربيتها مشرقة الوجه مستبشرة وهي تزداد إصراراً على تنفيذ فكرتها وقرارها الذي لا يكتمل الا بموافقة صديقتها (رهف)......بعد أن دخلت البيت استحمت بماء بارد لتزيل عنها عرقها وغبار الطريق ومعهم القليل من همومها !!.....صلّت صلاتها وساعدت صديقتها بصفّ أطباق وجبة الغداء على الطاولة وأثناء جلستهن وبعد أن قصّت عليهن معاناتها ارتأت ادلاء فكرتها بكل حبور وحماس هاتفة:
" قررت قرار لا رجعة فيه .....ولا يمكنني تنفيذه دونك رهف..."

امعنتا النظر بها مع اصغاء تام تنتظران اكمال حديثها فأكملت:
" من بعد معرفتكن بحملي وضعف جسدي أصررتن لأبقى معكن في البيت تحت المراقبة وبقي بيتي المجاور فارغاً رغم أنهم أنهوا ترميمه...."

صمتت قليلا فقالت السيدة (سهيلة) متحفزة:
" أجل بنيتي ....تابعي....الى اين ستصلين؟؟!..."

قالت باندفاع ونبرة كلها طاقة إيجابية:
" وأنا في طريقي رأيت اعلان في الشارع فلمعت الفكرة ببالي......"

تحفّزت أكثر مربيتها سائلة:
" أي اعلان ؟!..."

أجابتها منفرجة الأسارير:
"كان اعلاناً عن مطبخ لتحضير المأكولات البيتية والحلويات "

أكملت بنبرة هادئة تلقي فكرتها بوضوح:
" رهف هي طباخة ماهرة....لديها أنامل سحرية في تحضير الطعام ....وقد اخبرتني مرة عن حلمها بأنها ترغب بفتح مطبخ خاص بها........تمارس هوايتها ويكون مصدر رزق لها لأنها تحتاج للمال لمساعدة أهلها بمصاريفهم ولشراء جهازها..... "

صمتت قليلاً ثم تابعت وعينيها تبرقان بالأمل:
" أنا لدي بضع قطع من المجوهرات ادّخرتها لوقت الشدة ....مصاريفي تزداد وأنا احتاج للمال لأعيل نفسي وابني......أنتن منعتنني سابقاً من بيعه عندما رغبت لأصرف على نفسي وكنتما محقتان لكن الآن جاء وقته.....لذا قررت أن أبيع ما يكفينا لشراء كافة مستلزمات المطبخ العملي وكل ما يتبعه وفتح مطبخنا الخاص في بيتي المجاور لتلبية طلبات الزبائن بالمناسبات.....نحن الآن في بداية الصيف والمناسبات كثيرة .....ثم ممكن أن يكون للأفراح والأتراح....للولائم والعزائم وأي مناسبة أخرى.....لقد تفحصت الأمر وبحثت عن الموضوع في الشبكة العنكبوتية اثناء طريقي ....أخذتُ نبذة سريعة عنه......ووجدت ايضاً أنه الآن هو عز الطلب وأوج الموسم وأكثر وقت مناسب للتنفيذ........ما رأيكما؟! .....هل انت موافقة يا رهف؟!...."

ظلت صامتة لوقتٍ يسير تقلّب كلامها في عقلها ثم كانت اجابتها النهوض من مكانها تقبل عليها تحتضنها بحرارة وتقبّل خدها ثم تلصق وجنتها بوجنتها لتنزل دمعات مع ضحكتها القلبية وهي تهمس:
" شكرا لك ألمى....شكرا.....موافقة بالطبع ما دام الشيء سيكون فيه مصلحتك قبل مصلحتي...!!..."
×
×
×
احتفلن بالموافقة على مشروعهن الجديد أثناء السهرة ...خططن للكثير بشأنه ومن أين سيبدأن وخضن بأحاديث شتّى.....أخبار الجيران....أخبار عامة وما إلى ذلك....لكن بعد كل هذا ورغم أن السعادة كانت ضيفة الشرف في جلستهن وعليهن استغلالها إلا أن السيدة ( سهيلة) العاقلة لا ترضى على حياة صغيرتها وما وصلت إليه وهي أكثر من تشعر بها!! ....تتقطع أحشاءها عليها رغماً عنها....تراها تدّعي الفرح بينهن إلا أنها عندما تغوص في سماء عينيها تلمح طيف الحزن الذي يلازمها....تستشعر النقص الذي تعيشه داخلها.....تلحظ حاجتها لشخص يجب أن يكون أقرب لها من أي مخلوق آخر....كانت من فترة لأخرى تتكلم مع السيدة (ايمان) بالخفية لتطمئن الأخيرة على أمانة غاليتها وقد حافظت على قسمها ووعدها بألا تخبرها بشيء يخص حملها.!!.....كان من حسن حظهن أن السيدة (إيمان) أغلقت مقر صحيفتها في هذه البلاد بعد وفاة صديقتها التي كانت خير داعمة لها أي السيدة (فاتن) رحمها الله وعادت من بعدها في غضون أيام لم تتجاوز الشهر إلى بلادها الأم ....وطننا الحبيب!!.....لكنها عادت متخلية عن دورها....رأت نفسها قامت بالواجب وقد حان وقت استقرارها بين أقاربها وأهلها......لم نضغط عليها بشأن عملها معنا فنحن نعلم مدى الحزن الذي تعيشه بعد رحيل توأم روحها وتركنا لها حرية الخيار رغم اعترافنا بقيمة ما خسرنا !!.....لقد كانت إنسانة من خيرة الناس وأشجعهم....إنها صحفيتنا الثائرة ...فارسة الثوار إعلامياً...كانت اللسان الناطق ذو الوجه الخفي لكتائبنا..!!....فتلك الفارسة لو بقيت في بلاد اللجوء لقامت بزيارتهن حتماً ولكشفت سرهن الصغير ...!!....لن تيأس السيدة (سهيلة) من محاولاتها المتباعدة بين حين وآخر لتذكير ضيفتها الصغيرة وابنة من كان سيدها بوضعها الحالي وبهذه السهرة الجميلة قررت أن تفاتحها مجدداً قائلة:
" صغيرتي ألمى.."

وضعت قشرة الموز بعد انتهائها من أكلها في الصحن أمامها وهمهمت مجيبة وهي تتطلع عليها بوجه بشوش:
" ها خالتي؟!.."

ناظرتها بعينين باسمتين وملامح حنونة وهتفت:
" ألن تغيري رأيك بشأن اخبار زوجك بحقيقة حملك؟!.."

عبست ملامحها في الحال وأشاحت نظرها جانباً مجيبة:
" كلا....لن أخبره..."

وبنبرة عتاب وملامة أعادت حدقتيها إليها مردفة:
" لمَ هذه السيرة الآن خالتي؟!.."

" أتظنين أنك ستتخلصين من هذه السيرة ألمى؟!....صدقيني مهما هربتِ من هذه الحقيقة ستجدك!..."

بصوتٍ موجوع مغلّف بالقوة ردت:
" لتجدني....كلما تجدني سأهرب ولو أمضيت كل حياتي هاربة منها .."

قالت بنبرتها الهادئة:
" بنيتي!...غبتما شهرين عن بعضكما.....ألا يكفي؟!...ألم تخمد نيران الغضب والكراهية داخلكما؟!....لا تنتظريه بل حاصريه....لا مكان للكرامة هنا....أنتما زوجين مهما عشتما من حروب.... يوجد ابن يربطكما....مخطئ أنه لم يسمعك أجل...لن أعذره!!...لكن كما أنت امرأة مجروحة هو كذلك رجل غاضب !!....اذهبي إليه ليضمد لك جراحك ..واقبلي عليه لتطفئي غضبه.....كفاكما عناداً كالأطفال...."

هتفت بهجومية وانفعال متألمة:
" أقبلتُ إليه فأدبر....غاب عني ولم يسأل....عشقه ما كان إلا سراب ووعوده أوهام .....أين هو ؟!...لمَ لأذهب إليه وهو من رماني؟!.."

قررت أن تضغط على الوتر الحساس ...فهي تعلم طباعها وشدة غيرتها وكان الهدف لمصلحتها فقالت:
" صغيرتي....رجل متزوج الى متى سيتحمل غياب زوجته عنه ؟!.....عليكِ المحافظة على زواجك قبل أن تخطفه غيرك!!...زوجك رجل محترم وشاب ما شاء الله عنه إي فتاة تتمناه.....أعلم علم اليقين أن ما حصل بينكما ليس هيّن....لكن إلى متى ستبقيان متباعدان تعصف بكما الرياح وتتركان فجوة لتتسرّب الشياطين لحياتكما أكثر فأكثر؟!.."

رجف قلبها من كلمة * تخطفه غيرك* ...لم يتقبّل عقلها الفكرة ...اشتعلت الدماء في منابعها غصباً عنها وهي تتذكر آخر لقاء لنا....لم تنسَ نظرات تلك وجرأتها...أخبرها حدسها آنذاك بأن من كانت أمامها ....معجبة بزوجها!...تلاعبت بها الوساوس...ماذا لو؟!...ماذا لو تقاربنا أكثر بغيابها ؟!...فهي تفقه جيداً أنها تمسك قضيتنا إذاً من الطبيعي تكرار اللقاءات بيننا...خُيّل لها أشياء كثيرة....وما ضخّم خيالها...حدسها...غيرتها...وبا? ?تأكيد هرموناتها!!....وعند هذا الخاطر أثيرت أكثر حفيظتها فهبّت واقفة وهي ترتدي قناع لونه عدم الاكتراث والقوة لتقول كاذبة بينما لم تستطع اخفاء السحب التي غشت سماءيها :
" فليفعل ما يشاء....لن أهتم لأمره!.."

وكريحٍ عاتية أسرعت بخطواتها متجهة الى الغرفة المشتركة بينها وبين (رهف) حتى وصلتها!!....فتحت الباب ونزعت القناع الذي كانت ترتديه قبل قليل بغل عنها مستسلمة لضعفها بعيداً عن الأنظار....ألقت حدقتيها إلى حقيبتها الكبيرة المركونة عند الخزانة...مشت بصعوبة إليها مثقلة من همّها وحزنها....قرفصت أمامها وفتحتها وأخرجت منها واحدة أصغر ...تلك ذاتها التي جهّزتها لها أمي حين عودتها.....سحبت سحابها برخاوة وأخرجت كنزها الذي سرقته من غرفتي....فهي رأت أن هذه من حقها!!...إنها صورتي بالأبيض والأسود بشكلي الذي رأتني به بلقائنا الأول في المخيم والتي أخذتها معها برحيلها.....مسكتها بيدٍ مرتجفة ونهضت من مكانها بالحركة البطيئة وخطت الى الوراء حتى ارتطمت بالسرير من خلفها....جلست عليه وراحت تتأملها.....وبإبهامها الأبيض الرقيق مسحت بحنية وحب متجذر من الماضي على وجهي وهي تتمتم بحرقة واشتياق:
" لا تدري أي نار أعيش في بُعدك....في اليوم الذي وجدتُ حضنك الآمن مرة أخرى... فقدتك...!.....أين أنت الآن وماذا تفعل؟!...هل نسيتني؟!...شهران...شهران يا هادي لم تحاول الاتصال بي ؟!..قل لي....ماذا يساوي ما فعلت لك مقابل ما فعلته بي وبأبي ؟!...لمَ غضبك لعين وكبرياؤك عنيف ؟!.....أنا أخطأت...وغضبت مثلك... لكني أتيت للإصلاح ....أما أنت....حرمتني حنانك وأمانك....حرمتني يا حبيب العمر...حرمتني والله أعلم ما الذي تفعله الآن دون أن أخطر دقيقة على بالك !....هل حبنا مزيّف؟!....هل نسيت بسهولة ما حصل بيننا ؟!....هل...هل سـ...ستستبدلني بأخـ...بأخرى؟!...."

شدّت على الصورة بقبضتها دون ادراك كلما زادت بكلامها وأطلقت سراح عبراتها الساخنة المكلومة لتساند مشاعرها الجريحة.....أشاحت عينيها عنها ناظرة للسجادة الزيتية أمامها....وعصفت بها الأوجاع التي نتجت عن غيرتها وهي تسترجع لقاءنا الأخير بحذافيره فتمتمت بأسى من شدة هذه الغيرة ومن قهرها وهي ترفع يسراها تضعها على صدرها لتربّت بها على قلبها:
" فأرة بغيضة....أكرهك أيتها المتملّقة.....ابتعدي عنه ....اذهبي للجحيم يا منافقة....اسأل الله أن لا يجمعكما بمكان واحد...هو لي...لي أنا ...حضنه لي...قلبه لي....أنفاسه لي...عطره لي........."

وبجزع وقنوط أكملت بصوتٍ ضعيف بائس:
" مهما غضبت منه وحتى لو لن نعود لبعضنا يوماً وإن كان البعد قدرنا.... سيبقى هو بكل ما يملك لي وحدي...وحدي أنا...."

تسارعت دقات قلبها....ارتفعت حرارة جسدها انفعالاً...شعرت بتمرّد يسري في عروقها فأعادت زرقاويها للصورة ...ضمتها لصدرها تحتضنها مغمضة العينين وذرفت أنهاراً من الدموع على وجنتيها لتسقط على بلوزتها تلقى مصرعها....دقيقة ودقيقتين وأكثر ظلت تشدد باحتضانها وتشد أكثر على عينيها تطرد دموعاً أغرقتها....توقفت عن البكاء وسكنت أنفاسها ...أبعدت الصورة عنها تتأملها من جديد ثم أخفضت بصرها لبطنها بعد ركلة من صغيرها ...كأنه يوقظها من هيامها والضعف أمام غرامي.....قطبت حاجبيها بغضب وقست ملامحها...فزّت عن السرير وأرجعت الصورة إلى مكانها.....أغلقت السحاب وهمست مغتاظة ببراءة وعفوية كلمات معظمها من وراء قلبها:
" لن أضعف أمام حبك....لن أسامحك مهما عشقتك...أنت ظالم....ظلمتني وظلمت أبي ....تركتني وحدي ولم تسمعني فوصل ظلمك لابني....إذاً لا حق لك بأن تعرف عنه ....وعش حياتك كما يحلو لك وكما تشدقت لي آنفاً ...لن أهتم ولن أغار عليك.....واسأل الله أن لا تلتفت أي أنثى بغيضة لك أيها الحائط المغرور عديم الاحساس ....أنا أكرهك أكرهك ولست بحاجتك ...ولا بحاجة حضنك ذاك ولا لأموالك..."


~~~~~~~~~~~~~~~~~


حان وقت قطف وردة السعادة من الحقول ليزرعها في حوضه ويزيّن بها بيته ويصب عليها اهتمامه والاعتناء بها....إنها فرحة عمره التي طالما انتظرها....شهرا بشهر وساعة بساعة .....ها أتى اليوم الذي سيجتمع بها في بيتهما الزوجية......صبر فنال وما أروع ما نال......هي أجمل نساء الكون في عينيه.....إنها الحبيبة والصاحبة.....الحنونة وخير داعمة.....المطيعة الطيبة.....وحدها (سلمى) التي اختارها لتكون شريكة حياته فأصبحت الحياة بكل معانيها .......لقد خطف لنفسه اسبوعاً واحداً فقط يتجهز به لزفافه.......اشتعلت الحرب على الحدود كما اشتعل الشوق لقربها بقلبه.....سمح له المسؤولين بأن يترك مهماته هناك ويأتي للمدينة الجبلية ليزف هذا البطل عريساً لعروسه بنفس الوقت الذي حدده منذ شهور .....لن تؤجَّل أفراحنا مهما كان السبب ....فالوقت الضائع لن يعود....وما سنهرب منه ربما نلقاه في المستقبل.....إذاً لنزرع ورود سعادتنا بأيدينا ونسقيها بالتوكل على الله والتفاؤل .......ليلة البارحة احتفلا بحفلة الحناء المشتركة لكليهما بمشاركة الجيران والأصحاب والمعارف.....اما اليوم هو يوم وليمة الزفاف الكبيرة.......وما يميز هذا اليوم هو العادات والطقوس المصاحبة له ومن أهمها ما يدعى (حمام العريس) والذي يُجرَى في بيت مَن دعاه مِن الأصدقاء......ولعريسنا (بلال) لن يكون حمام اعتيادي.!!.....لأن المستضيف هو الأشقر الغليظ واسمه كافي ليعلم الجميع ماذا سيفعل به ؟!.....جلبة تحدث في بيت سيادة اللواء منذ الصباح .....حبال الزينة تمتد بين الأشجار.....وكراسي تفرد بشكل مرتب دائري تاركين فراغ على العشب الأخضر ليكون ساحة الرقص أو لنسميها ساحة العراك ....أفضل اسم لما يحدث أثناء الحمام بعاداتنا ..!!...لقد جمع صديقي (سامي) صغار الحي ليساعدوه بالتجهيزات وجعل شقيقي (شادي) يترأسهم كونه أكبرهم ...فعليه الالتفات لأمور أكثر أهمية.....فور انتهائه من بعضها صعد الى غرفة نومهما ليستحم ويزيل عن جسده العرق بعد عمله الشاق وحرارة الجو ...ارتدى من ملابسه اليومية مؤقتا ليتابع مهماته ثم نزل متوجها الى المطبخ ليستمد الطاقة.... من ضفدعته.....كانت تغسل أواني الفطور الذي شاركهم به جيشه من أطفال الحي .....دنا منها وحضنها من الخلف يحوط بذراعيه بطنها الذي غدا أكثر بروزاً عند دخولها شهرها السابع ثم أطل برأسه من جانبها يقبّل وجنتها وهمس:
" دنيتي......اسأل الله أن يكرمك بالصحة والعافية!.."

جففت يديها بالمريول المعلق بعنقها نزولا لجسدها ثم استدارت ليصطدم بطنها به وقبل أن تتحدث داعبه بيده ثم انحنى يقبله وهو يهمس لمن بالداخل بمشاكسة:
"كيف حالك اليوم ؟!.....هانت بنيّ هانت....شهران بإذن الله وتشرفنا يا أسدي!!..."

استقام بوقفته ووضع ذراعيه خلف ظهرها يجذبها إليه ليلصقها به ثم سأل وهو راسماً ابتسامة الرضا على شفتيه:
" أجل يا عينيّ الشهد....متى ستذهبين الى بيت أهلك وإلى سلمى؟!...."

قطبت حاجبيها بضيق وردت:
" في الحقيقة أنا غير مرتاحة ......أعلم ما مدى الجنون الذي تقومون به وقت الحمام......أنت اخبرتني أنك لن تسمح بأي فوضى وأي خراب لكن ماذا إن فعلوها؟!.....أرهقت من تنظيف البيت ولا حمل لي لأنظف خلف حربكم الثقيلة!......سأبقى هنا كي يروني وينحرجوا ولا يفعلوها....وبعد انتهاء حفلتكم أذهب.."

أفلت يديه ورفع حاجبه باستنكار وهو ينحني نحوها يقرب أذنه من فمها وقال ساخراً باستياء:
" ماذا ماذا ماذا؟!.....أعيدي جملتك الأخيرة لم أسمعها"

أجابت بعبوس:
" قلت...سأبقى هنا كي يروني وينحرجوا ولا يفعلوها"

انتصب بهامته وهتف مستهزئاً:
" أنا تزوجت من ضفدعة وليس من فزّاعة .."

هتفت منزعجة:
" سامي كن جديّاً ولا تسخر..."

بنبرة جادة رد:
" باختصار لا أريد أن اسمع جملتك مرة أخرى....هذا هو الناقص أن تظهري للرجال.....لن تكون أي أنثى بالقرب منا...."

رفعت كتفها معترضة وهي تجيب:
" أنا سأكون جانباً محتشمة سيد سامي.....طوال عمرنا تتواجد النساء في حمام العريس لمشاهدة جنون الفرح....ماذا تغير الآن؟!......لمَ منعتم حضورهن؟!....ألا حق لأمه وأخته وقريباته بمشاهدته؟!"

أجاب ببرود:
" إن أتين ....لن يأتي شيخنا أحمد وبعض الرفقة.....والحمام لن يكتمل إلا بوجود الأصدقاء وأنت تعلمين مدى تقاربهم من بعضهم...ثم أنا ايضا أريد ذلك...لا مكان لكنّ من الاعراب بين الشبان وجنونهم وطول ألسنتهم..."

تنهد وأكمل:
" يكفيكن الزفاف نفسه ولا حاجة لحضور الحمام!.."

استوقفها قوله * لن يكتمل الا بوجود الأصدقاء * فهمست بحزن:
" وهادي ؟!.....أعز وأقرب وأول صديق لبلال لن يحضر زفافه!!......لقد اخبرتني سلمى أنه شديد الحزن لأنه لن يشاركه فرحه وهو الذي جمع بينهما..."

داعب وجنتها بحنان وهتف:
" صحيح...لقد رأيت انطفاء الفرح بعينيه لأنه يفتقده....نحن حاولنا يا دنيا حتى آخر دقيقة........شقيقك أصبح المعسكر كل همه وبات مسكنه لدرجة تشعرين أنه يريد أن يتواجد بكل الجبهات .....يحمل مسؤولية كبيره على كاهله لذا لم يستطع أن يهرب لبضع ساعات للاحتفال معنا.......لكني أعلم كم هو مستاء حتى لو لم يتكلم !..."

زفرت أنفاسها مستسلمة وهمست:
" عله خير.....اسأل الله أن يحفظه أينما كان ويسعد قلبه......ربما المعسكر هو أفضل مكان لينشغل عن مأساة حياته.......زواجه الفاشل!.."

وضع يده على كتفها يواسيها هاتفاً:
" ربما يكون هناك أمل بعد الحكم على الوغد....ربما تعقل ابنته وتعي كم كانت هي مخطئة بحق هادي ....الأمل بين يديها ....إن عادت تحمله له فأنا واثق كيف سينقلب ويتبدل حاله مهما حاول اخفاء مشاعره أمامنا مدعيا أنه ليس مهتم بها او لا يريدها ......غضبه جاء موازي لعشقه ....فلتأتنا بالأمل ابنة عاصي ليعود لنا هادي السعيد..!!.....رغم أن قصتهما لا يستوعبها عاقل....عشق الأعداء......"

زفر آهة يائسة مردفاً :
"آاه كم أن شقيقك شخصاً صعباً يفعل ما بدماغه.....ماذا لو أعطى نفسه فرصة مع فتاة تستحقه......مثلا كتسنيم او رفيف.... "

لوت فمها بعدم اعجاب لكلامه وردت:
" أتريد الحقيقة؟..."

ركّز معها فأكملت:
" لا هذه ولا هذه تناسباه..."

" كيف قررت؟"

سألها فأجابت:
" كلتيهما جميلتين وذاتا حسب ونسب .....لكنهما ليستا من ذوق هادي.....أنا أعرف ذوقه جيدا.......تسنيم فتاة مطيعة لأبعد الحدود إن قال لها اللبن أسود ستوافقه....وهادي يلزمه من تشاكسه قليلا او تتدلع عليه لترضي غروره وتحرّك حياته لا لتعيشه روتين ممل بطاعتها العمياء.....أما رفيف فهي جريئة بشكل مبالغ كونها تربية الخارج ووالدها منفتح اعطاها الحرية الكاملة........لقد قابلتها صباح ثاني يوم من زيارتها لأهلي.....يا الله مع أنها مرحة وابنة ناس الا أن جرأتها مستفزة وفيها تملّق.....وهذه النوعية اكثر ما يكره هادي....يريد أنثى رقيقة بريئة تكون تحت جناحه ولا تبارزه بالجرأة فتفقد الحياء وانوثتها..."

" يعني نعود لابنة عاصي....هي من تحمل الصفات التي يريد...."

عبست متنهدة وأجابت ناظرة للأرض:
" ليتها كانت ابنة أناس آخرون....ليتها ....لكن هذا نصيبه شقيقي المسكين ...."

صمتت قليلاً وسلطت بصرها عليه وهتفت:
" آه صحيح.......أخبرتني أمي أنك أنت من ستتابع القضية مع رفيف ....هل هذا صحيح.؟!..."

" أجل......طلب مني هادي هذا سابقاً....كان بإمكانه التوفيق بين المتابعة معها وشؤون المعسكر لكنه قرر غير ذلك......الله أعلم ما يدور برأسه..."

عبست بدلع ومدّت يدها تداعب ياقته وهمست:
" ألا يمكن لأحد غيرك التواصل معها ؟!...مثلا كأحمد؟!.."

ضحك ضحكة رجولية وأجاب:
" أحمد؟!....ورفيف؟!.....أتريدين أن تقوم القيامة؟!.....رفيف إن قابلت أحمد بشخصيتها هذه التي تقولين عنها سيحولها من محامية لمجرمة وسيخرب قضيتنا........يا إلهي مجرد التخيل مرعب ....إن كان هادي خلقه برأس أنفه فشيخنا لا خلق لديه من الأساس بما يخص النساء عامة والجريئات حد المبالغة خاصة ....."

أخرج نفساً قويا واردف:
" آاه منك يا أحمد أنت الآخر... متى سنفرح بك أيها الغراب المنحوس.....ابتلاني الله بشلة نكد.."

قالت ضاحكة:
" لا تناسبه إلا تسنيم.....كما يريد... محجبة...خلوقة.....خجولة....مطيع ة وبالطبع جميلة!.....نصيحة لا تفلتوها منه....ايجاد فتيات جيدات بهذه الأيام أمر صعب....."

رد عليها وكأنها أصابت:
" أتعلمين ...لقد اقترحتها عليه منذ زمن....لكنه كان بأوج عزوفه عن الزواج وتشبثه بقراره.....ثم بعدها نسيت الموضوع وبسبب ما مر به هادي هي من جاءت في بالي لتخرجه من احزانه........من الجيد أنك ذكرتني بها فهو أصبح ليناً بعض الشيء ولا يرفض رفضاً قاطعاً كالسابق بسبب ضغط والدته عليه لتفرح به......"

قرصها من خدها بين اصبعيه وغمزها متابعاً:
" فلتسلمي لي يا ضفدعتي النبيهة....سأكثف جهودي لإقناعه.......مؤكد سيقتنع بها...."

ثم تنحنح بعد انتهاء كلامه وعاد ليسألها:
" لم تقولي ....متى ستذهبين الى بيت أهلـ....."

قبل أن يتابع جملته مد جسده نحو نافذة المطبخ يطلّ برأسه ليتأكد مما لفت انتباهه ثم شهق معترضا:
" ويلك مني يا ضفدع.......هل هذه المسؤولية التي اعطيتك اياها؟!..."

استدارت بالحال تنظر لما ينظر وهي تقف على أطراف أصابعها لتتمكن من الرؤية ولما نجحت أرخت ملامحها وقالت ضاحكة لتستفزه:
" ما لك عليه يا سيادة اللواء....لقد تعب حقا بمساعدتك لا تنكر......فليدلل نفسه الآن !...لا تضخّم الأمر.."

رمقها بنظرة استنكار وتعالي ثم اتسعت عيناه بصدمة عندما اعاد عيناه للخارج وهتف:
" لاااا هذا كثير....وردتي البنفسجية التي ربيتها شبر بمتر يقطفها شقيقك الضفدع...."

ثم شهق شهقة أقوى من ذي قبل وهمّ للخروج بغيرة وحميّة فأوقفته تمسكه من معصمه هاتفة:
" إلى أين؟!.."

قال بعدم رضا ينفث أنفاسه الحانقة:
" قطف وردتي وصبرت......أما أن يقطفها ذاك اللعوب ليضعها على شعر ابنتي ملأ فلن أسمح له ....!!....ما كل هذا التقارب !؟..."

ضحكت من غيرته وهتفت:
" ما زالا صغاراً ما بك انفعلت ؟!.."

ألقى كلماته واثقاً بحدسه :
" أي صغار؟!......نحن الآن نعيش مع أكثر جيل مخيف.....الفأر يلعب في صدري أنا غير مرتاح لشقيقك خاصة أنه في سن المراهقة..!!.."

أنهى محاضرته وولاها ظهره بعزم قاصداً هدف واحد ووحيد وهي أكثر ما تعرفه !!.....فتمتمت مستسلمة:
" آه أيها الشبر ونصف ...كم سيتحمل عنقك من وراء صفعات الأشقر!!.....كن ذكياً وتوارى عن أنظاره يا أخي عندما تقترب من ملأ......ألا تعلم أنها أغلى من عينيه ؟!....لك الله ولتتحمل نتيجة غباءك وكشف نفسك أمامه.!!"

رفعت رأسها للحائط تنظر للساعة وقالت لنفسها:
" يا الهي ....سأتأخر عن سلمى....إنها تحتاجني الآن..."

وأسرعت خطاها قدر الامكان بعد ازدياد حملها تصعد السلالم متجهة الى الحمام لتحضر نفسها وتوضب أغراضها التي تحتاجها من أجل ليلة زفاف صديقتها لتأخذها معها وبعد أن أنهت كل شيء وتجهيز نفسها....جلبت قصاصة ورقة وكتبت [ لا تنسى.....بيتي في أمانتك....لا أريد أن أرى قشة بغير مكانها بعد احتفالكم وإلا تعلم كيف يكون عقابي.....وقد أعذر من أنذر سيادة اللواء....]

وضعتها على طاولة الزينة ثم حملت أغراضها ذاهبة بحماس للقاء صديقتها العروس.....!!

×
×
×

بدأ يتوافد الأصدقاء لبيت سعادة اللواء ومن دعوا الى حفل الحمام من الرجال......الشاعر الخاص بالزجل الشعبي يمسك مكبر الصوت ويجلس بينهم ليحيّي الضيوف بطريقته الخاصة.....والحلاق يفرد أدواته تجهيزاً لحلاقة العريس......أجلسوا (بلال) على كرسي وسط الساحة وبدأت أول مراسم الاحتفال وهي حلق وتهذيب ذقن وشعر العريس وأصحابه يلتفون من حوله يصفقون له مع الاغنية الشعبية الخاصة بالحلاقة ولما أصبح جاهزاً غمز (سامي) للأصدقاء ليبدؤوا بطقوسهم وهي تلطيخ العريس بسكب العصائر عليه وما تطاله أيديهم فصرخ (أحمد )معترضا:
" سامي.... لمَ هذا التبذير؟!..."

أجاب هازئا:
" من دعاك أنت أيها الغراب ؟!....نريد أن نفرح !!.....هذه عاداتنا هل نغيرها لحضرتك سيد أحمد؟!......فليلعبوا الشباب ويبتهجوا بنتف ريش بلبلنا...."

حرّك رأسه رافضاً باستياء وقال مشيراً لما سكب على الأرض:
" انظر....هذه نعمة الله .....من قال أن عليك اتباع العادات التافهة ؟!....."

تأفف الاشقر الغليظ واختصر الطريق على نفسه كي لا يقلب شيخنا الوسيم الاحتفال لمحاضرة شرعية أو خطبة الجمعة فاقترب منه وهمس:
" ارتح يا غراب......لقد عملت حساب هذه اللحظة.....أي دروسك التي لا نهاية لها.....لذا جلبت من البقالات عصائر بتاريخ منتهي الصلاحية من أجل اغراق بلبلنا بها .....يعني بلبلنا أولى بها بدلاً من سكبها سدى......هل أنت راضي الآن ؟!..."

تبسّم ورد مستفسرا:
" أرحتني......لكن هل ستكمل طقوسك الغليظة دون البيض؟!.....ماذا فعلت بهذا؟...هل أتيت ببيض فاسد يا ترى لتعمّ رائحته بالأرجاء.."

تنهّد بتصنع وهتف:
" احمد الله ان زوجتي حامل فألغيت هذه الفقرة لأني مهما اخفيت من جرائم ما سنفعله بالبيت من وراءها مع عريسنا لن تخفى عليها رائحة البيض سواء صالحة او فاسدة....فأنا احتفل الآن تحت التهديد....هي لا تدري عن الكوارث التي تحدث ببيتها..."

ثم رفع كتفيه بتفاخر وأردف:
" لكن بالطبع العصائر وحدها لن تكفيني لأشمت ببلال وهو معذّب ...."

كانا يتحدثان بينما الآخرين منشغلين بسكب العصير على العريس الذي لم يستطع الافلات منهم في ساحة العراك وهو يحاول الفرار منهم يلقي شتائمه عليهم ..!!...

رفع (أحمد) حاجبه بتساؤل بعد جملة (سامي) فأكمل الأخير مشيرا لأكياس تحت الطاولة:
" لقد جلبت إسمنت بودرة لنرشه بها وطين وألوان مائية خاصة بالأطفال بدلا من الطحين ومن البيض وصلصة البندورة ......"

ثم دفعه بخفة من كتفه مردفاً يحفزه:
" تناول كيس واسكبه على بلال ....هيا..."

رفع يده باستسلام وقال له:
" شكرا....اتركني من كل هذا......لا أحب هذه العادات.....سأجلس لأتفرج على جنونكم جانباً.....هداكم الله...."

رمقه باشمئزاز مصطنع وهتف:
" اذهب اذهب......أصحاب نكدين لا تعلمون كيف تسعدون أنفسكم ......تخلصت من رأس الصوان هادي فأتيتني أنت....."

وجّه يديه للسماء ناظرا لفوق واستطرد:
" صبرني يا الله على شلة المناحيس قاطعي الفرح...."

وعاد بعدها ليستمتع مع البقية في مهمة تلطيخ وتعذيب العريس ولما انتهت هذه المرحلة.....حان وقت دلوف (بلال) للداخل من أجل تنظيف نفسه والاستحمام مع تطفل بعض الاصدقاء لإزعاجه .....انتهى من الحمام وارتدى بدلة الزفاف الرسمية بمساعدتهم وهتافاتهم الحماسية من أجله ....اقترب منه المستضيف ورش العطر الفاخر عليه بكل حب وفرحة من عمق القلب لأجله ثم أخرج ليرة ذهب وعلّقها على صدره هدية زفافه وتوجهوا للخروج من المدخل للعودة الى ساحة الاحتفال في حديقة بيت سيادة اللواء وما إن حطت أقدامهم الخارج حتى حمله شقيق الأشقر على كتفيه ليزفه راقصاً به ثم تعالت أصوات الرصاصات التي أطلقها (سامي) بالهواء بعد سحبه لمسدسه تعبيراً عن الفرح والسرور لصديقه وتزامناً مع غناء الشاعر الشعبي إحدى أغاني الحمّام :
[ طالع من الحمّام.. بإيده ضمة ورود
نادوله ع أعمامه ..طخوله بالبارود
طالع من الحمّام....ريته يتهنّى
نادوله ع احبابه....العريس بستنّى
طالع من الحمّام...وإمه ترضى عليه
واسحجوا للعريس واصحابه حواليه
ويا شمسي غيبي من السما عالأرضي في عنا عريس
عريسنا زين الحِمى ما يرضا بالمهر الرخيص]
((من التراث الفلسطيني))

تقدموا وهم يتراقصون وفرحة عارمة تملأ المكان ولما أصبحوا في وسط الحديقة ظهرتُ لهم من خلف الناس اتقدم نحوهم شامخاً بمشيتي ليصيب الجميع الذهول والتفاجؤ غير مصدقين أنني أمامهم ....توقف الغناء وتوقف الاحتفال ونحن الأربع أصدقاء نتبادل النظرات لبعضنا باشتياق ووفاء للحظات ليعود ويكمل الشاعر الشعبي غنائه مع دقات الطبل ولم أشعر بنفسي الا وأنا فوق بعد أن حملني أحد الشبان على كتفيه ليتبعه آخر يحمل (أحمد) ثم (سامي) يقربونا الى العريس فشبكنا أيدينا نرقص معا وتضاعفت سعادتنا واكتملت الفرحة عند عريسنا الذي حضنني بشدة فور انزالنا هامساً بحرارة:
" الحمد لله الحمد لله أنك أتيت....كنتُ ناقصا دونك....والآن لا يضاهيني أحد بالسعادة ..."

لقد فعلتُ المستحيل لأنهي أهم أعمالي بالمعسكر وآتي من أجل الوقوف جنب اصدقائي بأجمل أوقاتهم وأغلاها !!.....(بلال) اعز صديق عرفته اثناء اللجوء وأفضل رجل أهديته لعائلة خالتي (أم سلمى) ........لم يكن باستطاعتي تفويت فرحتي به أو كسر خاطره فقدومي كان واجباً عليّ وحقٌ له..!!.....انتهى الاحتفال وذهب الناس الى بيوتهم ليتجهزوا لوليمة الزفاف ليلاً......بقينا أنا والأصدقاء وأخوة توأم روحي وبعض الأقارب في الساحة التي أصبحت شبه فارغة من الجمهور والتي تغطيها فوضى ليس بعدها فوضى بعد العراك الذي أحدثوه ....شردت بالمنظر الكئيب ازائي وكأنها بقعة حرب ...ثم وجهتُ كلامي لـ(سامي):
" من سينظف هذا كله سيد سامي؟!...هل أشفيت غليلك بتعذيب بلال؟!.....بل السؤال الأهم ...هل شقيقتي تعلم عن الكوارث التي حدثت في بيتها؟! ...."

أسند ظهره للخلف بغرور مصطنع ووضع ساقاً فوق الآخر وقال:
" صبركم عليّ.....سترون......ساعة وسيختفي كل شيء بإذن الله....."

غضن (أحمد) جبينه وقال:
" تحتاج أيام لتنظيف مخلفاتك....لا تنسى علينا أن نتواجد بالقاعة لنصلي المغرب هناك جماعة ونستعد لاستقبال الضيوف"

وأشار للنوافذ المطلة على الحديقة مردفاً:
" أنظر هناك....اختفى لون الزجاج من رشقات العصير والإسمنت والألوان المائية......صدقني لو أنا بدل زوجتك لدخلت بك السجن المؤبد بعد فعلتك هذه...."
بعد قليل وصلت سيارة شرطة كبيرة....تطلعنا باستغراب جميعنا إلا سيادة اللواء كان يبتسم بثقة وعجرفة....انتصب واقفاً ثم خطى نحو مدخل الحديقة......دقيقتان او ثلاثة ليدلف الى الساحة رجال مكبلين بالأصفاد بأيديهم وأرجلهم.....كانوا ستة مساجين......ارتبنا من هذا المنظر .....وقف عنصرين من الشرطة كالحرس على البوابة الكبيرة وأشار صديقي لاثنين آخرين لفك قيودهم......جلس على كرسي بعد أن طلب من شقيقي احضار حاسوبه النقال من الداخل.....أراهم شيء وركّز يشرح لهم ثم عاد إلينا يمشي متبختراً ...فقال (أحمد):
" ما قصة هؤلاء المساجين وماذا أريتهم؟... أمرك مريب .."

تطلعنا عليه جميعنا ننتظر إجابته فهتف منتشياً:
" هؤلاء مجرمين متهمين لقد عذبوني بقضاياهم.....لم أستطع ايجاد أي أثار لجرائمهم ....لم يتركوا دليلاً واحداً...لولا اعترافهم بألسنتهم لكانوا أحرارا..."

ضيقتُ عينيّ وسألت مخمّناً ومرتاباً:
" لمَ أتيت بهم هنا؟....ولم حررتهم ما داموا مجرمين؟....غير مطمئن لحركاتك..."

رفع ذراعيه يشبكهما خلف رأسه وأجاب وهو يتمطى:
" بما أنهم متخصصون بإخفاء الجرائم فكرت بالاستفادة منهم...."

" كيف؟!"

سأله (بلال) فرد بالحال:
" أريتهم البيت بزواياه من الداخل والخارج كيف كان قبل حدوث فاجعة الحمام وطلبت منهم أن ينظفوه ويعيدونه مثل السابق دون أي زلة وبساعة فقط....ليخفوا جرائمي قبل أن تمسك بي أم سليمان !!..."

أطلقت ضحكة مبتورة ساخرة وقلت:
" مجانين....لو كنت مكانهم لفضحتك في المركز..."

كشّر وأجاب متحفزاً بدهاء:
" هيه أنت....هذا مقابل اعفاءهم غداً من الأعمال اليومية المكلفين بها بالإضافة لأزيد لهم فسحة التنفس عشر دقائق أخرى.....لا يوجد شيء بلا ثمن اليوم.....تبادل مصالح يعني!..."

ثم تركنا يسحب كرسيه وجلس وسط الممر الذي ينتصف الساحة وهو يحمل عصى مكنسة كالراعي يهش بها على غنمه ...يلقي أوامره عليهم ويوجههم دون أن يبالي لأي أحد...!!.....لقد انشغل بإخفاء جرائمه أما عريسنا (بلال) انضم لأشقاء الغليظ فبتنا أنا و(أحمد) لوحدنا نجلس في طرف الحديقة بعيداً عن البقية.... بصوته الرزين سألني باهتمام:
" كيف الأمور في المعسكر؟!.."

غمغمت مجيباً:
" الى حد الآن تمام....الحمد لله"

أردف مستفسراً:
" ألا جديد بشأن عز الدين ومساعده خالد؟! "

سحبتُ كرسي قريب مني لأتكئ بذراعي على ظهره وقلت بوهن بسبب ارهاقي في أيامي الأخيرة:
" لم نمسك شيئاً عليهم....أخشى أن نظلمهم إلا أن ما زال قلبي غير مرتاح لأمرهما !!.."

بملامح قاسية هتف مشدداً:
" بالضبط...أمرهما مريب وخاصة مساعده حركاته مشبوهة....يعني لا مكان للرحمة والعطف حتى نقطع الشك باليقين..."

" معك حق....انتبهت لحركاته ...نريد طرف خيط فقط لنتأكد!..."

تنهدتُ بعمق وأردفت:
" مشكلتي أنني منشغل بعدة أشياء هنا وهناك لذا لا أستطيع أن أركّز كامل اهتمامي بهما رغم أنهما في سلم الأولويات...."

بشهامته ووفائه ربّت على كتفي يساندني ورد بجدية:
" لا تهكل همّاً أبا محيي...سأتولى مسألتهما بنفسي في حال مجيئي للمعسكر...."

طبطبتُ على فخذه ممتناً وبقيتُ صامتاً فنفث أنفاسه ثم أرجع ظهره للخلف يجلس براحة وأضاف بتردد:
" في الحقيقة أود الحديث معك بموضوع آخر.."

تطلعتُ عليه قاطباً الجبين منتظراً كلامه فاستطرد:
" أعلم ما مررت به الفترة السابقة حتى لو لم أعرف السبب الرئيسي لهذا...يعني أقصد بشأن زوجتك التي قررت هجرها!!..."

تبدّلت ملامحي للخشونة دون أن أنبس ببنت شفة فأكمل بلباقته وأدبه :
" ليس من حدّي التدخل...وقد أخبرني سامي أنك لن تسمح بهذا...لكن.."

بنبرة جافة مرتابة خفيضة سألت:
" لكن ماذا؟!.."

ردّ واثقاً:
" برأيي عليك حلّ مشكلتك من جذورها!."

" ماذا تقصد؟!."

سألت ليجيب بهدوء معاتباً:
" لا يمكنك أن تبقيها هكذا معلّقة....يعني ألّا تكون زوجاً لها وأن لا تقوم بواجباتك اتجاهها وأقلها السؤال عن أحوالها وكذلك ألا تحررها منك لترى حياتها..."

تشنّجت عضلاتي استعداداً لا أود أن يتدخل أحد بقراراتي وقلت بصوت خفيض شديد:
" أحمد من فضلك....الموضوع يخصني وحدي وأنا أتحمل كافة المسؤولية بأي قرار اتخذه..."

هتف بشجاعة:
" كلا يا هادي....قم باختيارك!!....إما أن تهتم بها مهما كان ما بينكما أو تحررها منك..."

استشطتُ غضباً بداخلي منه ومنها ومن حالي إلا أنني حاولت المحافظة على هدوئي الخارجي لأجيب:
" أحمد....أنا هجرتها ولي أسبابي وأعرف تماماً ما أفعله.....قلت لا أريد التدخل من أيٍ كان..."

ردّ دون اكتراث لاعتراضي:
" للهجر وقت ووقتك شارف على النفاذ.....لا أريدك أن تؤثم يا صديقي!!.."

ضغطت على شفتيّ واستدرت جانباً بينما عيناي كانتا تشعّان بلهب الاشتياق والغضب معاً والخائن خلف أضلعي ضائع بينهما ثم أعدتُ وجهي إليه مجيباً بقهر:
" أنت ترى بماذا انشغلت....أريد الاطمئنان على جميع مهماتنا ثم الالتفات لمسائل حياتي لاحقاً....بالطبع لم أنسَ مسؤولياتي....فقط احتاج للقليل من الوقت لتسوية أموري على الحدود ثم بعدها سأهتم بأموري الشخصية.....أنا يا صديقي لا أفكر بنفسي أبداً....أما هي تركتها عند إنسانة تفديها بروحها ...مربيتها التي تلقي بنفسها للموت حماية لها.....وهناك فتاة تقية مؤمنة فلن أخاف من ضياعها.... هي بأمان وأثق أنها لن تموت جوعاً ولن تخدشها وردة عندهم بإذن الله ..."

بنبرته الهادئة ذاتها قال:
" كل هذا لا يسد حاجتها لك.....كزوج... وخاصة أنها مقطوعة من شجرة.."

بقهرٍ أكبر وانكسار وطعم المرار هتفت:
" ربما أنت مخطئ ....هي لا تحتاجني .... صدقاً وأنت أكثر من تعلم ..لا يمكنني الآن الانشغال بحياتي وحياتها ....فروحها ليست بخطر بينما على عاتقي شيء أكثر أهمية عليّ الاعتناء به..."

لم يكن راضياً من ردي الى حد ما فقال باتزان :
" أعلم أي مسؤولية تحمل... أعانك الله يا صديقي...وأجل أنت أدرى بحياتك وعذراً لتدخلي لكني أنصحك بألا تنسى واجبك فعليك حقٌ لها ......أحببتُ تذكيرك بهذا....فذكّر إن نفعت الذكرى!.."

اومأتُ ايجاباً رامشاً بعينيّ شاكراً اهتمامه بمجاملة ولم أفصح له عما يدور في ذهني....لا أريد أي تأثيرات من أحد....أردتُ أن أدرس كل ما يخص علاقتنا في قلبي وعقلي سوياً....ونويت!....نويت عند ذهابي لتلك البلاد لإحضار أمانة أبي بأن أزورها على الأقل....فأنا متأكد أنها لن تأتي معي وخاصة أننا ننتظر موعد المحكمة وصدور الحكم....أي أننا الآن داخلين على أكثر وقت حساس بيننا...فأحدنا سيكون خاسر والآخر منتصر....أيٍ كان منا هذا او ذاك بكلتا الحالتين ربما سنخسر علاقتنا وكذلك حبنا....!!....لذا تركتُ محاولة ترميم الشروخ بزواجنا بشكل جدي غير قابل للنقاش بعد المحكمة فقط..!!....إلا أنني سأزورها...سأزورها.....إذا شاء لي ربي..!!....فإذا شاء كان وإذا لم يشأ لن يكن....!!

×
×
×
في العاشرة ليلاً انتهت مراسم وليمة زفاف صديقنا الغالي ...أخذ عروسه إلى الشاليه المحجوز باسمه هديتي له لقضاء أسبوع من العسل وعاد كلّ منا إلى بيته........قبيل الفجر تجهّزتُ للرحيل إلى أرضي ومكاني على الحدود.....دخلت غرفة والدتي اودعها واستودعها الله وهي نائمة ثم توجهتُ لغرفة صغيرنا ....قبّلت جبينه وعدّلت الغطاء عليه بحنو أبوي ثم استودعته الله هو الآخر .....لن نتخلى عن عادتنا عند الافتراق.... نودع بعضنا لأننا لا نعلم إن كان لنا نصيب باللقاء أم أن هذا آخر لقيانا....فنحن دائما نذهب للقتال مدركين أنه ربما يكون.....ذهاب بلا عودة.!!......ولأني ابغض رؤية دموع نبض الحياة لم اودّ أن اودعها وهي مستيقظة فدموعها تنزل كالجمر على بدني لذا اختصرت كي لا تتوجع ويزداد مع وجعها وجعي........تركت قلبي ودعائي لهم وخرجت أشق طريقي الى الجنوب الغربي...الى ثورتي وحربي.....!!

~~~~~~~~~~~~~~~~~~

مرّ علينا اسبوعين لم يكتملا من بعد طلب (رفيف) مني أن اجلب أمانة أبي لأحلها واعطيها الاسماء!!... كنتُ خلال هذه الأيام ماكثاً في المعسكر وقد نجحتُ بتوفيق من الله بإتمام مهتمي التي خططت لها بيدي وصممتُ على تولّيها بنفسي!!...الأهم هو أننا خرجنا منها بإصابات متفاوتة بين الطفيفة والمتوسطة دون حصاد بالأرواح !! ...زادت بعدها مسؤولياتي وتراكمت مهماتي فتضاعف الضغط على كاهلي بشكل أكبر فلم أفلح بالذهاب لتلك البلاد رغما عني لجلب الأمانة....وبهذا ضاعت مخططاتي وفشلت زيارتي لتلك البعيدة العنيدة......من سيشعر بي وبقلبي المكوي ؟!..من سيشعر بجسمي الذي أمسى كحطبٍ يتلظى بالنار؟...إنها نار اشتياقي لها وقلقي عليها!!.....أكاد أختنق لا استطيع التنفس...يؤنبني ضميري بشدة.....أوجاع وأوجاع تحتل كل خلية بي!!....أنا نويتُ زيارتها فخرجت الأمور عن سيطرتي !!....يا الله وحدك الأعلم بحالي .....يا الله وحدك من تعلم نيتي ...أنا عاجز أمامك يا الله ولا اهتدي لشيء....فاغفر لي تقصيري بحقها!!....العراقيل التي أتت في طريقي جعلتنا نضطر لنستعين بأبي (ابراهيم) كي يحضر تلك الأمانة من بيتنا الهاشميّ الى معسكرنا في تلك البقعة أي المقابلة للوطن على أرض اللجوء...!!.....استلمتُ الأمانة من السيد (ماجد) الذي قام بدوره بالالتقاء به هناك.....دخلتُ الى مكاني والبال مشغول....كيف سأفكر وفي قلبي تقرع الطبول؟!....غير مطمئن !!....أريد سماع كلمة واحدة فقط تطمئنني عليها !!.....فكرت حتى اهتديت للوصول إليها......أجل السيدة (ايمان)...... ما زلتُ احتفظ برقمها معي....جلست على مكتبي في غرفتي الخاصة وأغلقتُ على نفسي!!....أخرجتُ الهاتف وترددتُ قليلاً!....الخائن هدر بجنون!....أكان قلقاً أم شوقاً ليسمع خبر عن حبيبته والسلطانة عليه ؟!..لا أعلم....العلمُ عند الله ومن ثم خائني!!.....زفرتُ أنفاسي لاسترجع ثباتي ولأنظم دقات نابضي الملهوف!!.....ضغطتُ على اسمها وبعد عدة رنّات ردت بالتحية لأرد بمثلها....سألتها عن حالها وأخبرتها عن افتقادنا لها بمجاملة لطيفة ثم دلفتُ إلى لبّ الموضوع :
" سيدة إيمان.....أريد أن أطلب منكِ طلباً لو سمحتِ!.."

ردت بشهامتها المعتادة:
" أنت تأمر سيد هادي!."

" لا يأمر عليكِ ظالما!!.."

قلتها وتنحنحتُ مكملاً بخجل رجولي:
" أنت تعلمين بما حصل بيني....و...وبين تلك...لا؟!.."

بمكر طيّب سألت راسمة ابتسامة على وجهها:
" من تلك؟!.."

قلتُ بعفوية:
" تلك....يعني....أقصد... ألمى!!.. "

ردت واثقة متعجبة:
" وأخيراً تذكّرتها.!!...لا أصدق أنك تفتح سيرتها أمامي!....أتعلم أنني كنتُ سأفاتحك بالموضوع لكن السيد أبا لؤي منعني تفادياً من ردة فعلك أيها الفهد الأسود الغاضب...!!..."

أطلقتُ ضحكة مبتورة وأجبت مختصراً:
" يعني....هذا ما حصل!....لا يمكننا الآن تغيير شيء!.."

وعدتُ الى نبرتي الجادة قائلاً :
" لا بد أنك تتواصلين معها وتعرفين اخبارها....أليس كذلك؟!.."

تنهدت بأسى وردت:
" مع الأسف ليس معها مباشرة.....هي سامحت خالتها لأنها توفت لكنها ما زالت حانقة على البقية!!...نتواصل أنا ومربيتها بالخفية عنها.....إنها أمانة خالتها ولا يمكنني تجاهلها!!.."

ضربتني على الوجع ذاته.....أجل هي أمانة السيدة ( فاتن) التي اوصتني بها!!....كم من كلامٍ أسمعتني لأجلها.؟!....حمّلتني مسؤوليتها ولا تدري إلى أين وصلنا ....آه سيدة (فاتن)....أين أنت؟!...ليتك معنا لتحتويها....لتحتويها بجنونها وسكونها...بكرهها ومحبتها.....لتداعبي لها شلالها الأسود....ذاك معذبي الذي اشتقتُ لرائحته حد الهلاك!! ....أنا لم أكن على قدر حمل هذه الأمانة الصغيرة المتمردة الشرسة .....ابنة شقيقتك أتعبتني معها وأحرقت كل طاقتي...!!....آه تتلوها آه ...تلك الآهات أصبحت اللحن لنبض قلبي!! .....لا أدري كيف أحل مشكلتي معك يا ألمتي؟!....لا أدري..!!.."

كنتُ ألوذُ بالصمت فأردفت هي:
" المهم سيد هادي.....صحيح أن زوجتك بأمان الله إلا أن هذا لا يعني ألا تسأل عنها وألا تحاول اصلاح ما بينكما...."

نفثت أنفاسها بهدوء وأكملت بنبرة أعلى:
" حسناً أنا أعلم مدى انشغالك ووصلني عن تصاعد الاشتباكات وما آلت إليه الأحداث في جهتكم ....حماكم الله وسدد خطاكم لكن أرجوك ثم أرجوك ألا تنساها من بين أولوياتك وقم بزيارتها حين تسنح لك أول فرصة!!....."

بنبرة ثابتة قلت:
" إن شاء الله سيدة ايمان وهو كذلك!!....لكن طمئنيني عن وضعها العام فأنا مشغول البال لأني لم استطع زيارتها كما كنت أنوي.."

ردت مسرورة:
" لا تسأل....تلك الصغيرة المدللة افتتحت مشروعاً صغيراً يأتيها بدخل وأيضاً لتتسلى به مع ابنة شقيق المربية منذ أيام ....مطبخ للطلبيات من أجل المناسبات..."

تعجبت من هذا الخبر ومع تعجبي كان اعجابي!!....حبيبتي سموّ الملكة المدللة تعمل؟!.... أين كنا وأين أصبحنا؟!....لكني ما زلتُ حانقٌ عليها لتركها الأهم فسألت بجدية استفسر دون أي تعليق عمّا قالت رغم يقيني بالإجابة:
" ألم تغير رأيها بشأن استئناف دراستها ؟!."

" كلا...سألت السيدة سهيلة واخبرتني أن هذا الموضوع مغلق تماماً عندها ولا تسمح بفتح سيرته!!.."

أتمت جملتها فتمتمتُ بعد أن اعتصرني الغيظ :
" حمقاء...ما زالت حمقاء لا تفهم أين مصلحتها!.."

وبينما نحن مندمجان بحديثنا وصلني صوتاً مدوياً فتحركتُ بالحال من مكاني متأهباً....كانت غارة من قذيفة مدفعية سقطت على أرضٍ غير مأهولة بل جرداء قريبة منا...!!....اختفى صوت السيدة (ايمان) ...نظرتُ للتغطية فوجدتها أصبحت ضعيفة....صرتُ أنادي عليها .....كان كلامي يصلها فتابعت حديثها ظناً منها أن كلامها يصلني......وددتُ اخبارها بأنني سأغلق لأن الاتصال سيقطع لكنها سبقتني تقول جملتها الأخيرة والتي لم اسمعها بسبب انقطاع الخط فيما بيننا نهائياً وقد اعتقدت هي أن الجملة وصلتني :
" أبارك لك بارتداء ألمى للحجاب أخيرا الحمد لله....مربيتها من بشّرتني....ثبّتها الله "

وضعتُ هاتفي جانباً وخرجتُ أتفحص الأوضاع واستشف الأخبار من رجالنا....بعدما اطمأننتُ أن الوضع مستتب حالياً وأن الاتصالات عادت للعمل عدتُ أدراجي الى مستقري !....وقفتُ على الباب ونظرتُ للهاتف فوق سطح مكتبي...ابتسمتُ متنهداً براحة ومتمتماً:
" الحمد لله.....زوجتي حبيبتي بخير!.....يمكنني الآن خوض معركتي بسكون مع أمانة أبي!!.."
×
×
×

" يا الله ساعدني"

زفرت أنفاسي راجيا من الله أن يسهل أمري...لقد اوشك المؤذن على رفع آذان الفجر....يكاد رأسي ينفجر...صداع صداع من كثرة التفكير......ما زلتُ في نفس الدائرة....منذ المساء وأنا أعارك ما بيدي.....أريد طرف خيط بسيط لأفك الرموز وأكشف عن أكبر أسماء المعاونين لـلنجس (عاصي رضا).....ورقة أمامي مليئة برسومات كرموز مشفرة رسمها والدي كي لا يفهمها من وقعت بيديه عن طريق الخطأ.!!....عليّ تذكر كل شيء علمني اياه في صغري....فهذه تختلف عن رموزنا الأخرى لأنها أشد أهمية وحساسية....اقلب وأشقلب أتحدى نفسي....فكر يا هادي فكر...هذه وظيفتك الآن.....نهضت عن الكرسي في غرفتي الخاصة بالمعسكر وصرت أصول وأجول هنا وهناك ممسكا بصدغيّ...." يا رب...يا رب..."...عدت لمكاني أحدق بالسطر الأول ثم اتخطاه واروح للأخير اتخبط بينهما....هذه رسومات من معادن ....كمسمار وحذوة حصان وسيف وأخرى أشكال....بعد دقائق محروقة من وقتي.....هتفتُ بنجاح:
" أجل ...أجل...ربما حداد..."

(حداد )هو كنية الاسم الأول!!...فتحت محرك البحث باحثاً عن كل السياسيين في بلادي ممن يحملون هذه الكنية...."اووه إنهم كثر...." قلتها هامساً ثم تابعت مهمتي.....اقتصرت على الأسماء التي وجدت بالساحة السياسية منذ حوالي خمسة عشر سنة أي قبل اغتيال والدي....تقلصوا لخمسة ...أخذت أقارن بينهم وبين الرموز أمامي الخاصة بهذا الاسم فحمدت الله بعد أن توصلتُ لنتيجة....لقد كشفت الاسم الأول ولكني اصبت بعدها بخيط من خيبة الأمل........صليت الفجر وتابعت باقي الأسماء وقد اهتديت لفكها بشكل أسرع فالصعوبة كانت تكمن بكيف ابدأ.....اتصلت بالسيد( سليم) فرد بصوتٍ ناعس أجش:
" اصبحنا واصبح الملك لله ...ما زلت على سجادة الصلاة "

قلتُ ضاحكا بقهر:
" هل نبحث عن أموات؟"

سأل بفضول:
" ماذا تقصد؟!.."

أجبتُ متنهداً:
" الاسم الاول هو للمرحوم صابر الحداد الذي توفي منذ ثماني سنوات بمرض عضال "

"من؟؟؟"

صرخ بها مصدوما ثم أكمل:
" يا الهي آخر شخص كنت اتوقعه....غير ممكن!!....رحمك الله يا محيي الدين...كيف كشفته وهو يختبئ تحت قناع الوقار والتواضع؟"

صمت وقال:
" والثاني؟!"

نطقتُ كلمتي بسخرية:
" لو تدري!!.."

"من؟!"

" من كان رئيساً للوزراء....نظمي سعادة....والد الزوجة الثانية للوغد عاصي...الذي هاجر لهولندا عند ابنائه..."

بنبرة جادة استطردت:
" عليكم جلبه للوطن بالقريب العاجل....وقبل أن يلفظ أنفاسه فهو ببداية العقد الثامن من العمر"

قال يطمئنني:
" لا تقلق.....أثق بالقاضي اسماعيل....سيشغل معارفه المربوطين بالجنائية الدولية من أجل اعادته.....ولو أعادوه جثة هامدة."

سألتُ مستبعداً الأمر:
" هل يمكنه يا ترى جلبه قبل محكمة الوغد ؟...أي قبل شهر على الأقل؟"

أجاب:
" معظم الاختلاسات التي حصلت كانت في عهده وهي موجودة بملف القضية وبالتواريخ والأرقام......لذا اطمئن سيكون طلبه طلباً عاجلاً وعلينا البدء من هذه اللحظة دون اضاعة للوقت....."

×
×
×

تعاقبت علينا الأيام برتابة قمنا بها بتكثيف جهودنا من أجل القضية ونجحنا بعد ضغوطات منا على المسؤولين باستلام قرار يستدعى به رئيس الوزراء السابق ( نظمي سعادة ) من هولندا الى أرض الوطن مجبراً لإجراء تحقيقات تخص قضايا جنائية وأمنية يشار أن له ضلع فيها مع نخبة من الخونة أمثاله!!.....تشابكت القضايا في بعضها وثار المتورطون بها يفضح أحدهم الآخر وكلّ منهم يكشف المخفي ليبعد التهم عنه أو يخفف من عقوبته وجاء أمر رسمي من القاضي أن يعقدوا الجلسة الأولى بعد اسبوع لتتبعها الثانية قبل المحكمة الرئيسية سامحاً بممارسة حقوقهم كتوكيل محامين للدفاع عنهم ....!!

~~~~~~~~~~~~~~~~

توالت أيام قليلة ولحقتها أخرى.... كانتا قد نفذتا فكرتهما بمساعدة خطيب (رهف) ثم روجتا للمطبخ بإعلانات بسيطة على قدر ماديتهما وكان المهم هو البداية وعدم القنوط والاحباط وانتظار الفرج وأن يسألن الله بأن يفتح عليهما ابواب رزقه الحلال المبارك به .....!!.....مع شروق صباح هذا اليوم جهّزت (ألمى) نفسها للذهاب لزيارة طبيبة النساء من أجل فحصٍ روتيني في قسم رعاية الأم والطفل.....وكان هذا مع اقتراب موعد محكمة الوغد والدها التي ستكون نهاية الشهر الجاري! .....ارتدت فستاناً سكرياً مرسوم عليه دوائر صغيرة باللون الوردي العتيق والحجاب بهذا اللون كانت قد اشترتهما من ربحهما اليسير من المطبخ.....مبهرة كما هي ....كل شيء يليق بها !!..أشرق بالبهاء وجهها!!...غابت ساعة عند طبيبتها ثم عادت الى البيت....عادت نقيض ذهابها....أين البهاء؟!...كيف اختفى؟!...بدت شاحبة شحوب الموتى منكسرة كغصن مثقل بحبات الزيتون ...حالتها يرثى لها ..تملّكها الهم ورافقها الغمّ....عيناها تملأها سحبٌ من الأحزان......أجلستها مربيتها قبالتها بعد أن ساورها القلق عليها فسألتها مرتابة بصوت مهزوز:
" ما هذا الحال بنيتي؟!....ما بك؟!..."

أجابتها متأثرة وبنبرة شجية يتبعها انحدار للدموع على خديها الباهتين:
" الطبيبة منعتني من السفر....قالت لي أن حملي في خطر وعليّ الاستقرار على الأقل حتى اجتاز هذان الشهران وصولا للسابع ....."

انخرطت ببكاء مرير وتابعت:
" كيف لا أكون مع أبي في أهم أوقاته؟!....ماذا سأفعل؟!....يا ربي ما هذا الحظ؟!..."

اقتربت منها بكرسيها المتحرك وسحبتها تضمها لصدرها تربّت على ظهرها تواسيها هاتفة:
" لا تزعلي حبيبتي....عساه خير.....ما منعتك إلا لمصلحتك ومصلحة الجنين وهذا الأهم .....لا تبتئسي صغيرتي....اسألي الله أن يأتك بالخير أما بما يخص المحكمة كلّفي محاميك هنا بالذهاب بدلاً عنك!....لا ضير!...لكل مشكلة حل....عليك الاستماع لتعليمات الطبيبة كلها وبعدها نحل باقي الأمور بإذن الله.....وإن لم تسافري هذا ليس آخر الدنيا.......اصبري ولا تضغطي على نفسك وضعي في بالك الاهتمام بصحتك وجنينك..."

كانت مصغية مستكينة على صدرها فأبعدتها عنها مازحة تداعبها لتبدل مزاجها وهي تقرصها من خدها قائلة:
" ها اخبريني .....هل ايضاً اليوم صممت كالسابق بألا تعرفي نوع الجنين رغم أنه أصبح الآن ظاهر بوضوح جنسه؟!....لا تقولي أنك تشبثتِ بقرارك ونحن نتوق لنعرف أي الاسماء سنختار لابننا او بنتنا....."

تبسّمت تجاملها وملامح الأسى لم تفارق وجهها وأجابت:
" قلت لك في السابق خالتي......أريد أن اتفاجأ بهدية الله لي......لا أريد أن ارهق نفسي بالتفكير لا بالاسم ولا بغيره....ألم تقولوا أنه يأتي ويأتي اسمه معه......إذاً فلننتظر ونرى أي النوعين سيزين حياتنا إن شاء الله.......سنختار حينها اسماً يليق به او بها.....لكني الآن خائفة!..."

تحشرج صوتها العذب في حنجرتها وتابعت بشجن وهي تطرق رأسها تحسس على بطنها :
" خائفة خالتي....مِن...من خسارته لا قدر الله بعد أن صار حياتي وأملي!!.."

نهرتها قائلة:
" لا تخافي ولا تفكري بتشاؤم!....اهتمي بتعليمات الطبيبة ووكلي أمرك كله لله....احسني الظن به واعلمي أن ما يأتيك منه هو خير مهما كان عطاءه .."

~~~~~~~~~~~~~~~~~

في دجى الليلِ كنتُ مستلقياً سارحاً بالغد وما سأواجه به .....حككتُ شعري فتذكرتُ أنه قد طال ..فأنا لم أجد سابقاً الوقت لحلاقته...فززتُ من مكاني قاصداً العسكري (إياد) لأنه هو من يتولى هذه المهمة وبما أنني متفرغاً هذه الليلة مع صباحها إذاً عليّ الاهتمام قليلاً بنفسي!....يجب حلاقته بتسريحتنا المعهودة.....الشعر القصير الذي يميز الجنود!!.....ناديته من أمام غرفتي بصوتٍ جهوري فأقبل مسرعاً رافعاً اصبعيه بتحية العسكر الخاصة هاتفاً:
" أمرك سيدي!!.."

قلت باسماً:
" جهّز ماكنة الحلاقة لتحلق لي شعري....لم أجد وقتاً من قبل!!.."

" سيدي!!."

حدّجته مستمعاً فهتف بنبرته المرحة:
" لو كنتُ مكانك لما حلقته.....بسم الله ما شاء الله تبدو كممثلين هوليود بشعرك الأسود الناعم!!.."
قلت ببرود ساخراً:
" وبحلقه كيف أبدو؟!.."

رد بطيبة قلبه وعفويته:
" تبدو كقائد بجيش الكوماندوز..."

وأشار إلى أعلى جسمي مكملاً:
" وخاصة بعضلاتك هذه ما شاء الله "

هتفت بهدوء وثبات:
" إذاً هات الماكنة والحق بي لأننا لن نقوم بتصوير فيلماً ننال عليه جائزة الاوسكار.....وكفاكَ ثرثرة!!.."

اومأ برأسه ايجاباً ثم هتف رافعاً يده وضارباً الأرض بقدمه:
" حاضر سيدي....حالاً.."

×
×
×

أشرق الصباح على أرض المعسكر بلطافة حاملاً نسماته العليلة لتدغدغ الروح وتغمر قلبنا بالسعادة...استيقظتُ براحة عجيبة..."يا اللــــه".....تنهدتُ بعمق لافظاً لفظ الجلالة مستعيناً به مغمض العينين!.....هذا اليوم ليس كغيره.... أخذتُ به إجازة من معسكري لأنه هذا اليوم الموعود... نسأل الله خيره ونعوذ به من شره!.....سرتُ بهدوء خارجاً من مقرنا بعدما أعلمني صديقي (سامي) أنه بانتظاري في الخارج لنذهب معاً إلى العاصمة!!...شخصتُ بصري للسماء الزرقاء وشعرتُ كأن الطبيعة تضحك لي!!....نظرتُ من حولي ورأيتُ أن الشجر والحجر يضحك لهذا اليوم المنتظر!!....أكان هذا فعلاً أم أن فرحتي تضاعفت بسبب قرار اليوم ومن أجل من سأراها ؟!......وصلنا الى العاصمة والتقينا أمام تلك البناية العريقة بمن سبقانا... السيد(سليم الأسمر) وأبي (ابراهيم الهاشمي) اللذين قدما لحضور قرار المحكمة معنا!!....تصافحنا ودلفنا إلى القاعة التي ستجري بها المحاكمة ....كانت القاعة مليئة بمختلف الناس من رجال ونساء ....منهم من دعي بشكل خاص ومنهم من جاء للوقوف جنب ذويهم من المتهمين.....جلتُ بنظري لكل زاوية تصلها عينيّ ولم أجدها....طال الانتظار فكادت تهدني الهواجس والوساوس..." أين هي؟!...لمَ لم تظهر بعد ؟!.."..سألتُ بسري!!......لمحتُ في النهاية محامي شركة والدها في تلك البلاد ...فلعب الفأر في صدري!!..ثم تبسّمت بمكر رغم قهري هامساً لنفسي.." يا جبانة لم تقدري على المجيء وسماع الحقيقة ومواجهتي!!..أليس كذلك؟!....لك هذا الآن....من قال أنني لن آتيك بنفسي؟!.."
..دخل القاضي(اسماعيل) بهيبته وحضوره الطاغي....فهو رجل عُرف بقوة شخصيته وذكائه وصدقه مما يجعل جميع أفراد المحكمة حتى المحامين يحسبون حسابهَ!....وكيف بالمتهمين؟!.....وقفنا جميعنا بمن فينا من محامين...متهمين...احتراماً له حتى أشار لنا بالجلوس...افتُتِحت الجلسة على مرأى ومسمع الحضور!!....تخللها نقاشات....حوارات....اسئلة ذكية واعترافات....استراحة قصيرة ثم العودة لأماكننا.....منذُ امساكنا به حتى فك الشفرات واحضار باقي المتهمين والقاضي لم يذق طعم النوم لا ليلاً ولا نهاراً مع فريقه الخاص من المساعدين كمحققين وغيرهم!!.....حان الآن اتخاذ القرارات اللازمة بما يتعلق بالمتهمين وذلك بعد أن سمع كل هذه المدة من التماسات وأدلة مختلفة .....والآن يقع على عاتقه اصدار الحكم العادل بإذن الله !!....غالبية من يقبعون خلف القضبان اعترفوا لسانيا بأفعالهم الشنيعة إلا ذاك المجرم العاصي ( عاصي رضا) ما زال مصراً على براءته وما زال يتكتم عن شركاء له ولكنه لا يفقه أنه مهما وصل بظلمه عنان السماء سيأتي اليوم ويرتطم بالأرض مصعوقاً بالحقائق التي يبيّنها الله لنا مع البيانات الموثوقة!!.....فأصدر الحكم على رئيس الوزراء السابق (نظمي سعادة) بالسجن خمسة عشر سنة بتهمة الاختلاس من خزائن الدولة والتغطية على نسيبه .!!....وآخر حكم عليه بالسجن ثلاثة عشر سنة!!...وعضو سابق بالبرلمان حكم عليه ثمانية عشر سنة بتهمة بيع أراضي بطرق غير قانونية وتزوير معاملات لصفقات أسلحة وأخرى قضايا خفيفة....أما (عاصي رضا) حكمت المحكمة حضورياً عليه بمؤبدين اثنين مع الأشغال الشاقة بتهم لا تعد ولا تحصى وكلها ثبتت عليه....التحريض على القتل والقتل المتعمد ...التزوير...الاختلاس...المتا? ?رة بالأسلحة بطرق غير قانونية.....اشعال فتنة واثارة شغب يزعزع أمن الدولة....وأهم تهمه هو خيانة الدولة لمصلحة دولة أخرى!!.....قطع الهدوء الذي كان يغطي القاعة بعد انتهاء القاضي من الادلاء بأحكامه صوته الجهوريّ الغاضب بنقمة :
" حضرة القاضي....انتظــــر"

سلّطنا جميعنا عيوننا إليه وقد سبقنا القاضي يرمقه بنظرة توحي له بأن يتحدث فتابع بعينين تفيضان حقداً كريهاً:
" السيد أسعد الأحمدي نائب الرئيس الحالي متورط بجرائم تخص الدولة وأمنها!!.."

قالها بخباثة وبركان من الحقد والقهر يحرق باطنه ...لقد قرر أن يلقي بصديقه المقرّب والمعاون له بجرائمه الى جحيم السجن عندما تأكد أن لا أمل له بالخروج من خلف القضبان إلا إلى قبره..!!....عمّ الذهول أرجاء القاعة إلا أنني كنتُ مع جماعتي نحتفل بصمت بصدور الحكم....قال (سامي) مبتسماً للسيد(سليم) بعد أن نطق الوغد باسم شريكه :
" لقد صدق حدسك....اخبرتنا سابقاً بشكوكك نحوه!.."

ضربه على كتفه مازحاً:
" هذا منطق وليس حدس"

انتهت المحكمة وسط صرخات الاعتراض بينما شرعنا أربعتنا بالعناق الحميميّ حامدين الله على ظهور الحق بحقنا وحق كل مظلوم..!!....فككتُ حالي عنهم ثم سجدتُ في مكاني سجدة شكر لله حتى عانقت دمعتين هربتا مني الأرض تحت وجهي فرحاً واحتفالاً بانتصارنا ...!!
×
×
×
رجعتُ إلى مكاني في المعسكر...دلفتُ إلى غرفتي وفتحتُ خزانتي الخاصة....تبسّمتُ لها بحب عندما وقع نظري عليها....عانقتاها ذراعيّ برقة وعيناي تتأملانها بشغف...انحنيتُ برأسي وقربتها من شفتيّ أقبلها ....الآن استحقها بجدارة دون خجل منها!! ...لقد أعدتُ لها اعتبارها وحق صاحبها المسلوب ....إنها معشوقتي(عهدي) وعليها باقي بإذن الله حتى النصر التام ....!!....اتجهتُ الى سريري في غرفتي الداخلية وحملتُ صورة أبي مرتاح البال بفضل الله وبدأتُ أقصّ له عبر ذبذبات مشاعري انتصارنا على عاصي وأمثاله....!!
~~~~~~~~~~~~~~~~~~

توقف الزمان عندها... ما بها عـــقـارب الساعة لا تحذو الى المستقبل ؟!!....اليوم أعلنت صيامها.....لن تأكل ولن تشرب...تسمّرت في غرفتها تحتضن هاتفها....لا تريد ادخال شيئاً إلى جوفها حتى يرن بالفرح نابضها ....ها هي جالسة على سريرها تنتظر ذاك الاتصال الذي سيغير مجرى حياتها!!....أجل.....إنه بريء!!.....كلمة أمضت ليلتها تستدعي ربها راجية سماعها ....أجل....سيخرج والدها وتعود الضحكات لها.....سيستعيدون القصر..!!...خططت كثيراً وما أكثر خططها...بنت أحلاماً جديدة لمستقبلها....سيحتضن والدها ابنها....ستعود الى دراستها وسابق عهدها...لن ينقص ابنها شيئاً كما لم ينقصها!...سيأكل ما يشتهي ويشتري ما يريد!!...سيكون والدها العوض لابنها....ربما!!...هكذا تمنّت من صميم فؤادها...أليس ابنها حفيداً والحفيد له اهتمام خاص لا يشبه اهتمام الابناء!؟؟..فهي بالأيام القليلة في الحيّ رأت أطفالاً مع أجدادهم وجداتهم ورأت كيف يكون الاهتمام بهم ودلالهم فالآن إذاً عندما يخرج والدها عندما سيفعل هذا وأكثر مع ابنها!!...في لحظة تمتمت طالبة شيئاً لم تهتم به قبل. وهي تضع كفها الأبيض الرقيق على بطنها..:
" يا رب ولد...."

تطلعت على بطنها خافضة رأسها بانكسار الرجاء وتابعت هامسة بشجى:
" أنا أعلم ...إن كنتَ ولداً سيحبك أبي اكثر من ما أحبني!!..."

رفعت عينيها لفوق داعية ببراءتها:
" يا رب أرجوك...هب لي ولداً يحبه أبي ويهتم به !!.."

عادت تغوص في أحلامها فأشرق الأمل على وجهها....إلا أن جسدها ما زال محنطاً لم تحرّكه...شلّت أطرافها....مرّت الساعة والساعتين عند البشر بشكل اعتيادي إلا عندها لم تدرك ما الوقت!!...فالاتصال سيكون هو تاريخها الجديد وساعة مولدها....ارتجف الساكن في صدرها فاختلت نبضاته لتتسارع وجلاً عندما همست بتلقائية:
" أو سيكون الاتصال ساعة موتي ودفني!.."
علا رنين هاتفها بين يديها لحظة دخول (رهف) إليها!!....رمقتها بنظرة خاطفة خائفة ثم نقلت حدقتيها للذي ما زال يصدح بصوته راقصاً بكفيها!!...تبسّمت لها الواقفة جوارها رامشة بعينيها تشجعها على الرد إلا أنها كانت تتفتت من فرط التوتر عليها خشية مما ستسمعه!!...رفعت يدها تضعها على كتفها بحنية هامسة برقة:
" ردي ألمى....ردي وارتاحي....والأهم مثلما أخبرتك ليلاً....ستتقبلين كل ما يأتيك من الله ....لا تجزعي ولا تغضبي!! ولا تحزني!!.."

هزّت رأسها مبتسمة بابتسامة مائلة كأنها فقدت التحكم بشفتيها من شدة ما تعيش الآن من معارك بمشاعر مختلفة....أمل وفرح...خوف وقهر....قلق وسكون ....بسملت ضاغطة على الشاشة ...تنحنح من كان على الطرف الآخر وهو المحامي خاصتها بعد القاء التحية فهمست متلعثمة وهي تتمنى أن لا يسمعها:
" ها ...بشّـ....بشرني..."

ألقى الخبر على مسمعها بعدما اعطاها بضع تفاصيل إلا أن ملامحها تبدو كمن استعصى عليه الفهم....فهتفت بنبرة خفيضة:
" لـ...لم.....أسـ...أسمعك...ماذا قلت؟!"

كرر كلامه بإيجاز فالتفتت ليسراها حيث تقف صديقتها.!!....تصادمت نظراتهما المرتبكة....لوهلة....ظنت (رهف) أن الجالسة توقف نبضها فقد كانت متصلبة كلياً ليلحق تصلبها انفلات الهاتف من يدها يلقى مصرعه على السجادة!!...ثواني تجر ثواني وهذا حالها....دنت منها تجلس جوارها تبذل قصارى جهدها لتعيدها الى وعيها ....انتصبت واقفة بعزم فتخلخلت مكانها لتتبعها الاخرى تنتصب معها وأمسكتها هاتفة:
" ابقي جالسة حتى تعيدي اتزانك!!.."

تسلّحت بقوة لا تشبهها وسارت تخطو بالغرفة ذهاباً واياباً مرة لطاولة الزينة ومرة للمنضدة ....تقرفص عند حقيبتها ثم تنهض مجدداً وكل هذا وهي تصدر تمتمات غير مفهومة وملامحها متجهمة تكسر تجهمها بين الحين والآخر بابتسامة سقيمة مزيفة!!.....أطلقت ضحكات مقطوعة على مراحل ثم اتخذت سريرها....جلست منكمشة فوقه تحتضن ساقيها تنظر الى الأمام نظرات خاوية....تطلعت على التي ترافقها وبدأ جسدها يرتجف....يرتجف....حتى أطلقت سراح عبراتها بنشيج يمزق الأكباد وهي تقول بحرقة من قعر أوجاعها:
" أبي بريء.....بريء.....هذا ظلم ...."

أطرقت رأسها على ذراعيها تخفي وجهها وما زال جسدها الهزيل يهتز من شدة بكائها بينما لسانها لم يكف عن شرح قهرها وخذلانها وجروحها النازفة الملتهبة:
" لماذا فعلتم هذا بأبي ؟!...لماذا؟!...."
" لماذا لم تتركوا لي أحداً.؟!.."
" لماذا تودون أن تبقوني وحيدة؟!."
" حسبي الله بكم....حسبي الله ونعم الوكيل !!.."

وانهدم ما تبقى من صمودها وهي تحتضنها مربيتها بعد دلوفها إليهما لحظة سماع صرخاتها ...تبكي وتندب حظها ....تبكي وتتحسر على حياتها ....تبكي تشكو ضعفها وهوانها.....ظلّ هذا حالها حتى جفت دموعها واستكانت فساعدتها (رهف) على تعديل نومتها على السرير ثم قامت بتغطيتها وجرّت كرسياً جوارها تفتح مصحفها واضعة يدها على جبين النائمة وشرعت بقراءة آيات تمّدها بالسكينة والطمأنينة حتى تأكدت أنها رحلت إلى عالم النوم بسلام..!!
بعد مرور حوالي شهر دخل إلى تلك الغرفة المهجورة الموجودة بآخر الرواق في معسكرنا والشرر يتطاير من عينيه يكاد يحرق من يقع عليه !!....يضرب الأرض من تحته بخطواته الرجولية الشجاعة ...كعاصفة هوجاء صفق الباب الحديديّ دون أن يجفل من قوة ارتطامه ....حركاته عدوانية ....تلك الحركات لا يطبّقها إلا على أعدائه .....وكيف بالخيانة ومن خانوا؟!....ما أسوأها وما أقساها إن أتت من القريب وليس العدو!!....هي جريمة وعلى مرتكبها دفع الثمن وبأبشع الطرق....وعد فأوفى و يا لروعة من أوفى.....هو الصديق الذي نجده وقت الضيق....إنه البطل في الميدان و الابن البار والعبد الصالح.....الأفضل بعمله دون منازع ...وحده قناص كتيبتنا المحترف ...لا يخطئ هدفه...واثقاً بنفسه ..ماهراً بعمله.....إنه شيخنا الوسيم (أحمد)....عمل لأيام وليالي دون كلل أو ملل....عزم وأراد وهو أكثر من يشجع متابعيه عن الإرادة....إرادة زرعها داخله ونمّاها بالتوكل على الله.....فها هو منذ قرابة الأربعة أسابيع وبشكل شبه يومي يأتي إلى ذلك الخائن الذي راقبه عن كثب بكل دقة وحذر حتى أمسك به متلبساً يحادث طرفاً من الأعداء بعد أن وعدني بإمساكه هذه المسؤولية!!...لقد ظنناه بطلاً شريفاً فوجدناه لم يكن سوى خسيساً , متواطئاً , باعنا من أجل المال...باع وطناً آمناً ليشتري جحيماً حارقاً....أجل....هكذا هم المتخاذلون الخائنون !!....يظنون أن النعيم آت ولا يدركون أي عذاب سيلقون بالحياة والممات!!....انضم الى معسكرنا منذ سنة ....ألقى القَسَم العسكري خاصتنا على مسامع كبار قادتنا وهو الوعد الرسمي...وعد بحماية الأرض والفداء....وعد بالاستمرار مهما كانت المحن والتصدي للأعداء....وعود ثقيلة ونبيلة كلها من أجل الوطن الذي يرخص له الغالي والنفيس...!!.....آه يا وطن كيف باعوك؟!...كيف لم ترتجف ألسنتهم وهم يضعون لك ثمن ؟!....ألا يعلمون أن ترابك هو الدرر المكنون وبحارك وسمائك أغلى ما في الكون ؟!.....
كانت عينيّ فارسنا تبرقان بينما هدر بصوته هدير رعود تزامناً مع الامساك به من ياقته:
" اليوم...اليوم تحديداً ستخبرني ما الذي يخططون له اولئك المنحطين ؟!.."

ثم لكمه بشراسة على خده وأردف بصخب:
" قسماً يا كلب....لن أتركك اليوم إلا ومعي علم عن المهمة التي كلّفوك بها أيها الساقط!!.."

خيط من الدماء نزل من طرف فمه دون أن يأتي بحركة...أصبح جسمه هزيلاً بعض الشيء والجروح تملأ وجهه من أثر الضربات التي تلقاها من ذاك الغاضب الذي أثيرت حميّته ووصلت أقصاها على مدار أسابيع.....فقد حبسه في تلك الغرفة المهجورة ....مكان لا يدخله الا حشرات وقوارض تلهو بين الأغراض المبعثرة.....تغطيها رائحة الرطوبة فبالكاد تدخل اشعة الشمس متسللة من ثقوب النافذة الحديدية محكمة الاغلاق الموجودة أعلى الحائط ملاصقة للسقف لا نصلها إلا بسلّم ....أكثر مكان يليق بخائن حتى أنه خسارة فيه هذا المأوى....فأمثاله يجب أن يربطون فوق كومة نفايات تحت الشمس والبرد ليذهبوا إلى مزبلة التاريخ إن ذكرهم أحد أساساً ..!!.....بسهولة يحلفون اليمين ثم يخونوه دون أن ترمش لهم عيناً !!....كيف؟...أين مخافة الله قبل كل شيء؟!.....فها هو المدعو (خالد) والذي كان المساعد الأيمن للقائد (عز الدين) بالإضافة ايضاً أنه يكون ابن عمه .....كان قد انضم إلينا عن طريقه!!...وتبيّن أن وراء انضمامه أهداف أخرى....دخل إلينا كعميل سري وسمساراً يعمل لجهة معادية لنا......أما الشكوك التي اجتاحتنا منذ فترة بشأن القائد (عز الدين ) بحث عنها ليتأكد منها أيضا صديقيّ (بلال وأحمد) بمساعدة السيد(ماجد) فظهر أنه ليس متعاوناً لكن خطأه كان بأنه لم يشركنا بما عرف عن ابن عمه ومساعده وقد كشفه قبلنا وظلّ صامتاً مكتفياً بنصحه وتحذيره فيما بينهما وهذا يعتبر ذنباً في قانوننا وتهاوناً قبيحاً وإن لم يكن عظيماً إلا أن عواقبه غير مبشّرة لذا تمت معاقبته بسحب منصب القيادة منه واعطائه وظائف أقل أهمية بعيدة عن أمورنا شديدة الحساسية !!.....لم يتكلم ببنت شفة ذاك الذي تلقى لكمة ولحقتها أختها من قبضة الثائر الشامخ أمامه ....تلقّى الضربات بصمت حتى ضعفت قواه فخار جاثياً على ركبتيه أرضاً ...انحنى (أحمد) ناظراً إليه بحدّة يكز على أسنانه وهو يشد على تلابيبه بقبضة حديدية وهمس بفحيح:
" لن تتخلص مني....ستنطق بكل شيء....سألازمك كملك الموت أيها الوضيع ...الماء الذي طلبته من يومين لن تذوقه قبل أن تبوح بأفعالك ضدنا!!..."

شفتاه تتشققان كالأرض العطشة ...لا ريق له ليبلعه ...لم يكحل النوم عينيه الذابلتين ....يشعر بالدوار ....كل شيء يدور من حوله ولأنه بصمته استفز الآخر فزاده غضباً على غضبه ورفعه بيده الممسكة به بطلاقة وقوة مضاعفة ولن يوقفه أحد ...فليتجرأ أيٍ كان ليتصدى لإعصاره!!....سحبه كأنه يجر كيساً من الرمال وسار به بين أروقة المعسكر وصولاً للمدخل ....رفع يده لجبينه يحجب الشمس الملتهبة عن عينيه السوداوين المشتعلتين .....نظر يمنة ويسرة ويده ما زالت تحميه من الأشعة ....صوّب وجهه للأمام لساحة التدريبات الرملية حيث تنصب أعمدة ومجسمات للتسلق والتي تبعد مسافة مئة وسبعون متراً....مسافة يجتازها بلياقته البدنية دون أن يحدث خللاً بأنفاسه وبوقتٍ قياسيّ.....التفت ليمناه حيث يقف العنصر (إياد) يتفرج مندهشاً فأمره بصوتٍ جهوريّ :
" اجلب حبلاً وزجاجة ماء شديدة البرودة واتبعني حالاً..."

هتف بطاعة:
" حـ...حاضر....حالاً.."

استدار يلبي طلبه في الحال بينما هو دعس على الأرض بحذائه الجلديّ الاسود الخاص بزيّ الثوار يبصم عليها قوة خبطاته ليأتي المجرور من خلفه يمسحها بجسده الذي انكشف مع حركته فأضحى بنارٍ حامية تصلاه من تحته لشدة حرارة الجو وشمس الظهيرة الملتهبة !!..وما هاته النار تكون أمام جهنم؟!....اللهم اجرنا منها!!.....وصل إلى مبتغاه وهدفه ولحق به (إياد) لاهثاً....قام أحمد برفعه من ذراعيه بقبضتيه بعنف ثم ألصقه بأحد أعمدة ذاك المجسم الخشبي العريض المعد للتدريب على التسلق ودون أن يلتفت للواقف جواره مد يسراه يأخذ منه الحبل الذي لفّه على الخائن كالأفعى تحاوط جذعه وذراعيه وشرع بربطه مركّزاً عينيه الفحميتين الثاقبتين بينما بشرته البيضاء الرجولية شابها احمرار من أشعة الشمس فتعرّق جبينه وما إن أنتهى منه قبض بيده أسفل ذقنه يرفع له رأسه المثقل الساقط على صدره وكزّ على أسنانه مقترباً منه هاتفاً بكراهية يخص بها تلك الفئة النجسة وهو يشير بالأخرى للزجاجة بين يدي (إياد) :
" أنظر جيداً للماء البارد.......إن اعترفت بكل شيء ستناله وإن أبيت واستكبرت سيكون مصيرك الموت محروماً منه !!...."

وأفلته بقوة آمراً بصرامة من يقف جانبه:
" إياد....ضع قبعة أو تظلل بأي شيء بالقرب منه كي لا تضر نفسك من اشعة الشمس.....اعرض عليه الماء كل عشر دقائق دون ان تعطيه....إن أفصح عن كل شيء اتصل بي بالحال ولغير ذلك لا أريد ورود أي اتصال لهاتفي....أتسمعني؟!"

قال جملته وسمع الإجابة ايجاباً منه وبذات الإباء والشموخ الذي كان به استدار تاركاً إياهما من خلفه عائداً إلى مقره حتى حين....!!

~~~~~~~~~~~~~~~~~

اسبوعان مرت والأجواء غير مستقرة في بيت المربية بعد اصدار حكم السجن المؤبد على (عاصي رضا) فقد كانت ابنته بنفسية يرثى لها ... وخاصة بالأيام الأولى بعد غرقها بموجة عميقة من الأحزان ....وقفت جنبها السيدة (سهيلة) وابنة شقيقها وكذلك القريبات والجارات اللواتي بدأت بالتقرّب منهن في الآونة الأخيرة رويداً رويداً لتندمج مع حياتها الجديدة وأناسها الجدد!!...قمن بنصحها ومؤازرتها بمحنتها والتخفيف عنها متسلحات بالدين وبتسليط الضوء على من تحمله بأحشائها كونهن يعلمن مدى خوفها وحرصها عليه وقد نجحن بالأكثر بسببه إذ أنها تعلم أن الحزن الشديد والعيش بأعصاب مشدودة ربما يضر جنينها وحملها !!.....وهكذا مع نهاية الأسبوع الثاني بدأت تستجمع قواها وتخرج من بئر هذه الأحزان والهموم متأقلمة مع مصابها وما ألمّ بها على الأقل ظاهرياً أمام من يستضيفوها!! ...غدت أقوى من أجل صغيرها !!...وقد أعلمتها مربيتها أن حملها يشبه حمل والدتها بها وكيف كانت تحافظ على صحتها ونفسيتها لأن حملها كان تحت بند الحمل في خطر وهذا زادها مقاومة لضعفها وحذراً من أي أذية واي مكروه !!.....عادت لتنشغل بمشروعهما لتتناسى معاناتها واوجاعها ....فالضربة الكبرى تلّقتها والآن عليها المضي قُدماً وقد جاء العوض فهي الآن تفكر كم كان الأمس متعباً وممتعاً بذات الوقت.....فمنذ فتح مطبخهما الخاص أي منذ ما يقارب الشهران كانت ليلة البارحة أجملها على الاطلاق إذ أنها عملت هي و(رهف) وزوجة شقيقها بالإضافة مع مساعدة والدتها لتجهيز طلبية مميزة من المعجنات والبسكويت بأنواعه مع المعمول بكمية كبيرة كانت خاصة بحفل عقيقة مولود جديد !!....يا لها من متعة رغم الارهاق الذي أحلّ بهما !!.....كل شيء كان لطيفاً ولذيذاً وبشهادة تلك السيدة صاحبة هذه الطلبية والتي شكرتهما ومدحت ما صنعت ايديهما ووعدتهما بجلب زبائن من معارفها لمطبخهما !!....بدأت تهلّ النِعم عليهما حمداً لله ..والرزق يزداد!!...غاب التعب عنهما في صباح هذا اليوم عندما قامت بزيارتهما هذه السيدة لتدفع مستحقاتهما وأجرهما ولتعيد بعض الأطباق الثمينة التابعة لمطبخهما!!....وما زاد تلك الجالسة سروراً هو تلقيها أول هدية من أجل صغيرها والتي كانت عبارة عن ملابس بيضاء تناسب النوعين أحضرتها من قامت بزيارتهما من أجلها بعدما عرفت أنها حامل بالإضافة لعلبة على شكل زجاجة حليب لونها أزرق توحي بأن المولود ذكر وداخلها الحلوى اللذيذة توزّع في العادة على ضيوف الاحتفال !!....أمسكت العلبة وقلّبتها بين يديها وضحكتها التي غابت عنها منذ اسبوعين أصبحت تملأ عينيها قبل شفتيها فتزيّن وجهها الجميل وأضاءها وقالت للتي تستلقي على الأريكة مقابلة لها :
" انظري يا رهف ما ألطفها....أحببتها كثيراً....سأجلب مثلها واوزّعها على أطفال الحي!....ما رأيك؟!.."

آزرتها بضحكتها وأجابت فرحة لأجلها:
" إن شاء الله سنجلب أجمل الأشياء لصغيرنا .....أتوق لذلك !....يا ترى هل ستكون بألوان وردية أم زرقاء ؟!..."

فتحت العلبة وأخرجت حبة من الحلوى الملوّنة أكلتها وأجابت:
" المهم أن يأتي بالسلامة وغير مهم اللون.....آااه كم إني متلهفة لأراه!!.."

تحشرج صوتها بعد أن تجمّعت العبرات بمقلتيها عند تذكرها ذاك البعيد عنها والذي حُرمت من التواجد جانبه ومساندته بسبب حملها وهمست همسات شجية:
" يا رب....متى سيأتي لنذهب معاً لزيارة والدي ؟!....أودّ بشدة أن يأتي هذا اليوم كي يرى حفيده...."

اختنق صوتها وانهارت حصون دمعاتها فتساقطت بتلاحق وهي تتابع:
" علّه يخفف عنه ما يعانيه من ظلم هناك.....مؤكد سيفرح به عندما يراه...."

ورفعت سماءيها للسقف تزامناً مع يديها داعية :
" يا رب كن معه يا رب ....يا رب اظهر الحق أمامنا ولا تعذبه بسبب الظالمين والحاقدين!!.."


~~~~~~~~~~~~~~~~~~

كان يجلس مع زملائه بغرفة مكيّفة يناقشون أمورنا العسكرية ....كان مصغياً ويتبادل معهم الحديث إلا أن فكره ما زال منشغلاً بالمنصوب في الساحة صامداً من الظهر الى ما قبل الغروب بساعة ونصف دون أن يعترف بشيء يذكر!!....وبينما هو غارقٌ وسطهم رنّ هاتفه بالاتصال المنتظر ممن كلّفه بمهمة مراقبة الخائن ...رنّ قلبه مع الهاتف رهبةً مما سيسمع!!....فالقلوب الطيبة المخلصة مهما كان صاحبها شجاعاً لا يمكنها تحمّل سماع شيئاً مؤلماً عن عزيز وكيف إن كان هذا العزيز هو الوطن الغالي بأبنائه الشرفاء ؟!....استقام واقفاً ممسكاً بالهاتف بإصبعيه جانباً يضعه على أذنه بعد أن لمس شاشته للرد وهتف بجديّة وصوتٍ راكز:
" ها؟...اعطني زبدة الحديث.."

اختصر عليه من كان على الطرف الآخر للهاتف واصلاً للكلام الأهم والأخطر وهو يرتجف انفعالاً وتوتراً من هول ما سمع حتى أن صوته كان أقرب للبكاء لتتسع عيناي المستمع وترتجف حدقتيه هو الآخر ولكن لا وقت للخوف...لا وقت للانفعال....لا وقت للغضب والانتقام....الآن هو وقت الانقاذ وتدارك الحادثة ....لذا بحكمته وعقله المتزن وقلبه الباكي خوفاً والنازف ألماً هتف بكلماته المقتضبة قبل أن يغلق الهاتف:
" اسقه الماء حتى يروى...وانتظر!..."

ثم بريحٍ صرصر عاتية ترك خلفه رجالاً مذهولين من ردة فعله والذين ارادوا أن يستفسروا عن أسبابه ولكنه خرج دون اعطائهم شيئاً فهو يحتاج لكل ثانية هذه اللحظة ولن يوقفه إلا خروج روحه من جسده ...سيقاتل الزمن لعلّ وعسى أن يصل قبل فوات الأوان......ركض في الرواق متجهاً إلى غرفة الاتصالات الخاصة بأجهزة الاتصالات العسكرية اللا سلكية وأمر المسؤول بالاتصال بالشبل الثائر ( ضياء) لأنه يعلم هو أسرع من يمكن الوصول إليه كونه الوسيط بين الميدان والمقر....قام باتصاله السريع دون تأخير ثم قصد غرفته الخاصة وتوجّه الى درج مكتبه يخرج مفتاح الخزانة الخاص الموجودة ورائه ....فتحها وتناول منها رفيق دربه ومعاركه سلاح القنص الأكثر تطورا الخاص به....بندقية
( الصياد Am-50 )...........جهّزها بطلاقة وخرج من الغرفة مسرعاً حتى وصل مدخل المعسكر ووقف ناظراً لذاك الخائن الذي يبعد عنه مئة وسبعون متراً وبكل ثقة وأنفة مدّ البندقية أمامه تاركاً فرجة بين ساقيه دون أن يتحرك قيد أنملة مع انحناءة طفيفة تمكّنه للثبوت مكانه ونظر من العدسة الموضوعة أعلى سلاحه وبضغطة على الزناد دون مجهود أطلق رصاصته على جبين الخائن من هذا البعد يرديه قتيلاً حاكماً عليه بالإعدام دون أن يحتاج لأخرى ككل خائن وعميل يُعدم ميدانياً فقناصنا المحترف ذو النظرة الصقرية الثاقبة ماهر بالميدان ويتمتع بقدرة رهيبة بل فائقة لقنص اعدائه والرماية بشكل عام حتى مسافة تجتاز الألف متر...!!

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

تجلس (رهف) في الشرفة تكلّم خطيبها بالهاتف بعد أن صلّت العصر بينما كانت صديقتها السيدة الصغيرة تستلقي في غرفتهما من أجل القيلولة فتعب الأمس ما زال يلازمها ولم ينفك عنها !!....كانت مندمجة بحب معه وفجأة أزاحت الهاتف عن أذنها لتتأكد إن كانت قد سمعت اسمها فعلاً أم يهيأ لها فوصلها بالفور مرة اخرى:
" رهـــــف...رهـــــف الحقي يا بنيتي!!.."

اغلقت الهاتف في الحال بعد أن استأذنته سريعاً ودلفت مهرولة للتي تنادي عليها حتى وصلتها شاهقة عند وقوع نظرها على التي كانت تسند رأسها للحائط تبسط وتقبض جسدها بعنف شبه مستلقية على الأرض تتململ كالدجاجة المذبوحة وتحرّك رأسها يمنة ويسرة تحتضن بطنها بقوة صارخة بعويل من شدة آلامها:
" آاااه بطني....بطني...يا أمي....لا استطيع ...سأموت!!.."

ألقت هاتفها على منضدة قريبة ثم جثت جانبها تقرّبها منها مبسملة لتهدئها وهي تقول:
" ماذا جرى حبيبتي؟...بسم الله.....ما بك ألمى؟...اسم الله عليك.....كنتِ جيدة ما الذي حصل ؟!..."

لم تسمعها....لم تكن معها....هي غارقة بأوجاعها...من سيخفف عنها؟!...من سيساعدها ؟!....لم تجبها واستمرت بحركاتها فدمعت عينيّ (رهف) وجلاً عليها ونظرت لعمتها قائلة بصوت ضعيف:
" عمتي....ما بها ؟!..."

باستعجال ردت:
" اتصلي بالإسعاف يا رهف اتصلي.....هذه علامات ولادة!.....نسأل االله الستر!.."

" ماذا تقولين عمتي ؟!....هي ما زالت بالشهر السابع !!"

نطقتها برهبة واستغراب فأجابت بعزم :
" أجل وأنت تعلمين أنه يتم الولادة ايضاً بهذا الشهر....هيا عجّلي يا رهف....التأخير ليس من صالحنا !!..."

هبّت واقفة بعد أن ازاحتها عن حجرها والتقطت هاتفها عن المنضدة واتصلت بالإسعاف في الحال وبعثت لهم المكان ثم اتصلت بخطيبها ليستقبل الاسعاف وبينما هن في حالة الانتظار وتلك ما زالت على وضعها تشعر بتقلّصات مؤلمة بأقصى درجات وضغط كبير منطقة الحوض أحست بالقليل القليل من الراحة لوهلة...تحرّكت تعدّل جلستها فأحست كأن شيئاً نزل منها ...نظرت إلى مكان جلوسها على السجادة فاتسعت عيناها واهتزت شفتيها واهتز معها بالخوف قلبها فجاهدت بشق الأنفس بعد أن لمست بكفها المكان ليتلطّخ منه ورفعت يدها ببطء ترتجف تنظر تارة إليها وتارة للجالستين ازاءها هامسة بتلعثم:
" دَ...دَمـ....دم...دم.."

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

قبل اسبوع وبظرف اضطراري سرقت ساعات يتيمة من وقتي سافرتُ خلالها لتلك البلاد لجلب أوراقاً لصفقات خاصة بأسلحة للمعسكر وكانت موجودة في خزنة مكتبي في بيتنا الهاشميّ وتلك الخزنة لا تفتح إلا برقم سري مع بصمتي....قضيتُ سويعات فقط داخل البيت ولم يكن بإمكاني الانشغال بشيء غير غايتي ....لن أكذب !...عند دخولي البيت رفرف مغرماً مشتاقاً خائني وودّ لو سافر بين ذكراها باحثاً عن رائحتها ولكن لأن الوطن بقائمة الأولوية فكان القرار هنا لعقلي ولا غير عقلي....فعند الوطن والواجب يُهزم كل شيء.....نحن تربينا وغرسنا هذا في أدقّ شعيراتنا الدموية وحفرناه في خلايانا.....تعلمنا أن نصمت إذا اشتقنا أمام الواجب....تعلمنا أن الألم يكتم وممنوع اصدار أنة واحدة أمام الواجب.....فأن تكون جندياً...مجاهداً...مقاتلاً...? ?سكرياً هذا يعني أنك تخوض حرباً تهزم بها مشاعرك بل تدوس عليها لتظهر فقط قسوتك....لا مكان للرأفة...لا مكان للتردد....تعلمنا أن سلامنا يصل للأحبة بالابتهال لا بالاتصال....تعلمنا كيف نقبل بطيفنا وحده مرافقاً لنا لا غير....تعلمنا أن الشراسة تزيدنا ثقة....تزيدنا قوة ....وإن أردنا أن نحب فلنحب.....لكن ندفن هذا داخلنا لنمارس حبنا بصمت....بصمت يفتك قلوبنا.....اخترنا هذه الطريق بملء ارادتنا إذاً سنواصل حتى النهاية لنحصل على نصرٍ مشرّف لا يناله إلا الأبطال وأعظم الرجال...!! .....ولأني استغلالي عندما فتحتُ خزانتي واخرجتُ أوراقي أخرجتُ صورة لها كنتُ قد التقطتها لها أثناء خطوبتنا بالخفية عنها....قمتُ بتحميضها ثم مسحها من هاتفي آنذاك!....وكانت هذه عندما ذهبنا الى رحلة في الطبيعة مع الأصدقاء حينها وهي تجول بين الأزهار كالفراشة البراقة ....صورة قتلتني.... وما زالت....ببراءتها وفتنتها تقتلني.!!...حبيبتي المدمّرة الصغيرة!....تبسّمت بعشق وأنا أمعن النظر بها وبسماء عينيها ثم وضعتها بحقيبة يدي الخاصة بالأوراق ....وعدتُ إلى مقرّي ومستقرّي...إلى أرضي الطاهرة!!....
×
×
×
كنا قد وصلنا إلى الحدود بمجموعات كبيرة من مختلف كتائبنا مع أسلحتنا الحربية من دبابات وقذائف ومدفعيات وغيرها بعد أن سيطرنا بالكامل على ثلاثة مناطق حدودية بفضل من الله منذ أسبوع وراح خلالها ضحايا من الجهتين والفرق أن قتلانا بالجنة بإذن الله أما قتلاهم بالنار....فشتّان ما بيننا ...شتّان ما بين مبادئنا وقيمنا ومبادئهم.....شتّان ما بين أهدافنا ومطامعهم...وشتّان ما بين من يفدي الدين والحق بدمه وبين ما تذهب دمائه هدراً لمصالح دنيوية بنيت على جثث الأبرياء من أطفال وشيوخ ونساء ورجال عوازل.!!... نحن نعيش الآن حرباً ضروساً في أوجها.....حرب أشعلوها بعد فتنة اقتراب الانتخابات ووصلت إلى القمة بشراستها !!.....ها نحن مستمرين لنقاتل بعدة جبهات..!!.......كل قائد أخذ كتيبته بوحداتها المختلفة حسبما تقاسمنا ورسمنا خططنا العسكرية الاستراتيجية....توزّعنا ....لنكون بين الدفاع والهجوم ....كتيبتي أخذت خط الدفاع ......صلينا في جماعة صلاة الظهر سائلين الله النصر وحفظ أرواحنا قبل النزال الحقيقي.....توجهتُ إلى سيارتي رباعية الدفع العسكرية....أخرجتُ دوسية فيها مخططاتي....وأخرجتُ من بينها صورة حبيبتي....ناجيتها بكل ذرة حب أحملها لها وأنا أتامّلها ناظراً إليها نظرات شغوفة هيماناً بها :
" ألمتي...زوجتي الحبيبة !....اقرؤك السلام من أرضنا يا مهجة القلب والروح ....ها أنا سأباشر بمعركتي وسننتصر بإذن الله ....الله معنا وهو حسبنا....ستنتهي الحرب وسينتهي النزاع ...وسآتي مقبلاً عليكِ بإذن الله لنرسم حياة جديدة....لن استسلم لكِ ولعنادك.....سـأخطفكِ لبيتي مثلما خطفتِ قلبي.....سأجعلك تسامحينني عن كل دمعة قهر نزلت منك!.....سأعوضك واعوض نفسي عن كل دقيقة ضاعت منا في البعد...مهما تمردتِ لن أسمح بغيابك عني...سأجعل حبك لي ينبض من جديد داخلك ...لن أسمح له بالموت إلا إذا سبق موته موتي......!!.....أحبك ...وسأبقى أحبك يا سمائي...."

قبّلتُ صورتها راجياً عشقها ثم وضعتها في جيبي على صدري قرب خائني خلف مصحف أبي الصغير ذو الغلاف المخمليّ الأخضر والذي ما زالت بقعة من دمائه موسومة عليه... فهو أصبح رفيقي في معاركي من بعد أبي رحمه الله...!!

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

رافقت (رهف) وخطيبها تلك النازفة الموجوعة إلى المشفى ولحقت السيدة (سهيلة) بهم مع ابن شقيقها ولمّا وصلت إليهم وجدتهم ينتظرون خارج قسم الحالات العاجلة متوترين...مرتبكين وخاصة صديقتها التي بكت بكاءً أليماً على حالتها ...رأت معاناتها مع آلام المخاض المبكرة ولم تستطع تخفيف هذه الأوجاع عنها ....بعد السلام سألتهما مربيتها :
" طمئنوني .....ماذا قالوا لكم ؟!.."

ردّ (بكر) خطيب ابنة شقيقها:
" لم يخرج لنا أحد حتى هذه اللحظة عمتي....سننتظر قليلاً...إن تأخروا سأسأل بنفسي!!..."

تقبّلت كلامه على مضض وشرعت بالحوقلة والاستغفار والدعاء لمن ترقد بالداخل والتي لا يعلم إلا الله عن وضعها! ....جلسوا الثلاثة على المقاعد المعدة للانتظار وبقيت السيدة (سهيلة) على كرسيها المتحرك...مرت دقائق...فنصف ساعة ولا خبر عنها!!...ذهب (بكر) إلى طاولة الاستعلامات الخاصة بهذا القسم فأخبرته الموظفة أن لا معلومات لديها وعليهم الانتظار حتى خروج الطبيب أو الممرضة إليهم لتخبرهم بوضعها أو عن أي مستجدات !!...اومأ بقلة حيلة وعاد للانضمام إليهم وأخبرهم بالرد!!.....اكتملت الساعة وفجأة انفتح الباب الكهربائي فخرج الطبيب بوجهٍ شاحب يكسوه العرق وسأل عن الأقرب درجة لها ثم وجّه كلامه إليها محاولاً الحفاظ على هدوئه بعد أن أشاروا إليها كي لا يزيدهم توتراً:
" سيدتي....علينا اجراء عملية عاجلة لها !!.."

ردت عليه بخوف:
" ما بها صغيرتي؟!....كيف هي؟!.."

حك عنقه ورسم ابتسامة شاحبة مصطنعة ثم رفع يديه بحركة توحي لأن يهدؤوا بعدما رأى تحركاتهم وهمهماتهم القلقة وقال:
" اهدؤوا....اهدؤوا......كله بأمر الله.....المريضة في حالة ولادة وعلينا الاسراع بإنقاذها لأن وضعها صعب ....المهم انقاذها هي.."

صرخت (رهف) من غير ادراك:
" والولد؟!.."

أغمض عينيه لوهلة متنهداً ثم أعاد فتحهما ليجيب بهدوء مزيّف:
" الاثنين في خطر....نحن نفعل المستحيل بالطبع ولكن في النهاية وفي مثل حالتها المستعصية نختار الأم طبعاً لإنقاذها ....هي الأولى....اسألوا الله لها السلامة... والعوض!!..."

~~~~~~~~~~~~~~~~~

اشتباكات مسلحة عنيفة في بقعتنا التي سبق وجهزناها من أجل تكتيكاتنا وبخطة دفاعية مدبرة نصد بها العدو المهاجم كي لا نسمح له باختراق حصوننا والسيطرة على أرضنا....كان دفاعنا ثابت نستخدم به في المقدمة مدرعاتنا ومدفعياتنا أما نحن الجنود نتوزّع خلف أكياس الرمال المرصوصة جوار بعضها حماية لنا ....مرت ساعات من العراك....دخان متصاعد ....نيران مشتعلة من أثر إلقاء القنابل....زخات من الرصاص تحلق في الجو....إصابات من الجهتين .....إلى الآن لم ينل أحد شرف الشهادة!!.....ساعات من الصدام ...تعبنا إلا أننا لن نستسلم....بقي القليل وبإذن الله سنرفع رايتنا....إن استمررنا على هذه الوتيرة سننهي الحرب خلال أيام لا تتعدى الأسبوع....ها نحنُ نقاوم بكل ما نملك من ذخيرة وأسلحة ....ها نحنُ نجاهد بعون الله ثم قوتنا....!!....بجهاز الاتصال خاصتي قلت لقائد كتيبة النسور على الجهة الأخرى بعدما وردني بعض المعلومات من الوسيط الرئيسي بين المعسكر والميدان شبلنا (ضياء) والذي يرافق كتيبتي:
" نحن كتيبة الفهد الأسود.....القائد هادي...هل تسمعني؟"
" أسمعك سيد هادي..."
" ازحفوا إلى الشمال اشتد القتال هناك !!....هيا حالاً..."
" ما زال الاشتباك مستمر سيادة القائد هادي..."
" اترك مكانك نستطيع نحن مضاعفة جهودنا لحماية جهتنا بإذن الله....هيا حالاً ازحفوا دون تأخير!.."
" أمرك....سنزحفُ حالاً.."

انهيتُ الاتصال وعدتُ للقتال والعرق يتصبب مني....بعد دقائق نفذ مخزون سلاحي الاوتوماتيكي المتطور ...فاضطررتُ لاستخدام بندقية أبي الـ(عهد) ولكن رصاصاتها الخاصة غير كافية ....أفرغتُ ما فيها ....تأففتُ من حظي!...استقمتُ واقفاً ووضعتُ يدي على جبيني احجب ضوء شمس الغروب عن عينيّ....تطلعتُ للبعيد لجهتها حيث معركتنا الضارية ثم التفتّ للوراء مكان ايقاف سياراتنا العسكرية ....لا بديل لي إلا أن أعيد الـ(عهد) فهي ترافقني لالتمس منها بركة أبي بحُب وكي أشعر أنه معي بعد الله.....بالطبع لن اعتمد عليها لأنها من الطراز القديم رغم قوتها وصمودها!!...استدرتُ عازماً على جلب ذخيرة سلاحي المتطور...مشيتُ قليلاً ثم نزعتُ الواقي عني لأنه مدجج بالقنابل وجهاز الاتصال وناظور وقنينة ماء صغيرة ....أردتُ التخفيف من حملي لأعود سريعاً ..!!....انتبه لي (ضياء) فقال:
" إلى اين سيدي القائد هادي؟!"

" سأعود حالاً ان شاء الله....سأعيد العهد وأجلب صندوق الرصاص كاملاً.."

" ارتح سيدي....سأذهب بدلا عنك!!.."

" لا حاجة ضياء....ِشكرا لك...استمر بعملك وسأعود بإذن الله دون تأخير..."
" ارتدي الواقي تحسّباً.."

ضحكتُ من وراء لثامي والضحكة وصلته من عينيّ وأجبت:

" هناك أمان بإذن الله عند سيارتي!....لن تصل الرصاصات الطائشة هناك لأني أوقفتها اسفل المنحدر قليلاً .."

" حسناً سيدي القائد....بأمان الله"

حرّكتُ رأسي برضا وهمست:
" شكراً لك.."

هرولتُ مسرعاً بخطاي نحو مركبتي العسكرية....وعند كل ضربة مدفع أحاول الانبطاح حذراً.....!!...بينما من خلفي حيثُ كنت وصل اتصال عبر اللا سلكي لـ(ضياء) مصدره المعسكر وتحديداً من صديقي (أحمد)!..

" لقد اعترف الكلب خالد أخيراً عن مخططتهم ...يوجد طرف آخر بالأمر..."

شرح له بكلمات مختصرة سريعة ماهيّة المخطط..!!

"ماذا تقول؟"

سأل مرعوبا ثم اشرأب بعنقه ليرنو إليّ فوجدني كنتُ قد اجتزت العشب وأمتار قليلة تفصلني عن مركبتي رباعية الدفع الخضراء الخاصة بالمعسكر فابتلع ريقه صارخا :
" هاااادي "

وصلني صدى صوته فالتفت التفاتة يسيرة وتطلعتُ عليه ولم يرَ لمعة السعادة بعينيّ ولا الابتسامة المخفية تحت لثامي الأسود والتي كان سببها شعور لحظيّ براحة غريبة لم اذقها منذ زمن وما إن أكمل بصراخة قائلا:
"توقف وعد حالا!!.."

حتى أصبح الجو ضبابيا إذ أن الدخان غشى الأرجاء ورافقه تراب الأرض مع رائحة النيران التي امتزج بها الوقود ، الرصاص، احتراق العجلات وذوبانها إثر انفجارها بجزء من الثانية بعد تفخيخها بنية اغتيالي مما أسفر عن قذفي امتارا بالهواء لأرتد بعدها مرتطما بالأرض وقطعة حادة من حديد المركبة تغرز في بطني جاعلة الدماء تسيل بغزارة !!....سالت الدماء وجسدي التحم بالتراب طالباً الانتماء.....وتلك الوفية أبت مفارقتي....سقطتُ وسقطت فوقي....أيا عهدي استمري ناضلي من بعدي!!... أيا كرامتي انهضي مع الأشبال وقاتلي!! ...أيا روحي هذا الوطن فلا تنسي !!...أيا أماه ويا نبض الحياة ألم اخبرك عن عرسي؟!.....شعرت ببرودة ألمّت بي ثم استرخاء ثم لم أعد أحس بشيء بعدها سوى أصوات متفاوتة بين القريب والبعيد وآخر ما رأيتُ من واقعي وجه (ضياء) أحد اشبال كتيبتي الذي كان يهزني مع هتافه مرتجفاً:
"سيد هادي...أرجوك....لا تستسلم ....ستأتي الإسعاف حالاً إن شاء الله......حاول التحمل ولا تغلق عينيك !!....."

وبعدها أغمضتُ عينيّ هاربا من الواقع الى دنيا أخرى وحلم جميل ظهرت به أمامي حورية بيضاء مشرقة تختبئ ملامحها وراء دخان ...تناديني بترانيم عذبة... حاولتُ اللحاق بها وقبل امساكها انحجب النور من أمامي وغدا كل شيء حولي ظلاماً دامساً وتلاشى صوتها ليحل مكانه هدوء غريب مريب يتبعه حبس للأنفاس ثم النبض بقلبي أعلن ضعفه وحركتي سكنت بسلام وفوق دمائي وعلى أرضي رفعتُ لروحي راية الاستسلام...

[لا تَسلْ عن سلامتِهْ روحه فوق راحتِهْ بدَّلَتْهُ همومُهُ كفناً من وسادِتهْ
صامتٌ لوْ تكلَّما لَفَظَ النَّارَ والدِّما قُلْ لمن عاب صمتَهُ خُلِقَ الحزمُ أبكما
لا تلوموه قد رأى منْهجَ الحقِّ مُظلما وبلاداً أحبَّها ركنُها قد تهدًّما
هو بالباب واقفُ والرَّدى منه خائفُ فاهدئي يا عواصفُ خجلاً مِن جراءتِهْ]
(( كلمات الشاعر ابراهيم طوقان))

×
×
×

أنا هادي محي الدين الشامي
لمن سألوني من تكون؟
أنا لاجئ في سمائها والنازح في بلدها
وأنا الثائر في موطني ضد العادون
الفادي بدمي وسلاحي وأنا لمن احتاجني العون
وأنا الهيمان في حبها
أنا الولهان أنا المجنون
أنا العاشق المتيم المفتون
أنا المحترق بنار الغيرة
ولو طلت لخبأتها مخابئ الدر المكنون
أنا الديوان في قصائدها و الشعر
وأنا الدستور في حكمها والقانون
أنا المجروح برمحها. أنا المغدور. أنا المطعون
أقبلت عليها فاتحا صدري وحنايا قلبي
ودثرتها برموش العيون
وأقبلت عليّ برماحها تلطمني
وتغرز في قلبي العاشق خنجرها المسنون
جرحتني بغدرها وقتلتني بالظنون
أقبلت تزفني الفرحة وأدبرت تشيعني أحزان الكون
قاتلتي أنت. ألمي وجرحي
وأنا في زنزانة الوفاء لك مسجون
فاتنتي أنت. ولعنتي وفرحة مبثورة وبكاء وشجون
يامن اختزلتِ زرقة السماء في عيون
وظلام الليل الحالك أمام سواد شلالك يهون
يامن سرقتي من "المها" عيونها وقدها ورقتها
والجموح منها سبعون
آويتك في أرضي يا سمائي
فجرت لك منبع حناني عيون
وجعلت لك صدري ملجأ حنون
صبرت عليك يا قاتلتي وسيفك في ظهري مطعون
صبرت على جنونك حتى الرمق الأخير
وكنت الحد الفاصل بين الصمت والسكون
بين العقل والجنون
بين الاستقامة والمجون
ترأفي بحالي. يا ظالمتي
فمهما صبرت أنا البركان الهائج في ثورتي
أنا الطوفان. أنا السيل الجارف. أنا الغضب الملعون
أنا هامة الجبل الشامخ في الكبرياء
أنا الوفي لا أغدر ولا أخون
أنا الراقي في تعاملي أنا الحنون
وأنا الكابوس إن غضبت
وأنا الجفاف في أحاسيسي
أنا الجاثوم والمنون
وإن كان قدرنا الفراق رضيت
فالطيور على الشجرة لا تختارها الغصون
سأخط النهاية بيدي إن جرحت
حتى لو كنت بعشقك مفتون
وفي حنايا قربك ثمل حد الهذيان وحد الجنون
سأنتزع قلبي إن خانني
ونسيانك تتكفل به الأيام والسنون
يا ألم هادي وجرحه المدفون
(( كلمات من المتألقة الطاووس الابيض ))
شعرت ببرودة ألمّت بي ثم استرخاء ثم لم أعد أحس بشيء بعدها سوى أصوات متفاوتة بين القريب والبعيد وآخر ما رأيتُ من واقعي وجه (ضياء) أحد اشبال كتيبتي الذي كان يهزني مع هتافه مرتجفاً:
"سيد هادي...أرجوك....لا تستسلم ....ستأتي الإسعاف حالاً إن شاء الله......حاول التحمل ولا تغلق عينيك !!....."

وبعدها أغمضتُ عينيّ هاربا من الواقع الى دنيا أخرى وحلم جميل ظهرت به أمامي حورية بيضاء مشرقة تختبئ ملامحها وراء دخان ...تناديني بترانيم عذبة... حاولتُ اللحاق بها وقبل امساكها انحجب النور من أمامي وغدا كل شيء حولي ظلاماً دامساً وتلاشى صوتها ليحل مكانه هدوء غريب مريب يتبعه حبس للأنفاس ثم النبض بقلبي أعلن ضعفه وحركتي سكنت بسلام وفوق دمائي وعلى أرضي رفعتُ لروحي راية الاستسلام...

×
×
×

القنابل كالرعود تقصف مدوية على أرض الحرب تخلّف وراءها نيراناً براقة ودخاناً غزيراً يحجب أنوار الغروب.....النزاع مستمر...والمقاومة ثابتة!!....ثوّارنا صامدون لا يبرحون الأرض...تبادل مكثف للرصاص!...الإصابات تتفاوت والانتصار يتأرجح!!....المشفى الميداني المتنقل القريب يحتل بقعة تبعد عن ساحة المعركة أربعمئة وبضع من الأمتار!!...يتواجد في مكان أكثر انخفاضاً مما يمنع عنهم متابعة التطورات الميدانية بوضوح!!.....يُنقل إليهم المصابون بحالات متوسطة بواسطة مركبات عسكرية صغيرة ومن أصيبوا اصابات طفيفة يقدّم لهم العلاج الفوري مكانهم من قِبَل فريق طبي صغير مجنّد لهذه الخدمة ليعود الجريح للقتال من جديد فنحن نحتاج لكل عنصر سواء كان أساسياً أو بديلاً!...أما الحالات بالغة الخطورة والحرجة ينقلونها بسيارة إسعاف الى مشفى المعسكر الاكثر تطوراً!!....اتصال يتبعه انقطاع للاتصال دقائق على هذا الحال!!.....كان أحد أطباء الفريق المصاحب لكتيبتنا يعمل جاهداً على إيقاف النزيف بما لديه من معدات بسيطة ومحاولاً بشتى الطرق منعي من الغياب عن الوعي!!...مزّق قميصي للوصول الى الجرح دون أي عراقيل بينما تلك القطعة الصلبة الحادة ما زال جزءًا منها يغرس للداخل لا يستطيع تحريكها فهو لا يعلم لأي عمق تصل وأي عضو داخلي تضر!.....العرق يتصبب منه ....يركّز مرتبكاً تارة بإصابة بطني البالغة ثم يعود ليلقي نظراته للجرح العميق الذي أصاب ساقي بينما لسانه لم يكف عن القاء أوامره بتشديد لمساعده الأول كي يضغط جيداً بقطعة قماش معقّمة على المكان النازف بساقي قدر الامكان!!وكذلك بتكرار طلبه من مساعده الآخر للوصول هاتفياً للمشفى الميداني ....بعد عدة محاولات نجح بالاتصال ووضع على مكبر الصوت فقال الطبيب بصوت مرتجف لهم:
" اتصلوا بالمقر حالا حالاً واخبروا السيد سليم ليبعث لنا مروحية لنقل مصاب بحالة حرجة لمشفى المعسكر!!.."

مسح جبينه يزيل قطرات العرق بكم ذراعه وتابع لاهثاً:
" يوجد تشويش بأجهزة اتصالاتنا مع المقر والاسعاف لن تتمكن من الوصول إلينا فالطرق وعرة والوقت لن يسعفنا!..."

وعلا صوته بصراخ مشدداً:
" الإصابة بالغة الخطورة!...أسرعوا هيا وابعثوا لنا حالياً جهاز التنفس الاصطناعي من عندكم ريثما تصل المروحية!!.....لا نريد أي تأخير!..."

" من المصاب؟!"

ردّ محذراً بصوت مرتبك:
" القائد هادي!...عليكم التكتم عن الموضوع لمن حولكم وفقط اوصلوه للسيد سليم مباشرة وهو يتصرف بمعرفته!!...أحذركم ....يمنع تسريب الخبر!..."

حذرهم من ذلك لأن الخبر شديد الحساسية وبدستورنا عندما يكون الجريح من القادة يُكتم عن هذا لسببين أولهما منعاً من حدوث أي بلبلة وزعزعة لقوة الجنود تؤدي لإضعافهم واستسلامهم خوفاً او احباطاً !!....فللقائد دور كبير بتوجيههم ثم تشجيعهم وتحفيزهم للاستمرارية بالنضال والجهاد ويكون هو رأس القوة والقدوة في الصمود!!..فإن ذهب يتركهم بحرب نفسية اضافة للحرب الحقيقية!....والسبب الثاني عندما يكون بالأمر اغتيال فالأكثر حرصاً هو عدم نشر الخبر خشية من وصوله للأعداء الذين لم يتموا مهمتهم بنجاح وربما يعاودون لإتمام عملهم الناقص!....

استمر الطبيب بمحاولاته اليائسة كي لا استسلم...يكابد بجهد كي لا افقد وعيي كلياً فقد كنتُ بين الوعي واللا وعي!!....بعد عشر دقائق رجع إلينا المشفى الميداني باتصال يخبرهم بأن المروحية بدأت بالتحرك وستكون في الميدان بظرف دقائق قليلة!!.

×
×
×

عاصفة رملية هوجاء اجتاحت المكان حيث الأرض المستوية القريبة سببها هبوط المروحية العسكرية المجهزة بأجهزة طبية خاصة للحالات الحرجة.....قبل أن تلامس الأرض انفتح بابها فقفز منها السيد (سليم الأسمر) راكضاً بلهفة إلى بقعة تجمّعنا حيث يُقدم لي الاسعافات الأولية.....لم يأتِ كرئيسٍ للثوار ولحزبه....بل أتى مرتديا لباسه العسكري الذي يزيده هيبة وأتى كصديق ليطمئن على أمانة صديق من زمن ليس بعيد....أبي (محيي الدين الشامي).....أتى كأبٍ قلبه مرعوب على ابنه.....أتى كقائد يهتم بأشباله.....جاء إلينا كابنٍ لهذا الوطن الطاهر!!......يركض ملتاعاً مقبلاً نحوي حتى وصلني ثم بكل عزم وإصرار للانتقام تبعه الذي قفز من المروحية راسخاً على الأرض كالطود الشاهق وسلاحه يلازم ظهره كأنه وتدٌ يمنع انهياره ثم سار بخطواته الأبية مخلّفاً غباراً خلفه يشي عن سخطه متجهاً نحو هدفه المرصود إلى أن وصل ووقف مكانه ناصباً كتفيه بشموخ العز والكرامة هاتفاً بثبات:
" نحن جنودك يا ابن الشامي وأرواحنا للوطن وشرفاؤه فداء .....سندك حصون الأعداء لنعيد حقنا والدماء.....وسنجعل نهارهم ليالي ظلماء....قسماً بمن رفع السماء "

ثم استلّ رفيق درب المقاومة خاصته سلاح القناصة وأطلق رصاصاته المتوعدة الغاضبة بالهواء غير سامحاً لأي دمعة أن تبوء عن مدى حزنه الغائر في قلبه.....!.....سبقه الأول وقرفص جواري يحاول اخفاء وجوم وجهه من الحال الذي وجدني به بينما أعاد نظره فوراً يسلطه على ذاك الثائر الغاضب المرافق له والذي أفرغ خزينة سلاحه.!!....تبعهما الفريق الطبي المتخصص ينزلون من المروحية ويحملون المعدات الطبية اللازمة للتدخل الفوري !!.....الجو كان مشحوناً بالغضب واللوعة مع رائحة الرصاص المختلطة بالروائح الأخرى التي صدرت إثر تفجير السيارة والدخان الخانق والدماء الزكية !!.. ..منظر يرج الأبدان .....دمار يتبعه دمار.....ما أبشعه من منظر!!.....وما أوجعه من حال!!.......انتصب السيد (سليم) واقفاً بجسارة يدوس بها على آلامه ثم تطلع على تجمع لعصبة من الأشبال الذين كانوا الأقرب للحادثة وانشغلوا معنا يتراوحون بين العشرة والاثني عشر جندياً وقطب حاجبيه بقوة صارخاً بصرامة وهو يشير نحو شمس الغروب التي يظهر نصفها العلوي قبل الانغماس كلياً بالظلام وهي البوصلة لنقطة النزال الضاري:
" مكانكم هناك......ما إن أنزل يدي سأجدكم على أرضكم بالحال ولا أريد أي كلمة عمّا حدث...."

وتبع جملته يشير لستة منهم آمراً بخشونة:
" أما أنتم عليكم تمشيط المكان حالاً وجلب الكلب الخائن الذي فجر المركبة......يوجد سيارة مشبوهة ما زالت متوقفة بعيدة قليلاً عن المنطقة...... لقد تفحصنا الوضع من فوق بالمروحية....أي أنه ما زال في دائرتنا ......مؤكد يتخفى الحقير مرتدياً لباس بلون رملي وأعشاب للتمويه والأكيد أنه لم يبتعد كثيرا عن هنا........"

رفع ذراعه الأيسر ينظر لساعة يده العسكرية ثم ضرب شاشتها بإصبعيّ يمناه الوسطى والسبابة بحزم مضيفاً:
" معكم نصف ساعة ويكون تحت قدمي وإلا لا تروني وجوهكم!!......هيا انصراف...."

رفعوا أيديهم محاذاة جبينهم بتحية العسكر مجيبين بصوت واحد:
" أمرك سيدي..!!"

ثم انفكوا عن بعضهم ينغمسون بعدة اتجاهات بين التلال والحقول الشاسعة لمهمة البحث عن الخائن !!......عاد السيد(سليم) يركّز نظره مع الفريق الطبي الذي يعمل بطلاقة كيدٍ واحدة يتساعدون من أجل السيطرة على وضعي....!!...بدأت تمتماتهم تعلو وانتابتهم حالة من التوتر فهتف سائلا:
" ماذا يجري...؟!"

ردّ أحدهم مقرّاً بشحوب:
" نبضه ضعيف وضغطه منخفض جداً.......علينا نقله سريعا للمشفى وهناك نكمل....لا يمكننا ابقاءه هنا......لقد نزف بشكل مبالغ.....يحتاج لصفائح دم بديلة للذي فقده ولربما نحتاج لضربات كهربائية!!....أتمنى أن يسعفنا الوقت...."

التفت للذي أصدر شهقة خوف مغلّفة بالحزن الشديد ورآه يمسح دمعته فوقف بصلابة يكلّمه :
" ضياء......هادي لن يرضا بالضعف والاستسلام ......هيا اذهب لزملائك وكن جانبهم .....اذهب واتحد مع المساعد الأيمن لهادي ......عليكم سد فراغه حاليا..."

بصوتٍ حزين مرتعد ردّ عليه وهو يمسح دمعة أخرى:
" لا يمكننا أن نكون مكانه مهما فعلنا ......نحن نحتاجه سيدي !!.....أرجوكم افعلوا ما بوسعكم!!...."

لم يردّ عليه إنما أخفض رأسه من فوره يتابع بحدقتيه المحروقتين حزناً عمل الفريق الطبي الذي قرر وضعي على السرير النقال بكامل الحذر دون الاتيان بأي حركة خاطئة يمكنها ان تحرّك تلك القطعة الدخيلة فتزيد الوضع سوءاً ولمّا نجحوا بمهمتهم وتوجهوا للمروحية تقدّم بخطواته الصلبة ذاك الثائر الغاضب قناصنا وشيخنا الوسيم نحو السيد (سليم) هاتفاً بجدية وصلابة وبملامح أحد من السيف:
" اسمح لي لأكمل المعركة عن صديقي..."

رمقه بنظرة عابرة ثم ألقى حدقتيه للذين يسيرون نحو المروحية وقال بهدوء:
" اذهب....لا مكان لك هنا!!.. "

بانفعال رهيب وشموخ مهيب ردّ في الحال:
" مكاني هنا....لن أبرح الأرض حتى آتي بحق صديقي ووطني .."

بصرامة وتصميم بارد ظاهريا:
" قلت لا مكان لك هنا.....اذهب معهم"

بحرقة دم وقلب يئن بالألم هتف وهو يهز سلاحه بيده:
" سأقود المعركة عن هادي......سأكمل مشوار صديقي.....لن أسمح بدمه المهدور أن يضيع هباءً.....السيطرة شبه كاملة لنا......"

تقدّم نحوه بصلابة وقبض جانب كتفيه بقسوة يهزّه يريد أن يسنده لأنه يعلم عن الانهيار الداخلي الذي يعيشه وصرخ:
" أحمد....أنا من سأقود المعركة......الخطة معي ...لا يمكنني المجازفة بك وبالبقية ....."

بعينين سوداوين محتقنتين بدماء الغضب ودموع الحزن تملأ المقلتين ساخنة كاللهب ردّ مقهورا برجاء:
" سيد سليم أرجوك.....سأنفجر بمكان خطأ إن لم أحارب مكانه......سأتمزق من الداخل إن لم أكمل رسالته....سأحترق إن لم أجلب حقه!!.....اسمح لي أرجوك.....أنا أيضا أفهم ماهية الخطة وأعدك لن أزل والله معي !!...."

أفلت ذراعيه عائدا خطوة للوراء منتصباً اكثر بوقفته المهيبة ثم أشار بيده نحو المروحية آمراً بحزم لا يقبل النقاش:
" قلت أنا سأقود المعركة بإذن الله ....أما أنت جاء دورك الآن لتقوم بمهمتك السامية .....أن تكون الرفيق لصديقك في محنته ....أن تكون السند بأصعب اوقاته......إبقَ معه وافعل الاجراءات اللازمة هناك...صديقي الطبيب نضال موسى سيستقبلكم بمشفى الشمال....لقد أرسلتُ له رسالة عاجلة فمشفاهم من أقوى مستشفيات دولتنا تطوراً ....يديره نخبة من أمهر الأطباء..!... .هيا اذهب......لا تؤخرهم ....ستقلع الطائرة!..."

وأضاف حاسماً الأمر:
" اذهب بأمان الله ...سيلحقك سامي الى هناك بطائرة الشرطة التفقدية ...لقد طلبت من بلال اعلامه!.."

من سيطفئ غضب هذا الزلزال الناقم ؟؟....لم تعد عينيه الفحميتين سوداء بل أضحتا جمراً ملتهباً....يكاد يختنق...إنه وبكل ما فيه يحترق.....دماؤه ثائرة وحميته نافرة .....انصهر قلبه بين الوطن الذي نادى والصداقة التي نادت.....كانت قد مرت دقائق قليلة على نشر الاشبال للبحث عن المجرم الخائن !!......استدار يحاول ابتلاع سخطه بعد أن زمجر كالإعصار معترضاً .....مشى خطواته بقوة مضاعفة متجهاً ناحية المروحية حيث ينتظرونه ......وقبل أن يصلها بمترين التفت الى يساره عند سماعه أصوات زملائه الذين يمسكون بالوغد الذي كان ما زال على مقربة من الانفجار للاطمئنان على عمله ولم يتمكن من الهروب والافلات منهم بعد سماعه الأمر بالقبض عليه!....كانوا يصرخون مناداة على قائدهم الأكبر السيد (سليم الأسمر) هاتفين :
" سيد سليم...لقد تم القبض على المجرم الخسيس .."

دقة في النابض خلف أضلعه كانت الحاسمة...الدافعة...الداعمة.. ..أجل!.....لقد رآه بينهم....أجل لقد أكدوا أن ما بين أيديهم هو من فعلها.....فعلها وباع الوطن!....فعلها واغتال صديقه !.....كيف سيخمد ناره؟!....بماذا سيريح ضميره؟!.....باستدارة كاملة لجسده الصلب مزلزلة الأرض من تحته وبصرخة مجلجلة الأفق من فوقه هتف بغل وغيرة على وطن وصديق وكلينا نتقاسم قلبه:
" انظر إليّ أيها الكلب الحقير ..!!."

التفت إليه بالحال مع عصبة الأشبال وبشموخ الثائر الأبيّ ومهارته الفذة بالقناصة ....وبمجازفة دون ارتجاف او تردد صوّب سلاحه بكل دقة عالية واحترافية وثقة لا متناهية رغم وجود ذاك الخائن بين زملائه ثم أطلق رصاصاته ثاقباً بها جسده النجس تزامناً مع صراخه:
" مُت أيها الخائن ..."
" كن عبرة لغيرك يا وضيع.."
" كيف تجرأت وغدرت صديقي ؟!"
" جهنم وبئس المصير..!!.."

لينهي الأمر برصاصة على جبينه يطرح جثته المليئة بالثقوب والدماء النجسة ارضاً ونفخ ببرود من بين شفتيه على فوهة بندقيته ثم اشرأب بعنقه دون ندم أو خوف من سخط الذي كان يقف بعيداً مذهولاً ومصدوماً من فعلته وقد فهم على الفور سبب صدمته فصرخ بذات الثقة ليصل صوته إليه:
" سيد سليم اطمئن......لا تخف....أعلم لأي جهة كان تابعاً...لقد أخبرنا الخائن الآخر بذلك...."

ثم أضاف بعد سكتٍ يسير:
" ما كنتُ استطيع أن أكون جنب صديقي وانظر لعينيه لو لم أفعلها .!."

ورفع السبابة والوسطى بيمناه كتحية وسلام بينما كان يحتضن سلاحه بيسراه وابتسامة ماكرة مرتاحة تزيّن وجهه توازي دموع قلبه وقال:
" استودعكم الله....غزوة مباركة بإذن الله..."

وقفز صاعداً للمروحية ليبدأ رحلته الصعبة برفقتي....!!


~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~


من في البلاد لا يتابع أخبار حربنا ؟!....المهتم والغير مهتم....المساند والمعارض....الخائن والوفي!....تعددت النوايا ولكن المتابعة واحدة!!....فكيف بعوائل الأبطال؟!....كيف بأهالي الجنود؟!....كيف بمن وهبوا قطعة من روحهم لأجل الوطن ؟!....كم بيتاً خرج منه شبل؟...سواء كان ابناً او زوجاً او شقيقاً وأباً......هؤلاء هم الأكثر وفاءً واهتماماً بما يحصل في أرض المعركة....يرجون النصر للحق من أجل الوطن ويبتهلون من الله ليعيد الثوار سالمين إلى بيوتهم!!.....وهذا كان الحال في بيتنا الجبليّ.....كان (شادي) يتابع بلهفة آخر التطورات وكانت والدتي تطهو الطعام وقت الغروب....لقد أخبرتها شقيقتي أنها ستأتي وزوجها لتناول العشاء عندهم !....وبينما كانت منغمسة في عملها بالمطبخ شعرت فجأة برجفة في قلبها فوضعت يدها على صدرها بالحال متمتمة:
" يا رب لطفك....استر يا رب واحمهم وسدد رميهم ....يا رب كن معهم لا عليهم....يا رب اعد لنا ابناءنا بصحة وعافية...."

ثم تابعت عملها وشيء في باطنها يزعزع طمأنينتها....!!..

" شادي.....افتح الباب...الجرس لا يعمل وهناك من يدق علينا!!.."

صرخت بجملتها من المطبخ الأكثر هدوءاً فبغرفة العائلة صوت التلفاز يصدح بقوة ولم ينتبه للطارق.....لبّى نداءها في الحال وبعد دقيقتين دلفت إليها بمرح:
" السلام عليكم يا أم هادي ..."

ثم اقتربت ببطء من ثقل حملها وكبر بطنها فهي الآن في شهرها وقبّلت خد والدتي التي تفاجأت بمجيئها الآن قائلة:
" وعليكم السلام.....ما بكِ أتيت باكراً؟.."

والتفتت الى الوراء باحثة وهي تكمل:
" الطعام لم يجهز بعد....هل أتى زوجك معك؟!.."

عبست بدلال وردت :
" آه يا أمي...كان قد وصل الى البيت من توه....استحم واستلقى ليرتاح فجاءه اتصال عاجل هبّ من فوره على اثره وارتدى ملابسه اليومية بعفوية دون اهتمام وقال لي فقط...* عليّ الذهاب لخارج المدينة لاجتماع طارئ يخص عملنا....لا تقلقي ....ربما لن اعود الليلة ....اذهبي وابقي عند أهلك!..*....يا إلهي كم كان حانقاً متجهماً..."

ثم زفرت أنفاسها وتابعت بعطف عليه :
" بالطبع سيغضب وينزعج......لم يتركوه يرتاح مسكين.."

وضعت يدها على كتف ابنتها وقالت بهدوء فيه حزن لم تدركه:
" علّه خير ابنتي....لا نصيب له اليوم ليتعشّى معنا ..."

ثم مسحت على بطنها بمداعبة وأكملت:
" كيف هو حبيب جدته ؟!....أصبحتِ في منتصف شهرك وما زال ملتصقاً بك!.."

مسّدت بطنها بحنية وردت ضاحكة:
" بالفعل!... أظن أنه ينتظر انتهاء الحرب بإذن الله وعودة خاله هادي سالماً ليحضر ميلاده .."

ضحكت تجاملها ثم هتفت من جب فؤادها:
" يااااا رب "


~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~


لم تتزحزح من مكانها وهي تلهج بالدعاء ....قلبها منفطر عليها وروحها تتألم لأجلها .....ابنتها الروحية وسيدتها الصغيرة تعاني في غرفة العمليات وتصارع من أجل الحياة ولم يكن الحال أفضل عند (رهف).....كانت تدعو لها بقلبٍ خالص وهي تجوب رواق المشفى متوترة ....خطيبها يساندها في محنتها ويهدّئ من روعها عليها ....لقد فكرت السيدة (سهيلة) للحظة بأن تحاول الوصول إليّ ولو عن طريق السيدة (إيمان) بعد أن أدلى الطبيب بالخبر المؤلم الحزين!......ظلت حائرة في أمرها !...رأت أن الأصوب هو إعلامي بالأمر ولكن التيه الذي عاشته مع خوفها على من بالداخل جعلاها أن تتأنى بقرارها وأن تنتظر الساعات القادمة على خير!.....لقد مضت ساعة وأكثر بعد عودة الطبيب لاستئناف عمله !...العملية القيصرية لا تأخذ وقتاً ولكن حالة المريضة ليست طبيعية وعليهم الانتظار والصبر !.....انفتح الباب الكهربائي الفاصل بين غرفة العمليات وغرفة الانتظار .....خرج الطبيب إليهم وكان وجهه قاتماً بسبب الجهد الذي بذله فهرولت إليه (رهف) وخطيبها لتسأل بلهفة ورجاء مع دمعة سقطت من مقلتها:
" أرجوك أيها الطبيب...طمئنّا على كليهما!.....أرجوك لا تفجعنا!.."

أنزل كمامته عن فمه....تنهّد بعمق وأجاب بجدية:
" الأم بخير الحمد لله....لقد استعملنا بنجاً كاملاً معها لذا ما زالت نائمة !....."

قاطعته التي اقتربت منهم جالسة على كرسيها المتحرك وهي تقول:
" والذي في بطنها !....كـ....كيف حاله؟!.."

ضغط على شفتيه قليلاً وهو يهزّ رأسه ورد وهو ينقل حدقتيه بين ثلاثتهم :
" لقد أنقذنا الطفل بفضل الله ....وضعناه بالحضانة الخاصة لاكتمال نموه....لكن!!.."

ابتسمت (رهف) ابتسامة صادقة وسائلة:
" هل أنجبت ولد؟!.."

ليتبع سؤالها سؤال عمتها المرتبك:
" لكن ماذا ؟!."

تبسّم مجاملاً وهو يومئ برأسه ايجاباً ناظراً للأولى هامساً:
" أجل ولد..."

ثم اخفض نظره للأخرى مستطرداً:
" لكن الولد سنضعه تحت الرقابة المشددة لمدة أسبوع.....في الحقيقة وضعه ليس جيداً.....سنبذل قصارى جهودنا والأمر كله في الأول والآخر على الله .....دعواتكم!!..."


~~~~~~~~~~~~~~~~~


كم مرّ من الوقت؟!...لا يعلم !....كيف استطاع الصمود أمام زوجته دون أن يشعرها بخطب ما قد حدث ؟!....حقاً لا يدرك!.....أتاه الاتصال المشؤوم تاركاً قلبه مكلوم ....نزل عليه الخبر كالصاعقة وهو في البيت إلا أنه بقدرة الله ثم قوته تمالك نفسه حتى ارتدى ملابسه وفرّ خارجاً منه بعد تحججه لها بعمله وقاد السيارة بجنون حتى وصل مركز الشرطة ومن هناك أوصلوه إلى تلة الصقور حيث تنتظره المروحية الخاصة بالشرطة أعلى الجبل...!!....وها هو دخل الى مبنى المشفى في شمال البلاد بعد هبوط طائرته في ساحتها!....كان يسير مسيّر حيثما يأخذه قلبه وأينما يهديه حدسه ....خطواته كانت واسعة كاد يكسر بها الأرض الرخامية من تحته.....قاطب الجبين والدمع في العين حزين!....يسير ويا ليت له جناحاً ليطير!....لا يعي ولا يفقه من أين أتته تلك المقاومة للثبات بينما عقله يقول له...ماذا ستفعل لو توأم الروح قد مات ؟!.......أخيراً مال يساراً الى الرواق الواسع حيث كراسي الانتظار وباب كهربائي عريض خلفه مريض بحالة حرجة...وربما!....بحالة احتضار!.......اسرع بخطاه أكثر ليُكشف له المكان بصورة أكبر ويرى صديقنا بلباس الثوار الأسود يجلس على كرسي وهو يتكئ بمرفقيه على ساقيه ويحاوط رأسه بكفيه يطرقه للأرض ولسانه يتمتم بالدعاء بينما يهز رجله بتوتر وارتباك ليحرر وضعه ذاك عند سماع الهمس المخنوق للآتي من بعيد :
" أحـ....أحمد!..."

تلاقت أعينهما المجمرتين وتعانق قلباهما النازفان بوفاء واخلاص ليهمس الجالس ووجهه محتقن بدماء الوجع:
" سـامي!!....لقد أتيت!.."

ثم انتصب واقفاً يقابله وهو يجول بنظره لياقة بلوزته الكحلية الغير مرتبة ولشعره المبعثر ووجهه المصفر وكأن الدماء هربت منه وأكمل بصوت ثابت مزيّف:
" هادي يا سامي....ادعُ له...."

هل حاله يسمح بالدعاء؟!...هل مظهره يوحي لمعالم الحياة عليه اصلاً؟!...كلا....بقيَ صامتاً وملامحه مبهمة....يقف صامداً وقواه آيلة للسقوط....من قال أنه حيّ؟....هل الحياة بالشهيق والزفير والنبض بالقلب فقط؟!....كم احياءً أمواتاً على الأرض ؟!....وهو أصبح منهم!....أجل.....لن يعيش إلا إذا برق الأمل عند فتح ذاك الباب!...لن يتكلم إلا إذا بشّره الطبيب بالجواب!....يتطلع عليه (أحمد) بينما هو يلوذ بالصمت.!....رفع يده إلى كتفه يشد من أزره وقال وهو يشير بالأخرى إلى المقعد الملاصق لهما:
" اجلس يا صديقي......أنت ليس على ما يرام!.."

ألقى حدقتيه البنيتين للباب ثم لصديقه وبالكاد سحب قدميه ليرتمي بوهن على المقعد وجاهد بخوف شديد ليخرج سؤاله:
" كـ...كيف هـ...هو؟!....مـ...ماذا حدث معه بالضبط؟!"

جلس جواره ووضع يديه بين ساقيه ناظراً إليهما وأجاب وهو يصك فكيه بغيظ:
" حثالة لم يستطيعوا مواجهته وجهاً لوجه فلجأوا إلى الغدر...."

شد قبضتيه ثم رفع قبضة يسراه وضرب ذراع المقعد وهو يكز على أسنانه مردفاً بسخط :
" تأخرت....تأخرت بحمايته!.....ذلك الحقير خالد لم يعترف عن مخططهم إلا باللحظة الأخيرة...تباً لهم وتباً لي ولتأخري!..."

لام نفسه كثيراً ....رأى أنه قصّر باستجواب الجاسوس.....ما كان عليه لينتظر حتى ينطق.....كان عليه اخراج الاعتراف منه ولو اضطر لاجتثاث لسانه ..لو أنه عاد إليه قبل الغروب...لو أنه صمم اكثر...لو استخدم أساليب التعذيب..لو...لو..لو...لكن ما الجدوى الآن من الملامة...لم يزده هذا إلا غلّاً وقهراً....بل ضاعف من عذابه لنفسه وهو بأمس الحاجة للحفاظ على قوته دون حرق طاقته...فاليوم أمامه طويل والمشوار في الصبر أطول!!.... عليه الرضا بما قضى الله...ما به حانق وساخط وهذا قدر لا يستطيع تغييره مهما فعل.؟!....مسح شعره بغيظ من أفكاره ثم تمتم مستعيذاً بالله من الشيطان الرجيم ومستغفراً ....التفت ليمينه حيث يجلس الآخر لحظة همسه الخافت الذي خرج بسبب صوته المخنوق:
" أين إصابته تحديداً؟!.."

صمت برهةً ولمعة ألم اجتاحت عينيه المحمرتين وأجاب وهو يشير لبطنه :
" قطعة حديد من السيارة مزقت بطنه....."

قاطعه متسائلا:
" هل اخترقت الواقي؟!"

" لم يكن يرتديه !....نزعه ليخفف حملاً عنه كي لا يتأخر عند جلبه الذخيرة من سيارته"

تنهد موجوعا ثم أشار لساقه وفوق الركبة تحديدا ليكمل:
" وإصابة أخرى بساقه ....رأيتها ليست هيّنة ...أعانه الله وشفاه ..."

واستطرد بالحال:
" الحمد لله أن رأسه لم يتأذى على الأقل.....كان يرتدي الخوذة!.."

هزّ رأسه ولا يعلم ماذا يجيب وماذا يقول له وعن ماذا يسأله ثم عدّل جلسته يحني ظهره يتكئ بمرفقيه على ساقيه ويضرب برتابة قبضة يمناه ببطن يسراه من شدة قلقه وغضبه ووجهه الأشقر محتقن بالدماء الحانقة على الخونة وعيناه متكدستان بدموع أبت الخروج من بيتها فعاد الآخر لجلسته الاولى يحاوط رأسه ليستأنف أدعيته ثواني ثم دقيقتين وبذات اللحظة رفعا رأسيهما وانتصبا واقفين معاً بطولهما متأهبين لحظة خروج ممرضتين تهرولان بتوتر لتناديا على الطبيب الأعلى شهادة صاحب المشفى وصديق السيد (سليم) لأمر عاجل ثم اعترضا طريق ممرض ثالث خرج من نفس المكان بعد لحظات ليسأله الأكثر تحكماً بانفعالاته هذه اللحظة:
" ماذا يجري ؟!"

قبل أن يجيب تطلعا لحالة الاستنفار التي حدثت خلفهما وهو قدوم الطبيب المطلوب راكضاً مع مساعديه والممرضتين فتتبعا دخولهم حتى اختفاءهم بملامح مبهمة وذهول وعيون حائرة ضائعة ثم عاد (أحمد) ليسأل الذي ما زال بقربهما:
" أجبنا!.....ماذا يجري في الداخل؟!"

طرق رأسه وأجاب بإيجاز :
" المريض......توقف قلبه!"

* المريض توقف قلبه*...
جملة رنّت بأذنيّ أولهما لتصل مخترقة أذنيّ الآخر !!....

المريض توقف قلبه!!....
توقف يا زمن وسجّل ....هناك لعهد الصداقة من خان......اكتب يا قلم وبالتاريخ سجّل ....بطل يموت على يد جبان.....انزل يا غيث وعلى التراب سجّل ....في بلادنا ضاع الأمان!.....ابكي يا عين ويا دمع على الخدّ سجّل....متى سيكون الإنسان إنسان؟!.....اغضب يا قلب وبنبضاتك سجّل ..... هان الوطن هان هان !.....امضِ يا عمر وبين أيامك سجل ....لم يكن للسعادة مكان.......الزم مكانك أيها الزاهد العابد وعلى سجادة صلاتك سجّل......دعاء يبعد عنا الأحزان......أفكار عاثت بهما ولم يجدا لحالهما عنوان.......متى ولمن سيشيعان الخبر وكيف سيبشّران نبع الحنان؟......بأي حال ستغدو ؟.....أببكاء وعويل أم ستعلو بالزغاريد وستفرش الأرض بالورد والريحان؟!..........ما بالهما واقفان بجمود؟....ألم يستوعبا بعد؟....هي ثواني لم تجتاز الدقيقة جمعت كل الخواطر السيئة في ذهنهما .....صدى الجملة عاد ليرنّ داخلهما وكأنه ينبههما ليستيقظا من سكوتهما.....قرعت الطبول في قلبه هذه اللحظة حال ادراك ما سمع وتغيّب عقله عن التفكير ذاك الأشقر ومن هول صدمته أمسك تلابيب الممرض وهو يهزّه صارخاً:
" كيف تقول هذااا؟"

يهزّه ويتابع بذات النبرة:
" أتعي ما تفوهت به؟!"

كان (أحمد) ليس أحسن حالاً.....كان يجاهد للثبات وهو تائه أيمسك الدموع من عينيه أم يسكت صراخ أوجاعه أم يوقف نزيف قلبه؟.....ومن بين توهانه لفت انتباهه حركات صديقه العدوانية مع الممرض دون ذنب له......فاختار الصمود أكثر غير سامح لحاله بالتحطم وفك بصعوبة تلك الضحية من براثن غضب الأشقر الذي لم يعد يتمالك نفسه بعد أن أفلته وهو يدور هائجاً ناقماً يركل المقاعد تارة ثم يقلب غيرها ويدنو من خزانة زجاجية تحوي على مطفأة الحرائق يضربها بلكمته الصلبة ليتناثر زجاجها وتتناثر معها دماؤه الملتهبة غير آبه لها ولا للمكان الذي هو فيه ولا للتجمع الذي بدأ يحدث من نوبة الغضب التي اقتحمته ....مغيّب مغيّب كلياً فقط يركل ويرعد ويزبد ناقما ساخطا كارها كل غدار وكل خائن بعد أن صرخ صرخة خرجت كزئير الأسد الهائج بينما من يحتاج للسند مثله تضاعفت مسؤوليته وهو يحاول أن يهدئه ويسكته قائلا :
" استهدي بالله يا سامي....لا تفعل هذا بنفسك!"

لم يعره اهتماماً وأكمل بثورانه يدور ويدور دون أن يخف هياجه فاقترب منه بعزيمة وأمسكه من كتفيه يحاول تثبيته صارخاً به:
" كفى يا سامي كفى....ما هذا الجنون؟"

رغم غضبه المستعر وعروقه النافرة الا أن الانكسار كان واضحاً عليه بمظهر اكتافه المنحنية وانخفاض رأسه أرضا ولكن عند كلام صاحبه الأخير استقام بقامته ثابتا وحدّجه لثواني ثم رفع يديه يمسكه بقوة هاتفاً:
" أين ذاك الحقير....أين ال***....أريد أن أقتله بيدي.......دلّني عليه....دلني....سأريه الويل ..."

شدّ أكثر على جانبيّ كتفيه وهزّه هاتفاً بصوت جهوري متين خارجه القوة وباطنه حزن دفين:
" لقد قتلته.....قتلته يا صديقي ولن يجدوا عضوا واحدا سليما داخله......مات موتة الكلاب....ذهب الى الجحيم...ارتح يا صديقي.....ليس أحمد من يترك وضيعاً نجساً يتنفس خلفه.....لست أنا من أترك دماء أخي ورفيقي وأمضي في حياتي!....."

ما زال (سامي) يمسكه من ياقته وما زال (أحمد) ممسكا بكتفيه.....حلّ الصمت بينهما لثواني سقيمة يلقطا أنفاسهما ليكسر ذاك الصمت الأخير الذي همس:
" إنا لله وإنا إليه راجعون.....إنا لله وإنا إليه راجعون"

قالها وهو يدنو برأسه لا شعوريا لرأس الآخر الذي هتف بضعف ونبرة قاتلة من شدة ألمها وهو يفعل بالمثل ليلصقا جبينيهما ببعضهما :
" لا تقلها ...أرجوك....لا أستطيع السماع....أي حمل سيتركه لي لو راح !....أي جراح سيوشم بقلوبنا ؟....لم يمت.....صديقنا قوي...سيقاوم وسيشهد على استقلالنا واستقرارنا....سيحتفل معنا بانتصارنا الذي بات قريب..."

" يا ليت يا صاحبي يا ليت....ليتنا في كابوس وسنصحى منه......ليتنا لم نسـ...نسمع بـ..بآذاننا أن قلبه ....تـ...تـ..و..قف.."

والى هذه النقطة انهارت الحصون واغلقت الجفون بعد ان غرقت العيون وهما على وضعهما جبهاتهما ملتصقة وناصية الحزن تربطهما دون همس يخرج من أيٍ منهما تزامناً مع نزولهما أرضا ليقرفصا متقابلين يشبهان طفلين فقدا أمهما ثم ينفجران ببكاء مرير يمزق نياط القلوب ويذهب العقول...كان الوجع في القلب دفّاق والدمع من العينين يراق...عجز...ضعف ثم احتراق...يبكيان بحرقة وألم دون أن ينفصلا وكأنهما يشدان من أزر بعضهما....يشعران بفراغ مميت....وكأن شيئاً ينقصهما....صورتهما غير مكتملة......هناك قطعة مهمة مفقودة....قطعة لا يستطيعان التنفس دونها.....لا يمكنهما الاستمرار قُدماً من غيرها ......قطعة ستحرمهما تذوق الفرح مهما صار......قطعة فككت عقد عهد الصداقة.....!!.........قطعة ربطت صداقة ثلاثي بمتانة ...ثلاثي لم يزعزع علاقتهم غضب.....ولم تفرق قلوبهم هجرة......ولم تصبهم عين.....قطعة نفيسة بنظرهما سرقها منهما الموت على يد جبان وكل خوّان......اسودت الحياة أمامهما وضاقت الدنيا عليهما وسدت الطرق بوجهيهما وفي بالهما....انتهى العهد...... وذهب (هادي)...!!
وكانت آخر همسة مستضعفة هربت من شفتيّ شيخنا:
" فلنعزي أنفسنا....إن ملتقانا الجنة بإذن الله"


~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~


مرّ اسبوع وحالها لم يتغير.!!....فبعد استيقاظها من تأثير البنج واستيعابها لما حصل معها كانت ردة فعلها الأولى البكاء والبحث عن صغيرها بهيستيرية مما اضطرهم لإعطائها مهدئ بالحال ...فلم ينفعهم الكلام معها واخبارها أنه حيّ......لقد دخلت العملية وفي بالها فقط أنها فقدت طفلها!!....نامت وصحت على هذه الفكرة ....وبعد ساعات قليلة من أخذ المهدئ والنوم عادت إليها مربيتها و(رهف) مجدداً ...انشغلتا لتهدئتها من انفعالها وحدّثتاها عمّا حصل معها وبشّرتاها بأنها أنجبت ولدا وبأنه بخير وموجود في الحضانة لاكتمال نموه....لم ترَ سابقاً رضيعاً عن قرب....لم تخالط أطفالاً بهذا العمر....لقد عاشت طوال عمرها منعزلة عن المجتمع وتقابل فئات قليلة منهم....وفجأة أصبحت أماً خرجت منها روح أخرى!.....عندما هدأت بالفعل وأصبحت بنفسية أفضل قليلاً قررت (رهف) مرافقتها لغرفة الحضانة الخاصة بابنها كما قال الطبيب بأنه سيبقى بها تحت الرقابة للاطمئنان عليه!....كانت تمسك بها صديقتها وتتقدمان بتمهّل الى تلك الغرفة.....كم عاد إليها الأمل والشوق لتحتضنه!....تمشي بانحناء تمسك بطنها لشعورها بالألم وهي ترتدي رداء المشفى الخاص وحجابها يحيط رأسها بعشوائية.....وصلتا إلى هدفهما....لم تستطع لمحه من النافذة الزجاجية ....دخلتا إليه وكانت باستقبالهما ممرضة لترشدها على كيفية اخراجه والتعامل معه.....في البداية رغم الوجع كانت سماءيها تبرقان بالفرح توقا لرؤياه وقلبها يخفق بالحنان الفطري....ما زال بالحاضنة الشفافة التي تبعد عنها امتاراً قليلة وهي تقف بمنتصف الغرفة......فجأة....تسمّرت مكانها لحظة اخراج الممرضة له منها ....ما هذا؟...من هذا؟....انخطف اللون عن وجهها....تصلّبت شرايينها....ابتلعت ريقها وعلا وجيب الخوف بقلبها!...بصعوبة وبطء التفتت الى يسراها من حيث تمسكها صديقتها وعيناها جاحظتان وهزت رأسها برفض هامسة:
" مـ....مـ....ما هذا ؟..."

وضعت يدها تمسح بها على ظهرها لتسكنها وهي ترد:
" تقدّمي حبيبتي....هذا ابنك...هيا اقتربي!.."

حثّتها لتتقدم وفعلت بتثاقل لأنها هي من تدفعها ....دنتا من الحضانة ثم التفتت للتي همست وهي تحمله بابتسامة:
" انظري لصغيرك ما أجمله.."

ثم مدّت يديها لتقربه منها بالمجال الذي تقدر عليه لأنه مربوط بأسلاك تخص مراقبة الاعضاء وجهاز للنفس فحالت بين الاستجابة لها والهروب من هنا صدمة جعلتها تتحنّط مكانها وكأنها تمثالٌ في متحف يعبر عن صورة بائسة لفتاة محطمة حملت كل هموم الأرض على أكتافها !....لم تتزحزح قيد أنملة....ولم تبدر منها همسة!...فقط ما كان يوحي بأن هذه مخلوق من البشر هو حركة صدرها بفعل اضطراب نفسها الذي يتضاعف وجلاً!......كررت تلك طلبها بهدوء....مرة تلتها مرات!....فحررت نفسها من جمودها وهي تستدير لتهرب من المكان متمتمة:
" لـ...ليس ابني!.....هذا ليس طبيعي!....انتم تكذبون!....!..."

وبدأت تسرع خطاها وهي تتأوه ممسكة ببطنها والحجاب انزلق عن شعرها غير آبهة له أو غير مدركة لحالها ...تحاول الركض متعثرة بأوجاعها و(رهف) لحقت بها فوراً لتسندها حتى وصلتا غرفتها ثم أشارت لخطيبها ليذهب ويؤذن بأذنه وبقيت هي عندها.!!....لقد دخلت بصدمة من صغر حجمه ومظهره الذي لا يشبه الاطفال الطبيعيين ....لأول مرة ترى هذا المنظر!....فعقلها لم يستوعب وحدود معرفتها لم تتقبّل أن الطفل السباعي يكون بهذا الشكل والحجم وخاصة بعد ما عاشت من معاناة قبل دخولها غرفة العمليات....معاناة أذهبت ما تبقّى عندها من عقل!.....والآن ها هو الأسبوع مرّ على هذا الموقف وهي ما زالت في غرفة المشفى بالكاد تأكل وتشرب دون أي كلام يذكر....لقد دخلت بنوبة اكتئاب ما بعد الولادة...عبّرت عنها بالصمت التام والشرود في الفراغ....دون بكاء ودون صراخ ودون اعتراض.....أضحت كدمية يسيّرونها ...لتأكل...لتستحم...لتنام!...اس? ?وع لم تفكر بزيارته رغم وجودها معه!!....
كان هذا هو اليوم المتفق عليه من أجل تسريحها للبيت......فصحتها الجسدية جيدة بفعل المغذيات ومكان العملية وضعه ممتاز.....لا حاجة للبقاء......فقط عليها العودة للمشفى بشكل يومي لزيارة ابنها ومحاولة ارضاعه !!..ارضاعه؟!...وهل حالتها تسمح؟!....هل وضعها طبيعي؟!......اسبوعا كاملا والممرضات ومربيتها وصديقتها تستنزفن طاقتهن لإقناعها بأن تضعه على صدرها علّه يتذوق حليبها ....لكن محال...ما من مجيب!!....هي في عالم آخر بعيداً عنهم....ما زالوا لم يفقدوا الأمل منها فوصوا من ترافقاها بأن لا تستسلما بمحاولات اقناعها لإرضاعه ...فقد كان لديها فائض من الحليب لدرجة كان يلطخ ملابسها ويجعلها رطبة ....خسارة!....كان يضيع سدى دون استغلاله ...سيجف حليبها دون أن تغدق على ابنها به...فلا يوجد أفضل من حليب الأم الطبيعي!!....لكن!...ما ذنبها إن كان المشفى حكومي يرتاده البسطاء ويفتقر لنواحي كثيرة منها أطباء بدرجات عالية أو اخصائيين واستشاريين نفسيين لمثل هذه الحالات وغيرها؟!...اخصائيين يشخصوا حالتها ويفعلوا اللازم من أجلها!......لم يعيروا حالتها اهتماماً وظنوا أن هذا مؤقتا وسيختفي تدريجيا في غضون أيام قليلة....أو ربما تجاهلوا ولتنزع هي وذويها أشواكها بيدها!!...قمة الاهمال والتسيّب!!....مشفى مثل هذا لن يكلف نفسه كثيراً لتوظيف هذه الفئات لنشر التوعية والارشاد فهو بالكاد يعمل على المهم...إنقاذ حيوات!.....لا يدركون أن هنالك أناس يُقتلون بالحياة إن لم يجدوا أحداً يمسك يدهم!........ على الأهالي الانتباه والسعيّ لتدارك حالات بناتهم قبل تفاقم الوضع وقبل الوصول لمراحل صعبة للاكتئاب مما لا يمكن التعامل معها ومن الممكن أن تصل الى حد الأذية....سواء الأم لنفسها أو لابنها!....فكم من حادث حصل....سببه اكتئاب ما بعد الولادة!........ساعدت (رهف) تلك البائسة ذات الحظ العاثر بارتداء ملابسها وحجابها ثم توجهتا برفقة السيدة (سهيلة) الى غرفة الطبيب الذي أشرف على حالتها بعد أن طلب منهم ذلك من أجل اجراءات الخروج...!!.....جلست (رهف) على كرسي أمام مكتبه بعد أن أجلست (ألمى) على الآخر المقابل لها والمربية بقيت على كرسيها المتحرك تتوسطهما فافتتح الحديث مبتسماً بطيبة وتواضع ناظراً إليها ثم سألها:
" كيف أنتِ الآن سيدة ألمى؟!"

تطلعت عليه تنظر إليه نظرات خاوية دون إجابة ...كرر سؤاله بأسلوب آخر حتى تجاوبت معه تهز رأسها رامشة بعينيها إيجاباً وكأنها تريد أن تتخلص منه!....تبسّم لهذا التجاوب الفقير....وحرّك أنامله بمهارة على لوحة مفاتيح حاسوبه يكتب عن حالتها وما يترتب عليها عمله كزيارة طبيبة نساء بعد شهر للاطمئنان على رحمها وما عليها أخذه من فيتامينات وأدوية ثم قام بطباعة ورقة ليسلمها لها وبهذه اللحظة دخلت الممرضة المسؤولة عن طفلها تريد توقيع من الأم يوثق معرفتها وموافقتها أنهم سينقلون ابنها الى قسم الخدّج الكبير بعد تحسن حالته وتقدّمه!...وقبل اخذ التوقيع بدأت تملأ استمارة اخرى بتفاصيل عامة لبعثها للداخلية من أجل اضافته لهويتها! ....تنقل عن ورقة غيرها رقم هويتها وتاريخ ميلادها وعنوانها وجاء الدور المهم والأكثر حماساً عند كل أم وهو تسمية مولودها!....رفعت رأسها باسمة تسألها بهدوء:
" أجل سيدة ألمى....أي اسم يا ترى اخترتِ لابنك؟!.."
هل قالت ابنها؟....إنها لا تعترف به!....سألت مرة وتبعتها بمرة ومرة ولم يصلها أي رد....تنهدت الممرضة بتعب واحباط واستقامت واقفة رغم محاولة الموجودين معها لجعلها تنطق بالاسم ولكن كل هذا لم يجلب أي نتيجة فانتقلت تمد لها الورقة الأخرى تطلب توقيعها على الأقل....سلّطت حدقتيها عليها تنظر بلا مغزى ثم بكل برود وهدوء قامت عن كرسيها واستدارت خارجة غير مهتمة لأصواتهم ونداءاتهم واسئلتهم فاستقامت واقفة (رهف) واحتارت وهي تنقل نظراتها بين طيف الخارجة والطبيب وعمتها والممرضة ثم لحقت بها يائسة لتتمتم الجالسة على كرسيها المتحرك بالحوقلة والاستغفار حزينة عليها فقاطعت تسبيحاتها التي هتفت لها:
" سيدة سهيلة....بما أنك الأقرب لها...يمكنك التوقيع عنها وتسمية الولد.....لا بد أنها قالت أمامكم مرة أي اسم ترغب تسميته!....اريد الاسم الكامل ضروري لأني سأرسل الاستمارة للداخلية من أجل تسجيله في الدولة."

مطت جذعها قليلاً نحو مكتب الطبيب تخط توقيعها بعد أن هزت رأسها موافقة على التوقيع وعند الاسم شردت قليلاً تبحث عن طرف خيط يرشدها الى أي الاسماء تحب فلم تتذكر أنها خاضت معها حديث عفوي يخص هذا وكذلك لم تنس رفضها لانتقاء اسماء إن كان ولدا أو بنتاً وأنها تركت هذا لهذه اللحظة التي حُرمت من لذتها !!....بحثت وبحثت في أروقة عقلها وتلك الواقفة تنتظرها بصبر.....لاح أخيرا في بالها اسم برأيها هو الأنسب....تبسمت ابتسامة واهية ...زفرت أنفاسها ثم نطقته وأكملت في سرها بريب " سامحيني صغيرتي....هذا ما يجب أن يكون....وعليك القبول به لا مفر "

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~


وبمشفى الشمال كما الوقت في بلاد اللجوء ازدهرت الآمال وربما القلب عن الفرح سيبوء!!.....إنه صباح اليوم السابع على التوالي يصعدان فيه الى الطابق الثالث ويتوجهان تحديداً الى الغرفة المنفردة التي نقلوني إليها بعد أيام من تواجدي بقسم العناية المكثفة وهما يستعدان للحظة على مدار الاسبوع انتظراها وهي لحظة ايقاظي من المنوّم الذي استمروا بإعطائي إياه كي لا اشعر بآلامي وجروحي العميقة الشديدة .......رغم ذبولهما الصريح ونفسيتهما الشبه محطمة من الأرق والقلق وسهاد ليلهما إلا أنهما متحمسان كثيراً لسماع صوتي ورؤيتي مستفيقاً فاتح العينين.......الفرحة لا تسعهما وتفيض منهما كالشلال المتدفق فهما لم يلبثا أن ينسيا ما عاشا قبل أيام ساعة وقوع تلك الجملة البغيضة على مسمعيهما......فبعد انهيارهما التام وتسليمهما لأمر الله بدقائق قليلة خرج إليهما نفس الممرض ليلقي إليهما البشرى بأن بعد رحمة الله وكرمه وقدرته نجح كادر الأطباء بإعادة نبضات القلب إلى مسارها الصحيح مستخدمين كافة الأجهزة المتطورة لديهم بما فيها جهاز الضربات الكهربائية.....وقتها انقلب حالهما وتبدلت سحنتهما فأضحت عبرات الحزن دموع فرح وتكشيرة الوجه ابتسامات صادقة وهما يحتضنان بعضهما بقوة غير مصدقين أن هناك شيئا أشبه بالمعجزة قد حصل وهما أكثر من يوقنان أن لا يرد القدر إلا الدعاء والله استجاب لندائهما الصادق وأن طالما رضا الوالدين يرافقنا فسينجينا الخالق من سابع سمائه...!!.......يومها صليا معا ركعتي شكر لله على عطاياه بقلب خالص وأمضيا ليلتهما حتى الشروق بالمشفى دون أن يغلق لهما جفن وبعدها أصرّ الصديق الطيّب وشيخنا الوسيم على (سامي) ليعود أدراجه إلى المدينة الجبلية بعد اطمئنانهما على استقرار حالتي كي لا يثير الشكوك والشبهات وخاصة أمام أهلي فما حصل معي ما زال طيّ الكتمان وهم يعلمون أنني بالجنوب أحارب وقد أمضى الأخير أيامه بين العمل وزيارتي أما اوقاته القليلة التي تواجد بها أمام زوجته كان يتحاشى النظر إليها ليخفي معاناته من الكارثة التي ألمّت بي!!.......خفف الأطباء من جرعة المنوم تدريجياً وجاء وقت استفاقتي!......بدأتُ بالتململ أشعر بجفاف حلقي وشفتيّ ثم قمتُ بالشد على عينيّ......أحسستُ أنني بدنيا غير دنيانا....رأسي ثقيل ثقيـــل ....جفوني ملتصقة....بالكاد حتى فلحتُ بفتح عينٍ واحدة ثم تبعتها بالأخرى وما إن فتحتهما بشكل أكبر حتى قفز كل منهما على جانبيّ متحمسان وباسمان وهامسان بصوت كأنه خرج من فم واحد:
" هادي.....حمداً لله على سلامتك"

" مـ...ماء....أريدُ ماء..."

نطقت حروفي ومررتُ لساني على شفتيّ ليتحركا بنفس الخطوات يبحثان عن قارورة قريبة هنا او هناك فتبسّمت الممرضة التي كانت ترافقهما مع الطبيب وهو رئيس المشفى وصاحب السيد (سليم) وهمست لهما:
" انتظرا......سنسقيه عن طريق إبرة أفضل الى حين أن يصحصح أكثر..."

ثم بعملية وهدوء قامت بالأمر تسقيني قطرة قطرة دون ارتواء....!...

تفحص الطبيب جروح العمليات بمساعدة الممرضة وتبسّم مطمئناً لأنها غير ملتهبة ووضعها سليم ثم نظر لصديقيّ هاتفاً بعد أن رأى حماسهما لمساعدتي:
" يمكنكما عند استيقاظه جيداً مساعدته بارتداء منامة المشفى....البنطال والقميص......وإن عاد لوعيه بالكامل اخبرا الممرضة لتوجهكما كي تدعماه ليتمشّى قليلاً إن استطاع وأراد ذلك!....طبعا مع مساعد المشي الخاص."

×
×
×

بعد أن تفحص الطبيب قيمي وحالتي تركنا ومعه الممرضة ليبقى بجانبي رفيقيّ درب طفولتي وشبابي ...كان احدهما يجلس على الأريكة التي تحتل زاوية جانب النافذة والآخر على كرسي يجاوره.....يتبادلان أطراف الحديث تارة ثم يراقبانني بعيونهما ....مرّ وقت طويل كنتُ فيه اخرج تمتمات غير واضحة غالبيتها ثم أعود لأغط بنوم عميق......ساعات طويلة أمضياها ما بين تواجدهما جانبي او خارج الغرفة يتمشيان......يتناولان وجبات تسد رمقهما ويشربان قهوتهما ليستمدا القليل من الطاقة .....حلّ المساء فوصلتُ الى مرحلة كاملة من الوعيّ.....كنتُ أتأوه بها عند محاولاتي التحرك...تناولتُ وجبة عشاء خفيفة وبدلت رداء المشفى المفتوح بمنامة ثانية من قطعتين وهذا بالطبع بمساعدة الغاليين على قلبي!.....شرحا لي مع الطبيب حادثتي وكل ما مررت به !....سمح لي الطبيب بالتحرك دون بذل جهد .....جلبوا لي أداة المساعدة على المشي كخطوة أولى....كنتُ أرتدي لباس المشفى الخاص وفي يدي تغرز ابرة مربوطة بالكيس المغذي ....أعانني صديقيّ لأنهض جالساً على فراشي ....باغتني الدوار لوهلة وكأني أحمل جبالاً على كتفيّ نزولاً لعضديّ.....انتظرتُ قليلاً ثم زفرتُ نافثاً أنفاسي لأقف....لقد شعرتُ بالملل حال افاقتي الكاملة ....كرهتُ تيبس أطرافي..واختنقتُ من الغرفة أريد استنشاق هواءً طبيعيّاً.....المرة الأولى كانت صعبة والثانية لم تكن أقل منها صعوبة وعند الثالثة شددتُ عزيمتي ...عليّ النهوض ...لن أحاول بل سأفعلها حتماً.....ما زال صديقاي يقفان جانبي ولم اسمح لهما بمساعدتي بهذه المرحلة رغم اصرارهما لكني العنيد الأكثر اصراراً.....توقفتُ أخيراً ثابتاً مكاني....بفضل الله....تبادلت النظرات والابتسامات معهما فربّت (سامي) على كتفي هاتفاً بحماس:
" أجل....هكذا أيها الفهد الأسود...يمكنك فعلها...لم تخيّب ظني بك!"

ضحك (أحمد) ضحكة رجولية معتزاً بي ليضيف على كلام الأول:
" هذا صديقنا العنيد....لن يثنيه شيء ولن ينال منه أحد حمدا لله"

مع تشجيعهما شعرت بدمائي تجري بحماس بمنابعي وداريتُ أوجاعي....الوجع سيزول....المهم أنني حيٌّ برعاية الله...نجحتُ بالوقوف والآن عليّ أن ابدأ كطفل أتعلم خطواتي الأولى.....انحنيتُ اتكئ على قابض مساعد المشي وحركته قليلاً لأحرك قدميّ ....تقدمت بيميني السليمة وأردت أن اتبعها بيساري السقيمة وهنا بالذات ...كانت الفاجعة.... ومركز التحول الأصعب بحياتي.....لم أشعر بها ولم استطع نقلها .....في البداية لم الفت انتباههما وفي النهاية ظهر الأمر كإشراقة الشمس على وجهي وجوارحي....انتبها لعروق يديّ البارزة الممسكة بالمساعد ولأوردتي النافرة على عنقي وأنا اجاهد بنفاذ صبر على جعلها تتزحزح غصباً عنها ويجهدني العرق......تبادلا نظرات بينهما بدت مصدومة لكنهما يفقهان ماهيتها دون أي همسة وارتأيا السكوت دون تدخل.....بقوة تملكّتني بفضل النيران التي اشتعلت داخلي عدتُ للوقوف دون دعم المساعد وأمسكتُ بيديّ أعلى ساقي اليسرى لأحملها كي أدفعها خطوة للأمام....نجحتُ بنقلها وأردت الصمود لأنقل الأخرى معطياً الأمر لعقلي...لكن عند تمركز ثقلي على الجريحة الرخوة اختل توازني وتقلقل ثباتي وكبناء شاهق انفجرت أساساته انهرتُ سامحا لنفسي ان أتحول على الأرض كالركام بضعف واستسلام إلا أنني لم أصلها بسبب اللذين بمحبة ودعم لا محدود وبحركة شهمة أخوية متوازية من كليهما أمسكا بذراعيّ يسنداني بما اوتيا من قوة وارجعاني لأجلس على السرير ليهمس توأم روحي وهو يضع يده على كتفي:
" ارتح هادي....ربما استعجلنا على هذه الخطوة..."

وتبعه (أحمد) يضع كفه على مؤخرة عنقي يمسدها بدفء وعطف قائلا بصوته الهادئ:
" ستفعلها يا صديقي......الله ثم نحن معك "

لم اعطهما أي ردة فعل ...ربما يشعران بي وما أعيش داخلي أنا واثق من هذا فنحن الأصدقاء منذ الطفولة نقرأ افكار بعضنا.!!...حرارتي وصلتهما...حرارة منبعها بركان يحرق دواخلي!.....كم تمنيتُ الهروب منهما ومن نفسي هذه اللحظة.....كم وصلتُ لدرجة صعبة من القنوط....شعور لم أعشه آنفاً وانا الانسان الصابر المؤمن بقضاء الله وقدره....لكن العجز أطاح بي...بدد أفكاري وشتتني من ذاتي......نفسي محطمة والقلب مكسور واي انكسار؟....انكسار عميق جعل الروح تنوح.....القلق من وضعي يجري في منابعي كجري النار بالهشيم!...."ما بي؟..."...اتساءل بسري..." أهناك شيئا لم يخبراني به؟"....أكملت تساؤلاتي لنفسي بنفسي!........كيف الهروب وأين أذهب!.....ناشدت وحدتي....أريدُ عزلتي ...فألقيتُ كلماتي إليهما وكانت كجمرٍ لاذعٍ عليهما:
" اخرجا.....لا أريد أي أحد!"

ربما لسعتهما كلماتي....لكني مجبر....اشعر أني أحتضر وانتظر ملك الموت ليرفع روحي للسماء!....الى الحنّان المنّان ....لأطوف في أعالي الجنان.....فأنا سئمت...سئمت هذه الدنيا.....كل المشاعر السلبية تكابلت عليّ هذه اللحظة الأليمة....وكأن حياتي توقفت هنا....اليوم أعلن تاريخ وفاتي عن عمر يناهز السابعة والعشرون عاماً....أجل أنا متّ ....شيعوني واجعلوا تراب بلادي يحتضن جثماني!......لمّا لم أرَ أنهما تحركا ثرتُ أكثر فخرجت نبرتي من بين أسناني بشكل أقسى وجافة:
" قلت ...اخرجا..."

رمش شيخنا الوسيم مع ايماءة برأسه للأشقر الذي لم يهتم لكلامي يطلب منه الخروج معه متفهماً حالتي وأني ارغب بالبقاء وحدي فانصاع ذاك دون رضا يسحب قدميه بتمهّل ولما خرجا وأغلقا الباب خلفهما نزعتُ بغلّ الابرة من يدي والقيتها لحيث تستقر ثم اتكأتُ بمرفقي على فخذيّ منحنياً للأمام وحاوطتُ رأسي من الخلف شابكاً كفيّ ببعضهما سامحاً لعبراتي أن تتحرر من محجريهما لتتساقط على بنطالي ...بكيتُ وبكيتُ وآاه كم بكيتُ....بكيت لضعفي وقلة حيلتي....شريط أحلامي وأهدافي مرّ من أمامي وكلها تحتاج قوة وجسد سليم وأنا الآن غرقتُ بهوّة وساقي غدا سقيم ....كم من الجراح تحملت وكان أكثرها هذا أليم.....اختفى شريط الأحلام من أمامي دون رجعة وصارت أهدافي أوهام....هذا ما رأيت ....كل شيء تحطم وكل طموحاتي تلاشت.....شردتُ بالنافذة أمامي لا أصدق أن بعد الليل سيضيء النهار.....ظللتُ شارداً دون هدف يرصد......لأدخل بحالة اكتئاب ما بعد الصدمة..!!....أما بالخارج يقف البطلان حزينان على وضعي ولكنهما يشجّعان أنفسهما أنهما لن يستسلما.....منذ متى كان الاستسلام موجوداً في عهد صداقتنا ؟؟....تحرّك (سامي) يسير ذهاباً وإياباً يفكر ويفكر بينما (أحمد) يستند على الحائط يقف على رجل والأخرى يرفعها للخلف يكتف ذراعيه يسرح بالرواق الواسع ليشارك صديقه بالتفكير والذي توقف عن حركته سائلا:
" ماذا سنفعل معه؟!....عليه أن يعلم."

ردّ عليه بهدوء وركازة:
" علينا الصبر والانتظار أياما أخرى!.."

اقترب منه عابساً وجزعاً ليقول:
" نصبر وننتظر ماذا؟!.....لن يغير شيء هذا!..."

بذات الهدوء المريح أجاب:
" مع الصبر والتروّي تأتي الحلول من عند الله..."

بغيظ من الوضع هتف بوجع:
" سمعت بالحرف الواحد ما قاله الطبيب لنا ولا أدري لما طلبتَ اخفاءه عنه؟!....."

ثم تحرّك مكانه يمسك صدغيه مرهقاً من التفكير وحائرا ليضيف:
" أنا في دوّامة ....لا اهتدي لحل....كيف سأخبر أهله؟...بل كيف سنخبره !..."

حرر ذراعيه وانزل قدمه المرفوعة على الحائط ثم قطب جبينه منزعجاً ورد مصمماً:
" أهله لا تخبرهم.....فليظنوا أنه ما زال في ارض الحرب وتحجج بأي شيء عن قلة تواصله معهم الى حين تحسّن نفسيته ليتكلم معهم!......أما هو قلت لن نخبره عن وضعه...!"

" وضّح لي لماذا أنت مصر؟.....أليس من الأفضل أن يعلم بأن ساقه أصبحت في شبه إعاقة دائمة وعليه التعايش وتقبل نصيبه؟!.."

قال معترضاً على طلبه فدنا منه ذاك الذي يكون هادئ بقرارته وغاضب عند غيرته ليجيبه واثقاً:
" إن علم عن وضعه سيستلم للأبد ولن يقاوم...عقله الباطني سيقتنع ويقنعه أن يتقبل عجزه....ستهبط عزيمته وتهرب إرادته ....ألم يقل لنا الطبيب أن بمثل حالته تكون نسبة ضئيلة جدا ليتماثل للشفاء ولكنه يحتاج للإرادة والاهتمام وكذلك معجزة من الله....تلك النسبة لو كانت جزَيء بسيط ...سنعتمد عليها وننميها له....سنصنع الإرادة ونطلب العون من الله.....سندفعه ونقنعه أنه يستطيع.....سنتكاتف ونتعاون لنثبّت أمامه حلمه الذي تمنى الوصول إليه ....بالإيمان بالله والتوكل عليه والقرآن......وبالتشجيع والإصرار....لن نقبل الهزيمة ولن نيأس.....سنعتبرها معركتنا وعلينا الانتصار على الألم...على العجز......نحن قاتلنا أقوى الرجال بفضل من الله أنضعف أمام عجز بسيط قادر أن يشفيه؟!......"

تنهّد يستعيد أنفاسه وتابع بصوت أقوى إنما ما زال يحافظ على هدوئه:
" هذه مهمتنا السامية يا سامي .....مهمة من أغلى المهمات!.."

ومدّ له يده يبسطها أمامه مردفاً بتحدي:
" أتريد أن تكون معي لنقضي على عجزه ونعيد إلينا هادي البطل بإذن الله؟"

تطلع على تقاسيم وجهه الوسيمة الرجولية ثم أخفض عينيه ليده ولم يتوانَ ولم يعطِ نفسه مهلة للتفكير وهو يلثم كفه بكفه ثم يشدّه إليه يحتضنه ويضرب بخفة على ظهره بيده الأخرى يؤكد له كلماته:
" لا تسأل يا صديقي....معك حتى النهاية...أشر لما تريد وأنا جاهز إن شاء الله"

شدّ من احتضانه وربّت مثله على ظهره وهو يبتسم بفخر واعتزاز هاتفاً:
" ها نحن جددنا العهد وسيعود إلينا بإذن الله صديقنا الفهد ....سيعود كالسابق وأقوى وسيحصل على مراده...ودائما الله معنا..."

تبسّم براحة متنهداً وكأن حملاً أزيح عنه وهو ينفصل عن حضنه هامساً:
" نعمَ المولى ونعمَ النصير.."


~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~


هناك في أرضنا الطاهرة الفسيحة ما زالت الاشتباكات على حالها ....قاد معركتي السيد(سليم).....كان ينقسم جنودنا ويتناوبون كل يوم....قسم يرتاح وآخر يقاتل في الليل والصباح وبما فيهم القائد.....أكثر من أسبوع مضى على حادثتي حتى أتتنا بشرى كدنا نفقد الأمل منها في السابق بعد انتظارنا لها ....بشرى جاهدنا لنحصل عليها ...فقد كان بعض من إداريي حزبنا وقادتنا والمتحدث الرسمي الأول بشأن الثوار مع المتحدث الثاني أي اختصاصي العلاقات العامة وهو شيخنا الوسيم يبذلون جهودهم ومساعيهم وهم يلتقون بشكل سري بكبار ومسؤولي جنود الدولة من أجل اقناعهم بالتحالف للقضاء على زمرة نتنة باقية من النظام السابق تحاول توسيع دائرتها وتكثيف جنودها واتباعها الخونة لإعادة قوتها والسيطرة على الحكومة والرئاسة ثم الوطن بأكمله من أجل مطامعهم التي لا تنتهي وجشعهم الذي لا يزول وها هو أتى اليوم الذي وافق به جنود الدولة للانضمام الى معركتنا يصفّون جنبنا كتفا على كتف ويدا بيد وبهذا ازدادت قوتنا وتضاعفت عزيمتنا فاشتد القتال والنزال.......خطط تغيرت وتبدلت باتفاق .....رسموا تكتيكاً لحصارهم ...جنود صفوف أولى وثانية وعتاد رهيب متطور للاستخدام العسكري.......قاموا بإنشاء حصوناً ولجأوا لخنادق كنا قد حفرناها سابقا استعدادا لمثل هذه الأيام....بدأوا يقاتلون من فوق الأرض وتحتها.....حرب ضروس واستنزافات هائلة وخسائر بالأرواح وبالمادة.....المدفعيات تنتشر بكل مكان ومدرّعات ثابتة .....أسلحة مختلفة تتصدى لنيران العدو ....منا المهاجم ومنا المدافع .....تكتيكات متقنة ومدروسة على أيدي أكبر الخبراء من القادة ....تحدّي منا وعناد....إصرار وتصدّي هدفه تحرير البلاد وتطهيرها من الأوغاد.....الأيام تمرّ والساعات الطويلة عسلها بالحرب مُر......فأي حياة هي حياة الحروب.....أي نفسية يعيش الجنود البواسل....أي طاقات يستنزفون....بأي ثمن يضحون من أجل مستقبل باهر فيه الأمان والاستقرار لأولادهم......أي كلمة شكر تكفيهم....أي حق سنوفيهم؟......جنود وثوار يحملون أمل لغدٍ مشرق مكلل بالنجاح والعيش بسلام........وها نحن كنا وما زلنا وسنستمر حتى نذوق لذة الانتصار على كل خائن، عميل، مجرم وجبّار......!!


~~~~~~~~~~~~~~~~~~


مرّت من أمامهما كأنها طيف أو شبح تسير بلا روح خارجة من الحمام متجهة إلى غرفتها المشتركة مع (رهف) ...جسدها غدا أكثر نحولاً وبياض بشرتها صار شاحباً وسماءيها حزينتان تحيطهما ظلمة من الذبول أما شعرها تربطه لها صديقتها بعفوية للخلف كأنه غير مسرح ومهملٌ دون عناية!!.....نظرتا إليها بأسى على حالها ولمّا اختفت عن أنظارهما تطلعت الجارة ليمناها حيث تجلس السيدة (سهيلة) والتي لم يخفَ على أحد انطفائها من شدة تأثرها مما حلّ بصغيرتها وسيدتها ثم سألتها فضولاً ترتجي من خلفه الاطمئنان على ضيفة حيهما :
" ألم تتحسن بعد؟! هل ما زالت مصدومة ؟!"

هزّت رأسها بحركات بطيئة من ثقل همها بعد أن زفرت أنفاسها الجريحة ثم استدارت ليسراها لترد بهدوء ونبرة يائسة:
" منذ اسبوعين أي منذ خروجها من المشفى وهذا حالها يا أم وجيه !!.....عجزنا عن اخراجها من صدمتها ....تمضي يومها متقوقعة على سريرها ....بالكاد تدخل لقيمات قسراً لمعدتها ...تجبرها عليها رهف....."

حشرت الكلمات بحلقها فخرجت منها باختناق وهي تكمل:
" قلبي منفطر لما آلت إليه ولم أعد أقوى على رؤيتها بهذا الوضع.......ما بيدي حيلة....ما بيدي حيلة ....اسأل الله أن يتولاها......والحمد لله على كل حال......الحمد لله.."

وسكتت لتسمح لدمعاتها المحروقة بالإفصاح عن مدى وجعها وقهرها عليها...!!

تركت تلك الجارة الطيبة لها المجال لتفرغ كبتها وحزنها على أمانتها وهي تلتزم الصمت ...وكم تعاطفت معهن وشعرت بضيق من أجلهن وراحت تفكر كيف ستساعد وكيف بإمكانها مد يد العون لهن.....فهي لمّا سمعت ورأت ما حل بضيفة الحيّ الحسناء الفاتنة اختلجت صدرها غصة ....فتاة بعمر الزهور تَضيع وتُضيع معها طفلاً لا ذنب له .....طفل يحتاج حضن الأم والحنان ......رضيع يتواجد في احدى زوايا المشفى منذ اسبوعين وبقي أياما وليالي أخرى قليلة من أجل تسريحه لبيته ....ينتظرون اكتمال نموه وتحسن وضعه أكثر فأكثر.....ابنها الذي تطور بشكل ملحوظ بفضل من الله والذي لم تفكر بزيارته كل هذه المدة....ليست قسوة ....ليس نفور .....إنما لا مشاعر لديها لا إيجابية ولا سلبية.....انعدمت أحاسيسها ....تعاني من اضطراب ما بعد الصدمة......صدمتها بكائن تراه بحجم لا يتصوره عقلها ولم يتقبله......لجأت للصمت والصمت فقط ....لم تبح عن شيء منذ رؤيته ....عن ماذا أساسا ستبوح وهي معطوبة التفكير؟!.....لم يأتِ في بال إحداهما أي مربيتها مع ابنة شقيقها أن هذا ممكن أن يكون بداية اكتئاب ما بعد الولادة .....تراكمت الهموم والغموم عليهما من أجلها وصدمتهما بردة فعلها إزاء ابنها الذي عدّت الثواني وهي بانتظاره لاحتضانه لم يعطهما الفرصة للتفكير السليم والبحث الدقيق عن حالتها !.......كانت الجارة ما زالت تبحث في عقلها وفجأة تذكرت حالة مشابهة لحالتها حدثت بالسنوات الخمس الأخيرة مع كنة شقيقها فتبسّمت متحمسة تقطع شرود جارتها العزيزة السيدة (سهيلة):
" صحيح تذكرت........لا بد أنك تذكرين أنت كذلك ما حصل لكنة شقيقي عندما أنجبت ابنها الأخير .....كانت حالتها مطابقة تماما لحالة ألمى...."

رمقتها بنظرة لثواني معدودة تحاول بها استرجاع ذاكرتها التي تخونها أحيانا ثم غضنت جبينها عندما وصلت لمبتغاها لترخي بعدها ملامحها وتبتسم هامسة:
" أجل...أجل....تقصدين ممكن أنها تعاني من اكتئاب وعلينا اللحاق بها ومعالجتها قبل تدهور وضعها؟!...يا الله كيف لم يخطر على بالي هذا ....توقعت مجرد صدمة ومع الأيام ستزول "

وضعت يدها تربّت على فخذها وأسنانها البسيطة تظهر من ضحكتها البشوشة التي تنير وجهها الطيب وهي تجيب:
" بالضبط......أتذكرين يومها زوجها حفظه الله لأنه انسان واعي ومثقف ويحبها أدرك حالتها الغير طبيعية وسعى من أجلها فانقذها قبل فوات الأوان حمدا لله..."

اختفت الابتسامة عن وجه السيدة(سهيلة) ونكست رأسها لحجرها وهي تضع كفها فوق الآخر ثم همست بأسى:
" يا ليت....ليت زوجها هي الأخرى بجانبها!.....حرمت نفسها منه .......كان سيفعل مثله وأكثر مؤكد...لم يكن ليتركها تعاني .....خسرت رجل من زينة الرجال وعائلة لها مكانها بالمجتمع بسمعتها الطيبة ورقيها .......فليسامحه الله والدها الذي دمر حياتها وفرّق بينهما .....كنتُ سأضعف وانكث عهدي وقسمي معها وأتصل به إلا أنني بالدقيقة الأخيرة ألغيت فكرتي خوفاً من ردة فعلها....خفت أن أخسرها للأبد فهي مكسورة الجناح وربما لو فعلتها كانت ستضيع كلياً لأنها عند عنادها وعزة نفسها تثور وتتهور دون تفكير فتغرق بمصائبها أكثر هداها الله....."

هزّت رأسها جارتها تتفهمها وهي تحوقل وتدعو بإصلاح الحال ثم علت نبرتها لتشجعها قائلة:
" الله يفرج الحال ....صبرٌ جميل والله المستعان......ها ماذا قلتِ؟!....."

لاذت بالصمت للحظات ثم وجّهت وجهها للأخرى وهي توجّه سؤالها:
" لكن....المستشارة النفسية أو الأخصائية العاطفية ألن تحتاج لمال كثير؟!....."

هزّت رأسها إيجاباً وهي تجيب:
" بالطبع لا يوجد اليوم شيء دون ثمن او مقابل.....لكن مؤكد حسب حالتها والمدة التي ستستغرقها بالعلاج !.....هي ما زالت في البداية فالحقوا بها هذا أفضل من أجلها ومن أجل التكلفة الأقل ...يعني آمل ذلك وأتمنى ألا أكون مخطئة بتقديري!........فأصحاب الخبرة هم من يعرفون تشخيص حالتها ويقررون كيف العلاج يكون! لكن بالنهاية تحتاج لمال ليس بقليل بالتأكيد...فهذه مراكز خاصة وليست حكومية..."

سرحت قليلاً مربيتها فاستطردت جارتها:
" ماذا ستفعلين؟.....كيف ستدبرين أمر المال؟!..."

تنهّدت وهي تنظر للفراغ ثم أعادت حدقتيها إليها وردّت مجبرة على هذا الحل:
" عندما سافرت لوالدها من أجل اللقاء الأول ...كان قد مضى أيام يسيرة على وفاة خالتها ....يومها زارتني صديقة خالتها السيدة إيمان تحمل بعض الأمانات من أجلها ونبهتني أن لا أسلمها لها إلا عندما يعود لها عقلها بعد معرفتها بالحقائق وكانت قد جلبت معها رزمة من الدولارات تعود لزوج ألمى هو من سلّمها إياها كي نصرف عليها ما تحتاجه تلك الفترة قبل أن يحوّل لها مبلغاً طائلاً لحسابها أعادته له في الحال لا تريده........ولأنها عادت ثائرة وحانقة عليه آنذاك لم استطع اخبارها بزيارة السيدة إيمان ولا بالمال الذي اجبرتني على أخذه بأمر مشدد من زوجها...فأنا أعرف صغيرتي مجنونة....ستمزق المال لا تدرك قيمته ولن يهمّها أساسا والمهم أن تدمر كل شيء منه!....خبأتُ هذا المال وقلت لنفسي حد الله ما بيني وبينه.....حرّمته علينا وخبأته ولم أخبر حتى رهف عنه.......فيومها قررت أنني لن أطعمها وأكسوها منه لأنها لو علمت سيجن جنونها وستكرهني!.....لكن الآن الصحة وسلامة عقلها أهم......الآن تفكيرها ليس سوي وعقلها غير سليم لأستشيرها واطلب رأيها ..أنا مجبرة على استخدام هذا المال وقسما لو كان معي مثله لما ترددت ولما فكرت لألمس هذا.......ينتظرها طفل كأنه يتيم الأبوين ملقى بين حيطان المشفى !!.....فليرضا الله على رهف وخطيبها الذين يقوما بزيارته يوميا للاطمئنان عليه والاهتمام به وتسميعه آيات من الذكر الحكيم!.......آن الأوان لأتصرف ولن يهمني لو علمت لاحقاً بأن مصروف العلاج من زوجها .....فلتفعل ما تريد لن أهتم والمهم هو أن تعود لوعيها لتحتضن طفلها البريء ...!!.....المستشارة النفسية ستساعدها بالكثير الكثير بعد تراكم مصائبها عليها مصيبة تلو مصيبة...."

تنهّدت بأريحية هذه المرة بعد أن اهتدت للطريق وتبسّمت بامتنان لجارتها التي فتحت ذهنها ثم طبطبت على يدها شاكرة وهي تضيف بهمس:
" بارك الله فيك يا أم وجيه.....لولاك لما كنتُ أعرف كيف سأتصرف وماذا سأفعل من أجلها.....أراحك الله مثلما أرحتني واسأله أن تفرحي بأولادك...."
دخل بيته متسللاً بساعات متأخرة من الليل.....لا يريد أن يوقظها....فهذا حاله منذ أسبوعين.....يهرب منها....يهرب بوضوح!.....لا يقدر على مواجهتها....يعيش أوجاعه بصمت أمامها لأنه لا يريد أن يشركها...كل مرة يبتكر حجة لكثرة غيابه......ماذا سيخبرها؟.....شقيقك عاد من الموت وأصبح بعاهة شبه مستديمة؟.....ربما...ربما لو أنها ليست حاملاً كان سيخبرها وستكون أكثر تفهما وتحملا......لكن حالتها لا تسمح بأن تستقبل صدمات وخاصة مع الهرمونات التي تجعلها بحالة غير طبيعية!......صعد الى غرفتهما ولم يشعل النور ....توجّه الى طاولة الزينة وخلع ساعته ووضع هاتفه ومفاتيح سيارته!. ثم أشعل الإضاءة الخفيفة الصفراء التي تحيط بالمرآة ....أصدر جهازه رنة قصيرة واضاءت شاشته....حمله يقرأ الرسالة الواردة ...تبسّم ابتسامة مائلة قبل أن يرد على ما ورده فهتفت من خلفه حانقة:
" أضحكنا معك!..."

أيعلم كم هي مشتاقة لحضنه؟....أيشعر كم هي تواقة لقربه؟....كم هي بهذه الأيام تكون بأمس حاجته..؟.....إنها بأيامها الأخيرة من شهرها التاسع.....كل تفكيره يصبه بهمّه الموجود بمشفى شمال البلاد......يحبها.....يعشقها ...لا خلاف!...يشتاق وآه آه من نار الاشتياق ......لكنه يمر بأوقات عصيبة تجهلها.....أهملها بشكل جليّ وهو الذي كان الأكثر حماساً لهذه الأيام ينتظر ولادتها!.........لا مزاج للمداعبة والمشاكسة...روحه المرحة يكاد يختفي أثرها من البيت....روحه التي تملأ الأرجاء بطاقة إيجابية......طاقة اعتادت عليها وفقدتها قبل أيام ...لكم اشتاقت لسماع ضحكته...إنها حتى افتقدت نعتها بالضفدعة......تراه على غير عادته وبدأت تعصف بها الأفكار وتذروها الوساوس.....ليس ذنبها....هرمونات منها وهروب منه ما عساها أن تظن؟!.......أجفل من همسها بعد نهوضها من السرير وزلوفها إليه فاستدار والهاتف بيده هاتفاً بخفوت:
" دنيا.....ما بك مستيقظة؟......إنها الساعة الثانية بعد منتصف الليل!..."

راقبت نبرته وراقبت يده وتحديداً اصبعه الذي أغلق الهاتف من الزر الجانبي ظنا أنها لم تنتبه فخفق قلبها ثائراً بسخط وغيرة وحاولت تجاهل اسمها الصحيح الذي كادت أن تنساه من شفتيه لأنه نادراً ما يلفظه فهو يناديها...دنيتي وغيرها من قائمة تحببية لا نهاية لها عنده وكذلك تجاهلت عدم طبع قبلته على وجنتها التي هي من طقوسه اليومية عند دخوله البيت ووقوع عينيه عليها وهمست بصوت مهتز :
" منذ متى تبقى بالعمل لهذه الساعات؟"

ضحك ضحكة هازئة مبتورة وأجاب معترضاً:
" نعم؟!......منذ متى تتدخلين بساعات عملي ؟!"

ارتج الشهد بعينيها وعلا صوتها مجيبة:
" سأتدخل.....هذا حقي!.....ألا تلاحظ حالتك بالأيام الأخيرة؟....فقط تهرب من البيت ......دوما عمل....اجتماع....لقاء اصدقاء ....معسكر.....وأين أنا من بين كل هذا؟!.....أجبني!..."

استدار للمرآة يوليها ظهره بعد أن وضع هاتفه وبدأ بفك أزرار قميصه دون النظر لانعكاسها وهو يقول ببرود حازم كي يحسم الأمر دون فتح مجال للنقاش:
" أنتِ في قلبي.....وهذه ظروفي الحالية وعليك تقبلها"

ثم رفع حاجبه بحدة ورمقها بنظرة أكثر حدة من المرآة وهو يتابع عمله وقال بنبرة خافتة تحذيرية:
" وألف مرة قلت لك.......صوتك لا يعلو.."

دنت من جانبه مشتعلة وأمسكت ذراعه ليستدير نحوها وهتفت بثبات :
" الآن ستشرح لي ظروفك هذه كي أتقبلها كما تريد......لست مجبرة لأتقبل شيء أجهله!.....ألا تفكر أن خلفك امرأة على وشك الولادة....أين حماسك؟...أين مسؤوليتك اتجاهي ؟"

التفت إليها بكامل جسده بهمّة نارية وأمسكها من ذراعيها منحنياً بوجهه الذي اكتسى احمرارا بعد إثارتها لحفيظته....يدرك...يدرك كل شيء لكن ما بيده حيلة....أيجلس جانبها ويلاطفها ويفيض بعشقه عليها وهنالك من ينتظر دعمه قبل السقوط الى الهاوية؟؟....تضغط على أعصابه وتزيد عليه وهو ضائع يؤنبه ضميره لأنه مقصر بحقها هذه الفترة.....تمنى في سره أن تصبر عليه وتتفهمه دون أن يبوح بالهموم التي اثقلته....لكنه يعي أنها لن تصل الى هذه النقطة من فهمه دون أن يشرح لها ولو القليل ويعلم أن لا يوجد أحد يسمع من أخرس وهذا حاله.....لكن ضغطها الآن ولو محقة به ولّد انفجاره فهزها دون قصد وصرخ بها:
" لستُ ملزماً لأشرح لك برنامج أعمالي....أنا أعلمك بما عليك معرفته لا أكثر لا أقل .....طلبتُ منك البقاء هذه الفترة عند أهلك ورفضتِ....لم أجبرك إنما أجبرتُ أخي ليكون دائما مستعدا من أجلك ووصيتُ والدتي عليك....وهاتفك يلازمك لأي حالة طارئة لتتصلي بهم كما قلت لك!....ماذا يمكنني أن أفعل أكثر وهمومي تغرقني من رأسي لقدمي؟...أجيبي!.......أما حماسي بابني إن لم أعبر عنه هذا لا يعني أنه تغير.....ومسؤوليتي اتجاهك لا تعلميني إياها وأنت أكثر من تعرفين بأنني لا أقصر بواجباتي اتجاه أي أحد يخصني.......فاستهدي بالله واختصري ...لننام بهدوء لأنني مرهق ومنهك ...."

تساقطت الدموع على خديها واحتقن انفها باحمرار طفيف لطيف ...احمرار غضب وألم واحمرار من رغبتها به....تريده بشدة....وتشتاق....وتشعر أنه يخفي شيئا عنها!!.....أفلتها فرأى آثار اصابعه الطويلة تدمغ على عضديها ...." تباً تباً.."....شتم نفسه بسره....لم يقصد أذيتها وإيلامها......رفع بصره لوجهها وكم كان لونه لذيذاً دافئاً وتلك العينين تلمعان ببريق ذهبي من اختلاط الدموع بالعسل مع انعكاس الضوء الأصفر بهما فعاد ليحيط ذراعيها الصغيران بقبضتيه الكبيرتين وجذبها إليه برغبة دون أن يسمح لبطنها البارز بأن يبني سدّا بينهما ولثم شفتيها بشفتيه بقبلة نارية كم كان عطشاً لها وهي الأكثر ظمأ منه ثم أفلتها يلقطا أنفاسهما ونظر إليها يتأملها...بتقاسيمها الناعمة ووجهها البريء الذي لا يشبه حدة طباعها ....ظلّ ثواني يتأملها ومدّ يده بحنية يسحب مشبك شعرها البني الناعم المموج بتعرجات خفيفة لينسدل على كتفيها والقاه جانبا على سطح الطاولة هامساً بعشق حد الذوبان:
" اشتقت يا عينيّ الشهد..."

ثم عاد ليضع يده على شعرها خلف رأسها وقرّبها منه برقته الرجولية ليخطفها الى عالمه بقبلات هادئة متروّية ولمّا حرّك يده ليزيل عباءة قميص نومها استيقظت من غفلتها وخنوعها بين يديه ثم رفعت كفيها لصدره تبعده عنها قاطبة حاجبيها بغضب كاذب محرجة من استسلامها وابعدت عنه تسب نفسها وضعفها وهي تتجه الى مكانها على السرير هامسة باقتضاب :
" تصبح على خير..."

وشدّت لحافها تدثر جسدها المشتاق توليه ظهرها تاركة إياه ينظر إليها بعتاب وانهزام ولم يكن يقوَى على مناورتها فالتعب وقلة نومه أخذا منه ما أخذا ....اتجه الى الخزانة يخرج بنطالا قصيراً ليرتديه وينام أما هي ادّعت النوم كاذبة تحرمه نفسها وتحرم حالها منه ولم تدرك أن هذه الليلة من الحرمان ستطول أياماً معدودات وما أكثرها...!!

×
×
×

بعد صلاة الفجر عادت الى سريرها واستلقت ثم نهضت لشعورها أنها تحتاج لدخول الحمام ....أشعلت الأباجورة جوارها وجلست على السرير ببطء من حملها تنزل قدميها أرضا ثم التفتت للخلف ورأته ما زال نائماً فتساءلت" يا ترى هل صلّى الفجر أم أنه لم يستطع النهوض؟"....تذكرت أنها دخلت الحمام للوضوء قبل قليل وكانت أرضه جافة أي لم يستخدم الماء...إذاً عليها ايقاظه للصلاة.....حسناً ستدخل قبله وتعود مجبرة على ايقاظة كي لا يفوته الفجر!!....ما إن استقامت بوقفتها متكئة بيدها على الظهر العالي للسرير حتى أخرجت أنّة تزامناً مع وضع يدها الأخرى أسفل بطنها...ولمّا حاولت السير كالفيضان نزل الماء من رحمها دون أي سيطرة منها مع شعورها بانقباضات باغتتها بقوة فصرخت بالحال:
" بطني....سااامي....ساامي.....ربم? ? سألد الحقني!...."

لا يدري كيف فاق من نومه وقفز ليصبح عندها مصدوماً ومرتبكاً لا يعلم كيف يتصرف وهي تتأوه وجعاً من شدة الانقباضات التابعة لطلق الولادة وكذلك ماء الرأس ما زال يتدفق منها فاستجمع قواه وبسرعة بديهة ألبسها عباءة بسحاب ولف حجابها على رأسها وهي تبكي موجوعة بينما هو يهتف يهدئ من روعها بشفقة عليها ومرة يبتسم متحمساً ومرة يعبس متألما لألمها ضائع بين الحالتين:
" سنذهب دنيتي ....تحملي حبيبتي ....دقيقة ارتدي ملابسي وسأوصلك الى المشفى بسرعة البرق بإذن الله"

تخبط في حركاته لا يستطيع الابتعاد عنها وتركها واقفة ويريد ارتداء ملابسه.....نظر الى المشجب القريب فرأى ملابسه الرياضية البيتية معلّقة....سحبها في الحال وارتداها غير مهتم لمظهره كلواء معروف في المنطقة فهو الآن زوج وأب فقط وسيقوم بدوره على أكمل وجه!......دس هاتفه ومحفظته بجيبه وعاد إليها يساعدها على السير ووجدها لا تقدر التحرك خطوة فبقوة من الله وبلياقته البدنية رغم ازدياد وزنها في الآونة الأخيرة بالإضافة للذي ببطنها حملها على ذراعيه خارجا من غرفتهما ونزل بها الدرجات بخطوات واسعة سريعة ثم سحب مفتاحه الآخر الخاص بسيارة الشرطة ليذهب بها كي يبعد المركبات من أمامه ولما كانا في طريقهما الى المشفى اتصل بحماته يعلمها لتجهز نفسها ثم بشقيقه ليجلب والدته ويصطحبا حماته معهما..........كان يقود بجنون حذر....تارة ينظر للشارع وتارة إليها يمد يده يمسّد لها يدها بدفء يحاول أن يسكنها ويطلب منها أن تستعن بالله بينما هي غارقة بأوجاع لا شبيه لها وهي أوجاع المخاض ...غرق يفتك بها ويبعثر له الدقات بقلبه من أجلها!....الأشقر مراعي لأبعد الحدود....لم يصمت وهو يكلّمها ليسليها ويلهيها عن آلامها......كم كان حنوناً معها ونسي أنها تعيش جنوناً الآن ما بعده جنون...!!

" ساااامي..."

اهتز قلبه من صراخها فسألها مرتبكا وهو ضائع بين الطريق وبينها:
" أجل حبيبتي..."

" اخرس يا سامي اخرس....فجرت مخي تبا لك....!!"

أجابته وهي تتلوّى ألماً فبهتت ملامحه مصدوماً لكنه تذكر أن عليه الصبر مهما فعلت لأن الله وحده يعلم ثم كل أم ما تعاني تلك اللحظة فعاد يركز بالطريق يبتلع كلماته بصمت....خيّم الهدوء عليه إلا من أنينها...يريد أن يتكلم لكنه لا يجرؤ أن يستفزها بصوته...مرت دقائق فصرخت:
" ساااامي.."

همس ب:
"ها؟"

" لماذا تصمت ولا تتكلم؟...اقرأ قرآن ....هيا اقرأ سأموت من الألم.....أريد أن أفهم من أين نزل عليك الهدوء الآن ولسانك لا يدخل حلقك"

أمرته بجنون متناسية أنها من طلبت فأجاب بطاعة كالطالب المجتهد وهو يستغفر بسره ويسأل الله أن يلهمه الصبر وفكر أنه ربما يحاسبها بعد أن تقوم بالسلامة على صراخها وقلة أدبها معه:
" حاضر....حاضر دنيتي سأقرأ... "

بدأ يرتل آيات بيّنات ما يخطر على باله بصوت هادئ فقاطعته صارخة تنظر إليه حانقة بينما بيديها تمسك قاع بطنها:
" ضع يدك على بطني وأنت تقرأ..."

تمتم محوقلا ومستغفرا وهو يمد يمناه لبطنها بلطافة فصرخت:
" ماذا قلت؟"

" لا شيء!.."

" بلى بلى....سمعتك تستغفر.....أنا أعلم لا تطيقني"

ولما فتح فمه ليبرئ نفسه أصمتته هاتفة:
" حسناً لن افتعل مشكلة الآن.....تابع قراءة قرآن"

لم يجرؤ هذه المرة على نطق أي حرف خارجي سوى آيات قرآنية وهو يهز رأسه ودماؤه تغلي في منابعه من جنونها الذي جننه !!...أمسكت يده التي على بطنها تحتضنها كأنها تلتمس منها أمان وقوة فتبسّم ثغره وفرح قلبه يبدو أنها استكانت قليلاً.....هذا ما ظنه!...
" آاااي.."

صرخ متأوهاً بشدة يسحب يده من يديها ينظر لجانب كفه وتحديدا لمكان عضتها حيث آثار غرز أسنانها والاحمرار !.....كادت تمزّق جلده من قوتها ...فصرخ منفجراً بها:
" ماذا فعلتِ يا مجنونة؟!...."

ردّت باكية ببراءة:
" لا تصرخ بي!..."

قال مغتاظاً وهو يمد يده أمامها:
" سأصرخ.....مزّقتِ جلدي....انظري!..."

تململت بشدة بعد أن عاد إليها الألم بصورة أكبر وأجابت وهي تشتمه صارخة بنحيب تلقي عليه قاموس لأول مرة يسمعه منها وهي لا تفقه ما تتفوه به:
" تستحق يا جبان ....هذا كله من أفعالك يا ***.....تريد ولد ...تريد ولد......لن أحمل مرة أخرى يا***...اذهب واجلب ولد بنفسك يا***.."

طفح به الكيل منها ونفذ صبره بعد أن فاجأته بقاموس شتائمها.....يبدو أنها خزّنته لهذا اليوم كي تنتقم منه!!...توعّد داخله لها...سيحقق معها ويؤدبها على الفاظها النابية!... لكنه الان يعلم كيف يسكتها فبكل برود أجاب مع ابتسامة ماكرة:
" حسناً لا تحملي يا ضفدعة.....سأتزوج غيرك لتجلب لي اولادا كثر"

استغلت أوجاعها فاستدارت له وبدأت تلكمه وتضربه بقبضتها الصغيرة فقهقه ضاحكاً وهو يدخل الى ساحة المشفى ويقول بعد أن تذكر كلام أمه والنساء أن هذه ما هي الا طلقة منسية وستعود لتحمل طوعاً لا كرهاً بفطرة الأمومة التي تحملها كل أنثى:
" حسناً حسناً...آسف. توقفي.....لن أتزوج ولن ننجب غيره"

لما وصل مدخل المشفى أوقف سيارته وترجّل واتجه ناحيتها يفتح بابها هاتفا:
" ها نحن وصلنا أخيرا الحمد لله....هيا دنيتي انزلي"

"سامي"

كانت قد استكانت قليلا لما خف الطلق فهمستها متوسلة تنظر ببراءتها وتشبثت بأطراف الكرسي تحتها وتابعت:
" اعدني الى البيت.....لا أريد الدخول...خدعتك....لن اولد!..."

طوال الطريق ظل متوتراً مشدود الأعصاب حتى وصلا ولما سمع جملتها الهادئة الكاذبة دون أن ينبس ببنت شفة انحنى وحملها رغماً عنها هاتفاً بابتسامة ثعلبية:
" حسناً حبي.......اخبري الطبيبة بذلك وأعدك إن أثبتت صحة كلامك سأعيدك الى البيت بالحال...."

وغمزها وهي على ذراعيه مضيفاً:
" ألا تعلمين أن دخول الحمام ليس مثل خروجه......وأنك بوضع لا تراجع عنه؟...."

ودخل بها البناية على عجلة يضعها على كرسي متحرك متجها بها الى قسم النساء والولادة ...يدفعها مسرعاً بحماس بينما هي يصدر منها شهقاتها التي ترافق بكائها كالطفلة الخائفة تتمنى الهروب حتى اصبحا أمام الباب الواسع للقسم لتبدأ مراسم استقبال ابنه الغالي وأسده....(سليمان)
"أُف..."

تأففتُ ناظراً لساعة يدي.....لقد بدأتُ أشعر بالضجر بعد مرور وقت أكثر مما تبجح!!........لا يمكنني الانتظار سدى ودون هدف وما جعلني حانقاً هو تواجدي بنفس المكان المسجون به النجس قبّحه الله ...فلم يفل من تفكيري كوني هنا بالقرب اشعر بطاقته السلبية النجسة.... والفكرة بحد ذاتها تثير اشمئزازي !!......سامحك الله يا صديقي.. سامحك الله يا (سامي)!!...ليتك أنهيت عملك قبل مرافقتي!.....مرّت دقائق كثيرة وأنا ما زلت في الخارج وعلى نفس الحال!! ....قررتُ التوجه للداخل لاستعجله لنمضي في طريقنا فنحن لا نعلم حركة السير كيف ستكون!!.......استفسرت عن مكانه ولما قصدته وجدته منشغلاً مع رئيس السجن يحتسي الشاي ويثرثر كعادته....." يا إلهي!..".....أخرجتُ تنهيدة حارة......أريد الذهاب للمعسكر !!...لا يمكنني أن أتأخر!!......نظرتُ لغرفة الانتظار الواسعة...كانت خالية من الناس إلا من عربة طفل مركونة أمام مقعداً فارغاً وباعتقادي أنها فارغة ايضاً!!.....هذا جيد فأنا لا أحب الضجيج والازدحام..!!....جلستُ على أقرب كرسي للباب وأخرجتُ هاتفي ألهي نفسي به!!....بعد قليل أجفلتُ ناظراً للأمام عند صدور بكاء طفلٍ من ذات العربة.....اشرأبيتُ بعنقي أتفحص إن كان أحدٌ بقربه.....لم أجد!!.....تطلعتُ يمنة ويسرة.....لا أثر !!....علا بصرخاته المنادية بكاءً ولم يُقبل عليه أحد!!....يبدو أنه كان نائما واستيقظ!.......لا أعلم كيف يتركون طفلاً لدقائق دون رقابة وإن كان نائما؟!....ما هذا الإهمال؟!....".يا ترى أين ذهبت والدته؟!"......تساءلتُ بضيق!!....صبرتُ دقيقتين او ثلاثة ولم يظهر لنا أيّ كائنٍ بشريّ؟!....حسناً ربما واجبي الآن القيام بدور المربية !.....فتلك المخلوقات الصغيرة نقطة ضعفي مهما كان دينهم وعرقهم...رحمةً وحباً......أحسستُ بعاطفة شديدة تدفعني إليه.!!....خطوتُ بهدوء واتزان نحوه وما زلتُ اتفحص بحدقتيّ قدوم فردٍ تابعٍ له من أحد أروقة هذه البناية!!.....وما إن أبصرته بعد وقوفي ثابتاً ازائه حتى راودتني كتلة من المشاعر الجميلة الجياشة.!!.....هدأ لثواني لما لمحني فانخطف قلبي وانشرح صدري!!....رباه على البراءة والجمال!...كان طفلاً في سن السابعة أو الثمانية أشهر .....هكذا بدا لي حسب تقديراتي !.....عاد لبكائه يتململ مكانه منزعجاً فدبّت في نفسي الشفقة عليه ووجدتني انحني امسح على شعره الاسود الناعم الخفيف بحنان!! ...لم يسكت فاضطررت لحمله محاولاً اسكاته وتهدأته.!!......أجل لقد صمت وبدأ يتفحصني بعينيه ويا لسحر عينيه !!...تبارك الله أحسن الخالقين!!....تابع بوصلة الصراخ بعد أن تأكد أنني لا اخصه ولا أمت له بصلة!!.......هذه فطرتهم!!......هززته برفق اداعبه واسكته بينما كنتُ ابتسم له هامساً بحنو ومشاكسة:
" ششش اهدأ ....ستأتي ماما حالاً.....لكن لا تغضب مني سأوبخها لأنها تركتك دون رقيب!....اتفقنا؟!.....ششش.... اهدأ .... اهدأ .....لا تبكي يا صغيري....."

نجحتُ بإسكاته أخيراً.....الحمد لله!!.....جلستُ على المقعد المجاور لعربته وهو ما زال في حضني اضعه بشكل جانبي على حجري!......رفع رأسه لوجهي من جديد يتأملني.....لاحظتُ أن ذقني المهذبة تشغل تفكيره....ربما والده غير ملتحي لذا استغربها!!.....مدّ يده يتحسس منها ثم أنزلها بالحال مع انكماش ملامح وجهه الابيض البريء وانتفاض جسده فابتسمتُ هاتفاً:
" هل نخزتك ذقني ايها الشقيّ؟!......غداً ستكبر وسيصبح لك مثلها ان شاء الله!...."

رفع يده الناعمة الصغيرة مرةً أخرى لذقني فكبّلتها بقبضتي بترفق وقبّلتها له بحب وكان منايَ التهامها!! .....اوقفته على فخذيّ ثم الصقته لصدري احتضنه باحتواء حد الاستحواذ...كانت حركة عفوية مني افعلها بشكل خاص مع (سليمان) ...لكن....سبحان الله... دخل قلبي هذا المخلوق بل خطفه دون أدنى مجهود منه وشارك ابن شقيقتي الحضن !!...استنشقتُ بشرته الحليبية من جانب عنقه بانتشاء مغمض العينين هامساً بأذنه:
" الله....كم أدمن رائحتكم المميزة !!....شذاكم له سحر فريد على روحي......"

صرتُ أداعبه وادغدغه لأسمع ضحكاته التي أطربت الفؤاد بعد وقت من الملل ودقائق قاحلة !....ما زال لم يأتي أحد!!.....أيعقل هذا؟!......كان يتلمس أزرار قميصي تارةً بأنامله الشهية...ثم يرنو بنظره مع مد يده يحاول الوصول الى شعار الرُتبة الموجود على كتفي تارةً أخرى ...ألوانه جذبت انتباهه!!....كان يناغي بكلمات لا معنى لها وأحيانا يصدر حروفاً وكأنه ينادي أبيه وأمه:
" با....ما...با..."

حملته ورفعته للأعلى أهزه وألاعبه وضحكاته اللذيذة تعلو وتتضاعف وشعوري بالسعادة يتضاعف معها وعند لحظة إنزالي له أخرج القليل مما بجوفه من الحليب على قميصي الخاص باللباس العسكري!!.....ذاك الشقيّ تقيأ عليّ ولطخني!.......عدتُ لأوقفه على فخذيّ مسلطاً عينيّ بعينيه وقلت معاتباً بعدما أخذتني الذاكرة وأشعلني الحنين لتلك البعيدة عندما كنا بالمعسكر لحظة استفراغها على ملابسي:
" قل لي أيها الرجل......هل التقيؤ على الآخرين هي عادة عند أصحاب العيون الزرقاء؟!"
" أخبرني ما العمل الآن وموعد هام بانتظاري ؟"
" هل تريد أن أذهب بهذا الحال .؟!"
" أترضى لي بذلك يا صديقي؟!"

كان يستمع إليّ ضاحكاً وسنيه الصغيرين الأماميين السفليين يلمعان وما إن أنهيتُ كلامي حتى أقبلت فتاة ثلاثينية تهرول نحوي تحمل زجاجة الحليب خاصته وهي تقول:
" اوه...أنت....لمَ ..تمسك...هذا...الصغير ؟!.....ماذا جرى؟!...ما به.... الصغير؟!...."

كانت امرأة متوسطة الطول ..حنطية اللون....ملامحها تبدو عربية لكن لهجتها متكسرة!!......أجبتها موبخاً:
" كيف تتركين الطفل دون رقابة؟....أين كنت؟....هل هو ابنك؟!....ما هذا الإهمال واللا مبالاة؟؟!....انتبهي له......"

امتقع وجهها تنظر للخلف بارتباك وأجابت:
" اوه ...نو...نو...كلا...يا...سيد...صغير ...ليس ..ابني...انا ..مربية هو......زجاجة....ذهبتُ...لغسلها. ...واستخدمتُ الحمام!.."

قطبتُ حاجبيّ لما مدت يديها تأخذه بعد أن وضعتْ الزجاجة بالحقيبة الخاصة به وقلت:
" إذاً قومي بعملك على أكمل وجه ولا تتأخري عنه مرةً اخرى!!.."

هزت رأسها ايجاباً مرتبكة ثم ألقت حدقتيها لقميصي المتسخ وانحنت تخرج مناديل رطبة من حقيبته بحرج وهي تحمله على خصرها ومدت يدها لتمسح لي البقعة وهي تتمتم:
" آسف..سيد....آسف سيد..."

نصبتُ كفي أمامها بجدية أمنعها هاتفاً بخشونة:
" لا تلمسيني!! .....اعطني المناديل أنا سأنظف نفسي!..."

ظلت واقفة أمامي بينما انشغلتُ أنا بإزالة آثار القيء عن قميصي ولما انتهيتُ سألتُها مستفسرا:
" أين أهله؟!.."

تطلعت للخلف ثم أرجعت وجهها لي وأشارت للطفل بإصبعها وهي تجيب:
" ماما هو...زارت....بابا هو في السجن..."

" أجل...حسنا.."

قلت باقتضاب واستقمتُ واقفاً بطولي الفارع ناظراً إليهما ثم ثبتّ عينيّ على الصغير....ضحكته البريئة دغدغت عمق كياني ..." ما هذه المحبة وهذا الانجذاب يا جميل؟!"....قلتها في سري وأملتُ جذعي أقبل خده قبلة طويلة بحب امتص رحيقه حتى احمرّ مكانها ثم بطرفيّ أناملي قرصته برقة وسألتها بفضول دون أن احيد بحدقتيّ الترابيتين عنه وقبل أن أوليها ظهري:
" ما اسم الطفل؟!.."

أجابت بسلاسة:
" موهي.."

رفعتُ حاجبي مستغربا مكرراً جوابها في دماغي ومتسائلا " موهي؟!...ما هذا الاسم الغريب والذي اجزم بلا معنى ؟!...."....حدّجتني بابتسامة تلقائية فطنتُ لها فخرجتُ من تساؤلاتي الفضولية مبدلاً ملامحي لابتسامة خفيفة كمجاملة مع رمشة عينين ثم وليتها ظهري أخطو خطواتي خارجاً من المكان!!....موهي؟!..كدتُ أتهور واسألها ما هذا الاسم السخيف؟!......طفل بكل هذا الجمال يحمل اسم (موهي)؟!......لا بد أن أمه اجنبية أو من تلك الفئات المدمنات للمسلسلات التلفزيونية الأجنبية والآسيوية ومعجبة بأحد الممثلين او الشخصيات الوهمية وسمّته على اسمه .....ماذا سيكون غير ذلك؟!....فالتافهات كثيرات .....يقتدين بأشباه الرجال ويجعلن لهم قيمة.......لم يعد يعجبهن أسماء دينية أو ابطال حقيقيون.!!......أو.....أيعقل أن هذا اسم الدلع خاصته ...ولربما أنه ليس من ديانتنا !؟.......أجل....ممكن ذلك......"أوف....ما بي أشغلتُ تفكيري ؟!.....ربما من الملل فهذا ليس من طبعي"......حدثت نفسي واستغفرت ربي محركا رأسي برفض من الفكرة التي أثارت حفيظتي ولوصولي لأفكار لا تعنيني وأكملت سيري حتى وصلتُ الباب وتوقفتُ لا ارادياً مكاني.... التفتّ برأسي للخلف لتشق ثغري ابتسامة ودودة صادقة ارتسمت لأجله وأنا ألقي نظراتي الأخيرة عليه أودعه بينما كنتُ في داخلي احرصه من عيني المعجبة ومن قلبي الذي أحبه ثم أدبرتُ غائباً عن أنظارهما مخلّفاً بصماتي الخاصة عليه...!!
×
×
×

سرنا بخطى متوازية خارجان من مبنى السجن الأمني المركزي متجهان الى سيارته رباعية الدفع البيضاء فقلتُ له ساخراً:
" مؤكد أن الساعتين اللتين أمضيتهما في الداخل كان منها ربع ساعة مهمة تخص العمل أما النصيب الأكبر كان لمزاحك وثرثرتك الغليظة !!.."

ضربني بيمناه أعلى ظهري ضاحكاً وأجاب متفاخرا بتصنع:
" كل دقيقة أنا موجود بها بأي مكان تكون مهمة للآخرين يا صديقي......حتى النفس الذي أتنفسه ذو أهمية كبيرة لهذا الكون.......فقط أنت وشقيقتك الضفدعة من لا تقدّران قيمتي!!.."

" اوه .....ليتك تذكرت البني آدم الذي كان منصوباً في انتظارك لتغدق عليّه بأنفاسك الذهبية ولم تحرمه وجودك الثمين !!....."

قلتها هازئاً ثم أكملت بجدية :
" تأخرت كثيراً سامي وأنت تعلم أن هنالك اجتماع والأهم الاختبار الخاص بالجدد بانتظاري!......لن أعيد هذه الغلطة مرة أخرى وارافقك!....توبة!..."

ضغط على زر مفتاحه عند وصولنا الى سيارته ثم استدار مستندا عليها بظهره ليجيب وهو يكتف ذراعيه ويرفع احداها متكئا بذقنه عليها :
" أشعرتني وكأنك أنت من ستخوض الاختبار وقلقاً لهذه الدرجة خوفا من عدم قبولك!...."

مط جسده نحوي يضرب جانب ذراعي بتكرار وتابع بتباهي مسلطاً أنظاره على تقاسيم وجهي:
" يا رجل.....أنت رئيس أركان الجيش....يعني الآمر الناهي......الجميع ينتظرك حسب ظروفك.....لن تقوم القيامة لو تأخرتَ قليلاً عن لقائهم ولن يهربوا الشبان الذين سيتم اختبارهم!!..."

واستطرد مازحاً:
"على العكس اتركهم يتنفسوا ويستعدوا للقاء الفهد الأسود الشرس والقائد الأكبر الذي لا يقبل أي زلة......مؤكد يحمدون الله الآن لأنك لم تظهر أمامهم بعد!...."

نظرت له رافعا حاجبي بعدم رضا مع انحناءة صغيرة بجذعي وقلت:
" احترام المواعيد واجب يا سيادة اللواء........يبدأ النجاح من هنا......علينا تقدير الوقت .....الوقت له قيمته وعلينا استثماره دون تضييعه باللهو والعبث الغير مفيد"

ردّ بانزعاج مصطنع وهو يشير لنفسه:
" أتقصد أنني كنتُ ألهو بالفعل في الداخل يا حضرة القائد .؟!"

" حاشاك.....استغفر الله.....أنت تلهو؟!....."

قلتها بسخرية فرد غير مبالياً:
" اسخر....اسخر كما تشاء...العمر واحد....هل سأمضيه جامدا مثلكم لا تعرفون للمزاح والمرح طريق؟!.."

أجبته في الحال بصوت جاد:
" لم أنهك عن المزاح.....لكن الله أقسم بالوقت ورسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم حثنا على المحافظة عليه واستغلاله جيداً......."


وأردفتُ ممتعضاً اؤنب نفسي:
" ثم إذا أنا كقائد أهملت هذه النقطة أمامهم كيف سيقتدون بي ويؤمنون بمبادئي وقراراتي وخاصة أن هذه دفعة جديدة منتسبة ؟!."

تنهّدت وعدّلتُ وقفتي مستقيما بينما كان هو يصغي إليّ وأضفت مغيراً نبرتي ومشيراً له لباب سيارته أحثه على الركوب:
" هيا يا غليظ .....كفانا ثرثرة.....علينا الاسراع .....سيفوتني الموعد !..."

ضيّق عينيه ناظراً لقميصي بتدقيق واقترب ببطء مني ومسكه بطرفيّ إصبعيه جانب البقعة سائلا:
" ما هذا الذي على قميصك؟!..."

احنيتُ رأسي لصدري أنظر لمكانها ثم لاحت على وجهي ابتسامة تلقائية وأجبت:
" لا تهتم...!.."

قال بفضول:
" ماذا فعلتَ بغيابي؟!.....اعترف!..."

ثم أمال جذعه مقترباً من البقعة يشمها لينتصب بعدها من فوره هاتفا باستغراب:
" يا الهي....ماذا تفعل رائحة سُليمان عليك وأنت لم تره اليوم؟!..."

أملت شفتيّ بابتسامة رزينة واستدرتُ قاصداً المقعد الأمامي جانب السائق وأنا أقول:
" اركب...اركب.....سأخبرك!....."

لما ركبنا فتحت الدرج الأمامي من فوري منحنيا بجسدي أبحث عن مناديل رطبة فيبدو أنني لم أقم بتنظيفه جيدا وقلت:
" ألا يوجد معك مناديل رطبة؟!"

شغّل المحرك وألقى نظرة سريعة نحوي ثم أشار للصندوق بيننا قائلا:
" ستجدها هنا......أخبرني ما هذا الذي على قميصك؟!"

دعس على الوقود بينما اشغلت نفسي بفرك البقعة جيدا وأنا أرد:
" طفل صغير تقيأ عليّ.. ....يخطف القلب ببراءته وجماله الملائكي....بسم الله ما شاء الله.....فليحفظه الله لأهله....!"

رمقني متعجبا وأعاد عينيه للأمام وهو يقول بجدية:
" ما أتى بالطفل لك حتى يتقيأ عليك ومن يكون أصلا؟! "

ثم بدّل نبرته في الحال للسخرية كطبعه متابعاً ينقل نظراته بيني وبين الطريق:
" هـــيه أنت.....أخشى أن تكون متزوجاً بأخرى من خلفنا وأصبح لديك طفل !!....أي هذا ابنك!...سرك ببئر ....اعترف يا صاحبي !..فأنت من شهور مشغول ....قبل الحادثة وبعد شفاؤك......متحججا بالوطن والأمور السياسية والأمنية وكل ما يخص الدولة!....."

" يا ليت ".....وددت...وفي قلبي كم تمنيت...ويا لصعوبة ما تمنيت .....يا لصعوبته!!.... .....فكل أحلامي الأسرية بنيتها معها وحدها......أولادي لم أرغب بهم إلا من رحمها.......مخيلتي لم ترسم إلا ليالي لحبنا....ليالي نشعل بها لهيب العشق ونذوب بلذة الغرام ......كم تمنيتُ من ليالي آتية يكون نتيجتها الأمل......ابنتي...أملي.....الخا ئن تضخم مع الزمن بين أضلعي ليحمي حبها .....ليمنع تسلل أي دقة لغيرها !!...ولكن...للأسف....أين هي عني ؟!.....أين؟!........عدتُ من سرحاني بما مضى وأحلامي بعيدة المنال أروي له حكايتي مع الصغير خاطف قلبي ولما انتهيتُ منها ولم أفلح من محو البقعة جيدا هتف (سامي) بمزاح وهو ينظر تارة إليها وتارة للطريق:
" لا ترهق نفسك كثيراً......مفعول القيء خاصتهم على الملابس اسوأ من مفعول الكلور ....اسألني !..."

وأكمل بصوت جدي:
" أتريد أن نذهب لمحل ملابس تشتري قميصا بدلا منه؟؟"

اتكأتُ بمرفقي على النافذة مسترخياً بظهري على المقعد بأريحية قائلا دون اهتمام:
" لا تكترث.....تابع طريقك......ربما يجف من الهواء قليلا أو سأبدله من المقر العسكري بأي شيء وإن لم أفعل لن يهمني!......هذه دمغة براءة ممَ سأخجل؟!..."

ضحك بمكر وقال:
" البراءة أنا وأنت نعرفها لكن هيبتك ستضيع بين ظنونهم!.....اسمع نصيحتي!..."

أجبته بهدوء واثقاً:
" فليظنوا ما يشاؤون.....لستُ مجبراً على تبرير شيء لأي أحد كان.......وبصمة ذو الوجه الملائكي لن تعيبني..."

تأفف باصطناع ثم ركّز عينيه للطريق مضاعف سرعته وهاتفا:
" ربما سينوّر الملح في البحر يوماً ما....لكن رأسك الصوّان لن يلين أبداً........أنتم جميعكم شلة فاسدة خسارة بكم نصائحي الذهبية....!!.."

~~~~~~~~~~~~~~~~

انتهى وقت اللقاء الذي بدا ثقيلاً على عاتقها وليس كما تمنت وظنت!!... ودعته بعناق صادق بادلها صدقه ...فهي أميرته المدللة وجفائه لا يعني عدم حبه لها إنما طبع في شخصيته المعقدة القاسية أما بالنسبة لابنها هو لم يشعر بأي شيء اتجاهه...لا تجاذب ولا تنافر.....اكتفى بالحياد ....لن يحقد عليه حالياً فهو يبقى طفل والأكيد لن يحبه لأنه من صلب الد أعدائه ...لا يستبعد بأن يصبح يوماً غريماً له فربما دمه دماً مصفى من دماء( آل الشامي) وجيناته بالكامل عليهم...هذا ما أسره في نفسه لحظة رؤيته للحفيد الوحيد.!!.....عادت أدراجها نحو غرفة الانتظار تسير باتزان بحذائها الأبيض المريح وهي تعيد طرف حجابها المورد بزهور وردية وخلفيته بيضاء للوراء بعد انزلاقه لكتفها وصدرها وكانت ترتدي فستانا خفيفا ورديّا ورغم بساطة مظهرها إلا أنها بدت أنيقة كما هي بل جميلة الجميلات!.....عند وصولها للمكان تفتحت أساريرها وأزهر وجهها بفطرتها الأمومية عند وقوع نظرها عليه بعد غياب ساعة زمنية عنه وأقل قليلاً أحستها كأنها يوماً كاملاً....فمع أنه يرهقها بمرحلته العمرية هذه إلا أنها تعلّقت به ولا تراه إلا الوجه المشرق بحياتها بل كل حياتها!!... كانت المربية تجلسه في حضنها وتداعبه بإحدى العابه الخشخشة الملوّنة .!!......التفت الصغير بتلقائية لصوت خطواتها فضحك ضحكة واسعة أظهرت سنيه الصغيرين في الأسفل وبدأ يرفرف بيديه لها كي تحمله وهو يناغي:
" ما...ما...ما.."

نبض قلبها بالحنان لحركاته والفراشات رقصت في جوفها ....مدّت يديها نحوه بالهواء وهي تقبل عليه تشرق الابتسامة على ثغرها وتناغيه تعيد حروفه :
" ما....ما.......ها قد أتيت يا روح ماما..."

وما إن وصلته حتى أحنت جسدها نحوه تغضن جبينها وتضيق عينيها بإمعان لتمدّ يدها تتحسس خده متسائلة باستياء:
" إيلا.....ما به خد محيي الدين؟!....لماذا لونه أحمر؟!....هل لسعته بعوضة لعينة وأنت لم تنتبهي لها؟!.."

ارتبكت قليلاً وردت:
" نو...سيدتي...كلا...هذا مكان قبلة سيد..."

انتصبت بوقفتها مستقيمة بتأهب دون أن تأخذه وتابعت استفسارها باستياء أكبر:
" أي سيد؟!.....ماذا تقصدين؟!...!.....اشرحي لي حالاً..."

ثم أمالت نفسها قليلا تحمله بينما كانت تنظر للمربية تنتظر إجابتها لتقول الأخيرة وهي تقف مباينة لها:
" ذهبتُ ...غسلتُ زجاجة....كان موهي نائماً....ولما رجع أنا هنا.....وجدتُ سيد تحمل موهي لأنه كان يبكي !!.."

عبست ملامحها وهمست معاتبة بصوت هادئ:
" ما هذا الاستهتار إيلا؟!.....ماذا يفعل الغريب مع صغيري؟!......احمدي الله أننا داخل محل آمن لا يستطيع أحد الإتيان بأي حركة خاطئة !.....ماذا لو كنا في الخارج؟....ألا تفكرين أنه من الممكن أن يخطفه أحد أو يؤذيه؟!..."

" آسف سيدتي...آسف.."

اومأت برأسها تقبل اعتذارها ثم حوطته بذراعيها تحتضنه بقوة ومشاعرها الأمومية تتدفق حبا وخوفا عليه ثم قبّلته من خده وتحديداً المدموغ بالأحمر وهي تهزه برقة وتلاطفه بصوت شجيّ يقطر حنية :
" هل بكيت يا حبيبي ؟!....هل تركتْـ..كَ....إيلا...وحْـ..دكَ. ؟!"

أكملت كلماتها الأخيرة بتقطيع عندما لامس أنفها عنقه ثم بدأت تمرره بالتدريج على جلده حتى سائر جسده فوق ملابسه ليبدأ قلبها يخفق بجنون وحشيّ مع انخطاف لون وجهها والتماع سماءيها وعادت تحتضنه بتملك رهيب وكأنها أحست بأمرٍ مريب ثم تعاقبت أنفاسها بانفعال ضاري وبالكاد همست باختناق وتلعثم وهي تجول بحدقتيها في الأرجاء بعد أن اخترق عطري الرجولي الصاخب الخاص بي أنفاسها وكل ذرة بجسدها حتى وصل لعمق ذاكرتها :
" مـ....من...من.....الـ..سيد؟!...."

ما زال القلق يعتريها والوجوم يخيّم على ملامحها وما زالت عيناها تتفحص الأرجاء بحذر وهي تأمرها:
" اجيبي...مـ...من....الـ...سيد؟!.... كـ...كيف...يبدو؟!..."

تبسمت المربية فهي لم تستطع الوصول لتفكيرها وأجابت بحالمية وهي ترفع يدها لفوق:
" اووه...ما شالله...ما شالله .....طويل سيد كثيراً.....وسيم سيد جداً........تلبس سيد ملابس جيش......له ذقن مهذب وأنيق.....اوه سيدتي...ما شالله عيون ما شالله ....."

قاطعتها بسرعة بديهة لاهثة ومتلهفة:
" هل له حاجبا مشقوقا من الطرف؟!..."


ردت متعجبة ومعجبة:
" اوه ...صحيح...سيدتي....كيف عرفت؟!......هل أنت تعرف سيد؟!....محظوظ أنت لو يعرفه.....كله رجولة وشموخ وسيطرة.....كما نحب نحن نساء....."

" لـ..لا...لا أعرفه ...."

فرّت حروفها منها متبعثرة فسألتها تلك:
" حقاً سيدتي؟!.....أنا ظننت أنك تعرف سيد..."


"كـ...كلا....لا أعرفه ..من أين سأعرفه؟!...لكن....وصفك ....ذكرني برئيس أركان جيش هذه البلد!......يعني ...اقصد....يعني توقعت.... لأنه هكذا شكله...."

قالتها بتوتر كاذبة ,هاربة من هيجان مشاعرها وانحنت تدس لعبة الخشخشة التي كانت بيد ابنها بالحقيبة بارتباك وسرعة متابعة أوامرها:
" هيا إيلا......اجمعي الأغراض...علينا الذهاب الى الفندق بأقرب سيارة أجرة!....هيا إيلا اسرعي!...."

مصدومة.....مرتعبة......القلق يغمرها من رأسها لقدميها ....ستلغي أي خطط رسمتها وستفر من هنا بأسرع وقت ممكن تحميه ونفسها!!.....هل احتجبت وحجبت الحقيقة معها شهوراً لتكشفها بمكان ووقت لم تفكر بهما أبدا وبعد كل هذه المدة التي نجحت بها بإخفائها ؟!....

هتفت المربية تذكرها:
" لكن ....قلتِ ...سنذهب للسوق القريب من هنا سيدتي!"

" كلا إيلا....غيرت رأيي......أنا متعبة جدا.....طائرتنا في الصباح الباكر....أريد أن أذهب للفندق فقط....هيا...هيا..."

ردت معترضة بصوت حاولت به استجماع قوتها وودت كثيرا لو أنها كانت الآن فوق السحاب في الطائرة تعود أدراجها الى تلك البلاد التي احتضنتها....لتذهب بعيدا...بعيدا.....عن كل شيء في هذا الوطن المزعوم الذي لم تجد به إلا ضربات قاضية أنهكت شبابها وحطمت آمالها وخاصة بمثل هذا اليوم بعد أن خذلها والدها بابنها وموقف الرعب الذي تعيشه الآن والذي أدى لتجميد دمائها وتجفيف حلقها...!!.........اومأت لها مرافقتها صاغرة ونفذت أوامرها بصمت !!....خرجتا من بناية السجن الامني المركزي وهي ما زالت تتشبث بابنها بقوة وسيطرة وبعينيها تتابع تفحصها للمكان بحيطة وحذر مضاعف حتى وجدتا سيارة أجرة قريبة أقلتهما إلى الفندق القديم ذو الثلاث نجمات في العاصمة وتحديدا وسط البلد حيث الاحياء الشعبية !!.

×
×
×

لما وصلتا بأمان إلى الفندق الذي تنزلان به توجهتا معاً الى غرفتهما المشتركة.!!....دخلت (إيلا) الى الحمام بينما هي تنهدت تضبط أنفاسها براحة بعد شعورها بالطمأنينة بين جدران الغرفة وفي هذا المكان المغلق عليهم....كان (محيي الدين) في حضنها فهمست له بارتياح بعد أن داعبت عنقه بأنفها وقبلته له:
" الحمد لله...نفدنا يا صغيري.....نفدنا......ماذا كنتُ فاعلة لو كشفنا؟.....كيف سأواجهه؟!....."
سرت رعشة في أطرافها جعلت قلبها ينتفض وجلاً مما جعلها تعصره بذراعيها على صدرها كأنها تستولي عليه بكل قوتها لتهمس له بنبرة متذبذبة مع سقوط بضع قطرات من سماءيها :
" يا الله....حقاً ماذا كنتُ فاعلة لو أخذك مني؟!....يا الله التفكير بهذا لهو مرعب كثيراً يا صغيري.......لا أتخيل ذلك....سأموت.....سأموت لو عرف عنك وحرمني منك!!.....لن أسمح له .....لن يأخذك إلا على جثتي!!..."

زلفت من سريرها وخلعت حذاءها ثم جلست عليه تستند على ظهره وترفع ساقيها لتضع ابنها بحجرها متكئا عليهما يقابلها وغلّفت قبضتيه الصغيرتين بقبضتيها الرقيقتين البيضاوين وداعبته قليلاً ليضحك ثم لاذت بالصمت تفكر سارحة بالفراغ أمامها لتعود تحدق به وعيناها تلمعان.....تبدد الخوف منهما الآن وجاء مكانه......العشق....ذاك العشق المحرم عليها......قبّلت له كفيه ثم دنت منه لتعيد تمرير أنفها تستنشق بانتشاء مسكر كل ذرة تجدها من عطري الصاخب عليه مستغلة وجود المربية بالحمام!......همست بذوبان تناجيه وكأني أنا ماثل أمامها على هيئة صغيرها :
" آه.....ذبحتني....لمَ تترك بصماتك؟!....ألِكَي تأسرني بك فوق أسري؟!......أشتاق.....وربي أشتاق.....واحترق بهذا الاشتياق يا معذبي بهجرانك !!....."

ولأول مرة لم تسمح لكلمات والدها أن يرّن صداها في ذاكرتها ...تلك الكلمات التي جلدها بها وهو يخبرها بأبشع الاحتمالات.....عشيقة أو امرأة أخرى!!....وارتأت أن تشبع نفسها الجائعة العطشة لقربي بأن تحتضن ابنها تستنشق رائحتي عنه وتقبّل خده المدموغ بقبلتي كالمغيبة المدمنة قبل أن يتبخر كل هذا ولا يبقى أثر يروي القليل من ظمئها ....!!.....كان ما يخرجها من سكرتها الأصوات التي يصدرها ابنها استعدادا للبكاء ....فبعد أن أشبعت رغباتها القت نظرة خاطفة متفحصة للرواق الصغير الموصل للحمام لتتأكد من غياب تلك ثم همست له بنعومة وعينيها تشع عشقاً لا ينضب من قلبها رغم الأحزان:
" أخبرني يا حبيبي......ماذا قال لك والدك؟!....بماذا همس لك؟!....كيف كان صوته؟!....حدثني عن دفء أنفاسه ....أوصف لي الأمان الذي يحمله حضنه.... هل شعرت به كما شعرت أنا ؟....حضنه لا ينسى يا صغيري.....حضنه كان كفيلاً ليشعرني بالأمان ويغنيني عن ثروة بأكملها!!.....أما زال شامخاً قويا؟!......أما زال لطيفاً مع الأطفال كما عرفته؟!.....ألم يراني بك كما أراه أنا بملامحك..؟!....آه يا صغيري من سوء النصيب وفراق الحبيب!!......"

قطعت حديثها عندما أقبلت عليها (إيلا) ...رفعته بسرعة فخضته دون قصد ليخرج القليل من فمه الصغير الورديّ سائله الأبيض الجامد فتلقاه صدرها ....وما إن لبثت أن تتأفف بنزق باحثة عن منديل بالقرب لتمسحه حتى انفجرت مقهقهة حد الشماتة تهتز مكانها عندما قالت الأولى بعفوية:
" نسيت أن أخبرك سيدتي.....موهي فضحنا .....تقيأ على قميص جيش للوسيم ذاك .....ولطخ له هو .....أنا أحْرِجَ سيدتي كثيراً....."

ولما خبتت ضحكاتها الشامتة تدريجيا لقطت أنفاسها ثم غمزت لابنها بمكر وقالت مشجعة بغرور وتباهٍ تنتصب بعنقها وكتفيها:
" أحسنتَ محيي الدين....هكذا أريدك.!!...إنه يستحق هذا وأكثر.....لم تقصّر بما فعلت بالحيطان المغرورة "
×
×
×

سارت الأيام برتابة ومرّ اسبوعان لتأتي تأشيرة (إيلا) التي طال انتظارها سابقاً لتودع بهذا اليوم من عرفتهم من أهل الحيّ وكان الوداع الحميمي الدافئ خاص بها وبابنها اللذين أخذا مساحة كبيرة من المحبة عندها فامتلأت المحاجر بالدموع وحزن القلب على الفراق الذي كان لا بد منه إن عاجلاً أو آجلاً وعادت لتتكفل بكامل المسؤولية لصغيرها وتقوم بكافة المهام الخاصة به حباً وإجباراً حتى يبعث الله لها حلاً يخفف من وطأة حملها.....!!

~~~~~~~~~~~~~~

تتهافت الأصوات من كل حدبٍ وصوب ....منهم من يحمل الدلاء المملوءة بالماء ومنهم من يجر خرطوم بيته القريب.. يحاولون انقاذ المكان الى حين أن تأتي سيارة الاطفاء والاسعاف والشرطة بعد الاتصال بهم!!......الدخان الأسود يتصاعد بكثافة وكأن الليل أسدل ستائره وقت الظهيرة.....هناك من يسعل اختناقاً وهناك من يبكي حسرةً .....هناك من يحوقل شفقةً....كلهم بقلبٍ واحد وألمهم واحد واقفون ينظرون لشباب الحيّ العاملين بشهامة وجد وجهد كبير بانتظار أن يخمد هذا الحريق الذي نشب في بيتها الصغير سابقاً المجاور لبيت مربيتها قبل أن يتحوّل لمطبخ تسترزقان منه وكان سببه تماس كهربائي من مقبس يحتاج صيانة خاص بالفرن الكبير الذي تحيطه الخزانة الخشبية ومواد كثيرة قابلة للاشتعال خلّفت أضرار جسيمة وقد امتدت النيران وصولاً لبيت مربيتها فلحقه ضرر هو الآخر لتدخل شعلتها من نافذة مفتوحة كانت تتدلى ستارتها البسيطة فلقفتها النار وأكلتها لتسقط بقاياها على السجادة فتسري عليها كالأفعى حتى تنتهي عند منضدة متوسطة الحجم فيها أدراج عدة وكان أهم ما بداخلها ...مالاً تذخره من عملها لتصرف على ابنها والآن غدا رمادا وكأنه لم يكن شيئا يذكر فهي لم تعد تتعامل بحسابها الخاص والمصارف بل قامت بإغلاقه منذ أن رحل والدها عنها بعد أن أعادت تحويل ذاك المبلغ الكبير الذي أودعته به من أجلها وكانت وكأنها أعلنت الحداد عليه تاركة خلفها كل ما استعملته بوجوده ليبقى مع الذكرى وأي ذكرى؟!!.......الدخان طال ما طال من بيت مربيتها ولكن الحمد لله استطاع الشبان أن يلحقوا بغرفتها التي كانت تشاركها بها (رهف) ونجحوا بالسيطرة عليها وإيقافها قبل انتشارها بكامل البيت وقبل أن تبدو ركاماً وحطاماً فما تأذى منها المنضدة ذات الأدراج والسجادة والستارة ولم يمس الضر باقي أركانها...حمدا لله......أما مصدر رزقها أصبح سراباً أو حلماً جميلاً استفاقت منه لتصفعها الحقيقة بمصيبة تلحق بكل مصائبها!!......كانوا يجلسونها على كرسي بلاستيكي في شرفة لمدخل بيت أحد الأقارب مقابل لمطبخها المحروق.... تحيط بها النساء ...تجاورها خالتها (سهيلة) على كرسيها المتحرك وتقف تحمل لها ابنها (رهف) الراضية بقضاء الله المتوكلة عليه...فإيمانها الراسخ بروحها منع تهويل الكارثة عندها رغم كبر حجمها بينما تلك البائسة التعيسة ما زالت هشة وتحتاج الكثير حتى تصل لدرجة كبيرة من القناعة بنصيبها والرضا بما يحل بها والإيمان الذي ينير بصرها وبصيرتها... أجل...ما زال لديها الكثير حتى تصل لذاك الشعور ...شعور السلام الداخلي الذي يبث الطمأنينة بالقلب...لكنها ستصل له ولو بعد حين بما أنها خطت أول خطوة مقبلة الى الله بإرادتها مخلصة النية!!.....كانت تبكي بحرقة مزقت القلوب ....وجهها محمراً وعيناها مجمرتان ليس من تأثير اللهيب الذي تراه رأيَ العين بل لسعها حريق الحزن داخلها ....يكويها....يؤلمها...يشتتها من ذاتها أكثر وأكثر!!.....تحاول جاراتها تهدئتها لا يعلمن ما الذي يزيد من نحيبها لهذه الدرجة ....يوجهن نظرها للنصف المليء من الكأس وليس الفارغ وهن يهتفن بمواساة صادقة:
" انظري مثلا....بيتك أنت وخالتك سهيلة لم يكن الضرر به كبير الحمد لله..."
" احمدي الله أنكم كنتم عند رهف جميعكم ولستم به ....فهذه نعمة....لقد حفظك الله وحفظ لك صغيرك..."

وبأخرى كلمات حانية وزّعنها على مسامعها عسى أن تربّت على قلبها وتكون بلسماً لجرحها.!!...شهقت من شدة البكاء وهمست باختناق وهي تمسك رأسها والعبرات تغرق ثيابها :
" هذه مصيبة......ليس فقط مالي ما خسرته ...."

ورفعت رأسها نحو شريكتها وكأنها تتوسلها بنظراتها الضعيفة وبعينيها المغمورتين بالدموع متابعة بهمسها المختنق:
" مصيبة يا رهف.....المال الذي جمعناه وأحصيناه لنوزعه على التجار وأصحاب الحق وبما فيه ربحنا كان بدرج المطبخ حيث نضع ما نحصل عليه..."

انقبض قلبها لوهلة ...فعلاً مصيبة!!.....هذا ديْن وعليهما سداده...لكنها حاولت طمأنتها قدر الإمكان مشفقة على الحال الذي وصلت إليه وقالت برزانة تمسك الدموع المترقرقة بمقلتيها:
" الحمد لله...فليعوضنا الله بخير منه ....هذا قدرنا المحتوم ورزقتنا المكتوبة .....حكمة الله جل في علاه.....لا تبتئسي ....سنجد الحل معاً بعد الاستعانة بالله وهو لن يضيعنا ......اهدئي ألمى ....لا تفكري الآن..."

واستدارت نصف استدارة حيث تضعه على الطرف الآخر من خصرها لتقرّبه نحوها وهي تهزّه مردفة:
" أنظري لمحيي الدين كيف ينظر إليك...يبدو خائفاً فهو لم يرك بهذا الوضع سابقاً...."

مدت يديها تأخذه منها وأجلسته على حجرها تحيطه لتمده بحنانها وتستمد منه أنسها وأمانها وهي مستمرة ببكاء صامت كي لا تخيفه بينما دموعها تهطل مدراراً وتجري على وجنتيها تحفر من الأسى أنهاراً...!!
×
×
×

حضرت الشرطة وباشرت التحقيقات بعد إخماد الحريق الهائل الذي سرق وقتاً طويلاً من أهل الحي وبمساعدة رجال الاطفاء وهكذا أغلِق الملف بعدما أُكِد أنه لم يكن بفعل فاعل ولا يوجد خلفه جريمة أو خسائر بشرية .....لقد سدّ باب رزقهما الوحيد وعليهما بالرضا ...إنه كان أمراً مقضياً... !!
×
×
×

بعد يومان من الكارثة ...اجتمعت هي وشريكتها لتقيّما حجم خسائرهما ولتفكرا بطريقة السداد والتي وصلتا إليها أخيرا وهي بيع قطع من ذهب العرس الخاص بـ(رهف) مع قطعتين من المجوهرات الصغيرة خاصتها وقد كانتا مما تبقى معها بالإضافة لأخرى أسوارة ثمينة أبقتها كقرشٍ أبيض ليومها الأسود ....فالكوارث التي أحلّت بها علمتها الكثير وكانت قطعة أخرى لن تتخلى عنها!!......ها هو أسبوع مر بسلام ....لا ديْن لهما أو عليهما....نامت كلّ منهما قريرة العين هادئة البال راضية طوعاً أو كرهاً بهذا الحال!!..... وبهذا انطوت صفحة أخرى من كتاب حياتها كُتبت بنار حبرها أسود لتضاف الى سلسلة المصائب التي تلحقها منذ وفاة والدتها حتى اللحظة التي تتنفسها....!!.....وأعلن هنا عهداً جديداً تبايع به الفقر الحقيقي الذي سيكون مسار حاضرها ومستقبلها فقد سُدت أمامها السُبل وتقطعت الطرق.!!...بعد مرور أيام اضطرت أن تبيع الأسوارة الثمينة لتبدأ بالصرف من ثمنها...على نفسها وابنها بحذر دون تبذير حتى يأذن الله لها إيجاد عملاً يناسبها تجعله مصدر رزقها......عقدت النية للسعي وأعدّت العُدة وستجوب الشوارع العامة الكبيرة وأزقة الأحياء الصغيرة لتجد ما يناسبها وطفلها...!!

~~~~~~~~~~~~~~~~

أعيش مرحلة ذات أهمية بل من أهم المراحل في حياتي وبأكثر وقت حساس تمر به بلادنا ...فيها الاستقرار واثبات الذات وإصلاح ما دُمر من أرضنا بعد أن عاثوا فيها فسادا........تلك المرحلة امضيتها مثابرا أجري وراء مصلحة بلادنا لحماية مساعينا وجهودنا وربط ما وصلنا إليه بوثاق شديد لا يمكنه الانفلات!! ...فقد كانت هذه مرحلة حاسمة قاسمة لوطني لننهض به وكانت كذلك فرصتي لأثبت صدقي وولائي لمنصبي بتفاني وإخلاص!! ....مسؤوليات انهالت على عاتقي بعد استلامي له وازدادت ضغوطاتي وها أنا كعادتي ما زلتُ لم أجد الوقت لأتنفس....كثّفتُ جهودي له وصببتُ جلّ وقتي لأجله....وبعد توفيق الله فلحت خلال شهرين بإعادة الكثير من الأمور لنصابها متمكناً من مكاني مستعداً لتخوض البلاد انتخابات بنزاهة ليس لها مثيل وبنظام ورقابة عالية وحماية شديدة من الجنود في الداخل وعلى الحدود لمنع أي دخيل أو عميل بزعزعة أماننا واستقرارنا فارشين ورود السلام بكل بقاع الوطن..... وقد أتى هذا اليوم وأتت معه البشائر ليمسك الحكومة الحزب الجديد الذي كان نتيجة ائتلاف حزب الثوار خاصتنا وحزب جنود الدولة ليصبح باسم (عهد الأحرار) بعد فوزٍ كاسح بفضل المحبة والثقة التي منحه إياها الشعب بكافة أطيافه وطبقاته ليمثلهم ويكون.... صوتهم... صوت الحق... ودرعهم...درع الشرفاء.... ورايتهم...راية السلام....من بعد فضل الله.....وأصبح رئيس الحزب الرسمي ورئيس الحكومة الرجل المنتخب من الأعضاء السيد (سليم الأسمر) حفظه الله ووفقه لما يحبه ويرضاه... !
×
×
×
بعد استقرار بلادنا ووضع أسس ونظام للمكان الذي أنا به (رئيس أركان الجيش) حان الوقت لألتفت لمسؤولياتي الأخرى .....وعدي لنبض الحياة....العمرة التي وعدتها بها في زمن من الأزمان....لقد حجزتُ لنا تاريخاً في هذا الشهر لمدة عشرة أيام وتذكرتين لنحلق متجهين إلى أرض الحرمين كي نؤدي مناسك العمرة عنا وعن روح والدي سائلين الله أن يتقبلها منا...!!.....كان هذا اليوم اجازتي التي هي من حقي بعد غيابي لثلاثة أيام عن أهلي!!....عدتُ دالفاً بيتنا الجبليّ منتعشاً أريد أن ألقي عليها البشرى بعد أن استقبلني شقيقي دون اشعارها......وجدتها تقوم بغسل الأواني في المطبخ....اقتربتُ منها ثم احتضنتها من الخلف وأملت جذعي متخذ جانب وجهها لأقبّل خدها ناطقاً شوقي وسلامي:
" السلام عليكم يا أم هادي......كيف حالك أماه؟.....لقد اشتقتُ لك!"

جففت يديها بمريولها واستدارت تعانقني تتشبث بي لتصل طولي جاهدة وتقبّل وجنتي هاتفة:
" وعليكم السلام يا مهجة القلب ...أنا بخير يا عزي وسندي طالما أنتم بخير!!...."

وكعادتها أكبر اهتماماتها خدمتنا وعدم إنقاص شيئا عنا فقبل أي كلام التفتت للموقد ثم إلي مردفة بحنان:
" هل أنت جائعاً بني؟!"

وربتت على صدري وهي تتابع:
" لا بد أنك جائع...اجلس لأسكب لك الطعام ..ما زال ساخناً.."

تبسّمتُ بحبٍ لها فرحاً بحنانها وأمسكتُ كفها أسحبها لأجلسها على إحدى كراسي المطبخ قائلا بنبرة متزنة هادئة:
" اجلسي أمي.....سلمت يداك لستُ جائعاً....لديّ ما أقوله لك..."

فعلت مطيعة طلبي وفعلتُ مثلها مقابلاً لها ولما رأت عيناي تلتمع سروراً وتقاسيم وجهي تنطق بهجة وحبوراً قالت من فورها متحمسة:
" هل قررت إعادة زوجتك بنيّ؟!..."

" هل ستعود ألمى إلينا؟!.."

هتفها شقيقي باندفاع يفيض سعادة والذي دخل من توّه المطبخ ملتقطاً سؤال أمي فرميته بنظرة ذات مغزى بعد أن تبدّل حالي واصفرّ وجهي وعدتُ موجها حدقتي إليها مع خروج كلامي بنبرة جافة:
" كلا أمي....ليس هذا....شيء آخر...."

دنا منها بتباطؤ يقف جوارها بينما هي طالعتني بنظرة باهتة وقالت بنبرة فرّ حماسها:
" إذاً ماذا بني؟؟"

أخرجتُ التذكرتين من جيبي وغمزتها بمشاكة لأعيد الحياة لتقاسيمي هاتفاً:
" استعدي للسفر لأداء العمرة إن شاء الله بعد أسبوعين من الآن..."

لم تبخل عليّ بابتسامتها الحنونة لكني لامست انطفاء روحها عندما ردّت كمجاملة منها :
" الحمد لله....الحمد لله....رضي الله عنك وارضاك هادي يا ولدي..!!"

قلت رافعاً حاجبي باستغراب:
" ألم تفرحي أماه؟!...."

"بلى...لكن"

أشاحت وجهها جانباً هاربة بنظراتها مني وأكملت بخفوت:
" كنتُ سأفرح أضعافاً لو أصلحت حالك وحياتك أولا ثم ذهبنا جميعا إلى هناك..."

وعاد يشرق النور على صفحاتها وهي تقول:
" ما رأيك بنيّ أن تذهب وتجلبها ولربما يهديها الله وتتحجب ثم تقتنع لتأتي معنا الى هناك....لعلّها تكون بداية جديدة لكما بصفحة بيضاء.. ؟!"

وضعتُ التذكرتين على سطح الطاولة أمامنا ومددت يديّ أضع كفها بدفء بين كفيّ وهمست بهدوء:
" لا يمكنني هذا الآن أمي.."

قطبت جبينها وسألت مستفسرة:
" لمَ لا يمكنك هذا؟!..."

تنهدتُ تعباً وأجبتها:
" لأن لا صلاحية مطلقة معي الآن لأسافر كيف ومتى وأين أشاء أما العمرة استثناء !!.."

ساد صمتاً يسيراً وهي تطالعني ثم هتفت:
" إذاً اتصل بها هاتفياً .....آن الأوان لإعادة كل شيء للمسار الصحيح يا هادي بعد مرورك بظروف كانت أقوى منك ومنها....لا تؤجل أكثر!.."

شردتُ بالأرض مجيباً:
" لا أريد أمي اتصالاً.....أريد أن أقف أمامها بكامل حواسي وأن أشعر بها وبكامل حواسها.....لنضع النقاط على الحروف!!.... "

" ولمَ التعقيد هذا؟!....صدقني النساء لسن متحجرات مثلكم يا رجال...كلمة واحدة تطيب خاطرها تملكها....وكلمة أخرى كفيلة بهدمها وخسارتها!!....اتصل وطيّب خاطرها على الأقل!.."

تنهّدتْ بهدوء وأردفتْ:
" الحمد لله......انتهت الحرب وعدت من الموت بسلام وحصلت على ما تمنيت بفضل الله واستقرت بلادنا أخيرا وها أنت ستحقق وعدك لي بالعمرة.....أسبوعين تبنى بلاد وتهدم بلاد......قم بإصلاح علاقتك بها ولو هاتفياً حالياً...."

لذت بالصمت...أفكر كيف سأجيب وبمَ أجيب وأساسا هل أنا واثق من هذا؟!.....أغمضت عينيّ وحررتُ أنفاسي بهدوء...فتحتهما وهمست بنبرة منخفضة:
" أمي....أنا سأذهب إليها بعد العمرة ولو خطفتُ نفسي عن طريق الأنفاق .....وسأطرح سؤال بخيارين ليس لهما ثالث.....ولن أجبرها أبداً وسأنفذ إجابتها فور وصولها لقلبي قبل سمعي...هذا وعدي....سأسالها...ماذا تريد؟....إما أن تأتي معي الى هنا ....حيث بيتها وزوجها وبلدها الأصلي ...أو..."

قاطعتني متحفزة الملامح:
" أو ماذا؟!.."

استصعبتها ...أجل....ليس سهل النطق بها.....كم يكون شاقاً على اللسان قول بما لا يتمنى القلب!!....لكني أدركتُ أنني كنتُ ظالماً بحقها ومع حقها حق قلبي....لم أكن جازماً لكني كنت شبه متأكدا أن بعد ما مررنا به وعشناه مرغمين من مشادات وفراق وبعد ...باتت عودتنا معدومة....كنتُ في البداية أنانيا بما فيه الكفاية والآن عليّ أن أنصفها...ومجبرٌ على هذا......عند عودتنا بالسلامة بإذن الله من تلك الأرض المباركة....سأسير أو أطير ...لا يهم....إلى بلاد اللجوء التي لم أزرها منذ شهور....حيث تقبع سمائي...هذا التفكير بحد ذاته لا يزدني إلا لوعة وعذاباً وكأنني أجلد ذاتي وأعاقب نفسي!!......لقد جمعنا حب ملطخا بانتقام وفرّقنا كبرياء غذاءه العناد وسوء فهم أحمق.....كم أخطأنا بحق أنفسنا....سمحنا لتوسيع الشرخ بيننا حتى أضحينا غريبين لا نسأل عن بعضنا ولم نجد من يقدر على لم شملنا ....فالظروف كانت دوماً ضدنا وأقوى منا.......حبي لها محفور في أوردتي.....ووفائي لها لا يقبل النقاش.....كانت السماء لأرضي وصارت الروح لروحي وستبقى الحبيبة الحاضرة في قلبي الغائبة عن عيني!.......ولأني أعشقها سأسعى من أجل هذا عسى أن تغفر لي ذنبي بحقها !!....انتظريني يا مدمّرتي....سأنصفك بإذن الله وأرجو أن تسامحيني!!.......كانت هذه أفكار وقرارات لم أشرك أحدا بها سابقا وأبقيتها أسيرة يصونها صمتي!!..أما الآن جاء وقت إطلاق سراحها متمماً كلامي لنبض الحياة بكلمة واحدة ألجمتها :
" أو الطلاق"

أطلقتها من بين شفتيّ مؤكداً للخائن في صدري أن يتقبل الحقيقة المرة ويرفع راية الاستسلام لأني واثقاً وأكيداً سيكون هذا قرار المدللة سمو الأميرة....سلطانة قلبي....ستحكم علينا بالهلاك حين تنفينا من حياتها...ولكن.....إن كانت راضية سنكون راضين ....وسنفرح لفرحها ملزمين....وسأدعو لها في الهداية للدين وأن تتخذ طريقها لرب العالمين لأنني عشتُ هذه السنين وأنا على يقين أنها ليست لي في هذه الدنيا راجياً أن تغدو حوريتي في جنة الخالدين !! ..

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

دفعت العربة خاصته على الرصيف خائرة القوى.....وصلت الى مدخل بناية تضم مؤسسات عامة ومكاتب مختلفة لمهندسين ومحاماة ....توقفت تحت مظلة البوابة خاصتها تلقط أنفاسها اللاهثة وتستظل من أشعة الشمس التي ورّدت بشرة وجهها حتى كادت تحرقها!!.....أخرجت هاتفها من حقيبتها المعلقة على مقبض العربة لتنظر لساعته....تأففت ساخطة..... أوشك المؤذن أن ينادي لصلاة العصر.......لقد خرجت للبحث عن عمل يناسبها من قبل صلاة الظهر بأسبوعها الثاني على التوالي من رحلة السعي لرزقها ...كل مرة تتجه لمنطقة مختلفة.....لكن يومها هذا كان مغايراً عن باقي أيامها بعد اضطرارها لاصطحاب ابنها معها فخالتها (سهيلة) لديها فحص روتيني بمنطقة بعيدة و(رهف) من ترافقها وقد أحرجت من أن تضعه عند فتيتان ممن تعرفهن بالحيّ لأنها فعلتها الأسبوع الماضي بالتناوب وهي لا تريد أن تثقل عليهما مجددا..!!....حمدت الله أنه ما زال نائماً منذ ما يقارب الساعة والنصف رغم ضوضاء الطريق وأصوات الناس!!.....تطلعت بيأس للباب الداخلي الخاص بالبناية المقفل بإحكام معلناً انتهاء الدوام....كم كانت آملة أن تجد عمل بأحد المكاتب هنا ....لا يهم سكرتيرة أو عاملة قهوة أو أي شيءٍ كان!!.....فالمكان قريب نوعا ما لحيها وطريقه سلس ومريح.......لكن لا نصيب!!.....عادت تجر عربته بخطى واهية وجرت معها أذيال خيباتها....مرت عن محلات عدة فتوقفت عند زقاق نظيف على يمناها....الغرابة به لفتت انتباها!!....والفضول جذبها لتخوض مغامرتها ....إن وجدت عمل فهذا رائع وإن لم تجد سيكفيها هذا الانجذاب!.....وجّهت العربة لمدخلة وبدأت تسيرها بتباطؤ تلتفت يمينا ويساراً تتعرف على أسماء المحلات به أو تنظر لأبواب البيوت العتيقة بألوانها المتفاوتة.....ركّزت بأرضيته فتذكرت....إنه نفس البلاط الخاص بذاك الحيّ.....من أحجار الرصف الرمادية!!....خفقة في قلبها أنعشت ذكرياتها .....إذاً هذا مكان مصغر عنه.....باتت أكيدة!!.....أكملت مسيرتها فالتمعت حدقتاها عندما وقعت على لافتة أحد المطاعم الصغيرة هنا.....خاص بالأكل الايطالي!......وليس هذا فقط ما أشعل نظرة الفرح بعينيها ورسم الارتياح والانشراح على محيّاها إنما الورقة المعلقة على الباب ومكتوب عليها بثلاث لغات ...ايطالية وانجليزية وعربية [ مطلوب عاملة مطبخ ].....لم تنتظر دقيقة لتفكر بل سحبتها قدماها لتدفع العربة بسرعة أكبر وتصل للمحل بإقدام وحماسة كأنها تخشى أن يطير من بين يديها....ففيه وجدت ذاتها....الأكل الذي تحبه...العمل الذي تحتاجه....والوظيفة التي أضحت تتقنها لحد كبير.....فتحت بابه الزجاجي ليصطدم بالجرس النازل من السقف ليصدر رنيناً ويخبر أصحاب المكان أن هناك من جاء!!....تلفتت في الأرجاء ووجدت طاولتين يشغلهما الزبائن بينما ثلاثة أخريات شاغرات!!....فهو لا يتسع لأكثر!!....خرج رجل خمسيني شعره يغزوه الشيب ويرتدي قبعة الشيف وملابسه....ملامحه عربية ....هي واثقه أنه كذلك!!....سألها بوجهٍ باسم ولكنة عربية تختلف عن لكنتها:
" تفضلي سيدتي.....كيف أستطيع مساعدتك؟"

شعرت بالراحة اتجاهه فاقتربت خجلة وهمست وهي تشير للخارج:
" رأيت الاعلان على الباب...!!"

" أجل.....هل تريدين العمل؟"

اومأت برأسها إيجابا فقال:
" ما هي قدراتك في مجال المطبخ؟!"

ردت باستحياء:
" أجيد تقطيع الخضار....وصنع أنواع مختلفة من المعجنات وبالطبع غسيل الصحون!!"

تبسّم برضا وهتف يشرح لها:
" جيد جداً........أنا شريك صغير بالمطعم مع رجل إيطالي له عدة مطاعم متفرقة....يحب الدقة في العمل والنظافة على سلم الأولويات عنده طبعا....يهتم بسمعة المكان......لا بد أنك لاحظتِ بأن الزقاق وكأنه مقطوع من أحد أحياء إيطاليا....وأنهم يتنافسون بالمحلات..."

هزت رأسها توافقه وهمست بوجنتيها الوردتين:
" أجل لاحظت....يشبه الحيّ الإيطالي الكبير الراقي في مركز المدينة..."

ضحك وقال:
" تماماً.....ذاك أصبح مكتظاً فانتقل بعض الايطاليون الى هذا الزقاق وامتلكوه رسمياً ثم حولوه ليصبح كطابعهم وثقافتهم وتراثهم !!.."

همست:
" جميل ..."

فهتف في الحال:
" نحن نحتاج عاملة من الصباح حتى الظهيرة فقط.....إن كان يناسبك يمكنك البدء من الغد...ما رأيك؟!.."

أشرقت الشمس بسماءيها وردت مستبشرة:
" بكل سرور....لن اتأخر إن شاء الله"

غيوم حجبت شمسها عندما تذكرت أن غداً لن تكون( رهف ) متواجدة بسبب مشوار خاص مع زوجها ومربيتها لا يمكنها الاهتمام به وحدها لوقت طويل فأردفت بنبرة يائسة وخجلة:
" هل يمكنني اصطحاب ابني... فقط للغد؟!.."

فكّر قليلاً وكم كان طيباً متعاوناً عندما أجاب:
" حسناً إن كان لمرة وبسبب ظرف مؤقت ...وشرط أن لا يعيق عملك!!.."

انبسطت أساريرها من جديد وحمدت الله على هذه النعمة ....شكرته بحبور واستأذنته مدبرة والسعادة تغمرها كأنها ملكت الدنيا...!!
×
×
×

ارتدت بنطالاً شبه ضيق أسوداً يستره قميصاً طويلاً يصل لركبتيها بلونه البنفسجي ويتوسطه حزاماً يتماشى مع البنطال والحجاب بلونيهما....ملابس بسيطة لا تعد لباساً شرعياً كاملاً إلا أنها تصبح فاخرة عليها بجسمها المرسوم بإتقان ووجهها الفتان ....النور يشع من محيّاها والجمال يخجل من جمالها.....العينان تتألقان كالشمس في كبد السماء وبشرتها الحليبية تتورد في بهاء...!!..حزمت أمتعته في حقيبته الخاصة ...وضعته في عربته وخرجت باكراً حتى تجد سيارة أجرة دون أن تتأخر !!.....وصلت للعنوان المنشود واستقبلها ذات الرجل الطيّب.....عرّفها على المطبخ وأدواته ....ومن حظها السعيد لليوم أن (محيي الدين) سهر كثيرا في الليل مما جعله يتوق للنوم الآن....رضا من الله....هكذا فكرت!......وضعت عربته القابع بها بسلام وسكون في ركنٍ فارغ بالمطبخ بعيدا عن الفرن والموقد وشرعت تطبق المطلوب منها بتركيز ....بعد ساعة أرادت أن تستفسر عن شيء احتاجته ولما همّت للخروج من المطبخ متجهة نحو طاولة الحساب حيث يتواجد ذاك الرجل الذي أخبرها أن شريكه سيأتي جحظت عيناها ذاهلة فتراجعت خطوة للوراء تحتجب بأطار الباب تزدرد ريقها وتحاول تنظيم ضربات قلبها التي تسارعت مع أنفاسها!!....همست في سرها ومقلتيها تجمع الدموع " يا الله....لا يعقل!.....إذاً شريكه يكون إدوارد...ذاك الايطالي.....صـ...صديق ...... هادي ...صاحب المطعم !....يا رب استر عليّ ولا تجعله يراني!....."....لم تفلح بالسيطرة على المعركة التي يخوضها قلبها ولم تلبي نداء الاستغاثة من قدميها اللتين أوشكتا على الانهيار من شدة توترها واضطرابها .....حارت ماذا تفعل؟!...كيف تنقذ نفسها قبل أن يناديها....همست في سرها " لمَ ليناديني"...أجابتها نفسها ..." مثلا ليتعرف عليك كونك عاملة عنده !."....فكرت ضائعة لثواني ثم استجمعت قواها وفرّت هاربة للحمام تختبئ إلى أن يذهب مصدر رعبها......كان وجهها يعتريه القلق وجبينها يلمع بحبيبات من العرق......تفرك يديها وتدعو في سرها أن لا يطيل في مكوثه رغم أنه أخبرها الرجل الطيب أنه سيأتي لأخذ بعض الأوراق.....صارت تواسي حالها بكلامه....بعد قليل بشرها الجرس بانفتاح الباب فخرجت تزفر أنفاسها بقوة وتسللت وصولا لباب المطبخ لتتأكد ولما وجدته فارغاً منه أحست بحمل ثقيل أزيح عن كاهلها رغم قلقها من الأيام المقبلة كيف ستتصرف بوجوده وما إن قررت العودة لمتابعة عملها حتى دخل الرجل الطيّب ليقول لها:
" سيدة ألمى أنا مضطر للخروج وسيصل ابني وسام ليأخذ مكاني بعد قليل ....عملاً موفقاً"

رمشت بأهدابها توافق على كلامه واتجهت للثلاجة تخرج ما تحتاج من الخضار ولما خلى المطعم من الزوار وأصحابه......غسلت يديها ودنت من النائم ترمقه بنظرات حانية مبتسمة تملأ عينيها به ثم انحنت تقبله وهمست برقة وهي تداعب خديه بظهر كفها بلطافة :
" نوم الهناء حبيبي.....نم عني وعنك ....أمك تكاد تقع من شدة النعاس!!"

شمّرت عن ذراعيها لتباشر تقطيع الخضار وصارت تدندن بصوتها العذب تسلّي وقتها تركز على ما بين يديها لا تشعر لا بالدقائق ولا بنفسها ولا بالذي كان واقفاً متكئاً على أطار باب المطبخ مبهوراً بالفتنة واللوحة البديعة التي يراها أمامه !!....تنحنح يخبر عن وجوده وما إن أجفلت شاهقة حتى جرحت طرف إصبعها ليندفع نحوها يخرج منديلاً ورقياً من علبة بقربها ثم يمسك لها يدها ويغلف مكان إصابتها بجرأة ودون استئذان هامساً بنبرة عاطفية متقنة:
" أعتذر يا جميلة.....لم أرد إجفالك"

سحبت يدها منه بخوف وقطبت جبينها بضيق وسألت بجدية:
" أنت....أنت السيد وسام أليس كذلك ؟"

" وسام....دون سيد رجاءً....أبغض الرسميات"

بابتسامة هائمة غير مريحة رد عليها فتابعت بنبرة حاولت أن لا تكون فظة :
"كيف دخلت؟....لم أسمع الجرس!"

أمال جذعه ساندا مرفقيه على السطح المعدني الأكثر ارتفاعا من الذي تعمل عليه وهمس بصوت رخيم!..:
" يوجد باب خلفي خاص....لا جرس فيه!"

امتقع وجهها وابتلعت لعابها ترطب حلقها الذي جف رهبةً لحظة إجفالها ثم فتحت الأدراج القريبة منها باحثة بتوتر ظاهر عن لاصق طبي ولم تكن ترى أمامها جيداً ....مشتتة تماماً!!..... لتُجمّد بحثها لما مدّ أمامها واحدا يلقي غمزة جريئة لها هامسا بمكر مبطن:
" أتبحثين عن هذا؟"

هزت رأسها بـ نعم ومدت يدها لتأخذه وهي تشكره بخفوت لتتسمر مكانها لما لم يعطه لها بل دنا منها مجتازا الحدود حتى كاد يحشرها بينه وبين السطح المعدني خلفها وهو يتابع بنبرة خافتة مقصودة:
" مدي يدك لأضعه لك بإحكام..."

استجابت محرجة ثم سرت قشعريرة في جسدها خوفاً عندما شعرت بقرب أنفاسه الساخنة منها وهو يهمس :
" حرامٌ على هذه الأنامل البيضاء الرقيقة أن تعمل...."

خطفت يدها من أمامه مرتاعة لحظة انتهائه من مهمته معها وعادت لتشكره مجاملة وفي داخلها كمٌّ هائل من الشتائم والدعاوي تنهال عليه بسبب انزعاجها منه والقلق الذي يساورها!!....لاحظت كم أنه شخصٌ غير مريح خلافا لوالده....رغم أنها لا تنكر بأنه يعتبر وسيم.....طويل بجسد متناسق وبشرة سمراء بملامح جذابة ....ولكن شخصيته المستفزة اللعوبة منفرة جداً .....خاصة لمن مثلها!....فتاة لا دخل لها باللعب ولا بالعلاقات كلها وكيف إن كانت تعشق رجلاً وذائبة في هواه ....ولا ترى غيره......زوجها وأب طفلها...؟!.......ابتعد قليلاً يتيح لها التحرك ويتيح لنفسه تقييمها بشكل أدق عن كثب ....كانت تعمل وتتمنى أن تنشق الأرض وتبتلعها ....احمرار خديها وتأثيره عليها وارتباكها أعجبه جداً......بدت له شهية .....فاتنة بشكل جنوني رغم أنها لا ترتدي لباسا مغريا.....لكن الحزام الذي نحت خصرها وأظهر رسمة جسدها جعله يدرك كخبير نساء الحسن الذي تحمله ...دمية الباربي... هكذا اسماها بعقله ...وكان يكفيه السحر في عينيها والجمال في وجهها والنعومة القاتلة في بشرتها !! ....ليضعها فريسة لرغباته الوقحة !!......أكملت عملها دون إنجاز.....فيدها تتحرك ببطء مناقض لعقلها المسرع بالوساوس والهواجس..!!......ضاق المكان عليها وضيّق أنفاسها وخاصة وهو يطلق صفيراً منغماً بخباثة ...تركت السكين من يدها وبدأت تحرك كفيها تهف على وجهها المشتعل من سوء أفكارها به!!.....لم تنتبه لشظية صغيرة من البقدونس المفروم كانت عالقة على اصبعها وأضحت على خدها بسبب حركتها......لمحها بنظرته الدقيقة المتفحصة من كان يسند نفسه على دولاب المطبخ يكتّف ذراعيه ببرود وهو يراقبها فاستقام يرفع زاوية فمه بابتسامة ثعلبية مقترباً نحوها....نكست رأسها هاربة من عينيه التي تخترقها فانحنى قليلا بجذعه ومد سبابته لذقنها يرفعه لها تزامنا مع حركة من ابهامه ليزيحها عنها فانتفضت متكهربة مقشعرّة وصرخت بحدة تنهره:
" سيد وسام ...ماذا تفعل؟!.."

رداً باسماً بنبرة لعوبة:
" لا تخافي يا فاتنة.....هنالك قطعة بقدونس على خدك ..."

بصوت مرتجف ومشاعر مختلطة من الاحراج والرهبة همست راجية:
" لو سمحت سيد وسام....ابتعد أريد أن أكمل عملي..."

واستدارت تتابع تقطيع الخضار وإذ به يغلق الطريق من خلفها بجسده الذكوري ونيته الشيطانية.. يميل من فوق كتفها ...يدنو من عنقها الموؤد تحت الحجاب مغمض العينين يستنشق بانتشاء هامساً بوقاحة ودناءة :
" تفوح منكِ نكهة أناناس ....أهو عطر أم صابون أم ماذا؟؟"

صاحت بارتياع وهي تستدير بطلاقة تدفعه من صدره:
" ابتعد...أرجوك ...ابتعد عني!.....ماذا تريد؟.."

ببرود وعدم إحساس أطلق ضحكة مبتورة وهو يستجيب لدفعها له متعمدا وقال بجرأة:
" أريدك....تعجبيني...."

صرخت بنبرة دفاعية تتشبث بما عندها عله يعتقها:
" لطفا سيد وسام.....ما هذه الجرأة؟!....انا امرأة متزوجة.....ألم ترَ ابني هناك؟"

" رأيت.....أود أن أقول يا حظ زوجك ...لكنه لا يستحق أي كلمة جيدة ما دام يترك هذا السحر الناعم للشقاء والعيون الجائعة....!!...لا بد أنه أحمق!..."

وعاد ليقترب منها بسفاهة وفجور هاتفا بغرور:
" إن تماشيت معي....سأعطيكِ مالا يغنيك ولا تحتاجي لأي عمل يشقيك.!!..."
ليباغتها يمد ذراعه الطويل يتحسس خدها بظهر اصبعه بطريقة مقززة ونظرة وله مريضة الفكر هامسا:
" يا ويل قلبي على هذه الفتنة التي تحملينها!..."

أبعدت يده بعنف وصرخت بشراسة:
" أنت قليل أدب ...ابتعد!!.. لا تلمسني...أو سأصرخ...."

حشرها ضاحكاً وهتف بثقة نجسة:
" أستطيع أن آخذ ما أريد منك بسهولة....في هذا الوقت لا يرتاد مطعمنا الزبائن ولن يسمعك أحد......ثم أنتِ عاملة عندنا وطاعتك لرب عملك واجبة"

ثم مد يده قبل أن ترد بحرف ليجذبها إليه بفظاظة فقاومته وهي تنفجر بكاءً كله حرقة وألم وسخط من كل شيء وعلى كل شيء تتوسله أن يتركها....تخبره عن ابنها...تهدده بوالده الطيب....تشد على عينيها لا تقوى على رؤية مصيرها هذه الساعة...تفتحهما فترى ظلام الظلم يحيط بها ...تقاوم والعبرات تغرقها...تدفعه والضعف بأطرافها يخيفها فماذا تكون قوتها بجسدها الغض النحيف مقابل جسده الصلب؟!..حاولت قدر الإمكان عرقلة يديه من الوصول لياقة قميصها....تخدشه بشراسة وهي التي تئن متألمة على حالها... أناتها نصفها مكتومة ونصفها تخرج متقطعة مع تقطع أنفاسها...شراستها دفاعية وشراهته بالنيل منها مرضية.... ولم تعلم كيف واتتها الفكرة بأن تضربه بساقها بين ساقيه بأقوى قوتها التي نبعت من غلّها وكراهيتها قبل أن ينجح بشق أزرار قميصها فابتعد مجبراً موجوعا منحنياً يشتمها بكلمات نابية....سافرة....كلها بذاءة لا تليق إلا ببنات الليل وهربت مستغلة انشغاله بألمه منتحبة...تجر عربة ابنها مسرعة ..خارجة من المكان المشؤوم الذي كان سيكون رزقها وأضحى عارها....حجابها غير منظم وملابسها مبعثرة ....الصدمة مما عاشت ترج كيانها ...وجهها مصفر لا دماء تجري بمنابعها...حلقها جاف...تبخرت المياه من جسدها....يهتز بدنها النحيل ...وتشهق بقسوة تمزق أوتارها....نوبة نشيج داهمتها لا تستطيع إيقافها ...الصراع معه أنهكها ....أنين يفتك بروحها ...تتأوه من لمساته... كارهة.. مشمئزة... .تركض والعربة تسبقها.....لا تعلم أين تذهب وأين تتجه....الرؤية أصبحت ضبابية.....كل الطرق متشابهة أمامها ....كلها معبدة بالخذلان والأوجاع...وكلها لا تأخذها إلا للضياع.....رأت الوجوه التي تقابلها جميعها كأنها وجوه الشياطين....تسرع خطاها والخوف على ابنها كان وقودها كي تتحمل ولا تنهار....تجري وتجري حتى وصلت لحديقة عامة بسيطة على طرف شارع......دخلتها والدموع لا تتوقف من سماءيها ....تنزل بتدفق وتبلل قميصها ....ألقت نفسها على أول مقعد خشبيّ بهتت ألوانه من عوامل الطقس يصادفها.....حاولت ترتيب ملابسها تخفي ما كان ممكن أن يسلب منها .....كانت منهكة...متعبة....تفقد ..حصانتها.....تلهث وتلهث لم تتحكم بأنفاسها ...أوصالها مرتجفة...وقلبها ملتاع....ناقمة...حانقة....تسبّ كل شيء يأتي ببالها....استيقظ ابنها فحدقت به بضياع والعبرات تغشى عينيها ...حملته وهي تشهق من أثر نشيجها وحملته تحتضنه بقوة تستمد منه بعض الأمان ....داعبته دون روح لتعطيه اهتمامها الفطريّ....شرع بالبكاء ليزيد بالضغط عليها ....حاولت اسكاته ولم تفلح فأخرجت زجاجته المعدّة سابقاً وعدلت جلسته بحضنها لترضعه وأوصالها ما زالت ترتجف ...هو يأكل يملأ معدته الصغيرة....وهي تفكر بحياتها المريرة.... لما انتهى أرجعته للعربة تثبّت حزامه عليه.....بعد نصف ساعة استطاعت أن تستكين قليلاً......شعرت بالغثيان ..الجوع يعتصر معدتها....لم تفطر في البيت وأجلته للعمل.....ولكنها انشغلت هناك ثم انتهى يومها قبل أن يبدأ بمأساة حُفرت في ذاكرتها لتضعها عند شبيهتها السابقة......حادثة (صلاح) ....ثاني تحرش تتعرض له في عمرها الصغير...ما ذنبها بجمالها؟...لمَ تصادف حثالة البشر وهي وحدها؟!.....تشعر بالازدراء من كل شيء حولها.....ستعود للبيت بعد أن تهدأ كي لا تلفت نظر مربيتها وتزيدها اوجاعا عليها....فيكفيها أنها تتحملها مع مصائبها!!...لا ينقص أن تضيف همّا فوق همومها!! ...ارتأت البقاء في الحديقة تتنسم نسمات عليلة تبرد احتراقها بكل ما فيها!!.....تذكرت قطعة الشوكولاتة التي بحقيبتها.....أخرجتها تسكّت نداء معدتها ....فتحت الغلاف وقضمت أول قطعة منها برقتها المهلكة....كان ابنها يلعب بلعبة معه وهي سارحة تسترجع أوجاعها التي تتبارى لقتلها.....تنهّدت بعد أن ابتلعتها وقبل أن تقربها مجددا لتقضم لقمتها الثانية وقع نظرها على طفلة بائسة....تقف بالقرب منها....وجهها مغبر...شعرها مشعث...ملابسها بالية.... تطالعها بحسرة وخاصة على اصبع الشوكولاتة الذي بيدها وتسرط ريقها بجوع قاهر...!!....نظرت إليها بتحديق تتأمل حالتها الرثة...تبدو ابنة ست سنوات ....دارت الذكريات بعقلها لتتذكر كلامي لها في يوم لم تنسه.../// " * لا تعلمي !!...من الممكن أن يأتي يوماً وهذه الصغيرة يصبح لها شأن ومكانة عظيمة وربما أنتِ في حينها تكونين من تستجدي اللقمة لإطعام طفلك الجائع ويضعها الله في طريقك كرزق...لذا لا تغلقي الأبواب أمامك!!...* "\\\.....قناعة تامة داخلية بكلماتي اجتاحتها وشعرت بغصة تختلج صدرها......رأت كم كنتُ محقاً وخاصة عندما عاد صدى صوتي يرن بمخيلتها وهي تتابع نفس الذكرى والموقف ......///..." * تقلب الموازين في لحظة....تنتقلين من مكان لآخر برمشة عين !!...تكونين في نعيم السماء وفجأة تجدين نفسك في قعر الأرض !!.... لا تدري ماذا يخبئ لك الزمن......ارجو ان لا تري هذا اليوم.....هداكِ الله..* " \\\.....انسكبت عبراتها مع انسكاب ذكرياتها وحدّثت نفسها كأنها تحدثني متسائلة بضياع ووهن " كيف تنبأت بمستقبلي.؟!...أيا ترى كنتَ تدرك أن هذا سيحصل لي فعلا؟!.....كم قاسي وصعب الأمر عليّ...صعب جدا.......في السابق رافقتني بقوتي وعزّي ...واليوم تتركني في قمة ضعفي أتجرع الويلات وحسرتي وحيدة....لا سند ولا معين .....كم نحتاجك الآن ....أنا وأخرى قطعة من روحك...ابنك الذي يحمل دماءك......أين أنت؟!...أين....وربي نحتاجك أكثر من ذي قبل...".....خرجت من ذكرياتها وحديثها لنفسها تسحب أنفاسها وتمسح دموعها بظهر كفها....مهما اكتوت بنار الاحتياج لن تُقبِل...مهما نبض نابضها بالغرام لن تعود.....فهي ذات كبرياء عالٍ وهو ما تبقّى من عزها وثروتها...أنه ميراثها الوحيد الذي ستتشبث به وتحافظ عليه ولن تحيد مطلقاً عن قرارها!!.......تنهّدت ورسمت بسمة عطوفة على ثغرها ثم نادت بحنان وهي تمد يدها تحركها نحوها لتأتي:
" تعالي حبيبتي عندي......."

اقتربت منها فرفعت يدها تضعها على كتفها تمسده بحنوٍ مغاير لاشمئزازها في الماضي لمن هم بمظهرها وهمست بنعومة:
" ما اسمك"

ردت ونظرتها لا تفارق ما بيد تلك:
" نورا..."

قالت بمحبة ومداعبة وهي تمد لها اصبع الشوكولاتة:
" هذا لكِ....لكني سرقتُ منه لقمة ...سامحيني!..."

تهللت أساريرها بفرح عارم وسحبتها من يدها بالحال لتضعها في فمها وولت تركض مدبرة حتى دون أن تشكرها من شدة لهفتها وجوعها لتبتسم بأسى من خلفها ثم تناظر صغيرها تحدثه:
" الجوع كافر بنيّ.....اسأل الله أن لا يضعك بهذا الظرف "

بعد قليل مر رجل من أمامها يحمل بالونات للبيع...وقع قلبها لرؤيتها واهتز جسدها وانتفاضة رهيبة حدثت في احشائها ...إنها عقدة طفولتها التي تلازمها....الخوف من الانفجارات...!!....أغمضت عينيها وبدأت تدعو الله برجاء مستضعفة بأن يختفي هذا البائع من أمامها.....أحست بحركة صارت بالقرب منها تزامناً مع مناغاة ونغمات تصدر من صغيرها....فتحت عينيها بذهول لما رأت ذاك الرجل أصبح عندها بابتسامة خلوقة يسألها:
" ما رأيك سيدتي أن تشتري للصغير بالوناً.."

بكلمات سريعة يكسوها اهتزاز الخوف ردت من فورها وهي تحرك يدها كأنها تهش ذباب عنها لتبعده:
" كلا كلا .....لا نريد ..شكرا....اذهب...!!.."

لم يكن من ثقيلي الدم الذين يلتصقون بالزبون!!....ما إن أدار ظهره يخطو خطوتين حتى انفجر ابنها بكاءً وهو يشير بيده بحركة عفوية يقبض ويبسط كفه كإشارة أنه يريد بالوناً...فكان من الطبيعي لابن التسعة شهور أن تجذبه ألوانها وحركتها مع الهواء.....حاولت تهدئته بتحريك العربة....لم يرضا....الرجل يبتعد والصغير عيناه معلقة بما يحمل ويستمر ببكائه.....حدقتيها المرتعشتين بهلع تتنقلان بينهما.....النظرة الأولى لابنها....والثانية للرجل....عقلها يشعر بالسكينة كلما ابتعد الرجل....وقلبها يعصف بصورة هوجاء حزناً على ابنها ....وما بين النظرتين حيرة وما بين الخيارين مجازفة عسيرة ....معركة تدور في باطنها بماذا تضحي؟!...من الغالب؟!....أي المشاعر ستنتصر ؟!......صمت يكسر فلذة كبدها او كلمة واحدة تجعلها على خوفها تنتصر:
" إنتظر..!!..."

أخرجتها بصوت خافت...لم يصل للمقصود....دمعة انزلقت من مقلتها تعاتب ضعفها.....رجفة القلب تدفعها لتعلو بصوتها....وعزيمة اكتست خلاياها تحارب بها كل ما يبكي ابنها او يؤذيه....فهتفت بنبرة مرتفعة تدك حصون جبنها :
" يا عم....انتظر....أريد بالوناً..."

تضحك لضحكاته ...غدت منفرجة الأسارير لفرحته التي استشعرتها ما إن أضحى البالون له....كيف فعلتها؟!...معجزة أسمتها.....أجل معجزة..... ها هي قريبة منه بعد أن اشترته وربطته له بالعربة وهو يشد حبله يحاول الوصول إليه ...لم تعد خائفة ...تلاشت رهبتها....وهاجر عنها جبنها لأول مرة منذ أن كانت ابنة الثلاث سنوات...!!....لقد أصبحت أماً والأم لا تخاف بل تتحدى كل شيء في سبيل إسعاد إبنها وحمايته .....وهي لن تكون له غير ذلك حتى آخر رمق من عمرها!!...ومستعدة أن تحتضن الموت ليعيش....كما احتضنته يوماً أمها...!!

×
×
×

مرّت ساعتين وأكثر وهي بمكانها في الحديقة العامة لم تشعر بهما....كانت تأرجحه بالأرجوحة المناسبة لسنه....وتتنقل به من لعبة لأخرى وضحكاتها تخرج من عمق فؤادها تصدح في الأرجاء ....عادت طفلة لتلعب معه...لتشعر به...لتسعده.....رسمت لها وله دنيا صغيرة آمنة لبعض الوقت بعيداً عن الدنيا الكبيرة التي لا تسعها....ستحلّق معه بين النجوم عند اللزوم ...وستخفيه بين السحاب من غدر أولئك الذئاب....ستفعل ما ظنته مستحيلاً....فقط لأجله....!!.....لما قررت العودة إلى البيت رفعته عن إحدى الألعاب هامسة قرب أذنه بعد أن قبّلته:
" هيا صغيري....سنعود عند جدتك سهيلة....ستقلق علينا إن تأخرنا أكثر.....وعليّ أن أصلي الظهر قبل دلوف العصر ....."

كانت تسير به متجهة نحو المقعد الذي تركت العربة عنده فبدأ بالبكاء فهتفت تواسيه:
" أعلم أنك جعت وتريد أن تنام....بقي القليل من الحليب في زجاجتك ....ستتدبر أمرك به حتى نصل البيت!!..."

لما وصلت مبتغاها أخرجتها له ووضعته في حضنها تكمل له ما تبقى بها....انتهى منها ولم يشبع فبدأ يتململ بنزق يريد المزيد.....تذكرت علبة الفواكه المهروسة التي اشترتها له صباحاً ووضعتها في حقيبتها وليس بخاصته....التفتت هنا وهناك لم تجدها....جالت بعينيها بإمعان من حولها ...أين اختفت؟!....هبّت واقفة تقلّب ما بالعربة...غطاؤه...حقيبته....ال سلة التي تكون تحتها....ولا أي أثر فأدركت أنها سرقت بما فيها ....علبة الفواكه...هاتفها....وورقات قليلة من المال كانت بحوزتها.....وبطاقة هويتها ..!!....فانهارت على المقعد من خلفها وهي تحمله لتخوض معركة أخرى مع مصائب أخرى ...كانت متجمدة الملامح.....تشبه الدمية البلاستيكية.....لا حياة فيها ولا روح...ظلت لبرهة هذه صورتها حتى أخرجها بكاؤه الذي يوحي بجوعه...ونعاسه...واحتياجه لتبديل الحفاظة فقررت الانضمام لحفلته الصاخبة....أوقفته على حجرها وضمته لصدرها تضع رأسه على كتفها وتهزه عسى أن ينام بلا طعام بنحيب يفتت الصخور....ويجعل القلب عليهما ملتاع ...تهز وتهز ودمعاتهما تختلط معاً لتسجل عذاب كتب على حياتهما وازداد نشيجها وارتفع نحيبها عندما تذكرت كرتونها المفضل (سالي) وبأن والدتها كانت ستسمها بها فهمست بنبرة مبحوحة اختناقاً ومشاعر محروقة ألماً:
" آه أمي ....صحيح لم يكن اسمي سالي كما أحببتِ....لكن يبدو أنني اشبهها شكلا وبؤساً....بمآسيها وأوجاعها ...كلتانا فقدنا أهالينا.....كلتانا حياتنا هموم وأحزان....كلتنا كان علينا مواجهة وجه العالم القاسي ومرارته ..بل يا أمي معاناتي أنا أضعاف معاناتها...."

ثم وقفت تحاوط جسده وتشده لجسدها كأنها تريد ارجاعه لبطنها تحميه من غدر الزمان وبدأت تغني بصوتها العذب أغنية بديلة للتهويدة التي كانت تشدو له بها للنوم وشعرت أنها تمثلها وتنبع من أعماقها وهي تبكي حالها:

" [[ أنا قصة إنسان
أنا جرح الزمان
أنا سالي سالي
أنا قصة إنسان
أنا جرح الزمان
أنا سالي سالي
أعيش في حنين
لوقع المطر.. لضوء القمر.. ورسم المصير
سالي سالي سالي
سالي سالي سالي
يانور الأمل الطالع
بدل أحزان العمر
كي نلمح نور الفجر كي نحلم مثل الزهر
لنغني نغني نغني
سالي سالي سالي
سالي سالي سالي ]]
(( كلمات أغنية الشارة لكرتون سالي))

~~~~~~~~~~~~~~~

حتى الأيام لم تعد تتشابه عندها....فكل يوم يمضي يأتي خلفه أصعب منه وأقسى...كيف لا والوضع المادي يزداد سوءاً..؟!..والفقر يحيط بها من كل جانب؟!...احتياجات الطفل التي كلما كبر تكبر معه......احتياجاتها الخاصة أيضاً....تحاول قدر الامكان التعايش مع المال الذي معها بقايا ثمن أسوارتها الثمينة .....تحسبها أنها كانت آخر قطعة لديها من المجوهرات...أما ذاك يستحيل أن تقترب منه مهما كان....إنه خطها الأحمر.....لا تبدله بكنوز الدنيا وهي عانت كثيرا بسبب فقدانه وتاقت جداً لإيجاده وامتلاكه!!.....خلال هذه الأيام لمّا رأت مربيتها حالتها التعيسة قررت مفاتحتها بالموضوع ذاته....تلف وتدور ثم تعود لتذكيرها به ...ونصحها!....إنها لا تعي أن كلما توسعت فجوة البعد يتوسع معها سخط سيدتها الصغيرة وحبيبتها وخاصة بسبب الوضع المادي الذي تعيشه وتمر به هذه الفترة وصعوبة تلبية مقومات الحياة لابنها والصرف عليه!!.......تعشق لا تنكر!...هذا ليس بيدها...حبها حباً كبر معها وترعرعت عليه حتى صار قلبها ينبض به بين النبضة والأخرى...لكن الآن اختلط الحب الكبير بالغضب والحنق الشديد فغدا قلبها ينبض مرة لينثر احساس لذة الغرام بخلاياها ثم تأتي الثانية لينتشر القهر ويغذي روح الانتقام بتفكيرها......أي انتقامها مني بابني كما عزمت ونفذت ولن يثنيها شخص عن ما نوت إلا إن حلّ شيءٌ عظيم يبدل حالها التعس المكروب ويبدد أفكارها السوداوية القاتلة!!.......لذا باءت محاولات السيدة(سهيلة) بالفشل بما يخص موضوعنا ولا يمكنها فعل المزيد وذاك القسم يكبّلها وفوضت أمرها لله ليحلها من عنده وبالوقت الذي يشاء....!!.......في هذا اليوم الثامن من بعد حادثتها البغيضة المؤلمة عند تعرضها للتحرش وفقدانها لحقيبتها وما حوت داخلها كان ابنها نائما وهي تقوم بتوضيب البيت وقت الظهيرة ولم ترغب بالذهاب مع مربيتها الى بيت أحد اشقائها لتلبية دعوة غداء....كانت تشعر بالضجر وحركة ابنها تتعبها وخاصة لوصوله لمرحلة الحبو السريع ومغامراته ليعيث خرابا بالأغراض من حوله وما تطال يده لذا اعتذرت والتزمت البيت فهذا الكائن الصغير كلما تقدّم اسبوعا يتطور بشكل ملحوظ....بات يقيّد تحركاتها وأصبحت تؤجل رغباتها هذا إن وُجدت!......بعد أن أتمّت أعمالها جلست على أريكة ترفع ساقيها بشكل مائل عليها تحشر جسدها الهزيل متقوقعة ببراءتها الطفولية وعفويتها وبمنامتها السكرية التي يزيّنها دببة بنية صغيرة لتشاهد التلفاز تؤنس به وحدتها....طرقات على الباب فضت خلوتها.....أنزلت رجليها بملل وانتعلت خفها وجرت قدميها متبرّمة ....من خلف الباب تناولت أسدال الصلاة تستر شعرها وفتحت لتجحظ الأعين الأربعة بانشداه...ذهول....تعجب...استغر اب....لا أصوات...لا كلمات...ثواني وأقل سُحقت ونفس الأعين تطالع بعضها بصمت ....صنمان يقابلان بعضهما ...وما إن تدفقت الدماء بالأوردة وعاد العقل للاستيعاب حتى خرجت شهقة هول المفاجأة والصدمة من كلتيهما تتبعها خروج اسمين مختلفين من الشفاه وكلمة واحدة متشابهة بنفس اللحظة وكأنه ذات الصوت:
" ألمى....محجبة؟!.."

"ميار.....محجبة؟!.."

لا تفقه أيّ منهما من كانت الأسرع بالانقضاض على الأخرى لتتعانقان...تشدان من احتضان بعضهما ...تدوران...تقفزان...تصرخان...ث م تنفجران بكاءً....مشاعر جياشة تغرقهما تتدفق منهما بسخاء....كلمات كثيرة وكثيرة تحبس داخلهما....تساؤلات عديدة تحكيها نظراتهما.....يتركان فرجة بينهما تتأملان بعضهما بشوق يحمل كل المرارة وأذرعهما ملتصقة تأبى الابتعاد كلها حرارة ..ثم تلتحمان من جديد بحضن تاقتا له يحمل سقم البعد الذي طال.....يا الله...لا هذه ولا تلك تصدق أنها ترى الأخرى قبالتها...صديقتها...توأم روحها....همست بصوت أوشك على الاختفاء من فرط البكاء:
" ميار...ميار...كـ...كيف؟...قسما لا أصدق....أشعر أنني بحلم ....هل أنت حقيقة؟!.."

ردت بصوتها المتأثر ببحة :
" حقيقة يا ألمى وربي حقيقة ....لقد اشتقت لك ....يعلم الله منذ متى أسعى باحثة حتى أراكِ أمامي...."

همست وما تبقى من دموعها ما زال يتكدس بسماءيها:
" أين كنتِ...أين؟!.....افتقدتك كثيراً.......كيف وصلتِ إلي.؟!.."

تحررت منها تعود نصف خطوة للخلف ونكست رأسها لما أدركت المكان الذي تراه به وتابعت بحسرة وهي تجول برأسها كأنها تخبرها أن تنظر إلى ما آل إليه حالها:
" هل سمعتِ بما حدث لي؟!....أرأيتِ أين أصبحت؟!....."

اقتربت منها تربت على ظهرها ناظرة نظرة عطوفة حاولت اخفاءها بطبعها المرح وكلماتها التي تبث التفاؤل:
" ماذا سيدة ألمى؟....ألن تستقبليني في الداخل؟!....أم أن أهل الحيّ هنا يكونوا مثقلون من الضيوف؟!..."

تبسمت بوهن ووضعت يدها خلف ظهرها تدفعها للدلوف هامسة:
" بالعكس.....هنا أهل الكرم وحسن الضيافة....هيا تفضلي!..."

دخلت خطوة للداخل ولما رأت الأحذية تصف خلف الباب فانحنت تخلع ما بقدميها ثم استقامت وقالت بنبرتها المرحة وهي تتفقد الأركان التي تراها:
" أتعلمين؟....أحب هذه البيوت!....لها طابع خاص يشع دفئاً....ليس مثل بيوتنا تلك باردة مجردة من المشاعر.....أغبطك على هذا المكان!!.."

جاملتها باسمة وهتفت بنباهتها:
" فعلا المكان دافئ وجميل ...لكن لا ترهقي نفسك كي تواسيني على حالي يا ميار.."

دخلتا الى غرفة العائلة حيث كانت في البداية ...جلستا على أريكة ازاء بعضهما بشكل جانبي كل منهما ترفع ساق تحنيه تحتها والآخر يتدلى على الأرض فقالت ميار:
" ستخبرينني بكل شيء وبالتفصيل الممل منذ أن افترقنا!..."

أجابتها بقنوط:
" ماذا ستعرفين أكثر مما عرفتيه؟!"

ردت مصممة:
" لا أعرف إلا القليل يا ألمى....أنا كنت في المدينة الصناعية تعلمين"

أنزلت حدقتيها ليديّ تلك وسألت بنبرة متعجبة:
" صحيح أين خاتم زواجك؟!....هل تزوجتِ أم ما زلت مخطوبة."

شدت جذعها تنصب كتفيها بملامح مغرورة تصنعا وقالت:
" بلا زواج بلا بطيخ......اعطني حريتي أطلق يداي"

"ماذا تقصدين؟!"

سألتها لتجيب:
" يعني فسخنا كل شيء....ارتحت من شبيه الرجال.......سأخبرك لاحقاً....أريد أن أسمع قصتك بالأول"

شهقت تضع يدها على فمها بدهشة لثواني وهمست:
" لماذا؟!.....ظننت أن الدنيا ضحكت لك"

" اسكتي......صمنا وكدنا نفطر على بصلة رائحتها نتنة.....لكن الحمد لله نجني الله قبل أن آكلها فاسدة"

" لا تقولي هذا!.."

هتفتها بصدمة فردت عليها وأغمضت عينيها بوله تمثيلي مضيفة:
" آه يا صديقتي......شتّان ما بين الثرى والثريا.....بين البصل والزلازل "

ضحكت تلك فعادت لنبرتها الطبيعية تقول:
" هيا اخبريني عنك وخاصة موضوع الحجاب وسأخبرك عني"

حدّقت بها لبرهة وسألت:
" اخبريني أنتِ كيف وصلتِ إلى هنا...؟!.."

تراخت ملامحها وكساها القهر بسبب تأخرها وردت:
" حاولت أن أتصل بك لم أفلح وكذلك لميس فعلت....لم نستطع الوصول إليك......لا هاتفيا ولا غيره......كأن الأرض انشقت وابتلعتك!......ومنذ شهور عندما فسخت خطوبتي لم أتمكن من العودة هنا إلا بعد ما أنهيت الفصل في الجامعة كي لا أخسره.....ومن حوالي أربعة شهور ونصف تقريبا عدت وأهلي لنستقر هنا في مدينتنا الساحلية ....التحقت بجامعتنا مجدداً....وبدأت برحلة البحث عنك دون كلل ...أقسم لك.....سألتُ بالجامعة عن محامي عائلتك لأوصل لكِ ولم يرضوا بأن يعطوني أي معلومة .....لو كانت معي لميس ربما لوجدناك أسرع.."

قاطعتها:
" أين لميس؟!.."

ردت من فورها :
" تزوجت منذ سنة تقريبا بينما كنت في المدينة الصناعية ..لم أتمكن من حضور الزفاف لكنها بعثت لي مقتطفات من حفلها وأرسلت لها هديتي بالبريد....وبعد أسبوع سافرت لتستقر مع أمير زوجها في جورجيا ليكمل تعليمه هناك وهي ستلتحق بجامعة للهندسة أيضا "

غصة ألمّت بها تتحسر على دراستها وهي تذكر الهندسة أمامها لكنها حافظت على رباطة جأشها هامسة:
" وفقها الله...."

أكملت تلك قصتها:
" المهم أنني بعد جهد جهيد ...تذكرت مكان شركتكم السابقة ....تعلمين زرتها بالماضي مع زوجك يوم اختطافك..."

لمَ؟....لمَ تذكرها بأحلى أيامها المرّة؟!....هي بالتأكيد لا تقصد لكن قلبها المكلوم له رأي آخر مع الذكريات والحسرات.....فيتحسس من سيرة الماضي بحلوه ومره.....!!

وتابعت بسردها:
" من محاميهم وصلت لمحاميكم وهو أعطاني عنوانك الحمد لله..!.....هيا اخبريني ما حصل؟..."

شرعت تقص عليها أبشع القصص التي لن تسمع مثلها.....كانت تتفاعل معها ...تبكي في حين...وتعترض حيناً آخرا على بعض الأشياء....تحاول نصحها رغم أنها من الداخل امتلأت حنقاً وسخطاً عليّ بسبب هجري وإهمالي لصديقتها المقرّبة....لذا لم تكن تحرضها وهي تسمع ما فعلته بها لكنها اكتفت بشتمي في سرها كلما غلت دمائها!!.. ...أما لما وصلت تقفز من حملها لولادتها شهقت (ميار) تضع يدها على صدرها هاتفة باستغراب:
" لديك ولد ؟!.....أكائن صغير جاء لدنيانا ؟!..."

لم يعطها المجال لتضحك أو ترد عندما صدح بكاؤه في البيت فابتسمت ابتسامة مائلة ترفع حاجبيها وتبسط يدها هامسة :
" اسمعي الإجابة.."
انتصبت تلك تسبقها واقفة وهي تقول:
" لا أصدق .....أخيراً سأرى انتاجكما ....حقاً أنا مصدومة من هول هذه المفاجأة..."

ولحقتها دون شعور منها متحمسة لرؤيته وهي تتابع بصوتها التمثيلي بينما (ألمى) تضحك من قلبها على كلماتها:
" أيها الزلزال الصغير ....عروسك قادمة إليك....افتح يديك وعانقني ....إني أعيش جفاف عاطفي لا يسر عدو ولا صديق!!..."

لما وصلتا الى سريره دنت منه فسكت عن البكاء لأنه يرى وجها جديداً ...كان يتأملها يتعرّف عليها باحثاً عن وجهها بعقله الصغير...أما هي همست بمحبة صادقة وكأنه يخصها فعلا:
" بسم الله ما شاء الله......في الحقيقة توقعتُ أن يكون انتاجكما مختلف ومميز......فنحن نتحدث في النهاية عن التحام دمية بزلزال......لكن لم أظن أنه سيكون وسيما لهذه الدرجة....حفظه الله !..."

وبدأت تداعبه وهو في سريره يقف متمسكاً بقضبانه فرفرف قلبها لما ضحك لها وأظهر ثناياه الأربعة ثم أزاحت أمه وحملته تقبله بنهم لا يشبه نعومتها...تدغدغه من سائر جسده وهو يقهقه متجاوباً معها.....بعد مرور وقت قدمت به المستضيفة ما كان بالبيت يلائم التضييفات البسيطة وأتمتا قصصهما لبعضها واهتمتا بالصغير الذي أخذ حيزا كبيرا من الجلسة هتفت (ميار) وهي ترفعه عن الارض وتضعه على حجرها:
" صراحة هو يأخذ لون عينيك وبشرتك لكن ملامحه بالكامل لأبيه.....لا تنكري ذلك!......تعادلتما في العشق وأتيتما بنسخة تحمل أجمل ما فيكما...."

اومأت برأسها توافقها والضحكة تزيّن محيّاها...هذا يكاد يكون أجمل يوم تعيشه منذ الحقائق التي انهالت عليها...صديقتها تذكرها بكل شيء جميل....وبكل ذكرى أجمل.....بعد قليل تنحنحت تلك وتشجعت هاتفة:
" لا تغضبي مني......أنت أيضا مخطئة بحق نفسك وبحق ابنك ....أما يامن.... هادي......أنا لا أبرر له أي شيء ولن أبرر أبدا ...ربما ظلمك فعلا.....فهجره لك كل هذه المدة وعدم السؤال عنك يجعلني أود خنقه صدقاً....لن نعفو عن هذا ...هو يحتاج لمن يُعلِمه بحجم خطئه الفادح.....حتى وأن يعاقبه.......لكني أرى أنك تختارين ظلم نفسك وأحبائك معك........من رأيي عليكِ مواجهته وإخباره......ممَ أنتِ خائفة؟!....أولا لا يمكنه أخذه منك بالإجبار...فهو ما زال في سن تحت رعاية الأم ....ثم ربما تصلان لاتفاق بينكما من أجله!....."

همّت لتتكلم تفرج عن شفتيها فأسكتتها واضعة كفها على كفها متابعة:
" حسناً أنت سعيدة هنا.....لكن الولد سيكبر.....سيسألك عن أبيه....أتظنين أنه سيسامحك لو علم أنك حرمته منه بسبب مشاكل بينكما وبسبب عنادكما الغبي وكبرياءكما البغيض .؟!....."

مسدت لها يدها بكفها الذي يعتليها بحركة دافئة تدعمها وأكملت:
" ألمى اسمعي الكلام لمرة .....لا تحرميه أبيه.....حتى لو اضطررت للذهاب والعيش ببلده وأنتما منفصلان!..... عليه أن يترعرع بحضن أمه وكنف والده......لا تقتلي له أهله بالحياة.!!.....كونه زوج فاشل لك....وظالم معك....لا يعني هذا أن يكون أبا فاشلاً وظالماً.....لا تخلطي الأمور ببعضها.!!.....لا أقول لكِ عودي له كزوجة أو حبيبة.....محيي الدين هو من يربطكما ويجب أن تفعلا المستحيل من أجله ."

احشاءها تتمزق ...ضائعة بكلماتها....تراها محقة لحد كبير......لكنها مصممة على أفكارها بعقلها الصغير وغضبها الأعمى فهي تظن أن وصولها إليّ واخباري عنه سيكون كأنه تذلل وتصغير لنفسها وتحقير لكرامتها.. أو استجداء منها لتعود لي!! ..لذا بقيت متشبثة بقرارها هاتفة:
" ميار لا تضغطي عليّ....لطفاً!!....أنت محقة أو لا هذا لا يعنيني....... لن تشعري بي وبما عانيت .....أتعي حجم الكارثة التي أنا بها ؟!...رأيت بنفسك...بلا عمل بلا مال ..بين غرباء ومع طفل.....أي كارثة أكبر من هذا؟!........كرامتي وكبريائي هما ما يمكنني مجابهته به ......هو ذا نفوذ سلطة ومال....شخصية قوية ....عائلة مشهورة ....ولا تنسي أنه ذا كبرياء لعين.......لمَ أنا لأتنازل عن ما أملك وأقابله فيظن اظهاري لابنه هو لأستجدي قربه وعطفه وحبه واهتمامه.......سأتفق معه بشأن ابننا إن أتى بكامل ارادته وعلم بنفسه ...أعدك!!.....يكفيني ظلمه لأبي ولكن ما فعله من ظلم بحقي كبير.....يكفي......."

لاذت بالصمت تجمع كلماتها التي تريد أن ترد بها عليها ثم همست بتأكيد:
" لكنك تحبيه...لا تنكري هذا.."

ردت بإباء وكبرياء:
" مهما أحببته ومت في حبه ...لن أهين نفسي عنده...!.....كل ما عشت وما زلت أعيش حتى الآن ...سببه واحد ووحيد....شخص اسمه هادي الشامي.........لا تحاولي اقناعي بالله عليك....."

×
×
×

منذ وقت لم تفرغ خزانتها بالكامل لتعيد ترتيبها.....أنزلت ما أنزلت من الرفوف العلوية بينما كانت جميع الأبواب مفتوحة على مصراعيها.....ترتب بانتظام .....أي غرض لا تحتاجه تلقي به بالنفايات وآخر تضعه للتبرع وتحتفظ بما يلزمها......استُنزفت طاقتها وحُرقت كرة النور لديها بعد أن كانت تعمل بنشاط وبالطبع النصيب الأكبر لاستنزافها والمسبب الوحيد لحرقها هو المخلوق الصغير الذي يحبو يدور في الغرفة يتعرف على الأغراض المبعثرة مخلّفات مهمتها التي بيدها .....دنا بفضوله المشاغب لإحدى اقسام الخزانة المفتوحة ....اصطاد بنظرته الثاقبة أشياء توضع بفوضوية في قعرها....سحب طرفها وإذ بها حقيبة صغيرة غير مغلقة بإحكام ...حرّكها فسقطت ورقة منها.....سحبها بأنامله الصغيرة الشهية ....قلّبها يتفحصها ثم رفعها لفمه يتذوقها ...بدأ يمتص طرفها ....كانت تقف على كرسي تمط جذعها تضع أغراضا بالرف العلوي للخزانة والباب يحجب رؤيتها....لما ارخت جسدها لمحته فقفزت صارخة مندفعة نحوه:
" محيي ماذا تفعل؟!....هذه سموم ليست للأكل يا صغيري.."

شدتها منه واستقامت.....ضيقت عينيها وغضنت جبينها تتفحصها بسرعة فأدركت أن هذا الظرف الخاص بخالتها (فاتن)....هوى قلبها تأثراً...وارتعدت أوصالها ....كم مضى عليها ونسيتها؟!!......من بعد وفاتها لم تفكر يوما بفتحها.....لأن صاحبتها ماتت فلن تفيدها.....أبقتها بالحقيبة التي لم تعد تستعملها والتي كانت تلائم ملابس التبرج وأناقتها السافرة في ماضيها ذاك......فضولاً غزى عقلها وحنيناً سرى بأوردتها.....بسملت واستجمعت قواها ثم فتحتها.....!!

[[ بعد السلام والمحبة التي احملها لك أكتب رسالتي بيدٍ ترتجف وقلب يئن ألماً........صغيرتي ومهجة روحي....ألمى الروح......في كل حرف أطبعه تنزل دمعة توثق صدق كلامي.....لأخبرك عن الأمور التي تجهليها ولأني أعرفك أكثر منك...فأنا أعلم أنه عندما تنجلي الحقيقة....ستتبدلين.....ستقهر� �ن.....تغضبين....تبكين....وتصابي ن بالجنون......أتمنى لو جاء هذا اليوم أكون موجودة معك.....لأحتويك....لأخبئك....لأ� �ميك من نفسك قبل الجميع ...وأداعب لك شعرك حتى تهدئي وتستكيني كما عودتك........لكن أقدار الله لا نعلمها....هل أكون أو لا أكون؟!.....لذا وددتُ تجهيز هذه الرسالة عسى أن تشعري بقربي منك إن كنتُ لا أكون......عزيزتي وأملي في الحياة.....أنا لم أتعمد اخفاء عنكِ الحقيقة لأؤذيك أو أغدرك....بل انتظرتُ أن تصبحي قوية للمواجهة....ناضجة للاستيعاب.....فمشاعرنا تهزمنا دائما لكن الفكر السليم يسعفنا لنعود وننهض من جديد......خذي أنفاسك واسمعيني....اشعري بوجودي حولك وأنت تقرئيها وضعي نصب عينيك أنني أحبك حباً تخطى حتى حبي لأمك ....أنت قطعة من قلبي أما بعد يا صغيرتي.....أنا ووالدتك كنا نعلم عن والدك وأعماله كلها ولم نكن نجرؤ لنتكلم بالموضوع أبداً...أدرك حبك له ولن ألومك فهو يبقى والدك ...أنتِ ذقتِ بعض من قسوته فقط بنيتي....أما والدتك التي لطالما ادّعى حبها ذاقت قسوته في ذروتها...حبه لها لم يكن إلا مرضاً فتك بها وطالنا أنا وجدك.....هو رجل مريض بحب التملك لديه جنون العظمة ....سأحكي لك ما يأتي ببالي مما حصل ....مثلاً ....اجبرها تحت التهديد على ادخال اموال حرام لحسابها كي لا يثير الشبهات باسمه من صفقة ضد الدولة مع دولة مجاورة .....لمّحت لي حينها لأنه هددها انه سيحرمها منك ان لم توافق........لقد تمنت لك دوما عيشا رغيدا!!.......وطلبت مني أن اقف جانبك وأن اخرجك من ظلمات بيتكِ المقيت الى النور!!..لأنها كانت هشة مثلك وأنا أقوى منها لا أسكت!!..فأرادت لك النور منذ أن كنتي في رحمها......ولن تجدي نورا أعظم من النور الموجود في عائلة هادي زوجك وحبيب طفولتك........هؤلاء اناس تربوا على العزة والكرامة ...الدين القيّم والخُلق الحسن........رضعوا الشجاعة والوفاء.....أنا وضعتك في مكانك الصحيح لأنك طاهرة نقية وهم من يليقون بك صغيرتي......إن ظننت نفسك مخدوعة فانت مخطئة.....هذه رحمات من السماء نزلت عليك على مهل .....وراء قسوة الموقف سترين لطف الله بك.....لكن عليك ان تبدلي الزاوية ....لا تنظري من زاوية واحدة بنيتي.....استديري حتى ترين الحقائق فعلا.....معرفتك ليس الا بداية الحقيقة......الحقيقة تكمن في قلب والدك وعقله ......إن نجحتِ في سحبها من لسانه فقد فزتِ وإن لم تنجحي عودي وافتي قلبك لما يرشدك وافعلي ما يريحك.....لكن اياك ان تلومي أحداً بنصيبك وما عايشتِ.....إياك أن تضعي الذنب على احد....كل منا سيعاقب بذنبه.....فأرجو ألا يكون ذنبك مناصرة للباطل وازهاق للحق........لن اقول عن نفسي ضحية ومضحية....لكن انظري بعين قلبي ولو مرة.....انسانة رأت موت والدها العاجز أمامها وصمتت خوفا من انفجارات كارثية وتحملت العيش مع قاتله.... تراه كل يوم وتقتل نفسها بالبطيء برؤياه....خلية خلية تموت فيها من أجل غيرها أن يعيش........أجل حبيبتي لا تنصدمي!....والدك من قتل جدك أقسم لكِ...هذه ليست تهمة إنما حقيقة حبستها داخلي حماية لأمك ولك...أنا إنسانة فقدت وشقيقتي املاكنا جورا ببصمة مزيفة اجبارية فعلها والدك بوالدي.!!....انت تعلمين أن جدك كان انسانا متعلما ومثقفا وصاحب حق.....ابحثي في اوراق والدك لا بد انك ستجدين الورقة وعليها البصمة....هو يحتفظ بها لأنها مهمة!........لمَ ليبصم على ورقة رسمية وهو بإمكانه الكتابة والتوقيع مثلنا؟؟......أما توقيعي خدعتني أمك به بطريقة ما بسبب ارتعابها منه وخوفاً علينا وعليك بعد تهديداته التي لا تحصى ولاحقاً أعلمتني بذلك وجعلتني اقسم ألا اواجهه بالموضوع ....لكن بعد موتها أرسل الله لي أبطالاً يأخذون حق كل مظلوم منه وكان من أكبر المظلومين عائلة هادي.....والدك خان الوطن من أجل المال والمناصب وقتل والد زوجك.......لقد كان صديقه يا ألمى لكنه باع وغدر!!....حب المال والسلطة أعمى بصره وبصيرته .......تنفسي صغيرتي وتحملي الآتي وحقيقته الموجعة ......مثالاً آخراً عن بطولات والدك......لقد كان له عشيقة بوجود والدتك!!....أتدركين هذا؟!......من يحب لن يخون لكن من خان الله وخان الوطن لن يهتم لغيرهم......وعشيقاته كُثر ....حتى وأنتِ امرأة متزوجة وسوزي على ذمته خان أيضا واتخذ عشيقة.....إن لم تصدقيني اذهبي لإيمان وأنظري للصور.....كان سيُفضح في الصحف....أتعلمين من منع هذا؟!.....زوجك...هادي.....حماية لك ولمشاعرك.....هذه وجبة دسمة للأخبار منعها من أجلك فقط!!.....كي يبقى رأسك مرفوعا بين زملائك وأصدقائك....هل شخص فعل هذا لك رغم أنها كانت لصالحه تظني أنه ممكن أن يؤلمك أو يسمح بإيلامك؟!.....بنيتي لا تتهوري بأحكامك وتدمري حياتك......الحياة اخذت منك أماً وستأخذ الاخرى... لكنها فتحت لك بابا آخرا يوصلك لأم عظيمة مثل حماتك أم هادي...تلك السيدة العظيمة وزوجة قائدا عظيما يشهد له الجميع......لا ترفسي هذه النعمة صغيرتي........الحياة حرمتك الاشقاء.....وعوضتك بأشقاء هادي......اذهبي وانضمي اليهم....تقرّبي منهم فأنتِ من تستحقين هذا!....كوّني عائلتك الدافئة التي تمنيت بيدك....هذه فرصتك!!......الحياة هجّرتك من وطنك الحقيقي الى وطن لو دفنت تحت ثراه للفظك لأنك تبقين الغريبة.. ....اذهبي وعانقي تراب وطنك الذي لن تجدي أحن منه عليك!!........الحياة اعطتك اشارة بحضن دافئ وآمن حينما كنتِ صغيرة كي تلمسي هذا الاحساس بقلبك البريء بعيدا عن افكار الكبار وضغائنهم ليكون اصدق شعور وأنقاه.....شعور تتشبثي به ولا تضيعيه من يدك!!......اذهبي الى حضن الذي أجزم أن يفديك بروحه اكثر من والدك!!.....لأنه المخلص الشهم ولا يحمل إلا دماء الشهامة....كان الله كريما معك بنيتي......لقد أوقع والدك بأيدي أناس شرفاء لن يحرموه الحياة غدراً كما يفعل.... إنما سينصرون الحق بسجنه ...إنهم بإمكانهم بسهولة تفجير رأسه دون ان يرف لهم جفن ...انظري لهذا الجانب..!!....وراء القضبان تزورينه متى شئتِ ....ليت والدك طردني ووالدي للشارع وبقيت معي انفاسه.....ليته لم يحرمني وجوده وإن كان صورة... ...ليت......ليت.....انت محظوظة ابنتي......لم يحرموك والدك الى الأبد.....ما زال موجودا ويتنفس.......فلا تحرمي نفسك الحياة السعيدة والعيشة الرغيدة واذهبي....اذهبي وواجهي المتسبب بكل الآمك ثم اقبلي لعائلتك الجديدة وستجدين قلوب الجميع تنتظرك.......أناس لم يؤذك أو يعاملوك بذنب والدك ...أين ستجدين مثل هذا الكرم والسخاء بالمعاملة؟!......هذه الشهامة من شيمهم ونصرة الحق تتغلغل في دمائهم.....طريقهم لن يضيعك....فلا تضيعي نفسك بيدك!!.........لكِ كل محبتي يا صغيرتي.....مني أنا من عشت وسأموت محاربة للظلم......خالتك فاتن.]]
بعد أيام عديدة عادت (ميار) تزورها من جديد....تحمل بيديها الكثير من الهدايا وكلها لزلزالها الصغير (محيي الدين)....لما فتحت لها الباب هالها مظهرها الكئيب....كلا ....هذه ليست صديقتها التي عرفتها سابقا وحتى منذ أيام....انقلبت مئة وثمانون درجة......استقبلتها بملامح حزينة ووجهٍ شاحب.....حاولت أن تسحب منها الكلام علها تفرغ عن نفسها ولكنها أبت أن تعترف بشيء وأبقته لها.....بعد حديث يسير همست بخواء وهي تتلمس العقد في عنقها:
" يجب أن أزور أبي.."

ردت بحيرة:
" ما المشكلة ؟!..."

اعترفت هاتفة والضياع يتملكها:
" لا مال لديّ ...وزيارته بالنسبة لي مسألة حياة أو موت وخلال يومين لا أكثر لأني سأنفجر....!!..."

" ماذا ستفعلين؟!.."

سألتها وآثرت أن لا تتدخل لمعرفة سبب الزيارة لذا لم تستفسر أكثر أما تلك رفعت عقدها وهمست بصوت مجروح:
" سأبيع آخر ما تبقى لديّ....عقدي ذو القلب الذهبي....الذي يحوي صورتي وأمي وخالتي رحمهما الله...."

صرخت معترضة:
" مستحيل.....لن تبيعيه.....أعلم قيمته عندك ألمى..."

ردت بصرخة أكبر:
" أقول لك أريد مالاً وزيارتي مسألة حياة أو موت..."

التزمت الصمت لبرهة وحاولت أن تكون حذرة كي لا تجرحها وهي تقول:
" سأعطيك المال..."

وقبل أن تهمّ بالاحتجاج تابعت من فورها تسبقها:
" ديْن.....ديْن يا ألمى..."

رمقتها بنظرة ذات مغزى وهمست والمرارة بحلقها:
" أتسخرين مني ميار؟!......من أين سأسدد لك الدين؟!...."

أجابتها بمودة ولطافة:
" لن تبقي دون عمل.....ستسددين لي على مهل..."

واستطردت بنبرتها المرحة تحاول أن ترطب الجو:
" أو سآخذ ديني من عينيّ زوج توأم روحي.......رئيس أركان بحجم الباب.....وصاحب شركات على مستوى دولي......هل سيهمه بضع قروش للمساكين أمثالنا؟!..."

حانت ابتسامة على شفتيها لأنها تدرك مزاحها...فمن أين ستراه لتفعلها؟!.... لتعود عابسة متجهمة الوجه وهي تهتف:
" لو وافقت على اقتراحك.......المشكلة محيي الدين....صعب السفر معه وحدي!!..."

بابتسامة لطيفة تشبهها أجابت واثقة مع نكهة مزاح:
" إن صبرتِ لأسبوع ونصف سأرافقك لاهتم بزلزالي الصغير....ما رأيك؟!..."

" كيف؟!..."

" بعد قرابة الاسبوعين يوجد حفل زفاف للابن البكر لخالي الصغير .....فأنت تعلمين أمي من هناك .....أي من وطنكم ذاك!!.....سأرافقها أنا وسيلحق بنا بعد يومين أبي وأخي قصيّ.....ومن حظك....أخوالي يقيمون في العاصمة.....وأنت ذاهبة الى هناك......ماذا قلتِ؟!."

تهللت أساريرها وزفرت بارتياح هاتفة بصوت أقوى من ذي قبل:
" موافقة.....لكن بشرط...."

" ما هو الشرط يا ست الحسن والجمال؟!."

"أن يحسب هذا دين على عاتقي دون مراوغة منك!!..."

اومأت لها توافقها ومدت يدها تصافحها هاتفة بروحها اللطيفة وخفة ظلها:
" اتفقنا ...أمرك سيدتي .."

ولمعت عينيها بدهاء....بفكرة لن تتخلى عنها وإن كان المقابل خسارتها للأبد.....فقد بلغ السيل الزبى وهي تراها على حافة الانهيار....وجهها الذي عرف بإشراقه وبهائه خفت نوره وأصبحت كأنها تقدمت سنوات من العمر ...عيناها غائرتين والهالات تحيطهما.....شاحبة كما لم ترها من قبل...مستحيل أن تكون هي نفسها التي ولدت وفي فمها ملعقة ذهب....هي نفسها التي حملت عمرها كله على كفوف الراحة....لن ترضى لها عيش المذلة .....هي تظهر قوتها لكنها حتما ستنهار......ستنهار يوماً بأبشع صورة ولا أحد يستطيع انقاذ روحها من تحت الركام...وستذهب ...ستذهب الى الأبد وتترك ...ابنها يتشرد في الطرقات.....إن لم تفعلها.!!...وقد أقسمت في سرها .." أقسم يا صديقتي أنني سأفعلها....رضيتِ أو لا .....لا يهمني ماذا ستكون ردة فعلك....لستُ مجنونة لألحقك بجنونك.....وليست ميار من تصمت عن هذا الظلم الذي تعيشي وتعيشين ابنك به.....سأفعلها مهما كان الثمن..."

~~~~~~~~~~~~~~~~~

هبطت الطائرة في أرض الوطن.....رحلة اتفقتا عليها قبل أيام..... كلّ منهما لها أفكارها ونواياها ...وكلّ منهما لم تعي أن هذه الرحلة هي التي ممكن أن تغير مجرى حياتها!!....ربما فيها تسطّر الأمجاد بعد أن تتلاشى الأحقاد !!....لا أحد يعلم وهما كذلك.!!..فماذا سيخبئ لهما القدر ؟!....بعد الانتهاء من إجراءات المطار ...سحبت (ميار) حقيبتها التي وضعت بها كل ما يلزمها لزفاف ابن خالها وما يلزمها لباقي أيامها وسحبت معها حقيبة أخرى تخص توأم روحها التي كانت منهمكة بجرّ عربة صغيرها متجهتان برفقة والدة (ميار) الطيبة الى موقف السيارات حيث هناك أحد أقربائهما جاء للاستقبال!!.....لما وصلن إليه سلّمت عليه ثم ودّعت والدتها التي أوصتهما بالاعتناء بنفسيهما... تقبلها بحب فقدته تلك الواقفة المبتسمة لهما منتظرة ليأتي دورها بمصافحة تلك الطيبة الكريمة التي عرفتها سابقاً لكن اليوم صباحاً تقرّبت منها أكثر ولامست حنيتها وهي تعاملها كابنتها ...فباتفاق مسبق تقرر أن تذهب والدة(ميار) الى عائلتها في العاصمة للمكوث هناك بينما ابنتها سترافق صديقتها بالفندق الذي حجزته لكلتيهما!!....استقلتا سيارة أجرة بعدما اختفت والدتها عن الأنظار.....استغرقت طريقهما ثلث ساعة من الزمن حتى وصلتا لذلك الفندق الضخم الفخم والذي يقبع في أطراف المدينة وفيه منتجع ترفيهي كبير للعائلات ....امتقع وجه (ألمى) وقالت بعزة نفس:
" ميار ما هذا ؟!.."

سحبت الحقيبة وقالت بغرور مصطنع وهي تسبقها:
" فندق كما ترين....اصمتي واتبعيني ولا تعكري صفوي......"

اجتازتها توقفها قائلة بنزق:
" أخبريني لمَ أتينا الى هنا....تعلمين لا أستطيع أن أسدد ماله لكِ.....لمَ تحرجيني؟!...."


أجابتها بنبرة متهربة:
"آخر مرة زرت بلاد والدتي وأنا في الابتدائية....أتريدينني أن أحشر نفسي مع العائلة أو أذهب لفندق بالي؟!...."

وأكملت بجدية:
" اتفقنا أن تسددي التذكرة ....ولم نتكلم عن الفندق......"

ثم أمالت جذعها نحو الذي يراقبهما بالعربة تقرصه من خديه مردفة بمداعبة:
" هذا الفندق هديتي لزلزالي الصغير لنمضي شهر عسلنا هنا....."

وناظرتها بنظرة متفحصة تمثيلية تتابع:
" أم أنكِ حماة نكدية متسلطة ستخربين علينا الأجواء؟!..."

قالت باستياء:
" لا أمزح ميار.."

ردت تقلد نبرتها:
" وأنا لا أمزح ألمى..."

ثم دنت منها تضع يدها على كتفها بحركة داعمة تهمس بجدية هادئة:
" ألمى أرجوك......لا تنظري لهذه التفاهات.....الأخوات لا يوجد بينهن هذه الحساسية التي أنتِ بها......الصديق وقت الضيق وأنا توأم روحك لستُ مجرد صديقة......لا تعلمي عزيزتي ألمى....ربما سأحتاجك في يوم أضعاف احتياجك لي......وإن كسرتني اليوم برفضك....صدقيني لن الجأ إليك طالبة رشفة ماء حتى لو كانت بها حياتي...."

تكدست دموعها واختنقت حروفها ....متأثرة ...لا تعلم أتحمد الله على نعمة هذه الصديقة أم تلعن حظها الذي أوصلها لما هي فيه!!؟.....فلتت دمعة منها رغما عنها فمسحتها لها وهي تهمس بصوت خافت متأثرة هي الأخرى:
" ألمى لا تبكي....لا تشعريني بأني غريبة...."

وجلت صوتها تعيد اتزانها ونبرتها المرحة لتهتف هتاف مسرحي:
" هيا ...لنقتحم هذا المكان.....نعيث فيه فساداً مع زلزالنا الصغير...نمرح ونضحك ونلعب ونأكل دون رقيب أو حسيب......ونلقي كل شيء خلفنا ....فالفرص التي تأتينا لن تتكرر والزمن لن يعود وقت الندم...."

لما رأتها تشق ثغرها ضحكة حقيقية استغلت الوضع واستدارت تسحب حقيبتيهما تنصب كتفيها هاتفة بحماس تستمر بتمثيليتها وهي تسير بتبختر:
" هيا يا رفاق.....نحن قادمون ...إفسحوا لنا المجال....واستقبلوا الزلزال...."

تبعتها تجر عربته.... مجبرة أو راضية لا يهم المهم أن ضحكاتها تعالت خارجة بصدق من جوفها ....لتبدأ مغامرتهم لاكتساح الفندق وعيش المرح والفرح دون تضييع للوقت!!...

×
×
×

بعد يومين مع إشراقة الشمس اللطيفة التي تدغدغ الطبيعة استأذنت (ميار) منها لتذهب إلى اقربائها تقابلهم وتسلّم عليهم احتراما منها لهم....فغير منطقي وجودها في بلادهم دون أن تزورهم...ستؤدي الواجب حاليا إلى حين مجيء يوم الزفاف ومضي الوقت كله معهم..!!...كانت هذه نيتها فعلاً ولكنها نيتها التي أظهرتها استغلالاً لتغطي عن نية أخرى مبطنة تخفيها لنفسها ....قبل أن تخرج سألتها ليطمئن قلبها :
" أكيد لن تتأخري عني لترافقيني من أجل زيارة أبي؟....فأنتِ تعلمين موعدنا مع اللقاء في السادس والنصف مساءً!!"

رمقتها بنظرات مبهمة لا تستطيع تلك قراءتها وأجابت بابتسامة حانية وهي تهمس بهدوء:
" لن اتأخر إن شاء الله.....انتظريني وسأكون قبل الموعد بساعات.....لا احتاج كل هذا الغياب....فقط شيعيني بدعواتك "

تبسمت راضية وودعتها هاتفة بطيبة قلب ونقاء:
" مشوار موفق عزيزتي ميار......سننتظرك أنا وزلزالك الصغير إن شاء الله لترافقينا وتهتمي به!!....مع السلامة!!"

×
×
×

قلبها يخفق بجنون!!...لماذا؟!...لماذا يخفق لهذه الدرجة؟!......أهي ساخطة؟!.... أم أن هذا هو الخفقان اللذيذ؟!..... لقد اختلطت الأمور عليها....لم تعد تملك صفاء الذهن لتقيّم نبضاتها.....وقفت أمام المدخل وتفحصت البناية وسط العاصمة من أسفلها حتى اشرأبت بعنقها ناظرة لأعلاها.....أخفضت رأسها وتطلعت للهاتف المأسور بيدها تتأكد من رقم الطابق الذي تريده..!!.....كاذبة! لمَ تتأكد منه وهي التي تحفظ عن ظهر قلب كل ما يوصلها إليه بعد أن بحثت عنه بدقة حين عزمت على تطبيق قرارها؟!.........دلفت الى الطابق الأرضي بثقة....هي لن تخاف ...ممَ ستخاف؟!.....صاحبة حق إذاً لن تهاب أحداً.....تقف ضد الظلم ولن تخشى الظالم مهما كان.....لقد استطاعت أن تعرف خلال أسابيع قليلة أي حياة مقيتة تعيشها صديقة روحها !!.....فقدتها في السابق ولم تشد أزرها ولكم أنّبت نفسها لتقصيرها معها!!.....أما الآن لن تكرر حماقاتها ولن تجلد ذاتها بعد أن وجدتها.....ستواجه..كعادتها..... وستناضل... لأجل صديقتها...وستأخذ لها حقها....لا بل ستنتزعه انتزاعاً إن لزم الأمر !.....مشت على الأرض الرخامية البيضاء اللامعة بسرعة وكأنها لم تلمسها ولم تترك أثرا لوقع أقدامها......وصلت الى المصعد وضغطت للصعود ثم دخلته وبلمسة رقيقة من سبابتها لرقم الطابق الثالث صعد المصعد وكادت تصعد معه من التوتر روحها!.....اشتد وجيب قلبها خلف أضلعها بينما تحفزت سائر اطرافها بانشداد عضلي لا تعلم مصدره......توقف عند مبتغاها وفتح لها أبوابه.....الطابق واسع ...تطلعت يمنة ويسرة بنظرة عابرة لكنها تعرف أن عنوانها لليسار كعنوان الرابض في صدرها......اتجهت نحو الباب الزجاجي الكبير فاستقبلها فاتحاً لها الطريق بشكل آلي لتدلف وتهب روائح عطرة تنعش خلاياها ....تطلعت بانبهار للأركان وأعجبت بالأناقة التي تزيّن هذه الشركة .....كانت تتميز بأثاث هادئ مريح وتصميمات عصرية واضاءات قوية وقد علمت بحذاقتها أن هذه تجديدات وترميمات حديثة لا تقبل الشك فحتى بقايا رائحة الطلاء الأبيض ناعم الملمس ما زالت تختلط مع العطور........سارت وصارت تنظر للجهتين ولتقسيم المكان وتوزيع الموظفين كلٌّ له مكتبه بغرفته الزجاجية المغلقة الملتصقة بالأخرى ....تابعت خطواتها حتى وصلت آخر الطريق داخلة لباب مفتوح له إطار خشبي ثم ردهة مسدسة متوسطة الوسع وعند كل ضلع فيها باب من الخشب داكن اللون....المساحة مخصصة لجلسة تنتصفه لاستراحة المدراء أما الآن المكان بحالة فوضى توحي أنهم ما زالوا في فترة تصليحات وتجديدات وفقط الواجهة هي الجاهزة........أمالت زاوية فمها بابتسامة انتصار حين قرأت على أحد الأبواب اسم ووظيفة من يقبع خلفه ومع إمالة فمها مال بالشوق النابض بسخط داخلها.....وجدت هدفها!......طرقته بنعومة فضحت ضعف قوتها التي ادعتها.....سمعت همساً ناعماً فيه حياء يسمح لها بالدخول فدخلت وبهتت ملامحها فور انجذاب عينيها للمنقبة الجالسة خلف المكتب.....سكرتيرته الخاصة!...وأيضاً آثار فوضى الترميمات ما زال حاضراً...تمتمت في سرها " ها أنت توظف النساء وتضعهن بقربك ...ظننتك لا تتعامل مع هذا الصنف بأريحية يا حضرة ال...."....وبشعور غيرة وليد من حب غير جديد قطعت سوء ظنها عندما لمحت بحدقتيها بنصرها الأيمن المطوق بخاتم خطوبة!....ابتلعت ريقها وارتجت حدقتيها ..." م..من تكون بالنسبة له يا ترى ؟!..".....عند هذا السؤال الذي خاطب ذهنها غلت الدماء بعروقها وسحقت نبضاتها المشتاقة لتبدلها بنبضات أكثر سخطاً عن ذي قبل.....فمنذ شهور أي في عز الحرب وانشغاله معي وهو لم يكن متفرغاً لصفحته وكان فقط ينشر أدعية مكتوبة متنوعة غير أن حياته الخاصة يتخذها سرا ولا يذكر أي شيء عنها...ويبدو الآن أنه فعلها!......فعلها وارتبط بصاحبة الحظ والنصيب دون أن يشهر ذلك !.....بعد تحليلاتها ألقت السلام بصوت ثابت مصطنع وابتسامة صفراء تلوح على محيّاها ثم هتفت جازمة وهي تقترب:
" أريد مقابلة مديرك!!..."

ردت بأدب وهي تتفحصها :
" هل لديك موعد معه يا آنسة؟!."

أجابتها بانفعال دارته وراء كشرتها:
" لا حاجة لموعد....جئت من أجل أمر هام وسريع لا يقبل التأجيل..."

" عفوا يا آنسة.....السيد المدير لا يقبل الفوضى "

قالتها وبسطت يديها تشير لها لحال المكتب والغرفة وهي تكمل:
"وخاصة أنه كما ترين نحن نعاني من حالة فوضى بسبب التجديدات للأثاث وغيره!.....يعني بالكاد يستقبل اللقاءات المهمة أما اللقاءات الأخرى يدحضها وكيف إن كانت فجائية دون اتفاق مسبق؟!...."

عدلت جلستها وجلت صوتها متابعة:
" عذرا منك.....لا أستطيع الموافقة دون إذنه!..."

نظرت بجانب عينيها للباب الثاني الموصد الفاصل بين الغرفتين ثم أعادت إليها النظر سائلة بفضول:
" أين هو الآن؟!..."

" خرج لتناول وجبة الغداء مع صديق في مطعم قريب ..."

تطلعت لساعتها وأردفت:
" سيأتي في ظرف دقائق إن شاء الله......لطفاً يا آنسة خذي موعد وعودي لاحقاً أما الآن لا استطيع مساعدتك ولا يمكنني إغضابه !..."

احنت جذعها قبالتها تكوّر قبضتها وتضرب سطح المكتب بخفة تؤكد قرارها وهي تقول بتصميم:
" عفواً منك أنت يا آنسة ....سأقابله ولا يمكنني العودة لاحقاً...أنا مصرّة."

ثم استقامت بوقفتها أكثر واثقة بما تنوي فعله واستدارت نحو باب الدخول لا الخروج وهي تشير لنفسها هاتفة ببرود لا يشبه النار المشتعلة بأحشائها:
"إن وبخك قولي له تلك الفتاة مجنونة واقتحمت الغرفة ولم استطع ردعها ......تابعي عملك براحة ونهارك سعيد..."

ثم فتحت باب غرفته الخاصة المكيّفة وأغلقته وراءها بهدوء تقمصته وأخذت تجول ببنّ عينيها على أركان المكان والنافذة الكبيرة الزجاجية المتربعة بصدر الغرفة وأمامها مكتبه مصنوع من خشب الجوز المحروق خلفه كرسي وثير من الجلد الفاخر البني وكان سطح المكتب مليء بملفات وجهاز حاسوب نقال ....تقدمت بخطواتها الحذرة حتى وصلت زربيّ بلون البيج يتخللها خطوط بنيّة كانت مبسوطة على الأرض وتوقفت على طرفها دون أن تدوس عليها ثم ألقت نظرة للكرسي الأسود اليتيم باهت اللون الموجود أمام مكتبه فحدثت نفسها وهي تلوي شفتيها بازدراء مصطنع.." ظننته صاحب ذوق رفيع عندما رأيت الشركة والتجديدات ....ما هذا الكرسي الشاذ والغير متناسق مع باقي التصميم وكأنه الغراب وسط عصافير الزينة؟!....حتى أنه واضح للعيان أنه قديم...هل بخل باقتناء غيره؟!".......كتّفت ذراعيها تضرب بقدمها الأرض برتابة تلحن نغمة ترقُّب وجسدها يهتز مع حركتها التي تظهر توترها وقلة صبرها على انتظاره وهي تولّي الباب ظهرها.....مرّت دقائق قليلة وما زالت على نفس الحال وكانت مرةً تتطلع على الجانب الأيمن للنافذة تقرأ عن الأطار المربوع المثبت شهادته الجامعية باختصاصه ثم تنظر على الجهة الأخرى حيث يثبت أطار آخر دائري فيه شهادة تقدير على جهوده في الشركة ...كانت من كلمة هنا أو هناك تشعر بالفخر مرة ثم تعود لتشعر بالحنق بالمرة الثانية!.....ارتجف خافقها حين سماعها قبضة الباب تتحرك قبل فتحه لكنها آثرت الثبات على وضعها ولن تلتفت له كي لا يظن أنها ملهوفة لرؤياه .....انفتح الباب بهدوء وأُغلِقَ بذات الهدوء ليقتحم المكان زلزال عبق عطره الصاخب يسبقه....سار بثبات متباطئاً شامخاً كعادته واثقاً بخطواته بعد أن ألقى نظرة خاطفة لتلك ذات الحجاب البرتقالي بفستانها الأبيض الصيفي الخفيف وعلى خصرها النحيل حزام كالحجاب وحقيبة صغيرة تشبهه أما الحذاء الرياضي أخذ لون الفستان .....!!...اقترب اكثر بحذر وهو يضيق عينيه قاطب حاجبيه يريد أن يستشف أي علامة عن هوية التي كانت تهتز مع ضربها الأرض وقد توقفت لحظة اقترابه بينما اخذت تسبح بعالمها مغمضة العينين من عطره الذي مع دنوه أكثر زلزل كيانها...وكاد يطيح بها....كم اشتاقته وكم اشتاقت لقوته التي تبخرت عن قطعته الرمادية الغالية المحتفظة بها !!....استغفر في سره ثم ثبت في أرضه وتنحنح ليقول بجدية وخشونة:
" هيه أنت يا آنسة....ما الذي تفعلينه هنا ؟؟!.....كيف تقتحمين الغرفة بوقاحة والسكرتيرة لم تأذن لك؟!..."

ها هو كما كان بالسابق....لا يستطيع التعامل برقة مع معشر النساء ....جلف .....وباب ...يجب عليه أخذ دروس بفن التعامل مع الأنثى!! ....استفاقت هاربة من شبه ذوبانها مجفلة وهي تستدير بطلاقة لتواجهه بتقاسيم فيها القوة الزائفة بينما عاصفة الصدمة يصاحبها الشوق هبّت بسائر جسده عند وقوع عينيه الفحميتين على وجهها الخمريّ فهمس من فوره بهدوء مضاد لخشونته التي كان عليها بعدما ابتلع ريقه دون أن يلفت نظرها :
" ميار؟!.."

تباً له وتباً لقلبها الذي اهتز عند سماعها اسمها من بين شفتيه متسللاً بهذه الروعة!....أكان دوما اسمها جميلاً هكذا أم الآن أحبته؟!....ما هذه النغمات التي خرجت من حنجرته الذهبية ؟!.... .تزلزلت في سرها بحديث سريع..." يا إلهي لا أصدق...الزلزال بشحمه ولحمه ...... اثبتي يا غبية ولا تنصهري أمام هذه الرجولة الطاغية في المكان.....اثبتي وكوني قوية وتذكري ما مهمتك هنا؟!....اياك أن تسيحي ...وإن كان هو بهيبته يقف أمامك ...ماذا بهذا ؟!....."

لكن هو سرعان ما عاد لوعيه فجلى صوته ليعيد نبرته الاولى القوية وهو يقول:
" عفوا....أقصد سيدة ميار..."

" آنسة ميار "

كانت ستصححه بهذه ولكنها لا لن تقولها....فليظن ما يريد....لن تبرر ولن توضح وخاصة وهي تذكر نفسها سبب زيارتها السامية فاكتفت ب:
" أجل ميار"

لم يسمع تأكيدها ولم يهتم لإجابتها إنما لأول مرة يشعر بالخوف !....ليس منها إنما خاف من ذاك أن يفضحه أمامها.... ذاك الذي بدأ يضخ هائجاً ليعيد ايقاظ الحب والإعجاب بين النبضة والأخرى واللذين كانا في سبات وهذا بعد أن سبحت عيناه بصورتها الجديدة التي لم يتوقعها بها وبشكل سريع ...يا لها من صدمة!...يا لها من مفاجأة....(ميار) ومحجبة؟!....ضربتين على القلب تصدم ..... الشقية التي أحبها هنا اولاً....ولم تعد متبرجة ثانياً.... كما تمنى وآه كم تمنى !....وبخوضه السريع عنها واستيعابه لما وصل له وخاصة عند نعتها بالتي أحبها في سره!.....خرج من شروده بعقله الواعي الذي دعمه لينهر نفسه لأنها لم تعد من حقه وهو أيضا لم يعد من حقها وعليه الصمود والجمود ورسم الحدود وإن كان قاسيا الطباع وجلمود.....لن يهتم!....فلتذهب دقات قلبه التي ورطته بالحب الى الجحيم!............لذا ارتدى قناعه الذي يحب أن يكون عليه أمام بنات حواء الغريبات عنه وسار بركازة حتى وصل كرسيه وجلس عليه يديره بشكل جانبي مشيحاً عينيه الفحميتين عنها ليظهر لها جانبه الأيمن......!

خير ما فعل!.....هل ظنها ستنزعج من حركته ذاك الباب ؟!.....فلقد أعطى لها بجلسته هذه المجال لتسرح وتمرح بأريحية ..ستتأمل ملامحه التي ظلت ليالي تهفو إليها ..ستجلي عينيها بوسامته المزلزلة لقلبها......هكذا ظنت!!..... لن يكشفها.... ولا تعلم أنه القناص ثاقب النظر بلا أي مجهود..!!..... نسيت سبب حضورها وأخذت تتنقل بين قسمات جانب وجهه الحسن المليح وبجسده العلوي الذي ترسم عضلاته بلوزة نصف كم سوداء لعينة أكلت من جماله ما أكلت وخاصة ببشرة ذراعيه البيضاء الرجولية والتي يكسوها شعيرات خفيفة متفرقة كادت تودي بحياتها أمامه....!....ركّزت حدقتيها على عضلات صدره ....هل يتحرك بضراوة أم يهيأ لها؟!.....لم تستطع غض البصر وهي تشاهد صورة حية مزلزلة.....لشيخها الوسيم ........عيناها ترى( أحمد)....وأنفاسها تختلط بأنفاس (أحمد) وقلبها يطرب على صوت (أحمد)......كم ستتحمل وكم ستصمد ؟......." يا رب ثبتني....يا رب ساعدني قبل أن أنهار ...مزيد من القوة اوهبني يا الله ".....

خرجت من جولتها التي كانت بين أروقة الوسامة على صوته عندما تنحنح ورفع ذراعه الأيمن يحك طرف حاجبه بسبابته ثم سألها بجديته دون أن يكلف نفسه عناء النظر إليها :
" بماذا أخدمك سيدة ميار ؟!.."

رقص قلبها لحظة اكتشافها أن بنصره الأيمن فارغ فاشرقت لها الآمال من جديد وقالت في سرها ...." أيها الأحمق لستُ سيدة...لستُ سيدة.....أنا آنسة ...فقط تجرأ وانظر ليديّ....انظر انظر...".....لما سكن قلبها وارتاح من سوء الأفكار عقلها كوّرت قبضتها أمام فمها لتسعل بتصنع ثم ما لبثت أن تشق ثغرها ابتسامة هادئة وهي تهتف لتصححه أخيراً:
" في الحقيقة أنا لستُ سـ..."

حتى طرقت الباب سكرتيرته المنقبة طرقتان لتقطع جملتها داخلة بكل ثقة وجسارة الى أن وصلته واستدارت جانبه خلف الطاولة تمد يدها ليده هاتفة برقة وصوت أنثوي ناعم وهي تسلط عينيها بعينيه:
" ها هو ........وجدوه ملقى على الأرض تحت مغسلة الحمام......."

لم يعطها جزء من الثانية لتنتظر فبسط يده أمامها لتلمس أطراف أناملها بطن كف يده دون أن يتكهرب بنفور أيّ منهما عندما أسقطت شيء داخلها ولم تلمحه جيدا الواقفة فالدخان الذي تصاعد إلى دماغها وهي تراقبهما وتراقب هذا التقارب بينهما أغشى عيناها وزعزع تفكيرها وجعل خفقاتها تتبعثر بجنون لكنها حمدت ربها أنه لا يستطيع لا سماع الدقات النافرة ولا اشتمام احتراقها فزفرت أنفاسها ببطء كي تعيد اتزانها وعادت لترسم ملامح ذات كبرياء على وجهها وستعلنها حرب لا محالة ....أتت من قبل لهدف يصاحبه شوق خفي أما الآن لن تخشى الخسارة وهي خسرت ربحها الأكبر....شيخها الوسيم......يمكنها الآن اطلاق سراح جرأتها ولو اضطرت لطول لسانها ووقاحتها ولن تظهر أمامه بصورة مثالية فظنونها اتضحت وتأكدت أن علاقة حميمية خاصة تربطه بها عندما تبسّم برقته الرجولية رافعا نظره للواقفة أمامه وهو يهتف بلطافة لم يستعملها معها:
" شكرا دارين ... الحمد لله أننا وجدناه......يمكنك الانصراف الآن الى مشوارك "

أدبرت لتذهب بطريقها فألقى نظرة رضا على ما بيده قبل أن يغلق قبضته عليه ثم رفع رأسه مبتسما يراقبها ويتبع خطواتها براحة ولما وصلت الباب نظرت إليه قبل أن تغلقه فوضع المحبس الذي اخذه منها أمامه على سطح المكتب ورفع كفه يوقفها قائلا مع قذفها بغمزة سريعة:
" اتركيه مفتوح.......لا تغلقيه!..."

اومأت ايجابا وعادت الى مكتبها تأخذ حقيبتها بينما التي تتلظى بالنيران والتي أعلنت حربها كانت تشعر نفسها كشمعة مشتعلة بلهاء دون رائحة تذوب وسط النور لا أحد يحتاج لضوئها وهي تقف تشاهد اللطافة والود بينهما واللذين يظهرا بنبرة صوتيهما ونظراتهما المتبادلة فأخرجها من صمتها الذي أسند ظهره على كرسيه بثقة وصلتها كأنها استعلاء وغرور منه وخاصة عندما هتف بنبرته الأولى الجادة معها:
" أجل سيدة...ميار......بماذا أخدمك.؟!....."

حرّك كرسيه المتحرك يديره يمينا ويسارا برتابة وبرود وهو يكمل وما زال لا ينظر إليها.....إلا بمرتين رغماً عنه كان يهزمه بهما شيطانه:
"رغم أنك أتيتِ بلا موعد ....فأنا لا أستقبل أحدا ولو كان رئيس وزارة ...هذا ضد قوانيني......لكن لنقل من أجل قصيّ شقيقك فقط سأتجاهل الأمر.."

يا له من بارد....بااارد....لا بل وقح...أجل وقح...ومغرور....وقليل ذوق....لم يعتذر عن مقاطعتها لجملتها قبل دخول تلك ولم يشر لها لتجلس على كرسيه الأسود اليتيم وها هو يتبجح بمبادئه ولا يعطيها أي قيمة!....حتى أنه لم يكلّف نفسه بطلب فنجان قهوة لها من خطيبته الطفيلية قبل أن تذهب لمشوارها.....لا بد أنه يدللها ولا يرهقها!....فهي سمعت محاضرته من شهور والتي كان عنوانها ( خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي)....كم نال يومها من تعليقات اعجاب وهو يقدم نصائحه عن التعامل مع الزوجة وأهل بيته وحتى أن غالبية الردود كانت ( محظوظة من ستكون من نصيبك)....مرّت ذكرى المحاضرة من أمامها وعادت لتساؤلاتها الحانقة عن تصرفاته الآن وبالذات طلبه الأخير من الطفيلية ...ما قصده لتترك تلك الباب مفتوح...أيخاف منها أن تفترسه؟!....أم ظن أنها مولعة للبقاء معه في مكان مغلق ؟!......صحيح ودت كثيرا ابتلاعه لكنها الآن وخاصة عندما رأته يداعب المحبس بطرفيّ اصبعيه ليتركه يتراقص فوق المكتب ويصدر رنيناً بغيضاً ...رنينا أحسته سيفجر مخها غيرت رأيها ولن تكون أقل وقاحة منه ....فبالحرب كل شيء مباح وخاصة إن ذهب أمل ارتباط الحب وراح.!!......ولتبدأ باستفزازه ذاك عديم المروءة فكان أول ما خطر على بالها هي استدارتها بهمّة تخطو خطواتها السريعة لتصل الباب ثم تغلقه وتعود وهي تهتف بجسارة :
" أولاً لا أفهم لمَ منعتها من إغلاق الباب؟......هناك شيء يسمى خصوصية وهذا من حقي....لا أريد لأيٍ كان أن يقتحم المكان وأنا أتكلم......أريد أن آخذ راحتي.."

اوه..!!...حسمت الأمر السيدة (ميار) واثقة أنه سيرضخ لطلبها!.....ما إن وصلت الى مكانها السابق على طرف الزربي حتى نهض عن كرسيه رافعاً الهامة يمشي بخطى واسعة واثقة وفتح الباب مجدداً وهو عائدا قائلا ببرود مهلك:
" لا أحب إغلاق الباب عليّ مع غريبة وحقك بالخصوصية غير موجود لأنك أتيتِ دون موعد.....ثم لا غيرك اقتحم المكان.....وأنا راحتي تكون وهو مفتوح....تفضلي اخبريني ماذا تريدين؟!"

أنهى جملته عند وصوله إليها ناثراً شذى عطره لكنها كانت مقاومة لتمنع نفسها الملهوفة من السكران والذوبان والدوران في ملكوته واستدارت لتعود صافعة الباب بقوة جعلته يلتفت قبل اقترابه من مكتبه !!....تنهد بعمق ليجلب لنفسه نفحات من الصبر....يحاول أن يكون صاحب ذوق معها بالحدود التي يرسمها لنفسه... خاصة أنها شقيقة صديقه (قصيّ) ...احتراما له سيحاول أن يتصرف بمرونة لا يعرف إلى متى ؟!!.....لذا فضّل الصمت وعاد ليفتح الباب وهي ما زالت هناك تستند عليه ...وصلها وهمس مدعيا الرقيّ بالتعامل:
" سيدة ميار...ابتعدي لو سمحتِ......"
لن ترفع كتفها وترفض كالأطفال فهي لا تعلم كيف سيسخر منها....ففي السابق فعلها....نعتها بالخرقاء وكأنها طفلة......صحيح أنه أعتذر وصفحت يومها لكن الآن بينهما خيانة لمعاهدة سلام ....هي خانت وارتبطت وهو فعل بالمثل وإن كانت هي البادئة !!.....ولم تنسَ أنهما بحرب إثبات الأكثر وقاحة وإصرار...ابتعدت عن الباب بهدوء ففتحه وقبل أن يستدير أغلقته ....حركات صبيانية هي تعلم وهو يعلم.....حركات لا تليق بهما ولا بسنهما ومكانتهما......لكن ماذا سيفعلان بشعلة الغيرة على بعض والقهر من الفراق والحنق من وضعهما ؟!...ها هما يخرجان كل ذلك بتلك التصرفات التي ستثير سخرية من يراهما!.......لما أغلقته وضع يده على مقبض الباب ليفتحه وهو يصك فكيه بغيظ أخفاه عن وجهه لكنه ظهر بنفور عروق ذراعه وعضله المشدود!! ....قبل أن يحركه حاولت منعه بعفوية مجبولة في شخصيتها فوضعت يدها الصغيرة الناعمة فوق يده محدثة تماس شق قلبه وقلبها ...تماس جعله يخفض رأسه من فوره نحو وجهها الخمريّ البريء الغاضب وجعلها ترفع رأسها نحو وجهه الوسيم القاتل.....تلاقت أعينهما بثبات لأول مرة بهذا اللقاء ...لا اهتزاز لا هروب....فقط ثبات...بريق...عتاب....لهفة.....ي� �أملان بعضهما في صمت....وفؤاد كلّ منهما يصرخ مناشداً للحب من كثرة اللهفة والشوق لبعضهما ...." لماذا فعلتِ بي هذا ؟!...لماذا بعتني؟!..لماذا عدتِ الآن؟!...." عيناه الفحميتين اللتين اتقدتا بالجمر منها ولها وعليها كادتا أن توشيان عن اسئلته بينما عيناها البنيتين ترجوان وتستغيثان وتناديان نداء لن يسمعه ولن يفهمه " اخطأت بحقك أعلم...لكني عدت...عدتُ تائبة ووددت أن يصفح عني قلبك.....وجدتك وفقدتك....ويا للوعتي على من فقدت "........كسر الصمت القاسي رنين هاتفه الخليوي الموجود على مكتبه وكان الإنذار ليعود إلى واقعه وحقيقة وضعه فنفض يدها عنه بجموح شديد وتجافٍ ظاهر لها ..كان باطنه عذاب الحب ووحده يعلمه ......ثم ولاها ظهره تاركا الباب مغلقا وهو متجهاً الى غايته بينما هي ظلت صامتة وصامدة وحرقة في قلبها من حركته النافرة منها !!.....جلس على كرسيه براحة واستل الهاتف الذي انتهى رنينه بخفة ليعيد الإتصال ولكن للأسف أنتهت صلاحية شحنه !!...تأفف ضجراً باحثاً عن الشاحن بلا مبالاة بدرج مكتبه....اوصله بالمقبس عند حصوله عليه غير مبالياً للواقفة هناك....استجمعت قواها لما رأت تجاهله لها وانشغاله بهاتفه ثم أقبلت نحوه وما إن وصلته تنتصف الزربيّ قرب الكرسي الأسود القديم حتى هتف ببرود يستصغر خاصتها وهو يحدق بهاتفه يعيد تشغيله:
" هل زوجك ذاك....يعني ابن عمك ....يعلم أنك أتيتِ لمقابلة رجل طلب يدك سابقاً؟!......في الحقيقة لو فعلتها زوجتي لكسرت لها قدميها ثم علّقت لها مشنقتها....لا أعلم الوضع بالنسبة له!..."

اشتعل داخله وهو يذكر خصمه واشتعلت داخلها من عنجهيته ذاك الباب المغرور وما زاد اشتعالها رؤية المحبس متربع على مكتبه ...ازدردت ريقها دون أن تلفت انتباهه وأطلقت ضحكة ساخرة تغذت على الحسرة من حالها وهي تشير بعينيها وحاجبيها للمستفز المعدني القابع على طاولته:
" هل خطيبتك المسكينة تعلم أنك ما زلت لم ترتدِ محبس خطوبتكما بعد؟!.........فأنا لو زوجي فعلها وخاصة إن علمت أنه لم يهتم لارتدائه وهو يقابل امرأة قد طلب يدها سابقا لأقمت له الدنيا وأقعدتها وسودت له عيشته بنكدي.....لا أعلم كيف ستتصرف هي!؟..."

يا لها من وقحة ....هل تتباهى بغيرتها على ذاك الأهبل أمامه هو؟!.....ألقى نظرة عابرة للمحبس ولاذ بالصمت مفكراً لبرهة.!..... علا رنين الهاتف الأرضي بعد انشغاله بحوارهما التافه فسحبه مجيبا بصوت ضاحك لا يستخدمه معها بعد معرفته يقينا من المتصل :
" أهلا بلال...."

"..."

" أجل أجل رأيت...لكن انتهى شحنه ولم أفلح بالعودة لك!...."

"..."

" اطمئن يا صديقي....عثرنا على محبسك ....لن تبيت الليلة في الخارج...."

"..."

ضحك وقال:
" قلت اطمئن ها هو معي ..لقد وجده عامل التنظيف تحت مغسلة الحمام ......يبدو أنك نسيته وأنت تنظف يديك من آثار الوقود..."

هل شعرت براحة وسكينة يوماً مثلما شعرت الآن؟!....أبداً.....المحبس ليس له؟!....يا لسعادتها...يا لهنائها...يا لفرحتها!.....تبسّمت برضا وتنهدت بسلام.....ولم تلبث أن تعوم أكثر بسعادتها حتى تذكرت تلك المنقبة وقربها منه !....عادت لصوابها ولن تذوب وتستسلم في الحال!......عليها معرفة صلته بها....ربما لا يحب ارتداء الخواتم لكنه خاطب!...حسناً بعد انتهائه من مكالمته ستستفسر أكثر بطريقتها وهي تراوغه إن أفلحت لأنه ذكي ونبيه ...مدير علاقات عامة محنك !.....ألقت بنّ عينيها للكرسي الأسود بجانبها ورغبت بالجلوس.!....أكثر من نصف ساعة وهي واقفة على قدميها وقليل الذوق لم يدعها لتجلس....إن كان وقحاً لا يعلم آداب وكيفية احترام الضيف فستفوقه وقاحة وتريه الضيف الوقح على أصوله الذي يأخذ حقه بالغصب!....حرّكت نفسها لتجلس فنهرها هاتفاً بحزم في الحال بينما وضع يده على سماعة الهاتف مانعاً وصول الأصوات ل(بلال):
" لا تجلسي.."

عبست ملامحها وهتفت بتحدي:
" لقد تعبت قدماي.....سأجلس"

هبّ من مكانه باستياء محرراً يده عن السماعة وهو يهتف مصراً:
" كلا ...قلت لا تجلسي...انتظري الك..."

" سأجلس...لم أر قلة ذوق لهذه الدرجة!.."

قالتها بحده وجرأة تقاطعه متخذة وضعية الجلوس تنفذ قرارها بذات الوقت فتمتم شاتماً دون أن تسمعه وهو يغمض عينيه:
" حمقاء....لقد وقع الذنب عني!.....تحملي نتيجة عنادك الغبي"

لم يكد ينهي جملته حتى وصل صوت إنهيار للموجود على الطرف الآخر من هاتفه ليستفسر في الحال عن مصدر ما سمع !... أما هو مد جذعه ليرى الواقعة على الأرض بعد انكسار الكرسي البالي بها وكان فقط يظهر له بالبداية الحقيبة البرتقالية التي بقيت صامدة على طرف المكتب بينما حزامها يتدلى نحو التي كانت متشبثة بها ثم أفلتتها وهي تتأوه وبيدها تحاول أن تمسد أسفل ظهرها من الألم!!...اهتز قلبه وعاد للجلوس في الحال يبعد عينيه عنها مستغفرا بداخله بعدما رأى ساقيها المغطيان ببنطال أبيض من القماش الضيق مرسومان بأنوثة رقيقة ومغرية حتى أعلى فخذيها بينما جزءاً يسيرا مكشوفاً منها يظهر نعومة بشرتها الخمرية ..نعومة كادت تسحقه ثم لبس قناع القوة ليصمد أمام الإعصار الذي باغته فهو شيخ غير معتاد على هذه المناظر الجلية والأدهى أنه رجل شاب ثائر حامي الدماء والأصعب أنها هي فقط التي عبثت باعدادته وبكل ذرة تملكه وابتلع ريقه ليهتف للآخر ببرود متقن هارباً من جريمتها:
" لا تهتم.......ربما أحد العمال الأغبياء ذوي الرأس اليابس لم يسمع الكلام ونحن نحذره للانتباه فأوقع دولاباً بوزنٍ ثقيل وكسره"

ماذا يقصد؟!...هل يقصد أنها غبية؟!... بل هل شبهها بالدولاب الثقيل ؟!....أيعقل أنه لاحظ ازدياد وزنها لاثنين كيلو او ثلاثة بعد عودتها لحياتها المريحة المرحة منذ انفصالها عن (تامر) لذا يسخر منها بكل صفاقة؟!.....تناست الوجع الذي ينخر قعر ظهرها فاقدة الثقة بنفسها وبجسدها النحيل وراحت تجول بعينيها على حالها وهي جالسة على مؤخرتها ارضا ...تتفحص إن كان يبرز له سمنة بمكان ما لم تلحظها ثم بخفة شدت للأسفل الفستان الذي ارتفع لفخذيها لحظة وقوعها لتستر نفسها وحمدت الله أنها ارتدت تحته هذا البنطال في اللحظة الأخيرة حتى لو كان قصيرا وإلا لانكشف لحمها بشكل كامل محرج اكثر أمام الجلف البارد ولن تخلص من لسانه ولا محاضراته حتى قيام الساعة..!!.....أكمل مع صديقه قاصدا اعطائها المساحة لتلملم الفوضى التي لحقت بها دون حرج لكنها حسبت تجاهله لها قلة ذوق فتمتمت وهي تلوك كلامها دون وضوح له بينما كانت تحاول النهوض بصعوبة مثقلة من وقعتها ومن شدة احراجها:
" قسماً إنك باب صدئ ....خسارة بك وسامتك يا مغرور......لم تتنازل وتساعدني !.....فقط لو يدرون متابعيك أنك قادم من العصر الحجري وبقلب حجر وعقل حجر....."

أنهى محادثته تزامناً مع نهوضها متأوهة من مكانها ويدها ما زالت على أسفل ظهرها لتقول بحنق ونبرة مرتفعة تتهمه والشرر يتطاير من عينيها تحاول مداراة موقفها المخزي:
" ماذا يفعل كرسي غير صالح للاستعمال في مكتبك ؟!.....ماذا لو أصبت بالشلل؟!....أيرضيك هذا؟!...لمَ لم تمنعني أم تعمّدت ذلك؟!.."

انزعج من نبرتها واتهامها له فرمقها بنظرة مستعلية ثم أشاح عينيه نحو الباب قبل أن يعيد النظر إليها مجددا وهو يجيب بجدية:
" اخفضي صوتك لو سمحتِ.......ثم ما هذا الاتهام؟!...أنت من لم تعطني المجال لأحذرك!......"

وبسط ذراعيه محركا رأسه ومستأنفاً بنكهة ساخرة:
"أظن من الواضح أننا في وضع ترميمات سيدة ميار .....العمال ما زالوا يفرغون الغرفة من الاثاث القديم وبقي هذا الكرسي وبعض الأشياء ... "

لم تهتم لجوابه وانحنت تأخذ حقيبتها الصغيرة عن الأرض فأنّت متألمة مجددا وبدا الوجع جلياً على وجهها وهي تنتصب ثانية وقد اغرورقت عينيها بالدموع فوقف قلقاً في الحال يسألها :
" سيدة ميار...هل...هل أنتِ بخير؟!..."

قالها وهو يهم ليستدير بينما نبرته الحنونة المهتمة خرجت منه بتلقائية وربّتت قليلاً على قلبها وقبل أن يخرج من خلف مكتبه رنّ هاتفه الخليوي فحمله مجيباً :
" خير دارين؟!....أهنالك شيء؟!.."

"..."

تبسّم ابتسامة شلّت أطرافها قبل أن يجيب بهدوء:
" أنت تعلمين أنني تناولت غدائي قبل قليل....سلمتِ دارين أنتِ وأمك"

صمت برهة وأضاف متحمساً يرسم ابتسامة أجمل من التي قبلها:
" ربما آتي للعشاء إن كان معي متسعاً من الوقت قبل العودة لمدينتي الجبلية ....فهذه أكلة لا تعوض بالتأكيد ...اخبريها بذلك....الى اللقاء"

أعاد الهاتف مكانه ثم طاف بعينيه بنظرة خاطفة على أركان الغرفة معيداً ملامحه الجادة وقام بسحب كرسيه الضخم الوثير من خلف مكتبه بعدما لم يجد أي كرسي آخر وقربه من الواقفة مشيراً إليه وآمراً بجدية لطيفة:
" تفضلي سيدة ميار....ارتاحي "

أنهى كلماته مقترباً من مكتبه يستند عليه بظهره شبه جالساً وهو يكتّف ذراعيه مضيفاً بذات النبرة :
" لم تقولي سبب قدومك!....بماذا يمكنني أن أخدمك ؟!....."

نظر لساعة يده وأكمل:
" لا يوجد معي الكثير من الوقت!...لطفاً اخبريني لأخرج...."

كانت نار تضرم داخلها تحرقها وحدها ...تعرضت لموقف محرج أمامه....وسبب قدومها هو الشرارة الأساسية أساساً وليزيد على الطين بلة رؤيتها معاملته الظريفة مع المنقبة (دارين) التي لم يرسم لها عقلها سوى أنه يربطه علاقة بها وخاصة شعورها بالتفرقة بين اثنتيهما بالمعاملة !!.......كانت لا تدري أي نار تطفئ !..كأن كل شيء تكالب عليها !!.....ما هذا اليوم الشنيع وما هذا الحظ العاثر؟!......مشاعرها المحترقة وظنونها جعلتها تجيب بفظاظة:
" شكرا سيد أحمد لن أجلس....أتعبت نفسك عبثاً......."

وبحركة تهديدية رفعت سبابتها تحركها وهي تردف هامسة من بين أسنانها:
" لكنك ستسمعني مجبراً ...قلت نعم أو لا.....لم آتي الى هنا لأتسلى معك أو أضيع وقتي ووقتـ..."

أسلوبها الآمر والفظ أستفز كبريائه الرجولي فاستقام يخطو نحوها يرميها بنظرات حادة قاطعاً جملتها وهو يقول:
" ألا تلاحظين أنك اجتزتِ حدودك معي؟!...من أكون ومن تكونين لتحدثيني بهذا الأسلوب؟!......"

وبأنفة وشموخ رفع سبابته أمامها ليكمل:
" أنا لا أجبر على شيء لا أريده ولأني أريد الآن....فقط.... سأسمعك..."

استجمعت شجاعتها وقابلته متأهبة بوقفتها تحاول السيطرة على دقات قلبها الوجلة والمقهورة منه بينما احتقان مقلتيها فضحها وهي ترد بصوت مهتز:
" لا حاجة لأكون أو تكون كي ..."

تركت جملتها مبتورة بمنتصفها وسحبت أنفاسها بهدوء لتهدئ من انفعالها وقالت وهي ترفع كفيها :
" حسناً حسناً .....أنا أتفهم أن لطافتك تلك من حق خطيبتك لكن هذا لا يعني أنه يحق لك أن تعاملني ببرود أو غرور وخاصة أني ضيفتك .."

وأسدلت عينيها مطأطئة رأسها وهي تهمس :
" الغير مرحب بها.."

لما كان قد رأى تلألؤ بنّ عينيها من الدموع دق قلبه رحمة وضعفاً ولكن كلمتها استوقفته من الضياع بضعفه أمامها وخاصة أنها أعادتها الآن بصورة جادة للغاية فرد في الحال متعجباً وهو يرفع حاجبه:
" خطيبتي ؟! هذه المرة الثانية التي تقولينها...."

رفعت رأسها تسلط حدقتيها بخاصته وهزته ايجابا متمتمة:
"أجل...خطيبتك تلك....دا...دارين"

توهّج الحب في نابضها وأزيلت غمامة الخذلان من أمامها عندما اخترقت ضحكته العفوية الرجولية مسامعها وهو يقول:
" لا حول ولا قوة الا بالله......دارين هي ابنة شقيقتي الكبيرة المتزوجة هنا في العاصمة....."

ابتسامتها الواسعة الصادقة أسرته فنسي نفسه لثواني معدودات سارحا بها ولم يلحظ دنوها منه حتى مدت يدها الناعمة تضعها على ذراعه بحركة دافئة حميمية وببراءة سائلة مع التماع الحب في عينيها والذي استشعره بحدسه الثاقب ، متناسية كل المشاعر المعقدة التي عاشتها :
" حقا؟!....أنت خال دارين وليس خطيبها؟!"

أيجب أن يطير فرحا من لمستها وقربها ونظرتها ...لأنه المحب الذي لم يحب سواها؟!....أم يزلزل المكان بغضبه وهو الشيخ الحريص الذي يحاول الالتزام بتعاليم الدين يجاهد هوى النفس وفتنة الحياة بمشقة وعناء بتكبدهما وبكل ما أوتي من صبر وخاصة بسبب ارتباطها ؟؟!....اختلطت عليه الأمور في البداية ...ثم ثارت دمائه لما حسم أمره يعيد لذهنه....إنها متزوجة....متزوجة!!.....شدّ على أسنانه غيظا...يا ليته يستطيع خنقها الآن بيديه ..حتى يكفيها يد واحدة فتلك العابثة ...صغيرة ونحيلة!!...كيف تفعل هذا به؟!...لماذا هذا التحرش الغير مقصود؟!...لماذا هذا التلاعب معه؟!....ما نيتها باستفزاز مشاعرها نحوه وهي ليست له .؟!....بل هي تعلم حدوده التي يرسمها لنفسه مع بنات حواء!....إذاً ماذا دهاها؟!......هي مرغمة أن تتحمل هيجانه وانفجار بركانه..وأن تتحمل قوة زلزاله ....سكبت الوقود على قلبه وعلى كل خلية عنده تاقت لها سابقاً وألقت عود الكبريت...لتشعله بكل ما فيه...لتشعل حبه الكبير داخله مع غضبه....لتشعل رضاه بنصيبه ونقمته....بصبره وانعدام سيطرته ....فجعلته بهذه الشعلة أن يهدر بها يقطع كل حبال تحكماته بلسانٍ منفلتٍ لا يخشى لا لومة لائم ولا أن يفقه أي القلوب سيكسر إن كان متعمداً أو لا وهو يبعد يدها بعدوانية :
" كيف تسمحين لنفسك بلمسي وللمرة الثانية وأنت على ذمة رجل آخر؟!..!....."

ليرجع خطوة للوراء ناظراً نظرات فيها الاستصغار تصلها كلهيب النار وهو يتابع بنفس الغضب :
" أنتِ تعلمين حدودي...."

وعادت تعلو نبرته الهادرة المزلزلة وهو يكمل:
" كيف تجتازين الحدود بهذه الجرأة...كيف؟!..."

واستطرد دون أن يصله أي ردة فعل من التي كانت تتجمد مع كل نفس يخرج منه وحرف حتى أضحت كعامود من الجليد لا مشاعر فيه من هول ما ألقى عليها وخاصة عندما نفث آخر نيران هياجه :
" الزمي حدودك معي وصوني زوجك ....لا أستسغ هذه الجرأة.!!..."

لمَ تعيش هذه التقلبات في وقتٍ واحد...ومعه خاصة؟....منذ بداية لقائهما وهي تشعر نفسها تسير راكبة خردة يقال لها دراجة ...عجلاتها من حديد ... تتسلق الجبال فتتخلخل عظامها ويهتز قلبها من شدة المطبات ثم تصل لقمته متابعة بخط مستقيم على رمال ناعمة سكبت أعلاه فتدغدغ روحها وكأنها تلمسها بقدميها وما إن تستلذ بهذا الإحساس حتى يأتيها زلزال يرجف الأرض من تحتها فتسقط من منحدره متدحرجة تملؤها الكدمات ليحتضنها البحر يموج بها بحنية ثم يأتي إعصار يلفظها إلى البعيد......كان هذا ملخص إحساسها بمشاعرها معه وكان كلامه الأخير هو الإعصار الذي لفظها لترتطم بعيداً حيث تكون....!!.....أتبكي؟!....لا والله....أتريه ضعفها كالسابق ؟!....مستحيل.......لن تعطيه المجال أن يعبث معها فيخرج أسوأ ما فيها ....لن ترجوه...لن تبرر له.....تحبه.؟....أجل بجنون!....فهي التي كانت تتغذى على صوته وكلماته ودروسه يوما بعد يوم ليتضخم هذا الحب في قلبها ويرضا عنه عقلها....أحبته بكامل ما فيها ....لكن......تباً لحب سيذلها!......تباً له هو نفسه هذا الأحمق الماثل أمامها لأنه لم يدرك أنها غير مرتبطة!! .....كيف يفكر بها؟!.....فلو عرفها حقاً وآمن بتربية عائلتها لها لعلم أنها مستحيل أن تكون بهذه الأخلاق......زوجة تقابل غريب أو تخون!!.....استعادت رباطة جأشها بنفاذ صبر....أغمضت عينيها والدمعات العصية التي تدفن بنّ عينيها تحاول التمرد لتفضح سر ضعفها وتفصح مدى جرحها....تنفّست دون أن تشعره بأنها تعيد ضبط أنفاسها ...وقاومت القهر بقلبها بجسارة اختلقتها.....ثم حاولت رسم ابتسامة متصنعة والرجفة التي تصاحبها على زاوية شفتيها لم تستطع السيطرة عليها وهتفت بصوت لم يكن هادئا ولم يكن صاخباً....وازنته تخفي به ثورة مشاعرها :
" كان بإمكاني الرد عليك سيد أحمد.....لكني تأكدتُ الآن أن كل الرجال متشابهين ..عديمي إحساس ....وكيف إن كانوا أصدقاء؟!..."

رفع حاجبه كردة فعل أولى يبحث عما وراء حروفها منتظراً استئنافها فاستأنفت:
" لن أضيع وقتي ولا وقتك......والأهم أنا جئتك لغاية ليست لنفسي ورسالتي ليست لك.....أراها مسألة موت أو حياة لشخص ما !!..ولم يكن حلا أمامي غيرك...."

" ماذا تقصدين؟!....عمن تتحدثين؟!"

سؤالين متتاليين نطقهما من فوره يغضن جبينه متلهفاً ليسمع القصة بعدما شعر بخطب ما سيفض مضجعه فأجابت بنفس نبرتها:
" أقصد رسالتي أوصلها لصديقك ذاك عديم الإحساس والمروءة..."

زفر أنفاسه بغضب واحتدت نظرته ليهتف بنباهة بعد أن لاح بباله الوحيد الذي ممكن يربطهما :
" ما به هادي؟!....ماذا تريدين منه؟!..."

ارتفعت زاوية فمها ببسمة مائلة ساخرة تحمل خلفها القهر وأجابت باستهزاء:
" أراك توقعت حالاً.....أم أن هذه الصفات تنطبق عليه فعلا؟!"

باستعلاء ونبرة باردة متهكمة قال:
" التوقع لا يحتاج لذكاء سيدة ميار بما أنه هو الوحيد همزة الوصل التي جعلتنا نقف أمام بعض هذه اللحظة !....أم لك رأي آخر؟!..."

ردت بنفس أسلوبها:
" إذاً توافقني في الشطر الآخر أيضاً.......سيد أحمد."

"الإجابة على قسم من السؤال لا تعطي المعنى كاملا ......سيدة ميار"

قالها وتحرّك بخطواته الواثقة ليصل مكتبه مجدداً يتكئ عليه يسند جسده من الخلف بإمالة صغيرة وكتّف ذراعيه بهدوء وتنهد ثم بابتسامة خطيرة رجولية وصوت ثابت تابع:
" ما به عديم الاحساس والمروءة؟!..."

وقبل أن تفرح بزلة لسانه واعترافه الصريح بما قالت أردف وهو يرفع كف يده المختبئة بسبب تكتف ذراعيه مع التواءة صغيرة ساخرة بفمه ورفع حاجبيه الأسودين:
" بالطبع كما ادّعيتِ أنتِ ....سيدة ميار....لستُ من أقول."

قال كلمتيه الاخيرتين ببطء مقصود ثم عاد يحرر ذراعيه ليتكئ بهمها على سطح المكتب من خلفه شبه مرتكز ويشبك ساقيه خلف بعضمها بشكل مزلزل من فرط الثقة وكأنها أصبحت أمام لوحة رجولية بحتة وهي ترى جسده المتناسق بلباسه الأسود الفاحم وطوله الفارع وعضلاته الساحقة كل هذا يظهر أمامها للعلن ولكنها لن تسمح أن تؤثر بها هذه اللوحة وإن كانت تستحق أن تضع بأفخم المعارض وأولاهما معرض قلبها ...لكنها تبقى مجرد صورة ..خلفها باب.....ويا ليت أنه باب بألوان زاهية إنما باب صدئ تدرك نوعيته منذ أول يوم اصطدمت به!! ....لكن ذاك الغبي الذي يهدر داخلها هو من استلذ بهذه الصدمة بل راقت له كثيراً وأصبح لا ينبض إلا بها ....تباً له من جديد!!....أما الآن ودّت لو تشكره لأنه انتشلها من أفكارها التي انحرفت بها عن الطريق بعد هذه الوقفة المهلكة عندما قال :
" أجل ....أسمعك.....ما به صديقي؟!..."

اقتربت منه بخطى انثوية ناعمة حتى وصلت مكتبه حيث يقف فتحفّزت عضلاته وسخنت دمائه خوفاً من أن تلمسه مجدداً لأنها لو فعلتها سيحطمها فعلاً ويحطم معها قلبه ولن يهتم بذلك ولا بشقيقها الذي يكنّ له المودة.....فبدأ يستغفر بصمت داعياً ألا تفعلها ليتنهد بارتياح تحكّم بألا تشعر به عندما سحبت من جانبه حقيبتها البرتقالية وتخرج منه هاتفها ثم تعبث به قليلاً داخلة معرض الصور وبسبابتها وابهامها تكبرها ودون سابق إنذار تديره وتقربه لوجهه ليمعن النظر فنظر نظرة عابرة دون اهتمام ولم يفهم مقصدها فسأل:
" من هذا ؟!.."

قربته أكثر وأكثر وكم رغبت بأن تصفعه به وتكسر له أنفه الجميل المنمق ليقطر دماً ويلطخ ذقنه المنمنم بإتقان والذي أشعرها بتنمّل أصابعها رغبةً بلمسه ثم ينزل ليشوه طابعه الحسن وينتهي به المطاف يغرق عضلات صدره عسى أن تفوح رائحة الدماء منه بدلاً من عطره الصاخب الذي يتخذه كرمحٍ يخترق به قلبها الغبي !!....تنهّدت تنهيدة بدت له أنها كأنها سئمت منه بينما هي زفرت بها أمنياتها التي خاضتها بقربه وأجابت على سؤاله بسؤال استنكاري قائلة بتشديد:
" برأيك من هذا؟!...ركّز بالصورة جيداً واجبني..."

سحب منها هاتفها بخفة ووضعه بكف يسراه ثم كّبر الصورة أكثر بطرفي أنامله ألطويلة وضيّق عينيه الفحميتين يستجيب لطلبها ...يمعن النظر جيداً بينما هي استغلت الوضع تتأمله من هذا القرب وحرقة بقلبها لسعتها أخرجتها بكلمات أسرتها بنفسها ..." سامحك الله ...لقد ظلمتني بظنك..."...وأبعدت نظراتها عنه بسرعة عندما رمقها بنظرة خاطفة ثاقبة اخترقت قلبها وأحرجتها كأنه أمسك بها بالجرم المشهود ولم تكن تعلم عن انتفاضة السجين المحبوس في زنزانة قفصه الصدري محكوم عليه بالمؤبد مع الأشغال الشاقة ...كانت انتفاضة سببها ....قربها......والتهمة.....حبها!!. ...


" لا تقولي ....هذا .....ابن هادي؟!.."

بجملة مستنكرة متعجبة كلماتها متفرقة كانت ردة فعله بعدما دقق بملامحه وربطها بيني وزوجتي لتسحب الهاتف من بين يديه بعدها وتدسه في حقيبتها مدبرة عنه تبتعد مترين ثم تلتفت بكامل جسدها النحيل وأناقتها لتجيب بكلمات فيها رائحة اللوم:
" أجل....هذا محيي الدين المسكين من لا يعلم والده عنه شيئاً......"

وبضحكة متهكمة تخفي المرار أضافت:
" أرايت لمَ اسمه عديم الاحساس والمروءة..؟!.."

لتلتمع عيناها قهرا وهي تكمل صارخة:
" صديقك.....هجر زوجته ورماها عند الغرباء...."

بدا شريد العقل وهي تلقي قذائفها لكنه لم يحيد عينيه عنها واستمر بالتحديق ليعود لوعيه عندما أكملت صرخاتها التي حاربت بها بكائها:
" لم يسأل عنها أبدا.....عاش حياته لشهور بالطول والعرض والله أعلم إذا ارتبط بغيرها أم لا...."

لتنطق جملتها الأخيرة باحتقار وازدراء تكرر كلماتها :
" صديقك ليس رجلاً.....ليس رجلاً....."

فهّب بعد تصلب عضلاته وانفلات أعصابه مدافعا يدنو منها:
" لا تقولي ليس رجلاَ.......كيف حكمتِ أنه يعيش حياته بالطول والعرض....ماذا تعرفين لتلقي تهمك الدنيئة عليه؟!...."

دنت منه مثلما دنا متحدية ومطت جذعها متحفزة تسلط عيناها بعينيه صارخة:
" يكفيني أنه حيّ ولم يسأل عنها ولم يعرف أن له ابن منها كي أحكم وأقرر أنه ليس رجلاً......لا تدافع بعاطفة كونه صديقك..."

" الذنب ذنبها.....كيف تخفي عنه أمرا مهما وخطيرا كهذا؟.......اذهبي وحاسبي صديقتك ولا تضعي اللوم عليه.."

" هو من هجرها ....لن تذل نفسها وتلحقه..."

" هي من تخلت عنه.....تحمد ربها أنه لم يقتل لها والدها المجرم الحقير "

وأردف بنبرة أقل ارتفاعا بعدما تذكر سبب الهجران الذي أخبره عنه (سامي) سابقاً:
" ثم هو هجرها لسبب تستحقه.......لم يجرم بحقها.....لم يجبرها على نفسه ولم يطلقها لتنهشها كلاب الشوارع......وكان سيعيدها..."

أجابت على آخر كلمتين بسخرية:
" كان سيعيدها!! .....فعل ماضي.....مرت شهور ولم يعدها....إذاً هو المذنب!..."

وأردفت تعلق على ما قبلها:
" صديقك تركها لوقت...لا هي متزوجة ولا هي مطلقة....تركها معلقة ليس لها به شيء غير اسمه فقط.....واسمه لن ينفعها......لن يحميها....لن يطعمها ولن يسقيها......على ماذا تتبجح أنت وهو؟!...."

" سيدة ميار....انتبهي لكلامك!.."

زجرها بحدة فتابعت بحسرة ولوعة:
" أجل على ماذا تتفاخرون والحقيقة أنها معلقة......تعيش في فقر يكاد يكون مدقع....لا مصدر رزق لها ولابنها.....لا بيت خاص يأويها......تعيش على أفضال الغرباء.....تخيّل أن لا مربية لها تحبها وتحتويها......ماذا كان سيكون مصيرها وابنها..؟!!......أهذه البطولات خاصتكم..؟!.....أهذا انجازكم؟!!.........لا تدافع عن الباطل رجاءً.....أنا أحملها قسم من الذنب أجل!.....لكن الذنب الأكبر ذنب صديقك.....هو المسؤول عنها....هو صاحب النفوذ ....صاحب الكلمة.....تقول لم يجبرها عليه ولم يطلقها....ليته فعل إحداهما.......ليته حملها وحبسها في غرفة في بيته ولا الحياة التي تعيشها الآن.....ليته طلقها وجعلها تشق حياتها مع إنسان يفهمها ويحتويها......!!"

لم يعد يستطيع أن ينكر أي شيء....ألجمته كلماتها...كل الأفكار وكل الحوارات التي كانت بيننا حضرت بذاكرته بقوة...نصحه لي...طلبه مني ....كلامها يشبه كلامه....يراها محقة...أجل محقة...لو فكر عقليا ومنطقيا هي محقة... لكن قلبه يعلم وأكثر من يعلم عن المعاناة التي خُضتها كل هذه الشهور وبأي ظروف مررت.ُ.....يعلم عن الحرب والعجز ثم النهوض بالدولة ...وكلها لا ذنب لي بها.....!!.....سحب أنفاسه بعمق وزفرها بتروّي بعد أن فرك زاويتا عينيه بإبهامه وسبابته ثم حاول الحفاظ على هدوئه قدر الإمكان كأنه يريد هدنة بينهما ليكون التعقل والحكمة هما الحاضران دون العاطفة والانفعال وهو يطلب منها برزانة ووقار دون أن يلمّح عن أي شيء يخصني أو يبرر:
" أجل سيدة ميار!!...ربما أوافقك على بعض الأمور...لكن رجاءً اخبريني الآن وبهدوء القصة كاملة من البداية!!. تفضلي اجلسي.."

اشار لها لكرسيه الوثير ففعلت وهو عاد ليجلس نصف جلسة على سطح المكتب فشرعت تقص له الحكاية من البداية حتى النهاية ...كان مصغياً بكل جوارحه إلا من مرات قليلة يقاطعها مستفسرا أو معترضا بحكمة وعقلانية وبعد مرور دقائق كثيرة أنهت كلماتها تنهض من مكانها تشعر بالإرهاق بعد كل هذه المشادات لتقول بتشديد وهدوء :
" يعني أخبر صديقك.....من تجرأ وطرق الباب ليرتبط بفتاة على سنة الله ورسوله عليه أن يكون على قدر هذه المسؤولية.....عليه أن يكون سندا لها....أن يحافظ على بيته معها....وأن يصونها كما واجب عليها هي صون زوجها ...هما الاثنان مخطئان لا أنكر.....وكل واحد منهما سينال حسابه ...هي نالت حسابها...."

وأضافت بنبرة غاضبة هازئة:
" أما بالنسبة لصديقك لا أعلم .....ولكني أتمنى حقاً أن يلقى عقابه الذي يستحقه إن ظلمها......."

لم يعلق على آخر كلماتها ...انتهى الكلام بينهما وإنتهى دورها....وقالت سلامها ....فهي شعرت أنها أدّت رسالتها وقامت بمهمتها والآن حان دوره....رأت غضبه وحنقه وقلة رضاه على ما سمع لكنه حاول المحافظة على تماسكه دون أن يبدي لها ردود فعل أو رأيه ولا تعلم ماذا ينوي؟!... ....تنهّدت تعيد اتزانها تنهيدة أخرجت معها لوعة قلبها من نار الحسرة التي تتلظى بها من لحظة الفراق هذه .....لقد جاءته تحمل رسالة وشوق...طموحها كان عالٍ وأمانيها كثيرة.......رسمت الكثير بحبر الحب الذي يملأ قلبها ....لم تتوقع أن يكون لقاءها به بهذا الانشداد... تحيطه هالة من التوتر بين الصد والرد....تملأه مشاعر متضاربة تنتهي بها مهانة أو متهمة.....تعلم أن لسوء الفهم النصيب الأكبر ليصلا لهذا الحال.....لكنها توجعت ...تألمت...احترقت من أسلوبه الفظ معها.....شيخها الوسيم يهينها بطريقة بشعة لم يستوعبها عقلها......تدرك بل تدرك جيداً أنه لا يجيد التعامل مع النساء ولا التغزل ولا اللطافة.!!....وكم تحب هذا به!!...إنه رجل طبيعي واقعي صريح لا لف ولا دوران عنده!!.....ومع هذا واثقة أنه يخبئ بشخصيته الغامضة لها الكثير من الأشياء الجميلة التي لم تصلها بعد.....ولن تصلها ...لأنه لن يكشف عن كامل شخصيته وحياته إلا لزوجته وامرأته الوحيدة......عند هذا الخاطر خفق قلبها غيرة عليه رغماً عنها....لن تتخيل واحدة أخرى تتنعم بهذا الغموض الرجولي الذي اشتهت اكتشافه....ولكنها هي (ميار كمال زيدان ) ابنة العز والنسب ستقبل بكل شيء منه إلا هذا الاتهام القبيح.....وإن كان ذنبها..!!..عليه أن يتحكم بما يخرج من فمه لأي امرأة كانت......أم هذا يفعله معها فقط؟...تساءلت بنفسها " هل لي تأثير عليه وأنا لا اشعر؟!...أتكون ردوده عنيفة بسبب صراعه بين الحب والحرام؟!....." ...هي تعلم أنه كان يحمل لها بعض المشاعر وإلا لم يكن ليطلب يدها....!!.....زفرت أنفاس أسية وفكرت...بوالدها وبشقيقها.. صديقه...ربما لن تجد فرصة أخرى للقاء......لذا لأنها (ميار كمال زيدان) وشقيقة (قصيّ كمال زيدان) لن تعطه الفرصة للابحار بظنونه وعلى هواه فيتضرر أهلها....هي خلوقة ذات تربية حسنة وستُعلمه ليس لغاية في نفسها بل....ليبقى شأنهم مرفوعا ولا يتسلل أي خيط من الشك يخدش سمعتها....ولته ظهرها مدبرة تتهادى بمشيتها وكل هذه الخواطر تكالبت عليها وأنهكتها....توقفت في منتصف الغرفة....استجمعت قواها....ابتعلت ريقها وشعرت بالعلقم ينزل لمعدتها.....استدارت واهتزت حدقتيها ثم التمعت بدموع أبية وهي تهمس بصوت رقيق انثوي إنما واثق فيه القوة والشموخ:
" سيد أحمد...!!.."

كان الآخر يوليها ظهره لما ألقت سلامها....ليست قلة ذوق منه...إنما لأنه عند لحظة الفراق انقبض السجين المنتفض في صدره ...لا يرغب برؤية صورتها راحلة ...جاهد ليفعلها كي يستوعب قلبه وعقله أنها ذهبت وهي ليست له...إنما لم يقوَ...ذاك القويّ الثائر المقدام الذي يدك الأعداء دون عناء ودون أن ترمش عينه...لم يقوَ على الوداع!.....استدار نصف استدارة مستجيباً لندائها مع رفعة حاجب.....تقدمت خطوة صغيرة...فاستدار بالكامل وتقدم خطوة أكبر ....كلٌّ حسب مقاسه!!.....خطوة شعرتها خطيرة على قلبها ....لعب الفأر في صدره وهو يلمح أن بفمها كلام وملامحها البشوشة كلها شموخ....ثم بصوته الجاد المتزن قال وهو يناظرها:
" أهناك شيء سيدة ميار؟!..."

تبسمت بعد أن اكتسبت شيئاً من الثقة وكمد الهوى والجوى يتلاعب في نبضاتها .....تنحنحت هاتفة بهدوء وثبات مع لمحة مزاح:
" أتذكر في الماضي لما أتيت لبيتنا لأنك تسرّعت بالحكم عليّ؟!.."

تنحنح خجلاً هاربا بنظراته ثم أعادهما إليها من فوره بثقة جادة يتقنها:
" أجل...جئت واعتذرت!!.....ما الذي ذكرك به الآن ؟!"

ردت بذات الابتسامة والهدوء والثبات :
" أنا أتيتُ الى هنا....لمهمة بتّ تعرفها....ولم أكن أريد أن أبرر لك ما سأقوله الآن ولكن بما أن شقيقي صديقك ولربما تلتقيان لم أقبل أن تنظر لعينيه وأنت تأخذك ظنون السوء في أخته..... ولا أريد أن يؤنبك ضميرك كالسابق فتضطر للسفر هذه المرة تحمل ورودك واعتذارك...ولنفس السبب...تسرّعك بالحكم عليّ..."

قطب حاجبيه باستفهام وعاد ينتفض ذاك السجين في صدره إنما برهبة أكثر من الحب منتظرا كلامها لأين سيوصله وهتف بإيجاز:
" القصد؟؟!..."

" لم آتي الى هنا خلسة ولا هاربة....أتيتُ رافعة الرأس برضا من أبي وأمي ودعم أخي......"

قاطعها معترضا:
" رضا زوجك أهم !!......سيدة ميار......"

شقت ثغرها ابتسامة أوسع أظهرت ثناياها فأجابت:
" بالطبع.......عندما أتزوج......لن أتحرك شبرا واحدا دون أمره ورضاه.....فأنا تعلمت الدروس منك يا شيخ أحمد..!!."

استعصى عليه الفهم فقال بتيه:
" لم أفهم!!...."

أجابت تحرجه:
" أقصد أنا لستُ متزوجة الآن ولم أتزوج ابن عمي أساساً.....فسخنا عقد القران من شهور...!!.....يعني اتهاماتك لي باطلة!...واسمي......آنسة ميار!......."


أنهت كلماتها هامسة قبل أن تستدير لتفر هاربة قبل أن تنهار حصونها وتتساقط دموعها...!..:
" دمت بخير سيد أحمد.....عن إذنك!!..."

أكملت خطواتها المتثاقلة نحو الباب المغلق وهو ينظر في أثرها شارداً....شتم نفسه في سره بعد استيعابه لتهوره المعتاد مع جنس النساء اللواتي يلزمهن خبير ليعلم ما يدور في عقولهن وكيف يعاملهن "..أحمق...ثور...سحقاً لغبائك!!..." وما إن فتحت الباب حتى انتفضت مجفلة ترجع للوراء عندما أغلقه بقوة بكفه وأصابع يسراه الطويلة مستنداً عليه ناكساً رأسه يضغط على شفتيه مفكراً كيف سينطقها لسانه وقد كانت هي تنظر إليه واضعة يدها على صدرها تهدئ ضربات قلبها متوقعة بل أكيدة أنه سينطق اعتذاره وهذا أقصى ما يمكنه فعله...فالباب يبقى باب ...صدئ او مدهون!!.....لتتفاجأ لوهلة فاغرة فيها ثم تعود لتتحكم بملامحها الطبيعية كي لا يمسك شيء عليها عندما زفر أنفاسه ومعها كلماته وهو ما زال على وضعه لا ينظر إليها:
" هل تتزوجيني ؟!"

~~~~~~~~~~~~~~~~~

مسرعاً ساخطاً والطريق طويل ....ينفث لهباً ..في باله مهمة وأمانة ورسالة....سيوصلها في طريقته بلا شك.......يخشى الا يسعفه الوقت ..يسابق الريح عليه أن يصل بسلام دون تأخير ....قرابة الثلاث ساعات وأقل تفصله عن المدينة الجبلية ....يفكر بكل ما حصل معه لليوم وماذا سيفعل غدا؟!..... كل أعصابه متحفزة قهرا تحمل بحور من العتاب.....الآن الساعة الثانية عشر ظهراً......وزيارة والدها في السادسة والنصف مساءً.....الذهاب والعودة يستغرق حوالي الست ساعات....العجلات تدك الشارع من تحته والغضب يدك القلب في صدره........قبل حلول العصر وصل بيتنا الجبليّ......كنا نجلس نحتسي الشاي أنا وصديقيّ الأشقر و(بلال) نستظل تحت الشجرة في حديقتنا الغناء بعد مرور أسبوعين وأكثر على عودتنا من آداء العمرة أنا ووالدتي......ولم أكن أخبر أحدا عن خطتي للذهاب إليها الأسبوع المقبل.... إلى بلاد اللجوء وسمائي أي يوم اجازتي الأسبوعية بعد أن قطعت تذكرة ذهابا وإيابا ليوم واحد بسبب أعمالي!!.....ونيتي كما قررت سابقاً ...مقابلتها لأشعر في كل حواسها وهي تختار الإجابة على سؤالي.....ما بين لم شملنا أو انفصالنا الرسمي!.....ترجل غاضباً من سيارته....تاركا المحرك يعمل والباب مفتوحا......شيخنا الوسيم متجهم الملامح!!....رمقناه بنظرات مبهمة لا نعلم سبب حالته وهو يقبل إلينا بعزم....والأدهى هذا ليس وقت عودته من العاصمة... ..لأول مرة في حياته لا يلقي السلام....فحاولت أمازحه قائلا بينما لم أدرك ما نيته من خلف نظراته الحانقة التي جعلت حدقتيه الفحميتين تزيد قتامة :
" وعليكم السلام يا شيخ أحمد...خير ...ما بك؟..."

" لا سلام ولا كلام..."

ألقى جملته ليلقي خلفها لكمة على جانب وجهي يباغتني بها لم أستعد لها وهو يهدر متهكماً بغضب:
" تحتسي الشاي مسروراً.....وابنك محيي الدين ....يعيش مشرد عند الغرباء في تلك البلاد ....لا تعلم عنه جائعا كان أو بردانا يا سيادة قائدنا العظيم..!!.."
*من هادي إلى ألمى*

أتتني وهي ترتدي لون السماء فستاناً وهو لون عينيها
وصابغة على نحرها بخمار كأنه الورد على شفتيها
تتهادى في استحياء تتبختر تُقبّل الطريق بقدميها
تتمايل في مشيتها كنسمة تسحر الأعمى إن مَرّ عليها
رباه أيغير الظلام من امرأة فينير إن اسبلت مقلتيها؟
وتخسف الشمس بنورها احتراماً لجمال نور قمريها
وأغار من الريح والنسائم العابرة وهي تداعب خديها
يتمنى القلب العاشق أن تحمله كمحفظة بيديها
ويا ويلي وويل خدي المشتاق للغوص غافياً بين نهديها
كيف لا ونومي يستلذ حلو السبات من نهر شهديها
شهد ارتشفه من قربها وآخر يثملني من شفتيها
فما ذاك بثغر ولا مبسم بل خاتم ملوك اهدي إليها
ولا نحن دونها الأحلام تأتينا وما تأخذنا إلا لها و إليها
يا فاتنة لبست ثوب الوقار فغارت الحشمة منها وعليها
واهتدت بحسن الخصال فصار جمالها والخلق سمتيها
يا من لفتك الدنيا بالأحضان وتلقفتك الفتن بيديها
وعشتِ تائهة كالعميان والغفلة تعصب عينيها
شتّان بين اليوم والأمس شتان فنور التوبة يضوي بسماءيها
ظاهر بيّن للعيان والهداية هدية من الله الهادي إليها
تسير نحوي وانا الولهان أكاد أسقط صريعاً عند قدميها
فلك الحمد يا رحمن رددت لي قلبي فقد كان وقلبها قلبيها
وكان صدري سقيم أجوف بردان فروحي وقلبي ملكيها
وعادت ألمى الروح لي والقلب سيظل أمانتي بين يديها
((كلمات الغالية (أم البراء) الطاووس الأبيض))
×
×
×
" وعليكم السلام يا شيخ أحمد...خير ...ما بك؟..."

" لا سلام ولا كلام..."

ألقى جملته ليلقي خلفها لكمة على جانب وجهي يباغتني بها لم أستعد لها وهو يهدر متهكماً بغضب:
" تحتسي الشاي مسروراً.....وابنك محيي الدين ....يعيش مشرداً عند الغرباء في تلك البلاد ....لا تعلم عنه جائعا كان أو بردانا يا سيادة قائدنا العظيم..!!.."

لكمته الغادرة صدمتني أكثر من كونها آلمتني فلم يكن مني في البداية إلا الهبوب من مكاني بهمة نارية أمسكه من تلابيبه صارخا:
" ماذا تفعل؟!"

وما لبثت أن أنهي جملتي حتى تم تفعيل دماغي من جديد لاستوعب ما سمعته منه فهززته هادراً بغيظ مستنكراً:
" ما هذا الهراء الذي تقوله؟!"

أمسك بقبضتيه معصميّ يحاول إفلات يديّ عنه بينما عيناه المتقدتان بلهيب الغضب مسلطتان على عينيّ اللتين احمرتا اشتعالاً من فعلته وصاح مؤكداً:
" ألم تسمع ما قلت؟!...."

صرختُ بصوتٍ أعلى تزامناً مع تحرير يمناي لأرد له اللكمة:
" لم أسمع إلا هراءً .."

تهجّم عليّ بلكمة أخرى قمتُ بصدها عني وهو يقول ثائراً:
" ليس هراءً....هذه الحقيقة...لديك ابن...أتسمعني؟ !!"

عدت لأمسكه من تلابيبه باهتياج وفعل لي بالمثل وجلجلتُ المكان قائلا:
" أي ابن؟!...من أين أتيتَ بهذه المزحة الثقيلة ؟....أتعي ما تقول؟!.."

" أعي بالكامل ما أقول....لديك ابن في تلك البلاد وأنت لا تعلم عنه شيئاً.......وكله بسبب إهمالك"

هتفها بصخب ثم دفعني عنه بقوة لأفلته ...ارتددتُ خطوة للوراء وعدت بسرعة مقتربا منه لنتبادل اللكمات بين الصد والرد ولم نكن نسمع ولم نهتم للذيْن كانا يقفان يستمعان بذهول لكلماته ثم حاولا بالكلام اللين تهدئتنا وإيقافنا ولما لم نعطهما أي اعتبار ونحن ما زلنا نتصارع صاح (سامي) باحتداد:
" قلت توقفا....ألا تخجلا من أنفسكما وأنتما تتصارعان كالثيران؟!"

بصوتٍ واحدٍ محتدم ونبرة خشنة مع التفاتة متوازية منا نحوه وأحداق تشعُ سخطاً هتفنا:
" سامي لا تتدخل..."

ثم تابعنا صراعنا ليضيق بنا ذرعا ويخرج مسدسه من ظهره ويطلق رصاصات غاضبة بالهواء فتوقفنا بردة فعل لا إرادية وإذ بأمي وشقيقي (شادي) يخرجان مقبلان إلينا بارتياع وكذلك تبعهم يهرع للمكان في الحال فريق الحرس الأمني الخاص من الدولة ، وظيفتهم مرافقتي عند خروجي وحماية بيتي وقد كانوا موجودين خارج أسوار بيتنا الجبلي .!!... وصلونا حاملين أسلحتهم تحسباً ليهتف رئيسهم:
" أهنالك شيئاً سيدي؟!.."

رمقته بنظرة حادة من شدة حنقي وقلت بنبرة جافة لم أتعامل بها معهم آنفاً:
" لا شيء......اخرجوا لو سمحتم!......هذه أمور لا تعنيكم!.."

ضرب تحية العسكر احتراماً وسحب فريقه عائدا لمكانه فاقتربت مني والدتي بوجهها الشاحب وملامحها المرتعبة هاتفة:
" ماذا يحصل هنا بنيّ؟!"

ووزّعت نظراتها الذاهلة بيني وبين (أحمد) وهي تكمل:
" ما هذا الحال الذي أنتما عليه؟!"

كنا نلهث ونتبادل نظرات مشتعلة فيها الوعيد بيننا فلم نجبها فوجّهت عيناها وسؤالها لصهرها قائلة:
" سامي اخبرني....ماذا جرى؟!.."

زفر أنفاساً ممتعضة ورمقنا بنظرة غاضبة ثم قال بسخرية لاذعة:
" ننتظر أن يتوقف صراع الثيران لنفهم ماذا يجري عيوش...."

ونقل نظراته الأقل حدة منا إليها وهو يردف:
" أحمد ألقى خبراً صاعقاً لم نستوعبه بعد ونريد أن يوضح لنا مدى صحته ..."

حكّ ذقنه بريب وأكمل وهو يرمينا بنظرة استنكار :
" أظنها مزحة ثقيلة لا تشبهه وبالطبع ابنك لم يصدقه ولم يعطه المجال ليشرح خاصة بسبب مد يده عليه "

قاطعه (أحمد) معترضاً وكأنه أهانه وهو ينفث لهب نظراته القاتمة علينا قبل أن يعيدها إليّ:
" أي مزاح يا هذا ؟!...أنت تعلم أن تلك الطريق ليست من نهجي!!....لكنكم من هول الصدمة ستظنون ذلك....واللكمة كانت قليلة عليه كي يدرك عواقب عناده"

زاد وجهها هلعاً وابتلعت ريقها وهي تقترب من (سامي) تضع يدها على ذراعه هامسة:
" أي خبر بنيّ وأي مزاح وأي صدمة....اشرحوا لي ماذا يجري؟!.."

رآنا ما زلنا مشحونان ..نلهث بغضب مستعر والعيون تزداد وعيد لبعضها وأقل من متر يفصلنا فدنا منا دون أن يجيبها ليقف بيننا ويضع كف يمناه على صدري ويسراه على صدر الآخر ودفعنا بقوة يبعدنا عن بعضنا صارخاً بجدية وهو يتطلع عليّ:
" كفاكما سخافة... لنفهم لبّ الموضوع....بما أنه لا مزاح بما قاله"

والتفت لليسار ناظراً لـ(أحمد) مكملاً:
"خذ نَفَسك واشرح من البداية.."

ثم استدار نصف استدارة موجهاً حدقتيه وكلماته لشقيقي:
" شادي اجلب قارورة ماء باردة وكأسين لهذين الـ...."

وابتسم هازئاً وهو يعيد عينيه إلينا مضيفاً:
" حتى أنني لم أعد أجد تشبيهاً يليق بحالهما المخزي هذا .."

سلّط عينيه الفحميتين للأشقر ووجهه ما زال محمراً من أثر العراك وكثرة الشد على الأعصاب وقال وهو يشير بسبابته بسخط نحوي:
" إعطِ الماء لصديقك هذا كي يستطيع الاستيعاب كيف هجر زوجته وهي حامل ولم يسأل عنها رغم محاولاتنا معه لحل المشكلة بينهما من قبل اشتداد الحرب .....!.."

" ماذا؟؟!"

هتَفَتها أمي بانشداه وعينان جاحظتان وأكملتْ مستنكرة قبل أن يسمعوا أي رد مني:
" زوجته كانت حامل؟!.."

أضحتْ ملامحها مبهمة وشردت لثواني بالأرضية العشبية للحديقة ثم عادت لتوجه وجهها وحدقتيها إليّ قائلة بثقة قوية فيها العتاب:
" أرأيت؟!...قلت لك حينها.....كنتُ متأكدة أنها حامل... "

خبتت قوتها وقلّت نبرتها وتابعت:
" لكن لمَ أنكرت؟!...لمَ يا ترى؟! "

كنت أمسك جبيني أمسده أقف بشكل جانبي لاهثاً ووجهي لم يكن اقل احمراراً من صديقي أحاول استيعاب ما يلقى على مسامعي ولمّا سمعت سؤال والدتي المتعجبة استدرت بطلاقة نابعة من البراكين التي تتفجر داخلي وأجبت في الحال:
" خدعتنا الـ....."

أمسكت لساني عن نطق شتيمة أمامهم وصككتُ فكيّ ثم استغفرت بسري وهتفت مزمجرا بتهديد:
" سأريها كيف تفعلها بي؟!.."

ردت أمي:
" اهدأ بنيّ.....لا تظلمها....ممكن أن يكون تلف بجهاز فحص الحمل أو أنه لم يكن الحمل بعمر يظهر لها به !!.....كل شيء وارد.........ليتنا أجرينا فحص دم مضمون أكثر..."

استغفرت وهي تنظر لتحت وتابعت:
" لا تنفعنا يا ليت الآن..."

هتفتُ بنبرة خشنة:
" وماذا بعد ذلك؟!...إن كان كما تقولي أمي......ما حجتها بعد أن علمت بحملها؟!.....اخبريني !.....لقد تقابلنا ثلاث مرات ولم تفتح فمها لتخبرني.....يوم جنازة خالتها.....وبذاك اليوم الأسود الذي طلبت مقابلتي به وبعدها في الجلسة الأولى لمحاكمة والدها النجس!....كم من فرصة كانت معها لتخبرني....لكنها تعمّدت ذلك بعقلها الصغير ولن أفوتها لها...."

" أنت السبب!.."

قالها بصوت هادئ ثابت بعد أن استعاد ضبط أنفاسه فغضنتُ جبيني حانقاً دون رضا عمّا تفوه به وهتفت ببسمة جانبية ساخرة:
" أنت مصمم أن تذنبني سيد أحمد !....ما الذي سمعته وكيف سمعته ومن أين لك كل هذه الأخبار؟!.......هيا أتحفنا!..."

" أجل أنا اذنبك ...فكم نصحتك لتتفقدها....تتركها أو تعيدها قبل الحرب واصابتك....لكنك كابرت!!....المهم هذا الآن لن ينفعنا.."

تنهّد وبدّل نبرته لتكون أكثر صفاءً وهو مردفاً:
" زارتني صديقتها وأخبرتني بكل شيء من خلفها....أي زوجتك لا تعلم بكل هذا!!..جاءت تذنّبك وتردعك عن الاستمرار بهجرك لها وابقاءها معلّقة..."

أجاب فتسارع وجيب قلبي انفعالا وعادت لتثور دمائي فقلت متخطياً عتابه لي:
" بماذا أخبرتك؟!....وما الذي أتى بها الى هنا أساسا؟!..."


" أخبرتني مثلاً.....بأن زوجتك لم ترد إعلامك بحملها في البداية ...ببساطة.....لأن والدها أوصل لها ما قلته عنها عند إمساكك به!..."

قالها معاتباً بنبرة هازئة وتنهّد ناظرا لساعة يده ثم استأنف بصوت عقلاني :
" هم هنا في بلادنا ....وفي المساء.. ...تحديدا في الساعة السادسة والنصف لديها موعد لزيارة والدها بالسجن المركزي وأرادت تلك أن اوصل لك هذا كي تتصرف وتصلح الأمر إن رغبت دون اضاعة الوقت!!"

وأكمل ممتعضاً :
" ما إن علمتُ بالقصة جئتك لكني تأخرتُ في الطريق بسبب عطل في شاحنة على الطريق السريع أدى لازدحامات مرورية خانقة!!.....وها هي الساعة الآن الرابعة والنصف ولا أعلم إن كان بإمكانك اللحاق بها !...."

التقط عقلي ما أفضى به وشحبت ملامحي فضولاً وحقداً وتقدّمتُ صوبه مستفسرا شاتماً مشمئزاً عن شيء واحد قاله في البداية دون اهتمام بضيق الوقت ولا بأي كلام متفرع آخر :
" ما الذي قلته أنا لذاك الحقير الـ***؟!.."

" لقد قلتُ له عندما سألك كيف تلاعبت بها وماذا إن حملت منك بأنك لن تريد اولاداً منها لأنها تحمل دماؤه النجسة حتى لو كانت آخر امرأة بالعالم هي وبأنك لو علمت بحملها ستجبرها على الاجهاض!........لذا أخفت عنك الحمل والولد بطلب منه حفاظاً عليه منك.....!!..."

تعالت الهمهمات ممن حولي...كانوا يخاطبون بعضهم البعض ويتهامسون بينهم بعد ما سمعوه!!....لكني للحظات دخلت ونفسي بدوامة بركانية من التساؤلات والإجابات...... متى أنا قلت هذا ؟!...متى؟!....رباه....من أي طينة خُلق والدها؟!....آه من نصيبي الذي أوقعني بحبها.!!....أي نار من جحيمها اختارت أن تعذبني بها ؟!. ....لم أتحمل سماع باقي الحكاية منه ..!!...لقد بلغ السيل الزُبى عندي...!!
مع كل كلمة كان يلقيها على مسامعي كانت أعصابي تلتهب اهتياجاً وغضباً مبالغاً به وأطرافي تتشنج قهراً وغِلّاً....ولكن عند آخر اتهام لي نفذ صبري وانفجر البركان داخلي ...بركاناً لن يستطيع أيٍ كان إهماده ولن يوقفني أحد هذه اللحظة.....لم أهتم للنظر للوجوه المستنكرة والمصدومة والمتألمة من حولي ... قمتُ فقط بإغلاق أذنيّ عن أصواتهم اغلاقاً وهمياً وكتمتُ صرخة كادت أن تندفع من أعماق أوجاعي بعد صدمتي الكارثية ثم خضعتُ ملبياً لنداء سخطي الذي خرج من كل ذرة في جسدي وتركتهم جميعاً يرتقبون خطواتي التي سحقت العشب من تحتي دون أن أنبس ببنت شفة حتى وصلت درجات مدخلنا الرخامية القليلة أدكّها دكّاً بحذائي الرياضي الأسود واختفيتُ عن أنظارهم صاعدا السلالم الدائرية متجهاً إلى غرفتي وهدفي !!....أخذتها من فوق سريري حيث أعلقها وصدى كلمات صديقي يرن في دماغي فشتمت في نفسي بينما كنتُ أملأ خزّانها بانفعال ...." نجح الوغد، الحقير ابن الحرام بغسل دماغ تلك الغبية ....لقد صدّقت افتراءه عليّ ولم تسألني.....بالطبع .!!...فكلام النجس مقدّساً عندها....ماذا أكون أنا بالنسبة لها لتؤمن بحقيقة مشاعري وحبي ؟!...".....لم أهتم لتبديل بلوزتي الخفيفة السوداء البيتية ذات النصف كم ولا لبنطالي الرمادي الرياضي بخطين أسودين جانبيين !....هبطتُ عن السلم مختصراً درجاته قدر الإمكان واستليتُ مفتاح سيارتي الرياضية السوداء الجديدة التي وصلت من الخارج قبل أسبوع عن حامل المفاتيح الموجود خلف الباب ثم سرتُ من أمامهم بكل جبروت وعزيمة قاصداً المرآب ولا شيء في بالي غير أن لي ابناً كاد أن يكمل عامه الأول وأنا لم أعرف عنه شيئاً...ابناً حرموني منه بتخطيط وتعمد....ابناً شرّدوه عني وفضّلوا له أن يعيش بين أحضان الغرباء .." سأري أولئك الـ*** من أنا وكيف يكون غضبي "...زمجرتُ شاتماً ومهدداً في سري .....ركبتها وأخرجتها حتى وصلتُ بوابة الساحة الكبيرة حيث تغلق طريقي سيارة (أحمد) وبقيتُ مسلطاً وجهي المحتد وعينيّ المجمرتين للأمام وصرتُ أضغط على الوقود بتقطع لأصدرُ أصوات من العادم الذي يعبر بصوته الصاخب عن حالتي مناديا عليه ليبعد خاصته عن المدخل!! ....كانوا جميعهم يقفون بذهول فتمتم (أحمد) محاولاً التمسك والعناد:
" لن أحركها.....إن كان تواقاً لارتكاب جريمة فليأتي ويقتلني....هل سأسمح له بتدمير حياته .؟!. ...."

صرخ ضاربا كل شيء وكل القوانين بعرض الحائط وهو يهمّ بالتحرك باستعجال موجها الكلام له:
" بلى ستحركها والآن....صحيح أنه فقد عقله لكن لن ألومه ..بل سأذهب معه ....ربما سيكون واجبي التنظيف من خلفه إن لم نتمكن من إيقافه ....المهم أن أدعمه بأي طريقة!.......وليواجهوا غضبه لأرى!...لن يستكين إلا بإطلاق الرصاص أو إراقة دم أحدهم.....ولا أعلم نصيب من سيكون....ابعد سيارتك دون عناد كي لا تجعله قاتل صاحبه"

ثم التفت نحو حماته الشاحبة الملتاعة آمراً:
" عيوش هيا الحقي بنا مع أحمد وبلال ...ربما وحدك من يمكنك السيطرة عليه !...."

ونظر لشقيقي الخائف من تهوري متابعاً أوامره قبل أن يتجه لسيارته يخرج منها شيئا:
" شادي اغلق البيت واذهب لبيتنا لتبقى مع دنيا ....لا نعلم متى سنعود ....هذا إن عدنا !..."

ما زلتُ أضغط على الوقود ثابتاً مكاني متجهماً لا أنظر إليهم ثم فتحتُ الزامور بتواصل مزعج فقال (أحمد) لوالدتي و(بلال):
" هيا اسرعا ....لقد جنّ!....علينا اللحاق به قدر الإمكان"

لحقا به حالاً واستقلا سيارته فتفاجأتُ بالأشقر يفتح باب سيارتي ويركب...رمقته بنظرة نارية وقلت من بين أسناني:
" سامي إنزل....لن توقفني عما سأفعل.."

وضع حزامه براحة مبتدعة وثقة حقيقية وأجاب:
" من قال سأوقفك؟!....جئت لأرافقك!..."

نظرتُ لما بين يديه ثم تطلعتُ للآخر وهو يتقدم بسيارته ليوجهها للخروج من خلفنا وضغطتُ على جهاز تحكم البوابة الكبيرة الموجود في سيارتي لأفتحها ولما بدأت تفتح بتمهل دخل رئيس فريق الحرس الخاص من الدولة وأقبل عندي ...أنزلتُ النافذة فألقى التحية وهتف:
" نحن تحت أمرك سيدي....سنلحق بكَ بالحال!.."

قلت ساخراً بغيظ:
" سيد أسامة ....هل تراني راكباً سيارة الدولة؟!"

أجاب:
" كلا سيدي..!.."

أكملت بسخرية مبطنة ونبرة خشنة:
" جيد ..إذاً لا مهمة رسمية لدينا ..صحيح؟!."

هز رأسه يوافقني فتابعت بنبرة باردة مصطنعة تغطي على الدخان المتصاعد من كل خلايا جسمي:
"أنظر إليّ....هذه سيارة خاصة....وأنا أرتدي ملابس عادية......من تراه أمامك الآن هو هادي المواطن العادي لا علاقة له بأي منصب .....لذا لو سمحت ابتعد عن طريقي وإياكم أن تلحقوا بي......"

"لكن..سيد...."

قبل أن يكمل جملته انفتحت البوابة على مصراعيها بالكامل فتركته يكلم الهواء وخرجتُ بسرعة حذرة متخذاً شارع حيّنا ولما وصلتُ لشارع رئيسي في المدينة دعست على الوقود بقوة أضاعف سرعتي ففتح صديقي نافذته ومطّ جزء من جذعه للخارج يمدّ يده ليثبت المصباح الأزرق المغناطيسي المتنقل الخاص بسيارات الشرطة فوق سقف سيارتي ليفرغ الطريق أمامي ويتيح لي الفرصة بأن أقفل ساعة السرعة الخاصة بها ...!!....لم يصدر منا أي كلمة حتى وصلنا مدخل مدينتنا هتفتُ بأمر:
" اتصل بفريد رئيس المخابرات العامة ليعمم في الحال على كافة المعابر ونقاط التفتيش وأهمها المطار... اسم الولد...."

تنهدتُ بضيق وأردفتُ:
" محيي الدين هادي الشامي...هذا إن اعترفت بي وسجلته هكذا...أو محيي الدين يامن الهاشمي ....حتى"

ضربتُ المقود بقبضتي شاتماً الفكرة واستطردت:
" محيي الدين عاصي رضا ....فلن استغرب إن نسبته لوالدها النجس.....وكذلك ضع اسمها......ألمى عاصي رضا الهاشمي.....خذ كل التدابير اللازمة....سنمنع خروجهم من حدود الدولة تحسباً من أي عراقيل قد تواجهنا قبل الوصول في الموعد!...."

شرع بتنفيذ ما أمليتُ عليه من فوره بينما أنا ركزت في الطريق عند وصولي للشارع السريع متجهاً للعاصمة داعساً أكثر فأكثر وكان صديقي (أحمد) يحاول اللحاق بي بسيارته مستغلاً الطريق الفارغة التي خلّفتها ورائي....كنتُ أجتاز السيارات متوكلاً على الله ..صامتاً ثابتاً مفكراً وكأني في سباق واضعاً كل مواهبي في القيادة وكان وقودي بركان غضبي راجياً من ربي نيل جائزتي وهي رؤية قطعة من روحي.... ابني....صغيري....(محيي الدين هادي الشامي)....!!

~~~~~~~~~~~~~~~~~~

لقاءاتها به لم تتعدَّ أصابع اليد.... فزياراتها دوماً محدودة ....وبجميعها كانت تحمل بضع مشاعر تصب في نهر واحد ليوحدها .....فلهفتها إليه لطالما كانت نبعها الدفاق والحزن عليه أدى بها للغرق والانزلاق ومجرى نهر مشاعرها كان مستقيماً ماؤه صافياً محبة منها وبرّ به ربط قلبها بميثاق وفي لحظة لم تكن بالحسبان تسّرب ماء النهر عندها متخذاً وادٍ آخر جانبياً كسر استقامته ...لا تعلم.... أسيعيدها نهاية المطاف لذاك المجرى من جديد أم أنه الطريق الذي جعلها القدر عنه تحيد؟!.....سلكت ذاك الواد مستسلمة لقدرها وعازمة للوصول وستتقبل تياراته مهما كانت بصمود!!........فهنا بهذه الزيارة تبددت كافة مشاعرها السابقة ليحتل مكانها شعور واحد وهو الإصرار أولاً وآخراً لمعرفة الحقيقة وسماعها على لسانه ومن بين شفتيه.!!....الوادي الذي جرفها طريقه منحدر لا يمكنها التراجع عنه .....فإن كانت تلك الحقيقة التي ستدأب هذه المرة لتفعيل كل ذرة في عقلها قبل قلبها لتصديقها ستسعدها.. فيا لحظها ستملك الدنيا وما فيها ....وإن ظن أحدٌ أنها... ستؤلمها.... فقد أخطأ خطئاً فادحاً....لأن قلبها أرضٌ غرقت بطوفان من الآلام فما سيضرها إن سكبوا عليها الدلو الأخير؟!......!!......نظرت لابنها النائم على السرير في الفندق بانعكاس المرآة وتبسمت بوهن غامض وهي تضع اللمسات الأخيرة على حجابها الورديّ الذي يلتف بأناقة على جيدها لتترك طرفه يتهدل على صدرها بأريحية فيدمج بين السماءين ....لون فستانها... وزرقة عينيها !!........وبينما هي ثابتة مكانها دخلت عليها إلى غرفتهما المشتركة بحركة حماسيّة لم تمكّنها من اخفاء سيل من التوتر بوجهها بسبب الأفكار التي تجول في عقلها منذ الظهر ولحظة لقاؤها بالزلزال المدمر لقلبها في شركته!!....لا تعلم أي توتر يقتلها أكثر ؟!....توترها لأنها أفشت سر صديقتها وماذا ستكون ردة فعلها لما تعلم بذلك بل ما ستكون عواقب فعلتها من الطرف الآخر؟!....أم توترها على صديقتها ذاتها التي ما زالت لم تشركها سبب تمسكها بهذه الزيارة العاجلة المريبة؟!.....أو من نظرات ذاك الذي لم يفارق مخيلتها وتصرفه معها عند ردها على سؤاله الأخير؟!!......هي الآن تصف نفسها أنها عبارة عن قنبلة متحركة من التوتر تسأل الله أن تنتهي صلاحيتها دون انفجار بمكان لا يحمد عقباه..!!.....لما وصلتها صرخت بذات الحماس الشبيه لحركاتها :
" هيا....سيارة الأجرة في انتظارنا وقد وضعنا عربة محيي الدين في صندوقها !!.."

مدّت لها حقيبة الظهر الخاصة بأغراضه لتحملها وبيدها الأخرى رفعت سبابتها أمام شفتيها هامسة بنعومة مع إشارة نحوه بعينيها:
" ششش ميار.....إن لم يستيقظ من خاطره سيكون شعلة غضب نحن بغنى عنها أرجوكِ......سأحمله بحذر ليكمل نومه حتى نصل إن شاء الله..."

اومأت باسمة إيجاباً دون تعليق بردة فعل لا تشبهها والأفكار تعصف بها داخلياً .." يكفينا غضبك وغضب والده الذي سيحدث إن أتى.. ...لا ينقصنا غضباً ثالثاً مزيجاً بينكما ....الله يلطف بنا ويحفظنا "

ثم سبقتها خارجة من الباب تحمل حقيبة الصغير على ظهرها أما هي حملت حقيبتها الوردية الناعمة الخاصة المتماشية مع حجابها وضغطت عليها شاردة لوهلة تفكر بالورقة التي داخلها ثم زفرت أنفاسها وانحنت تحمله بحنوٍ مع قبلة ناعمة وضمته لصدرها هامسة بخفوت شديد وهي تتأمله بعينين تخفيان دموعاً أسيّة:
" صغيري....اليوم سيُحدد مصيرك.....!!..."

شددت من احتضانه وألقت نظرة تائهة على أرجاء الغرفة وحقيبة السفر الكبيرة المركونة جانباً ...كانت نظرة لا تعلم ماهيتها ثم خرجت عازمة أن تعانق حقيقتها لا غيرها..!!

×
×
×

ترجلتا من سيارة الأجرة ووضعت ابنها الذي استيقظ منذ قليل في عربته ودلفتا الى الساحة الخاصة بسجن الأمن المركزي فنظرت (ميار) لساعة هاتفها قائلة:
" الساعة الآن السادسة الا ربع.....بقي اكثر من نصف ساعة على الموعد...."

وأشارت لمقهى خشبي جانبي موجود بالساحة تابع للبناية مردفة :
" ما رأيك أن نذهب لنحتسي شيئا هناك ونمضي بعض الوقت.."

تبسّمت بثقة وهي تدفع عربته نحو المدخل دون أن تنظر إليها وأجابتها بهدوء:
" صحيح أن موعدنا في السادسة والنصف ....لكن في هذا الوقت لا يكون زوار كثر مثل الزيارات الصباحية حتى يكاد الا يكون بتاتاً فمن الممكن تقديم اللقاء إن هداهم الله وعطفوا علينا بدلاً من الانتظار الفارغ وخاصة ورقة ربحنا محيي الدين معنا.......يهتمون بهذه الناحية كمساعدة للأم!!...."

بعد أن دخلتا واستقرتا على مقعد في غرفة الانتظار انشغلتا كلتيهما بالاهتمام بالصغير فتذكرت أنها تنتظر رسالة منذ الصباح وأن هاتفها ما زال مغلقاً بعد أن شحنته وقد كان ملكاً لـ(رهف) في السابق وهو من الطراز القديم ذو الأزرار وأعطتها إياه مكان الذي سرق للضرورة فأخرجته من حقيبتها وفتحته ليصدر رنيناً ينبئ عن دلوف رسالة إليه .!!.....ضغطت على الاسم المراد فامتقع وجهها وازدردت ريقها مع التماع عينيها ورجفة طفيفة سيطرت على يدها لم تنتبه لها صديقتها!!........انحدرت دمعة لتسقط على شاشة هاتفها الذي ما زالت تفتحه على الرسالة تكرر قراءتها ....كانت في هذه الاثناء (ميار) توجه لها كلام لم تسمعه أو لم تنتبه له فسألتها بتوجس ونبرة أعلى وهي تتنقل بنظراتها بين وجه صديقتها وما تحمل بيدها:
" ألمى....أحدثك....أتسمعيني؟!.."

انتفضت وهي تمسح دمعة بظهر كفها لترد بخفوت دون أن تتطلع عليها:
" ها؟!...ماذا؟!.."

" اسألك ما بكِ تغيّر لونك؟!"

سألتها فاستدارت بوجهها نحوها ترمقها بنظرات ضياع لثانية قبل أن تجيب بتملص تزامناً مع وقوفها:
" لا شيء ...لا شيء....سآتي حالاً....أنا ذاهبة إلى الحمام "

تتبعت أثرها في ريب ثم عادت لتداعب زلزالها الصغير بينما تلك عند ولوجها الحمام اقتربت من المغسلة تطالع نفسها بالمرآة بحسرة ولوعة ووضعت كفها الأبيض الرقيق على صدرها قرابة قلبها بدقاته المتسارعة تحاول أخذ شهيق وزفير لتهدأ بعد شعورها بشيء يكتم على أنفاسها ثم أجهشت بالبكاء فجأةً وانحنت تتكئ على طرف المغسلة وهي تتمتم باختناق :
" ما هذا الحمل الذي أحمله أنا؟!...لقد تعبت...تعبت!!..."

ظلت منحنية لثواني تحاول ضبط أنفاسها ثم استقامت لتطفئ وجهها المحترق من البكاء بالماء وبعد لحظات استجمعت قواها وألقت نظرة أخرى للمرآة تسترجع الرسالة بعقلها فعاد يدب الرعب بأوصالها ......لقد سُحقت آخر آمالها وحسبتها كإشارة توجهها نحو الحقيقة!!....وما أصعب الحقيقة وأثقلها على قلبها البريء .!
×
×
×
كاستجابة ربانية لحدسها تم تقديم لقاءها قبل ربع ساعة عن الموعد المحدد!!.....بخطى بطيئة دلفت إلى المكان المنشود تضغط على الورقة المطوية بيدها دون إدراك منها نتيجة شدة توترها مما هو آت..!!.....الغرفة فارغة لا غيرها بها!!.....اتخذت مقعدا قريباً وحاولت استجماع أفكارها في ذهنها....كيف ستبدأ وبماذا ستبدأ؟!....أتواجهه أولاً بما علمت من رسالة خالتها أم تلقي عليه ما تلّقت بالرسالة الالكترونية التي وصلتها قبل قليل؟!....رفعت يدها لعنقها تحاول ارخاء الحجاب بحركة وهمية إثر عودة شعور الاختناق لديها.!!....كانت تزفر أنفاسها لتشحن عزيمتها!!.....مع صوت صرير الباب الحديديّ لحظة وصوله إليها رنت برأسها تستقبله بحدقتيها..!!.....هوى القابع خلف أضلعها لما رأت حاله..!!...هالها منظره!...لم يشبه الذي رأته قبل حوالي شهرين!!....كيف تبدّل وماذا جرى؟!....دخل يجر قدميه جراً....كتفيه متهدلان ...شعره مشعث....ولم يحلق ذقنه النابتة ككل لقاء يفعلها..!!..عيناه غائرتان مرهقتان...بل بياضهما يكسوهما احمرار نابع عن مزيج من الغضب ..الحزن....القهر...الذل ....وأقواهم انكسار بعد تجبّر......بشرته مكفهرة .....ابتلعت ريقها مرتابة من وضعه المزري ثم نهضت بتباطؤ دون حماس وقد لاحظ هذا بها..!!....اقتربت منه جسديا لكن قلبها تشعر به يبتعد كتنافر الأقطاب المتشابهة دون إرادتها....أين أضاعت لهفتها عليه؟!......لم تنكر بطيبتها وحنانها الفطري أن خيط من الشفقة عليه تسلل إليها!....فيبقى هو والدها...حبيبها وملكها مهما كان وسيكون!!....لكن شعور التنافر ذاك هزّ كيانها رغماً عنها..!!.....أمسكت يده تقبلها كعادتها بعد أن همست بصوت رقيق:
" مرحبا أبي...كـ..كيف حالك؟!.."

مدّ يده الأخرى بوهن باغته ليربّت على كتفها مجيباً بصوت أبح ناتجاً عن صراخ سابق:
" أهلا صغيرتي....!.."

استقامت واستدارت تعود لمقعدها تقابله بعد أن ألقى نفسه على الآخر بعجز صدمها!!........تلاقت أعينهما برسوخ كأنهما يحاولان الاصغاء لبعضهما بحديث صامت !!....كلّ منهما يحاول أن يسرق من الآخر تساؤلاته وما يدور بذهنه!!.....تنحنحت رامشة بأهدابها الطويلة تكسر صمتهما بعد أن قررت البدء بآخر ما وصلها وهي تخرج كلماتها بتمهّل لصعوبة موقفها:
" أ..أبي....قبل دخولي....عندك....وصلني رسالة ...من....من المحامي.....السيد نظير!.."

كوّرت قبضتها الرقيقة أمام فمها الورديّ لتسعل تجلي صوتها وتستمد بعض القوة فيه قبل أن تردف:
" لا أعـ...أعلم كيف ..."

وخانتها دمعة سالت على خدّها الساخن المحمر وهي تتابع بغصة:
" كيف سأخبرك....عن...."

تحفّزت ملامحها وشدّت كتفيها ترمقه بتركيز مشدوهة عندما أكمل عنها بصوته المبحوح الذي جاهد أن يخرجه بثقة:
" رد المحكمة العليا الذي صدر صباحاً...!!.."

" كيف....كيف علمت؟!..."

سألته باستغراب بعد أن لفحها شعور مؤقت للراحة... فها قد خفّ بعض من الحمل عنها ليجيبها بصوت ثابت وهو شارد بعينيه بالفراغ جانباً:
" محاميك الفاشل....السيد نظير.....زارني في الأمس وأسقاني كؤوساً من الأوهام بأن النسبة للنجاح لا بأس بها وأن الرد سيكون اليوم..."

أصدر ضحكة متهكمة مبتورة بقهر والتمعت عيناه بحقد وهو يستأنف:
" وقد أتى بالفعل اليوم في الصباح الباكر ....بشّرني بفشله وقمتُ بطرده ذاك المحتال "

نفثَ نفساً ساخطاً ليردف :
" مؤكد لم يقم بعمله كما يجب بعد أن نهب الأخضر واليابس منا....لمَ ليتعب نفسه والمال في جيبه ؟!..."

قال كلماته لينهيها بكلمة بذيئة ثقيلة يشتمه بها وهو يصك على أسنانه وقد لفت انتباهها بروز شرايين عنقه والشد بغل على قبضته المرتاحة على الطاولة أمامها فأحست بمهابة منه وعاد قلبها لينبض بخشية وضعف وارتأت عدم التعليق وهي تفكر كيف ستلقي عليه ما بجعبتها ووالدها عبارة عن صورة حيّة لشعلة غضب حارقة بعد انكسار لا مفر منه وأن من في مثل حالته لن يهمه الآن لا قوانين ولا حدود ولا تمثيل ولا أي شيء فآخر أوراقه قد حرقت اليوم نهائياً وتناثر رمادها بعيداً ولن ولم يبقَ له بصيصاً من الأمل بعد هذه اللحظة وليحترق العالم أجمع ..لن يهمه حتى نفسه التي لطالما غذّاها ودللها بنرجسيته وجشعه !!...
فبعد زيارتها الأخيرة له منذ شهرين تحدثت مع محاميه الموكل بقضيته وقد أخبرها أنه استخدم حق الطعن في القرار القضائي بما يخصه وتهمه متفائلا بتبرئته أو التخفيف عنه على الأقل مستخدما كل إمكانياته بدهاء وها هو الآن يوصل لهما الرد النهائي الذي صدر صباحاً بأن التهم ثابتة لا ذرة شك فيها والأدلة غير مزورة اطلاقاً والشهّاد موثوقون جداً وبهذا قد فشل فشلاً ذريعاً ولم يخدمه دهائه ومكره فصوت الحق علا في النهاية ولن يعلو الظلم عليه مهما طغى لينهي علاقته بموكليه (ألمى) ووالدها ويطوي صفحته معهما للأبد!!...وحان وقت الاستسلام للمصير الذي كتب لهما دون أدنى محاولة لا تعود عليهم إلا بالقهر والخسارة فوق الخسارة..!!...

عمّ الصمت المكان للحظات يسيرة وكليهما يسبحان في عقليهما لتجفل بعدها تتطلع عليه لمّا شدّ صوته يمثل القوة وهو يسأل مستفسراً:
" لم تقولي لي ما سبب زيارتك هذه ؟!.....مؤكد ليس لتعلميني بما حصل أو تؤازريني في هذه اللعنة لأن موعد اللقاء وصلني من يومين أي أنك حجزتِ قبل معرفتك عن آخر المستجدات بالقضية .."

وحرّك جسده يعدّل جلسته ليميل قليلاً يتكئ بمرفقيه على سطح الطاولة يقابلها بوضوح أكبر فازدردت لعابها وتململت في مكانها رعباً كأنها أمام شبح لا يرحم وأجابت بصوت كاد أن يختفي بين أوتارها الوجلة:
" جـ....جئتُ لـ....لأسألك أريد...أريد....الحـ...الحقيقة.. ..عن كل....ما عشنا!.."

ظنت أنها نجحت بإخفاء صوتها عنه وأنها حصلت على فرصة تشحن عزيمتها أكثر لكنها تسمّرت في مقعدها لمّا سمعت تغيّر نبرته وهو يسألها بخشونة كأنه قرأ أفكارها.....فما الحقيقة التي تقصدها سواه ؟!...:
" ما قصدك ألمى؟!....أي حقيقة؟!.."

لم تجبه فكرر سؤاله عليها وهو يقطب حاجبيه بشكل مضاعف غضباً :
" أجبيني ألمى....أي حقيقة؟!.."

تحفّزت دمائه وخشن صوته أكثر مردفاً بوقاحة يحاول الحفاظ على صورته المزيفة أمامها فهي ما تبقّت له الآن بكل من عرفهم ولن يجازف بخسارتها فستبقى هي أنْسه ومنفسه الوحيديْن بين جدران السجن :
" تقصدين أنك صدّقتِ تلك التهم اللعينة عن والدك؟!.... لوما؟!.."

أنهى جملته باسمها المحبب ليؤثر على مشاعرها فالتمعت عيناها ببريق يبوء عن انفجار قادم بعد تراكمات انهالت عليها ولكنها بقيت تلوذ بالصمت فنهض من مكانه بحركة تمثيلية يختار التنصل والتخلص من نواياها معه تزامناً مع ضربه للطاولة بكفيه مقهوراً مخذولاً ليظهر لها أنه ضحية اتهامها فيعزف على نابضها الضعيف النقيّ ويعود ويكسبها بعد أن فهم نظراتها وسبب زيارتها وهو يبدّل نبرته لأخرى جريحة مطعونة بتصنع متقن:
" لا أصدق ...لا أصدق لوما...أنك تشككين بما عشنا..!!.."

وهزّ رأسه بضعف وخيبة يواصل مسرحيته يضغط على صدغيه بأصابع يمناه متنهداً ومضيفاً بصوت حزين:
" آآه لوما آآه....ليتني مت ولم أسمع سؤالك ولم أرَ نظراتك تلك !!.."

تشوش عقلها لبرهة زمنية!! ....لم يكن ينقصها إلا هذا..!!التلاعب بمشاعرها!!......لكن عليها معرفة الحقيقة والسعي خلفها!!.....لم تواجه والدها يوما ولم تفتح أي سيرة تسأله عما مضى وعن كل الاتهامات بحقه!!.....بل كانت فقط بموضع الدفاع عنه... تصم اذنيها عن الحقيقة المُرّة الموجعة وتحصن قلبها من التصديق القاتل!!....لكنها الأن تتلظى بين نيران الفقر......والخوف من ظلمها لابنها وهي تبعده عن موطنه الحقيقي وعائلته!!.....ستتحرى أجل..!! ...وستواجه.!!...ولن تستسلم حتى تسمع بعظمة لسانه كل ما جرى!!.....ستقرأ له الرسالة كلمة كلمة وستدقق بكل همسة تخرج منه وستتوسل وتهدد .....ولن تخرج من عنده إلا بالحقيقة الكاملة ......!
استدار يوليها ظهره عازماً على العودة من حيث أتى لينهي المواجهة قبل أن تبدأ يسير بتثاقل حتى توقف سيره ما إن وصلته تمسكه من ذراعه بجرأة وشجاعة لم تستخدمها يوماً معه صارخة دون قصد وهي ترفع الورقة التي بيدها :
" توقف ولا تذهب !!.....أنت لا تعلم كيف أتيت إلى هنا ولأي حال وصلت منذ آخر لقاء جمعنا !!.....لم آتي سدى....سأسمع منك عن كل ما كتب بهذه الورقة.....!.."

توغر صدره وهربت خفقة مرتابة من قلبه وهو ينظر ليمناها التي تمسكه ثم للورقة بيسراها وهتف بثبات محكم يتقنه بعد التكهنات التي قفزت لرأسه سريعاً:
" أي ورقة؟؟..."

تلاحقت في ذهنه الأفكار أكثر تصب عليه صباً وكلها سوداوية لا براءة فيها يبحث عن الزلة التي ممكن أن يكون قد تركها خلفه ووجدتها ....!!....أخفضت صوتها وهي ترخي يدها المرتفعة بالورقة بينما بقيت متشبثة به بالأخرى مجيبة برجاء:
" أبي.....اجلس من فضلك.....أنا هنا الآن لأن هذا اللقاء يفصلني ما بين الحياة والموت!!......سأخبرك لأي ظلم وكوارث تعرضت أنا وابني!....وأنت يا أبي ستكون تذكرة عبوري للنجاة .."

امتقع وجهه واضطربت خفقات خافقه وهو يستجيب عائداً لمكانه بينما في عقله تدور حسابات يواسي بها نفسه أن ابنته ضعيفة ..هشة ...طيبة سينجح بإقناعها وستصدقه ولن تعاند ولا يدري أي اصرار حملته معها لحظة وقوع رسالة خالتها بين يديها ..!!...

لما عادا الى طاولتهما شرعت تقص عليه ظروفها التي عاشتها بعد آخر لقاء لهما وكان صوتها يملأه الغصة وملامحها تتبدل حسب درجة انفعالها......لم يستطع منع رجفة قلبه عليها لما وصلت لتعرضها للتحرش !!...هو مصاب بجنون العظمة ونرجسيّ ويحمل أبغض الصفات...بكل تأكيد إنه كذلك.... لكن مَن تجلس أمامه تبقى مدللته الوحيدة التي لطالما وضعها خط أحمر بعد جشعه ومطامعه السابقة وبما أنه الآن لا يمتلك الا لباس السجن الذي يغطي جسده وخاصة بعد يقينه جهرا و سرا أن الأمل أضحى معدوما بشأن قضيته فغدت هي كل ما يملك.....مدّ يده بحنوٍ يغلف بقبضته يدها المرتجفة على سطح الطاولة...حاول تهدئتها من بكائها وهو يمد الثانية ليربّت بها على ظهر كفها ....واساها ببضع شتائم خص بها ذاك المتهم....ابتلعت ريقها وصمتت فهذا موقف لن تنساه وحفر في أعماقها....هدأت قليلا وسحبت أنفاسها وسحبت يدها منه ومسحت دمعاتها ....رفعت رأسها وسلطت عيناها على خاصته....ألقت زرقاويها للورقة المطوية قبالتها.....لفتت انتباهه فشاركها النظرة ذاتها.....نظرتها نظرة مصرة ونظرته نظرة متوجسة ....اسندت جذعها لظهر المقعد وتنهدت تنهيدة حارة أحرقت احشاءها ثم مدت يديها تفتح الرسالة بينما هو كان يغضن جبينه بتركيز وجِل منتظر ماذا يخبأ له في فحواها.....تنحنحت هامسة بصوت ثابت:
" أتريد أن تقرأها ؟!....أم اقرأها أنا ؟!..."

ابتلع ريقه كعادته باحترافية دون أن يلفت انتباهها وأجاب بصوت خرج ضعيفاً رغما عنه:
" تعلمين لا اقرأ دون نظارتي الطبية...."

" صحيح...آسفة ....لقد نسيت.."

قالتها وحرّكت نفسها لتنحني قليلاً للأمام تمسك الورقة بكلتا يديها وهي تعتصر من الداخل والرهبة تفتك بها مما تخشاه وينتظرها...قلبها يخوض سباقاً صعباً على طريق مليء بالمطبات....في جوفها أوجاع تنهش كبدها.....تبسمت ابتسامة مائلة تخفي بها حنينها وندمها عليها وهمست:
" هذه رسالة من خالتي فاتن رحمها الله.....لم اقرأها الا منذ أيام عندما وجدها محيي الدين..."

ترقرقت الدموع النقية كنقائها مجددا في مقلتيها وشدّت على شفتيها كي لا تبكي ثم استجمعت قواها وبدأت تقرأ بتمهل والورقة ترقص بيديها من شدة انفعالها......قرأت المقدمة دون أن ترفع حدقتيها نحوه بينما هو في داخله بدأ يتوقع نسبياً الى اين ممكن أن يصل !!....كان يشتم صاحبتها أبشع الشتائم دون رحمة في باطنه.....وصلت الى جملة.. * أنا ووالدتك كنا نعلم عن والدك وأعماله*... فألقت حدقتيها إليه لتراقب ردود فعله ليصك فكيه بغيظ ويجزّ على أسنانه وتحفزت عروق ذراعه مع البدء بارتفاع ضغط دمه بردة فعل لم يتمكّن من اخفائها...وما إن وصلت الى جملة... * أما والدتك التي لطالما ادعى حبها ذاقت قسوته في ذروتها* ....حتى انفجر صارخاً بكراهية:
" كاذبة تلك الأفعى اللعينة...كاذبة.."

وكوّر قبضته ضارباً بها سطح الطاولة وهو يكمل :
" لا تصدقيها ....تريد أن تفتن بيننا.....أنا لم أؤذها يوماً ولم أعشق سواها ..."

حافظت على تمالكها وعادت تستأنف لتقرأ كيف أجبر والدتها على ادخال اموال مشبوهة لحسابها فأنكر ذلك وهو يخرج كلمات نابية يكذّب خالتها....أكملت فقرة لا تعنيه وليست ضرورية لها الآن....كانت فقرة مشاعر ونصائح.......توقفت عند جملة ترشدها بها أن تعلم الحقيقة من والدها وتسحبها من لسانه ....ازدردت لعابها فهي لا تريد أن تكشف نصيحتها لها فيتخذ الحيطة والحذر بردود أفعاله ويعاند أكثر مكابراً.....رمقته بنظرة سريعة ....تنفست لتتخطى الجملة بذكاء ثم حفّزت كل جوارحها وقرون استشعاراتها لما وصلت للخبر الذي صدمها عند قراءتها للرسالة المرة الأولى..... * أجل حبيبتي لا تنصدمي!...والدك من قتل جدك أقسم لك*.....كيف لن تصدق خالتها هنا وهي من علمتها منذ الصغر أن القسم كذبا حرام عندما كانت تذنب وتتخذ الحلفان ذريعة للنجاة ثم تكشف بعدها كذبتها البريئة ؟!....كانت تشرح لها دينياً حرمة القسم الكاذب وتدعمه... تحكي لها عن صدق والدتها وكيف أنها كانت تكره الكاذبين وأنها ستحزن لو كانت ابنتها مثلهم!! ...خصلة تربّت عليها وطبّقتها في سنين عمرها القليلة وهي الآن سترى صدق قسم خالتها على صفحات وجه والدها لما تنطق بها وقد لمحت ارتجاج حدقتيه الذي لم يسيطر عليه متخذ درع الدفاع شتيمة أخرى مع الانكار بتصميم!.:
" هراء ...هراء.....هي ليست سوى أفعى ساقطة تفتري عليّ "

اكتفت مبدئياً بما لمحت من لغة جسده ولكن في باطنها خناجر الخيبات لا ترحمها وخاصة وهي تسمعه يهين خالتها الغالية بصفاقة واجحاف !!.....لم تعلق على انكاره لما نطقت وتابعت القراءة حتى جملة ....* فقدت وشقيقتي املاكنا جورا ببصمة مزيفة اجبارية فعلها والدك بوالدي*..أطلق ضحكة شيطانية بعد اشتعال داخله قهراً وحقدا وقال مدعيا البراءة مع الثقة:
" يا لها من كاذبة.....جدك كان على حافة الافلاس وأنا من اهتممتُ بكل شيء برضا منه كوني صهره الوحيد.....لقد وكلني بكل شيء ونقل لي ما لديه بكامل قواه العقلية والجسدية....."

وأكمل يدعم نفسه بأدلة ناطقاً بعشوائية واثقاً بسذاجة ابنته وقلة إلمامها بالماضي:
" حتى انه كان هذا في سنة (...).....ولديّ أوراق تثبت ذلك مع توقيعه .."

هي كما هي ...تكره الكذب ولا تستطيع التمثيل....عفويتها تسبق كل شيء .....فلا ارادياً خرج صوتها مرتفعا تكذّب أقواله معتمدة على ما رأت سابقا رابطة الاشياء ببعضها :
" أبي!!....أنا رأيتُ الورقة في خزنة غرفة نومك بعد أن داهمتني الشرطة لأخذ كل ما يخصك حينها!! ...."

اهتز بؤبؤ عينيه خشية فاستطردت بما لديها:
" الأملاك بالفعل انتقلت لك لكن بعد أربع سنوات من تلك السنة التي ذكرت.......ولم يكن توقيع لجدي انما بصمة اصبعه.....وجدي رجل متعلم مثقف لا يحتاج لأن يستخدم البصمة....."

ثم أفلتت يمناها لتطرق الطاولة بانفعال متوسط وهي تستأنف مؤكدة:
" أقولها لك ..السنة التي نطقتها بلسانك الآن هي ليست ذاتها المكتوبة على سند الأملاك... بل ما غفلت عنه.... أن بتلك السنة التي ذكرتها لم تكن صهراً لجدي بعد بينما التاريخ المذكور في الورقة كانت أمي حاملاً بي حينها وكان جدي مقعد لا يغادر سريره ولا يتكلم قبل سنوات من ذلك..."

وألحقت الطرقة الأولى بثانية مع التماع حدقتيها بقهر وخذلان ليعلو صوتها أكثر وهي تقول:
" أي أنه لم يكن يستطيع التوقيع اطلاقا ولا يمكنه اعطاءك املاكه بإرادته ...أساسا لم يكن على الدنيا غارقاً بغيبوبته....ما الذي تقوله أبي.؟!."

ابنته تهزمه؟!...صغيرته أصبحت تستطيع مجابهته؟!....أيسمح لها أن تلجمه؟!!...كلا....سينتصر هو!!.....فردّ مدافعا بتلبّك معترفاً بجزء من خطئه ليظهر صدقه المزيف بعد ان ابتلع ريقه بحركة استطاعت قنصها :
" حسناً ربما خانتني الذاكرة بالنسبة للسنة ولكن المؤكد هو أن هذه ورقة مغشوشة التي رأيتِها....ليست نسخة أصلية.....ربما خالتك جهزتها لتتهمني وتدعم أكاذيبها..."
" أبي......الورقة في غرفتك.....خالتي لم تقترب يوماً لجهة جناحك.....وجدتها أنا بعد ذهاب الأفعى زوجتك سوزي مباشرة .....والأهم من كل هذا....الورقة وثيقة رسمية أصلية مئة بالمئة عليها ختم الدولة ورمزها الأصلي....الذي لا يمكن التلاعب به أبدا ولا تزويره.......ويمكنني اخراج نسخة عنها من الجهة المختصة لو أردت "

كلماتها كانت واثقة والدموع المنهارة على خديها حارقة.....تبكي نفسها ...وتبكي خيبتها بوالدها الذي انكشفت احدى اكاذيبه....والدها الذي رغم صرامته وقسوته سواء معها أو مع غيرها لم تضعه يوما في خانة الكاذبين!!.......ومع ذلك لن تحكم عليه وستتابع رسالتها للنهاية وها هي تتوقف عند أهم نقطة تجمعني بها... * والدك خان الوطن ...وقتل والد زوجك* ....لم يرفع راياته بعد مؤكدا على اتهاماتها معترفاً بها إنما أشهر سلاحيه ...الأول الصراخ:
" أوغاد....هذه تهم لا أساس لها من الصحة "

ليلحق بالثاني الهروب!!....نهض بعض صراخه وولّاها ظهره متوقفا مكانه وهو يتمتم بفحيح حزين ليكمل العزف على اوتار قلبها الرؤوف :
" كذب...كذب.....يغارون مني ...أنا لم أخن وطني....ولم أقتل أحداً..."

وثَبَت من مكانها كلبؤة جريحة واختنقت الكلمات في حلقها ليتبعها انسكاب العبرات على وجنتيها وهي تهتف:
" وماذا عن.... عشيقاتك يا........ أبي؟!..."

تخلخلت في أرضها وشعرت بدوار رهيب يفتك بها كأنها ستفقد وعيها فاتكأت في الحال بكفيها تسند نفسها على سطح الطاولة مع ازاحة رأسها جانبا لا ارادياً ليس من ثقل الاتهام الذي نطقت به إنما بعدما غدرها بصفعة دوت على وجهها بغتةً كالصاعقة تُحفر على خدها من شدتها باستدارة وحركة سريعة منه هادراً بها بقسوة:
" أيتها الوقحة!.. ..عديمة التربية......كيف تسألينني هذا السؤال؟!.."

وأشهر سبابته مهددا ومتوعداً ليلجم كلماتها متابعاً بصرخاته القاتلة دون أن يرأف بحالها:
" الذنب ذنبي أنني قبلتُ الاستماع لك بما تحملين معك من هراء وتدليس .....هل تصدقين ورقة وتكذبين والدك؟!........إياك أن تعيديها مرةً أخرى والا لن أسامحك!!.."

لفظ هذه التهمة كان صعباً على لسانها وثقيلاً على نابضها الصغير وهو لم يقصّر باستخدام قوته عليها التي يبدع بها وقد ظنّ أنه فلح بلجمها !!...ألم يستوعب أنها جاءت هنا لأن لا خيارات أخرى لديها ولا بدائل فعليها السير بإحدى الطريقين مجبرة... إما طريق العيش الكريم لابنها مهما كلّفها وإن كان على حساب نفسيتها وجرح كرامتها أو موتهما المحقق في الحياة؟!...أي أنها لن تخاف خسارة أكثر مما خسرت !!....وصفعته هذه لم تكن أشد إيلاماً وقسوة عليها من الصفعات التي تلّقتها من الحياة!!....اقترب الشرطي الواقف جانباً ليتدخل بعدما شاهد ما جناه والدها بها فرفعت يدها بتحدي تبسطها بقوة لتردعه وهي ترميه بجمرة ملتهبة من عينيها غير مهتمة لألمها وموقفها المحرج ولمّا استجاب عائدا أدراجه متفهما أعادت وجهها للمعني ومزّقت حبال لجامها وعلت كلماتها بصوتها المطعون وجعاً منه وحسرةً على حالها :
" أخبرني عن عشيقتك التي زارتني بعد القبض عليك تطالب بحقها وحق ابنها الذي أجبرتها على اجهاضه؟!..."

وصرخت من قعر الألم:
" أخبرني عنها هيا...ولا تنكر"

برقت عيناه بحقد تفوح منه رائحة الهزيمة وهتف محاولاً جذب استعطافها بمحاولات مستميتة يحافظ بها على ماء وجهه عسى أن يرد اعتباره عندها:
" أي افتراءات هذه التي اسمعها من ابنة قلبي..؟.."

ثم وضع يده على صدره كتمثيلياته السابقة ليدّعي وجعا ألمّ بقلبه واستند بيده الأخرى على الطاولة يريها ضعفه الجسدي وكمش ملامحه يرسم أنين مزيف لروحه ولأول مرة لم تتأثر رغم طيبتها ولم تتزعزع ثقتها ولم تتنازل عن إصرارها مثبتة كل ذلك عندما أردفت بصوت محترق أليم تدلي دلائها بينما دموعها الساخنة تهرول على خديها تحرق المكان المحمر إثر صفعته :
" كانت معها ورقة وأنا لم أصدقها ولم انظر إليها وهددتني ستفضحك ولم أهتم ....لكن يمكنني عند العودة لتلك البلاد إيجادها مع أوراقها لنرى الصدق من الكذب وحينها سأعود لك.....أما أنت داخلك الآن تعلم الحقيقة علم اليقين.."

ورفعت الورقة مرة أخرى قبالته وقالت وهي تهزّ يدها تقطب حاجبيها بنظرة استنكار وتحدٍ تشع ألماً:
" وليس هذا فقط.....هنا في هذه الورقة أخبرتني خالتي أن صورك مع العشيقة التي في سن ابنتك موجودة مع السيدة إيمان ويمكنني رؤيتها متى وددت...."

وطأطأت رأسها باستضعاف محطمة لتهمس بخفوت مضيفة:
" حتى أخبرتني أن....أنه هو ....يعني....ها....هادي....من منع نشر الفضيحة آنذاك حفاظا على مشاعري..!!..."

لم يعد يقوَ على الاستماع لاتهاماتها ...ليس لأنه بريء وجرحت كرامته ...بل لأنها زادت من نثر الملح على جراحه فيكفيه ما فقد من أمل صباحاً والذي هدّ معنوياته لتلحق بذلك لقاءها الذي لم يحسب حسابه أبداً....انهارت حصون قوته وتشبث ببقاياها....فأخرج كلماته قبل أن يعود ليدبر عنها:
" اخترتِ أن تصدقي الأفعى وتتباهين بأفعال الوغد زوجك الذي استخدمها ليخدعك ....ووالدك لا قيمة لكلامه عندك!.....أنت حرة ....ألّــــمى..."

نطق اسمها مشددا على نصفه وعزم على الرحيل يسير بخطى سريعة فخرجت من خلف الطاولة بهمّة تلحق به حتى اجتازته تقف قبالته تسند ظهرها على الباب الفاصل بين الغرفة والممر المصنوع من لوح حديدي حيث يتواجد الشرطي المسؤول عنه وتفرد ذراعيها كأنها تمنعه من الخروج وقد كانت في قلبها تميل ميلاً شديداً لصدق كلمات خالتها إنما تريد سماعها منه كي تتيقن من عدم ظلمها له أبداً وهمست تناشده باستغاثة روح محصورة داخل حريق:
" أبي ...أرجوك......انقذني يا أبي وقل لي الحقيقة .....!.."

ابتلعت ريقها تجاهد للاستئناف بتحقيقاتها :
" هل....هل.....زوجي.....قال لك حقاً أنه لا يريد طفلاً مني ولو كنت آخر امرأة ؟!....هل قال لك حقاً أنه لو علم أنني حامل سيجبرني على اجهاضه؟!.....لأننا....نحـ.....نح� �ل دماؤك.؟؟"

ظلّ صامتاً لم ينبس ببنت شفة وظلّ صامدا كصنم لم يتحرك قيد أنملة فمدّت يدها بوهن ومياه عيناها تحولت لمياه بركانيه تحرقها لتمسك يده وتضعها على رأسها راجية بوجع وهمس مرتجف:
" أبي ....لطالما جعلتني أغلى الناس عندك....لطالما اقسمت بحياتي.......وأنا واثقة أنني كذلك يا أبي.....اقسم بحياتي أنه قال لك هذا ؟!..."

سحب يده عن رأسها بغضب ورفع حاجبيه بتغطرس آمراً الشرطي :
" افتح الباب وأعدني لزنزانتي.....انتهت الزيارة..."

شحنت قوتها وصلّبت جسدها تستعيد اتزانها وهتفت للشرطي متوسلة:
" كلا أرجوك لا تفتحه.....لم ننتهي بعد!!..."

مسكها والدها من ذراعها وأزاحها من طريقه بين اللين والقسوة واستدار يواجهها بحزم:
" عودي الى بيتك وابنك.....لا تحرقي طاقتك عبثاً...."

انقضّت عليه تمسك عضديه بكفيها الرقيقين تستأنف رجاءها بنحيب :
" أبي ....أنا لا بيت لي ولا مكان......سنتشرد...لم يبقَ لنا شيء وخالتي سهيلة تتقدم بالسن وصحتها تتراجع.... لن تستطع رعايتنا طول العمر.... لا ذنب لابني أن يموت معي....أرجوك يا أبي......أريد أن أسمع الحقيقة منك لأعرف كيف أتصرف..."

وتغيرت نبرتها تشجعه:
" سأسامحك أبي مهما كانت الحقيقة...سأسامحك...صدقني!..... لكن أنا هنا ليس لنفسي.....فمثلما كنت دوما تحميني اسمح لي أن احمي ابني!!....."

وجعها لامس قلبه لوهلة ...نبرة صوتها وتوسلاتها وهوانها حرّكا أبوّته قليلاً فقال وهو يمسك عضديها مثلما تمسكه ويطبطب عليهما بحنو دون اكتراث لأصل كلامها:
" كفى لوما....أنا تعبت وأنتِ تعبتِ......اذهبي الآن ...ربما يعود لكِ عقلك وتعودي نادمة لتعتذري عن كل هذا وسأسامحك حينها....لكن اذهبي الآن...."

خارت آخر قواها بعد أن استنزفت كل طاقتها معه فجثت ازائه تلقي نفسها عند قدميه يائسة قانطة يتملّكها الجزع... والقهر يطعنها ولم يتبقّ ذرة في جسدها إلا وطالها من الألم ما طالها ثم تشبثت بساقه متوسلة حد الهلاك وهي تنشج بحرقة ونشيجها يهز جدران المكان:
" أبي.....أنتَ طوق نجاتي من الدوامة التي أنا بها......أتوسل إليك أن تحكي لي الحقيقة ....لا تخسرني يا أبي......إن خرجتُ أنا من هنا دون كلمة صادقة منك قسما لن أعود...ولن تجد من يسأل عنك ولا أن يترحم عليك بمماتك!!...أنت ترى كم أنت وحيداً وزوجتك لم تتنازل لتتصل بك اتصالاً واحداً حتى...لم يبقَ غيري لك فلا تقتل أبوتك عندي......أعدك سأسامحك ولن أتخلّى عنك مهما كانت الحقيقة .....سأزورك كعادتي وسأتواصل معك ......لا تقطع آخر رباط بيننا......أبي افعل شيئاً عظيماً في حياتك افتخر به كوني ابنتك ويرتاح ضميري ....ولا أعظم من الصدق يا أبي.....صدقك معي سيكون جائزتك ونجاتي ....قسما يا أبي لا أرجو هذا لي ولا لصديق أو عدو إنما كل هذا لذاك البريء الصغير الذي لا ذنب له من كل حكايتنا ...لا في الماضي ولا الحاضر ولا المستقبل......افعل خيراً له لأفخر بك طول عمري حتى القط آخر أنفاسي...."

كانت منهارة بكامل جسدها الهزيل الذي يرتعد مع كلامها وأنين روحها... تمسك ساقه تتكئ برأسها على ركبته وقطرات سماءيها العذبة الطاهرة تنحدر ساقطة على حذائه ولم تحس بالدمعة الصادقة الأولى التي نزلت من عينه لتستقر على حجابها !!.....بقيَ صامتاً كأن قوة خارقة ابتلعت لسانه وشريط حياته الرخيص يمر من أمامه سريعاً لم يجد فيه حسنة تدعمه....ولمّا لم ينطق بحرفٍ واحدٍ فقدت آخر آمالها وأضاعت طوق نجاتها وقررت الانقياد والخنوع لشقائها وبؤس مصيرها تاركة كل شيء لمقاليد القدر فأفلتت ساقه واتكأت بكفيها أرضاً وشهقاتها تهزها هزاً حتى نهضت واقفة بانحناء وكتفين متهدلين ونكست رأسها تشيحه جانباً تبعد عيناها عنه وكفكفت دموعها بظهر كفها ثم جرّت قدميها بتلكؤ وتراخٍ تتجه نحو الخروج دون أن تودعه وشهقات نحيبها تلازمها وهي تتمتم كلماتها بهذيان:
" لن أسامحك"
" لن أعود"
" قتلتَ أبوّتك عندي.."

كانت روحها مهشمة وقلبها مكلوم ومشيتها منكسرة.... لم يستطع ابعاد نظره عنها يراقبها ويعيد قسمها الذي أقسمته قبل قليل وهذيانها الذي تعيشه الآن بعقله ...بأنها ستقطع رباطها معه... ولن تعود... وهو يعي أنها تقوم فعلا بقسمها فابنته البريئة لم تنخدش يوماً لا عفويتها ولا صدقها!!...واصبح يفقه هذه الثانية أن لحظة الحقيقة ستنجلي فلا خلاص ولا مناص منها...كان يفكر ماذا يقرر بينما صورتها الخاوية من معالم الحياة النازفة بالوجع المحطمة كلياً تبتعد عنه شيئا فشيئا وهنا تسلل خيط رفيع ليخفق خافقه خفقة قوية تفيض عطفاً فيلحقها بتنهيدة عجز رديئة لتتحرر دمعة عصية احتجزها اجباراً فيهمس همسة لم يكن صادقاً يوماً بمثلها :
" سا....سامحيني صـ...صغيرتي......أنا أعترف بذنوبي كلها ...فاشفعي لي بقلبك النقي الكبير...."

لقد آن للمتجبر أن ينكسر ولطغيان الطاغي أن يضعف وللظلم أن يزول مهما طال الزمان أو قصر...فنحن نعيش تحت رحمة الله ويبقى هو الحكم العدل والمنتقم الجبّار......
{{ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ۖ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا }}

أجل وعزة الله... قد خاب من حمل ظلماً....!!...

~~~~~~~~~~~~~~~~~~

وصلنا العاصمة وتحديداً السجن الأمني المركزي بعد ساعتين وعشر دقائق ....أوقفتُ سيارتي بمكان مناسب ثم ترجّلتُ منها حاملاً بندقية أبي (عهد) وسرتُ بخطى واسعة صلبة أتميز غيظاً وصديقي يوازي خطواتي فوضع يده على كتفي يوقفني قائلا وهو يشير لجانب البناية:
" اتبعني....لن ندخل من المدخل الرئيسي كي لا تثير بلبلة بغنى عنها أمام الناس .....سندخل من باب جانبي لا يدخله إلا مسؤولي السجن لي علاقة متينة مع حراسه...."

اومأتُ موافقاً وتبعته رغم أن منصبي رفيع المستوى يؤهلني ليفتحوا الأبواب أمامي دون سؤال او جواب فالجميع يعرفني كرمز للدولة ويحفظ شكلي وعليهم الامتثال وإطاعة أوامري ..لكن لا ضير باستخدامه لعلاقاته المقربة فمن الممكن أن ينفعنا هذا أكثر من الرسميات بما أنني لستُ بمهمة رسمية !! ...سرنا الى حيث أشار ولما وصلناهم وقفوا متأهبين احتراماً رغم عدم ارتداءنا زيّنا الرسمي ليلقوا التحية العسكرية علينا لا يعلمون نوايانا....فتحوا الأبواب لنا بسلاسة!!....دلفنا وصعدنا السلالم لطابق آخر وتنقلنا من رواق لغيره فوجدتُ نفسي أمام غرفة واسعة بابها الأول من قضبان حديدية والباب الثاني مثله يقابله يدخل منه زوار السجناء من الجهة الأخرى والثالث من لوح حديدي يفصل بينها وبين الرواق الخاص بقسم الزنازين يقف عنده في العادة رجل شرطة الذي يتولى إيصال السجين المنتظر من هنا لزنزانته والعكس .....كانت الغرفة خالية من السجناء وذويهم فهذا الوقت المسائي نادراً ما يكون به زيارات وقد وصلنا مع انتهائها لزيارتها له وخروجها...حتى أظن أنها هي...أي تلك المدللة... من أنهتها !! .... تملكتني كراهية فائضة لما تلطخ بصري برؤيته مدبراً يولينا ظهره يريد الخروج من غرفة اللقاء ويمسك به ذاك الشرطي المسؤول عنه.....تلك الكراهية أشعرتني بأن المكان مليء بالشياطين ويقطر نجاسة من كل مكان فزلزلت الجدران وأنا أمسك ضلع الباب أهزه بعدوانية صارخاً بزئير :
" توقف..!!"

بحركة مماثلة استدار هو والشرطي وكان وجهه في البداية شاحباً عليه علامات ذل وقهر لا أعرف مصدرهما ولما رأى وجهي أسودا قاتما يعكس بعينيه موته أصابه الهلع وتسارعت نبضات قلبه رعباً!!.....قطبتُ حاجبيّ بتركيز مشحون بالحقد ورميته بنظرات كفيلة أن ترديه صريعاً في مكانه ثم صوّبتُ البندقية نحوه من خلف القضبان وجلجلتُ كالرعد هاتفاً بتعالي:
" أمثالك لا حق لهم بالتنفس في هذه الحياة...خسئتَ وخسَأَ عمرك الذي أمضيته تتغذى على النجاسة والحرام.....كان عليّ فعلها يوم الإمساك بك....لقد تأخرتُ وآن الأوان لأنهيك عن الوجود يا حقير....."

ما إن أنهيتُ جملتي ساحباً زلاقة البندقية لأطلق رصاص سخطي وعداوتي حتى وصلني صوتها الراجي المرتجف لحظة وصولها للباب الآخر :
" هادي يا بنيّ......أرجوك لا تفعلها برضاي عليكَ......إن فعلتها لن تكون ابني !...."

لا أعلم كيف سمحوا لهم بالدخول إلى هنا...لا أدري كيف أقنعوهم....اندهشتُ من وجودهم ازائي على بعد أمتار مني فبعينين محتقنتين بدموع الحسرة والغيظ هتفتُ ناظراً لنبض الحياة وحركتي بالبندقية ما زالت كما هي:
" أمي أنا الذي أرجوكِ....لا تمنعيني عنه..... ولا تحرميني رضاكِ..."

بإصرار وشموخ رمقته بنظرة استصغار واحتقار وقلبها يقطر حزناً على حبيبها الذي حرمها منه وكان هو ينظر إليها بتيه دون معنى ثم صوّبت حدقتيها نحوي هاتفة بقوة اختلقتها:
" بنيّ.....أنت بموته سترحمه من عذاب الدنيا....عذاب الآخرة ينتظره إن مات اليوم أو غداً فالله لن يضيع حق مظلوم وسيقتص من كل ظالم.....حسبنا الله ونعم الوكيل فيه وبأمثاله.....لا تلطخ يديك بدماءٍ نجسة أولاً ولا تقتل أعزلاً ....فهذه ليست من شيمك ولا شيم اسلامنا ولا هكذا ربّاك والدك ثم من مثله لا يستحق أن يموت بسلاحٍ شريف مكانه وعزّه في ارض المعارك الحقيقية .....أما الظالم الماثل أمامك كلّما عاش هنا بهذا المكان الوضيع أكثر كلما ذاق العذاب أكثر ...اتركه فليذق العذابين....هو لا يستحق أن يكون خبراً في الصحف .....سيموت ميتة ذليلة داخل هذه الجدران الكئيبة ولن يذكره أحد ولن يجد من يترحم عليه .....الله يرضا عليك يا ولدي.....اتركه يتجرع الويلات لوحده وربما يبعث الله له أضعف خلقه يقتله كما النمرود...."

أنهت خطابها فأخرجتُ صيحة من أعماقي تزامناً مع إطلاق رصاصاتي من حوله أصيب الحائط من خلفه محدثاً به ثقوب جمّة وهو ينحني يحاوط رأسه بذراعيه ذعراً يحاول حماية نفسه وروحه الغالية متمسكاً بالحياة والشرطي يقف جانبا يشاهد بصدمة دون أن يتحرك قيد أنملة....كنتُ افرغ غلّي واهتياجي بطلقاتي ولما لم يتبقَّ ولا رصاصة امسكتها بيميني ثم خلخلتُ الباب بيساري هادراً بالشرطي:
"افتح الباب....هيا افتح لي..."

لم أكن أسمع الا صرخاتي بعد رصاصاتي وأنا أكرر طلبي ولما انصاع لأمري دفعته جانباً وهجمتُ على الخسيس ثم أمسكتها من فوهتها وضربته الضربة الأولى الأقوى من مؤخرتها ليقع طريحاً أرضاً ثم التفتُ خلفي ولما رأيت (سامي) يلحق بي ألقيتها له ليتلقفها بطلاقة واعتليتُ جسده الملقى أرضاً منقضاً عليه حاملاً سنين قهري وحقدي وكل ما أحمل باطني منه وعليه وشرعتُ بلكمه لكمة تلو لكمة حيث تقع يدي أتبعها بشتائم لا تحصى ...كنتُ ألهث غضباً وهو يلهث خوفاً ووجعاً....تورّم وجهه وتغيّر شكله والدماء تنزف من أنفه وفمه ...كان يئن كالذليل ويحاول ازاحتي من فوقه والمقاومة رغم هوانه ...ضعف قدرته.. وانكسار شوكته... بينما أنا أضع كل ثقلي وكرهي عليه ...فما هي قوته الرخيصة مقابل قوتي المدججة بكبريائي وأخذ حقي... وما غضبه مقابل غضبي...يكفيني أنني المظلوم وهو الظالم لأخرج كل ما لديّ عليه !!....كنتُ أهدد صارخا :
" هيا أرني قوتك....لأريك من أكون "
" هيا انهض وقاتلني يا نذل.."
" أم قوتك في غسل دماغ ابنتك؟!"
" أنا من تفتري على لساني يا ***"
" أنا من تحرمني طفلي يا عديم الشرف.."

" هادي يكفي....سيموت بين يديك"

كنتُ مستمراً بشتائمي وتهديداتي يصاحبها لكماتي ولم أعر اهتماماً لمن وصلوني من الشرطة يحاولون سحبي عنه ولا لصديقي الذي يقف جانبي ناطقاً جملته تلك!!...لكمة أخرى كانت ستكون فاصلة لأدخله بغيبوبة لن ينهض منها....امتنعتُ عنها....ليس استجابة لمطالبهم ولا ضعفاً ولا حتى لسماعي صوت (بلال)و(أحمد) اللذين يقفان جانب والدتي الباكية من تهوري وانفعالي يحاولان تنبيهي عن وضعها!! ...بل في اللحظة التي كنتُ القط بها أنفاسي لأسدد لكمتي وصلني صوت يأتيني من خلف الحائط الفاصل بين هذه الغرفة وغرفة الانتظار....صوت جمّد عقلي ورفع وجيب قلبي وزلزل وجداني ....بكاء طفل صغير أرهبته أصوات الرصاصات والجلبة في الداخل!....أي خفة كنتُ بها ناهضاً مستقيماً في ارضي؟!...أي ابتسامة ارتسمت على ثغري يصاحبها دموع حبيسة تسقي تراب عينيّ ؟!....نادى طفلي فاستجابت له دمائي وكل ذرة تخصني مليئة بالتلهف والحنين لذاك الكائن البريء الغائب عني.!!...الغائب عن حضن أبيه الذي بروحه يفديه ومن عمره يعطيه !!.....أبيه الذي تمنى أيام وليالي أن يحصل عليه فنزل له كهبة من السماء من حيث لا يحتسب!!...." أنا قادمٌ إليك يا صغيري..."........توجهتُ مسرعاً للباب الذي يقف خلفه صديقيّ وأمي وهتفتُ مناديا على الشرطي المسؤول ليفتحه لي ....اقترب مني رجال الشرطة ليمسكوا بي يمنعوني فنهرهم الأشقر هاتفاً:
" اتركوه .."

قال أحدهم:
" سيدي لا يمكننا التغاضي عما فعل والقانون يطبق على الجميع حتى لو كان رئيس الدولة ..."

رد واثقا بهدوء:
" سيأتي لاحقا للتحقيق والإفادة ....اطمئنوا لن تعلّموه واجبه...."

وابتسم ساخراً متابعاً:
" بدلاً من محاسبته اذهبوا وزجوا المجرمين الذين يسرحون في الخارج بالسجن.....هو كان يأخذ حقه فقط...لم يرتكب جريمة ولم يعربد ظلماً.....كان على المحكمة الحكم بإعدام الوغد أولى!! ....فوجوده زائد على الدولة وخسارة لها....أكل ومرعى وقلة صنعة....اضِف اغراقنا بنجاسته فوق ذلك...."

رفع يده محاذاة جبينه وضرب الأرض بقدمه قبل أن يأمر ذاك المسؤول بفتح الباب قائلا:
" أمرك سيدي.."

خرجتُ مندفعاً مجتازاً الواقفين ووصلتُ لباب مفتوح يفصلنا عن غرفة الانتظار ....أغمضتُ عينيّ وتنهدتُ بعمق أعيد ضبط أنفاسي وابتسمت ابتسامة لا ارادية جانبية وقلبي يدق لهفةً وشوقاً رغم سماعي بكاؤه بوضوح أكثر... البكاء الذي يجعلني أعطف على هؤلاء المخلوقات الصغيرة...وكيف إن كان من لحمي ودمي...من صلبي ويحمل اسمي؟!.....قطعتُ الباب وإذ بصديقتها (ميار) تُقبل من جهة الحمامات تحمل طفلاً بصعوبة تسيطر عليه ....وجهها اتجاهي والطفل يتململ باكياً يوليني وجهه!!....كبحتُ تقدمي ثابتاً في أرضي وهي بُهتت ملامحها لما رأتني وتسمّرت مكانها كأنها رأت شبحاً أو نفثت في وجهها أفعى!...ابتلعت ريقها واستدارت تنظر للخلف راجية في نفسها أن تلحق بها صاحبتها كي تسلّمها الأمانة التي معها قبل انتزاعها غصباً منها فبردة فعلتها غير المقصودة أضحى وجه الطفل قبالتي!!....كانت ملامحه منكمشة وعينيه منغلقتين ولونه محمر من شدة صراخه ونحيبه!!...صمت برهةً يستعيد أنفاسه ليتمكن من اكمال بكائه وما إن ارتخت تقاسيم وجهه وغدا صافياً حتى اتسعت عيناي بذهول وضياع لحظة اختراق حدقتيّ الترابيتين لحدقتيه السماويتين وإدراك هويته لأهمهم من فوري بتمهل وصوتٍ خفيض مشدوه لن يسمعه أحد:
"لا أصدق....... موهي!!!....الطفل الذي قابلته بنفس المكان منذ قرابة شهرين ....ذو الوجه الملائكي.....هو.....ابني.....محي� � الدين؟!.."

توقف بي الزمن ليوثق أشد لحظاتي ألماً وأملاً وتوقفت معه كل نبضاتي!! ..ثم دار الكون من حولي.....أريد أن أتقدم بل تمنيتُ أن أكون طيراً أحلق سريعاً فأعانقه ثم أخبئه تحت جناحي ولكن قدماي ثابتتان بأثقال القهر ولم تسعفاني...ناظرته فارتسمت بسمة تلقائية حنونة على تقاسيمي ودموع الأبوّة المشتاقة التواقة تتكدس في عينيّ...كان متوقفاً عن البكاء يتفحصني فضولاً فأنا لم أكن عنده سوى الغريب الذي لا يعرفني !!.....أيا ترى هل يتذكرني؟!....هل دماغه الصغير صوّر له لقاءنا فيما مضى وعرفني؟! ....رجوتُ أن يعرفني واستجابة رجائي في عمره تعني محال.!!...لمحتُ ابتسامة جانبية بريئة لاحت على ثغره الوردي ليتململ عقبها فوراً يشيح نظره عني ملتفتاً خلفي جانباً عند لحاق بعض ممن رافقوني بي... يحدق بهم وبوجوههم الجديدة عليه!!....كانت تلك الابتسامة الدافع لأحثُ قدميّ على التقدم بعد أن أشرقت الحياة في قلبي.....كنتُ واعياً أنني يجب عليّ التصرف بحكمة وشكل صحيح كي لا أرعبه رغم أن سيوف الشوق تذبحني لانقض عليه باندفاع وإقدام واعتصره على صدري اشتياقاً وحنيناً.!!....ألقت التي تحمله نظرة خاطفة على الذين أتوا خلفي ولم تستطع التعرف عليهم لكنها خمّنت صلتهم بسبب وجود امرأة تراقب ووجهها شاحب قلقاً وقد أصابت في ظنها بأنها أمي ثم أرجعت حدقتيها المهتزتين إليّ ورأت تقدمي نحوها بهدوء فشرعت بالعودة للخلف بذات الهدوء....أتقدم فتُبعِد ....أتقدم فتُبعِد....عيناها متسعتان رهبةً وأنفاسها متعاقبة توتراً ....ويداها تتشبثان به دفاعاً......انتباهي لنواياها بالهروب ومحاولتها منعي عنه أشعل فتيل كمدي فرمقتها بعينيّ المقتولتان غدراً والقاتلتان سخطاً مع رفعة حاجب بصورة حادة كتحذير لها بأن تتوقف وقد أدّت صورتي القاسية تلك لتسارع دقاتها وجلاً وهي ما زالت ترجو داخلها أن تأتي صاحبة الأمانة لتتولى بنفسها المهمة...!!....وصلتها أخيراً فاستقرت في ركنٍ قريب بعد أن أضحى الحائط خلفها كالسد المنيع وأنا أمامها فهدٌ صريع ....مددتُ يديّ برفق أحرك أصابعي كإشارة للمناداة عليه وأظهرتُ ثناياي باسماً بحب شغوفاً للمسه مع همسات أبوية رقيقة تلائم رقة وجهه الملائكيّ وما زالت العبرات حبيسة مقلتيّ وأنا أميل بجذعي صوبه:
" محيي......محيي الدين.....ملاكي الصغير......قلب بابا......تعالَ عندي....."

طوّقَته أكثر بذراعيها تلتصق بالحائط حتى كادت تندمج معه من شدة التصاقها فتصبح لوحة تزينه وبصوت مختنق خوفاً قالت:
" كلا....لا أستطيع.....انتظر ..حتى تأتي أمه..."

استقمتُ بوقفتي أشيح وجهي جانباً مغمض العينين زافراً أنفاسي مناشداً الله أن يلهمني الصبر ومغمغماً:
" اللهم صبراً .....اللهم صبراً "

لأعيده في الحال إليها بأوداج منتفخة اصك فكيّ بغيظ محاولاً أن أتمالك نفسي هامساً من بين أسناني بنفاذ صبر مع مد يديّ نحوها.!!.....فكان هذا ما ينقصني أن انتظر موافقة تلك المخادعة الغائبة عن الأعين :
" أعطني الولد حالاً دون شوشرة ..."

ما إن أنهيتُ جملتي الآمرة حتى انحنت قليلاً بخفّتها تتخطاني مبتعدة هاربة ترمقني بنظراتها المرعوبة وهي تخطو للخلف متشبثة به بتملّك تأخذ حذرها مني حتى ارتطم ظهرها بشيء فأجبِرَت على التوقف.!!!....أحسّت أن نابضها سيتوقف مع توقفها ..!!....هي اصطدمت بجسد صلب مؤكد..!!....لكنه ليس بصلابة الحائط!!.....شيء به حرارة وله روح ويرسم ظلاً حولها..... و.....حانت منها التفاتة طفيفة لترى سبب توقفها فلم ترَ إلا سواداً حالكاً أمامها بسبب قصر قامتها ...يحجب الطريق عنها...ابتلعت ريقها بعد أن سحبت هواءً اختلط به شيئاً يزلزل وجدانها ....عطره الصاخب الذي لن تخطئه!!....وقفته الشامخة لن تتبدل والملابس هي ذاتها التي رأته بها!.....رفعت رأسها بتمهل فعانقت عيناه عيناها ....كان عناق فحميتيه عناقاً حاراً يقدح شرراً...نظرته ذاتها ...أي النظرة الأخيرة القاتلة التي تركته بها وقت الظهيرة بعد اجابتها على سؤاله!!..بينما عناق بنّها كان بريئاً بدفءٍ لذيذ يرجو استغاثة!!....بعجزٍ جليّ دمعت مقلتاها....دمعة تحرر بها شيء من خوفها ودمعة أخرى تنادي بها نداءً صامتاً الماثل أمامها بأن يلقي لها طوق نجاتها لينقذها من بركان الغضب!!.....كيف زارها الأمان على حين غرة مع أن نظراته غير مبشرة؟!...أنزل عليها من السماء كغيثٍ يسقي السكينة في قلبها؟!......فرغم ما عاشت في النهار معه من مشادات ورغم اجابتها الباردة التي خرجت منها بغباء دون تفكير وليست كما أرادت فعلاً أن توصلها له والتي تدرك تماماً أنها أشعلت حنقه عليها وخاصة بعدما رأت بروز عروق عنقه وقتها واشتعال حدقتاه دون همس منه ثم تبعها فتح الباب لها بهدوء مغاير لأعاصير اللهب داخله لتخرج من عنده دون أي تأخير ولا تعليق إلا أنها بهذه اللحظة وهذه الساعة الحاسمة بالذات فضّلت أن تحتمي تحت أنقاض الزلزال ذو الغضب المعلوم لديها بدلاً من أن تحترق ببركان غضبي المجهول عندها والذي لم تشاهده يوماً فهمست له بشفتين شبه مرتعشتين دون تكليف بينهما بكلمات لن يسمعها سواه :
" أحـ....أحمد....لا يمكنني اعطائه له من وراء أمه.....أرجوك قم بتهدئته.....إنه مخيف..!!..."

قالتها واتخذت جانبه تتحصن به ..لا تهتم لذاك الشرر بعينيه.!!.... فناره تبقى جنتها والبعد عنه يعني الفناء..!!... تقف شبه ملتصقة بكتفه ليصبح وجهها ووجهه ازائي ففاجأها يرفع زاوية فمه بابتسامة ماكرة يشبك ذراعيه وراء ظهره بثقة متفجرة وتعالٍ مصطنعٍ ثم مال قليلاً بجذعه الى جانبها يقترب من أذنها هامساً ليسخر منها نافثاً أول شراراته الباردة :
" أين قوتك تلك وأنت تنعتينه بأبشع الصفات؟!...هل ندمتِ على كشف الحقيقة؟!....... ردي لأرى آنسة...... ميار"

سكت سكتاً يسيراً بينما كانت هي تقلب كلامه وما نعتتني به بعقلها لتتململ متحفزة بعد أن أكمل بنبرة آمرة يشوبها استهزاء فيُلقي بها شرارة أخرى أكثر من أختها بروداً :
" الأكيد أنه لن يأكله !!.....لكن لا أعلم ماذا يمكنه أن يفعل بكِ بحالته هذه....أو مثلاً.... لو أخبرته أيضاً أنك ترينه عديم رجولة !!....لذا...... اعطه ابنه حالاً... ولا تُسببي لنفسك مشكلة عويصة...."

شيخها يبغض النميمة ونقل الكلام....إنه يتلاعب بها ....هي تدرك ذلك !!...ومتأكدة أنه لن يأتها ضرر!!...منه على الأقل!!... فحسب تلك الابتسامة الخفيفة الفتاكة لقلبها والتي تلوح على ثغره وقد اصطادتها صدفةً بدا لها أنه مستمتعاً بدهاء شامتاً بصورتها وهي تشبه القطة الخائفة فواجهته هامسة باعتراض دون التركيز على كلامه كله وقد خرجت همستها كهمسة فتاة مسكينة لا علاقة لها بها ولا تعلم كيف تلبّستها بينما ما زالت مستمرة برفع التكليف بينهما :
" أحمد....لا استطيع....صدّقني!!.....مؤكد سيأخذه ويحرمها منه......صورته لا توحي بغير ذلك.....لن أغدر صديقتي ....فلينتظر.... هي آتية بعد قليل...."

ثم التفتت فزعة لما هدرتُ بها مهدداً بعد مكوثي قبالتها دون أن تحس:
" ميار!!.....اعطني ابني بهدوء قبل أن أهدم المكان فوق رؤوس الجميع....."

خطى نصف خطوة بقدمه بعزةٍ واحتجاج محاولاً أن يحول بيننا ومدّ يده لكتفي يضعها بثبات وملامحه الوسيمة متأهبة بشهامة كدفاعٍ صريحٍ وهتف بصوت راكز وجدية تظهر أنه يدعمني بها كصديق إلا أنها كانت بالأكثر ليوقفني عن ثورتي واثقاً بنفسه... حماية منه..!!.... للتي بجانبه:
" على مهلك يا هادي....اهدأ......ستأخذه بالتأكيد......لا حاجة لكل هذه العصبية !!...ما بك؟...."

ولما رأيتُ تمسّكها به بعناد واضح دون ردا لفظيا منها لم أنتظر ولم أعِر جملته التي قالها اهتماماً ولم أعطِ أيٍ منهما فرصة للنقاش بل استجبت لفوران دمي بعدما طفح الكيل عندي من جنون الاشتياق فانحرفتُ قليلاً بجذعي اجتازه وانتزعته من بين يديها انتزاعاً لطيفاً مني خفيفاً عليه محاولاً أن أرخي ملامح وجهي وأرسم ابتسامة مزيفة وكله من أجل الصغير كي لا ينفر مرتعباً إلا أنه شرع بالبكاء يمد يديه نحوها لأنه معتاداً عليها ولم يكن يعرف أحدٌ غيرها ....!!......حاولت هي مجابهتي بتحدي جريء وإصرار لكن اليد الصلبة الحديدية التي قيدت ذراعها النحيل ردعتها عن تهورها واللحاق بي بعد أن مدها إليها لأول مرة بحركة مقصودة ليشدها نحوه منحنياً قرب أذنها هامساً من بين أسنانه بخفوت وبنبرته التي تسحقها :
" حسناً اتركيه ولا تتغابي....ألا تدركين أنك تفعلين شيئاً ليس من حقك؟؟.....بل تقومين بمواجهة رجلاً غريباً عنك وأب غاضب حرم من ابنه شهور لا تعلمين كيف ستكون ردود فعله معك!!.......قفي جانباَ ولا تتدخلي.....كفاكِ تهوراً يا فتاة...."

كلامه في حالة الطبيعة يجب أن يشعل عنادها وتحديها أكثر فهي لم تعتد على ضبط لسانها وعدم رد الصاع صاعين لكنّها الآن تصلّبت مكانها ....ولم تستطع الاتيان بأي حركة....رغبت أن ترد لكن صوتها أصبح ركاماً وأوتارها غدت حطاماً ولم تتمكن من جمعه أبداً بعد أن تفرّقت نبضات نابضها وتبعثرت مشاعرها لحظة احساسها بحرارة يده التي لمست جسدها وإن كانت من فوق القماش!!.... فهو حرفياً بلمسته أحرقها ..كما لم يفعلها من قبل.!!..فلأول مرة شيخها الوسيم يلمسها بإرادته الحرة وإن كان السبب ليمنع تهورها!!...لا تصدق أن ذراعها ما زالت أسيرة قبضته الرجولية الحارقة....لا تصدق أنه يطوقها وكأنه يختم بصمته عليها ....أم أنها كانت مجرد حركة لينجدها من براثن غضبي لا داعي لتأويلها ؟؟....هل سينتبه لنفسه بعد قليل ثم يعود ويتحول مستغفراً بنزق؟!....كيف تجرأ وفعلها رغم أن ردها على * .."هل تتزوجيني؟!"...* كان مبهماً أقرب للرفض وهي تعلم أنه فهم ردها رداً سلبياً وكله بحماقتها والدليل النار التي استعرت بفحميتيه حينها.!!....ما الذي يحصل؟!...ما به الآن؟!....كانا ينظران لبعضهما نظرات مكابرة كاذبة بينما بباطنهما يكتويان بنيران حبهما الذي لا يشبه أحداً....كان حبهما مختلفاً كاختلاف شخصياتهما...اجتاحهما سريعاً ثم رسخ بقلبيهما رغم الفراق ومع محاولتهما لاقتلاعه بسبب سوء النصيب..!!.. إلا أن القدر أصرّ على لقياهما لينبت من جديد بجذور صلبة عتيّة لن يقدر أحد على الوصول إليها!!.....كان كلٌّ منهما سارحاً بالآخر لثواني قليلة شعرا بها دهراً حتى اهتزت مكانها لمّا أفلتها ينفضها بشيءٍ من الحدّة والهياج مستغفراً مبعداً عينيه عنها كما توقعت تماماً وكان هذا بعد أن رنّ في ذاكرته ردها....*.." عفواً!!...لمَ سأقبل بك وأنا لا أعرفك عن قرب ومن تكون أنت ؟!......فما يدريني ....ربما أنك متخفي بشخصية أخرى أو تهجرني وترميني بلحظة غضب كما فعل صديقك بصديقتي.....والمجازفة بهذا خطرة...".. *...بدا له جوابها لطلبه استنكاراً وقحاً ظالماً أقرب للرفض.... أكثر من كونه استفساراً مؤدباً عنه هو شخصيا فاختار أن يفتح لها باب غرفته دون أن يوضح لها شيء وصار يتلظى بنارين الأولى كانت نار حنقه مني والثانية اشتعلت بسبب ردها المستفز عليه وظلّ هكذا حتى وصل مدينتنا عصراً يلقي رسالته ومهمته على مسامعنا...!!.....
×
×
×

كنتُ لا أرى سواه فما إن غدا بين يديّ بجسده الصغير الناعم حتى ألصقته بصدري اعتصره بلين أحاول تهدئته أحاوط بدفء عنقه الضئيل من الخلف بكفي الضخم ثم أقبّل له وجهه حيناً وشعره حيناً اخراً بنهم لم يروه مني قط جميع الحاضرين ولم استعمله ابداً مع أي طفل عرفته في حياتي حتى شقيقي (شادي) في الماضي ولم أبالي بتململه منزعجاً ولا ببكائه بل كلما تحرك اضاعف تكبيلي وتقبيلي له فاقد السيطرة على دموعي وعلى تسارع دقات فؤادي المغدور!!....أقبّل قبلة مودة ولهفة واتبعها بهمسة مبحوحة خافتة:
" حبيبي.......صغيري.........مهجة القلب.....لا أصدق عيناي ....لا أصدق أنني أحملك وأشم رائحتك....أنا آسف......آسف لأني لم أعلم بوجودك.....آسف لأني لم أتعرّف عليك سابقاً....آسف لكل شيء......كيف كنتُ أحمقاً ولم أشعر أنك ابني؟!....كيف؟!......."

اخفف من تطويقه برهة ثم استنشق رائحته بقوة منتشياً لأسجنها بين حنايا الروح وأتابع همساتي مع قبلاتي الشغوفة لكل ذرة أصلها بعد أن أعود لأشد عليه باستحواذ وتملك بينما هو في احضاني وبين ذراعيّ تارة يناغي يظن أنني أدغدغه وأداعبه وتارة يصدر أصواتاً كأنه ينادي بها على الغائبة بنغمة أقرب للبكاء مستاءً بسبب ضغطي عليه :
"...أشكرك يا الله على هذه الهدية التي لم ولن أنل يوماً بقيمتها.....اشكرك يا الله أنك وهبتني هذا الطفل وكحّلت عيناي برؤياه قبل أن أموت.....يااا رب احفظه لي ولا تريني فيه بأساً يبكيني.....يا رب اجعله قرة عين لي واجعله من عبادك الصالحين......!!...."

ضممته لصدري أضع رأسه على كتفي اثبته وصرت أهدهده وأهزه برفق ثم قرّبت فمي لأذنه وشرعت بالآذان بحنوٍ وصوت شجي هادئ ثم أدعية متفرقة من الرقية احصنه بها كتعويض عن غيابي وبضع من دمعاتي أبت المكوث في أرضي ففرت متساقطة لتقبّل كتفه بعد أن اكتويتُ بنار ضميري أجلد ذاتي!!... فأنا لم أحضر لحظة ميلاده... ولم أعش تطوره يوماً بعد يوم.....لا صور تجمعني به في مراحل عمره القصيرة السابقة ولا ليلة شهدت على نومه رضيعاً في أحضاني أسكر على رائحة البراءة التي ادمنها!!... وكل هذا أشعرني بغصة تختلج صدري وتقتلني مذنِّباً نفسي لتقصيري معه كأنني تجاهلته وأهملته عمداً وكأن الذنب كله ذنبي ولمجرد هذه الفكرة التي راودتني ازددت قهراً ولوعةً وسخنت دمائي توغراً وامتعاضاً ولم يمسكني عن انفجار قاتل هذه اللحظات سواه هو.... طفلي البريء الذي نجح بتخدير غضبي.!!....
لم يقترب أحد مني حتى نبض الحياة أمي....كانت تراقبنا بصمت ودموعها التي كانت مزيج ما بين الفرح والوجع تنساب بهدوء على وجنتيها أما صديقاي الأشقر و(بلال) التمعت أعينهم بعبرات وفيّة يحاولان مؤازرة والدتي بكلمات لطيفة ومباركات صادقة.!!...بعد قليل وبينما انا مستمراً بانشغالي بمهجة القلب التفت (سامي) ليمناه ناظراً لبقعة ما حيث كانت تقف (ميار) عند انتزاعي ابني منها فوجد أن صديقنا ما زال يقف جانبها بتصرف لا يمثله اطلاقاً وخاصة أنه أمسك به متلبساً يناظرها بنظرات كفيلة بقتلها فتوجس بالظنون داخله..." ما به أحمد ما زال هناك ولم يأتِ عندنا ولِمَ يطالعها بهذا الشكل؟!...".....راقب قليلا الواقفة بفستانها الأحمر القاني والزنار الأسود العريض يلتف على خصرها النحيل مع أزرار كبيرة بذات اللون تنزل على صدرها والحجاب يماثلها وشعر أن استنجادها بذاك المجاور لها قبل دقائق ليس محض صدفة إنما عن معرفة لأنها ما زالت متسمرة جانبه وهو متيقن من ذلك فغلبه فضوله ودون أن يبعد عينيه لكز بمرفقه الذي يقف محاذاته هاتفاً بنكهة ساخرة:
" يا ترى من صديقتها تلك ؟!....بل الغريب بالأمر لمَ أحمد ما زال هناك يجاورها ويرمقها بنظرات اوقعت قلبي أنا فكيف بها هي؟!..."

تبسّم (بلال) لسؤاله وأجاب بخباثة:
" ألم تسمع هادي عندما ناداها ميار؟!..."

اتسعت عيناه بصدمة ليسأل متعجباً بالحال وهو ينقل حدقتيه مرة للواقفيْن بعيداً ومرة للذي بقربه:
" كلا لم انتبه......ثم....مهلاً مهلاً.........أتقصد أن.... تلك الدعسوقة..... هي نفسها التي أطاحت بقلب الغراب......شيخنا الوسيم؟!..."

ثم ثبّت عينيه قليلاً لـ(بلال)متابعاً:
" يا للهول.....تستحق أن ترفع القبعة لها...!!...دعسوقة لولا فستانها الأحمر لما ظهرت للعيان ولما انتبهنا لها بسبب قصر قامتها..!!.."

وحرّك رأسه متعجباً وهو يعيد نظراته الفضولية نحوهما يكمل:
" يا إلهي تلك الصغيرة استطاعت العبث بإعدادات ذاك الجبل الصامد بكل سهولة بينما نحن بحجم الحيطان اهترأت ألسنتنا لنقنعه أنه يوجد بالحياة شيء جميل اسمه حواء وحب وزواج وسكن ولا حياة لمن تنادي...!! ..."

ضحك المصغي له على اللقب الجديد الذي سمعه منه يخص به الواقفة ازاءهم..... فحتى تلك الغريبة عنهم لم تسلم من تنمره وقد وضع دمغته عليها دون تردد !!...... توقف عن الثرثرة وحك جانب حاجبه بشك واستطرد متسائلا:
"صحيح .....لحظة.....ما شأنه بها؟!.....ألم تتزوج ابن عمها الأهبل بطلب من جدها الخرِف الأرعن؟!.......منذ متى يتصرف أحمد مع امرأة وخاصة متزوجة بهذا القرب؟!...."

رفع (بلال) كتفه ولوى فمه كإجابة أنه لا يعلم ثم هتف بتيه:
" لا أدري.....ربما هنالك شيئاً هو يعرفه ونحن نجهله....سأسأله لاحقاً.....أما أنت أرجو أن تمسك لسانك ولا تستفزه........يكفي ما رأينا منه اليوم!!....."

رفع يديه بحركة استسلام تمثيلية وهتف ممتنعاً :
" أعوذ بالله لن اقترب منه!!.....صديقك اليوم لم يكن طبيعياً البتة......وكأن غضبه لم يقتصر على حنقه من هادي فقط!!....."

رفع حاجبه بريب وهمس بخفوت مردفاً:
" أيعقل أن برؤيتها حنّ القلب وفتحت عليه المواجع؟!..."

ثم تنهّد بصدق مختتما كلامه داعياً بوفاء للبعيد عنه:
" رزقك الله يا صديقي بالزوجة التي تستحقك وتسعدك...."

×
×
×

أغوص في غمرة اشتياقي أبلّ شوقي منه تاركاً العنان لمشاعري أن تجود عليه بالحب والحنان قدر الامكان مستغلاً وحدتي معه ألقي عليه كلمات تحببية وأناغيه وأداعبه ...اوقفه على حجري بعد جلوسي على أحد المقاعد ووجهه مباين لوجهي يتجاوب معي بضحكات خفيفة بعد أن تقبّل وجوده معي نوعا ما... يركّز زرقاويه على شفتيّ وأنا أحاول تعريفه وتلقينه من أكون :
" هيا محيي الدين ....أنا والدك بنيّ..........قل.....با.....با.......ب� �با........"

" هيا أيها البطل......أريد أن أسمعها من فمك الصغير لتروي ظمئي...."

ما زالوا تاركين لي المساحة الكافية لأشبع من ابني وحتى أمي التي تتفتت داخلها وقلبها يهفو لتعانق حفيدها بكل حب تواقة متلهفة عليه ما زالت معهم تدرك جليّا أنني احتاج لانعزل معه عسى أن يخمد بركان غضبي!!...كانت واقفة تعد الثواني منتظرة أن أتكرّم عليهم لأسمح لهم بلمس تلك القطعة الصغيرة من روحي ودمي...ثمرة حبي وثورة غضبي !!.....الغرفة هذه لم يكن بها غيرنا.....أنا وأمي...اصدقائي....صديقتها وابني!!.......الى الآن لم تظهر سمو الأميرة ابنة النجس (عاصي رضا)...كنتُ احتفظ بسخطي عليها داخلي ...!!...فقد جمّدت هذا حتى يحين وقتها ...لا أريد أن أؤثر على طفلي بطاقتي السلبية المشحونة !!...فصلت بين حنقي عليها وعطفي عليه من أجله...ومن أجله فقط..!!.....لم اهتم بالبحث عنها لأني واثق أنهم استدعوها في الداخل ليخبروها عن الحالة التي وصل إليها والدها....بسببي!!.......فقبل قرابة الربع ساعة سمعنا صوت الاسعاف الخاص بالمركز الأمني والذي كانت مهمته نقل الوغد الى المشفى لتعرضه لكسور في أضلعه أدت لإصابة رئته بتمزق نتج عنه انخماص رئوي وكسر في أنفه يصاحبه نزيف حاد منه وكذلك انزلاق في فكه وها أنا قد تناسيتُ وجودها مؤقتاً أوجه مشاعر جياشة بالعطف والمحبة على مَن بين يديّ لأغمره في حناني حاجباً سمعي وبصري عن كل شيء إلا هو...!!..
×
×
×

وصلت الباب الفاصل بين غرفة الانتظار حيث تواجدنا وبين الرواق الذي يصل الى الحمامات وغرفة الاسعاف الأولى الخاصة بالمركز حيث أتت من هناك.!!...توقفت تحت إطاره كأنها تحتمي به من قسوة الدنيا وفظاظتها معها.....تنظر بخواء للأمام كأنها تفصل نفسها عن واقع أليم أشبه بالجحيم لطالما خشيت من مواجهته.!!....لم تقدر على التقدم خطوة!!......رغم الفتنة التي يحملها وجهها الا انه بدا كصحراء جرداء لا سبل للحياة فيها ....جفت آخر ينابيع سماءيها فالذي اهدرته حين لقائه وهو سليم وبعدما نادوا عليها وهو جريح كان كقطرة ماء مقارنة بالذي انهار منها وهي تحبس نفسها بالحمام تفترش الأرض تضم ساقيها لصدرها تبكي حالها ومرارة عيشتها بل شراسة حقيقتها التي كان قلبها وعقلها مغشيّان عنها!!....فعند اعترافه الصريح بكل ما أدلت به تركته هاربة تعزل نفسها عن العالم الخارجي كله لتتمكن من أخذ قراراتها وما هي الخطوة القادمة بشأن حياتها وابنها وكانت كل خواطرها وأفكارها المتشعبة توجهها بالنهاية لقرار واحد !!....لمحتها صديقتها عند ظهورها فهرعت إليها باضطراب قلقة من مظهرها الفوضوي ومتوترة كثيراً محتارة كيف ستعترف لها بما جنت بيديها!!...هي تشهد الله أن نيتها لم تكن سيئة بتاتاً فهي لم تشي عما أخفت صديقتها لشهور لتوقعها بمأزق إنما حسرة على حالها ..تريد انتشالها من الغرق في محيط مصائبها.....تتمنى أن تتفهمها إن لم يكن اليوم فغداً....المهم أن عليها الاعتراف والاعتذار....عليها أن تكون جسورة فمثلما تشجّعت وكشفت سرها ستفعل وتواجهها بغدرها البريء لها ...إن كان يسمى بالفعل غدر!!!.....دنت منها تسندها بكفيها من عضديها وترقرقت العبرات لتحجب بنّ عينيها وهي تهمس:
" ألمى....هل أنتِ بخير؟!.."

كستها عتمة دامسة صُبغت من ينبوع الألم وأجابت وهي تهز رأسها تحاول اظهار قوتها:
" أ...أجل...أجل ميار.."

قالتها وحرّكت رأسها تنظر للوجوه بوجوم بينما عقلها مشتت في دوامة الضياع....اشاحت وجهها من فورها عن الزاوية التي اتواجد بها دون توقف ولو لجزء من الثانية بعدما اخبرها حدسها عن مكاني لتعيده لصديقتها!....لم ترغب برؤيتي ...أكان كرها أم خوفا؟!.....ليس مهماً.....تنحنحت التي تقف قبالتها بعد أن طال صمت تلك لتهمس لها بتردد وهي تعي أنها رأت ابنها معي:
" ألمى....أريد أن اخبرك شيء..."

بإيماءة ضعيفة وافقت على طلبها فشرعت حالاً دون تأجيل تعترف لها بفقرة قصيرة وكلمات محدودة كملخص دون الخوض بالتفاصيل وما صدم (ميار) وألجمها أنها لم ترَ أي ردة فعل منها ..لا كلمة ....لا حركة ....لا نظرة تتغير وفق حديثها !!...كأن مشاعرها ماتت.!!..أو ربما عقلها لم يستوعب ما اعترفت لها به؟!...لم تفرح لسكونها فربما ستصفعها بعد اعتذارها ..!!...تابعت لتدلي به غير آبهة للصفعة المنتظرة التي ستنزل على وجنتها وسيرن صداها في الارجاء وتشمّت الأعداء بها والتي أقرّت في نفسها أنها تستحقها ولكنها ما زالت متوجسة من هدوئها المريب:
" أعتذر ألمى....صدقيني لمصلحتك أنتِ ومحيي الدين..."

انعقد حاجباها بعد أن أثارت صديقتها البريئة دهشتها لما رفعت كفها الأبيض الرقيق تربّت به على جانب كتفها بدلاً من أن يستقر على خدها وهي تخط على ثغرها ابتسامة شاحبة كابدت أن ترسمها كرسالة رضا منها وقبول لاعتذارها هامسة لها بصوتها الأبح من شدة البكاء:
" لا عليكِ ميار......هيأتُ نفسي لتلك اللحظة.!!....بل كنتُ سأفعلها بعد لقائي بأبي ولكنك سبقتني بخطوة واختصرتِ عليّ مشوار الطريق..!!..."

أنهت جملتها بلا مبالاة عكس شخصيتها الانفعالية ورنت برأسها خلف صديقتها الفاغرة فيها بذهول منها باحثة عن هدف محدد وضعته في بالها ...استقرت سماءيها على الهدف المرصد لثواني تفكر ثم رجعت تناظر صديقتها نظرات تحمل حكايا وخبايا لم تفهم الأخيرة مكنونها!!.......شدّت على شفتيها الرقيقتين بتوتر وازدردت لعابها لتليّن أوتارها تحاول استجوابها ولم توضح للمعنية إن كان استجواب ليطمئن قلبها أم شيء آخر!!...فبصوتها العذب الخافت مع انخفاض طفيف لحدقتيها نحو الأرض همست:
" هل.....هل مُحـ..يي.... يتجاوب......معـ.....معه؟!.....أيب� �و عليه الارتياح أم خائفاً ؟!..."

خطفت نظرها إلينا وأعادتهما بسرعة إليها وهي تمسك جانب ذراعها بنية إسنادها معنويا مجيبة:
" كلا يا ألمى ليس خائفاً.......زوجك حمله واعتزل العالم لا يرى أحد غيره......استطاع تهدئته بنباهة وخبرة عجيبة......لو سمعتِ ضحكات محيي الدين قبل قليل وهو يداعبه..."

ضغطت على عضدها تشجعها:
" انظري ما ألطف صورتهما معاً....تنقصك أنتِ فقط!.....انظري......لا تقلقي هو لا ينتبه لكِ....ابنكما يشغل جل تفكيره واهتمامه!....."

لم تستجب لطلبها بل آثرت الثبات على صورتها التي هي عليها للحظات !!......كان الكل في حالة ترقّب.!!.....اصدقائي يحاولون غض البصر عنها احتراماً لي وهم يلهون أنفسهم بالحديث فيما بينهم وأمي ضائعة بيننا!!...فلما أطلّت عليهم قبل قليل رفرف قلبها الطيب عند رؤيتها لها تتزيّن بالحجاب وودت أن تسرع إليها وتعانقها وتباركها لكن هالة البؤس والوجع اللذيْن يحيطان بتلك جعلتها تكبح مشاعرها عنها فظلت تعتكف مكانها حزينة منتظرة صابرة ...كانت تتوجع علينا وعلى حالنا تحبس دمعاتها ...تتطلع على كنتها فرأتها عليلة أنهكتها المصائب وأثقلتها الهموم لتعود وتلقي عينيها الدافئتين صوبي أنا وابني لا تقوَ على الابتسام ....يساورها القلق من كل صوب...خائفة من ردة فعل عنيفة تبدر مني لا يمكنها إيقافها!!...خائفة من تلك أن تشعل بركان غضبي الساكن حالياً عندما تصرّ على أخذ ابنها....الهواجس كادت أن تهد حيْلها..!!...وبينما كان هذا حالها شدّت كتفيها فجأة ترهف السمع وتسلط حدقتيها بتركيز للتي وصلتها خائرة القوى والوهن يحتل جسدها الهزيل جاعلة منها هدفها المرصود عندما همست بخفوت:
" سـ...سيدة عائشة ..."

ازدردت ريقها مشدوهة منها لأنها بادرت بالتقدم والكلام إلا أنها رسمت على تقاسيم وجهها الطيبة والرضا وقالت بحنو وهي تمد يدها تضعها على كتفها برقة وتهديها ابتسامتها المحبة:
" أهلا.....أهلا ابنتي...."

طأطأت رأسها تهرب بعينيها لا تريد أن تفضحها دموع ناتجة عن نزيف داخلي يفتك بها ولا يرحمها وبمشقة وعناء وصوت متهدج تابعت:
" أعلم أنك سيدة طيبة !!....لذا....محـ....محيي الدين ...هو أمانة عندك....أرجوكِ...أحبيه...اغدقي عليه بحنانك .....أنا...أنا أضعـ...أضعه بين يديك ...وا....واثقة أنك ستربينه كـ.....كأنه ابـ..ابنك...."

ارتابت والدتي وأحست بانقباض بمعدتها ورجفة في نابضها من كلامها الغريب فأفرجت عن شفتيها لتتكلم إلا أن التي أمامها رفعت يدها تمنعها من مقاطعتها وهي تمسك ذراعها بنعومة وضعف مغلف بقشرة واهية من القوة مكملة:
" من فضلك .....دعيني أكمل كلامي..!!.."

استجابت لها ترخي أطرافها يائسة إنما بطلة حكايتنا ملأت المرارة حلقها وشحبت أكثر بشرتها رغم الاحمرار الذي لم يبرح عنها...تحاول أن تبقى قوية لا تريد أن تتلوى أمام الجميع من فرط الوجع الذي ينخرها وقد ارتفعت حرارة جسدها من عسر الموقف الذي هي به لتردف بنبرة متحشرجة تحارب أن تخرج بنحيب:
" حَفيدك طفل ذكي....اجـ....ـتِماعي يحب كل الناس...."

ومضت صورته أمامها وهو يضحك ويظهر ثناياه العلوية والسفلية فابتسمت بحنان للذكرى وابتلعت ريقها ترطّب حلقها الجاف بينما السُحب عادت لتتجمع بسماءيها بغزارة تنذر عن طوفان آتٍ وهي تضيف بنبرتها السابقة:
" هو لطيف...مرح...يحب الاهتمام ويغضب من التجاهل..!!....مشاكس قليلاً يهوى العبث بكل شيء والاستكشاف.......فاكهته المفضلة الموز...يبغض الجزر ....ولديه حساسية من الفراولة حتى الدواء خافض الحرارة الذي يكون بنكهة الفراولة!!..... أخبرنا الطبيب ربما تذهب عنه عندما يكبر..!!....نظام نومه كالورديّات...أحياناً ليله نهار ونهاره ليل وأحيانا العكس!!....لا...لا ينام عادةً إلا إذا ...إذا...دفن وجهه بين عُـ...عنقي وشعري....فافعليها له أرجوكِ.!!...أما الحليب الوحيد الذي تقبّله هو من شركة (...) العالمية....أتمنى أن يكون متواجداً هنا!!.....و..."

اختنقت باقي كلماتها فتنهّدت بعمق تنهيدة أحرقتها بدلاً من أن تخفف عنها وتمالكت نفسها بشق الأنفس كي لا تنهار ولا ينفجر طوفان عينيها ثم استطردت لتقول آخر ما لديها بتكلّف ومكابدة حروفاً جمعتها فخرجت منها ضعيفة مرتجفة:
" وعندما يكبر..... اخـ....أخبريه أن ....أمه... لم تحب يوماً أحداً... كحبها له.....وأنه هو أغلى ما ملكت في حياتها.!!...وأن يسامحها ...ثم قولي له برفق دون أن تؤلميه......أنها ماتت.."

ولم تتحمل أن تمكث لترصد أي رد منها فأفلتت يدها وأدبرت عنها راكضة للخارج تخفي كل ما يعتليها من سقم وعذاب في القلب وأنين واحتضار للروح تاركة كل شيء وراءها ...حقيبته....عربته....صديقتها... ...والأهم فلذة كبدها والقطعة الأثمن من روحها.. ابنها شمسها وقمرها ونور عينيها......فرّت هاربة دون أن تضمه ضمة أخيرة تودعه بها ودون أن تلقي نظرة واحدة خاطفة إليه....فهي تعلم أنها لو فعلتها لن تستطيع تركه ولو على جثتها !!....خرجت تواجه عتمة الليل والظلام الذي أحلّ بسماءيها....خرجت للممر الذي يقابل مدخل البناية الواسع ترثي نفسها هناك وتنعى حالها وستحتضن قدرها الذي كُتب عليها مهما كان وسيكون...!!...
×
×
×

"هادي..!"

صوتها مع لمسة يدها الحنونة على ظهري أخرجاني من عالمي مع ابني!!.....كانت نبرتها مهزوزة...ظننتها متأثرة من الموقف الذي نخوضه فقط!!......كنتُ أجلس متطرفاً على مقعد ثابت في أحد أركان الغرفة بعيدا عنهم....رفعتُ رأسي لحظة مناداتها عليّ ناظراً بعيني المحمرتين باحمرار غير متجانس كان عبارة عن خليط من سخط وشوق!!...ثم رسمتُ ابتسامة واسعة على ثغري ملؤها الحنان والسرور وحملته من تحت ابطيه أعطه لها تزامناً مع وقوفي وأنا أقول:
" أماه....انظري....انظري ما أجمله....ما شاء الله."

مدت يداها تتلقفه مني مع التماع مقلتيها بحنانها الفطري وأومأت برأسها توافقني على جملتي إلا أن وجهها كان مصفراً غير مرتاح....ضمته لصدرها بكل حب تقبّله هامسة بكلمات خرجت مع عبراتها التي لم تستطع التحكم بها:
" حبيب جدتك....يا غالي.....ابن الغالي.....احمدك يا رب..."

كنتُ أحاوط ظهرها بذراعي أراقب سعادتها به ثم شاركتها دموع الفرح حامدا الله في سري لتتوقف قليلاً عن طقوسها معه وهي تعدله تحمله جانباً توجه كلمات متسارعة إليّ قاطبة الحاجبين بجدية:
" هادي.....الحق زوجتك.....ذهبت للخارج..."

ارتسمت ملامح جامدة على صفحات وجهي ما إن ذكرتها وشعرتُ بطنين في أذنيّ ورفعتُ حاجبي بصورة حادة وسألتُ مستفسراً بخشونة:
" ما قصدك بذهبت للخارج؟....كيف لم أرها؟!.."

شددت من احتضانه وأجابت بقلق:
" ذهبت أعني....وصتني على محيي الدين وفرت خارجة.......كنتَ أنت منشغلاً بابنك.........الحق بها حالاً قبل أن تستقل سيارة.."

بهمّة نارية وعينان تتوهجان غضباً استدرتُ أخطو خطوات كادت تشق الأرض من تحتي فصاحت بي آمرة:
" ترفق بها ولا تؤذها...."

ضغطتُ على أسناني حانقاً وأغلقتُ قبضتيّ ساخطاً ولما وصلتُ باب غرفة الانتظار لأخرج تحرّكت صديقتها لتلحق بي فحجب طريقها من فوره بحذاقة يقف مكتفاً ذراعيه على صدره العضلي متحفزاً هامساً بنبرته الجادة:
" الى أين؟!..."

تحركت يمنة ويسرة هامسة ناظرة لأقدامهما تحاول اجتيازه:
" ابتعد من فضلك...سألحق بصديقتي!!.."

" عودي مكانك ولا تتدخلي بينهما.."

جملة آمرة مسيطرة نطقها أدت لاستفزازها فرمقته ببنّ عينيها بنظرة متحدية ممتعضة وقالت من بين أسنانها:
" صديقك المجنون سيقتلها أو سيضربها ...ألم تره كيف خرج؟"

ونصبت كتفيها بشموخ تزداد تحدي وهي تكمل بنبرة اعلى تشحن قوتها بها بينما نبضاتها تتسارع رهبة من رده الآتي:
" ثم ما شأنك بي؟!..."
حرر ذراعيه عن صدره فظنت أنه سيزداد غضباً وينفجر بها لأنها تعاند ...ألا يكفيها اجابتها المستفزة نهاراً والتي أشعلته ؟!....لكنه أذهلها وهو يجيب ببرود على جملتها السابقة ويرسم هدوء على ملامح وجهه الوسيم بينما فحميتيه تنظران إليها بثقة قاتلة:
" نحن أبناء الجبل.....لم نتربى أن نمد يدنا على أي امرأة "

اكتست وجنتيها بلون وردي لذيذ سببه الجاذبية الساحقة التي يمتلكها بعد أن انحنى اكثر يقترب منها جانب وجهها ليهمس بنبرة رجولية صارمة قرب أذنها تعلوها مسحة حنان عامة مع دفء أنفاسه وسحر عطره:
" أشداء على الكفار والأعداء ...رحماء فيما بيننا .."

لاذ بالصمت برهة وهو على حاله يحاول السيطرة على السجين بين أضلاعه من تأثير قربها عليه أيضاً رغم حنقه منها ثم تابع بكلام واثق:
" هي اخطأت بإخفاء الولد...خطأ لا يغتفر بسهولة......عليه توبيخها وتقويمها.....لكنها تبقى امرأته والزوجة في......."

قطع آخر كلامه منتصب القامة رافع الهامة هاتفاً بلا مبالاة:
" ثم أنا اعرف صديقي حق المعرفة فلو كان مثلما تظنين لما انتظرتك لأمنعه!!....... أما ما شأني.....فكري بالإجابة أنتِ ....ربما تخبريني عنها يوماً ما .....الله أعلم...... إن التقينا ..."

ورفع ذراعه الأيسر فبرز عضله بتلقائية وهو يضع كفه على الحائط جواره يستند عليه مع إمالة خفيفة بجذعه مكملاً بينما عيناها هامتا دون أن تحيدان عن النظر للساعة السوداء الفاخرة التي تطوق معصمه بهذه الأناقة والفخامة لتكسر بياض بشرته الرجولية وصولاً لبلوزته الفحمية :
" المهم اطمئني لن يرتكب جريمة بحق صديقتك.....عودي مكانك.."

حسناً كلماته بثت شيء من الطمأنينة داخلها....فإن لم تثق بزلزالها الصادق بمن ستثق؟!...لكن...تباً.....كيف لها الآن أن تعود مكانها بعدما أسكرها بعطره من جديد وأنفاسه الدافئة التي لامست خدها قليلا عندما لفحتها خدرتها!....بل تلك الوقفة التي لا تقدر على تحملها.....كيف ستعيد تنظيم دقاتها وهي تسمع كلامه الرجولي المليء بالعزة والقوة والأمان...كلمات جمعت كل الصفات معاً؟؟!.....ألا يدري ما يفعل بقلبها الصغير؟!......ألا يدري أنها الآن تعيش حالة ذوبان؟!.......ودت لو تمسكه من تلابيبه تصرخ بوجهه تبرر جوابها على سؤاله في الشركة ....تمنت أن يفهم ردها الغبي...تمنت أن يكرر سؤاله عليها ولا تأخذه عزة نفسه الصعبة...وستقول ..".أجل...أجل...موافقة أن اجعل عيناك حاضري ومستقبلي ....حضنك سكني .....واسمك وطني...فقط انطقها من جديد...".....لكن أمنياتها ذهبت أدراج الرياح عندما تركها عائداً لصديقينا بجمود مغاير لحالته المرتاحة قبل قليل معها يتركها في حيرة من أمرها تكلم نفسها " ماذا كان سيقول يا ترى بعد الزوجة في...؟!...لماذا قطع جملته؟....وماذا يقصد بأن أفكر بالإجابة على سؤالي ذاك؟!......اووف ..!!..."....ثم استدارت تسير ببطء تتجه نحو والدتي وزلزالها الصغير...!!...
×
×
×

خرجتُ الى الممر الموصل للمدخل... كان خالي من أنفاس البشر ولم أسمع الا حسيس أنفاسي أنا.... مع دقات الخائن....خائني!........تابعت خطواتي النارية والتفتّ ليساري انظر نظرة سريعة حيث يوجد رواق رفيع يؤدي لموقف تحت الأرض ....اجتزته متابعاً للأمام ثم......لحظة!!.....من تلك؟!....أبطلتُ تقدمي وعدت خطوة للخلف.......كان احد الحيطان يبرز عن البقية بحوالي نصف متر ....ربما خاص لغرفة ما!.......تتكئ عليه فتاة....ليست بحالة طبيعية!.....ترفع يمناها وتسند جبينها عليها تدثر وجهها بها توليني ظهرها وقدها المياس يهتز مع نحيبها...!!....ترتدي فستاناً سماوياً....قسمه العلوي يرسم جسدها حتى نهاية خصرها ثم ينزل باتساع وحرية.....حجابها وردي اللون.......لولا الحجاب لاعتقدتُ أنها هي!!........لكنها هي!! .....ارتجف الخائن يعطي اشاره لعقلي يؤكد له صدق حدسه.......هي!....بلى هي.......هل سأخطئ نحول خصرها الذي يرسم بإتقان من ابداع الخالق....أنا أحفظ كل ذرة فيها ....احفظ أنفاسها....أحفظ مشيتها....كيف أغفل عن شيء يخصها؟!......اقتربتُ بحذر أكثر متفحصاً والحيرة تأكلني....عقلي لم يستوعب ويرفض التصديق وأبى أن يجمع بين (ألمى) وحجاب معاً........إنما شهقاتها الخفيفة لم أنسها....كم من مرة بكت تشهق في حضني؟!......وقعت عيناي على الآثار القليلة لحريق الطفولة والتي تطبع على ظهر كفها ببقعة صغيرة ملمسها مضاد لنعومة بشرتها.....الآثار التي تكويني كلي والتي منذ اتمام زواجنا حتى اكتشافها هويتي كانت قبلاتي الحانية لها وهي تتنعم بين أحضاني من طقوس يومي !!......وجهت نظري ليسراها المرتاحة جانباً وتظهر لي أناملها بوضوح فلم أر خاتم الزواج بيدها!!......رفعت يسراي وداعبتُ محبسي الذي ببنصري بإبهامي مقهوراً...فأنا لم أخلعه يوماً إلا بغير ارادتي يوم عملياتي..... بعد إصابتي!!... خلعوه لي مجبرين ثم ألبسوني إياه ثانية بعد خروجي!! ...غلت دمائي فزاد الأجيج في صدري.....تصلّبت عضلاتي ونفرت عروقي!!...سحبت أنفاسي المشتعلة وأخرجتها بخشونة مع كلمتي المزلزلة:
" ألمـــــى!!....."

استوعبت صوتي فبطلاقة كفكفت دموع ضعفها ووجعها لتخفيها عني....ثم تنهّدت بخفية تطرد بقايا شهقاتها واستدارت تحمي ظهرها بالحائط متشنجة بحذر ليغدو وجهها مقابلا لوجهي مع اهتزاز قلبها خيفة مني فضاعت بشرتها بين الاحمرار وشحوب الموتى!!.....أما سماءيها أبت الانطفاء فتلألأت بغشاء مائي لينعكس تلألؤها على أرضي.......أرسلت وميض من سحرها للخائن لتصيبني قشعريرة باطنية وتختل أفكاري ومشاعري لوهلة غدراً ....فأنا أقف ازاء حورية محجبة لطالما تمنيتها .....بل الواقع فاق أمنياتي!!......حاصرتها بنظراتي الجامدة إلا أن داخل جسدي أعيش رغبتين مجنونتين لكل منهما مرادها ....أي جنون أخوض الآن ومن منهما ستعلن هيمنتها على الموقف؟! .....فالرغبة الأولى تسللت من ذاك الخائن الوفيّ لها بإلحاح...يريد.!!....يريد غمر هذه الفتنة المحجبة بأحضاني لتعلن إقامتها على موطنها الأبديّ ...أما الثانية لعقلي مصدرها حممي البركانية المتفجرة...تريد إحراقها واحراق كل ما فيها وإن احترقتُ معها!!.........هل أضربها ضرباً مبرحاً ثم أضمها ضمة نصبح فيها كياناً واحداً لا فراق من بعده؟!....أم أنقضّ عليها انقضاض الفهد العاشق لأفترس شفتيها المنفرجتان ذهولاً بقبلة لم تذق قبلها ولا بعدها تسيل منها دمائها ثم أصرخ بها مؤنباً بقسوة عقاباً لها؟؟!.....لقد تكالبت عليّ الأفكار وضعتُ بين الأمرين!.....تباً لها ولسحرها!!.......ارتخى تشنجها وخطت بحذر صوبي ....أرسلت ذاكرتي إشعارات بقوة تمنعني من الاستسلام لإقبالها نحوي أو الضياع بحماقة كما حدث معي في الماضي يوم........صفعتها اللعينة!!.....فدفنتُ من فوري كل ما عشت من ثورة مشاعر هذه اللحظة الخالدة في قلبي ولم أسمح لظهورها لصفحات وجهي...!!....وقد كانت صادقة اشعاراتي عندما مرّت ببرود تسير بغرور تجتازني متجاهلة وجودي.....!!....أنا (هادي)... ابنة (عاصي) تتجاهلني وكأني غير مرئي؟!!......خطوة واحدة منها ارتسمت خلفي لتُمسح في الحال بعد أن مددت يمناي من وراء ظهري أمسك رسغ يمناها تزامناً مع التفاتي إليها أسحبها صوبي لأمنع تقدمها وجملة باردة خرجت مني لحظة ارتطام جسدها الضئيل الغض بصدري العريض الصلب مع تلاقي الأعين المشتعلة لتحترق معاً عن قرب :
" أتظنين يمكنك الذهاب بتلك السهولة؟!.."

قلبينا وجدا إيقاعاً متناغماً عند ائتلافهما سوياً من تلك المسافة إلا أنني استطعت الحفاظ على وتيرة تنفسي بينما هي بدأ صدرها يتحرك بضراوة شرسة......اطبقت السماء الساخنة فعلاً على الأرض الباردة تصنعاً فصدر بخار خانق بيننا ليجعلها تنتفض تبسط كفيها على صدري وبما أوتيت من قوة تدفعني عنها لأرتد نصف خطوة متراجعاً وهي صارخة:
" ابتعد عني!!......ولا علاقة لك بي!!..."

وحوش ضارية قفزت أمامي استفزتني فغلت دمائي وانفجر بركاني لأمسكها من عضديها بحركة موجعة فاقداً التحكم بغضبي!.... ألصقها بالحائط أحشرها بجسدي مع الضغط بيديّ عليها هادراً بها:
" ما فعلتيه بنا لن يمر مرور الكرام وكأن شيئا لم يكن...."

وبصرخة أشد هديراً أنهيت:
"أتفهمين...؟!"

أفلتُّ احدى ذراعيها وببطن كفي صفقت الحائط من خلفها تباعاً فوق كتفها بصورة عدوانية والنظرة من عينيّ المجمرتين تلذعها بينما كنت مستطردا بصراخي:
" كيف تفعلين هذا؟!.."

اضرب الحائط وأزيد كلماتي:
" كيف تفعلين ذلك بي وبابني ؟!!.."

اهزها بيساري واضرب من خلفها بيميني متمسكا بصرخاتي:
" كيف استطعتِ اخفاء هذا عني؟!..."
" من أين أتيتِ بهذه القسوة وهذا الحقد؟!..."

أعود لأمسكها بكلتا يديّ القاسيتين متابعاً بسخط أكبر وروحي تئن من فكرة حرماني ابني لشهور:
" كيف تحرميننا من بعضنا؟!....أنا وابني!..."
" هيا أجيبي........اخبريني!...."
" كيف....كيف استغفلتني؟!....."

ثم نفضتها بعنف ناجماً عن ثورتي ممسكاً طرفيّ جبيني بيميني مشيحاً وجهي وجسدي عنها بنصف استدارة لاهثاً مع تمتماتي:
" سحقا لكِ....سحقا لي......وسحقاً للجحيم الذي سُميّ بحبنا !...."

بقيتُ على هذا الحال لدقيقة أو اثنتين لأستعيد مجد أنفاسي ولمّا سيطرتُ بعض الشيء على انفعالي عدتُ بنظري إليها فوجدتها ما زالت ملتصقة مكانها.....لكن!...ملامحها جامدة.....الأكيد ليس خوفا!....ولا صدمةً!......أيا ترى فقدت أحاسيسها؟!......ألن تغضب ؟...ألن تبكي؟...ألن تنهار .؟...لن تهجم ولن تظهر ذرة من ضعفها كما عهدتها...؟!.....دنوتُ منها واحطت جانبيها بيدي المسنودتين وراءها على الحائط منحنيا بجذعي أحبسها في فلكي المشحون ببركان غضبي وبهمس كفحيح أفعى مسمومة مخالف لهيجاني السابق قلت:
" لن أعتقك......الآن ستخبرينني كل شيء ..."

وصفعة يتيمة بيسراي للحائط بدرت مني مع نبرة خشنة أكثر حدة مؤكدا:
" الآن........هل سمعتِ؟!...."

صفعتي أجفلتها فرفرت أهدابها بتلاحق بلا قصد منها إلا أنها سرعان ما أدركت موضع الاختبار الذي تخوضه مع نفسها!!.فزفرت أنفاسها تخرجها بتأفف ضجرة وبجسارة لا تشبهها وتحكم عجيب حافظت على هدوء صوتها وهي تبعدني عنها ثابتة دون بكاء وسماءيها متوهجتان غلّاً:
" بماذا أخبرك؟!.......ماذا تريد مني؟!...."

جزت على أسنانها وهمست ببرود تتحدى نفسها دون اظهار لي أي معركة حامية الوطيس تدور في أحشائها:
"ها أنا تركتُ لك ابنك......ربّهِ كما شئت....واتركني..."

وتقدمت نحوي لتكرر دفعها لي من صدري هاتفة بنبرة آمرة قاسية:
" بل ابتعد عني....ابتعد ......ابتعد..."

ودون تأخير ودون مهلة أو تفكير أدبرت عني تمشي بكبرياء وعزم تنوي الهروب ...يبدو أنه ليس هروباً رهبة مني إنما كي لا ترى وجهي!!...كبحت تقدمها ثابتة مكانها تخفي ارتجاف الذي بين أضلعها عندما أطلقتُ ضحكة ساخرة تخفي مرارة علاقتنا وقد بترتها من نصفها قائلا بصوت متزن صافي:
" اهربي........ثم تخلّي عن ابنك بسهولة!....لم اتفاجأ ابدا ...فهذا طبعك!.....التخلي وعدم المواجهة......"

نجحتُ بإثارة حفيظتها فعادت بقوة كامنة من نيرانها تنظر إلي شزرا...واستطالت على أصابع قدميها ترفع سبابتها بتمرد وجفاء هاتفة بتهديد ونبرة ناقمة:
" إياك.!! ثم إياك أن تتهمني بالتخلّي....."

ثم برأس اصبعها ضغطت على صدري تغرزه فوق خائني لتحفر سخطها وغلّها متابعة:
" أنتَ......أنت من تجيد التخلّي وليست أنا..."

اقتلعت اصبعها من مكان حفرها تنقله فيما بيننا مشيرة تارة صوبي وتارة صوبها وهي تقول باستعلاء وثقة لم أرها عليها آنفاً:
" الفرق بيننا كبير.........أنا وهبتُ لابني حياة سوّية كريمة .......تركتُ لكم قطعة من قلبي وروحي ...لا مصلحة شخصية لي بذلك....إنما كله من أجله.!!...."

وتغيرت نبرتها للوم والعتاب مستأنفة ترميني بسهام نظراتها ....حسبتُها ازدراءً أصابت نابضي :
" أما أنت...."

وأصدرت ضحكة استهزاء قطعتها لتكمل:
" ماذا فعلت؟!........تخليتَ ناسفاً كل ما عشنا معاً وانتقمت مني بأبشع انتقام تحت مسمى كبرياءك اللعين...."

تأثرت من الذكرى الموشومة على روحها وقلبها فتهدّج صوتها لوهلة إلا أنها استطاعت تدارك حالتها مردفة بقهر حاولت تحويله لصلابة:
" هجرتني!......وقد قلتها بلسانك ونفذتها بحذافيرها.....سأهجرك هجراً أليماً......أتسمعني؟....أليماً ....."

استقامت بجموح وأنفة تعلو بصوتها المبحوح:
" مَن منا مَن تخلّى؟!.."

قالتها لتنهيها باستخفاف قبل سماعها أي رد مني:
" ولا أريد جوابك.....احتفظ به لنفسك فلم يعد يهمني أو ينفعني .."

وحرّكت يدها بحركة قطع مضيفة:
" انتهى الكلام بيننا.......ولم يعد لك شيئا عندي...."

ثم دارت بكامل بدنها المتقد تهرول راسمة في مشيتها عزة نفس وسموّ خُلق في جيناتها تتسابق مع قلبها المكلوم من جراح العشق ....تدّعي القوة .....قوة وحدها من تشعر بمدى هشاشتها....!!

تتبعتُ بعينيّ أثرها مشدوهاً للحظات....أتساءل في نفسي؟!..."..هل هذه (ألمى) فعلا؟!.."....فبكل ما عشنا سابقا من شجارات ورغم عنادها السابق إلا أن الغلبة كانت دائما لبراءتها وسذاجتها...أما الآن ....أرى فتاة أكثر نضوجاً ........أقل ضعفاً وأعظم قوة........ماذا جرى لها؟!...أكانت تلك الفترة التي اجتازت العام غائبيْن فيها عن بعضنا كفيلة بتغييرها لهذه الدرجة؟!......ما الذي حصل معها؟!....ما الذي بدّلها؟!....ما الذي أبرز مخالب تلك القطة بصورة وحشية أكثر؟!......عليّ معرفة كل هذا!.....ولن أضيع الوقت !!.....لحقتُ بها مسرعاً ...خرجتُ من الرواق الجانبي لأندمج مع الممر الرئيسي....تطلعتُ على يميني نحو الداخل ثم ليساري نحو المدخل!!.......وكررتُ حركتي باحثاً عنها بانفعال.....لمحتُ (بلال) في جهة اليمين يتحدث بالهاتف فهتفتُ مناديا:
" بلال!!..."

أنزل الهاتف عن أذنه يحرك رأسه كإشارة بأنه يسمعني فاستطردت بصوت عالٍ وأنفاسي متعاقبة :
" هل عادت للداخل؟!..."

ألقى نظرة سريعة لباب غرفة الانتظار وقال بنبرة مرتفعة:
" كلا لم تأتِ الى هنا!..."

بدأتُ بالتحرك مستهما للخروج آمراً :
" إذاً عودوا للمدينة الجبلية جميعكم .....خذوا معكم محيي الدين وأغراضه...!......ولا تقلقوا علينا....."

اومأ ايجاباً يوافق كلامي بينما أنا اختفيتُ من أمامه كريح صرصرٍ عاتية لأدركها قبل أن أفقدها !!....وصلت الساحة الخارجية أمسح بحدقتيّ ونظراتي الثاقبة المكان فلمحتها تتجه نحو البوابة العامة للساحة وموقف السيارات....بخطى واسعة تهز الأرض هزاً من تحتي لحقتُ بها وصيحة مجلجلة انتشرت في الأرجاء قلت لها:
" توقــــفي.!!..."

كررتُ كلمتي ولم تبالي واستمرت في مشيتها ولما وصلتها أمسكتها من ذراعها أوقفها وألفها نحوي بغضب هاتفاً:
" أنا أكلمك.....قلت توقفي!!..."

نفضت يدي عنها ورمقتني بنظرة شرسة عنيدة تقول باحتدام:
" وأنا قلت لك ابتعد واتركني...!.."

نفرت عروق عنقي وصدغيّ وأنا أصك على فكيّ ثم همستُ بنبرة ألزمها فيها برغبتي :
" قولي ما شئتِ.....لن أتركك سنتكلم بكل شيء!...."

ناظرتني باستصغار غير آبهة لكلامي واستدارت بخيلاء وثبات تتابع مسيرتها وقبل أن تتقدم خطوة أضحت قدماها في الهواء لما انتشلتها بغضب عارم وجنون ليس مثله جنون غير مهتم لا بالمكان ولا الزمان ولا أي تواجد لإنسان أضعها على كتفي للمرة الثانية بعد فعلي لها بالمخيم قائلا ببرود يخفي نبض قلبي المبعثر وأنفاسي الساخطة:
" قلت سنتكلم يعني سنتكلم ...."

وبنبرة متوعدة خشنة أضفت:
" ما فعلته ليس هيّناً ....سيدة ألمى!.....لن اغفر"

ردت بوقاحة حارقة تنافسني بالتوعد واثقة:
"أنت من ستتوسل الغفران ....وأنا التي لن تغفر...."

اتجهتُ لسيارتي اتميز غيظاً كلحظة مجيئي لهنا إنما الآن غيظي بسبب وقاحتها بينما هي تشتعل حرجاً وحنقاً وتطالبني بخفوت وهي تشعر بالخزيّ من منظرها في الهواء وقد آثرت أن تكون بثبات انفعالي دون ضربي كي لا تلفت الأنظار أكثر وهذا ما جعلني ....أيقن....أن (ألمتي)....قد تغيرت!!.. :
" أنزلني....أنزلني.....ما هذه الفضائح التي تفعلها؟!..."

" ثقيلة!!......أسَمِنتِ؟!.."

سؤال سدّدته نحو مرماها لاستفزها فوجدتها تتصدى له بعنفوان وهي تعيد الإجابة وتصيب الهدف عن بعد :
" بل أنتَ ضعفت قوتك السابقة ....أيعقل أنك أصبحتَ عجوزاً قبل أوانك..؟!.."

استغليتُ الوقت الضائع لأعادل النتيجة على الأقل ولا أخرج خاسراً:
" غيرتُ رأيي...لن نتكلم!!......يوجد فندق قريب من هنا.....ستجري لي اختباراً لذيذاً في احدى غرفه لتطمئني على قوتي وشبابي.... ما رأيك يا حلوة ؟!....."

توّردت وجنتاها خجلاً وخفق خافقها شوقاً ثم سحقت ابتسامة خفيفة عن ثغرها ارتسمت غصبا عنها قبل أن ترد بخفوت فيه الجمود:
" أنت وقح جداً...."

لتعود وتعلو بصوت حاد مطالبة:
" قلت أنزلني....هيا.."

أجبتُ ببرود متجاهلاً سُبّتها السابقة مستمراً بسيري المتوازن وخطواتي الثابتة:
" اعتبريها توصيلة مجانية لا يحصل عليها أيٍّ كان!..."

أعادت جملتي متهكمة ثم أضافت مكتفية بذاتها:
" أنا بغنى عن كل شيء.... خاصة الذي يأتي منك!!...."

ألقيتُ جمرة من بركاني على قلبها قائلاً :
" أجل أعلم......فأنتِ... تنازلتِ ...عن ابنك الذي مني... دون أدنى مجهود !!"
انهار ثباتها الانفعالي وضربت ظهري الصلب بقبضتها الصغيرة شاتمة بتحشرج لحظة اقترابي من سيارتي الرياضية السوداء ضاغطاً على المفتاح الإلكتروني لأفتح أبوابها وأشغل محركها بشكل آلي :
" اصمت أيها المتعجرف اللعين ولا تُدخل ابني بالوسط..!!.."

فتحت باب المقعد المجاور لمقعد القيادة ووضعتها بفظاظة عليه منحنياً فوقها بجذعي مسلطاً أرضي على سماءيها البراقتان نشوزاً وقلت بخشونة وأنا أربت بسبابتي على خدّها بتلاحق كتحذير:
" يبدو أن صديقتك المحترمة... تلك المنقبة... لم تتمكن من تعليمك كيف تكلم الزوجة زوجها وأن اللعنة حرام!! ...لكن لا بأس سأتولى ذلك!..."

أزاحت اصبعي عنها بحركة عنيفة من يدها وهي تشيح وجهها جانبا إنما دقات قلبها الظمآنة لارتشاف العشق نافرة منها تكاد تفضحها بسبب قربي وكرم أنفاسي عليها ثم هتفت بصوت مسموع :
" لا تلمسني ..."

وتابعت متمتمة عند ابتعادي عنها مستقيما خارج السيارة تتعمد عدم اسماعي:
" تقول ذلك كأننا زوجان فعلاً.!!..."

استقليتُ مقعدي خلف المقود....وضعتُ الهاتف في مكانه المخصص وثبّتّ الحزام على نفسي فقالت بحزم جاف ورسمية:
" لو سمحت ....لا داعي لتهدر وقتي ووقتك عبثاً.....لا كلام عندي وأريد العودة لفندقي!!..."

رمقتها بنظرة نارية ثم حركت مقبض ناقل الحركة أضعه للخلف هاتفاً بجدية قبل أن أتحرك:
" ضعي حزامك ولا تتفلسفي ....قلت سنتكلم وهذا إقرار مني لا خيار لكِ......لا تثيري جنوني أكثر!!..."

لوت شفتيها بامتعاض ورفعت كتفها قاطبة حاجبيها بترفّع ثم أجابت بإصرار:
" لن أضعه....ولن أذهب معك لمكان..."

ثم التفتت ليمناها تبحث عن مكان مقبض الباب لتفتحه فهو يعمل على اللمس وصارت تتحسس كل مكان فيه لتزفر بضجر تسأل :
" من أين يفتح هذا؟!...."

وضربته بقبضتها ضربة قوية شاتمة تلوك كلامها كي لا أفهمها ولم أفهمها:
" عنيد حائط مثل صاحبك !!.."

قلت بضيق:
" هيه...على مهلك...لا ذنب له بأفعالك..!!..."

بهمة التفتت إلي وعيناها تقدح شرراً تأمر من بين أسنانها :
" إذاً افتحه لي كي لا تبكي عليه بعد أن أكسره لك!!..."

تبسمت بخباثة مصطنعة وقلت:
" حالما نصل سأفتحه لكِ أكيد...."

وعدت لأرسم ملامح قاسية على وجهي مستأنفاً بخشونة:
" ضعي الحزام دون أي كلمة زائدة...هيا!..."

عدلت جلستها بنزق تكتف ذراعيها قائلة وهي تشرد بالأمام:
" انت لن تفتحه وأنا لن أضعه.....الرفض ليس حكرا لك فقط!!..."

طالعتها لجانب وجهها لثانيتين ضاغطاً على شفتيّ... وددت أن أطحن لها رأسها العنيد هذا ثم دعستُ على الوقود بطلاقة عائدا للخلف قائلا:
" لا تضعيه....أنتِ حرة!..."

ولما انحرفتُ بسرعة لأستقيم بطريقي تخلخلت فابتسمتُ شامتاً ابتسامة مائلة وهي تحدّجني بعتاب مكتوم لفعلتي واتخذت الشارع الرئيسي باتجاه الخروج من العاصمة ثم اندمجت بعد دقائق قليلة مع الشارع السريع الذي تحيطه أحراش أشجارها متوسطة الحجم على الجانبين لأبدأ بعدها بمضاعفة سرعتي!! ...كنا نلوذ بصمت ممل كلانا وبعد قليل هتفت:
" لا ترهق نفسك...لن تأخذ كلمة مني ....وأريد العودة لصديقتي حالاً!!..."

لم ألقِ بالاً لكلامها وقلت بصوت جليدي:
" بعد قليل سأزيد سرعتي أكثر ولا أعلم ماذا سنواجه في الطريق.!!.......ضعي الحزام!..."

تأففت وأجابت بانزعاج تلقي تلميحات وتعاند بعقلها الصغير ورأسها اليابس :
" أف منك.....ألم تسأم من القاء أوامرك؟!.....لن اضعه يعني لن أضعه!!.....زد كما شئت لن يهمني ....فلن يضر الجثة شيء!!.. "

استشطت غضباً وتمتمت شاتماً إياها مضاعفاً سرعتي غير مهتم لأي نتائج وخيمة ممكن أن نصل:
" مخادعة.....كاذبة.... وفوق هذا عنيدة كالماعز!!..."

لم ترد والتزمت بصمتها.!!.....عند وصولنا لمكان تتحول فيه الأحراش لغابات كثة بأشجارها الضخمة كان الشارع فارغاً يفتقد للإنارة الجانبية ولم يشق عتمته إلا أضواء سيارتي ففجأة قفز أمامي غزال صغير لينتقل للطرف الآخر ...انتبهت له من فوري وضغطتُ على المكابح بسرعة بديهة ممسكا بيسراي المقود بإحكام وجعلتُ يمناي الثقيلة الصلبة درعاً على صدرها بدل الحزام أثبّتها مكانها كي لا تطير من مقعدها أو ترتطم بالزجاج الأمامي تزامنا مع صرختها الخائفة !!....لما توقفت السيارة كنا كلينا نلهث ...هي من فرط الهلع بعد أن اصابها وأنا من مشاعر جمة كلها تخصها ...غضب منها وقهر ...خوف عليها وعشق.....كلها أدت لانفلات أعصابي ونفاذ صبري فاستدرتُ بالحال بدلاً من احتضانها وتهدئة روعها أمسكها من كتفيها أخضها بحركة عدوانية ضد قلة اهتمامها بحياتها بينما اعلو معها بصياحي:
" أرأيت؟...قلتُ لكِ ضعي الحزام ...لكن رأسك يابس ...تكابرين بغباء.!!...ماذا إن حصل لك شيء؟!..."
كان وجهها مصفراً خالياً من الحياة ....جف حلقها وارتجت حدقتاها من عسر الموقف ورهبته ....لم تجبني!!....افلتّها بحزم قاسي واضعاً ذراعيّ على المقود خافضاً رأسي قليلاً إليه مغمغماً بانفعال وتعاقب لأنفاسي:
" تباً لكِ.....تباً...."

وأكملتُ قلقي عليها في سري.."..كدتِ أن تقتليني...لو حصل لكِ شيء".......ثم أعدت ضبط أنفاسي وفتحتُ الدرج أمامها اخرج قارورة ماء صغيرة ....فتحتها وناولتها إياها هاتفا دون النظر إليها فغضبي عليها ازداد اضعافاً مضاعفة والأفضل ألا أرى وجهها هذه اللحظة ويبدو أنه لن يزول بسهولة !!....:
" خذي...اشربي!..."

بظهر كفها أزاحتها من أمامها ... لا أعلم أهو عناداً لي أم أنها ما زالت منفعلة ولا يمكنها ادخال شيء لجوفها ثم أجابت بجدية:
" لا أريد شيء!...."

قررت ألا أصفي نيتي معتمدا الاحتمال الأول أي انه مجرد عناداً لي فأزحتها بالحال وألقيتها للخلف بعدم اهتمام لتروي في طريقها ما تروي قبل أن تستقر على المقعد الخلفي ..!!....ملتُ نحوها ومددت يدي ساحباً الحزام أثبّته عليها ثم تابعتُ متوكلاً على الله طريقنا الموحش الذي يكسره أصوات من الطبيعة ما بين صرير الحشرات ونباح كلاب ونعيق البوم .!!...كان كلّ منا يعوم في خواطره وأفكاره....رن هاتفي باسم الأشقر ....لم يكن لي مزاج لأكلم أحد....تخطيتُ المكالمة...عاد ليرن من جديد....مرة بعد مرة ....كانت هي تميل بجسدها النحيل نحو النافذة متكئة بمرفقها على الباب شاردة بالأشجار المتشابهة الغارقة بالظلام ....بعد إصراره على المكالمة تنهدتُ قانطاً وضغطت فاتحاً مكبر الصوت هاتفاً بصوت جدي ثابت هادئ لا يشي عن العواصف بداخلي:
"خير!!.... ماذا هنالك سامي؟!.."

قبل أن يصلني جوابه وصلنا صوت بكاء طفلنا فلاحظتُ ارتجاف يسراها وهي ترفعها تضعها على صدرها عند سماعها إياه تحاول تهدئة ضربات قلبها المحتضر لفراقه والذي اخفت احتضاره عني بجدارة فسألتُ في الحال وانا ما زلتُ محافظا على درجة صوتي الأولى:
" ما به الصغير؟!...لمَ يبكي؟!..."

أجاب بلا اكتراث مع نكهة هزلية :
" اشترينا له كرسي أمان للسيارة .....أقصد أنا اشتريتُ له.....سجل عندك في الدفتر! ...عمه سامي اشترى له هدية كرسي فاخر من ماركة عالمية!!.....لقد كلفتني أكثر من خاصة أسدي سليمان!!......المهم..... يبدو أنه غير معتاد عليه......لا يريد الجلوس فيه......يعاند ولا نستطيع اسكاته...."

اطمأنت داخليا لما زال عندها سبب بكائه وتذكرت أنه لم يجلس يوما في سيارة مع كرسي أمان!!....ببساطة.!!..لأنهما لم يمتلكا يوما سيارة يتنقلا بها هنا وهناك!...وكانت تنقلاتها القليلة معه إما بالعربة او سيارات أجرة تضعه في حضنها!!.....وهمست بخفوت وبفطرتها الأمومية ويدها على قلبها بعد السكينة التي زارتها:
" حبيبي!!.."

ولما تابع يضيف توابله الساخرة:
"رأسه الصلب كحجر الصوّان ذكّرني بأحدهم!!......هل هذا ما ورّثته إياه يا هذا؟!..."

شقت ثغرها ابتسامة متشفية وهمهمت :
" الحمد لله....ظهر الحق!..."

فهمتُ همهماتها وقلتُ في سري.." على أساس أنك لا تحملين عناد الماعز!!.."....ثم قلت له ببرود وزهوّ:
" ابني يفعل ما يشاء ....لا تضغطوا عليه.....فلتضعه أمي في حضنها!!....لا حاجة للكرسي الآن!....وقل لأحمد أن يسوق على مهل ...لا داعي للعجلة !..."

" اووه ....تحت أمرك نحن سيد هادي .....أتسمع ما تقول؟!.....على هذا الحال سنصل فجراً !!.....لن يضره البكاء!.....سيمل ويسكت بعد قليل ...اسألني أصبحتُ خبيراً..."
قلت بذات البرود هازئاً:
" ظننتك منزعجاً من الناحية القانونية سيادة اللواء.."

قال بثقة وغرور مصطنع ضاحكاً:
" نحن القانون سيادة رئيس الأركان!....يا ليت مشكلتنا مخالفة مرورية!!...."

وتابع جاداً بعد أن خلع قناع التهريج :
" وعلى ذكر القانون.....عليك العودة بشكل ضروري خلال يومين لسجن الأمن المركزي بالعاصمة.......ستأتي للتحقيق عما جنيت !!....هذا سبب اتصالي....فقد صدر الأمر عاجلاً ولا يقبل التأجيل "

لم أرغب أن تسمع التي بجانبي كلاماً مفصلاً عن المسألة فالسيرة ستأخذنا الى المغضوب عليه والدها لا محالة وأنا لا أريد أن تُمضي مواجهتنا المنتظرة تعاتبني وتبكيه بل تتهمني وتدافع عنه بحماقة كعادتها لذا قاطعته باقتضاب ونبرة يشوبها الضجر :
" تعلمني لاحقاً بالتفاصيل....."

هتف مؤكدا وملمّحاً لمعرفته السابقة برأيي:
"إن شاء الله .....لكن لتعلم....السيد سليم ....كلّم ابنة شقيقه .....المحامية رفيف!.....هي من ستتواصل معك بشأن القضية.....ولا وقت لإظهار غلاظتك.....كن لطيفاً معها...."
"إن شاء الله .....لكن لتعلم....السيد سليم ... ..كلّم ابنة شقيقه...... المحامية رفيف!........هي من ستتواصل معك بشأن القضية......ولا وقت لإظهار غلاظتك.....كن لطيفاً معها...."

لمجرد سماع اسمها اهتز قلبي نفورا لا مغزى له....كلا بل ذو مغزى!....تذكرتُ مشاعرها تجاهي ....وجرأتها معي....الصفة التي ابغضها بالنساء!!!.... بينما التي بجانبي مرت الذكرى في بالها لحظة اختراق الاسم مسامعها...سرت رعشة داخلية عندها كانت بمثابة إنذار لاقتراب خطر ما لمحيط دائرتها....فهي تعتبرها غريمتها منذ شجارهما في المحكمة.!!....وللأسف لم تخطئ بذلك!!!!.....ازداد وجهها توهجاً فوق احمراره الذي لم يبرح عنها منذ التقيتها مع تسارع نبضاتها دون ارادتها.....شدّت قبضتها اليمنى بقهر تخفيها بينها والباب عني وبرقت سماءيها لوهلة بحزن كئيب قبل أن يتبدل لغيرة صريحة وقد شعرت أنها ستفضح أمامي لو تلاقت أعيننا فكابدت بشق الأنفس ألا تعلق بأي كلمة تخص الموضوع وألا تنظر نحوي !!...ستدّعي اللا مبالاة ....حاليا!!.....كي لا تظهر لي حبها الصامد العنيد أو اهتمامها بي الذي لو أفلتت له عقاله الآن ستقفز صارخة...." أنت لي أنا فقط..... وإن اقتربت أخرى منك سأحرقها..."....هي قررت أن اليوم وغدا وإلى متى تشاء ستعرض فقط ما بجعبتها من سخط وعدوانية صوبي ولا مكان لا للعشق ولا الغفران!!.....وقد نجحت بالتحكم بإخفاء ما اعتراها من نوبة مشاعر باحترافية ولكنها لم تمنع فضول أفكارها التي كانت شرارتها الغيرة بأن تتساءل في سرها وهي ترفع يسراها لتدسها تحت الحجاب تتلمس بها ما بعنقها كأنها ترجوه الأمان....." يا ترى....لمَ طلبَ منه أن يكون لطيفاً مع تلك الفأرة الخبيثة المائعة ؟!....ماذا حدث بينهما ليوصيه بذلك؟!...يا الله كيف سأعرف...أريد أن أعرف....كلا... كلا... لا أريد....اثبتي ألمى واقتلي فضولك قبل أن يقتلك ....لا تعطيه أي ورقة رابحة ضدك...بل احرقي قلبه وعذّبيه ...بصمتك...بتجاهلك ...وابهريه بقوتك وصمودك!!..."....بعد خوضنا السريع بسريرتنا كلٌّ على حدة بشأن المذكورة إياها قلت معترضا بانزعاج للذي ما زال على الهاتف:
" من أخبر السيد سليم ؟!.....كيف تتصرفون دون إذني؟!.."

تنهد مجيباً :
" أنا اتصلتُ به ليُفَعِّل معارفه سيد هادي.....لا تظن سيمر الموضوع بسهولة!...."

استغفرتُ فأردف:
" استغفِر استغفِر ليس خطئاً......ربما ستخرج بأقل الخسائر هكذا .....عقوبة مالية هذا أكيد!.......بالطبع لن تكون قليلة!......وإما إبعادك عن العاصمة لفترة....أو إيقافك لثماني وأربعون ساعة على الأقل عندهم!!......سنرى ماذا سيخرج من رفيف ومعارف السيد سليم!!...."

قلت بإيجاز مكابراً أعاندهم ونفسي:
" لا يهمني مهما كان !.....حتى لو سحبوا منصبي..."

أعلم أن السيد (سليم) يسعى دوما لمصلحتي واختياره الدائم لها لثقته بها وليس لأنها ابنة شقيقه فهو لا يميز بين القريب والغريب والأفضلية لذوي الكفاءة الذين يثبتون نجاحهم... وهي كذلك....فـ(رفيف) سيدة القضايا الناجحة..... رغم صغر سنها!! .....لكني أنا أبغض التعامل غير المريح لي ...أما الآن يبدو لا مفر.....إذاً عليّ الموافقة لإنقاذ نفسي من تبعات غضبي ......فلقد ازدادت مسؤولياتي وأهمها أن هنالك.....ابنا..... في انتظاري!!.....

لم يعجب الأشقر جوابي ولم يعلق عليه بل تجاوزه يسأل بفضول:
" إين أنت الآن؟!.."

أجبتُ بنقمة بعدما سرقتُ نظرة تشعل نيراني للتي كانت مصغية لحديثنا تجلس جانبي توليني جزء من ظهرها :
" ذاهب لقعر جهنم......قل لأمي لا تقلق......ومحيي الدين في أمانتها!..."

" ويحك.!....ما هذا الكلام؟!.."

تفاجأ من ردي الذي لا يشبهني ثم استطرد :
" انتبه لنفسك.....ولا داعي للتهور!...."

عاد للبكاء طفلنا بعد لحظات صمت منه فأشفقت عليه آمراً:
" سامي.!!...ضع ابني بحضن أمي...لا تجبروه على الكرسي!!..."

ردّ متهكماً مني ومن حماته:
" ارتح يا سيد...ابنك في حضن عيوش وليس بالكرسي ...فقلبها الرقيق لم يتحمل بكائه...!!...بالطبع فهي ما شاء الله أينما التفتت تجد أنها ملكت الدولة بحالها....ابنها وصهرها..."

قلت مستغرباً متخطياً مزاحه:
" إذاً لماذا ما زال يبكي؟!."

تنهد يائساً بتصنع وقال ببرود :
"آاه آاه... ماذا تريد منه ومعه في السيارة اثنين من البؤساء....البلبل والغراب!!.... بدلاً من فتح المذياع على أغاني أطفال يضعا على قناة الأخبار ويتناقشان بكل ذمة وضمير وكأنه مدفوع لهما!!...لا بد أن المسكين ملّ منهما..."

سمعتُ ضحكة أمي بينما أنا حوقلت بجزع لرده الساخر وأنهيت هاتفاً بجدية:
" افعلوا أي شيء لتهدئته!!....سأغلق الآن!.."

خيّم الصمت المميت علينا بعد إنهائي المكالمة لوقت غير معلوم....وصلتُ لمفترق طرق اضاءاته قوية وتوقفتُ بسبب الاشارة الحمراء.....كنت أثبت بطن كفي على ناقل الحركة وأحرك أصابعي عليه برتابة مفكرا منتظرا الاشارة الخضراء......فطنتُ للتي بجانبي ....لا حسّ لها ...كانت تريح يسراها على فخذها.....رميتُ عيناي على أناملها ثم سألت ناظرا للأمام:
" أين خاتم زواجنا؟!.."

رفعت كفها تنظر لها بتلقائية ثم أعادتها ببرود لفخذها ولم تجب!!....صبّرتُ نفسي على تجاهلها المستفز لسؤالي وكررته ثانية .....فأجابت بعدم اهتمام:
" لا أعرف..!...."

شجّعت حالي للصبر أكثر محوقلا وقلت بهدوء مزيف:
" سألت سؤال أجيبي عليه دون مراوغة..."

استدارت بحدة نحوي تسلّط عيناها لجانب وجهي وقالت جازمة:
"لستُ مضطرة أبداً.... أن أجيب على أسئلتك!..."

أُشعِلَت الاشارة الخضراء وكلامها هي سبّب باشتعالي أكثر فدعست على الوقود مصدرا أصواتا تزمجر من العادم بدلا من زمجرتي وأكملت طريقي بسرعة فائقة حتى انعطفتُ سالكاً الطريق المؤدي للمدينة الساحلية والدخان يتصاعد من كل ذرة في جسدي وقد وصلتها حرارة البركان الذي عاد للغليان مجدداً....!!.."..صبراً يا ربي..."... المدللة العنيدة باتت خبيرة تفلح بإثارة غضبي فوق غضبي !!....ماذا سأفعل بعنادها القبيح هذا؟!!..........بعفوية اخترتُ أقرب شاطئ أمرُّ منه عند دلوفنا المدينة الساحلية!.....ولم يكن سوى الشاطئ الذي التقيتُ فيه العم (حافظ الصياد) يوم شهر عسلنا المزيف ورفضها لي..!!...أذكر أنه رغب حين التقيته بأن أعود إليهم مع .....زوجتي المطيعة!!......ولكنه قصد بعودتي أي ونحن متصالحان ...متحابان ..زوجان طبيعيان.... ليس خارجان من مشفى المجانين وأجسادنا ملتهبة بالبراكين!!......عذراً عمي الصياد.....يبدو أن نظرتك المستقبلية لعلاقتنا لن تتحقق!....فنحن كالنار والبارود.!!.....لا استقرار ولا هدوء في حياتنا!.....لذا أتمنى أن تكون نائماً في هذا الوقت ولا تعكر صفوك بنا!!........دلفتُ للموقف خاصته!.....اطفأتُ المحرك وفتحت الأبواب بشكل آلي وقبل أن أترجل فكت تلك المغرورة حزامها ونزلت في الحال كأنني كنتُ كاتماً على أنفاسها تريد أن تتحرر!!.....حسناً يا ابنة الـ***.....إنزلي...أهربي..... فالمواجهة التي تفرين منها إنها ملاقيتك....!!...ولن أتركك حتى أعلم كل أسبابك التي أكاد أجزم ما هي الا مكابرة من مدللة ...وحماقة ساذجة..!!........هرعتْ متقدمة اتجاه البحر تحتضن نفسها بذراعيها بسبب هبوب رياح خفيفة في هذا الوقت من الليل....المكان فارغ تماماً....لا أثر لحيوان ولا لبشر!!...وكانت المياه تداعب القوارب الفارغة المربوطة بلطف......توقفتْ عند الحد الفاصل بين الماء والرمال ...والهواء يتلاعب بفستانها الخفيف!!.....نظرت للقمر والنجوم مفكرة بحياتها وكل الهموم !!.....سحبت أنفاسها الملوثة سخطا لتبدلها بأوكسجين نقي من نفحات الجو الجميل تشحن بعض من عزيمتها منه وفي داخلها تكلم نفسها متحدية!!.....فهي تعرف أن البحر هو آخر حد لهروبها....أكيد لن تلقي نفسها به لتنقذ روحها مني.!!.....".. عليكِ أن تكوني قوية....لا ضعف.....لا استسلام....الضرب الذي تلقيته من الحياة لم يقتلك بل جعلك أكثر بأساً وثباتاً....حتى لو اضطررت لمواجهته بما مررتِ به ...لن تبكي ...لن تنهاري ....بل حطمي به غروره الفج الغليظ..!!....لا تنظري لعينيه كثيراً....لا تتأثري من دفء أنفاسه.......لا تسمحي لأي قرب أن يلهب العشق بينكما.....أنتِ قوية يا ألمى...قوية!!......هذا امتحانك....إياك والتنازل له فأنت لا تملكين إلا كرامتك وهي باتت على المحك بسبب وجوده الطاغي وعناده الخانق ...!!....."......ألقيتُ نظرة سريعة نحو كوخ العم (حافظ) كان يغطيه سكون الليل إلا أن معالم الحياة موجودة فيه....فالقنديل ذاته ما زال معلقاً على الباب يضيء بخفوت مريح....وحبل غسيل بسيط ينشر عليه الملابس التي تتراقص بين الحين والآخر بفعل الريح!!......لحقتُ بها وما إن اقتربتُ منها اغتلت المسافة التي بيننا أمسكها من ذراعها بفظاظة وأدرتها نحوي بخفة كخفة وزنها وهتفتُ بها بشدة وتقاسيم وجهي القاسية كانت المعبرة عن حالي:
" بالطبع لم نأتِ الى هنا لشم الهواء......قاربنا على منتصف الليل..... الآن ستخبرينني عن كل ما فعلت ...كلمة كلمة وسأسمعك للنهاية!!..."

هززتها متابعاً وشعور القهر يتعاظم داخلي:
" مثلا أخبريني كيف أنكرت حملك في بيتنا !!..."
" كم مرة التقينا وأنت حامل؟!..."

يد تأسر ذراعها تشد عليه والأخرى أشير بها لنفسي مكملا:
" ابني....ابني أنا......تأتين به لزيارة والدك قبل شهرين وأحمله في حضني دون التعرف عليه كالأبله ؟؟!...لم تتنازلي لتخبريني!!.....كيف استطعتِ فعلها بنا بكل صفاقة ودناءة؟!..."

وناظرتها بازدراء قاسٍ أتابع اسئلتي التي تجعل النار تشب في صدري أكثر وأهزها أكثر وأكثر:
" أي قلب تحملينه داخلك؟!..."
" أتعاقبيني بطفلنا؟!"
" كيف رضيتِ أن تضعيني بدور المغفل أمام الجميع...أهلي والغرباء الذين تسكنين بينهم؟!.."

كانت مستسلمة صاغرة لحركاتي العنيفة معها ...مصغية بكل جوارحها وبكل ما فيها.....تحافظ على السكينة في أنفاسها.....لا ترمش بأهدابها تؤكد على تركيزها إنما حدقتاها كانتا تلمعان ببريق تفوح منه رائحة أسى لن ينتسى...وتراكمات لا نهاية لها.... ...كانت كأنها تخزّن كل ما أقول لتجعله باروداً ينتج منه انفجاراً أكبر ...انفجار هي من تقرره.....في الوقت الذي تريده والمكان الذي تختاره والطريقة التي تحددها......هي المتحكمة الآن ....هي المسيطرة!......لا ترد على تساؤلاتي.....تتركني أتابع بالوجع الذي تحمله كلماتي وما زالت تلتزم الصمت لترى الى أين الوصول؟!......ولم أخب ظنها وأنا أضيف معبّرا عما بخلجاتي....عما يدور في ذهني.....عما يبحث عنه قلبي علّه يرتاح بأن الخيانة من أجلها أعواما طوال لم تكن عبثاً !!....

" هل أستحق فعلتك هذه لهذه الدرجة بنظرك ؟!..."

" لم اظن يوماً بأنك ستصلين لحمل هذه الضغينة والكراهية اتجاهي ......كان يكفيكِ أن تعاقبيني بكِ.....بحرماني منك وأنت تعلمين كم أحبـ...."

سحقاً لها.....كدتُ أشهر لها حبي وأسلّمها بحماقة نقاط ضعفي لتبدع أكثر بتعذيبي!!......ابتعدت خطوة عنها وحركت رأسي بضياع يمنة ويسرة وببطن أصابع يمناي ضربت بخفة جانب رأسي هاتفاً :
" ما زال عقلي لا يستوعب كيف تلاعبت بالصغير لتسخّريه عقابا لي!!..."

ثم تذكّرت أكبر أسبابها .....ويا ليتها أسبابا حقيقية....إنما تهماً من سراب......قتلت حبنا ووصمت على حياتنا الخراب.....غضنتُ جبيني وضيقتُ عينيّ مستنكراً....وذكرى لحظة سماعي الافتراء عادت لتغرز السكاكين في انحاء جسدي .....الافتراء الذي رجّ كياني وكامل وجداني ومنه افترقنا بل احترقنا....سألتها غير منتظراً منها إجابتها فهي لم تتكرم عليّ بأي رد....وكان التزام الصمت عندها سلاحها الأبيض:
" بل كيف صدّقتِ أنني قلت ذاك الكلام لوالدك أي أنني لا أريد طفلاً منك وسأجبرك على اجهاضه....كيف؟!...."

ضربتُ صدري أعاقب خائني عاشقها المصدوم مستفسراً بتعجّب:
" أترينني دنيئا حقيراً لأتخذ زواجي منك ذريعة ...للانتقام فقط لا غير!!....وأن اتمامي له مجرد افراغ لشهواتي؟!....."

تنهدتُ افرغ شحناتي ومع كل شحنة غصاتي ثم استدرتُ متخذا البحر وجهتي وظلام الليل بوصلتي ....خطوتُ داخلاً حتى توارت بالمياه.. قدميّ... وشبراً فوق كعبيّ!!.....ثم نثرت الرمال المبتلة المصاحبة لرذاذ الماء من تحته بعد أن حفرتها بمقدمة حذائي قهراً مع ركلة عميقة أشد لوعة ليتبعها خطابي موليها ظهري ثابتا بالبحر:
" كم أنني شخصا مجرماً وضيعا بنظرك ...مشاعري مزيفة ورغباتي بك حيوانية وإن حملتِ مني سأقتل ابني بيدي!!........يا له من سيناريو رخيص لا يخرج إلا مِن مَن كان أكثر رخصاً.......أبا جهل لم يفكر به وأبا لهب لم يطبقه بينما عاصي رضا لم يتوانَ لا عن التخطيط ولا التنفيذ وبكل أريحية والشيطان بنفسه يقف يتعلم منه!!.....بالطبع هذا لأنه وجد ابنته لقمة سائغة .....كلمة تأخذها وكلمة تعيدها!!.....يستخدمها بما يتوافق مع مصالحه!!..."

الكلام عنه بات يخنقها ويزيدها احراجاً بسبب افعاله الشنيعة التي صدمتها..!!...التفتُّ بجذعي مستديرا نصف استدارة أنظر لها موجها آخر كلماتي لهذه الجولة:
" إن أردت قهري..."

وعدتُ مكتفاً ذراعي على صدري أغوص غارقاً بنظري في عمق البحر والسماء مردفاً:
" فقد تعديتِ قهري.......أنتِ بظنونك وأفكارك عني وعقابك لي بإخفاء ابني نجحت بنحري.... يا امرأة...!!..."

زفرت أنفاسا أثقلتني وختمت جولتي مهدداً:
" استرخي الآن .....فلن نتحرك من هنا إلا وأنت تجيبي على اسئلتي كلها بإذن الله !!....أنا ما زلتُ صابراً عليكِ ولم أركِ وجهي الآخر بحق!.."

انتهى حالياً الكلام وساد صمتاً موحشاً وسط الظلام.....بقيتُ شارداً بالبحر اعطها المجال لتسترخي وأناشد بشرودي استرخائي!!....عقلي يراودني ويغريني بأن أغطس في أعماقه بملابسي وأمارس أحب هواياتي لأزيل عني بعضاً من همومي كعادتي عند ضيقي أو غضبي !!....مرت الثواني متعاقبة ورسمت دقائق متقاربة .....دقائق لا تجتاز الخمسة......حررت يديّ عني واستدرت لمتابعة جولتي التالية!!....فوقفتُ مشدوهاً لوهلة!!......أين هي؟!...ضوء القمر لا يكفي لألمحها!!....شددت قبضتيّ بغلّ وجززتُ على أسناني بقهر ثم خرجتُ بعزم....أين ذهبت ؟!...تلّفتّ هنا وهناك.....هل تريد أن أريها الابداع في جنوني؟!.....لمَ تستفزني؟!....أتريد أن تخرج اسوأ ما بي؟!.... لما اجتزتُ عدة أمتاراً بعد المياه لمحتها تسير ببطء متجهة نحو الموقف والفستان يتطاير من حولها والحجاب يلوح بتمرد لهبوب ريحٍ أشد قوة ... تحاول التحكم بالفستان بإحدى يديها وبالأخرى بالحجاب كي لا يهرب عن شعرها.....بخطى واسعة تترك أثار وقع قدماي المثقلتان بالغضب وصلتها ومثل كل مرة أمسكتها من معصمها ومن خلفي جررتها بقسوة عائدا لنفس المكان هاتفاً من بين أسناني مع حفيف أنفاسي المتقدة بينما هي تتعثر غير قادرة على موازاة خطواتي:
" أعطيتك المجال لتهدئي واهدأ وتخبريني كل ما جرى.....لا لتهربي!.......لا تجعليني اكسر رأسك العنيد!!... هيا امشي معي!!..."

بيدها الحرة تحاول تحرير أختها الأسيرة وهي تضرب قبضتي تارة وتقرصها تارة هاتفة بحنق:
" اتركني ....لا كلام عندي يفيدك!.....لن تجبرني على شيء!!...."

وصلنا البقعة ذاتها ...طبول قلبها قرعت ولم ترحمها لما أفلتّها دافعاً إياها باحتداد شرس صارخاً بها بخشونة:
" قفي هنا مثل البشر وتكلمي.....اخبريني كل شيء!!.."

ما لبثتُ أن أنهي تسلّطي في الكلام مع دفعي لها حتى التقطتُ كف يسراها بيسراي من فوري أسحبها نحوي أثبتها قبل أن تقع لما رأيتها تختل من حركتي الغليظة .....اخطأت بتصرفي الفظ أجل.......لكن......لم اعتذر ولن اعتذر !!......فلتتكلم وترحم نفسها إن كانت تحمل ذرة عقل !!...بقيت معتقلا كفها مصراً على انتزاع الكلام منها ...رفعتها لها وضغطتُ عليها بقبضتي كأنني اعتصر ما أريد سماعه منها وبضحكة حارقة مزيفة واللهيب البركاني كان يتأجج داخلي ويُعكس في جمر عينيّ هتفتُ مقهوراً عازماً على قهرها بينما هي اخرجت أنّة صغيرة تاهت منها رغما عنها ثم أغمضت عينيها وهي تشد على شفتيها تحاول التحكم بعدم إظهار ألمها لي:
" مثلا ابدئي لماذا خاتم زواجنا الذي يعبر عن رباطنا المقدس بصورة رمزية ليس بيدك؟!.......لمَ خلعتيه؟!!......ما هي نواياك؟!....."

وبكلمات ثقيلة صدرت مني بعدما أغواني الشيطان قلت ناسفاً حدود تعقلاتي ومبادئي ...فالأفكار تقافزت في ذهني والغيرة لم تفل عني وخاصة إني أشعر بتغييرها الواضح...فليست (ألمى) البريئة الحنونة العفوية التي تفعل هذا بنا ولم اعد أعرف هل فعلا لا أجد حبها لي في سماءيها كأنها اقصتني من ملجئي أم أن الغضب اغشى بصيرتي وأعمى عيناي:
" هل أعجبتك الحياة دوني؟!.....أم تريدين أن تظهري بأنك عزباء علّك تبدئين ..."

وكم كان إتمام السؤال عليّ صعب ومن بعده نظرة الغضب في عينيها رُعب :
" حياة جديدة وقصة حب مع....آخر؟!... ."

نفضتُ يدها بغلّ أحررها من قبضتي فور انتهاء قذائفي فارتجت حدقتاها تنبئان عن صاعقة قادمة ودون أن تجيب بحرف واحد رفعت كفها اليمنى لتعيد الكرّة الماضية.....تريد صفعي!!....ربما بكلمتي الظالمة قد استحققتها لكني حوطتها من معصمها بيميني ضاغطاً عليها قبل أن تصلني فكررت حركتها ذاتها بيسراها لتكون ردة فعلي نفسها أمنعها في منتصف طريقها زافراً أنفاساً ساخطة!!....تشابكت أيدينا بشكل (إكس x) وقد نفرت مني عروقي كلها وقاربت على الانفجار وقلتُ بهمس سام:
" إياك....إياك...إياك....قسماً لن أرحمك هذه المرة....لن أرحمك.....ألْـ...ـمــــــــى.. !."

بمقطعين متفرقين نطقتُ اسمها بنبرة أعلى من سابقتها أمد الأخير بأكثر من حركتين كتأكيد على قسمي ثم بخفوت ساخر استأنفت وكل ما بي لا يبشر بالخير:
"ألم تتعلمي بعد أن قلة أدبك هذه معي هي السبب الوحيد لهجري لك!؟....ألم تتوبي عن حركاتك هذه؟!....."

وكانت المفاجأة الصادمة عندما انفجر بركان غضبها ليتنافس مع بركان غضبي فشدت يديها من يديّ بأقوى قوتها وبجسارة متينة تملّكتها دفعتني بكفيها من صدري صارخة كالملسوعة:
" أنت من اتهمتني وقذفتني بلسانك....والآن تقول لن ترحمني....ماذا ستفعل؟!.....قل لي ....ماذا ستفعل؟!...."

تتقدم تدفعني تتابع كلامها المبطن بحدة بينما ابتسامة سقيمة ترسمها على شفتيها ...ليست حقيقية بل ....حدودها اللهب...:
" أتهددني؟!.......بماذا؟!..."

باطنها... الغضب .:
" أتريد هجري؟!.....أنا بتّ الملكة عليه وكل الأوجاع التي دونه حاشيتي !..."

بينما أنا اعود للخلف متماشياً مع دفعها ....أسمع كلامها في عجب:
" أتريد ضربي؟!.....لن أبالي ....فالضربات التي تلقاها قلبي قامت بالواجب معي من كل صوب وحدب!!..."

وكان قلبي ...يدق في صخب:
"قل لي ماذا ستفعل؟!..... أتريد حرماني من ابني؟!.......أنا بكامل قواي العقلية تركته لك!...."

وبعد خطوات لا تتجاوز الأربع ثبتُّ بأرضي كالجبل الصامد.... وروحي تئن من الوَصب:
" أتريد الانتقام من أبي؟!........لقد نلت مرادك وانتقمت بحبسه وبإيصاله اليوم لحافة الموت.... وها هو ينال جزاء.... ما اقترفت يداه..... قانونيا وصحياً !....لم أعد ادافع عبثاً وبغباء طفلة .....افعل ما تشاء لن اوقفك.."

رأت ملامحي تتحول في الحال من الغضب الى الجمود مبهماً دون ردة فعل صريحة فتابعت بكل ثبات وثقة دخيلة عليها:
" لا تتفاجأ وافرح....اجل افرح وافتخر بنفسك ونجاح مهمتك!!. كنتَ أنت المحق وأنا الساذجة الحمقاء.....كنتَ أنت ابن الشريف الضحية المغدور وأنا ابنة الخائن المجرم الجاني .....كنتوا جميعكم أبطال المسرحية وأنا الكومبارس الرخيصة!........أجل أيها الفهد الأسود .....أنا علمت كل الحقيقة أخيراً من رسالة خالتي وهي السبب لأكون ماثلة أمامك هذه الساعة.....وتحديداً في....... وطنك...."

كلمتها الأخيرة فصلتها عن الباقي كأنها تحدد أننا أبناء وطنين لا واحد وبه تؤكد أن لا علاقة لها هنا وكأنها تقول في النهاية سيكون الفراق طريقنا ....أنت ابقَ في وطنك... وأنا ستبقى بلاد اللجوء وطني !!.....وبحركة تمثيلية لا تشبهها بسطت كف يمناها تلصقها بيسراها تنحني لتقترب أكثر مني تناظرني دون مشاعر وهي تحركهما:
" وها أنا اعتذر....اعتذر.....اعتذر لأني ناكفتك ونكدت عليك في الماضي ودافعتُ عن أبي المجرم..."

واستطردت تنازلني بشراسة كقائد يحمل كل السطوة تجعلني خصمها في أرض المعركة وتخرج النبرة من شفتيها للكلمة الأولى بجملتها.... مختلفة تبهرني بقوتها... ساطعة تسرق سمعي بنغمتها... متفردة تتحداني بثقتها... وواجبة تلزمني بأمرها:
" وحـــالاً !!!!!...... قل لي بماذا تهددني بالضبط...يا.....سيادة رئيس أركان الجيش المحترم ؟!..."

تضيف بنغمة هازئة لاسعة:
" بماذا؟!.......هل ستشهر أسلحتك عليّ وتقتلني؟!......."

تعيد نبرتها الدخيلة الواثقة وتكمل:
" خذها نصيحة مني..... لا تتعب نفسك فالتي تحدثك عبارة عن بقايا جثة هامدة أوشكت على التحلل كلياً......أي وفّر رصاصاتك لأن حتى الرصاصة ذاتها إن انطلقت من رشاشك ستقف حائرة قبالتي !!....فهي لن تجد مكاناً لتخترق جسدي الممزق تمزيقاً عنيفاً ...بل ستعود وتقتلك...أنت...أنت!!....."

بتّ حائراً في مرية من أمري...ماذا تحدّثني هي وماذا أنا أسمع؟!.. ..بدأ بركان غضبي يخمد رويدا رويدا بعد كل ما نطقت به ورغم أنه كان أقرب لتقرير عن نتائج من أن يكون اجابات لأسئلتي التي ما زلت لا أجد لها تفسيرا!! ....لا أنكر أن أوجاعها التي تخللتها كلماتها كانت كصفعة لأنهض من غيبوبة سخطي وجنوني للحظات...وكأنها جمدت أعصابي لأرى الأمور من زوايا أخرى !!......وبعد انفجارها أضحت السماء في عينيها ناصعة متألقة في بهاء لم تغشها سحب الشتاء ولا ضباب في الأجواء....وكأنها في يوم صيفي صافي خالي من الشوائب...كأنها ترسل رسائل لي من خلالها تقول بها أنها ....هي الآن الأقوى ...أنها ..هي صاحبة الحق لا تخشى ولا تهاب!!...كأنها تخبرني بأنها ....يمكنها مواجهتي بأربع عيون....لن تتهرب...لن تنكر.....فالأقلام التي خطّت لها آلامها منذ الهجر قد وُضعت.... وأوراق الحقيقة المرة من أيام قريبة قد كُشفت.... والمواجهة المرتقبة نتائجها قد حُسمت !!......تساءلت في نفسي .." .ما بها تقول هذا الكلام؟!....ما قصدها؟!...ألهذه الدرجة هجري فتك بها فعلاً وكان أليما ؟!....ألم تختر هي من البداية وبنفسها الابتعاد عني؟!....."...صرتُ أحلل كلامها في داخلي ولم أستطع الوصول لمكان محدد ..كان كل شيء أمامي موصد ولم تعطني المجال لأغرق في حيرتي أكثر وكأنها اخترقت غياهب عقلي ليبدأ دورها الأساسي الآن ...فما مضى كان بالنسبة إليها تسخين والآن ستُخرج للسطح كل سر في فؤادها دفين...ولم تكن نيتها بهذا توسل العطف ولا ترجو مني حناناً أو لطف إنما شحنت عتادها الحربيّ لتسدد ضرباتها الصاروخية تقصف بها الخائن بين أضلعي والمقر الخاص في ضميري لتعلنها حرباً شاملة لن ترحم بها لا الحجر ولا الشجر وسأكون أنا أكبر أهدافها تضعني في دائرة الخطر وها هي تطلق أول صاروخ من حنجرتها ضاحكة بقهر :
" يوم الجلسة الأولى للمحكمة المشؤومة "

حركت سبابتها جوار رأسها بشكل اسطواني عكس ****ب الساعة متابعة:
" تذكر!! .....عد بذاكرتك بضع أشهر للوراء!!.....عندما كنت تجلس مع تلك الفأرة المتملقة وسحبتني الى تلك الغرفة اللعينة لتوبخني.....ألم أطلب منك أن تسمعني؟!...ألم ارجوك؟...ألم أتوسلك؟!......ففي ذاك اليوم جئتك لأخبرك عن حملي !....لقد أدركتُ حينها خطئي بإخفائي عنك هذا الأمر بعد توجيه خالتي سهيلة ورهف لي.....وماذا فعلت أنتَ؟!...."

اتسع فمها بابتسامة عريضة تحمل في خباياها وجعاً وشماتة في آنٍ واحد وقالت:
" أشهرت في وجهي كبرياءك اللعين ذاته ...الكبرياء الذي دوما يكون أول ما ترفعه كسلاحٍ ضدي عند أي مشكلة تحصل بيننا!!.....تماماً مثل يوم صفعتي لك .....لم تبحث حينها عن سبب فعلتي وأنا التي طلبت لقاءك....وكان أيضا لأبشرك بحملي أول مرة......لكن أخذتك العزة بالإثم والعقاب بالكبرياء ولم تتنازل لتسأل بل أهنتني ضعف ما أهنتك ....تسالني لمَ كذبت في بيتكم ؟!....لم اكذب ...النتيجة كانت سلبية ويوم خبر وفاة خالتي فقدت وعيي وأجروا لي تحليل دم دون علمي...بطلب من خالتي سهيلة لأنها شكّت أنني حامل.....جئتك حباً فكذب أبي....أبي مجرم أجل....حتى أنني لم اسمعه يذكر الله يوماً ...لم أره يسجد سجدة واحدة ....لكنه أبي....أتعي؟؟....هو من ربّاني ودللني....اختاره القدر لي فواجبي أن أكون ابنته بكل جوارحي ....أن أحبه...أن اسامحه !!......كيف؟ كيف لن اصدقه ؟!....لمَ أردتني أن اثق بك أنت وأنت خدعتني بأكبر مسرحية من أجل مهمتك ؟!...إذا كان حبك صادق رغم الخدعة فأبوّة ابي لي هي كذلك رغم أنه كذب وأجرم....لا فرق بينكما.....لقد تشاركتما بخداعي وحبكما لي....وإن اختلفت نواياكما ومساعيكما......بعد كل ما عشت من صدمات منكم جميعاً استكثرت عليّ صفعة لا تضر نملة عبّرت بها عن قهري المساوي لحبي ....وماذا فعلت أنت؟!....لم ترحمني من نار غضبك....اوقعتني أرضا وأنا حامل......كان من الممكن أن تتسبب بإجهاضي فعلا وخاصة أن حملي ضعيف لكن رحمة الله اكبر منك...فأين كنت ستذهب من ضميرك لو قتلت ابننا في بطني وإن كان دون قصد؟!!.....ومع كل هذا عدتُ لك يوم المحكمة كما أخبرتك...... !!..."

انفطر الرابض في صدري من كلامها لكني صرختُ معترضاً على تهمتها لي التي تريد إيلامي بها أكثر تكوي بها ضميري وأنا أحرك سبابتي أمامها:
" لو تصرّفتِ بعقلانية واخبرتني كل شيء لما وصلنا لهذا....لا تتهميني بما يخص ابني!....أنت من سرتِ خلف والدك كالعمياء ..لا تضعي الذنب عليّ.... وأنتِ من اسأت الأدب معي وأمام الناس...اهنتِ كرامتي التي لن اتخلّى عنها ما حييت!!....فلكل فعل ردة فعل وتلك كانت ردة فعلي!!....فتحملي...تحملي عواقب أفعالك وإياك اللعب بضميري او اتهامي بشيء لم يحصل!.."

قالت دون انتظار بغصة تختلج صدرها:
" حسناً أخطأت يومها لكن قلت لك جئت بعدها ...جئتك مقبلة غير مدبرة بعدما أدركت ذلك!.."

لم تحاول بجملتها السابقة الدفاع عن والدها أبداً ولا استجداء العطف مني ولا العزف على مشاعري لتظهر أنها مظلومة وأنا الظالم بل اعترفت بخطئها ثم أضافت بابتسامة مريرة وكلمات نطق حروفها كانت عليها عسيرة:
" أتعلم قررت بملء ارادتي أن أقبل إليك من أجل ابننا كي يعيش وسط أسرة كاملة سعيدة...رغم ما عيشتني معك من مسرحية خادعة!....أردتُ ألا يعيش نقصي الذي عشته وأنت تعلم ما عشت!.....كنت سأفصل ما بيننا من عداوة وانتقام عن حقيقة رباطنا معا من أجله!!........لكنك صددتني بكل فظاظة وكراهية لم ارهما يوما منك !!.....لم تسأل عني...لم تهتم بي ولو من بعيد...رميتني ولم تزرني ساعة ...رميتني ولم تحنّ...كأنك انتظرت الخلاص مني......كأنني كنتُ عبئاً عليك...كيف سأقبل وأخبرك من جديد وأنت بهجرك أشعرتني أنني فعلاً كنت التذكرة لمهمتك فقط وانتهت صلاحيتها مع انتهائك لها.......ودورك الآن أن تجيب...اخبرني.....اخبرني أين كنتَ أنت وأنا أجوب الشوارع حاملاً باحثة عن عمل لا شهادة تؤهلني له ولا خبرة في الحياة تدعمني!...؟!"

ربّاه.....ما الذي يلقى على مسامعي ويستقر مغروساً في قلبي ؟!.....لم تعطني فرصة لأتنفس وهي تجرّدني من ذاتي على مهل قطعة قطعة بسبب إهمالي السافر لها والذي كان بهذه الشدّة عليها دون أن أدرك فظاظة قراري...ولم أتمكن أيضا ًمن اخبارها أنني لم اتركها إلا ليقيني أنها بأمان حيث تواجدت...لم استطع أن اطلعها عن المال الذي بعثته مع السيدة (إيمان) بعد الذي اعادته من حسابها لتعيش معززة مكرمة ولم أعرف أين كان مصيره؟!.. ولم اقدر أن ابوح لها بنيتي التي كانت بأن هجري لم يكن ليطول فأنا لم اكن أقوى على البُعاد أساسا.....لكن ...كيف سأبرر لها بعد القاء قذائفها عليّ بما هي أكبر أسبابي...حربي ومحاولة اغتيالي.....عودتي من الموت واكتئابي!!.....عليّ أن ادافع عن نفسي ...أعلم بل أكثر من يعلم....إنما أبقى أنا ....(هادي) ذو الكبرياء اللعين... كما قالت.....فلن أتكلم لأرجو شفقة منها ولا عطف حتى لو خرجت مني آخر أنفاسي !!...فإما الغفران يكون حبّاً لي وقبول اعتذاري كرماً منها دون مؤثرات....أو لا أريده ...لأن عزة نفسي خطي الذي لن اسمح بالدوس عليه!!.. ..أساسا لا كلام عندي وأبجديتي ضاعت مني.. لم أجد أي تعليق محايد أرد به على آخر ما نطقت... وروحي من شظايا صواريخها قد تمزقت !....
رأت صمتي ولم تقرأ فكري وما خضتُ مع نفسي وكان صوتها الآن أقوى فأوتارها مشدودة بثقة تامة وهي تكمل من فورها لأنها تعلمت من دروسها الحربية بأن قذف الصاروخ تلو الآخر أنجح وأنجع لإصابة أكثر أهداف والحصول على أكثر أشلاء:
" لا حاجة لتسمعني جوابك....يكفيني أن تسمع سؤالي ...والآن لنعود لسؤالك أنت.... يا من لن ترحمني.... أين خاتم الزواج ....اسمع إذاً!....."

أمسكت بنصر كفها اليسرى بين سبابة وابهام يمناها وهتفت ويدها تهتز انفعالاً :
" محبسي ورغم ما مررنا به لم أخلعه يوماً.....حتى جاء يوم ميلاد محيي الدين.......كنتُ في الشهر السابع.....احفظ هذه المعلومة عن ابنك إن كان لهذه الدرجة يهمك ....."

كانت صورتي وأنا ماثل أمامها مصغي لها توحي أنني الجبل الذي لا يهزه الريح ولكن في الحقيقة كانت كل كلمة اسمعها تجعلني أكثر هشاشة فصرتُ كالعهن المنفوش ....وعند جملتها الأخيرة بالذات شعرت بالطعنة في كبدي ولم أعقّب....أصلاً بمَ أعقّب عندما الشيء يمس مهجة قلبي والقطعة من روحي...ابني حبيبي؟؟! !!....تماسكتُ بقوة تكبدتُها لأواجه متابعتها بإلقاء صواريخها :
" لقد جاء بولادة مبكرة في تاريخ (../../..)...هذا هو يوم ميلاده!!...أي أنه طفل سباعي!! ...أثناء حملي وعند وصولي للأسبوع الاخير قبل ولادته انتفخ جسدي كثيراً فلم أتمكن من اخراج الخاتم من يدي وعند عمليتي القيصرية لأنه ممنوع معادن وما شابه اضطروا لقصه وهو في اصبعي!!...."

التاريخ وحده أصابني في مقتل ...ميلاد ابني كان يوم حادثتي!!....ما هذه الصدف الغريبة؟!...يا الله !....حركت رأسها ناظرة إلي بحسرة مع ابتسامة مائلة وسألت باستنكار:
" هل وصلك جواب سؤالك؟....سيادة رئيس الأركان؟!..."

لمعت أرضي بندى القهر وكتمتُ صرخاتي في احشائي.....زفرت أنفاسها كأنها تملأ قاذفات الصواريخ عندها لتستأنف قصفها دون هدنة ترحمني بها:
" ماذا تريد أن اخبرك أيضا؟!.....فالسنة الماضية أسست تاريخاً كاملاً من عمق المواجع ...مواجع لم تمر في أيٍّ من عصوري!!...."

تسابقت في ذهنها الذكريات ...ذكرى أمرّ من أختها وأخرى أصعب من التي قبلها...ولم تعد تعرف أيها تلقف وإليّ تقذف...بدا لي أن موسم الصيف في سمائها باكراً قد فلّ لتتجمع الغيوم عندها تنبئ عن خريفٍ قد حلّ...رفرفت في أهدابها تطردها لكن الدمع خانها عندما على وجنتيها أطلّ ...تهدجت أنفاسها وهي تهتف متناسية اخفاء ضعفها أمامي بعد أن غلبتها براءتها الفطرية تنظر للفراغ نظرات أسية تحرك رأسها بتيه من تلك الذكرى التي لقفتها بعشوائية وهي تفتر ثغرها عن ابتسامة حملت المرار:
" أتعلم؟!.....أنا التي ترّبت على العز والدلال وتزوجت من ابن العز صاحب المال أتتني أياماً عندما كنتُ حاملاً به..... اشـ....اشتهي فيها بضع من الأطعمة التي لم تكن تنتهي من بيتي يوماً....ولم....ولم استـ..."

تعثر صوتها بالغصات وأكملت تقتلني بالطعنات:
" ولم استطع شراءها....لأنها كلها من متاجر الاغنياء وأنا اضحيتُ ابنة حي الفقراء....أي لا تواجد لها في بقالاتهم ولا نقودي أو وضعي كان يسمح لأذهب للمتاجر تلك التي اعتدتُ عليها!..."

دنوتُ منها تائهاً لا أعلم ماذا أقول فبسطت كفيها بشراسة تمنعني من الوصول وتابعت تحكي عن كل ما بخاطرها يجول لتكون هي القاتلة وأنا أمامها المقتول:
" كل امرأة يكون حملها أجمل أيام عمرها....تريد عيشه مع شريكها يومياً...ينسجان أحلاماً لطفلهما معاً....ينتظران كل اسبوع وكل شهر بلهفة الفحص التالي....للاطمئنان عليه...لسماع دقات قلبه.....لمعرفة جنسه...لاختيار اسمه......"

بضحكة مكلومة فصلت كلامها بين الأول عن أحلامها لتتابع الثاني عن آلامها:
" بينما أنا كم وددتُ اجراء صورة في الموجات الفوق صوتية ثلاثية الأبعاد الأكثر تطوراً لاحتفظ بها للذكرى ....لكني بالكاد تمكّنتُ من اجراء فحوصات أقل من عادية.....والسبب حالتي المادية....لأوفر ما معي من مال من أجل أدوية تثبيت الحمل وفيتامينات وما الى ذلك.....فلم يكن شريك لديّ يسندني مثل سائر النساء!...."

كيف النار يمكنها أن تؤلم النار ؟؟...وكيف الجمر الصغير يمكنه التأثير على البركان ؟!......لقد ألقت جمرات أوجاعها على جبل بركاني فصرتُ المحروق منها بدلاً من أن أكون الحارق لها لمّا قفزت أسابيعاً لتأتي لما بعد (محيي الدين الصغير)...!!....كنا ما زلنا في نفس المكان نحترق معاً بأوجاعنا قرب البحر لا نسمع إلا سوانا مع تلاطم الأمواج بالقوارب والهواء البارد غدا ساخناً من النيران التي تخرج منا !!....مخازن معسكرها مليئة بالذخيرة ومصانع أوجاعها تصنع صواريخها...وأرضي وقلبي حقل التجارب عندها....وها هي تلقي صاروخاً جديداً لن تستطيع التقاطه راداراتي.....فعند ما يخص ابني تئن الروح وأغدو ضعيف الحجة فيُلجم لساني وتصرخ داخلي آهاتي وبصعوبة أتحكم بعبراتي:
" عند ولادتي لمحيي الدين كنا تحت الخطر....إما أنا أو هو ...أحدنا فقط سينجو...تصارع الأطباء لإنقاذنا بعد قرار بأن حق الأولوية للحياة لي....وبفضل الله تمكّنوا من الحفاظ على كلينا......ولكن للأســ...."

يا لعذاب القلب...يا للوعتي!!....أكان الموت سيوحدني مع إحداهما آنذاك ؟!....كدتُ أفقد حياتي حينها وكان من الممكن أن (ألمى) الروح أو مهجة القلب يحصل لهما ذلك ؟!!...ما ألطفك يا الله معنا ..كيف لطفت بنا؟!....ما أرحمك يا الله بقلوبنا....كيف رحمتنا؟!....ما أكرمك يا الله معنا....كيف وهبتنا الحياة من جديد جميعنا ولم تفرّقنا؟!....فالحمد لله على ما مضى والحمد لله على ما أنا به الآن....الحمد لله على ما سيأتي والحمد لله على كل حال ..!!.....

هي سيدة الحرب تواجهني بما تحمل من عتاد بكل قوة وشموخ أجل..... ولكنها تبقى الأم...والأم عند الابن تضع أسلحتها وتظهر رحمتها ولن تستطيع اخفاء رقة قلبها فتقطعت مرتعشة أنفاسها وبدأ صدرها يعلو ويهبط من الذكرى ولم تقوَ للحظات إتمام جملتها !....وضعت يدها على صدرها بانحناء طفيف تنظر للرمال بخواء وكأنها ستنهار أو ستفقد الوعي...!!...راقبتها بضياع وأنا ألمس ألمها....ما عساني أن أفعل....أأقترب وهي لا تطيقني؟!.....أم أصمد مكاني فتلوم قلة اهتمامي؟!...والقرار لمن يكون في الصدارة أي الخائن الذي نبض عشقاً وعطفاً دون انتظار أي إشارة....فبعفوية تزيّنها الحنية دنوتُ منها بسرعة أمد يدي لأمسكها هامساً بمرارة:
" هل أنتِ بخير ؟!.."

ودنوي منها شحن عزيمتها وهمسي أشعل تحديها...لن تضعف ولن تسمح للاقتراب.....استقامت تعيد رباطة جأشها تضع حاجزاً بيننا يدها لتوقفني وجلت صوتها لتتحصن بقوتها متابعة تبعد نظرها عني:
" ولكن للأسف....لم أتمكن أن أكون أماً له لحظة ميلاده....لقد دخلتُ باكتئاب ما بعد الولادة...."
وبجرأة وجسارة وهمّة عالية صوّبت حدقتيها لحدقتيّ مردفة تسبقني تلقي قذيفتها كأني كنتُ سألومها على جملتها بأنها لم تكن أماً له بينما داخلها هي ما زالت تلوم نفسها كأنه كان بإرادتها:
" لم أكن أماً له وقتها....كما لم تكن... أنت.... أباً له أيضاً..!!.."

ازدادت تحدي وازدادت سرعة دقاتها حسرةً على حالهما فتابعت تعايرني بتقصيري دون رحمة بحالي بكل غلظة:
" تخيّل...الغريب أذّن الآذان الأول بأذنه....الغريب من اهتم برعايته في المشفى....بكر زوج رهف!!....وهو نفسه من اهتم بختانه!!.....لقد كان أبّاً له ورهف أمّا له ولم يتركاه وهما يذهبان يومياً للمشفى يهتمان به بدلاً عن.....أم مريضة وأب...."

ضحكة لئيمة مريرة أطلقتها تناظرني باستصغار:
" وأب رمى أمه دون أن يسأل عنها وسار خلف كبريائه اللعين...!!....ولا تتحجج بانشغالك بالحرب!!.."

دمعة دفعها قلبي لتسير وصولاً لأرضي فتأرجحت على رموشي بإباء قبل أن تختفي بين ذرات الرمال وكم حمدتُ الله أنه سترني بعتمة الليل كي لا تراها بعدما كانت تلك الدمعة الشرارة لإشعال بركاني الذي كان قد خمد والذي ألقيتُ منه إحدى حممي عندما هجمتُ عليها ماسكاً جانبيّ ذراعيها بعدوانية أضغط عليها مع خضي لها بغل وقهر صارخاً بها:
" اصمتي....اصمتي....أو كلا... زيدي بظنونك عني وضاعفي قهري فوق قهري كما تشائين....لستُ أنا من أترك مسؤولياتي....ولستُ أنا من أهمل واجباتي ....ذنبي في البداية لن أنكره وما بعده لن أبرره....لن أدافع عن نفسي بما عشتِ بسببي ولكن ايضاً لن اغفر لكِ ما فعلتِ بي وبابني....ولا أي سبب ولا أي وجع ولا أي ذنب يسمح بإخفاء أي امرأة لحملها عن زوجها....وابناً عن أبيه.!!...ما فعلته لا يرضه عقلاً ولا ضمير...لا مسلم ولا كافر.......لو لم تأتِ صديقتك لاستمريت بلعبتك الدنيئة بكل أنانية ....ما الذي كنتِ تنوين فعله أيضاً؟!....إلى أين كنتِ تريدين الوصول؟!.."

ارتعبت من قسوتي ولم تشعر بقلة حيلتي ...انهار صمودها وسقطت دمعاتها تفضح أوجاعها....فهمست بصوت مبحوح بينما ما زلتُ ممسكاً بها ولا أشعر بضغط قبضتيّ عليها:
" لم أكن أريد الوصول لمكان.....كنتُ فقط مع كل طرقة باب ...أرجو أن تكون أنت خلفه ....مع كل رنّة هاتف أتمنى أن أرى اسمك......كل يوم أنام وأصحو على أمل...والأمل فقط....أنك لن تطيل الغياب....ستأتي...إن لم يكن اليوم فغداً....آمنتُ بحبنا!...كان أقوى من كل شيء.....لكن كل أسبوع كان يمر كنتُ أتجرع به العلقم المر....خذلتني ولم تأتِ الى بابي....لكنتَ سمعتَ عفوي وجوابي ....دارت الأيام تلو الأيام...انتهى الحمل والميلاد ....وخالتي سهيلة اجبرتني على العلاج من الاكتئاب من أجل ابني....دفعت مالاً كثيراً لا أعلم من أين أتت به!...ربما هذا من شقاء عمرها لم تخبرني!....وأنت!....بكل ما تملك لم تتنازل وتأتي لتراني!!.."

" وأنتِ؟!....ماذا عنك؟!....لمَ انتظرتني فقط ولم تحاولي الاتصال بي؟!...ألم أكن سأترك كل شيء وآتي ؟!...."

سألتها لألومها بدوري وهي أسيرة يديّ ولم اتطرق بالطبع لمسألة المال الذي تعالجت به وقد أيقنتُ أنه مني !!!...كان جوابها مختصر الكلمات تزامناً مع رفع كفيها لصدري تحاول ابعادي عنها ببرود قاتل:
" لديّ كرامة كما لديك.....بل لم يتبقّ عندي غيرها!...فاحسبها كما شئت!.."

لم يعجبني ردها فقلت معلناً نفوذي عليها وأنا افلت احدى ذراعيها محاولاً أن أدير وجهتها نحو الموقف لأسحبها معي:
" هذه ليس حجة لتخفيه عني!....لم ينتهِ كلامنا وللحديث بقية.... أما الآن هيا معي للبيت لقد تأخر الوقت !!..."

وظننتُ أن بركانها أطفئ وأن جموحها تلاشى ....وكم كنتُ مخطئاً؟!!....فبقوة هائلة هزّتني لتتحرر مني بالكامل عائدة خطوة للوراء ترسم في ملامحها الجمود والجفاء هاتفة بتأكيد!.:
" أنت تحلم.....اخبرتك بكل هذا لتعتقني من إصرارك....ولألزمك حدك بسبب افتراءك.... لم أكن معك بفقرة افتح قلبك ولا استجدي عطفك ....فكما قلت لك ...كل شيء بيننا انتهى وابتعد عني ....اذهب...تزوج....قم بتربية ابنك.....أنت حر!.....لا شأن لك بي كما لا شأن لي بك..!!.....أنا سأعود للعاصمة وبعد أيام سأسافر لتلك البلاد ...سأكمل حياتي هناك حتى الممات"

وبطبيعة الحال اسقطت حممها عندي فأشعلت مجدداً بركان غضبي...اندفعتُ نحوها أرميها بنظراتي القاتلة وأمسكها لأكبّلها بيديّ الحارقة وهدرتُ بها:
" هل تظنين أن لا رقيب ولا حسيب لكِ....أنا من أقرر الهجران وأنا من أقرر الغفران .......هل طابت لكِ العيشة هناك بين الغرباء؟!....ثم ابنك؟!....أين مكانته عندك؟!....."

وبضحكة هازئة استطردت:
" أم أنكِ أصبحت سيدة أعمال لكِ مطبخك الخاص ستقومين بتطويره كي لا تحتاجي لأحد ولا لسند ؟!..."

ظلّت تحدّق بي ودموع وليدة الموقف تتكدس بعينيها...تشد على شفتيها تحاول الثبات دون بكاء ....ثم فجّرت قنبلتها النووية على مراحل التي أطاحت بقلبي ليصبح صريعاً عند قدميها :
" عن أي مطبخ تتحدث؟!......الذي احترق منذ قرابة شهرين بما فيه من مال؟!....عن أي سيدة أعمال تتحدث؟!...التي..."

ودسّت يدها تحت حجابها لنحرها تخرج عقد القلب الذهبي وأكملت بحرقة ووجع وهي تهزّه أمامي:
" سيدة أعمال فقدت كل شيء.....باعت كل شيء....النفيس والرخيص لتعيش.....ولم يبقَ إلا هذا لها وكانت ستبيعه أيضا متخلّيه عنه..."
أطلقت ضحكة مسمومة بالقهر وقلة الحيلة وأردفت:
" ليس لأن طبعها التخلّي كما زعمت!!......بل لأنها عرفت الحقيقة وخافت من ظلمها لابنها وأرادت أن تسعى خلفها لتنجده من مرارة المعيشة التي يعيشها وتسلمه لوطنه وأهله ووالده !!.....فهي لم تكن تملك سواه لتبيعه وتشتري التذكرة ......لكن الحمد لله نصيبي أن يدور الزمن فأجد صديقة تتصدّق عليّ بمالها سلّمها الله بينما زوجي هو مالك أكبر الشركات ويحتل منصب من أكبر مناصب الدولة !!....أسمعت ؟؟!....جئتُ الى هنا بمال ميار كدين ....لم تسمح لي ببيع عقدي الذهبي لأنها تعلم قيمته عندي!!.....ميار ما إن عادت لتظهر أمامي جادت على ابني بكرمها ....تجلب له ما يحتاج!.......من حليب وحفاظات وأخرى!!....لأنها رأت أي حال وصلت له صديقتها .....لأنها علمت أنني كنتُ أدير أموري بما تبقّى لي من مال فاشتري لمحيي الحليب....و...,و.."

انفجرت عبراتها وعلا نحيبها وهي تضيف مع نزاع روحها:
" اسمعني يا رجل الأعمال ويا رئيس الأركان ......على مدار اسبوعين كنتُ أحاول اختصر الحليب لابنك.....لم اكن اشبعه بالكامل....كنتُ أخاف أن ينفذ ولا أستطيع جلب غيره فثمنه غالي لأنه من شركة عالمية ولم يتقبل سواه ....رهف تزوجت وكرامتي لم تسمح لي لأطلب منها فهي زوجة غريب رغم ما فعله من أجلنا ....وخالتي سهيلة مالها الذي معها كله لأساسيات البيت كهرباء وماء وطعام والأدوية خاصتها .....كنتُ أحاول اخفاء احتياجي عن الجميع فيكفي إيوائهم لي ولابني.....حتى أتتني ميار وأنقذت ما تبقى مني !!.....وتقول سيدة اعمال ؟!..."

بدأت يداها ترتجفان ورعشة احتلت شفتيها ...وجهها احترق بالحمرة وصوتها كاد يختفي مختنقاً بشهقاتها ....نكست رأسها وتهدل كتفاها...انحنت بجذعها والألم يعتصر معدتها....انفلتت كل أعصابها وهي تبوح بكامل أوجاعها:
" احترق مطبخي....احترق مصدر رزقنا أنا ومحيي.....وقعت بالكارثة لكن بفضل الله ومن دعموني نهضت !!.....نهضتُ باحثة عن عمل من جديد.....اجول الشوارع مع محيي الدين بعربته وحرارة الشمس تلفحنا....يوم ويومان....اسبوع واسبوعان دون كلل او استسلام ... حتى زارني الأمل لما رأيتُ مكان يناسبني....ذكّرني بالمكان الخاص الذي اخذتني إليه في يومٍ ما !! ....المطعم الايطالي الخاص بإدوارد.....تراقصت الفراشات داخلي وقلبي امتلأ بالسعادة لما وجدتهم يريدون عاملة!!...لم اتأخر ثانية وأقبلت إليهم....وجدتُ صاحبه رجلاً من احدى البلاد العربية...كان طيباً معي وسمح لي العمل ومحيي يرافقني....فأنا لم أجد من يعتني به!!....ليلة واحدة عشتُ بها كل مشاعر الفرحة كأني ملكتُ الدنيا....ذهبت في اليوم التالي بكل نشاط وحيوية ولكني صدمت!!.....كان إدوارد هو شريك الرجل العربي!!...حجبتُ نفسي عنه كي لا يراني....ويا ليته رآني يا ليته....."

اختفت آخر كلمة بحلقها وكتلة من الغمّة جثت على صدرها....ازداد ارتعاش شفتيها وتلبدت السماء بغيوم جمّعتها العاصفة فأعلنت الفيضان للطوفان على وجنتيها وهي ترفع يديها اللتين تؤازران الشفتين بارتعاشهما ناظرة للرمال بتيه تحاول إبعاد حدقتيها عني :
" ترك الرجل المطعم بأمانتي حتى يأتي ابنه وسام .....وظهر أنه لا يشبه أباه....رجل مريض بالنساء...."

ورفعت رأسها بثبات وأنا أوازيها بالثبات بينما عيناها تحمل الحسرات ....تريد أن تبوح عن شيء سبقتها به العبرات فارتجف الخائن خشية مما ينتظره ومما هو آت لتهمس بعدها ببضع كلمات آذاقتني منها الندم وأغرقتني بالويلات ثم جعلتني في قائمة الوفيّات:
" أتعلم ؟!....رائحة الأناناس التي كانت ملكاً لك !!...استنشقها غيرك!!..."

" ماذا تقصدين؟؟!"

بعينين متقدتين ووجهٍ أسودٍ مسكتُ عضديها مرة أخرى وصرختُ مستفسراً رغم وضوح ما نطقت به فتابعت بتحشرج وانحناء يشي عن انهيار قادم:
" مثلما سمعت...لقد عاكسني...تحرّش بي....حاول نزع حجابي وشق قميصي لكني قاومته بما اوتيت من قوة ومحيي الدين نائماً بالعربة ....أسمعني كلام غزل....صددته عني....قال بحقارة أنه يريدني!!....اخبرته أنني متزوجة....لم يبالي بل قال زوجك أحمق لأنه تركك للشقاء والعيون الجائعة ......استطعت بصعوبة اخذ محيي والهروب منه ....ومن بعدها لم أجرؤ على البحث عن عمل إطلاقاً....كرهت كل شيء وكرهت حظي ونفسي ....!!.."

هززتها صارخاً هادراً كهدير الرعد شاتماً بكل ما أتى ببالي من كلمات سوقية ..فالغيرة تملّكتني...وتأنيب الضمير أغرقني....والغضب لم يبرح عني من حالي وما اقترفت يداي ..من نصيبنا ومن حالها الموجع المليء بالمآسي بينما نشيجها يزداد وجسدها أصابه الوهن يستعد للاستسلام:
" من هذا ال***؟؟"
" أين أجد ال***؟؟"
" هيا اخبريني...!!."
" اعطني عنوانه ذاك ال***"
" لن أرحمه ...سأجعله يتمنى الموت ولن يطوله ....سأصيبه بالعاهات وأجعل جسده كله إعاقات حتى لا يستطيع الخروج...الكلب..الحقير...ال***. ...ال***..."

" لا حاجة...لن...لن يجدي نفعاً....لم أخبرك...إلا... إلا لتعلم أي عيشة .....أنا عشت ....كي ترى كيف أتقنت...هجـ... هجرك الأليم لي.....لتفخر بإنجازاتك معي"

أفضت بآخر ما عندها تضع نقطة نهاية السطر....ختمت بدموع عينيها التي لم تجف....قالتها ببحة صوتها المختنق بالغصات....تحرّكت بوهن جسدها الآيل للسقوط....استدارت تولّيني ظهرها تكفكف العبرات وهي تشهق بصعوبة الشهقات...جرّت قدميها جرّا على الرمال الرطبة ....لم تبعد مقدار مترين....لن أضغط عليها لأعرف عن الحقير أكثر...فما أخذت من معلومات يكفيني...سآتي بحقها لو كان آخر يوم بعمري ...وسأعوضها بإذن الله عن كل دمعة وكل ألم .....الزمن كفيل بالإصلاح وسأفوز بها من جديد وإلا لن أكون انا الهادي اللاجئ في سمائها .....إني اعترف هي من ربحت الجولة بعدما علمت ما عاشت من ظلم فيه كل أنواع البشاعة وأقساها وأصبحت فعلاً أنا من أريد الغفران ...لكن الغفران عن ظلمي لها وحتى لو لم يكن مقصود مني...غفران عن إهمالي وعدم وجودي جنبها وسأترك غضبي بما يخص موضوع ابني فهذا لا نقاش فيه ولن يقنعني أحد بأن كل الذنب ذنبي !!....أما الآن أرضي تشققت من الفراق وازداد تشققها المشادات بيننا إنها تريد الارتواء...الارتواء من تلك السماء الزرقاء!!....أرضي محتاجة بل كل ذرة في جسدي تحتاجها حد الهلاك والمحتاج يفعل المستحيل من اجل البقاء ...فلم اترك لعقلي القرار بل الخائن من أقبل عليها بإصرار....انقضضتُ عليها حاملاً عشقي بميثاق جديد...واحتضنتها من الخلف وبكائها يزيد ..أكبّل بطنها بذراعيّ ...أشدّ عليها بتملك رهيب ...أخبرها بلمستي ما عجز عنه لساني هذه اللحظة....أنتِ لي ولن أتركك بتاتاً وسنمضي معاً العمر حتى آخر الدهر...دفنتُ وجهي بحجابها قرب عنقها منحنياً فوق كتفها لأستنشق ما هو من حقي...أنا فقط!!...الأناناس الذي يفوح من شلالها الأسود الذي اشتقته ...وكلمتين يتيمتين خرجتا بصوت رخيم:
" حقك عليّ!"

كانت تحاول ابعادي عنها بضعف تحاول فك يديّ المحيطتين بخصرها النحيل وتهمس همس مختنق:
" اتركـ....اتركني"

أتمرّغ بحجابها مغمض العينين كالقط في حضن أمه سابحاً برائحتها الظمآن لها هامساً بذات النبرة:
" لن أتركك...قسماً لن أتركك حتى لو غرزتِ الآن خنجراً في قلبي !!.."

ثم أدرتها بكل رقة إليّ وهي مستسلمة من ضعف جسدها...حوطتُ وجهها بكفيّ منحنياً أنظر لوجهها الغارق بالأحمر أرفعه صوبي متابعاً همسي وهي تزداد بنشيجها:
" ألمى...ألمى....انظري إليّ"

رفعت زرقاويها والرؤية عندها ضبابية ...رمقتني بوهن والسيول تغرق وجنتيها ...تفرج عن شفتيها ليظهر جزء من ثناياها العلوية بعفوية مدمرة لأعصابي تسحبني معها لأفكاري المنحرفة بحقها...وضعتُ يدي خلف رأسها ثم ألصقته بصدري أغمر وجهها متكئاً بذقني من فوق حجابها واستحوذ على ظهرها بقوة هامساً ناظراً للمدى البعيد أمامي مما يظهره القمر لعيني:
" ابقي هنا وابكي...هنا أرضك....هنا وطنك.....احرقي قلبي بدموعك....عاقبيه كما شئتِ ...المهم أن تبقي!!.....سنذهب الى بيتنا"

ظلّت لثواني تغدق عليّ بدفء أنفاسها وبالحرارة التي تشع من جسدها وهي تبكي بغزارة ...كانت كأنها مغيبة عن الواقع....فجأة شدّت جسدها متحفزة وضيقت عينيها تحاول الاستيعاب ثم رفعت وجهها تنظر لوجهي ....قطبت حاجبيها بغضب جديد ودفعتني عنها بحرقة صارخة:
" ماذا تفعل؟!....اتركني..."

وبطلاقة أدهشتني ركضت لجهة معينة فلحقت بها وكانت تسبقني....وصلت لكوخ عم ( حافظ الصياد) وقالت لما وصلتها:
" لن أذهب معك الى مكان!....لا تقترب...."

كان المكان غارق بالظلام إلا من الضوء الخافت للقنديل الذي يضيء جانبها الأيسر والقليل من جانبي الأيمن فقد كنتُ أبعد قليلاً وعلى حين غرة فتح الباب ليخرج العم حاملاً بندقيته صارخاً :
" من هناك؟!..."

ركّز نظراته بيننا وهو يصوب البندقية تارة نحوي وتارة نحوها وقال:
" من أنتما وماذا تفعلان هنا ؟!.."

لم تفكر للحظة وهي تقترب منه تختبئ خلفه هامسة برجاء:
" أرجوك يا عم ساعدني....سيخطفني هذا!!.."

" ماذا؟!.."

بصوتٍ واحدٍ نطقناها....هو قالها تزامناً مع سحب زلاقة بندقيته وأنا قلتها رافع الحاجبين بذهول من كذبتها ولما رأيت حركته رفعتُ يدي هاتفاً بهدوء:
" لا تصدّقها يا عم حافظ.."

رفع حاجبه بشك وتغيرت ملامحه ودنى خطوة مني وهو يسأل:
" من أنت وكيف عرفت اسمي؟!.."

تبع سؤاله خطوة أخرى وما إن وصلني جحظ بعينيه وهو ينزل بندقيته هاتفاً بحماس:
" أنت!!...اليامن الهادي ؟!..."

لم أكد ابتسم واهز رأسي كي أؤكد له كلامه ليسبقني يرخي ملامحه بوقار ويخفي حماسه ثم يرفع يده محاذاة جبينه ضارب الأرض بقدمه قائلاً بنبرة احترام:
" احترامي سيدي القائد.....اعتذر عن حماسي ورفع البندقية بوجهك....لم أكن أعلم أنك أنت!!.."
اجتاحتني موجة استياء ودنوتُ منه غاضن جبيني ثم لقفت يده منحنياً أقبّلها له باحترام فهو حتى أكبر من والدي رحمه الله بسنوات عديدة وقلت وهو يحاول شدها من يدي محرجاً:
" استغفر الله يا عم....لا تعتذر ولا تناديني بسيدي!..."

واستقمتُ واقفاً مبتسماً واضعاً يدي على كتفه وهاتفاً بحنين:
" أحب ما عليّ هو سماع اسمي المركب منك ....فله ميزة خاصة....ثم إني اشتقتُ لاحتساء شايك مع الميرمية .!..."

وأردفتُ بمرح سائلاً:
" ما شاء الله عنك...كيف ما زلت تتذكرني؟!.."

تبسم بوقار وأجاب:
" الوجوه الطيبة لا تنسى...."

وأكمل وهو يشير بيده من اخمص قدميّ لرأسي:
" ثم ما شاء الله كيف سأنسى تلك الوسامة والرجولة والشجاعة.."

وبمكر بعدما أخبره حدسه بهوية تلك نظر إليها مبتسماً وأضاف:
" حفظك الله لزوجتك.....فهي محظوظة بك!!.."

" جدا جداً...لا تسأل عن حظي به "....قالتها في سرها متهكمة ولكنها لم تستطع منع رفرفة قلبها عشقاً رغماً عنها....دعانا لنجلس على مقاعد قديمة من الخشب قاعدتها من حبال رفيعة لنشرب الشاي خاصته بعد أن اعتذر منا لأن زوجته مريضة ونائمة....جلس مقابلاً لنا يناظرنا بحنو وقد فهم وجود تماس بيننا لكنه قال:
" ها أنت أوفيت بوعدك وجلبت زوجتك لنتعرف عليها ....فالأكيد أنكما أصلحتما أموركما أخيراً و...."

قاطعته بتصرف طفولي حانقة وهي تكتف ذراعيها:
" كلا لا اصلاح بيننا ....لا أعلم ماذا تعرف عنا وما الذي اخبرك به..."

رسمت على صفحات وجهي الخشونة والصلابة وقلت بحزم:
" لا تقاطعيه واتركي كلامك الفارغ الآن.."

ردت تناكفني:
" كلامي ليس فارغاً...."

قالتها ونهضت من مكانها فقال بحنان:
" اجلسي بنيتي....لكل مشكلة حل!....يبدو أن وضعكما ما زال غير مستقر...اعتذر إذا اسأت الفهم!!.."

لم تستجب لكلامه فشددتها بنزق وفظاظة أعيدها لتجلس مكانها هاتفاً بصرامة:
" قال لك اجلسي يعني اجلسي..."

" على مهلك بنيّ.....ليس هكذا ....هي لا تتحمل حركاتك!!.."

هتفها منبّهاً فنجح بإمالتها نحوه قليلاً متقبلة كلامه هاتفة:
" أنت لم ترَ شيئاً يا عم..."

" ألمى!!."

نطقتُ اسمها ألزمها حدها بعد أن رجعت لإثارة حفيظتي فتنحنح وعدّل جلسته هاتفاً:
" حسناً يبدو أن القصة طويلة....ما رأيكما أن استمع لكلاكما وأحاول أن أحكم بينكما بالعدل ؟!.."

" بالطبع!!."

كلمة واحدة خرجت من كلينا ونحن ننظر إليه فتبسم برضا ثم غمزني قبل أن يلتفت نحوها هامساً يعطيها الثقة بنبرته:
" السيدات أولاً....سأستمع لابنتي اولا وبعدها أنت "

اومأت برأسي موافقاً وفهمت أنه عليّ إخلاء المكان فقمت من مقعدي ورحت أتمشى بالقرب منهما ومن القوارب ...مرّ وقت طويل ...كنتُ القي بصري إليهما بين الحين والآخر وقد لمحت عدة مرات كفكفتها لدموعها وبعد حوالي ساعة زمنية عشتها بضجر نادى عليّ...أقبلتُ نحوهما ظناً مني أنه دوري الآن!!.....لكني تفاجأتُ وهو يربت على ظهري وينظر إلينا بالدور قائلاً:
" فهمت قصتكما بنيّ....لا حاجة للاستماع لك لأن مشكلتكما الآن هي أنها لا تريد الذهاب معك للبيت....."

ورمقها بنظرة حنونة مبتسماً مردفاً:
" ابنتي ألمى وافقت للذهاب معك للبيت....لقد فهمت دورها جيداً كأم وأنها ستذهب من أجل ابنها ....أما ما بينكما لا يحل لا بجلسة ولا بمواجهة فقط....إنما الزمن كفيل بوضع علاقتكما للمسار الذي اختاره الله لكما واسأله أن يكون ما فيه خير لكليكما....لا تكابرا انتما الاثنين وعليكما الوصول لحل يرضيكما دون مناوشات...ليس من أجله فقط إنما أيضاً من أجلكما."

تنهّد وهو ما زال يثبت يده على ظهري وأكمل:
" صحيح أنكما تضعا مصلحة ابنكما في المقام الأول وهذا جيد.....لكن نصيحة مني... حاولا التصالح مع أنفسكما ثم مع بعضكما....إن كان يهمكما ابنكما فعلاً....لأنه مهما تصنعتما العلاقة لن تفلحا بإيصال تلك المشاعر الإيجابية إليه....سيشعر الولد بذلك وسوء العلاقة ستعكس على حياته وسيكبر ناقماً رغماً عنه .....على الأقل أن يكون الاحترام المتبادل بينكما سيد الموقف الآن وبداية طريقكما ثم يأتي لاحقاً بالتدريج.....الحب والمودة....."

اليوم كان مرهق جداً والوقت قارب على الفجر والطريق تحتاج لساعتين لذا شكرته بلطافة ووعدته فعلاً بالعودة في وقتٍ لاحق لأن هذا اللقاء لم نخطط له ...تبسم ودعا لنا بإصلاح الحال لكنها هتفت تظن أنه انتهى اللقاء ونسي ما تحدثا به :
" يا عم على ماذا اتفقنا؟!.."

هزّ رأسه إيجاباً مع ابتسامته الوقورة وهتف:
" بالطبع يا ابنتي لم أنس....كنت انتظر أن ينهي كلامه!..."

قوّستُ حاجبي بريب وحركتُ رأسي كسؤال ماذا هناك فعاد ليربّت على كتفي مجيباً:
" ابنتي ألمى....ستعود معك من أجل ابنكما.... لكن بشروط!!..."

" نعم!؟"

قلتها مستنكراً ناقلاً حدقتيّ بينهما فقالت بجدية عابسة:
" وماذا تظن؟!....هل سآتي بهذه السهولة ؟!.."

فغمزني دون ان يلفت انتباهها وأجاب قبل أن أجيب:
" هي قالت ستضع شروط تراها من حقها ...تريد أن تدعم بها نفسها؟!"

قلت بتهكم واستهتار لأن الأمر لا يعجبني:
" وما هي هذه الشروط إن شاء الله ؟!."

رفع حاجبيته وابتلع شفتيه كإجابة أن الجواب عندها فنظرت إليها لتجيب من فورها بإباء وتباهٍ وثقة:
" ستعرفها بالمواقف.....سأخبرك بكل شرط حينها !!.."

استغفرتُ ربي غير راضياً عن تفاهاتها فقالت بقوة وهي تكتف ذراعيها:
" هيا أوعدنا أنا وعمي......وإلا لن أذهب!.."

قلت في سري." على أساس أنني سأنتظر رأيك لأخذك لبيتي !....لكن حسناً ما ستكون تلك الشروط يا رأس الماعز....سأقضي عليها كلها....انتظريني!.... والآن مجبراً أن أعطي وعدي فقط لأتخلص من تقريعك المتواصل فوق رأسي ومعاكساتك لي..."

" نحن ننتظر!!.."

قالتها بغرور فقلت بامتعاض موجزاً:
" حسناً أقبل شروطها....تعبت من المشاكل!.."

تبسّمت بانتصار وأدبرت تسبقني بينما أنا أهز رأسي برفض رافعاً يدي بحيرة فقال لي قبل أن الحق بها :
" بنيّ ...زوجتك نقية بريئة تتدلل عليك...نظراتها إليك تؤكد لي أنها غارقة بعشقك كما أنت تعشقها....لذا اصبر عليها ...كن حليماً معها....الحب موجود بل مشتعل بينكما....ويبقى ترك كل شيء للزمن مع الصبر لتعود المياه لمجاريها بكل رضا إن شاء الله..."
×
×
×
بعد نصف ساعة في الطريق أمضيناها نتخذ الصمت خليلاً لنا بعد استنزاف كل طاقاتنا لهذه الليلة نظرتُ لساعة الهاتف المثبت مكانه فوجدتُ أن الفجر قد حلّ منذ دقائق والطريق ما زال طويل وعندما نصل بإذن الله ستكون الشمس قد اشرقت!!....ألقيتُ نظرة أخرى لساعة الوقود فرأيتها قاربت على النفاذ.....سلكت طريقاً فرعيا لأتوجه لمحطة الوقود املأ خزّان سيارتي واصلي الفجر....وصلتها وقمت باحتياجات سيارتي ثم ركنتها على جنب وقلت بتعب للتي بجواري قبل أن أترجّل:
" يوجد في الخلف غرفة يتخذونها كمصلى صغير....يمكنك الوضوء والصلاة هنا!!...."

" لا أريد!.."

" أهي مجرد مكابرة؟!.."

" غير مهم!!.."

الارهاق فتك في فانفلتت أعصابي بعد اكثر نصف ساعة من الارتخاء في الطريق فهتفت بضيق موبخاً:
" نتكلم عن الصلاة ما هو الغير مهم وأنت محجبة؟!.."

كانت تكتّف ذراعيها وتهز ساقها بعصبية فالتفتت بهمة نحوي تفاجئني بجرأتها التي لم اعهدها من قبل عليها قائلة:
" ألا تستوعب أنه من الممكن أن لديّ عذراً شرعياً يا سيد؟!...."

ومدت يسراها نحوي مشيرة لخلفي بعدما أعادت وجهها للأمام مردفة:
" هيا ...الله معك.....اتركني وخذ راحتك لن اهرب!..."

قلت مغمغماً:
" جيد!.."

أغلقت الباب وبالطبع لن أثق بها خاصة أنه بالإضافة لعقلها الصغير يوجد هرمونات!!.....اسأل الله أن يلهمني الصبر عليهاَ!......اتجهتُ لهدفي وضغطت على المفتاح أقفلها كلياً دون الالتفات إليها لأضمنها ثم على زر آخر لأشغّل المحرّك كي يعمل المكيف ولا تختنق سموّ الأميرة..!!.....عدتُ بعد قليل أحمل كأسين من الحليب بالشوكولاتة الساخنة مع قطع من المخبوزات الغنيّة بالزبدة فوجدتها تعبث بهاتف من الطراز القديم تضغط على أزراره بسخط كي يعمل ولكن عبثاً....استغربت من نوعيته وبحماقتي سألت بعدما أنحنيتُ أضع ما بيدي بيننا قبل الركوب:
" ماذا يفعل هذا الهاتف معك؟!....لقد انقرض تقريباً.."

بابتسامة تمثيلية ساخرة تحمل كل الملامة أجابت:
" من العز!!.....سُرق هاتفي فتبرعوا لي الناس بهذا.!!.."

امتقع وجهي منزعجاً لشعوري بالإحراج على تقصيري ولم اعلّق....ركبتُ مكاني وقلت بهدوء وأنا أعود بالسيارة للخلف بتمهل:
" جلبتُ لكِ ما تحبين لتفطري!....لا بد أنك جائعة!.."

فتحت حقيبتها الصغيرة ودسّت الهاتف داخلها ووضعت يديها على حضنها وهي تنظر من الزجاج الأمامي:
" من قال لك أنني ما زلتُ أحبه؟!....لم أعد كذلك....ولستُ جائعة....ولا أريد شيء منك!!..."

استغفرت ربي وتبعتها حوقلة وقلت ببرود محاولاً تجاهلها:
" ظننتُ أنك ما زلتِ تحبينه....حسناً تأكلين حالما نصل....أما أنا لا استطيع الانتظار ساعتين...!!..."

لأرى بماذا ستنفعها عزة نفسها تلك الماعز العنيدة!...بعد ربع ساعة أصدرت معدتها نداءً ترجو طعاماً فهمستُ بهدوء مركزاً بالطريق:
" حسناً فهمنا لم تعودي تحبينه.....لكن لا تنكري أنك جائعة....ارحمي معدتك قليلاً وتناوليه حتى لو دون شهية....!!....وإن رفضتِ لأنه مني اعتبريه دين تردينه لي بأي طريقة ترغبين!.."

لم تنبس ببنت شفة....لم تبدي أي حركة....وثبتت دون اهتمام لا بكلامي ولا بما جلبت لتتكئ بعد قليل بمرفقها على الباب تسرح بالطريق الذي بدأ ضوء النهار يظهره بوضوح أكبر بينما أنا أجاهد لأصبر عليها في داخلي ومع اقترابنا لمدينتنا الجبلية كانت قد أشرقت الشمس تنشر ضياءها على سفوح وقمم مدينتنا بمنظر ساحر للطبيعة والبيوت بمختلف أشكالها فألقيتُ نظرة تلقائية للصامتة جواري صامدة دون أن تضع شيئاً بفمها فلفت انتباهي بعد أن عاد الصفاء لوجهها بعد وقت ليس بقليل من المشادات واضاءة الشمس علامات وردية على خدّها فغضنتُ جبيني متفحصاً مرة أنظر إليها ومرة للشارع ثم لا شعورياً مددتُ يدي أتحسس خدها بإبهامي برقة لأفهم ماهيتها وهمست سائلاً:
" ألمى ما هذه العلامات التي على خدّك؟!.."

رفعت زاوية فمها بشبح بابتسامة ورجعت ترسم صورة غير مهتمة على وجهها وهي تبعد يدي عنها بسخط جاد تكشّر عن أنيابها تبدأ بسن دستورها هاتفة بجفاء:
" الشرط الأول!!....اللمس ممنوع.....فاحذر!!..."

" نعم؟!!."

هتفتها معترضاً بغضب فقالت بثقة:
" ماذا تظن؟!...أنت تعلم أنني عدت من أجل محيي فقط!.."

أغمضت عينيّ لثانية زافراً أنفاسي بتمهل محاولاً استعادة هدوئي مستغفراً بصبر وتخطيت شرطها أضغط على شفتيّ بغيظ مكرراً سؤالي:
" اخبريني ما هذه العلامات؟؟!.....هل صفعك والدك؟!.."

ارتسمت ابتسامة صفراء على ثغرها وأجابت ببرود:
" أجل....ماذا ستفعل؟!..."

ضربتً المقود تباعاً بقضتي هادراً بغضب:
" ليتني كسرتُ له يديه....ليتني!!....بالفعل حـقـ......"

قطعتُ كلمتي لاستيعابي من يكون ومن تكون وأخرجتُ غلّي بالدعس على الوقود أزيد سرعتي فقتلتني وهي تسلط زرقاويها للأمام هامسة بنفس البرود ولكني استشعرتُ بغصة خلف برودها:
" على مهلك....لا تنزعج....الصفعة هذه يومين بالكثير وسيذهب أثرها.."

ثم رمقتني بنظرة فيها الخذلان وهي تجمع أصابعها الرقيقة على بعضها وتشير بها نحو قلبها مستأنفة لتغرز سكيناً نصله حاد في مركز خائني:
" لكن صفعاتك التي هنا في قلبي .....كيف سيمحى أثرها؟!.."

ألقت سؤالها وعادت تجلس باسترخاء غير آبهة بالدمار الذي خلّفته على روحي بينما أنا التزمتُ الصمت لأني لم أجد جواباً بل هي من الجمتني ...!!
بعد دقائق وصلنا بيتنا!...ترجلنا من السيارة فراقبتُ حركاتها ونظراتها....توقفت ناظرة للبيت كأنها تتعرف عليه بنظرات لم تفعلها لما جلبتها إليه رغماً عنها في الماضي....مشت بتثاقل متعبة لكن الشوق أضنى فؤادها....شوقها لفلذة كبدها....فتحتُ الباب بمفتاحي الخاص وفتحته لها لتدلف فدلفت تسير أمامي بغرور مصطنع ولكن في باطنها هشاشة سببها الاحراج الذي تشعر به مما جناه والدها بحق أهل هذا البيت!!....سمعت أمي صوت الباب فنزلت السلالم الدائرية تحمل صغيري وبيده بسكويت يأكلها ولمّا رأى والدته ابتهج وجهه وألقى ما بيده أرضاً وأخذ يرفرف يحاول القفز من حضن جدته يناغيها:
" ما....ما...."

لقفته بشوق جارف وشددت من احتضانه وأخذت تقبّله بنهم هامسة له برقة وحنان وصوت أبح:
" حبيبي....صغيري.....اشتقتُ لك يا عمري!!....اشتقت.."

كنا نراقبهما أنا وأمي مبتسمين إلا أن نبض الحياة لم تتمكن من التحكم بدمعاتها وهي تقترب منها تمسح على ظهرها حامدة الله مبتسمة بحنية هامسة لها:
" أهلا حبيبتي....أنرتِ بيتك بنيتي!!...."

اومأت بحياء تحييها وهمست بنعومة:
" شكرا سيدة عائشة!!..."

طالعتها بوجهها البشوش وقالت بمحبة:
" خالتي أو أمي.....نادني بما تشائي من بينهما....لكن سيدة لن أقبل!.."
تورّدت وجنتاها ورمشت بأهدابها توافقها وظلت مكانها واقفة لا تهتدي لطريق فقالت أمي :
" لا بد أنك متعبة....ومحيي الدين لم ينم جيداً يبدو أنه افتقدك....ما رأيك لتصعدي للغرفة وترتاحي؟!..."

بإيماءة خجولة إيجاباً كان ردها....صعدت أمي تسبقنا وهي خلفها بيننا تحمل الصغير الذي ينظر إليّ من وراء كتفها كاللص يراقبني فلعبتُ له بحاجبيّ أداعبه ليضحك بعدها ويغمر وجهه على صدرها خجلاً مني ببراءة ..!!....لما وصلنا غرفتي فتحت أمي الباب دون أن تدخل وقالت بعذر:
" تدبروا أمركم حالياً بهذا الأثاث والسرير ريثما نشتري طقماً جديداً مناسباً و..."

قاطعتها بقناعة وحياء هامسة بعدما ألقت نظرة سريعة للداخل!:
" لا حاجة خالة عائشة...الطقم هذا يكفينا ...حالته جيدة!!..."

تبسّمتُ برضا عنها من خلفها فتلك الصفة لم تذهب عنها...لا يهمها مظاهر ولا كماليات....قنوعة لأبعد حد وهذه من أجمل صفاتها!!...تنحنحت أمي هاتفة:
" اعذريني بنيتي لم أقم بتغيير الأغطية لأنني انشغلتُ مع محيي...لكنها نظيفة في الأمس بدّلتها .."

" شكرا خالة عائشة....لا تتعبي نفسك!!.."
اومأت برضا منها وتركتنا تنزل السلالم...دلفت خطوة للداخل والتفتت نحوي ...جئتُ لألحق بها فقالت وهي ترفع حاجبها بريب:
" إلى أين؟!.."

رفعتُ حاجبيّ مشيراً للداخل وقلت متهكماً:
" ماذا إلى اين؟....لغرفتي طبعا!...سأنام!!.."

ثبتت الصغير على ذراعها ورفعت الآخر تمسك طرف الباب هاتفة بجزم لا يقبل النقاش :
" الشرط الثاني......لن نكون معاً بنفس الغرفة بالطبع....!!.."

وأنهت جملتها قبل أن تستقبل ردي تصفع الباب بغلّ حتى ارتطم بأنفي بشكل عنيف جعلني اتأوه ألماً ملقياً شتيمة عليها أتحسس مكان الضربة بعد أن ركلت الباب بقدمي غضباً منها بينما هي اغلقته بالمفتاح واستدارت تتكئ عليه بظهرها مبتسمة بدهاء ومكر وشامتة ثم همست بخفوت :
" تستحق كسر أنفك.....أيها الحائط المغرور!!.."

قبّلت ابنها على خدّه وهمست له وهي تتقدم:
" هيا صغيري....هذه الغرفة أصبحت لنا..."

تطلعت عليها بنظرة تفحصية وتابعت بخباثة:
" سنفرغها من أغراضه المزعجة على مهل.....أما أنت تستطيع أن تعيث بها خراباً متى وكيفما شئت.....لن أمنعك هنا...."

وضعته على الأرض ليحبو بحرية واقتربت من طاولة الزينة ...مررت أصابعها بسرعة على زجاجات العطر وكل ما يخصني وقلبها يرفرف تنكر سببه!!....حملت إحدى الزجاجات....قرّبتها من أنفها تستنشق رائحتها كالمدمنة بهيام مغمضة العينين ثم فتحتهما لتقع حدقتيها على صورة لي جانب المرآة معلقة ارتدي لباس الجيش بدوتُ بها كأني أنظر لها فأرجعت الزجاجة بسرعة مجفلة لشعورها بأني أراها....وفكت حجابها وفردت شعرها تريح رأسها من ثقله ثم دنت من السرير وجلست عليه تتحسس بيديها نعومة الغطاء وبدأت تستلقي على مهل حتى وصلت المخدة تتخذ وضعية الجنين ثم حرّكت رأسها تتحسس بخدها المكان الذي لقطت به رائحة عطري تاركة ابنها يسرح ويمرح يتعرّف على بيته الجديد!!....

×
×
×

في ساعات الظهيرة استيقظتُ عن الأريكة بغرفة المعيشة متيبساً أحرك عنقي يميناً ويساراً منزعجاً بسبب نومتي غير المريحة ملامحي منكمشة بضيق والغطاء على الأرض بعد أن قامت بتغطيتي نبض الحياة....لما شعرت بأنني صحوتُ أتتني مبتسمة بحنان وجلست جانبي تضع يدها على فخذي تصبّرني وتوصيني:
" توقعتُ أنها لن تقبل ان تجتمعا بنفس الغرفة!.....صبرك بنيّ عليها....لا بد أن ما مرت به ليس بقليل.....اتركها تعتاد علينا على مهل ولا تضغط عليها أو تجبرها عليك...وأنت تفهم ما اقصد!!"

مسدت عنقي من الألم وأجبت دون النظر إليها وقلت:
" أمي على ماذا أجبرها ؟!....أتعرفينني من هذا النوع؟!.."

حركت يدها على فخذي برقة وهتفت:
" أعلم بنيّ....لكنك رجل بالنهاية وحرمت منها لشهور وتبقى هي زوجتك الفاتنة!....لذا الصبر ثم الصبر....والأيام ستطفئ غضبكما وتصالحكما...تفاءل خير...فيكفي أنها وافقت على المجيء وهذه خطوة جيدة!...المهم أن تكون أنت العاقل بالموضوع ولا تلومها على شيء.."

قلت متنهداً ارسم ابتسامة أجاملها:
" إن شاء الله خير أمي...لا تقلقي!..."

استقامت واقفة وهمست:
" بنيّ....سألتني كيف ستجلب حقيبتها من الفندق!....ماذا أقول لها؟!."

فكرت برهة ومررتُ كفي فوق شعري مجيباً:
" لا مشكلة....أحمد أو بلال يجلباها لها من صديقتها!!..."

وأضفتُ من فوري وأنا أمدّ يدي على الطاولة احمل محفظتي وأخرج منها بطاقة الائتمان أناولها إياها :
" من فضلك أمي اتصلي بالسيد أشعب ليقلّكما للمجمع تشتري أنت وهي كل ما ينقصها والصغير.....وإن لم ترضَ سأثق بك....لا بدك أنك تستطيعين جلب ما تحتاجه لوحدك.......فالتي فوق تحمل عناد الماعز وستسوقها الآن تحت مسمى عزة النفس!..."

نظرت إليها سائلاً:
" هل أكلت شيئاً؟!.."

أجابت:
" حضّرتُ لها وجبة فطور وأخذتها للغرفة....تناولتها مني تشكرني ممتنة لكن لا أعلم إن اكلت أو لا !...سنرى لاحقاً.."

صمتت قليلاً وأردفت:
" هل تريد أن أحضّر لك الغرفة في هذا الطابق؟!.."

أجبتها في الحال:
" حالياً لا تتعبي نفسك....الليلة سأتوجه للمعسكر إن شاء الله ليومين....يوجد اجتماع هام من أجل تولّي بعض الاشخاص مناصب جديدة !!.....سنرى لاحقاً ماذا نفعل!!.."

" إن شاء الله بنيّ"
قالتها واستأنفت:
" اتصلت بي دنيا تسأل عنكم والفرحة لا تسعها....متشوقة لرؤية ابنك!..."

تبسّمت هامساً:
" فلتأتي مساءً ان شاء الله قبل أن أخرج!!.."

حركت رأسها إيجاباً وأدبرت عني لتغوص في عالمها.....مطبخها الحبيب!!


~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

مرّ يومان على انتهاء زفاف ابن خالها وأربعة أيام على كل ما عشنا من مواجهات !!....اضطر والدها لتمديد السفر لأيامٍ أخرى بقرارٍ مفاجئ في الأمس وقد كان من المفترض أن يكون يوم غد هو يوم العودة لوطنهم...أي لتلك البلاد !!...حسناً ربما وجد صفقة مغرية تناسب عمله من استيراد وتصدير للأثاث مع أحد التجار فهذا الذي تتوقعه!!......لكن ما ذنبها لتمكث أسبوعاً اضافياً في بلد أمها وأخوالها تتحمل فيه الملل الذي تعيشه الآن؟!.....فمنذ الأمس عاد كلّ فرد من أقاربها لممارسة روتين حياته سواء عمل او دراسة وهي الآن بقرار والدها ستخسر على الأقل ثلاثة أيام من جامعتها!!....بنات خالاتها وأخوالها اللواتي استمتعت معهن خلال الأيام الأربع السابقة عدن للاستقرار لبيوتهن وبقيت هي وعائلتها في البيت الكبير لجدها والد أمها.!!......إنها فتاة اجتماعية سريعة التأقلم والتكيّف...فرغم أنها منذ سنوات لم تأت إليهم إلا أنها دخلت أجواءهم حالما وطئت قدمها عندهم.....كانت بينهم تأخذ راحتها بارتداء مناماتها بتصميماتها المجنونة مثلها كأنها بالبيت. ...صحيح أنها لا تعتبر شرعية بسبب ضيق البنطلون وقصر البلوزة بأكمامها الطويلة لكنها كانت عندما تضطر للنزول للطابق الأرضي في بيت جدها حيث يتواجد غرفة العائلة الكبيرة وصالون خاص والمطبخ كانت ترتدي القطعة العلوية من أسدال الصلاة تواري القليل من ضيق مناماتها تحسباً من ظهور مفاجئ لأولاد أخوالها أو خالاتها من الشبان !!....وفي ساعات العصر المملة من هذا اليوم وهي تتسطح على أحد الأسرّة الذي اتخذته سريرا لها اثناء مكوثها كضيفة في الوطن قامت بإرسال رسالة الكترونية تطمئن بها على صديقتها (ألمى) بعد استيقاظها من قيلولتها ولما تلقت ردها اطمأنت وزفرت أنفاسها بضجر وهي تنهض بكسل تتجه الى النافذة تبعد الستارة الخفيفة وتنظر لمد بصرها مفكرة !....وضعت يدها على صدرها بعدما لاح في بالها زلزال قلبها..!!.....وعبر سؤال سريع في عقلها.."...هل انتهى الحلم وانتهت قصتي معه؟!...".....تذكرت ذاك اليوم القريب الأول والأخير للقائهم بعد شهور كثيرة في الشركة ثم في السجن المركزي ونظراته الغامضة الأخيرة لها بعدما خرج معها للساحة ليوقف لها سيارة أجرة بنفسه من أجل عودتها للفندق وحيدة دون صديقتها ويطمئن عليها!!.....ليس لشيء!!... هي تعلم أنها مجرد شهامة!!....فقط من أجل شقيقها (قصيّ) الذي تربطه علاقة ودودة به خاصة على مواقع التواصل!!...لقد شعر أن من واجبه فعل هذا وقد قال لها أنها تعتبر ضيفة بلاده مهما حصل بينهما ومن غير اللائق بحقه وحق صديقه أي شقيقها أن يتركها في هذا الوقت من الليل تواجه مصيرها مع المواصلات!!.......مرت دقائق وما زالت شاردة بعينيها بما وراء النافذة وما زالت أفكارها تسبح في وادٍ آخر وبينما هي على حالها خانتها دمعة نادمة على ما اقترفت بيديها!...تتساءل لمَ هي دوما متهورة واندفاعية ولسانها يسبق تفكيرها خاصة أمامه هو ؟!...ألهذه الدرجة الهالة الرجولية التي تحيط به تربكها فتجعلها لا تحسن التصرف؟!....هي لم تقصد رفضه!.....لقد كانت مقهورة على وضع صديقتها بالدرجة الأولى ثم ما خاضت معه من مشادات قد أرهقها وخاصة أنها بفترة اضطراب هرموناتها بسبب اقتراب الدورة خاصتها كما أنها تريد أن تثقل قليلاً بردها كي ترقّع عن حركاتها التي تفضحها أمامه فلا يظن أنها تواقة للارتباط به!....حتى وإن كانت كذلك فعلا... وإن كان الزواج به أقصى أمانيها!!....إنه رجل أحلامها ويقظتها ولم يملأ أحدٌ لا عينها ولا قلبها سواه!!......لكنها أرادت رسم هيبة بشخصيتها وعزة نفس دون أن ترفض بالتأكيد !!.....فهي تراه شامخاً دوماً لا يهتز شيئا به وعليها على الأقل أن توازيه شموخاً كي لا يعايرها بحركاتها الطفولية يوماً!!.....لمَ لم يكرر طلبه؟؟...ألا تستحق أن يسعى لها؟؟!....أطلقت ضحكة ساخرة مكلومة عند سؤالها الاخير قطعتها تقطع معها طموحها.!!.....لأنها ليست أول ولا آخر فتاة على الكرة الأرضية ليركض وراءها شخص مثله وبهيبته ومكانته كمدير علاقات بشركة كبيرة!!...مؤكد بلاده مليئة بالفتيات الجميلات بكافة الأشكال والألوان.....هل سينزل من قيمته ليلحق يترجى فتاة عادية غريبة من أجل الزواج رأى بتصرفاتها وكلماتها بمثابة رفضا له ؟!!.......مسحت دمعتها وأحست بغصة في حلقها لحقها انقباض في فؤادها لكنها حدثت نفسها تواسي حالها بالقليل مما تعرف عن حقيقة النصيب......" تالله إن كان هو نصيبي لو أطبقت السماء على الأرض سنلتقي وإن لم يكن كذلك وكرر طلبه بالزواج ألف مرة لن نكون لبعض ولن نجتمع أبداً!!....ميار أنتِ لا تحبيه ....أنتِ تعشقيه وذاك اليوم اليتيم الذي التقيته تأكدتِ من كامل مشاعرك اتجاهه....لكن ليس بيدك شيء غير الدعاء واتركي المستقبل كله بيد الله!!......".......أنزلت يدها عن صدرها واستدارت بتباطؤ دون رسم هدف محدد ....طرقتان على باب الغرفة لتقول وهي تصوب حدقتيها إليه:
" أدخل..!!.."

اتسع ثغرها بابتسامة جميلة لمّا رأت شقيقها (قصيّ) يدخل إليها فانهالت عليه بثرثرتها:
" الحمد لله أنك جئت....أين كنتَ منذ الصباح....لقد مللت ....أريد أن نخرج لنتمشى بشوارع العاصمة!!....ما رأيك؟!."

دلف ثم اجتازها وألقى نفسه على سريرها بتعب يتوسد ذراعيه ناظرا إليها وهو يجيب:
" نذهب في الليل أو صباحاً.....الآن أريد أن ارتاح!!..."

عبست وقالت بحنق طفولي:
" يا الله يا قصيّ أنت تتجول متى أردت وأنا مسجونة هنا منذ الصباح!!..أهرب فقط للنوم.....ليتك أخذتني معك!!....أين كنت اخبرني؟!..."

تنهد ناظراً للسقف وقال:
" تجوّلت مع خالد ابن خالي ....وذهبنا لأحد المجمعات اشتريت بعض الملابس لي من الشبكة العالمية (...) المعتاد عليها....فلهم فرع ضخم به.....وها أنا أتيت!...."

حرّك رأسه يسلط عينيه عليها ثم أردف بابتسامة لعوبة:
" خمّني ماذا أحضرتُ لك معي؟!...."

تطلعت على السقف تكتف ذراع وبالآخر تتكئ عليه تضع سبابتها جانب فمها مفكرة وأجابت بعد برهة:
" حقيبة اليد خاصتهم التي أعجبتني؟!..."

رفع حاجبيه اشارة لـ كلا لتتسع بعدها ابتسامته مع غمزة يلقيها عليها مجيباً:
" لقد أحضرتُ لكِ البوظة المميزة خاصتك!!..."

قفزت بفرح طفولي وصرخت وهي تصفق كفيها ببعض:
" ياااه أخيراً........أين وجدتها؟!....."

هتف يشرح لها:
" خالد ابن خالي دلّني على محل خاص لبيع البوظة المحلية والعالمية......قريب من ذاك المجمع!!..."

على مدار أربعة أيام كانت تطلب منهم إيجاد البوظة العالمية المميزة التي تحب فقد شعرت أن جسمها يحتاجها بشدة في هذا الحر وخاصة مع اقتراب دورتها الشهرية التي اعتادت أن تكون هذه البوظة بالذات من طقوسها سواء صيفاً او شتاءً...!!.....ولّته ظهرها وسارت بخطى واسعة لتنزل للمطبخ وتهجم على فريستها فصاح منبّهاً:
" ضعي أسدالك.....أظن أن خالد ما زال في الأسفل..."

عادت وسحبت حجابها العادي وليس أسدالها عن أريكة جانبية ووضعته بإهمال على رأسها لأنها ستتناولها وتعود لخندقها الممل تستمتع بها بهدوء دون صخب تجمعات العائلة ولما وصلت الباب تضع يدها على المقبض لفتحه قال:
" ميار بالله عليكِ حبيبتي.....اجلبي لي معك الشاحن .....نسيته تحت وأشعر بالإرهاق لا أقوى على النزول!!.."

تبسّمت بحنان وهتفت وهي تنصب كتفيها بتباهٍ مصطنع تشير بسبابتها لعينيها:
" من عينيّ....كم قصيّ لديّ؟!.....أخي حبيبي جالب البوظة خاصتي!!..."

رد ببرود دون النظر إليها:
" من غرفة الصالون عند التلفاز وليس من عينيك ميرو....."

فتحت الباب خارجة والضحكة تملأ ملامحها البشوشة واغلقته بحماس نازلة السلالم بقفزات ناعمة متجهة للمطبخ ولما وصلت لبهو الطابق الأرضي الواسع الذي يربط بين المدخل والمطبخ وغرفة الصالون وغرفة العائلة استرعت السمع ناحية الأخيرة حيث وصلها أصوات أهل المنزل وخالتها و(خالد) ابن خالها وأهلها ثم التفتت قليلاً فوجدت ابن خالتها الصغير السمج ذو السبع أعوام يأكل من بوظتها الثمينة يحجب نفسه جنب طاولة السفرة القريبة لباب الصالون الواسع فوقفت تتخصر بنزق هاتفة:
" ثلاجة كاملة لم يعجبك منها إلا بوظتي سيد كريم؟!.."

ولم تنتظر ثانية لتنقض عليه تأخذها منه متابعة بضيق مغلف بالمرح الذي يحتل روحها رغما عنها وبنبرة مرتفعة:
" اذهب وخذ شيئاً آخر!!....آسفة كركر....فأنا مستعدة لارتكاب جريمة من أجل بوظتي!!..."

استسلم لها بقلة اهتمام واستدار قاصدا المطبخ يبحث عن أخرى.... بينما هي حملتها ونظرت إليها بتمعن كالعاشقة وهمست لنفسها قبل أن تلعق منها:
" لا وقت للاشمئزاز الآن!!.....سآكلها يعني سآكلها ولو وقعت على التراب!!..."

ثم تابعت طريقها تجر قدميها الحافيتين بتقاعس دالفة الى الصالون وهي تكلم بوظتها الحبيبة تلعق منها بمتعة وتتغزل بها لا ترى سواها !!....كانت ترتدي منامتها فستقية اللون ....بنطالها ضيق وبلوزتها تغطي قسم من مؤخرتها ولا تستر شيئاً من فخذيها وفي منتصفها رأس بارز للخارج لدب كبير بني اللون يغمز بعينه ويخرج لسانه الأحمر.!!.....لم تحتج لإنارة الصالون الكبير فضوء شمس العصر يتسلل بهدوء من النوافذ المغلفة بستائر رقيقة ليضيء لها منطقة طاولة التلفاز الكبيرة حيث هدفها.!!....تلعق بشهية متسلية وبيدها الأخرى تبحث بين الأغراض بتركيز تهمس لنفسها بصوت مسموع :
" أين هو؟!....لقد قال لي أنه عند التلفاز!!..."

" هل تبحثين عن هذا؟!...."

هو من نسج بالعز هيبته ، جبلاً راسخاً لم يهزّه زلزال وعاش طريداً لم يسأم وحدته يكبّل قلبه بالأغلال إلى أن ألانت له الحديد بنارها فغدا النابض حراً يفقد السيطرة عليه وقد أدرك أن هذه الحرية ستكلفه الكثير وسيكون الثمن.... التخلّي عن خفقاته الساكنة.... لتتبدل ....ببراكين من العشق..... الذي لطالما أرهبه وهرب منه وفي نهاية المطاف كان لا بد من الاستسلام ملبياً نداء ذاك الرابض بين أضلعه مهما كان حاله وإن كان ضد رغبته ولأنه العنيد عزيز النفس آثر المواجهة متحدياً.... فصاغ لنفسه وعداً ليبرق في سماء الجوى ملتهباً معها..... بعد أن شحن عزيمته مقبلاً إليها وعزيمته لم تكن إلا........ عزيمة الرجال....!!

سؤال بسيط خرج بصوت رزين مميز يُحفظ في زوايا ذاكرتها ويرسخ في غرف قلبها جعل بدنها يرتج بالكامل لتستدير بذهول... فاغرة فيها... ناظرة باتساع عينيها لأقصى الصالون الواسع حيث يجلس بكل ثقة على الأريكة المخملية القديمة الملوكية الثلاثية بلونها الخمري ونقوشاتها الذهبية يضع ساقاً فوق الآخر يسند ظهره للخلف ويمد ذراعه اليسرى لظهرها بكل أريحية وبيمينه يلوّح بالشاحن مع ابتسامة لعوبة ماكرة ترفع زاوية فمه وأمامه الطاولة مليئة بما لذ وطاب من التضييفات.....!!......سأل سؤاله وأنزل يده ينحني قليلا بجذعه يضع الشاحن على الطاولة أمامه ثم عاد لوضعيته السابقة وأعاد فحميتيه إليها وهي ما زالت محنطة مكانها والبوظة بدأت تذوب بيدها بسبب شدة حرارتها من هول صدمتها!!....جفت دمائها لوهلة وتعطّل عقلها بل كل الأعضاء في سائر جسدها وحواسها وحتى ****ب الساعة تعطّلت معها!!.....كلمتان اثنتان ...كعادته معها.....أخرجهما آمراً ببرود وهو يشير لإحدى الأرائك القريبة منه:
" تعالي اجلسي!!..."

نبض نابضها يضخ الدماء في العروق فبدأت تعود للحياة لتستوعب ما تراه عيناها وسؤاله الأول الذي سمعته منه فأول ما خطر ببالها كإجابة عليه...." كلا لا أبحث عن هذا إنما ابحث عن قلبي الذي سُرق وعقلي الذي طار..." ....ثم شمل استيعابها جملته التالية!......"تعالي اجلسي!!..".....فتاهت بذهنها ....أليس من المفترض أن يكون هو الدخيل أو الضيف وهي المضيفة ...يا لجرأته!!....هتفت بانشداه:
" أحـ..مد!!......أقصد سيد أحمد.......ماذا تفعل هنا؟!"

كأن اسمه الذي نطقه لسانها لامس قلبها فأرسل إنذار لعقلها بحقيقة من يكون هذا وما هي شخصيته... و........يا لمصيبتها !!...يا لحالها!!....يا لفضيحتها!!......تذكرت المنظر الذي هي به أمامه فلعقت ما سال من البوظة من فورها قبل أن يصل لكفها وتصبح متسخة كالطفلة الخرقاء ويبدأ بفقرة الاستهزاء وبيدها الأخرى تشد وتشد بلوزتها لتحت عسى أن ترحمها أو تحدث معجزة بقدرة قادر فتزداد طولاً وتستر قسماً من فخذيها قبل أن يرشقها بمحاضرة دينية مختصره من محاضراته إياها !!....فشاءت أم أبت هي تقف قبالة شيخ...وليس أي شيخ....إنه شيخها الوسيم قاصف جبهتها!!.........تفعل حركاتها تلك وهو بكل الهدوء الذي في الكون يراقبها لا ينزل عينيه عنها مبتسماً بشبح ابتسامة مخفية تحمل في جنباتها ....العشق!!....ثم أعاد جملته مضيفاً عليها:
" قلت تعالي اجلسي.....ستعرفين ماذا أفعل هنا!..."

نظرت بارتباك حولها وهمست بتلعثم:
" هـ...هل أتيت لقـ....لقصيّ....؟!..."

واستهمت لتخرج قائلة:
" سأناديه حالاً...."

" انتظري!!..."

ردعها عن ذهابها فغضنت جبينها تضيق عينيها وهمست:
"لماذا؟!.."

رسم ملامحه الجادة على وجهه الوسيم وأجاب بجدية تتماشى مع تلك الملامح:
" لديّ ما أقوله.....فلو سمحتِ تعالي واجلسي!!.."

بدأت تُقبل نحوه تقترب للجلسة التي يملأها....بهيبته...بوسامته...ب ثقته المتفجرة التي تعهدها....وبعبق عطره الرجولي الذي كلما اقتربت يخترق أنفها فيداعب الغرام بقلبها ....تتهادى بمشيتها باستحياء وبيسراها تحاول شد بلوزتها قدر الامكان!!....جلست على أقرب أريكة وصلتها....تتخذ منها مكاناً قصيّاً عنه....الأريكة ثنائية المقاعد!!....ألصقت ساقيها ببعضهما ووضعت قسم من بطن قدمها اليمنى على اليسرى مرتبكة تفركهما تحاول تدفئتهما ببعضهما بعد موجة الصقيع التي اجتاحتها عقب الحرارة الساخنة التي اخترقت خلاياها قبل دقائق معدودة.!!.....التفتت حولها وتنهدت بهدوء تطرد القليل من توترها لما وجدت مخدة مربوعة جوارها تثبتها بحجرها لتواري فخذيها الذي يفضح رسمتهما الانثوية الرقيقة ضيق بنطالها مع محاولة إخفاء رأس الدب المضحك الثابت على بلوزتها!!....أحست بالراحة واستعادت بعض من ثقتها بنفسها فهمست بصوت هادئ ثابت:
" ماذا تفعل عندنا؟!.."

أمال زاوية فمه بابتسامة وعلّق قائلا:
" في عادات بلادكم تسألون الضيف ماذا يفعل عندكم أم تقولون أهلا وسهلا؟؟.."

تنحنحت محرجة وردت تصلح نفسها:
" عفواً....أهلا وسهلا بالطبع.....لـ...لكن وجودك غريب هنا!.....وخاصة أنك لم تقبل أن أنادي قصيّ!!..."

أجاب برصانة حاملاً كل الدعم:
" قصيّ ووالدك ووالدتك وجدك هم من استقبلوني......وانتهى دورهم جميعاً!!.....والآن دورك..."

حركت رأسها قاطبة الجبين تتطلع على الطاولة أمامه وما تحوي من تضييفات فهمست في سرها..." يبدو أن كل شيء مخطط له..."...قبل أن تسأل بشك:
" ماذا تقصد؟!..."

ولم يكن جوابه كلمات بل أعمق من ذلك !!....نظرة سريعة تذيب الحجر رمقها بها ثم نهوض مباشر بقرار فوري ....و.....خطوتان ثابتان مزلزلتان ليستقر جالساً جانبها...!!..........تحفّزت أعصابها وهربت الخفقات من خافقها تبحث عن مخبأ ينقذها من هذا القرب وبجحوظ حدقتيها طالعته في ريب هامسة وهي تلتصق بزاوية الأريكة مبتعدة بجذعها:
" لمَ.....لمَ جلست هنا؟!..!"

عدّل جلسته يتخذ الوضعية السابقة يضع ساقاً فوق الآخر ببنطاله الجينز الكحلي وحذائه الرياضي الأبيض وبلوزته البيضاء ذات النصف كم التي تجسد عضلاته فتتماشى بكل أناقة فتاكة مع بياض بشرته الرجولية ويمد ذراعه من خلفها على ظهر الأريكة وأجاب بتحدٍ وجسارة يسلّط فحميتيه الثابتتين على بنّ عينها المهتز :
" ها أنا جلستُ بقربك.....لتعرفيني عن قرب!!......ألم تقولي لا أعرفك عن قرب!!؟؟..."

امتقع وجهها وازدردت ريقها ثم القت نظرة للبوظة بيدها التي رجعت تتخذ حالة الذوبان فانتبه لها هاتفاً وهو يبعد وجهه وبصره عنها ويحرر يده من خلفها ويحرر ساقيه ثم ينحني بجذعه يتكئ بمرفقيه على فخذيه يشبك رؤوس أنامل يديه ببعضهم ناظراً للأسفل هاتفاً بلا مبالاة:
" انهي بوظتك أولاً...ثم نتحدث!!..."

"ها؟!...ماذا قلت؟!..."

أخرجت كلماتها بضياع تنظر نظرة سريعة إليه ثم لما بيدها وتململت تنوي الوقوف وهي تقول معتذرة:
" آه عذرا.....لقد نسيت....سأعيدها للمطبخ حالاً..!!....لحظة!!...."

" ابقي....وانهيها"

قالها بل أمرها أمراً بصوت جاد رصين واثق وهو على حاله ثم التفاتة يسيره بوجهه الوسيم نحوها يرمي عليها سهاما من فحميتيه مردفاً بمكر:
" ألم تكوني تنوي قبل قليل ارتكاب جريمة من.."

ورفع يده يبسطها مشيراً للباب الواسع متابعا بنبرة متهكمة:
" أجلها بحق المسكين .....كركر..؟!..."

توّرد وجهها...خجلاً....احراجاً.....وا ستياءً من نفسها فقالت:
" هل سمعتني؟!...."

" أظن أن الجيران أيضا سمعوك!!....."

ألقاها ببرود ساخراً وتابع بذات البرود :
" المرة القادمة اخفضي صوتك خوفا من أن تمسك بك الشرطة وانت ترتكبين جريمتك قبل أن تأكلي بوظتك!!....يعني نصيحة مني.......كي لا تذهبي للسجن وتبقى في نفسك!!..."

يا الله يا الله.....أي امتحان مفاجئ نزل عليها بل وقع من فوقها كلوح ثقيل وطحنها.....امتحان لم تدرس له !!...وهي واثقة أن النتيجة ستكون سقوط حر كعادتها....أمامه!!....ما هي نواياه بالمجيء بالضبط لا تعلم.....أو باتت تشك لكنها خائفة من أن تتوهم!!.....وإلى أين سيصل يا ترى بكلامه؟!....حارت...ضاعت...كيف ستجابه هذا الزلزال ؟!!.....كانت شاردة بالفراغ تعوم بخواطرها وهي تكمل أكل البوظة بطريقة حاولت أن تكون ناعمة انثوية قدر الإمكان عكس الطقوس التي تأكلها بها هي خاصة!!.....ومن بين الافكار التي دارت في ذهنها تذكرت شقيقها وأنه السبب في الفخ والمأزق الذي تعيشه الآن!!......على الأقل لو أجبرها أن ترتدي الأسدال وتخبئ منامتها المجنونة مثلها......فانفعلت حانقة منه وشتمته في سرها تلومه وتتوعده....." قصيّ المخادع أنا شقيقتك يجب أن تستر عليّ ولا تنشر غسيلي المتسخ وأمام من...أمام زلزال قلبي وشيخي الوسيم!! ....ماذا فعلت لك لتفعل هذا لي؟!...اوف منك اوف.....سأردها لك يوماً...."...... صبر عليها الجالس جنبها تاركاً الحرية لها لتأكلها وهو يلهي نفسه في هاتفه!!.....لمحها بطرف عينه ونظرته الثاقبة أنها انتهت منها....تململ يغير وضعيته وطالعها بجرأة بعينيه الصقرية ورسم ابتسامة ثعلبية ....أما هي ظنت أن البوظة ستبرد نار هذا اللقاء....لكنها ...مع الأسف....زادتها اشتعالاً!!....بدأت تهف بكفها أمام وجهها المحترق بقربه المختنق بعطره!!....فهمس بهدوء يدّعي الاستغراب وهو يفهم حركاتها:
" هل تشعرين بالحر ؟!......"

" أنا لا أشعر بالحر إنما جلدي انسلخ عن عظمي من شدة لهيب النار التي رميتماني بها ....أنت...وشقيقي الـ..."

كان جوابها داخلها دون أن تسمح للسانها المتهور البوح به !!....ألقى فحميتيه لأعلى الحائط أمامه وتابع:
" المكيّف مفتوح....لكن إن شئتِ أنزلي درجاته لتبردي قليلاً...."

" كلا ....لا حاجة...أنا جيدة ....هذا طبيعي بعد أكلي للبوظة !!..."

قالتها بارتباك ونعومة وأخفضت حدقتيها لكفيها بحجرها وشرعت ببرم خاتم تضعه بأحد أصابعها تلهي نفسها فهمس همسة أطاحت قلبها :
" أنظري إليّ..."

بردة فعل سريعة استجاب للنداء قلبها ....حدّق بها وحدّقت به....فعاد ليرسم ابتسامته الثعلبية التي لم تفهمها!!.....حرّكت حدقتيها تتبع حركة يده التي مدها ليسحب منديلاً ورقياً عن الطاولة ثم عدّل جذعه قليلا ليقابلها وهو يقرب يده منها ففهمت أن هنالك بقايا من البوظة على شفتيها!!...... شرعت من فورها بطرف لسانها تحاول مسح هذه البقايا التي خمّنت وجودها بحركة مدروسة.....لا تجعلها طفلة بلهاء يستهزئ بها.....ولا أنثى مغرية يظن أنها تريد إغوائه.!!. ...ثم تسارعت دقاتها وكادت تفضحها أنفاسها المتعاقبة....توتراً وعشقاً وهو يدنو بيده نحوها بالمنديل الورقي وقد لاح في بالها الابطال بالمسلسلات كيف يمسحون فم البطلات برومانسية مذيبة فحدثت نفسها......." رباه.....سيفعلها.....سأموت الآن إن فعـ..."....وقطعت أحلامها الوردية التي رسمتها في مخيلتها عندما ألقى المنديل في حضنها بجمود أقرب للجلافة التي تخرج منه أحيانا رغما عنه تبعها استعادة جلسته السابقة هاتفاً بجدية :
" امسحي بقايا البوظة عن أنفك...!!..."

تنهيدة خفيفة أخرجتها تزامناً مع حملها للمنديل وقيامها بمسح أنفها.....!!.....خيّم سكون لم يتعدّ الدقيقة وقد عادت لبرم خاتمها تارة تخرجه من اصبعها وتارة تعيده .....كسر السكون متنهداً براحة وهو يوجّه وجهه وكلامه إليها:
" أجل آنسة....ميار.......أنا اليوم تفرغت ....من أجلك!!..."

"اهدأ يا قلبي....أرجوك لا تفضحني!!....أقال من أجلك؟؟!.....".....نقاش سريع خاضته بارتباكها الذي لم يفل عنها مع الثائر في صدرها وكانت ما زالت تلعب بالخاتم فسقط متدحرجاً ليستقر تحت الطاولة!!...وبطبيعة الحال ستكون ردة فعلها بعفويتها المعهودة فوق ارتباكها وتغيب عقلها بسببه هو ..النهوض اولا...ثم وقوع المخدة!!.... وخطوتين منها لتجثو منحنية تلتقط خاتمها فلم تشعر أي كارثة أحدثتها من خلفها......نتيجة نسيانها لقصر بلوزتها!! ...لقد ارتفعت فكشفت جزءاً من ظهرها ....وأمام عينيه ....بكل ....لم يعرف بأي صفة يوصف منظرها....أشاح وجهه مغمض العينين وهمس مستغفرا وما إن وصلها ...استغفاره... أدركت متأخرة بأي حالات يستخدمها فاتسعت عيناها رعباً وهي على وضعها وامتقع وجهها وبالكاد استطاعت ابتلاع ريقها ثم انتفضت مقشعرة كأن تماس كهربائي ضربها عندما شعرت بالبلوزة تُشد لتغطي لحمها بعدما انحنى نحوها وأمسكها بطرف اصبعيه دون لمس بشرتها وهو يبعد وجهه لجهة أخرى يغض البصر عنها تزامناً مع نطق اسمها بحزم وخشونة دون تكليف يلقي بعده شرارة لذعتها ليوبخها :
" ميااار.......ما هذا الاستهتار ؟!.....انتبهي لنفسك"

سحبت الخاتم واستقامت في الحال تشد بلوزتها متوترة تحاول ستر نفسها والاحمرار يكسو وجهها الخمريّ بعد الاحراج الذي عاشته وهمست بصوت شبه مهتز:
" آسفة ...نسيت!!...."

لتتذكر في الحال أن الزيارة مفاجئة منه وهي لم تتخذ التدابير اللازمة للاستقبال ...إذاً لا ذنبها ....فاستجمعت قواها وجلت صوتها وهي تعود لتجلس مكانها بثقة ابتدعتها هاتفة بدفاع أساساته متهالكة وهي تنظر للأرض :
" لم يخبرني أحد بقدومك ....أنا أرتدي هذا بغرفتي ونزلت سريعا لجلب بوظتي فقط... لا لأتجول في الأرجاء....!!.....لو سمحت لي مناداة قصيّ كنتُ بدلت ملابسي!!..."

قال بحدة رافعاً حاجبه يكمل تأنيبها بنبرة شبه مرتفعة:
" لا تعلمين بقدومي......وماذا عن أقاربك الشبان الذين يدخلون ويخرجون بأريحية هنا؟!....ها؟....إجيبي!!...كيف تثقين أن المنزل فارغ منهم؟!.....لستِ بمنزلكم يا ميار"

ها هي إحدى محاضراته المختصرة التي خشيتها..... لم تجد جواباً ففاز عليها وألزمها حدها !!...لاذت بالصمت تعيش خزيها داخلها!!.....ثم بدأ يتبدّل حالها لمّا أرهفت السمع لصوته الذي أصبح أقل ارتفاعا أكثر لطافة يبث أماناً...:
" ميار....لم أوبخك لأحرجك.....لكن يعزّ عليّ أن أرى فتاة محجبة لا تلتزم بلباسها الشرعي!!....حسناً لم أقول نقاب وغيره.....لكن يوجد لباساً مقبولاً أكثر من لباس!!....ما ترتديه الآن لا يجب أن يخرج من نطاق غرفتك الخاصة أو ارتديه في بيتكم......لا تضيّعي حسناتك بالاستهتار بفرائضك.....جسمك لك أنتِ....لا تجعليه مشاعاً للغير بعفويتك.....أنت لا تعلمين نوايا البشر ونظراتهم إليك...سواء قريبا كان أو بعيد ...!....هداكِ الله وأرشدك للصواب....."

بصوت خجول ناعم أمّنت خلفه وأردفت وهي ما زالت ناظرة للأرض وكانت الدموع تترقرق في عينيها بسبب موقفها المخجل ومظهرها:
" معك حق.....آسفة!.."

انتبه لخجلها وشعورها بالإحراج فرقّ قلبه وهمس مبتسماً بلطف وبهدوء سحقها:
" أنظري إليّ...ميار"

طريقة نطق اسمها من بين شفتيه يحتاج لدراسة في جامعة قلبها!!.... شجّعت نفسها للنظر رغم أن وجهها ما زال ممتقعاً مما مرت به قبل قليل ولمّا وقع البنّ في عينيها على الفحم في عينيه تغيّر حالها ....بشرتها الخمرية عادت لصفائها....وقلبها بدأ يدق دقات العشق التي لا مثيل لها .....رأت بملامحه سكينة وحنان وأمان ضاعفت من وسامته خاصة مع ابتسامته الهادئة ....ما به يناظرها هكذا؟!....لمَ هو مرتاحاً لدرجة لم ترها عليه سابقاً؟!....ماذا يخبئ لها؟!.....ما زالت تنظر إليه وضاعت بين مداراته تاركة نبضها يدور معها وعادت لأرض الواقع لما أكمل كلامه:
" لا تتأسفي مني....لستُ ملاكاً ولا أملك مفاتيح الجنة والنار......أنا مثلك بشر لديّ اخطائي واسأل الله أن يغفرها لي......فقط استغفري ربك وحاولي عدم الرجوع لإخطائك هذه....أما الآن!..."

" ماذا؟!..."

حرّك جسده يعدّل جلسته لتصبح شبه جانبية يتكئ بمرفقه الأيمن على ظهر الأريكه واضعا ساق فوق الآخر مبتسماً ثم تابع بهدوء:
" الآن نعود لسبب قدومي الى هنا!!...."

لا شعورياً قلّدت جلسته تقابله ....تتكئ بمرفقها الأيسر على ظهر الأريكة ووضعت المخدة المربوعة في جحرها تغطي فخذيها لتكون مرتاحة أكثر وأجابت بحماس تنظر مبتسمة ابتسامة واسعة كالبلهاء بعد أن تناست ما حدث قبل دقائق :
" أجل ...ما سبب قدومك الى هنا؟!..."

مسك نفسه عن الضحك باحترافية جندي لما وقع نظره على الدب المثبت على بلوزتها وأجاب واثقاً:
" استدعيتُ البارحة والدك وقصيّ لمكتبي في الشركة وطلبتُ منهما السماح لي بالدخول من الباب لتتعرفي عليّ.....عن قرب!...قبل عودتكم لوطنكم.....وقد وافق والدك وأجلّ سفركم لعدة أيام ..."

شهقت جالسة بتحفز وهتفت مستنكرة:
" أتقصد أن والدي أجل سفرنا من أجل هذا اللقاء وليس لعمل؟!..."

ولحقت سؤالها في الحال هاتفة بتعجب:
" أنتَ أتيت اليوم .....ما الحاجة لأسبوع آخر إذاً..؟.!..."

" من أجل عقد القران!.."

ببساطة هكذا نطقها وبصدمة تلقّتها...كلمات فيها التأكيد....لا سؤال بعدها لا نقاش بها!!....حرّكت حدقتيها على رسومات السجادة أمامها ..".أين قلبي؟!...من يرد لي قلبي ؟!....لقد سُرق مني!!....".....أخذت تعدّ للعشرة بعقلها كتمرين كي لا تخرج منها كلمة غبية فيسيء ظنها....لم تجد في جعبتها إلا سؤال بتعجب:
" كيف؟.."

" ماذا تظنين؟!.."
سؤال استنكاري تلى سؤالها ثم تبسّم بكل الرزانة الذي يحملها بشخصيته وبكلمات تنضح رجولة أجاب كإقرار لا يوجد بعده فرار:
" عاهدتُ نفسي أمام الله ألّا اقترب من أنثى وإن خنتُ عهدي ولمستها.....لن تكون غيرها.....امرأتي...وإلّا....فلت سقط عني الرجولة!!.."

تنهّد بسلاسة وتابع بينما الابتسامة الفتاكة لا تفارق ثغره:
" وأنا لمستكُ بإرادتي....لأنك لن تكوني إلا لي بإذن الله ومشيئته ...إلا لو كان للقدر رأي آخر أكبر منا..."

أيا ترى يصله أصوات الحفلة الصاخبة التي تقوم بها أعضاءها الداخلية من شدة سعادتها؟!....ماذا كانت أمانيها وماذا أعطاها الله؟!.....تذكّرت تلك المقولة الشهيرة ..( وتشاءُ أنت من البشائر قطرةً ويشاءُ ربُك أن يُغيثك بالمطر وتشاءُ انت من الأماني نجمةً ويشاءُ ربُك أن يُناولك القمر)..ويا له من قمر الذي يجلس جوارها...يا له من قمر الذي زلزل قلبها....يا له من قمر الذي أقرّ أنها لن تكون إلا له...بماذا دعت لها والدتها ليكرمها الله بشيخها الوسيم ليكون رجلها بل سيد الرجال... لا قبله ولا بعده !!...حمدت الله بسرها وظلت ضائعة بأحلامها بينما هو يتأمل تورّد وجنتيها حياءً والتماع عينيها عشقاً وتعاقب أنفاسها سعادةً ...وقد فكر بل قرر وأخبر والدها وشقيقها بعدما أعطياه الصلاحية الكاملة لحبهم وثقتهم به ومعرفتهم المسبقة برأيها بما يخصه....فهي شفافة تكاد تفضح نفسها و(قصيّ) كان يقرأها بوضوح ويرى حماسها عندما تجلب سيرته عن درس ديني ما كان قد نشره بغض النظر أنه طلبها سابقاً وكانت راضية حتى تدخّل جدها وهدم كل شيء!!.....أجل أخبرهما أنه إن تمّ كل شيء بينهما على ما يرام سيكون خير البر عاجله ...فهو لن يستطيع الانتظار أكثر ولن يجازف بخسارتها بعد أن وجدها!!....لأن تلك العابثة الصغيرة وحدها من لعبت بإعداداته وسرقت نبض قلبه !!....أخرجها من حالميتها هاتفاً بجدية:
" جهّزي نفسك!....عقد القران بعد أسبوع بإذن الله والزفاف بعد شهرين إن الله أراد..."

لم تعترض...لم تأتي حتى بسيرة جامعتها....لم تجرؤ على نطق حرف....ستقول سمعاً وطاعة كي لا تدمر شيئاً بتهورها بعد ما ذاقت من عذاب عندما ظنت أنها فقدته للأبد!!.....لم يعطها أساسا المجال لتسأل لما تبع قوله بقول آخر:
" كل هذا اهلك يعلمون به بالطبع.....يعني لا تتفاجئي ...وأنا من أخبرتهم أنني أريد الكلام بالموضوع معك بنفسي!!...لذا لم يشعروك بشيء!!.."

دخلت خالتها تحمل صينية قهوة بعد أن ألقت عليها غمزة فرحانة لها....أخذ فنجانه وارتشف رشفة بعدما تركتهما ...وضعه على الطاولة وقال بجدية:
" والآن يمكنك سؤال ما تريدين معرفته عني!...لتعرفيني عن قرب .."

ورسم ابتسامة لعوبة مردفاً:
" ميار.."

تلبّكت وضاعت منها الاسئلة فساعدها ليفتح ذهنها هاتفاً بمرح:
" مثلاً عن اللون!.."

وأكمل يعطي نموذجاً تجريبياً :
" ما لونكِ المفضل؟!.."

وسؤالها تزامن مع سؤاله صدفةً ليلقيا بهما بوقت واحد:
" أي لون تبغض؟!.."

" الأحمر."

جواب واحد لسؤالين مختلفين دمج صوتين ....هي بحماس أجابت وهو بنفور أجاب.....وكان هذا الجواب البسيط بداية الطريق للتأكيد على اختلاف شخصياتهما الذي سيميز علاقتهما التي لن تشبه أحداً ليتبعه كم من الاسئلة العامة كانت إجاباتهما عليها أحدهما تتخذ جهة الشرق والآخر جهة الغرب...!...وبينما هما مندمجان بلعبة الأسئلة رنّ هاتفه ...أخذه عن الطاولة وغضن جبينه ثم همس بهدوء:
" عفواً...عليّ أن أرد.."

اومأت برأسها مع ابتسامة لطيفة تزيد وجهها بشاشة وصارت تعدّل حجابها وفجأة ركّزت سمعها لما شعرت غرابة بفحوى كلامه ...لم يطل بالمكالمة....أنهاها ودسّ الهاتف بجيبه بجدية ثم زفر أنفاسه بأريحية وهمس:
" أجل....أين كنا؟!.."

لم تستطع منع فضولها مما سمعت!!...فسألت بتلكؤ مستفسرة:
" عفواً...لمَ تكلّمت كأنك تكلم أحداً من ذوي المناصب الكبيرة؟!.."
شقت ثغرة ابتسامة وقورة ورد بكل برود كأن الكلام الذي يلقيه على مسامعها أمراً عابر غير مهم للتركيز عليه :
" أجل هذا السيد عادل الأديب نائب رئيس هيئة الاركان .."

غضنت جبينها بعدم فهم فتابع بلا مبالاة:
" ليخبرني عن منصبي الجديد !!.."

" منصبك الجديد؟!.."

سألتها باستغراب فرد بهدوء:
" أجل ... منذ يومين أصبحت قائداً في قوات السلاح البحري...لكن!.."

حرّك رأسه غير مهتم وأردف:
" لكن الآن أخبرني أنهم منحوني أيضا منصب المتحدث الرسمي لجيش الدولة!....لا أعلم لمَ....يكفيني واحد!....لكنهم مصرّين على هذا!!.."

أيعي هو ما يقول؟!....بل هل استطاعت هي استيعاب ما سمعت ؟!.....وكأن الدقائق توقفت عند ما أخبرها به.....لطالما كانت تنجذب لكل ما يخص الجنود والأسلحة بل تذوب في هيبتهم.....لكن أن يكون شيخها الوسيم منهم هذا ما لم يستطع عقلها تقبّله فقفزت مندهشة بعفوية:
" أنت من الجيش ؟؟!.."

" أجل"

قالها بإيجاز فردت منفعلة وهي تضحك:
" يا إلهي وتقولها بتلك البساطة؟!.."

غضن جبينه بعد ان استعصى عليه فهمها وسأل مستغرباً:
" لم أفهم ..ما بذلك؟!..."

" ماذا ما بذلك.....يا ويلي.....أنا اعشق كل شيء يخص الجيش....ياااه.."

تبسّم بخجل رجولي فتابعت:
" لكن لم تظهر يوماً أنك منهم!!.."

أجابها يفسر لها:
" في السابق كنت قناص الثوار....أي قبل الحرب....فنحن لم نكن نظهر شخصياتنا حفاظاً على سلامتنا وعائلاتنا....كنا نرتدي اللباس الأسود مع اللثام....لكن بعد الحرب واستقرار بلادنا أصبحنا الجنود الرسميين للدولة لذا لا حاجة للتخفي.."

" يا إلهـــــي!!..."

مطتها مصدومة وقلبها يرقص فرحاً وأضافت ببلاهة وهي تعمل بيدها حركة سلاح:
" يعني كنتَ أنت تحمل سلاح حقيقي وترتدي ذاك اللباس القاتل لقلوب العذارى؟؟!.."

وأكملت بهيام تشير لعينيه ببراءة لا تعي ما تتفوه به:
" يا ويلي مؤكد أنك كنت وسيما وعينيك السوداوين تظهران فقط من وراء اللثام.."

"ماذا؟؟؟؟"

سأل مذهولاً خجلاً من كلامها وغزلها الصريح ثم أطلق ضحكة رجولية حقيقية وصفق كفيه ببعضهما قائلاً وهو متأكداً أنها تحدثت من غير وعي!!..:
" لا حول ولا قوة إلا بالله ...ما بك ميار؟....عودي لوعيك!....لا أفهم لمَ ضخّمتِ الموضوع لهذه الدرجة ؟"

اكتسى وجهها بالحمرة لمّا أدركت ما قالت وشهقت تضع يدها على فمها كأنها تريد ضبط لسانها ولكن خسارة قد فات الأوان وبعد ثواني أرادت أن ترضي فضولها فهمست بجرأة متناسية شهقتها قبل ثواني:
" أيمكن أن أراك بذاك اللباس أو لباس الجيش؟"

" حسناً ستملّين وأنت ترينني به عندما نتزوج إن شاء الله!!.."

واقترن جوابه بسحب هاتفه من جيبه سائلاً:
" ما هو رقم هاتفك؟!..."

هل ما تسمعه حقيقي؟!...أتذوب من جملته السابقة أم تقوم وترقص لأنه طلب رقمها؟!.....سيكون رقمها عند شيخها الوسيم.... بل رقمه واسمه سيزينان هاتفها؟؟...كان هاتفها فوق لكنها أملت عليه رقمها وفكرت في سرها بالاسم الذي ستحفظه به...( زلزال قلبي)...قال لها بعد عن عبث قليلاً بهاتفه:
" بعثتُ لك صورتي بلباس الثوار.....لكنها لكِ فقط...إياكِ أن ترسليها لأحد!!..."

أمجنون هو؟!....ألا يدرك أنها تريد تغليفه ليبقى لها وحدها ولا تصيبه عين حاسدة ما أو تسرقه منها إحدى الفتيات الوقحات؟؟!....ستحصنه وترقيه وتدعو الله أن يحفظه الله لها ...ولها فقط!!....

نظر لساعة يده وهتف وهو يتململ لينهض:
" لم ينتهِ حديثنا سنكمل إن شاء الله بعد عقد القران لنعرف بعضنا أكثر....وشقيقتي الكبيرة الموجودة هنا بالعاصمة ستتواصل مع والدتك بما يخص يوم طلب يدك وعقد القران ...أي أشياء نسائية لا علاقة لي بها طبعا!....أما الآن عليّ الذهاب تأخر الوقت..."

سار بثبات وخطى واثقة زلزلت ذاك النابض بين أضلعها....كانت تراقبه ذائبة تفكر بكل ما جرى ولما اقتربا من باب الصالون بحركاتها العفوية المعبرة حرّكت يديها وكتفيها شبه راقصة من شدة سعادتها فباغتها يستدير ليقول كلمة وأمسك بها رافعاً حاجبه بحدة ناظراً إليها بفحميتيه متسائلا عن حركتها فقالت بتلعثم تداري فضيحتها وهي تهش بيديها:
" ناموسة!!.....ناموسة غليظة التصقت بي وأنا لديّ حساسية منها....لذا قمت بهشها..."

" آه ...لا بأس..سلامتك!.."

قالها واستمر بمشيته فخرج (خالد) ابن خالها من غرفة العائلة وكان قد صافحه لحظة وصوله لكنه لم يرَ التي كانت خلفه فهتف بحماس وأريحية :
" أهلا ميروو....كيف حالك؟.."

ليكون ردها التلقائي بميوعة بريئة:
" أهلا أهلا خَلّود...بخـ..."

بترت جملتها لما استدار بغضب وعيناه تقدح شرراً بغيرة وحشرية من تصرفاتهما بتلك الحرية فابتلعت ريقها وحوّلت الكلام بنباهة قائلة:
" خُلود...خُلود شقيقتك أين هي لمَ لم تأتِ.؟!."

لم يفته بالطبع ترقيعها ولما وصلا عند الباب استدار يحشرها بالحائط يسند ذراعه عليه فوق كتفها يميل بجذعه نحوها يحدّجها بعينين مشتعلتين غيرة هامساً بخشونة:
" ميــــار....لن تتكرر هذه الميوعة.....أنصحك بألّا تختبري غيرتي على من تخصني!!......وقد أعذر من أنذر!!....."

يتبع....
[[ لو نُثر عُمري على الأرضِ ما انحنَيتُ لالتقاطهِ،
مرحبا بقبرٍ أُنزلُ فيهِ واقِفَا. ]]
(( منقول))
×
×
×

" ميــــار....لن تتكرر هذه الميوعة.....أنصحك بألّا تختبري غيرتي على من تخصني!!......وقد أعذر من أنذر!!....."

أنهى تحذيره لها ثم مدّ يده لمقبض الباب ليفتحه وهو ما زال يرميها بنظراته الحادّة وكانت هي تطالعه بملامح مرتبكة ثم رمشت كإجابة أنها توافقه ولما ولّاها ظهره خارجاً همّت للحاق به فتوقف مستديراً نصف استدارة للخلف يناظرها بنظرة تقييمية من الأسفل للأعلى بنفس النظرات التي لم تبرح من عينيه الفحميتين وتقاسيمه الجامدة وسأل بصوت منخفض :
" إلى أين؟!.."

ردّت ببراءة دون تردد وهي تشير لسيارته رباعية الدفع ذات اللون الرصاصي الواقفة في الساحة :
" سأوصلك لسيارتك!..."

رفع حاجبه بشكل حاد مع رفع ذراعه مشيراً بسبابته للأعلى آمراً:
" لم اطلب منك إيصالي.!!..... اصعدي الى غرفتك في الحال ولا تتفتلي بدبك ذو اللسان هذا بأريحية أمام الجميع ....أو بدليها بملابس ساترة تليق بفتاة محجبة .....تخص أحمد.....أتسمعين؟!"

" كلا لم أسمع آخر كلمتين....هل لكَ أن تعيدها؟!"

قالتها في قلبها متحكمة بلسانها وظلّت شاردة لوهلة دون ردة فعل منها فَعَلا بنبرته الجامدة هاتفاً:
" ميار.....أكلمك..."

" ميار تذهب فداءً لأوامرك يا شيخي الوسيم..."

فقط لو أنها كانت هذه اللحظة مرتبطة به رسمياً لتصرخ بها لكنها عليها أن تبتلعها مجبرة حتى يشاء الله أن تطلق لسانها أمامه دون تفكير أو خوف من العواقب..!!....ردّت هامسة بوجنتيها المتوردتين وعينيها اللامعتين:
" أجل....أجل سمعت..."

تنهّدت وأردفت وهي ترفع يدها تودعه بابتسامة رقيقة:
" حسناً إذاً....مع السلامة!...."

هزّ رأسه بحركة رضا وهتف بصوت جاد:
" نستودعكم الله ....سلام عليكم..."

أغلقت الباب بعد رحيل سيارته واستندت بظهرها عليه برهة وهي تزفر أنفاسها بسعادة وتضع يدها على صدرها تحاول إسكات هدير قلبها العاشق ثم تسللت بهدوء هاربة قبل أن يمسكها أحد من أهلها وأقاربها لفتح تحقيق معها بشأن اللقاء وصعدت السلالم بسرعة ذاهبة لشقيقها الذي تركته بغرفتها مستلقيا على سريرها ولما وصلت وفتحت الباب ادّعى أنه نائماً ولم يفلح بإقناعها فانقضت عليه تخنقه وتضربه هاتفة:
" كيف تبيع أختك ؟!....ما هذه الورطة التي أوقعتني بها؟!......لن أنساها وسأردها لك عندما يحين نصيبك مع المسكينة التي ستتزوجك.."

كان يحاول حماية نفسه منها وهو يضحك وبعد القاء كلماتها عليه توقفت لاهثة من معركتها معه لتنفجر ضاحكة فضمها تحت ذراعه بقوة ملؤها الحنان يقبّل رأسها وهمس لها:
" إذاً ورطة آنسة ميار؟!....هل أخبره بذلك؟!."

تطلعت عليه بنظرات محبة وحنونة تشع سروراً وقالت بمزاح معاتبة:
" ماذا سيد قصيّ؟!...فهمنا أنه أصبح صديقك وتحبه وتحترمه لكن لا تكن نذلاً وتبيعني !!......"

وأمسكت أذن دبها الموجود على بلوزة منامتها متابعة:
" بالله عليك كيف سوّلت لك نفسك بفعل هذا بي؟!...أقابل عريس أتى لرؤيتي بهذا الدب......ما هذا الظلم؟!..."

عدّل جلسته ملتفتاً أكثر نحوها وأمسكها من خديها يقرصها بمداعبة وأجاب بجدية وهو يرميها بنظراته الودودة:
" هو من طلب منا أن لا نخبرك بشيء ولو كنتُ أنا مكانه لرغبتُ أن أقابلك وأنتِ على طبيعتك لأنك تكونين بأجمل صورة حية وأنت هكذا.....لا قشور ولا تزييف ولا رسميات رغم أنك لستِ ممن يضعن طبقات كثيرة من الزينة ويصبحن بوجه آخر.....صدّقيني إن كنتُ أفهم أحمد قليلاً سيترك هذا اللقاء في نفسه وقلبه انطباعا خاصا...."

أفلتَ خديها وأمسك لسان الدب مستطردا:
" سيأتي يوم وتقولين صدق قصيّ...."

استقام بظهره وغير نبرته ثم غمزها مستفسرا:
" والآن أخبريني ...كيف كان اللقاء مع صهري؟!....وإن كنتِ ترغبين بتأجيل عقد القران سأكلمه لا مشكلة..!!.."

كتّفت ذراعيها على صدرها ورفعت رأسها بأنفة وغرور مصطنع مجيبة:
" ومن قال لك أنني وافقت لتقول صهرك؟!..."

سحب هاتفه عن المنضدة جانبه وقال بمشاكسة :
" حسناً سأتصل به وأقول له طلبك مرفوض.!!.."

" هيه....توقف!....ألا مزاح معك؟!"

" يعني موافقة؟!"

هزت رأسها إيجابا وهي مبتسمة بحياء فطري رغم قربها من شقيقها ثم هتفت تبوح عما بخلجات نفسها وهي تضع كفيّها على صدرها ناظرة للأمام:
" في الحقيقة أشعر براحة غريبة هنا......رغم اختلافنا بنقاط كثيرة...."

التفتت نحوه والبنّ في عينيها يلمع مردفة:
" تلك الراحة لم أشعرها عند ارتباطي بتامر ابن عمنا أبداً......."

رفعت احدى يديها تضعها على ناصيتها وهي تتابع:
" أما عقلي الآن ....أخافني..."

" كيف أخافك؟!"

سألها فحركت رأسها بعدم معرفة مع لوي شفتيها ثم أجابت بضياع:
" قلبي واثق من الاختيار....ولكن عندما أصبح الوضع جاداً كأنه جاء وقت التدخل لعقلي.......أقصد أفكر بالفرق بين البلدين ...العادات...التقاليد....أناس جدد....حياة جديدة ....وشخص مثل أحمد وجديته......هل سأتمكن من مجابهة كل هذه الأمور لوحدي وأنا الغريبة؟!....."

ركّزت عينيها بعينيه تسأله تريد أن ينشلها من ضياعها وما يؤرقها:
" ماذا لو لم استطع التفاهم والتأقلم مع محيطه خاصة أهله ؟!.....ماذا إن كانوا من مفتعلين المشاكل مع الكنة؟!...ماذا لو عاداتهم صعبة عليّ أو لم يتقبلوا عاداتي.......كيف سأتصرف ؟...وهل سينصفني إن كنت غير مخطئة أم سيقف ضدي لأنهم أهله وهو رجل ملتزم بار بوالديه؟!...."

"ميار.."

نطق اسمها بدفء وهو يضع يده على يدها ليكمل:
" لمَ تتعبين نفسك بهذا التفكير ؟!.....أولاً إن كنا نعرف أحمد جيداً لن يكون ظالما لا لك ولا لغيرك بإذن الله......ثانيا لم تظنين أنك داخلة لمعركة؟!.....أنت فقط ستنتقلين من مرحلة في حياتك لأخرى......مثلما انتقلتِ من الطفولة للصبى وللشباب.....كل مرحلة تعرفتِ عليها لوحدك وواجهتِها بحلوها وبمرها ....وما دمتِ تحملين قلباً طيباً وضميراً حياً وعقلاً حكيماً لن تشقي عزيزتي ....فطرتك سترشدك للصواب والتربية التي تربيناها من والدينا ستدعم مواقفك ....ستستطيعين التفرقة بين ما يفتح عليكِ باب المشاكل فتتجنبيه وبين ما يبث بحياتك الطمأنينة فتتمسكين به!!.....أنا أثق بك شقيقتي.....لن يصعب عليك شيء بل سأفتخر بك دوماً!....المهم في الأول والآخر أن تجدا بينكما كزوجين طريقاً للتفاهم واسلوباً محترماً لتصلا لحل أي مشكلة تواجهكما سواء كانت صغيرة أو كبيرة ...داخلية أو خارجية!!.."

مالت بجذعها لتضع رأسها على كتفه تستشعر حنانه ودعمه لها وهي مبتسمة بسكينة:
" إن شاء الله...أراحك الله مثلما أرحتني أخي..."

حاوط ظهرها بذراعه وطبطب على عضدها بكفه سائلاً:
" ألم يكلمك هو عن أهله ...طباعهم وغيره؟!..."

أجابت وهي ما زالت على وضعها وتنظر للفراغ:
" كلا....فقط أخبرني أن والديه يعتبرا كبيرين بالسن نوعا ما...أي أكبر من والدينا بعدة سنوات وأن شقيقته صفا المتزوجة في العاصمة هي البكر ويأتي خلفها شقيقه مجاهد الذي يكبره باثني عشر سنة وهو إمام مسجد حيهم ورث الإمامة عن جدهم والد والدهم ثم يأتي هو وثم شقيقته الصغرى مروة في المرحلة الثانوية!......يعني لم يتكلم عن التفاصيل وقد قال نتعرف على بعض أكثر بعد عقد القران إن شاء الله..."

ضحك وقال:
" يعتبر أنه تكلم كثيرا هكذا ....فهو ليس ثرثارا ثم لأنكما ما زلتما غير مرتبطان رسميا مؤكد يضع حدود بينكما مؤقتاً...."

تنهد وتابع بجدية:
" اسأل الله أن يكتب ما فيه خير لكما...."

وأضاف بنبرة مداعبة وهو يبعدها عنه ليواجه وجهها:
" هل تريدين الذهاب لنتمشى بعد صلاة العشاء؟!..."

ردت من فورها:
" كلا ...لم أعد أرغب!.."

وأكملت في داخلها.." اتركوني استوعب ما مررت به!....أشعر أنني كنتُ في حلم!......أحمد زلزالي الشيخ الوسيم قناص الثوار سابقا وقائد في القوات البحرية والمتحدث الرسمي لجيش دولة (...) حاليا ....خطبني أنا؟.......اللهم لا حسد......"

وما إن أنهت كلامها الأخير بما يخصه داخلها تذكرت ماذا ينتظرها فوقفت مستقيمة وهي تسحب شقيقها من ذراعه تطرده هاتفة:
" هيا عزيزي قصيّ...لا بد أنك جعت أو اشتقت لحكايات جدي.....هيا اذهب عنده أريد أن أنام لو سمحت واخبرهم لا أريد الكلام بالموضوع الآن....لقد كان يوماً مرهقاً...."

قام من مكانه وهو يضحك سعيدا من أجلها ولم يكن يفهم نواياها ولما خرج أغلقت الغرفة بالمفتاح ثم بحثت بعينيها عن هاتفها واقتربت من سريرها تكمل بحثها بين طيّات غطائها ولما وجدته شقت ثغرها ابتسامة واسعة بعد أن أخرجت تنهيدة وكأنها حصلت على شيء عظيم!.......وضعت رقمها السري بطلاقة ثم قفزت للتطبيق المراد ووجدت رسائل كثيرة من أطراف كثر لكنها لم تهتم وبدأت تتخطى اسما تلو اسم حتى توقفت عند رقم دخيل جديد يزيّن قائمتها وهي تبتلع ريقها ثم ضغطت عليه لتكون ردة فعلها:
" الله أكبر يا شيخ .....ما هذا؟!..."

كانت صورته بلباسه الأسود الساحر مكتوباً عليها (الفهد الأسود) بخط صغير على صدره وكان بلثامه التي رغبت برؤيته ...يرفع ساق على صخرة والأخرى ثابتة أرضاً وينحني بجذعه قليلاً متكئا بمرفقه على الساق المرتفع وبيده سلاح القناصة الطويل ينظر بمنظاره بعين ويغمض الأخرى كأنه يركّز على هدف ما أمامه..!....ضاعت بالصورة وبصاحبها وازداد وجيب قلبها اعجاباً وعشقاً وابتسامتها لم تبرح عن ثغرها....كان شعور البهجة يغمرها وبتلقائية حركت أناملها الرقيقة على الشاشة لتكتب:
[ كنت متأكدة أنه يليق بكَ ]

وما إن أرسلتها حتى استوعبت أنها تغزلت به بصريح العبارة فتسارعت دقاتها توترا وحذفتها من فورها ليصلها رسالة ماكرة منه:
[ ماذا حذفتِ؟]

حدّقت بالشاشة لثواني مفكرة بإجابة وكتبت:
[ لا شيء....ليس لك ]

ولأنه في حالة قيادة لسيارته أرسل لها تسجيلاً صوتياً بدلاً من الكتابة ..:
" أخبريني...هل رأيتِ الصورة؟!...كي أحذفها "

شهقت مستنكرة وكتبت:
[ أجل رأيتها لكن لمَ تريد حذفها؟!]

بابتسامة لعوبة رد برسالة صوتية..:
" يبدو أنها لم تعجبك!!...لم تعلّقي شيئا!!.."

دون تفكير حركت أصابعها على شاشتها تكتب حروفها لتحافظ على صورته بهاتفها قبل أن تخسرها وأرسلت معترفة :
[ بلى علّقت....قلت ....كنتُ متأكدة أنه يليق بك]

" ما الذي يليق بي؟!"

[ ذاك اللباس الأسود واللثام والسلاح ..]

وقبل أن يجيبها سرحت حالمة بسرعة تتخيل نفسها بين ذراعيه تتكئ بظهرها على صدره ليمسك بيديها يعلمها كيفية استخدام السلاح بغض النظر عن حبها وإعجابها بالعتاد الحربي الذي يرمز للقوة والرجولة!!...كم ستكون حركة حميمية رومانسية تذيب قلبها ولم تستطع منع نفسها بعد أن ثارت مشاعرها بسبب الفكرة بأن ترسل هذه المرة رسالة صوتية دون أن تنتبه لتهدج صوتها الأنثوي الرقيق والذي خرج بتغنج خاصة نطقها لاسمه بهذا السحر والدلال:
" أحمد....ستعلمني على السلاح عندما أكون لك.... أليس كذلك يا شيخي؟!!....أرجووك لا تقل كلا...أرجوك... أرجوك...."

يا ويله ويا ويل قلبه منها ....ماذا تفعل به؟!....كيف تتبدل أحوالها....بين المرح والجنون....بين البراءة والأنوثة التي تجعله بها مفتون....ابتلع ريقه وتسارعت ضربات الذي بين أضلعه مسجون ...رفع ذراعه يحك عنقه من الخلف بعد أن شعر بتعرّقه وتعرّق جبينه تأثرا صريحا لا يُخفى بسبب صوتها وغنجها الذي بين توسلاتها وإقرارها بأنه ملكا لها بعد اضافتها لياء الملكية على لقبه وكأنها تجره ليسافر لعالم ما زال ليس له الآن ولن يجربه إلا بعد الحصول على التذكرة التي ستصل بإذن الله بعد أسبوع لتصبح بعدها هي العنوان والموضوع وليوقد لها بقلبه من العشق شموع وعن حبها لن يسمح أبداً بالرجوع فهي ستغدو السكن له والربوع وهو الجندي الحامي لها المدجج بسلاح الرجولة وبأمانه وحنانه يكون لها الحصن والدروع !!

بعد موجة تأثره بها بسبب مشاعر يجربها لأول مرة حدّث نفسه......" سحقاً....ماذا تفعل بي هذه المجنونة؟!.....اثبت يا شيخ ...أثابك الله اثبت...ما بك كدت أن تذوب.....لا يليق بك هذه الحركات....استغفر الله......"......ولم يتردد لا لدقيقة ولا لثانية ليضغط على اسمها متصلاً اتصالاً عادياً ولما رأت رقمه على الشاشة استوعبت ما نطقت وبأي طريقة نطقت فشعرت الأرض تدور من حولها وتاهت بأفكارها ثم وضعت يدها على صدرها تهدئ ضربات خافقها المضطرب الذي يستعد لاستقبال قصف مباغت أو هزة أرضية يحدثها زلزالها ومررت اصبعها على الشاشة بعد وقت يسير كان عليها عسير لتجيب بتلعثم وصوت بريء :
" أ...أجل...ماذا هناك؟!.."

كان قد جلى صوته الرجولي العميق قبل أن ترد ليعيد فيه الثبات والجدية ويتخذه درعا واقياً من فتنتها حتى تصبح ملكه وحلاله فهتف بثبات وكلمات حازمة آمرة :
" ميار.....لن نتحدث بشيء لا رسائل ولا اتصالات إلى أن يعقد قراننا إن شاء الله ....أنا اخطأت بذلك اعترف.....لم أكن أريد مكالمتك قبل أن تصبحي لي شرعيا ورسمياً....كنتُ سأكتفي باللقاء الذي أخذت الإذن به من أهلك فتصرفي هذا أشعرني بخيانتهم صدقاً....لأن هذا ليس أسلوبي ولا من مبادئي!!.....لذا إياك ارسال حرفاً واحداً على رقمي حتى يأذن الله لنا بالارتباط الاسبوع القادم.......نستودعكم الله.."

" حسناً...مع السلامة"

ختم كلامه عاقد الحاجبين وألقى الهاتف على الكرسي جانبه بضيق بعد أن وصلته جملتها الضعيفة وعاد ليستغفر مركّزا بطريقه كأنه فعل كارثة بحق نفسه وحقها ثم ناشد الله الصبر عليها وتسييره كيف يتعامل معها حتى تصبح في بيته وتحت سقفه...وبين أحضانه ....وحينها سيخبرها فقط بقية جملته المبتورة والتي نطقها بالسجن منذ أيام...." ....عليه توبيخها وتقويمها.....لكنها تبقى امرأته والزوجة ...".......لتكون الكلمات الناقصة فيها ..( والزوجة في دستور أبناء الجبل هي الجوهرة المكنونة والملكة المصونة المتوّجه على عرش قلوبهم..) ....وسترى بنفسها من خلال أفعاله ومعاملته لها صدق هذه العبارات لأن الثائر ابن الجبل...صاحب أفعال لا أقوال والاخلاص والوفاء يجريان في دمائه....وحب الأرض والوطن وحماية العرض لا تلاعب فيه عندهم إنما الروح تروح فداءً من أجلهم...والمرأة الصالحة في قلوبهم ما هي إلا نسخة مصغرة عن كل هذا....إنها الوطن في قلب الوطن..!!....ويا حظ من حظيت بابن الجبل لتعيش تحت كنفه وتتذوق اهتمامه... حنانه ورجولته......تلك الرجولة التي لا يضاهيها رجولة ...!!


أما هي تنهّدت بعمق بعد انتهاء المكالمة بينهما وابتسامة افتخار تلوح على ثغرها أدت لالتماع البنّ في عينيها تزداد بها عشقاً به وشوقاً للقائه بعد أن استشفت بكلماته جهاده بالالتزام خشية من الله وإخلاصه لأهلها بزمن كثر به الحرام والغدر واتباع الشهوات وضغطت على صورته تتأملها من جديد هامسة :
" رفقا بقارورتك يا شيخ ....فقلبها لا يتحمل هذه الوسامة والرجولة والشهامة........حفظك الله لأهلك ولوطنك.....وحفظك لي وجعلك من نصيبي....حلالي وحبيبي!!..."

ثم عبثت بالهاتف لتضيف صورته لرقمه فتظهر لها عند اتصاله وسمّته بـ ( زلزال قلبي )....!!

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

في يومها الأول معنا زارتنا بوقتٍ مبكرٍ من المساء شقيقتي (دنيا) مع ابنها لترى ابني وترانا قبل مغادرتي المدينة متجهاً للجنوب حيث المقر الرئيسي للجيش ولكن المدللة لم تبرح غرفتي التي قامت باحتلالها ولم يضغط أحدنا عليها بل فسحنا لها المجال لتأخذ حريتها حتى تأتي اللحظة التي ترغب بها هي بالاندماج بحياتنا بكامل ارادتها وذلك بسبب العلاقة المتوترة بيني وبينها والتي لا يمكن انكارها عن أحد وقد اكتفت أمي بأخذ (محيي الدين) منها من أجل شقيقتي ولكنها سرعان ما أعادته لوالدته بعد أن ودعتُه بقبلاتي قبل رحيلي عنه لأنه كان بحاجة للنوم!!.... وطلبتُ منها حينها أن تأتي بملابسٍ لي من غرفتي المحتلة كي أتجهز للخروج ...!!......وقد كان من المقرر أنه سيستغرق مكوثي بالجنوب يومين فقط ولكن حصلت بعض الأمور شديدة الأهمية التي أخلّت ببرنامجي وها أنا أعود لمدينتي الجبلية في اليوم الرابع ورغم أنني كنتُ منهكاً ومرهقاً من مشواري إلا أن شوقي إليه...و...إليها أنساني ذاك التعب !..فيكفيني الطمأنينة بقلبي كونهما تحت سقفي بأمان لأنسى كل شيء من أجلهما.....أشعر أنني بحلم لا أريد الاستفاقة منه....ردّ إليّ ربي قلبي وروحي.....الحمد لله.!!... كنتُ جالساً في غرفة المعيشة بعد وصولي بيتنا في ساعات الصباح منتظراً أن تحضره لي أمي التي أصبحت الوسيط بيننا كي أراه قبل أن اخلد للنوم لارتاح وأيضاً بعد أن ودّعتُ شقيقي الذي ذهب في رحلة تخييم مدرسية ليومين !! ......أقبلت نحوي خالية الوفاض تحاول رسم ابتسامة باهتة على وجهها وهي تقول:
" يبدو أنهما ما زالا نائمين....لم أُطِل بطرقي للباب فالغرفة ساكنة تماما!!..."

تبسّمت بوهن مع خيبة وأشرتُ لها لتجلس فلما فعلت هتفت:
" طمئنيني أمي....كيف مرّت تلك الأيام بعد ذهابي؟!..لم استطع التواصل معكم اعذريني...."

رفعت كتفها ولوت فمها كتعبير أنها لا تعلم من أين تبدأ وماذا تقول ثم همست بينما أنا كنتُ مصغياً إليها بلهفة أريد سماع كل شيء يخصهما:
" أنت تعلم بيومها الأول هي قبلت فطورنا فقط أما الغداء رفضته واكتفت بالموافقة على وجبة محيي الدين وكذلك عرضتُ عليها العشاء باكرا ورفضته أيضاً ولكن في الليل بوقت متأخر بعد ذهابك وذهاب شقيقتك لبيتها كان الصغير يبكي كثيراً ربما سئم حبسه بالغرفة ليوم كامل فتوجهتُ إليها وأخبرتها بلطافة عن عدم تواجدك في البيت لأنها لم تكن تعلم برحيلك وطلبتُ منها النزول بالصغير للطابق الأرضي عسى أن يبدل الأجواء فيهدأ ففعلت وبالكاد أقنعتها لتناول وجبة العشاء .."

شعرتُ بغصة اختلجت صدري وحدثت نفسي.." ألهذه الدرجة لا ترغبين برؤيتي ؟!"...بينما أكملت أمي تعبّر عن أفكارها:
" أشعر بها كأنها تهرب بنظراتها منا ....يعني على الأقل مني أنا... نظراتها ليست نظرات غضب بل كأنها محرجة.. خجلة... ضعيفة لا أستطيع قراءتها بالضبط "

قاطعتها من فوري قائلاً:
" لا بد أنها محرجة منا أو بالأكثر منك بسبب المغضوب عليه والدها وأفعاله فلقد أخبرتك أنها علمت الحقيقة كاملة.."

اومأت برأسها توافقني وبطيبة قلبها لمعت عيناها حزناً عليها وهمست بخفوت:
" ربما مثلما تقول بالفعل..!!......لكن يجب أن أبعد هذا الشعور عنها....هذه حياة كاملة لا يمكن الاستمرار بذلك!!....لا أريدها أن تحجب نفسها وتضع حواجز معنا.......علاقتكما شيء وعلاقتنا أنا واشقاؤك بها شيء آخر.."

تنهدت واردفت:
" طبعا هذا يأتي بمساعدتكم مثلا شقيقتك انزعجت لأنها لم تنضم إلينا يومها وظنت غروراً منها وأراها حانقة كثيراً ولكن كأن حنقها يتجاوز والدها فلطالما شرحت لها أنه لا يجوز أن نعاقبها بذنب والدها بتاتاً وأنه ظلم لا يقبله الله وكانت قد اقتنعت ...لا أعلم ما الذي غير مشاعرها نحوها منذ أن أتيت بها الى هنا في الماضي وأعدتها مجدداً..."

نبض الحياة لم تعلم ولكني أعلم سبب (دنيا) فهي ما زالت متحاملة عليها يوم أطلقت تلك النار نحوي وقتلت العصفور ولم يعرف غيرها هذه الحادثة لأني حذرتها وأخفيت آثار الجريمة حينها!!.....والآن لن أقبل باستمرار هذا التوتر وهذه المشاعر فهمست منزعجاً:
" اتركي دنيا عليّ.....سأكلمها بنفسي....بالطبع لن أسمح لها أن تعاملها بجفاء أو تشعرها بأفعال والدها وعليها أن تصبر عليها مثلنا دون أن تحكم بحكم مسبق!!...."

رمشت بعينيها تدعم كلامي ثم أكملت بنبرة أخرى تضيف على كلامها السابق:
" أما شقيقك لأنه هو ثرثار وجريء اقتحم جلستها مع ابنها وفرض نفسه عليهما فوجدتها تعاملت معه بأريحية إلى حد كبير ويبدو لي أنه ما زال قريباً لقلبها من الماضي فأنت تعلم كيف كانت علاقتهما...."

حمدتُ الله في سري لأنها وجدت ونيساً بيننا واستفسرتُ أكثر:
" ماذا عن باقي الأيام؟!"

أجابت:
" استمرت على نفس الحال تقضي وقتها بالغرفة وتقبل وجبتين طعام فقط من اليوم ولمّا كنا نشعر بأن الصغير مستيقظ نطلبه منها ليلهو بيننا ونقربه منا أكثر وأكثر..!!.."

تبسّمتُ حبا وتوقاً وهمست بحنو:
" هل تقبّلكم بسهولة أم ماذا؟!..."

ضحكت وقلبها يرفرف عليه وردت بسرور:
" بسم الله ما شاء الله كأنه يعرفنا منذ زمن وأحبَّ شادي لأنه يأخذه عند الدجاجات خاصته ولكن تبارك الله له طاقة هائلة للتخريب لا أعلم كيف كانت المسكينة تدبر نفسها معه وهي رقيقة وصغيرة ..."

ضحكت سائلا:
" ماذا فعل؟!.."

حرّكت رأسها باحثة بعينيها ثم حملت جهاز التحكم الخاص بالتلفاز وكان ملفوفاً بشريط لاصق وقالت:
" حطم جهاز التحكم وبالكاد الصقناه لنتدبر أمورنا به ريثما تأتينا بجديد...!!"

وأشارت لمنضدة في زاوية ما قرب النافذة وهي متابعة والابتسامة تزيّن وجهها:
" المزهرية التي حافظت عليها منذ كنتُ عروساً ولم يقربها أحدٌ منكم في صغركم ولا حتى سليمان ..فعلها هو وكسرها"

غضنتُ جبيني وقلت من فوري:
" هل تأذى؟! ..هل حصل له شيء؟!..."

لقد قلقت لأنها ثقيلة ومرتفعة ...خشيتُ أنها سقطت عليه فأجابتني بهدوء تطمئنني:
" لا تقلق ...كان شادي يحمله ويريه الحمامة الواقفة على حافة النافذة لكنه غدره وسحبها ووقعت على اصبع قدم شقيقك ثم تحطمت.....اطمئن لم يتأذّ أيّ منهما"
اسندتُ ظهري لظهر الأريكة بتعب وتنهدتُ قائلا:
" الحمد لله!!.....لكن ماذا سنفعل بمشاكسته؟!....أخشى أن يهدم البيت فوق رؤوسنا وهو ما زال لم يفقس من البيضة....لا بد من توجيهه وردعه حتى إن كان صغيراً ...كي يتعلم ويتربى....."

ربتت على كفي الموضوعة فوق فخذي بابتسامة حنونة وردت:
" أولا ما زال صغيرا ثم هو نسخة عن طفولتك وكان هذا يوم المنى عندي أن أرى الغالي ولي العهد يسرح ويمرح بيننا وفي بيتنا الحمد والشكر لله.....كل شيء يرخص لعينيه المهم أن تكونوا جميعكم بخير..."

عبست ملامحها قبل أن أعلّق وشدّت على كفي هامسة:
" صحيح تذكرت..!!"

"ماذا؟!.."

" زوجتك أخبرتني أنها تريد السفر بعد يومين، ثلاثة لتلك البلاد .."

تململتُ مكاني متحفزاً رافعاً حاجبي مستفسراً باستنكار:
" خير إن شاء الله؟!......ماذا تريد سمو الأميرة؟!..."

ربتت على كفي مرة أخرى وهمست:
" اهدأ بنيّ..........أولا للأسف حليب ابنك غير متواجد عندنا .....سألتُ في إحدى الصيدليات عنه وأخبروني أن دولتنا لا تتعامل ولا تستورد من هذه الشركة العالمية !!....والذي تبقّى معها من وجبات إن قمنا بإلهائه بأطعمة أخرى يكفي ربما لأربعة أو خمسة أيام فقط.....ثم أنت تعلم الطريقة التي أتت بها وعليها الذهاب لمربيتها لشرح الوضع لها وتوديعها وجلب أغراضهم المهمة!..."

زفرتُ أنفاسي المتعبة وانحنيتُ بجذعي متكئاً بمرفقيّ على فخذيّ ناظرا للأمام وهتفت:
" حسناً سأرى إن شاء الله ماذا سأفعل!! ...في البداية سأنهي عملي مع رفيف فأنتِ تعلمين كان من المفترض أن تأتي اليوم لكني قمتُ بتأجيل اللقاء للغد......"

استقمتُ واقفاً اتمطى وأضفت:
" أريد أن أنام ...من فضلك أمي أيقظيني بعد الظهر !!.."

نهضت من مكانها ترمقني بنظراتها الحنونة وابتسامتها البشوشة تلوح على ثغرها ثم طبطبت على كتفي هامسة:
" إن شاء الله.....يمكنك النوم بالغرفة في هذا الطابق....لقد جهّزتها لك احتياطاً......فنحن لا نعلم متى تنصلح الأمور بينكما...."

سألتُ باستغراب:
" لمَ لا أنام بغرفة دنيا؟!....لأكون قريبا منهما"

" كلا...غرفة دنيا يلزمها طلاء جديد وعلينا افراغها ثم تحويلها لغرفة مستقلة لابنك......عليكما اختيار الأثاث بأقرب وقت وفق ذوقكما..!!.."

" إن شاء الله أمي....عن إذنك الآن فأنا أقف بصعوبة لم أنم منذ يومان ولديّ موعد هام بعد العصر بالشركة من أجل التوقيع على بعض الملفات كوني مالكها.."

أنهيتُ حديثنا الصباحي وسحبت نفسي بتثاقل لأرتمي على سرير بارد في غرفة أخرى لأعيش غربة ولجوء جديد بعيدا عن غرفتي الحبيبة المحتلة...!!

×
×
×

منهمكة تقوم بإعادة ترتيب قسم من الخزانة التي أفرغتها لتتخذ مكانا لملابسها الجديدة وابنها بعد أربعة أيام من شرائها فهي كانت رافضة في البداية استعمالها وقد أخذتها من والدتي احراجاً ووضعتها جانباً لكنها استسلمت صاغرة لما أدركت أن ملابسهما التي جلبتها معها برحلتها لا تكفيهما وخاصة الصغير الذي سرعان ما يلطخها وتضطر لتبديلها له....!!.....زفرت أنفاسها ومسحت جبينها الذي تعرّق قليلاً بيمناها بينما تثبت يسراها على خصرها متأمّلة الرفوف المرتبة ما إن إنتهت منها لتبتسم برضا من نفسها لإنجازها هذا العمل دون تشويشات من طفلها فخلال هذه الأيام القليلة رأت سعادته وهو يجوب غرفتي الواسعة ذهاباً وجيئة حبواً يمسك ما تصله يده الصغيرة ليتعرف على الأغراض دون إيقافه إلا في الحالات التي ممكن أن تكون خطراً عليه.....!!...حررت يدها واستدارت لتطمئن عليه وهي واثقة أن وراء كل هدوء له يكون كارثة قد أحدثها بسبب حبه للاستكشاف والأكيد لا ضرر لنفسه فلو تأذى لكان صوته صدح في المكان بكاءً كما اعتادت عليه كأم تفهم كل حركة وكل نفس لفلذة كبدها....!!.....سارت بتباطؤ نحوه حيث يجلس أمام طاولة الزينة وهي تضيق عينيها تحاول التركيز عليه وكان الكرسي يشوش عليها الرؤية وما إن وصلته شهقت تضع يدها على صدرها بعينين متسعتين لما رأته يبعثر على الأرض من حوله ساعاتي الفاخرة التي كانت تصطف بالدرج الأخير بشكل منظم وأنيق!!......جثت قربه ترخي ملامحها هامسة بعتاب :
" يا الله يا محيي ماذا فعلت؟!....هذه كلها ثمينة وحتى أقل خدش لشاشتها يكون مكلفاً....اسألني أنا أعرف هذه الماركات العالمية!!..."

نظر إليها ضاحكاً بعد أن ترجم عتابها مداعبة ثم أعاد عينيه الزرقاوين للدرج وتابع بإخراج ما تبقّى داخله وإذ به يخرج ساعة ضخمة فاخرة مميزة خاصة بلباس الجيش منقوش داخلها اسمي (هادي الشامي) بالرسم العثماني فشهقت من جديد وأمسكتها لتأخذها منه هامسة بصوتها الرقيق الحنون:
" كلا محيي ...اعطني هذه.....كله إلا هي!!...سيغضب والدك ....هذه الماركة أغلاهم وهي بتصميم خاص ..."

تشبث بها بعناد وهي تحاول سحبها بلطافة حتى نجحت بأخذها فبدأ بالبكاء وكأنّ أحدهم يقوم بتعذيبه ولما استمر ببكائه لمعت في بالها فكرة خبيثة تحدث نفسها .." أليس محيي ابنه؟....فليتحمل إذاً!!.." ودون تردد أعادتها له هامسة بمكر ليهدأ في الحال وتشق ثغره الصغير ابتسامة واسعة تظهر ثناياه العلوية والسفلية :
" حسناً محيي....لا تبكي حبيبي....خذها ...فكل ما هو له ....لك أيضاً...."

مسّدت رأسه فوق شعره الأسود الناعم برقة ثم استقامت واقفة وولّته ظهرها تبحث عن مهمة أخرى لها وما إن خطت خطوة حتى التفتت إليه مجفلة تصدر صوتا من فورها لما مسك الساعة من طرفها بعفوية ثم طرقها بالأرض الرخامية وبردة فعلها هذه ظن أنها تلعب معه وقد راق له الأمر فعاد الكرّة لتضحك لفعلته مع إعادة حركتها التي اعجبته وهو يضحك لضحكتها وحركتها حتى تعالت الضحكات مع تكرار فعلته ولما انتهت لعبته ألقى بها جانباً فاتجهت إليه لترى النتائج ولم تستطع منع انقباض قلبها حين وقوع عينيها على الشاشة التي امتلأت بالخدوش المزعجة جدا ....كان انقباضاً مزيجاً ما بين الخوف مني وتأنيب الضمير فهي لم تكن يوماً هكذا ولا أفكارها كانت في السابق شريرة أو مؤذية لأحد ولكنها عازمة على الانتقام بالوسائل التي تجدها بين يديها !!.....قرفصت جانبه وبدأت تعيد الساعات للدرج ولما حملت الأخيرة المميزة تأمّلتها وهمست في سرها " عفوا منك سيدي القائد.....فأنت تستحق هذا يا مغرور...." ثم وضعتها في مركز الدرج لتلمع عينيها بمكر مع ابتسامة ماكرة هامسة للصغير:
" هذه ستكون مفاجأة لوالدك بنيّ.....أحسنت صنعاً..."

وأغلقت الدرج ثم حملته وقبّلته قائلة:
" هيا معي الآن....حان وقت الحمام والنوم..!!.."

كنتُ في الخارج وراء الباب متوقفاً لبرهة بعد مروري صدفةً متجهاً لغرفة أمي لحاجة...وكان سبب توقفي هو اختراق ضحكاتهما لقلبي قبل سمعي ولما أصبحت الغرفة هادئة.....تبسّمتُ بحب وهمست مسرورا:
" لا حرمني الله ضحكاتكما يا مهجتيّ القلب والروح.."

ثم تنهدت من أعماقي مشتاقاً لكليهما لأني ما زلت لم أرهما حتى بعد استيقاظي من نومي فلقد زارني الأشقر وانشغلنا ببعضنا لوقت ليس بقليل!!......أكملتُ سيري حيث مقصدي...طرقتُ الباب ثم فتحته لما لم أتلقَّ رداً فوجدتُها تصلي!!....كنتُ أريد منها جلب ملابس رسمية لي من خزانتي!!......عدتُ أدراجي هابطاً السلالم ذاهباً لغرفتي الجديدة لأستحم واتجهز فالموعد بالشركة بات وشيكاً ولا يمكنني التأخر!!....لما خرجتُ من الحمام ارتديت ما جهزته لي مسبقاً من ملابسي اليومية ريثما اطلب منها تلك الملابس التي تناسب الموعد!!....أديتُ صلاتي وحملتُ هاتفي فوجدت رسالة مفادها أن العملاء القادمون من الشرق سيتأخرون لنصف ساعة أخرى بسبب ازدحامات مرورية!!....جيد هكذا سأستغل وقتي القصير لأتصل بأبي (إبراهيم) وأشاوره بما فكرت به أو بالأصح لأملي عليه دون مشاورة فأنا عزمت على هذا وعليّ تحقيقه بعد توفيق الله!!....جلست على طرف السرير ووضعتُ رقمه لأجده مغلقاً....حاولت الاتصال بخالتي (مريم) فردت بالحال:
" عاش من سمع صوتك يا أبا محيي!.."

شعرتُ بتأنيبها لي وراء حروفها لأني أهملت اتصالاتي بها لفترة ليست بقليلة ولكني كنت أسمع أخبارها من أمي وأبي (ابراهيم) ....ضحكت وقلت:
" معك حق خالتي.....يبدو أن ابن شقيقتك لم يعد ينفعك كابن..."

ضحكت بحنان وردت:
" أمزح بنيّ ...أنا أعلم مدى انشغالك ويكفيني أن تكونوا بخير...."

تنهدت واستطردت:
" مبارك عليك عودة زوجتك وابنك لبيتك وأحضانك!!.."

أحضاني؟!.....يبدو أن أمي قصّت عليها القصة ناقصة ولم تخبرها أن حضني يعاني جفاف حاد ونقص مميت ويحتاج لفيتامين مركّز اسمه عشق الألمى ليسترد حياته!!...جاملتها مجيباً:
" بارك الله بك خالتي....الحمد لله!!..."

نظرتُ لساعة الحائط أمامي ووجدت الموعد يقترب... تنحنحتُ وقلت بمرح:
" خالتي سنتحدث مطولاً لاحقاً بإذن الله ...هل لك أن تعطيني أبي إبراهيم...فهاتفه مغلق وأعلم أنه لا يكون هكذا إلا إذا كان يقضي الوقت مع مريومته!..."

ضحكت ثم ودعتني وناولته الهاتف في الحال ليقول:
" قليل من الذوق يا هذا......لمَ تتعمد قطع لحظات حبنا دوماً؟!..."

" أظن لنا نصيب من هذا الحب ....لا تؤاخذني فأنا ابنك وحفيدك يحتاجك.."

قلتها ضاحكاً فهتف متسائلاً بإعتزاز:
" ماذا يريدان ابني الفهد الأسود وشبله حفيدي لأكون تحت أمرهما؟!.."

أجبت دون تردد ملقيا طلباتي بنكهة مزاح:
" من بعد إذنك يا سيد إبراهيم الهاشمي....عليك إبرام صفقة عاجلة نيابة عني مهما كان ثمنها..!!..."

" اتحفنا بها لنرى؟!....هل وراؤها مالاً مدرارا؟!"

" لا يهمني الأرباح ولا الخسارة !!.....شركة تصنيع الحليب العالمية (...) قمتُ بالبحث عنها بصورة عاجلة ورأيتُ أن فرعهم الكبير موجود عندكم بعاصمة تلك البلاد وليس بمدينتكم الساحلية!!....أريد أن تكون الصفقة جاهزة خلال أسبوع كأبعد حد.......أي قم باتفاق معهم لتصدير منتجاتهم لدولتنا بأي طريقة!.....ما رأيته أن منتجاتهم مرتفعة الأسعار لذا يتجنبون هنا التعامل معها.....لكني أثق بحذاقتك وحنكتك أبي وستفعل اللازم!.......حفيدك الشبل المدلل لم يتقبل سوى حليبهم...ماذا عسانا أن نفعل؟!..."

فكر برهة وقال بجدية:
" لمَ كل هذه الغلبة؟!....يمكننا أن نبعث لك الكمية التي تحتاج ومتى تحتاج من هنا!..."

قلت:
" ربما يوجد أطفال غيره عندنا لا يتقبلون أي حليب وهكذا نفسح المجال للأمهات بأن يكون أمامهم امكانيات أخرى متاحة!!....لنسهل عليهم الخيارات بشكل أكبر.....فما فهمته هذا مناسب لمن يعانون من حساسية الحليب أيضاً......"

" ممم.....ربما معك حق.....حسناً انتظر اتصالي غداً إن شاء الله لأعلمك بالتطورات.."

" كلا ...أريد اتصالك لتبارك لي بإتمام الصفقة.!.."

" لم أرك لحوحاً على صفقة كهذه.."

ضحكت وزفرتُ أنفاسي وأنا أمرر يدي على شعري من المقدمة للخلف وأجبت بإيجاز:
" إنها الأبوّة يا أبي...!!"

نهضتُ من مكاني مغلقاً الهاتف بعد السلام وخرجتُ بهدوء فسمعت حركة أمي بالمطبخ... اتجهتُ إليها وإذ بها منشغلة بتحضير عجين من أجل العشاء ويداها غارقتان به ...ألقيت التحية وقلت مقتربا منها:
" سهّل الله عملك يا أم هادي..."

تبسّمت برقة وحنان وهمست :
" رضي الله عنك بنيّ.....ماذا كنت تريد مني؟!..."

نظرتُ لملابسي وأجبت:
" وددت أن تجلبي لي قميصا وبنطالا من القماش أي ملابس تناسب اللقاء......رسمية أكثر من هذه..!..."

قالت:
" انتظر ربع ساعة على الأقل ريثما أنهي ما بيدي!!.."

نظرت لساعة هاتفي وهتفت:
" لا يمكنني أمي الانتظار....عليّ الذهاب لتسوية بعض الأمور قبل مجيئهم ثم لاستقبالهم.."

واستدرتُ قليلاً استعدادا للإدبار عنها مردفاً بضيق ومتذمرا:
" من غير المنطقي أن أجعل وسيطاً بيني وبين غرفتي...."

هتفت تقاطعني:
" حسناً حسناً بني.....سأغسل يدي واحضر ما تريد ....قلت لك اصبر عليها واتركها على راحتها..."

قلتُ معترضاً:
" أمي من فضلك اكملي عملك ....سأذهب أنا لاحضار ما أريد.....عليها أن تعتاد على ذلك.....ثم لا يعقل أنني هنا منذ الصباح ولم أر ابني!!....سأراه واجلب ملابسي.....لا احتاج لاذنها لأفعل كل هذا..!..."

تركتها تحوقل من خلفي وصعدتُ السلالم بقفزات سريعة....كنتُ حانقاً و....مشتاقاً لرائحة ابني....ولعينيها وشلالها الأسود منبع الأناناس خاصتي.!!.....وصلت باب الغرفة ودون تردد طرقتُ الباب بطرقات هادئة متلاحقة فوصلني صوتها العذب:
" من؟!.."

" افتحي...هذا أنا "

قطبت حاجبيها مفكرة ومستغربة والنبضات في نابضها تنبض حباً وتلهّفاً فنحن لم نرَ ولم نسمع صوت بعضنا .....شهيق تبعه زفير صدرا منها تحاول بهما تنظيم ضربات قلبها وأنفاسها لتعود لوجهها الجامد الجاد معي الذي تتخذه حصناً منيعاً لقلعة كرامتها وغرورها أمامي ثم سحبت القطعة العلوية من أسدال الصلاة لتضعها على رأسها وفتحت الباب وهي ترتدي منامة بنطالها واسعا موّرداً وهمست بجدية وجفاء هاربة من النظر لوجهي رغم اشتياقها:
"ماذا تريد؟!..."

حسناً حظاً أوفر لي ...لا شلال أسود أغرق به ولا أناناس مسكر استنشقه...يبدو أنني أتيت بوقت خاطئ....وقت صلاتها ....لا تتعجل يا هادي ...اصبر وستستعيد كل ذرة تخصها قريباً لك....تحمّل واشكر الله أنها لم تحجب سماءيها بنظارات شمسية عنك على الأقل....أما الباقي تراه اليوم أو غداً....!!..... وضعتُ يدي على الباب قبل الكلام لأمنع أي حركة غادرة منها كاغلاقه بوجهي كالسابق وكسر أنفي مثلاً وأجبت ساخراً وعيناي تجولان عليها بالكامل:
" كل ما يخصني في هذه الغرفة من أكبر غرض لأصغره ومن أثمنه لأرخصه .... والأهم ابني أنا داخلها ...أريد أن أراه..."

أجابت ببرود بعد أن ألقت شهاباً من سمائها لأرضي:
" ابنك نام قبل دقائق .....تراه لاحقاً..."

وحاولت اغلاق الباب لكني بكل سهولة منعتها وأنا ادفعه بيدي ثم أزحتها عن طريقي مدبرا عنها أسيرُ بثقة ملقياً كلماتي عليها بتهكم:
" اظن أنني استطيع رؤيته وتقبيله وهو نائم وسآخذ أيضاً ملابسي!!.....بعد إذن سيادتك.."

لم اهتم لتمتماتها ودنوتُ بهدوء من ذي الوجه الملائكي وهو يغفو ببراءة وسكينة على بطنه فارداً أطرافه الأربعة وكأنه مرّ بيوم عملٍ شاق.. وأي عمل؟؟! !!....اتكأتُ بركبتي على السرير اثني ساقي منحنياً فوقه ثم قبّلت خده بقبلة امتص فيها رحيقه وهمست بحنو:
" عندما أعود إن شاء الله سأجدك باستقبالي لنلعب معاً.."

شيعته بنظراتي الودودة المحبة ثم تركته متجها لخزانتي ....فتحتها ونظرت لترتيبها الجديد!!......احتلال رسمي أرى قبالتي!!.....الحمد لله أنها تركت لي قسماً على الأقل!!....اخترتُ قميصاً أبيضاً مكوياً وبنطالاً أسودا يناسبه وحزام ثم أقبلتُ نحو طاولة الزينة لأخذ عطري الفاخر الخاص بي وساعة تتماشى مع لباسي!!......وكانت بداية الصاعقة لما فتحت الدرج ووقع نظري على ساعاتي الغير منظمة كما كانت لتلحقها صاعقة أكبر عند رؤيتي لساعة الجيش المميزة الثمينة التي امتلأت زجاجتها بخدوش مزعجة شوهت مظهرها وشوشت الرؤية وهتفتُ بصدمة وأنا اخرجها:
" مستحيل....ما هذا؟!..."

وتزامناً مع سؤالي استقمتُ واقفاً مستديراً إليها بوجهٍ مصعوق مكفهر وكررتُ السؤال بنبرة خشنة جافة:
" ما هذا سيدة ألمى.؟!....كيف حصل؟!"

سحقتُ المسافة بيننا بخطواتي الواسعة الغاضبة ومددتها أمامها وهي تقف جانب المنضدة المجاورة للسرير ظهرها للحائط يبدو عليها الاضطراب ووجيب قلبها يعلو ولكنها جاهدت لاخفائه مجيبة بمكر بريء:
" لا شيء....ما هذا؟!..."

هززتُ الساعة وصرختُ بنبرة أعلى فهي لا تفلح بالكذب أبداً:
" لا تلعبي معي...أنا الذي اسألك.......لا أحد غيرك هنا....تركتها سليمة قبل مجيئك....هل تعمّدتِ فعلها لتنتقمي مني؟!....أتدركين ما ثمنها؟!....ثم لا أحب العبث بأغراضي الخاصة..."

ابتلعت ريقها دون أن تلفت انتباهي وحاولت استجماع قوتها كي لا تريني خوفها وأشارت للصغير مجيبة:
" ابنك أيضاً هنا.....هل نسيت؟!.......هو من فعلها بينما كنتُ منشغلة بترتيب الملابس!!..."

قلت بذات النبرة مقترباً اكثر منها احشرها بيني والحائط:
" كيف تغفلين عنه؟! ...ماذا لو تأذى أيضاً..؟...هذا إهمال.....ثم لمَ لم تلهيه بلعبته؟."

برقت عيناها وهي ما تزال تجاهد للصمود والثبات بقوتها وردت بلا مبالاة:
" لا تعلمني كيف أعتني بابني....أما اللعبة الجديدة لقد سئمها...لا يهتم بالدمى والدببة القماشية.....ثم لا تدّعي اهتمامك به وأنت منذ مجيئه لم تره إلا أول يوم!!...."

صككت فكيّ بغيظ وما زلتُ أقبض الساعة بيدي باحتدام منفعلاً وأجبت معترضا على كلامها:
" لم أكن برحلة استجمام سيدة ألمى ....لدي مسؤولياتي!....أنت تعلمين فلا تتبجحي وابني اهتم به رغماً عنكِ..."

وعلت نبرتي بحدة أكثر مضيفاً:
" من حظك أن الساعة يوضع عليها طبقة زجاجية واقية فوق الأصلية أما الصغير لا تفسديه بدلالك وعليكِ الانتباه له ....المسموح مسموح والممنوع ممنوع......."

قالت ساخرة تريد اثارة حفيظتي أكثر:
" هل تبخل عليه بأغراضك؟!.."

أجبتها بالنبرة السابقة:
" احتفظي بسخريتك لنفسك .....تعلمين جيداً أنني عندما أعطي.. أعطي بسخاء مما أكرمني الله ....أما ابني عليه أن يعرف قيمة التعب والمال منذ نعومة أظافره فلا أحد يعلم بماذا سيمر بحياته من انتكاسات...!!..."

عند آخر جملة اعترفت داخلها لصحة قولي فهي أكثر من عاشت هذا على أرض الواقع وليس مجرد نظريات وفرضيات لكنها حافظت على ملامحها ذاتها وأنا أتابع درسي التربوي:
" لن يصبح الطفل رجلاً يعلم حقوقه وواجباته وحدوده بيوم وليلة......التربية تبدأ من الصغر....عندما ترشدينه ...تنبهينه حتى لو لم يستوعب وكرر خطأه...هذا طبيعي.....يوما بعد يوم مع التوجيه الصحيح سيكبر وفي ذهنه وتصرفاته يرسخ كل ما تعلمه منك ويبدأ بتطبيقها فطرياً وحتى إن زل ...لا يهم ...سيعود لأصله وما تربى عليه في النهاية....علّميه أن يدرك قيمة النعمة التي بين يديه...!! "

ما إن أنهيتُ كلامي حتى التفتنا سوياً نحو السرير لما صدح ببكائه كأنه مرعوبا ووجهه محمر فدفعتني بيمناها تبعدني من طريقها قائلة ببرود رغم قناعتها بما سمعت مني:
" تفضل ....لقد أرعبت الولد بصراخك!.....وكله من أجل ساعة..."

وقبل أن تصله اجتزتها ووصلته قبلها وسحبته عن السرير احتضنه بتملك ولهفة مشتاق وأقبّله وأهزه برقة ليهدأ هامساً ناسفاً خطابي بعد أن هزّتني الدموع التي أغرقت زرقاويه واحمرار وجهه وارتجافه :
" هل أخفتك حبيبي؟....أنا آسف آسف.....لا تبكي صغيري......"

وشددت أكثر باحتضانه ملصقاً خدي المكسو بذقني المهذب بخده الناعم وأردفت بحنو:
" أنا وكلي ومالي فداءً لك ولعينيك يا مهجة القلب......لكن دون تخريب مقصود يا مشاكس ..دعنا نتفق على هذه النقطة.!!..."

لما بدأ يستكين ويهدأ أرخيت من احتضانه وجعلت وجهه يقابل وجهي وداعبت أنفه بأنفي وهتفت ضاحكاً بحنان:
" سآخذك لنشتري كل ما تريد من ألعاب عندما أعود إن شاء الله كي لا تعبث بما لا يخصك....وسأشتري لك ساعات تناسب يدك الصغيرة وتلائم لباسك......اتفقنا يا بطل؟!..."

ثم نظرتُ إليها بجدية مستطرداً:
" تجهزا ...أنا ذاهب لموعد مهم وسأعود بعد ساعتين بإذن الله لنذهب لمتجر بيت الطفل ونختار له غرفة وكل ما ينقصه !!.."

اقتربت مني لتأخذه وهمست بنبرة مستفزة:
" لا أريد لذهاب لمكان معك.."

قبّلته وأعطيتها الصغير وقلت وأنا أرمقها بنظرات حانقة:
" كما تشائين لا تأتي ......أما محيي جهّزيه لآخذه....!!..."

صحيح أنني تمنيتُ أن ترافقني ومن صميم خائني فأنا مشتاق لأمضي كل ثانية بقربها لكن بالطبع لن أتوسل لتفعلها..!!....تجاهلتُ ردها متعمدا وعدت لطاولة الزينة أعيد الساعة لمكانها ولأخذ ملابسي وأغراضي ثم نظرت للطفل في حضنها والذي كان يراقب تحركاتي وألقيت عليه غمزة مع قبلة في الهواء هاتفاً:
" لن اتأخر عنك يا بطل إن شاء الله .....سنذهب معاً كرجلين دون ازعاج من أحد.."

وولّيتها ظهري خارجاً من الغرفة...!!

×
×
×

أنهيتُ أعمالي بفرع شركتنا في مدينتنا الجبلية دون أي عقبات ورجعتُ إلى بيتنا قبل انتهاء الساعتين.!!....كانت أمي تقوم بتحضير العشاء فسألتها عنهما وأخبرتني بأنهما لم ينزلا !!....صعدتُ إلى الغرفة وطرقتُ الباب ولم تتأخر بفتحه....وكانت كالمرة السابقة تضع أسدالها رغم أنه ليس وقت صلاة!!....استغربتُ ذلك ...الأمر مريب!!..لكني ادعيت اللا مبالاة!!..ربما لأنها اعتادت على تواجد (شادي) في البيت!!....أكيد لن يكون غير ذلك!!....يبدو أن حبيبتي حريصة على حجابها ...ثبّتها الله!!......نبض قلبها عشقاً لما رأتني متأنقاً ...وبكامل الوسامة!!....تاهت قليلاً عن الواقع سارحة بمظهري ثم ازدردت لعابها وأبعدت سماءيها بجمود لما تذكرت ما بيننا وكانت تحجب الداخل عني بجسدها النحيل وما إن تحركت حتى اتسعت عيناي بذهول لما رأيته يحبو على السجادة الكبيرة وكأنّ فوق رأسه يوجد نخلة صغيرة مزروعة فقلت بصدمة معترضاً من فوري:
" ألمى ما هذا؟!..."

وهرولتُ نحوه لأرفعه عن الأرض وألقيتُ عليها نظرات نارية بينما كنتُ بيدي أحرر بلطف شعره المربوط وهتفت بصرامة:
" هل جننتِ؟!....لماذا تربطين شعره؟!....هل تظنينه بنت؟!..."

حوقلتُ متابعا عملي وأضفت بخشونة:
" هذا ما ينقصني أن تعامليه كالبنات!!.....وجوده معك يشكّل خطراً على مستقبله!.....لا يمكن هكذا!..."

ألقيتُ ربطة الشعر المطاطية على السرير من خلفي بحدّة ووبّخته بمداعبة:
" لا تسمح لها بفعل هذا بك....أنت رجلا....جنديا...فارسا...شجاعا.. .وفهدا أسودا أباً عن جد .....لست بنت ...أتفهمني؟!........لو رآك عمك سامي لن أخلص من غلاظته وتنمره ولن يعتقك لآخر العمر وسيعايرني بك أينما يذهب !!.....استغفر الله العظيم!....حمدا لله أننا نفدنا قبل أن نقع بلسانه..."

دنت منا عابسة وأجابت جادة وهي تمد يدها ترتب شعراته:
"أووف... أفسدت التسريحة.....ما زال صغيراً لا أعلم لمَ هذا التعقيد ؟!"

عدّلته على ذراعي بعد أن وصلتنا وهتفت منزعجاً ومحذراً:
" سواء تعقيد أو لا هذا ما لديّ.....إياك أن تفعليها مرة أخرى....لن أسمح لكِ...أحذرك ألمى...."

وغيرتُ نبرتي وأنا أتفحص شعره بعينيّ وأمسده له مكملاً:
" أساساً شعره يحتاج للحلاقة... بالفعل طويل سأحجز له موعد عند الحلاق لغدٍ....!..."
شهقت معترضة بحنق وحميّة:
" كلا ....لن تحلقه له...."

" لن اسألك"

" ستسألني هو ابني ايضاً ومن قبلك...وألعب به ومعه كما أريد !.."

سألتُ بنبرة ساخرة منزعجاً من فعلتها:
" هل تظنينه دمية؟!.."

بامتعاض ونزق وحاجبان معقودان ردت تناكفني:
" أجل دمية!.."

تبسّمتُ بخباثة وانحنيتُ نحوها قرب أذنها وهمست بصوت رخيم يعزف على أوتار مشاعرها التواقة:
" يمكننا جلب دمية لتلعبي بها!!.......ما رأيك مثلاً ....أن أزورك الليلة بعد أن ينام محيي لنحيي الغرام ونحترق به معاً كالماضي دون إضاعة للوقت؟!."

غمزتها وأردفت:
" مؤكد لم تنسي تلك الليالي كما لم أنسَ!؟"

كوّرت قبضتها وضربتني على كتفي هاتفة بدفاعية هشة ونبرة جافة اصطنعتها بينما لم تتمكن من السيطرة على نبضات قلبها العاشقة ولا أنفاسها المتأثرة من قربي وعطري وهمسي بل الفكرة ذاتها وهي تحاول أخذه مني:
" ابتعد عني... هذا بأحلامك.....أنت تتمادى بوقاحتك كثيراً!.....الذي فات مات والذي مات لن يعود سيادة القائد..!!.."

وتابعت تنظر إليّ بحدة أتقنت جدية نواياها من خلفها وهي تشهر سبابتها أمامي مع نبرة مرتفعة قاسية:
" شرطي الثالث.....لا تتحدث معي بهذه الأمور إطلاقاً وإن كان مزاحاً....اعتبرني غريبة عنك والزم حدك!!....ولا تنسى أن سبب وجودي هنا هو محيي فقط لا غير والعم حافظ يشهد على ذلك"

ألا تلاحظ أنها تبالغ قليلاً....بل كثيراً؟!....ألا تدرك أنني يمكنني الآن نسف كل شروطها وأخذ ما هو من حقي وبكل سهولة ولن تستطيع منعي؟!... ولكن ما يوقفني أنني صاحب كلمة......ولستُ حيواناً.......وأيضاً.....ذو كبرياء لعين كما تقول!!.....لذا لم أعقّب على كلمتها لكن من حقي أن أطوّق إصبعها المرفوع أمامي وأنزله لها هامساً بابتسامة صفراء تخفي حدة كلامي من أجل الصغير الذي أحمله مع إمالة طفيفة بجذعي نحوها:
" إصبعك الرقيق هذا لا ترفعيه في وجهي مرة أخرى.....واخفضي صوتك .....يعني.....أنتِ أيضاً الزمي حدك معي!...."

وحررت إصبعها ثم قرصت خدها بلطافة مع رميها بغمزة أخرى متابعا:
" اتفقنا يا قطة؟!...."

استقمتُ بوقفتي وعدت للجدية بعد أن أعطيتها إياه هاتفاً بأسلوب آمر:
"أما الآن سأنزل تحت لأجري اتصالاً سريعاً....رتبيه واحضريه لي لنخرج....لا تتأخري!..."

ناظرتني بغرور وهمست بجفاء:
" لا تلقي أوامرك عليّ.....أنا لا أعمل عندك!.."

" ألمى يكفي!!!......"

قلتها بخشونة فاستدارت دون اهتمام توليني ظهرها وتمتمت دون أن أسمعها وهي تدنو من طاولة الزينة:
" لن يكفي....سأعذّبك بما أملك!!....والصغير سأجهّزه فقط من أجله كي يخرج ويرى العالم وليس لأنك طلبت..."

وتابعت بسرها ..." ها أنت لم تحاول أن تتنازل وتطلب مني مرافقتكما مرة أخرى.....لماذا ؟...هل تخشى أن تفقد ذرة من كبرياءك الفريد إن فعلتها؟!....."

خرجتُ من الغرفة ساخطاً!!....يبدو أنه عليّ التحلي بالصبر أكثر...ما زالت مشحونة بالغضب والحقد اتجاهي!!...فجفاءها معي خير دليل!!...ولم أحاول دعوتها لمرافقتنا لأني أرى نفورها مني!!...فمحاولتي ستكون كالضغط عليها وهذا ما لا أريده .!!....نزلت السلالم بطلاقة ساحباً هاتفي من جيبي ووضعته على أذني بعدما ضغطتُ على اسم (أسامة) رئيس الحرس الأمني خاصتي فردّ بالحال:
" اؤمرني سيدي...!!..."

" جهّزوا السيارة رباعية الدفع المحصنة مع السائق ومجموعة النخبة من الحرس.....عليّ الخروج بعد قليل!..."

" أمرك سيدي....حالاً.."

أغلقت الهاتف لحظة وصولي للطابق الأرضي وكانت أمي قد سمعت مكالمتي فزلفت مني قلقة وهتفت:
" خير بني؟....ليس من عادتك طلب الحرس لمشاويرك الخاصة رغم انه من حقك...!!.."

تبسمت لأبث لها شيئا من الطمأنينة وأجبت:
" لا تقلقي ....مجرد اجراءات احترازية لأجل السلامة ....فأنا خارج مع ابني!!...."

لم تطمئن وسألت مستغربة بريب:
" هل يوجد شيء لا أعرفه؟!.."

تنهدت وربتت على كتفها برفق وقلت بجدية كي لا أخفي عنها ما يخص أمني وسلامتي بعدما وعدتها في الماضي عند معرفتها ما ألمّ بي من مصيبة مميتة حينها:
" تعلمين تأخرت في الجنوب.....وكان هذا بسبب مهمة فورية قمت بتوليها أنا وقدتُ الفريق!"

" ما هي؟! أم أنها سرية لا يمكنك الحديث عنها"

" لم تعد كذلك ...انتهت تقريبا وذاع صيتها وإلا لم أكن لأخبرك أي لمحة عنها...!!...المهم.....مصادرنا الاستخباراتية في اللحظة الأخيرة تمكنت من كشف عن خلية اجرامية كانوا سيقومون بعملية كبيرة لتهريب سموم ومخدرات من دولة(...) لدولة(...) وكانت حدودنا بمثابة جسر العبور لهم!!.....ولكننا قمنا بإحباط العملية بنجاح حمدا لله وتواصلنا مع جيش الأولى لنسلمهم أعضاء الخلية بعد أن وقعوا بين أيدينا....أما الدولة الأخرى ما زلنا في اتصالات معهم ولم يفلحوا بالإمساك بالعصابة خاصتهم التي كانت ستستقبل البضاعة الى الآن وقد وصلنا بعد ساعات قليلة تهديد منهم مباشر لي ولعائلتي لأنني السبب بإفشال مخططهم !!..."


شهقت مذعورة تضع يدها على صدرها هاتفة:
" وشادي؟!.."

آزرتها أشد على كتفها بحنية مجيباً:
" لا تخافي أماه ....قبل وصولي مدينتنا كنتُ قد بعثت فريقا كاملا من القوات الخاصة لمرافقة وحراسة حافلتهم المدرسية!....نستودعهم الله ونسأله السلامة للجميع ....اطمئني أرجوك....هذه تهديدات لإخافتنا...."

كانت تنزل السلالم بتباطؤ تحمل ابنها وقد سمعت جزءاً من الحديث فشحب وجهها ارتياعاً وبرقت حدقتاها خشية ووجل لما وصلتنا ثم ثبتت نظرها لأمي وهمست مرتابة مشدودة الأعصاب وهي تشد باحتضانه توجه الكلام لها فقط وكأنني غير موجود:
" خالة عائشة...أهنالك شيء!؟!..."

طالعتها بنظرات حنونة آمنة ومدت يديها لتأخذ (محيي الدين) منها وهي تجيب:
" لا تقلقي بنيتي ...محيي بأمان بإذن الله....هذه تكون مجرد تهديدات عابرة للضغط على ذوي المناصب الكبيرة واخضاعهم لمطالبهم.....ولكن الحذر واجب ولن يخسرنا شيئا بمشيئة الله......لذا سيخرج مع الحرس المشدد والسيارة المضادة للهجمات !!.....هذه فرصة ليشم الهواء ويرى الدنيا في الخارج!....فالأطفال يحتاجون للتغيير مثلنا تماماً....."

" حقاً...لا خطر...عليهمـ....عليه؟!.."

سألت سؤالها الذي خرج من فؤادها بعفوية فردت عليها:
" بإذن الله لا يوجد!!....ثقي بهادي لو كان كذلك لما جازف بأخذ ابنه معه.....ثم قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا..."

ارتخت أعصابها وقد ظهرت الراحة على صفحات وجهها أما نبض الحياة مررت حدقتاها عليها سريعا بداية من خفها الصيفي نهاية لأسدال الصلاة على رأسها وهمست:
" ما رأيك أن تجهزي نفسك وترافقيهما أيضاً!؟!..."

صمتت لوهلة شاردة بالفراغ مفكرة ثم ألقت نظرة سريعة بريئة لأمي ومن بعدها نظرة مغايرة فيها الغرور لي وصعدت السلالم دون أي رد منها...!!....لما اختفت عن الأنظار تطلعت على أمي وهمست:
" ما بها تنظر هكذا؟!.."

تبسمت وقالت:
" ربما وافقت لمرافقتكما!!.....انتظر عشر دقائق!!"

ضحكت هازئاً وهتفت وأنا أمد ذراعيّ لأخذ ابني منها:
" عشر دقائق؟!.....قولي عشر ساعات هذا لو كانت بالفعل ستتجهز...لكن لا تتوهمي أمي......رأس الماعز تلك لن تأتي وحتى لو كانت ميتة لتفعلها.....اسأليني أنا!!..."

استودعتها الله ما إن أنهيتُ كلامي وطلبت رضاها ودعواتها ثم توجهتُ لغرفتي الجديدة ...أخرجتُ مسدسي من درج المنضدة ووضعته في ظهري وخرجتُ من البيت حاملاً صغيري الغالي....!!...لما وصلت للساحة كان عناصر الحرس يقفون بإنتظام.. رشاشاتهم معلّقة على أكتافهم رفعوا أيديهم وضربوا الأرض بأقدامهم وهتفوا بصوت واحد:
" احترامي سيدي.....نحن مستعدون لأوامرك!.."

اومأت لهم برأسي رامشاً بعينيّ برضى وقلت:
" فلنتحرك رجاءً....ولا أريد أي إخفاق...أنا أثق بكم بإذن الله......هيا !!.."

أطلق ضحكات بريئة ظناً منه أنهم يداعبوه لما رأى حركتهم وسمع صوتهم !!...فتحوا لنا الباب الخلفي للسيارة السوداء المدرعة رباعية الدفع الخاصة ولما ركبتها عدّلت جلسته في حضني موجهاً وجهه للأمام وهمست قرب أذنه بعد أن دغدغت عنقه بأنفي وقبلاتي:
" هل أنت مستعد يا بطل لنمرح معا ونشتري كل ما نريد؟!.."

ركب حرس النخبة سياراتهم وانطلقنا متوكلين على الله وهم يحيطوننا من كل الاتجهات بكامل الخبرة والاحترافية بمجال الحراسة الأمنية ....!!

×
×
×

بعد انطلاقنا نزلت السلالم ترتدي فستاناً أسوداً وحجاباً بخلفية سوداء تزيّنه ورود جوري حمراء صغيرة مع أوراقها الخضراء من ملابسها السابقة بعد أن قررت مرافقتنا ظناً منها أننا فهمنا صمتها موافقة !! فرأت أن الهدوء يعمّ المكان ولمحت أمي منشغلة بالمطبخ وقد أدركت أننا ذهبنا لمشوارنا فشعرت بحرقة في صدرها من شدة خيبتها وتسللت عائدة لغرفتي المحتلة دون أن تلفت انتباهها منعاً من أن توقع نفسها بموقف محرج ومخزي ولما دخلت سحبت حجابها بنزق عن رأسها وألقته على السرير وهتفت والدموع تترقرق بعينيها:
" غبية ...غبية .....هل تظنين سينتظرك ذاك المغرور ؟!....."

خلعت فستانها وبقيت ببنطال قصير أسود ضيق يصل لمنتصف فخذيها كان تحته وقميص قطني داخلي ينحت خصرها بإتقان حمالاته رفيعة بذات اللون وحررت شلالها الفاحم لينسدل على كتفيها وصولاً لتحت ظهرها واقتربت من المرآه تنظر لأنفها الذي اكتسى بحمرة البكاء ثم مسحت دموعاً هرولت على وجنتيها ومررت حدقتيها على سائر جسدها بغرور أنثى وإعجاب وهمست لانعكاس صورتها:
" لا تبكي....لا تضعفي ....اثبتي على موقفك ولا تهتمي......أنتِ لستِ بحاجة لترافقيه حتى وإن كان قلبك يحترق عشقاً به وتوقاً ل....لمسته الحنونة...لحضنه الدافئ ....لهمسه الساحر.....لعطره....لرجولته....� �لحظاتكما الحميمية ولكل شيء يخصه !.......بل اجعليه هو من يهفو لك دون أن ينالك....تذكّري كيف كان يستسلم لسحرك وفتنتك وعذّبيه....أنتِ تمتلكين أقوى سلاح ولا غيره معك.......الأنوثة.... التي كان يتغنّى بها ذائباً هيماناً بعد اتمام الزواج"

وضعت يدها على صدرها وسحبت أنفاسها مغمضة العينين تحاول استجماع قواها ثم قررت أن تقوم بخطواتها تستخدم كيدها النسائي.!!...." غيرتُ رأيي وسأريك من أنا "....هددت في سرها ثم توجهت للخزانة وتحديداً القسم خاصتي وألقت نظرة متفحصة على الرفوف التي تحمل البلوزات اليومية ذات الماركات العالمية بألوانها المختلفة ووقفت بإمالة مائعة تضع إصبعها قرب شفتيها مفكرة ثم افتر ثغرها عن ابتسامة ماكرة لما قررت أن تكون ضحيتها بلوزة بيضاء تعلم حبي لنوعيتها خاصة!!....أغلقت الأبواب وخلعت قميصها القطني لتبقى بالقطعة الداخلية الحمراء التي تغطي صدرها ثم ارتدت بلوزتي التي تصل لتحت مؤخرتها وتشف ما تحتها واقتربت من طاولة الزينة باحثة عن مقص ولما وجدته قامت بقص طرفها الجانبي لتتمكن من ربطها فترتفع قليلاً وتصبح أكثر ضيقاً وفوضوية وتفصّل وركها الأنثوي تفصيلاً كارثياً وبعد ذلك رفعت يديها للياقة تشدّ عليها تحاول فتحها أكثر لتكشف عن أحد كتفاها وتظهر حمالة القطعة الداخلية بإغراء مدمر واتجهت لدرج المنضدة حيث اكتشفت سابقاً وجود مشبكها النحاسي الذي كان كأمانة عندي وعاد لصاحبته ورفعت شعرها بعشوائية تاركة بعض الخصل تتدلى حول عنقها الأبيض بصورة مهلكة شهية وجلست على السرير تتنهد بعد معركتها مع نفسها تضع ساقاً فوق الآخر وتهزه منتظرة ناظرة للباب بمكر لتهمس بوعيد:
" تعال لأرى كيف ستصمد أمامي يا مغرور....أعلم جيدا نقاط ضعفك.....سأجعلك تذوب دون أن تحصل على لمسة واحدة!.......فأنا اشترطت وأنت وافقت ووعدت....."

ظلّت على حالها للحظات وفجأة استوعبت فعلتها وتصرفاتها ....عدّلت جلستها بتأهب تشد على قبضتيها وغلت الدماء في منابعها ليصبغ وجهها بالأحمر منفعلة وهي تنظر لمظهرها المغري ثم هبّت واقفة تصك فكيها بغلّ وخلعت البلوزة بسخط وبدأت تمزقها تمزيقا شرساً تزامناً مع بكائها وحركتها العدوانية وشتائمها:
" تباً...تباً....ما أنا بفاعلة!؟.....هل حقا أنتقم منه بتصرفي هذا أم أرخّص نفسي وأعذبها؟! ..."

تتابع بالتمزيق والعبرات تتساقط من مقلتيها والكلمات تخرج بقهر من شفتيها تلوم بها ذاتها:
" هل تكذبين على نفسك؟!....أنتِ مشتاقة....أنت التي تريدينه ....كم أنكِ ضعيفة حمقاء......حمقاء ألمى...كدتِ تفضحين وتذلين نفسك أمامه!!....لم تكوني ستستطيعين مقاومته لو اقترب منك فعلاً......يا لك من غبية مسكينة......كنتِ ستقعين فريسة له وأنتِ ذاهبة للاصطياد....."

ولما انتهت من معركتها ألقت بقايا القماش من يديها وجثت على ركبتيها أرضاً تدثر رأسها بالسرير تتابع نشيجها الموجع لكيانها!!....نادمة ..بروح مكلومة ...محرومة!!...لقد عانت تخبطاً بالمشاعر.!!.....بعد أن أفرغت غضبها من نفسها على هيئة نحيب رفعت جذعها تمسح أثر دموعها وتزيح الخصلات المبلولة الملتصقة بوجنتيها وشفتيها ثم وقفت بتثاقل وجرّت قدميها جراً نحو الحمام ووقفت تحت الدش تطفئ...غضبها....حنقها.....عشقها ورغبتها بالماء البارد الذي ينهال على كامل بدنها لدقائق لم تحسبها ولما استكان كل شيء فيها خرجت تلف نفسها بمنشفة كبيرة تجفف جسدها وارتدت منامة كحلية ساترة واسعة بأكمام طويلة وضفرت شعرها بعد أن مشّطته بضفيرة عشوائية جانبية تنزل عن كتفها وصدرها ثم لبست أسدالها وصلّت العشاء وكان قد مرّ أكثر من ساعة على ذهابنا فقررت النزول عند حماتها لتطمئن على فلذة كبدها !!....وجدتها تجلس بغرفة المعيشة تتابع برنامج ما.....انتبهت لها أمي فتبسمت بحنو لها ونادتها برقة مشيرة للأريكة جانبها:
" تعالي بنيتي اجلسي...."

بخجل همست وهي تحاول الهروب بعينيها:
" عفوا خالة عائشة...أعلم أنني أزعجك!...."

" لا تقولي هذا ...لا يوجد ازعاج....البيت بيتك ونحن أهلك....دعك من الرسميات عزيزتي وقولي ما شئتِ..."

هزّت رأسها مبتسمة بإمتنان وقالت بتلكؤ :
" لقد ...تأخروا.... في الخارج....أشعر بالقلق ...على...على محيي!....."

حملت هاتفها الموجود جوارها تنظر للساعة وأجابت ببشاشة:
" مضى على خروجهم ساعة ونصف....يعني الوقت معقول حسب مشوارهم لكن لا بأس سنتصل بهم ونطمئن.!!..."

شقت ثغرها ابتسامة مرتاحة وزلفت منها ببطء حتى جلست على طرف الأريكة جوارها تنظر للهاتف الموضوع على مكبر الصوت منتظرة الرد ..!!

" السلام عليكم أمي....خير إن شاء الله؟!.."

رمقتها بنظرة سريعة مبتسمة وأجابت بعد أن ردت السلام:
" خير يا هادي...أريد الاطمئنان عليكم ....ما الوضع؟!.."

" كل شيء بخير الحمد لله يا أم هادي لا تقلقي.."

غضنت جبينها مركزة وقالت:
" ما هذا الهدوء عندك بنيّ؟...لا أسمع مناغات الصغير ...هل نام في الطريق؟!..."

ضحكتُ مجيبا بثقة:
" المشاغب لم ينم ....أنا أقف في الخارج كنت أجري مكالمة ما.....أما هو تركته مع العاملات بالمتجر.....لقد أعجبن بذاك الوسيم وأحببنه وهو لم يقصّر ما شاء الله بضحكاته معهن!!...."

تخضّب وجه تلك بحمرة الغضب...والغيرة...وأكلتها الوساوس ولكنها تمالكت نفسها عن الكلام بينما أمي استفسرت بانشداه:
" كيف تتركه لوحده وتأمَن عليه مع غريبات بني؟!..."

قلت بصوت مرتاح:
" أولا قسم من الحرس حوله في داخل المتجر ...ثانيا تبيّن أن المحل لزوج رنيم زميلتي بالمدرسة الاعدادية وهي موجودة بالداخل تهتم بمحيي بشكل خاص...يعني معرفة ليست غريبة.....لقد وصيتها عليه لحين انهاء مكالمتي!!...أتذكرينها أليس كذلك؟!.....تلك التي أهدتني يوم ميلادي مكعبا بلوريا داخله الزئبق وشريحة ذهبية عليها اسمي ووالدي رحمه الله أجبرني على وضعها على مكتبتي...."

صدرت مني ضحكة طفيفة لتلك الأيام ليس حنيناً إنما لذكريات عشتها بطفولتي ومراهقتي والتي اذكرها جيدا بحلوها ومرها وأردفت:
" أيام لا تنسى"

تلبّكت والدتي وابتلعت ريقها لا تعلم كيف سترقع الأمر خائفة أن يكون كلامي قد أشعل غيرة التي بجانبها فهي لم تنتبه لوجوم وجهها فعليا ولا تريد أن تزداد علاقتنا سوءاً وهتفت تنهي الحديث:
" أ..أجل تذكرتها ...المهم لا تتأخروا....ننتظرك على العشاء...."

أغلقت الهاتف وألقت حدقتيها نحوها وهمست تشتت ذاك الموضوع:
" لا بد أنك جائعة!....سنتعشى معاً عندما يأتوا.....ما رأيك؟!..."

كانت قاطبة الجبين تضع ساقاَ فوق الآخر وتهز قدمها بتلاحق لا إراديا بينما تعض طرف اظفر إبهامها بين أسنانها بحركة تدل على التوتر وهي تفكر بكلامي تحدث نفسها..." إذاً أيام لا تنسى أيها الكاذب ....على أساس لا قبل لي عندك ولا بعدي....." ثم أجابت بنبرة بدت هجومية لم تقصدها بعد خروجها من حديث النفس :
" شكرا خالة...لستُ جائعة....أريد فقط ابني!...عليه أن ينام تأخر الوقت"

ووقفت بهمّة تستأذنها صاعدة لفوق غائبة عن أنظارها فتمتمت أمي بحزن عليها :
" آه هادي سامحك الله....العلاقة بينكما متوترة وأنت لم يحلو لك إلا ألآن الإفاضة بالكلام عن رنيم التي لم تطق سيرتها يوماً ......لا بد أنها شعرت بالغيرة......لن ألومها فأنا كنتُ هكذا مع والدك!..."

كانت في الأعلى تجوب الغرفة ذهاباً وإياباً ..تضرب قبضة يمناها ببطن كف يسراها ...تجز على أسنانها بسخط ثم تتمتم:
" اتضح الأمر لماذا لم تصر على مرافقتي لكم..."

مررت كفها على عنقها تشعر بالاختناق !!....ثم زفرت أنفاسها ومدت ذراعيها تبسط كفيها للأمام توقف حركاتها وتخاطب نفسها:
" اهدئي ألمى اهدئي.....إياك أن تظهري له غيرتك....أفضل شيء تفعلينه هو ألا تهتمي بما يخصه وسيحترق قهرا من هذا...."

×
×
×


" هل هذا فقط ما اشتريته له؟!..."

أخذت مني (محيي الدين) وهو يحمل بيده لعبة عبارة عن كرة بلاستيكية كالشبكة وداخلها كرة أخرى متحركة وكان يتململ بضيق ويصدر أصواتا تدل على احتياجه لشيء وقد قالت والدتي جملتها تلك بعد أن أشارت لمجموعة الأكياس التي أحملها بيدي فقلت مبتسما مشيرا للأريكة خلفها بغرفة المعيشة:
" اجلسي أمي..."

جلست وهي تعدّله بحضنها بعد أن قبّلته وقالت:
" يبدو أنه يريد زجاجته الحليب والخلود للنوم!!.."

ثم رنت برأسها لمدخل الغرفة تستقبل بنظراتها الآتية بهمة وحركات انفعالية ووجهها عابس بغرور تلف حجابها بعشوائية وما إن وصلتنا حتى انحنت تحمل الصغير تتفحصه بحدقتيها ثم قربت أنفها من عنقه ونفضت رأسها بإشمئزاز تكمش تقاسيمها هامسة باستياء توجه عينيها لأمي بعد ان شمّت رائحة خليط العطور الملتصق عليه من العاملات بالمتجر:
" يبدو أنه التقط روائح فظيعة من الخارج........الله أعلم ما هي الاوبئة التي حملها ؟!"

واستدارت بهمة نارية مستأنفة تعتبرني غير موجود بأسلوبها الجديد الذي تعاملني به:
" عن إذنك خالة عائشة ...عليّ أن أحممه لأزيل هذه الأوساخ والميكروبات عنه..."

تبسمت بحنو وهمست:
" حسناً حبيبتي....حمميه وعودي لنتعشى معاً..."

ردّت كاذبة:
" سلمتِ خالة....صحة وعافية لكِ...أخبرتك من قبل لستُ جائعة!..."

" انتظري!!.."

نطقتها أوقفها وبنظرة استصغار ترفع حاجبها رمقتني وردت من رأس أنفها:
" ماذا ؟!.."

تبسّمت ابتسامة ثعلبية ورفعت أحد الأكياس أناولها إياه وأجبت:
" خذي هذا معك...!!.."

سحبته مني بعدوانية دون أن تسأل شيء لاعتقادها أنه للصغير فاستطردتُ:
" اللعبة التي بيد محيي هي هدية من صاحبة المحل ..لا تظني هذا ما اشتريناه .... وغداً إن شاء الله ستأتي الطلبية بشاحنة تحمل كل ما اخترناه !!....."

وأكملتُ أشاكسها وكأنها تطيقني:
" أما ما بداخل الكيس فهو لكِ أنتِ.....رأس دمية لتسرّحي لها شعرها كما يحلو لك بعيداً عن شعر ابني البطل!!..."

نظرت للكيس ثم لي بنظرة ذات مغزى وألقته أرضاً صاعدة بخطى سريعة تشتمني بينها وبين نفسها فضحكتُ من قلبي لحركاتها ونظرتها التي ودت خنقي بها وعدت بعينيّ لنبض الحياة هاتفاً محركاً رأسي برفض:
" ما زالت بحركاتها ذاتها .....كالطفلة!!....لا أعلم ما الحاجة لتلك التصرفات الانفعالية الآن...."

" أنت تستفزها بتصرفاتك هذه بدلاً من التقرب منها..!.."

" أمزح معها أمي....أهو ممنوع؟!"

" تمزح عندما تكون علاقتكما طبيعية وليس بحالكما الحالي وخاصة بعد أن أبدعت وأنت تحكي عن المدعوة رنيم..."

تحركتُ متحفزاً قاطباً حاجبيّ وسائلا باستنكار:
" ما دخل رنيم بها؟!.."

حركت رأسها رافضة وأجابت:
" كنتَ تتكهرب من سيرتها ولم يحلو لك استرجاع ذكرياتك معها إلا أمامها على الهاتف وأنت تجود بالكلام ما شاء الله .."

ضربتُ جبيني هاتفاً بقهر:
" سامحك الله يا أمي لم أكن أعرف أنها بجانبك تلك الغيورة!...ليتك ردعتِني!!....أنا لا أنوي اغاظتها بأي أنثى قسماً..... على العكس أريد إصلاح علاقتنا لا خلق فجوة أكبر!!....وتلك بعقلها الصغير لن تبخل بأفكارها السوداوية وخاصة أنها تعرف حكايتي بالكامل مع رنيم وبالكاد أقنعتها سابقا أن لا شيء كان بيننا!!.......يا الله لقد أطلقتُ على نفسي بمنتهى الغباء دون أن أشعر!!..."

انحنيت بجذعي للأمام واضعاً مرفقيّ على فخذيّ وكفيّ على وجنتيّ مفكرا وقلت بعد أن القيتُ نظرة لباقي الأكياس:
" يجب أن أذهب إليها للترقيع...هذا إن فلحت بذلك!..."

ناظرتني ببشاشة وربتت على ظهري هامسة:
" اصبر قليلاً حتى ينام محيي ....وحاول تبرير نفسك بلطافة ....صحيح أن من ينظر من الخارج يرى أن الأمر لا يستحق التضخيم وكأنه أمر تافه طفولي...لكني أعلم...غيرة المرأة العاشقة مهما تقدمت بالعمر تحرقها وإن احترقت تحرق معها ما حولها ....وزوجتك الآن حساسة لكل شيء وربما انعدمت الثقة بنفسها!!.....وخاصة أنها ما زالت تشعر نفسها وحيدة بيننا!!...كالغريبة والدخيلة!!.....لذا كن مستعداً لشراستها وقسوتها... وترفق بها بنيّ ..ادعمها وكن حنوناً لأبعد الحدود لتكسب قلبها من جديد ورضاها.........ولا تنسى اقناعها بتناول العشاء معنا...."

هززتُ رأسي أوافقها وهمست راجياً:
"إن شاء الله أمي...العمر قصير وأتمنى ألّا نطيل بهذا الجفاء والبعد!.....سأحاول تعويضها قدر استطاعتي بإذن الله عن كل وقت ذرفت دموعاً بسببي!!...."

أسندتُ ظهري للوراء متنهداً بعمق فسألتني :
" ما هذه الأكياس؟!..."

تطلعت على الأكياس وأعدت رأسي للوراء مسترخياً ناظراً للسقف وأجبت مبتسماً:
" الكيس الكبير فيه صندوق يحتوي على تشكيلة ساعات للسيد محيي الدين ليلهو بها بدلاً من ساعاتي!!...وآخر فيه بدلات عسكرية له مع الأسلحة والخوذة .....أما الثالث فهو شيء لها غير الدمية!!..."

ضحكت مسرورة بأغراض حفيدها وهي تتخيله يرتدي الزي العسكري وتجنّبت سؤالي عمّا يخص تلك احتراما لخصوصيتنا ثم تركتني متجهة لمطبخها!!.....بعد مرور بعض الوقت نهضتُ وحملتُ الأكياس .... توجهتُ للمدخل أجلب شيئاً من الخارج وعدت صاعداً السلالم بقفزات سريعة.......لن أكذب شعرتُ بالتوتر حائراً كيف سأقنعها أنني كنتُ صادقاً معها وكذلك كنتُ مشتاقاً حد الجنون لرؤية شعرها واستنشاق عبق الأناناس منه!!.....طرقتُ الباب بهدوء وانتظرت....فتحته بشكل موارب تضع الحجاب تقف خلفه فغضنتُ جبيني بعدما رأيت أن الأمر قد تكرر....لا تخلع الحجاب!!.......التفتُ قليلاً للخلف ثم عدت إليها بوجه يحمل نفس الملامح وسألتُها:
" ما بكِ تضعين الحجاب؟!...تعلمين أن شادي حفظه الله ليس هنا وغداً سيعود "
بنبرة قتلتني بجديتها أجابت :
" لكنك أنت هنا!......."

عقدت ما بين حاجبيّ بشكل أشد متسائلا فأردفت بما لم أتوقعه الآن:
" أنا أعتبرك غريباً عني.......هجرتني وتركتني في الماضي ليس لشهرين وثلاثة فقط لألتمس لك عذر الحرب بل لأكثر من سنة وهذا دليل أنك لم تكن تريدني إنما كنتَ في ذاك الوقت تسعى لمصالحك ورفع أمجادك غير آبه بي....ولو لم يكن محيي بيننا لاستمريت بهجرك وألآن جاء دوري ...أنا التي لا أريدك وسأرسم حدودا بيننا !......"

غلت دمائي وانفطر قلبي وغصة وقفت في حلقي.... حاولتُ تصبير نفسي داخلي لألتزم الهدوء ....عليّ أن أتنازل عن قصفي لها وغروري معها الآن...لأتقرّب أكثر عسى أن أنال رضاها.....أساساً لم يبقَ مجال للغرور بعد نثرها للملح على جراحي وهي تذكرني بإهمالي لها.......لا أعلم إلى أين سيأخذنا المصير!؟...طريق إصلاح علاقتنا طريق عسير....فهي محقة بعتابها وغضبها لحد كبير ...لقد أرهقني كثيراً التفكير محاولا إيجاد طريقة عن ذنبي التكفير بعيدا عن حادثتي المميتة التي بالطبع لن أذكرها البتة للتبرير !!.... ..أنا لا أحمل إلا العجز والوجع عندما تأتي بهذه السيرة التي كانت كوصمة سيئة في حياتي وأخشى ألا تزول حتى مماتي.!!.....تقول لا أريدها وأنا المحتضر الذي يرجو قبلة تعيده للحياة من شفتيها اللذيذتين!!....لا أريدها وأنا أتعذب شوقاً لأعود لاجئاً بهاتين العينين...!!......استغربت هي عدم تعليقي على اجابتها عندما تجاهلتها هاتفاً بهدوء جاد يخفي صراعي الداخلي:
" أريد الدخول قليلاً ...لديّ ما أقوله لك!.."

ابتعدت من أمامي تفتح الباب أكثر فدلفت ونظرتُ للصغير النائم بسكينة وأمان ولم يكن في الغرفة إلا إضاءة خفيفة من الأباجورة الموضوعة على المنضدة من الجهة الأخرى للسرير.....وضوء طاولة الزينة البعيد.....دنوتُ وأشعلتُ الأباجورة الثانية من الجهة القريبة وجلست على طرف السرير وألقيتُ أرضي نحو سمائها مبتسماً بحب وحنان وهمست:
" تعالي اجلسي ...سأريك شيء!!..."

اقتربت دون أن تجلس فهمست بنبرة خافتة راجية:
" رجاءً ألمى اجلسي لن آكلك..."

جلست مترددة تترك فجوة بيننا ترسم حدودا كما أقرّت !!.....فتحتُ أول كيس أخرج صندوق الساعات وضعته على حجري ورفعت غطائه ولمحت ابتسامتها العفوية قبل أن تمسحها متعمدة عندما قلت:
" هذه ساعات للمشاغب ...ليست ألعاب...إنما حقيقية خاصة للأطفال...."

ثم أشرتُ لدرج المنضدة جوارها وتابعت:
" رتبيها هنا ليسهل عليه العبث بها إن أراد..... وضعي بيده التي تتوافق مع لباسه ليتعلم الأناقة إن كان مولعاً بالساعات لهذه الدرجة !!..."

لم تعلق.!!.....أغلقتُ الصندوق وضعته جانبا ثم أريتها بكامل الحماس ملابسه العسكرية الصغيرة بمختلف أنواعها والأسلحة التابعة لها فقالت ساخرة:
" أسلحة تعلمه على العنف والقتل !!..."

تنهدتُ دون أن ألفت انتباهها بعد أن أغمضتُ عينيّ محاولاً الصمود بهدوئي وهتفتُ برزانة:
" ربما هذا مفهومك عن الأسلحة... أنت حرة!! ....لكن من منظورنا نحن الذين رضعنا حب الوطن يكون السلاح هو حامي الأرض والعرض.....به نعيد أمجادنا....به نعلو براياتنا....به نقضي على الظلم ونزهق الباطل ونظهر الحق....الشعارات والكلام لن يفيدوننا عندما تتعاملين مع جبناء وغدارين ولن يكون أمامك خيار إلا السلاح للقضاء عليهم ..إنه العز والعزوة ...ومن بعد الله هو السند والقوة. .... أما أنتِ عيشي أحلامك الوردية بعالمك الجميل الرقيق البريء الخالي من القتل والدماء .."

من أرضي أرسلتُ لها إشعاعات حبي متابعاً من أعماقي بنبرة أكثر دفئاً وأعظم عشقاً :
" فهذا ما يليق بكِ وبنقائك يا ألمى.......واتركي مضي الرجال للرجال...."

أكملتُ بذات النغمة راجياً قاصداً معاني أخرى بين حروفي وكلماتي :
" اتركي لنا القسوة.....الصلابة وتحمل الصعاب وابقي أنتِ كما عهدتك ....لينة القلب المتسامحة العطوفة...الرحيمة الرؤوفة "

كأنّ ما قلته لامس قلبها....لمحتُ بعينيها بريقها النقيّ الذي يشع حباً وحناناً ورأيت توردا في وجنتيها لكنها آثرت الصمت فأردفت مضيفاً على كلامي بنبرة فيها الحزم والجدية :
" أما محيي الدين عليه أن ينشأ على هذا الشيء ليكمل الطريق من بعدي بإذن الله...عليه أن يحمل معنى اسمه وصدقيني أدفنه بيدي إن لم يصبح رجلاً حامياً للوطن وناصرا للحق ..!!.....أدعو الله أن يجعله من الصالحين ...من حفظة كتابه وحملة الدين.....قولي آمين...."

تمتمت بها بخفوت وحرّكت رأسها ناظرة لحجرها فحملتُ كيساً آخرا وأخرجت منه علبة كرتونية صغيرة مبتسماً وهمست اسمها برقة رجولية لا تحمل إلا الحب لها :
" ألمى...هذا لكِ.."

غضنت جبينها فاستطردت بخليط ما بين الرجاء متأملاً والغصة متألماً:
" هاتف جديد آخر انتاج ....أرجو أن تقبليه مني كتعويض عمّا فقدتِ سابقاً....."

التفتت بطلاقة نحو المنضدة تسحب هاتفها القديم ذو الأزرار ورسمت ابتسامة صفراء وأجابت بثقة:
" لا احتاجه....لدي هاتف!!..."

تطلعتُ على ما بين يديها ناشداً الصبر وتحمل أي قذيفة قد تأتيني منها وهمست بتروي:
" أعلم لديك هاتف....لكنه طراز قديم.....بهذا يمكنك فعل ما شئتِ.....كالتصوير....استخدام الشبكة العنكبوتية.....والتواصل مع صديقاتك عبر التطبيقات !!..."

صفقت يديها ببعضهما ضاحكة ضحكة قهر نابعة من أحزانها ...لتقهرني بها... وتزيد قلبي علة ..تجلد بها ضميري دون رحمة والتفتت للصغير لتطمئن أنه لم يستفق على صوتها ثم عادت للنظر إليّ وقد غدرتها دمعة من عصارة وجعها وهي تهتف بوجع مغلف بالجمود:
" تقول كتعويض.....ربما هاتفي الذي سرق لا يسوى قرشا بنظرك ونظر غيرك....وأكيد لا يقارن بالذي معك .....لكنه كان يحتوي على أجمل وأغلى ذكرياتي مع ابني.....كان يحمل صورنا معا منذ معرفتي بحملي حتى الوصول لعمر الثمانية أشهر.....كنتُ بكل شهر يكبر أقوم بتصويره لأوثق له شريطا يبقى كذكرى له ولي عند اتمامه العام الأول وحتى يكبر ....كنتُ ابني أحلاماً لنا....صحيح أنها مجرد صور......لكنها كانت تحلّي أيامي وسط آلامي ....حتى كان به صورا لي من الماضي ...مع صديقاتي...مع خالتي رحمها الله.....كنتُ كلما أشتاق ويأخذني الحنين لتلك الأيام أعود للنظر إليها فتؤنسني في وحدتي ...!!....سرقة هاتفي بقيت كجرح في قلبي!!....الآن بتّ لا أملك شيئا من الماضي ...وأصبح زماني هو الحاضر والمستقبل اللذان يخصان محيي فقط!!..."

أشارت بحرقة أحرقتني وهي تكمل:
" هل هاتفك هذا يمكنه إعادة ما أخذ مني؟!.....إن أعدت لي ما فقدت سآخذه بكل ود !!....لكن استحالة أن تعيدهم لي!!.....أتسمع؟!."

نزف الخائن وجعاً...والقهر يتعاظم داخلي بصورة أكبر.....جلبتُه لها ظنا مني أنني سأستطيع نيل ابتسامة صادقة منها...كنتُ متعطشاً لذلك!! ....فصفعت روحي بكلامها بل ألقتها بنار جحيمها! ...لكني كعادتي أحاول الحفاظ على قوتي ولا أظهر أوجاعي فسألت مستفسرا عما خطر في بالي:
" ألم تحتفظي بها بالبريد الالكتروني الخاص بمحرك البحث ؟!..."

ردت بابتسامة مائلة مكلومة:
" بلى....لكن كلمة السر منذ سنوات نسيتها وكان يبقى مفتوحا دوماً......حاولت الدخول من هاتف رهف علني أنقذها قبل أن يحذفها السارق ...لكن للأسف كل محاولاتي باءت بالفشل..........وطبعا فات الأوان والله أعلم ماذا فعل بالهاتف ....أكيد حذف كل شيء منه ليبيعه نظيفاً....يعني أصبح من سابع المستحيلات أن أعيد ولو صورة واحدة حتى لو تذكرت بمعجزة الرقم السري!!..."

سألت من فوري بجدية:
" ما اسم بريدك؟!...."

" ما يفيد اسمه؟!....أقول لك فقدت كل شيء!.."

أجابت بنبرة هازئة تفوح منها الغصات فكررت مشددا تزامنا مع اخراج هاتفي من جيبي وفتحه:
" أجيبي ما اسم بريدك؟!....سمّهِ لي هيا...."

رفعت زاوية فمها بسخرية وسمته بعدم اكتراث واثقة بفشلي بالمهمة ....كتبته على هاتفي ثم أعدته لجيبي دون أن أنبس ببنت شفة بما يخص الموضوع!!....لذنا بالصمت لوقت قصير شاردان بالسجادة تحت أقدامنا .....التفتّ أتأملها شغوفاً لكل ملامحها....متعطشاً لرائحتها.....مشتاقاً للغوص بشلالها الأسود....لكن بكل أسف عليّ الصبر ..صبرني يا الله!! ...إلى متى سأتحمل وأنا صائما عنها لشهور؟!.....كان الأمر بفترة غيابها أكثر سهولة....أما الآن وهي تحت سقفي وأمامي كالحورية الفاتنة حتى بحجابها الذي زاد بدرها بهاءً وجعل سماءيها أكثر إشراقا بدا الصبر شاقاً عليّ....شاقا لأبعد مدى ...سأضيف هذا النوع من الصبر لتدريبات الجنود فيبدو لي أنه أقسى أنواع العذاب الذي ممكن أن يستغله العدو لإضعافنا وأخذ اعترافنا وعلينا التصدي له ببسالة دون إخفاق فتلك الفئة هي من ألد الأعداء...بنات حواء وآااه من فتنة بنات حواء..؟!....إني أكابد بشق الأنفس كي لا أنالها قبل غفرانها ودون رضاها!!......صعب....صعب...." يا رب لا تحملني ما لا طاقة لي به "...!!

راقبتُ شرودها لبرهة ثم انحنيتُ أخرج من الكيس الذي كان به الهاتف وردة بيضاء كنت قد قطفتها من حديقتنا قبل الصعود إليها ...قرّبتها لأنفي استنشق عبيرها بوله بعد أن لفتّ انتباهها وقبّلتها بلطافة منتشياً وحركتُ رأسي جانباً نحوها ثم مددت يدي ممرراً الوردة ببتلاتها الناعمة برقة على صفحات وجهها الساحر الذي ينافسها نعومة وهمست بخفوت مقترباً بأنفاسي الدافئة أكثر منها :
" أهدي وردة لوردتي ....هلاّ قبلتها مني وزرعتها في قلبها ؟!"

وانزلتها لحجرها أضعها في كفها ...توردت وجنتيها وبدت شهية وأكثر فتنة بعيني وقلبي!!........فرغم أنها تغطي جزءاً كبيراً من مقومات الجمال عندها وجعلته عليّ محظور إلا أنها أهلكتني من الداخل فكيف لو كشفت عن المستور؟! ..ماذا سأفعل حينها بها فاتنتي بدر البدور ؟!.......الصبر أيها الفهد الأسود...هي غزالة لكن لا تفترسها ...إياك بالانقضاض عليها وخسارتها للأبد !!......استجمعتُ ضياعي ولملمتُ رغباتي بعد أن صدمتني بأخذها مني وصارت تبرم ساقها الأخضر بين اصبعيها بنعومة ناظرة إليها ولا أعلم أين أخذتها أفكارها...أراقب حركتها بصمت ...رفعتها برقة لأنفها واستنشقتها وهي تسدل أهدابها على السماء تائهة بشذاها...رفرف الخائن عشقاً بصورتها....وشيّد آمالاً للغفران....تذكرت سبب قدومي...لا أريد أن تكون أي امرأة سواء من الماضي أو الحاضر حاجزاً بيننا....لا أريد أن افتك قلبها بالغيرة...فيكفيها ما فيها وما عانت!....يجب أن املأ الفراغات التي تركتها...يجب أن أرمم الحطام الذي خلّفته بهجري.....يجب أن أجود عليها بحبي ...لعل وعسى تعلن من قلبها عفوها عني وغفرانها ....تنحنحت أجلي صوتي ولم أكن أعلم من أين ابدأ ...غضنت جبينها وضيقت عينيها كأنها تتجهز لترهف السمع فهمست بتلكؤ:
" لا أعرف ماذا أقول......لكن صدقيني كما أخبرتك سابقاً لم يحدث شيئاً في الماضي بيننا...
ما يعني....أنني لم أكذب عليكِ حينها....حتى عيبٌ مني أن أخوض بهذا الكلام عنها لأن تلك المشاعر هي مجرد مشاعر طفولة بريئة وهي متزوجة الآن وسعيدة مع زوجها..!!..."

اتكأتُ بكف يميني على السرير بيننا منحنيا نحوها لأقترب منها وأردفت بخفوت صادق :
" أنا لا أرى غيرك ألمى....وأقولها مجدداً لا قبل لكِ ولا بعدك.....قلبي لم ينبض إلا لكِ ...أنتِ حب طفولتي وصباي....أنتِ حب شبابي وبإذن الله ستبقين حبي حتى مماتي!....حتى وأنا في الجامعة الفترة التي يحصل بها تقارب بين الجنسين وتحصل بها أكثر العلاقات لم أسمح لأي فتاة بالاقتراب مني .....ألم يكن يمكنني ذلك برأيك؟!"

لم تنطق حرفاً فضحكتُ بعفوية للذكرى وأضفت:
" كان يصلني كلام عن بعضهن....ينعتنني بالوسيم المُعقد المغرور... ..تخيلي...يظنونني معقداً لا أفهم بالحب...."

وعدت للجدية الهادئة مكملاً ونار الغرام تكويني:
" لم يكونوا يعلموا أن قلبي سرقته الصغيرة ذات العينين السماويتين وأنني كنتُ بينهم أسير بلا قلب!!.."

عدّلتُ جلستي مضيفاً برجاء:
" أعتذر إن أحزنتك الليلة من غير قصد!!...وأعتذر عن كل شيء تسبب بجرحك منذ عرفتيني..."

لم تتحرك...لم تتفاعل...لم تنظر ....أيا ترى فهمت كلامي؟!....أيا ترى سمعت اعترافي اليتيم بحبي؟! ....فأنا لطالما عشتُ مشاعري داخلي فقط دون إسماعها عن حبي لها إلا بالأسابيع الفقيرة التي كانت بين إتمام زواجنا وانكشاف مهمتي!!........ما زالت الوردة بيدها تنظر إليها ولم أفهم ماذا يدور في أروقة عقلها ....لكني أنتظر أي ردة فعل وليتها تكون كلمة .." سامحتك.."....ليتها تقول..." عفى الله عما سلف " ثم تمسك يدي هاتفة .." سنبدأ حياتنا وحبنا من جديد" ...تململتُ مكاني أضيق عينيّ لما تحركت على السرير بهدوء لتقف بذات الهدوء ثم تسير بخطى واثقة لا اهتزاز فيها وتصل إلى طاولة الزينة لتضغط بقدمها على دواسة دلو النفايات ليفتح وما إن ارتفع غطائه حتى ألقت الوردة داخله بسهولة هاتفة باعتزاز وزهوّ وجمود تجلدني ببرودها وكلامها:
" أتعبت نفسك هباءً دون جدوى....لا الوردة ولا أنت ولا أولئك تهموني .....إطلاقاً....."

وفردت ذراعها تبسط كفها مشيرة نحو باب الغرفة بملامح صلبة تجاهد لتريني كراهيتها المزيفة بها مردفة ببساطة:
" ولو سمحت إذا أنهيت كلامك يمكنك الخروج....أريد أن أنام قبل استيقاظ محيي!!..."

هكذا إذاً أيتها القطة الشرسة!!...ما زال قلبك مليئاً بالحقد والكراهية اتجاهي؟؟!......انتصبتُ واقفاً أقبض علبة الهاتف بيساري التي تقع على مرأى عينيها وبجانبي الأيمن المحجوب عنها أشد على قبضتي بقهر حتى كادت تغرز أظافري ببطن كفي...صككتُ فكيّ بغل....والتمعت عيناي بعد جرح كبريائي بنقمة ..نقمة من ذاتي التي اهنتها باستعجالي للتقرب !!....رمقتها بنظرة نارية أحرقتها وقلت بصوت خرج مني جامداً ليخفي أنين روحي:
" قاسية!!....قاسية أنتِ يا ألمى!!..."

سرتُ نحو الباب بهمة وخطى واثقة أدكُ الأرض الرخامية تحتي لأخبرها بها أنني جبلاً صامداً بكبريائه لا تهزني رياحك الموسمية ولا غرورك الشرس ولا تعلم أنني لو قررتُ يوماً مواجهتها بكامل غروري سأجعلها هي من ترجو غفراني وتهفو لتذوق عشقي المتين الذي لن تجد له مثيل في كل مكان وعلى مر الزمان!!.....راقبت خطواتي تتجهز لتغلق أذنيها حذراً عند صفعي للباب بعد أن لمحت الغضب بعينيّ ولكني خيبت ظنونها عندما فتحته بهدوء وأغلقته بلطافة لسببين!!....أولهما أنني لم أنسَ أن مهجة قلبي نائما بسكينة ولا أريد أن أفزعه وثانيهما لأني لا أريد أن اعطيها مبتغاها بإثارة حفيظتي واستفزازي فتحتفل بنصرها عليّ!!.....سأصدمها بصبري وأذهلها بردود فعلي!!..وهذا فقط عندما أريد أنا...وأنا فقط!!....
بعد نزولي لتحت ظلت شاردة بأثر طيفي لوقت قصير ثم ألقت نفسها بظهرها للحائط من خلفها باستسلام وبدأت تنزلق رويدا رويدا حتى أضحت جالسة جوار دلو النفايات تنصب ركبتيها!!....تطلعت نحوه على يمينها ورفعت الغطاء وأخرجت الوردة منه ثم اتكأت بذراعها على إحدى ركبتيها وعادت تتأملها من جديد لتخونها العبرات وتملأ مقلتيها حتى كادت تغشي الرؤية عنها وهي تخاطبها بألم يشوبه الندم:
" لم أكن أريد أن أفعل هذا ...لا بكِ...ولا به....ولا بي!!.....لكني خفت من الاستسلام لحبه وهو يلقيه عليّ بكل صدق لامس شغاف قلبي.....خفت من إعتذاره الذي صدّقته بكل خلاياي وجوارحي!!.. ....أنا لا أعلم ما مدى سماكة الحاجز الذي بنيَ بيننا.....لكنه سميك لدرجة لن يهدمه اعتذار بسهولة!!.....عنادي ما هو إلا لحفظ كرامتي....لا حماقة مني ولا كراهية له فأنا التي لم تسلم قلبها وأنفاسها وروحها وجسدها لغيره ولن أفعلها يوماً حتى لو كان سيطلقني!!......إن تساهلت بشأن كرامتي سيسهل عليه إهانتي أو هجري مرة أخرى!.....أنا أحاول حماية نفسي....لذا يجب أن أدوس على رقة قلبي حتى أقرر ما هو الوقت المناسب للغفران!!...ولتعلمي أنني لستُ قاسية كما ادّعى....إنما أنا عاشقة متيمة به مليئة بجروح لم تندمل بعد...كان هو أكبر أسبابها....فهلّا التمستِ لي العذر يا وردته البيضاء ؟!......"

قامت من مكانها بتثاقل تحمل الوردة وجرّت قدميها جراً حتى وصلت مكتبتي....جلست على الكرسي ثم تناولت إطاراً فيه إحدى صور مراهقتي ...تأملتها بعشق واكتسى وجهها بالحمرة قهراً وبدأت الدموع تتتسابق على وجنتيها لتفوز بأيّ منها أكثر ألماً!!.....ضمتها لصدرها مع الوردة تكمل بكاءها هامسة معترفة للصورة وصاحبها بما يحمله قلبها ويجول في عقلها:
" لو تعلم مقدار حبي لك ...لو تعلم مقدار شوقي إليك....فقط لو تعلم كيف قلبي كان متوقفاً عن الحياة دونك وفي بعدك ولم يعد للنبض إلا حين ضممتني لصدرك على شاطئ البحر.....كأنه استمد منك القوة ...كأنك أعدت إليّ روحي العاشقة رغم غضبي وحزني!!.....لا ولن تعلم ماذا يعني لي حضنك منذ التقيتك في المخيم بطفولتي....فكلماتي لا تكفي لإيصال ما شعرتُ به حينها لكني متأكدة أنني شعرت بنفس الشعور منذ أربعة أيام وأيقنتُ أنه لم يتزعزع أبداً عندما الصقتَ خدّي على قلبك يا أعظم الرجال في عيني !!.."

أبعدت الصورة عن صدرها وكفكفت دموعها بظهر كفها التي تحمل الوردة ثم ارتسمت ابتسامة تحمل الغرام والهيام وهي تمرر إبهامها على وجهي تدقق بعينيّ وبصوتها العذب بدأت تنشد بخفوت بإحساس من عمق وجدانها:
" حين التقيتك عاد قلبي نابضاً
وجرى هواكَ بداخلي مجرى دمي
وشعرتُ حضنك دافئاً ورأيتني
رغم الحياﺀ أذوب فيه وأرتمي
قل لي أيا رجلاً لأي قبيلةٍ
ولأي عصرٍ أو لجنسٍ تنتمي
ولمن تعود أصول عينيك التي
أضحت قناديل الضياﺀ بعالمي "
(( كلمات الشاعرة دارين شبير))

التفتت للخلف تتفقد صغيرها بنظرها ثم نهضت عن الكرسي بعد أن أعادت الصورة مكانها واتجهت نحو السرير والوردة بيدها لتدس نفسها بتمهل تحت اللحاف قرب ابنها ووضعتها بينهما تستشعر قربي وظلت مسلطة حدقتيها عليها حتى سرقها النوم إلى عالمه الجميل...!!
×
×
×
بعدما نزلتُ للطابق الأرضي تناولتُ العشاء مع أمي دون شهية وفقط لأجاملها بتعبها خاصة بعد رفض تلك لتناوله وقد أدركت من ملامحي وصمتي أنني فشلت بمحاولتي فلم تسألني شيئاً.....توجهتُ لغرفتي ولجوئي الجديد واستحممتُ وارتديتُ بنطالاً كحليا قصيراً ثم ارتميتُ على السرير زافراً أنفاسي لاسترخي بعد يوم طويل.....حملتُ هاتفي ورأيت أن الوقت ما زال باكراً نسبيا فقررت أن أزعج صديقي (بلال) بإتصال وقلت بعد السلام:
" هل أنت متفرغ"

ردّ ساخراً:
" أن تتصل بالليل ليس من عادتك ...لا بد هنالك أمرٌ ما.."

توسدتُ ذراعي ناظراً للسقف وعبثتُ بشعري القصير مجيبا بصوت ضاحك:
" أجل ....تعلم أنني احترم الخصوصية في الليالي فأنا لستُ صديقك الأشقر الغليظ..."

رد من فوره:
" لا تذكّرني يا رجل.....ذاك الغليظ يتصل بأي وقت يشاء لكن إن اخطأت أنت واتصلت به وهو بالبيت ليلاً سيزفّك بوابل من التوبيخات ...كأننا نعمل عنده!!..."

صمت برهة ثم اكمل مصدوماً بعد أن أتته مكالمة أثناء حديثنا:
" يا الله....ابن الحلال عند ذكره يأتي ...إنه هو يتصل ...لا بد أنه بالمركز ويشعر بالملل ويريد أن يثرثر كعادته ......هل أدخله معنا بالمكالمة!!..."

أجبت بالحال جاداً:
" كلا لا تدخله...أريدك بأمرٍ عاجلٍ خاص....بعد أن ننتهي يمكنك مكالمته للصباح .."

قال بريب:
" ما هو؟!"

قلت:
" سأعطيك البريد الالكتروني الخاص بزوجتي.....لقد سُرق هاتفها سابقاً وهي لا تذكر الكلمة السرية كما أنه كان يحوي على صور خاصة ومن المحتمل أن السارق الحقير حذفها !.....تستطيع إعادته ...أليس كذلك؟!.."

رد واثقاً:
" بالطبع يمكنني الوصول لكلمتها السرية ..."

وأضاف ضاحكاً بافتخار:
" نحن نخترق أصعب البرامج الالكترونية والأنظمة الدولية لن يعجزنا أمر تافه كهذا سيادة رئيس الأركان..!!.."


" وإن حُذفَت الصور؟!..."

" لا تقلق...سأخرجها إن شاء الله لو كانت بسابع أرض يا صاحبي......لكن إن صبرتَ عليّ أكون شاكراً....فبيدي بعض الملفات التي لا تقبل التأجيل !!..."

تنهدتُ بارتياح مطمئناً وهتفت واثقا به:
" خذ راحتك يا صديقي ولا أوصيك... الصور خاصة لا غيرك سيعمل عليها لأني أثق بأنك ستغض البصر ولن تفتحها!!....يعني لا تشرك فريقك"

" لا توصي حريصا يا هادي!!... بما أنها خاصة بك وبزوجتك بالطبع لن أفكر بغير ذلك.....اطمئن يا صاحبي!!..."

×
×
×

جاء اليوم التالي وهو اليوم الذي سنستقبل به المحامية الآنسة (رفيف الأسمر) وكان موعدنا في ساعات الغروب أما الآن نحن ما زلنا في الدقائق الأخيرة من الضحى....!!....كنتُ قد تناولتُ الإفطار مع والدتي بوقتٍ متأخر بعد استفاقتي من غيبوبة نومي!!.....لم أرَ صغيري الذي كان مستيقظاً مع الدجاجات من قبلي ليلهو مع جدّته التي حضّرت له فطوراً يناسب عمره ....فمنذ مجيئه إلينا وهي تقوم بحشوه بالطعام كعادة الجدّات!!......والآن ها أنا سأخرج قبل الآذان لأصلي الظهر بالمسجد دون أن التقي به بسبب موعد قيلولته..!!...تجهّزت مرتدياً من ملابسي اليومية المريحة......حملتُ محفظتي ومفاتيح سيارتي الرياضية السوداء عن المنضدة بجانب سريري وخرجتُ متوجهاً لأخذ نظارتي الشمسية بعد أن تذكرت أنني تركتها على طاولة غرفة المعيشة....وصلت للعنوان ولم أجدها فجلتُ بعينيّ باحثاً....ربما وضعتها أمي هنا أو هناك!!...ناديتُ بصوت مرتفع لتسمعني فهي مشغولة بمطبخها:
" أمي.....هل رأيتِ نظارتي؟؟!..."

ردت في الحال من بعيد:
" في صندوق النفايات!!.."

قلت مندهشا:
" ماذا تفعل داخله؟!"

"رميتها!!."

" لماذا؟!...هذه جديدة يا أم هادي!"

" فليعوضك الله بأجمل منها.....ابنك كسرها!!"

صفعتُ جبيني بصدمة هاتفا :
" يا إلهي.....هل أنجبتُ فأراً مدمّراً وأنا لا أدري؟!"

ضحكت وقالت:
" انتبه لأغراضك من الآن فصاعداً....نحن لسنا مسؤولين عمّا ستفقد !!..."
توجهتُ للمطبخ وتوقفتُ على بابه وقلت حائرا بين الجدية والمرح وهي توليني ظهرها تغسل الأواني:
" كيف سأربي ذاك المشاكس؟!...من سلّطه عليّ؟!"

" هذه الجينات يا ولدي.....أخبرتك هو نسخة عن صغرك...أنت أصبحت هادئاً بعد العشر سنوات!!...وما دون ذلك شيّبتنا ...لو كانت جدتك رحمها الله بيننا لأخبرتك عن أفعالك وخاصة بوالدك رحمه الله..!!.."

اتكأتُ بمرفقي على أطار الباب مع إمالة ضاحكاً وقلت:
" تقصدين الزمن دوار وكل ساقٍ سيسقى بما سقى....وجاء الآن من يأخذ حق سيدي القائد أبا الهادي رحمه الله......يعني محيي الدين ينتقم لمحيي الدين...."

التفتت قليلاً نحوي بتقاسيمها البشوشة الحنونة وأجابت:
" يبدو كذلك....يعني تحمّل واصبر حتى يهدأ مثلما فعلنا!!"

هززتُ رأسي إيجابا فيبدو لا مفر وقلت في سري.." على من سأصبر ومن....على مشاغبة الصغير أم على والدته ذات رأس الماعز؟!.....صبرٌ جميل والله المستعان..."
×
×
×
بعد استراحة وقت العصرية كلمتني المحامية ( رفيف) لتخبرني أنها على الطريق قادمة من العاصمة بسيارتها وأنها تحتاج لساعة بإذن الله للوصول إن لم تفاجئها أزمة سير لم تعمل حسابها........أعلمتُ أمي بذلك وصعدت لغرفتي المحتلة لجلب ملابس لي لأتجهز لاستقبالها والتي طردت منها البارحة بكل صفاقة وقسوة ......وبروتيني الجديد ..طرقات خفيفة على الباب ثم انتظار ...ثم استقبال من المحجبة العابسة القاسية.....استأذنتها بجدية فلا مزاج لي لا لمزاح ولا لمشاكسات ومعاكسات بعد الليلة الماضية وتصرفها المبتذل معي ....كان الصغير يلعب يوزع ضحكاته بسعادة ورائحة الاستحمام بنكهاتها اللذيذة التي تميزهم تفوح منه تطيب على النفس ...سرتُ اتجاهه مبتهجاً....قرفصتُ وقرصته من خديه....قبلته وقلت:
" الله على الجمال ...أسعد الله قلبك حبيبي.."

لما استقمتُ واقفا مد يديه يريد مني حمله فقلت معتذرا بملامح متوسلة:
" سامحني صغيري لستُ متفرغاً لأخذك الآن....عليّ التجهز فلديّ موعد وضيفتنا أوشكت على الوصول..."

لم أنتبه للتي بدأت تثور دمائها وتتسارع خفقاتها غيرةً بعد جملتي المهتمة ...!!....وليته ظهري قاصدا الخزانة فبدأ يبكي ....دنت منه حملته وقبلته هاتفة بكيد:
" لا تبكي صغيري ....يوجد موعد أهم منك أنت أنا سآخذك عند الدجاجات !!...."

التفت بهمة ورمقتها بتحذير غاضب وقلت بتوعد:
" اهدئي.....اهدئي.....وانتبهي للكلام الذي يخرج منك للطفل.."

أخرجتُ بنطالاً أسوداً من الجينز وبحثتُ عن بلوزة ضيقة من النوعية التي أحبها كنت قد اشتريتها مؤخرا ولم ارتدها بعد ....صرت أبحث بسرعة مستغرباً...أخرجت قسم من الملابس لم أعثر عليها.....مستحيل أن تختفي بين البقية لأن والدتي ترتب ملابسي بشكل أنيق حسب درجات الألوان والأبيض عندي قليل وسيظهر من بين اللون الغامق....ارتب لوهلة...فكرت....رفعتُ حاجبي بتشكك.....لن اتفاجأ إن عبثت بأغراضي لتفسدها انتقاماً كمكرها ودهاءها مع الساعة....التفتُ إليها سائلا:
" كان لدي بلوزة بيضاء جديدة هنا....أين ذهبت!؟..."

امتقع وجهها وبياض بشرتها دوما يفضحها ...عند الخجل...عند الغضب...عند التوتر....عند الضحك وعند الحزن ..والآن عند الكذب..يكتسي بالأحمر الذي يتوزع على سائر جسدها ويكون أكثر تركيزا بوجهها...وضعت الصغير أرضاً وادعت أنها لم تسمعني وهي تناغيه وتكلمه متملصة....اقتربت منها مكررا سؤالي ومؤكدا عليها:
" أجيبي دون أن تراوغي ....لا تفلحي بالكذب ...انظري للمرآة لتري وجهك الذي أصبح كحبة البندورة الناضجة.."

استجمعت قواها وأجابت بامتعاض وهي تقرفص جنبه تنكس رأسها ناظرة إليه تتخذ منه حجة للهروب بعينيها:
" رميتها!!.."

" لماذا؟!.."

استقامت واقفة تقابلني واهتزت حدقتيها من هول الكذبة التي ستلقيها وظنت أنني لم أنتبه لها :
" محيي سكب الحساء على الأرض ولم أجد شيئاً عاجلاً لأنظف مكانه فكانت هي أسهل شيء تصله يدي...!!.."

بحركة مسرحية هازئة وصوت ساخر أحاول اخراجه ناعما لأقلدها هتفت:
" سبحان الله ...خزانة كاملة الدرفة الأقرب للخارج منها هي التي تحوي داخلها على مناشف وفوط كان أسهل شيء فيها تصله يدك هو القسم الداخلي الملاصق للحائط وتحديدا الرف العلوي الذي عليك الوقوف على اصابع قدميك للوصول لمقدمته أو استخدام سلم لتأخذي شيئا من مؤخرته؟!.....جدي كذبة غيرها....!!.....مؤكد تعمدتي إتلافها من أجل انتقاماتك !!.."

واستدرت لأبحث عن أخرى بديلة فلا وقت لديّ من أجلها!!

بعد أخذي ملابسي والخروج تتبعت أثر طيفي ولما سمعت إغلاق الباب انحنت لتحمله قائلة :
" أرايت.....يريد أن يرتدي تلك البلوزة التي تجسد عضلاته كي يجذب أنظار تلك الفأرة المتملقة...."

وضحكت ضحكة شيطانية بريئة :
" الحمد لله أنني مزقتها ....لو ارتداها كانت ستسرق قطعة منه لشدة وسامته ...."

حملته ترفعه لفوق متابعة ضحكاتها مع كلماتها:
" والآن علينا أن نتجهز لنخرب عليهما خلوتهما ....ستساعدني أنت يا صغيري!!....اتفقنا؟!.."
حملته ترفعه لفوق متابعة ضحكاتها مع كلماتها:
" والآن علينا أن نتجهز لنخرب عليهما خلوتهما ....ستساعدني أنت يا صغيري!!....اتفقنا؟!.."

كان يضحك كأنه يفهمها....وضعته أرضاً واتجهت لخزانتها لتستخدم لأول مرة فستانا جديدا من الملابس التي اشترتها لها أمي.....وقع اختيارها على فستان أبيض صيفي خفيف له حزام جلدي عريض أحمر ....وأخرجت حجاباً من الساتان كلون الحزام مع القطعة التي تحته بلونها الأبيض لتظهر من مقدمة شعرها تكسر لون الحجاب .!!.....انحنت قليلا باحثة بين الأحذية الجديدة عما يلائم فستانها فأخرجت الأبيض ذو كعب المسمار.....حارت في بداية الأمر... شهوراً مرت دون أن تنتعل كعباً.!!..منذ تقدم حملها حتى هذه اللحظة!!....تخاف أن تفقد توازنها فتقع معه!!.....تشجّعت لتغامر وتلبسه .....خلعت ما عليها وارتدت الجديد وقامت بتجربة الحذاء بفرحة طفلة ترفع طرف الفستان لتتأمله وهو بقدمها بإعجاب كأنها السندريلا أو من أميرات ديزني!! ....وهتفت لابنها متحمسة مسرورة وهي تتمشى واثقة كعارضات الأزياء ليصدر رنينا ملفتاً جعل ابنها يضحك على صوته :
" أنظر محيي ما أجمله ....سأجعله يرن في دماغ الفأرة ذات الكعب الرنّان لأقهرها.......وسألفت انتباه والدك المغرور الذي كان يحب انتعالي للكعب بالبيت!!....لأعبث بمشاعره وأعذّبه!....."

واخفضت صوتها بريب ونبرة حزينة راجية:
" المهم حبيبي لا ترهقني أنت....فأنا أول مرة سأحملك منتعلة كعباً..."

تركته واتجهت لطاولة الزينة تضع الحجاب بحركة أنيقة راقية ..اقتربت من المرآة فصعقت من التعب البادي على بشرتها....آثار لهالات سوداء تحيط عينيها النجلاءين سببه سهاد ليلها.!!...انشغالاً بصغيرها....وأرقاً وقلقاً من همومها..!!....خبُت حماسها وانطفأت شعلة التحدي عندها هامسة بشجن:
" مظهري بشع.....أشعر نفسي مدمنة مخدرات!....كيف سأخفي هذا ولا يوجد لديّ أي مسحوق من مساحيق التجميل هنا!!......يا الله ساعدني عليّ أن أنقذ زواجي قبل أن تخطف زوجي تلك الفأرة ...."

فكرت بأسى محبطة ناظرة لطاولة الزينة أمامها وفجأة غضنت جبينها تضيق عينيها بعد أن وقعتا على علبة ما....ابتسمت ابتسامة شريرة وقالت بنفسها " شكرا حبيبي محيي...أنت منقذي الأول والأخير!!...."

خلعت الحجاب ...اخرجت ليفة ناعمة من أحد الأدراج تابعة لطفلنا... ما زالت جديدة مغلفة!!.....قصت طرفها لتجعلها اسفنجة تشبه الخاصة بأدوات التجميل.....حملت علبة البودرة الخاصة بالأطفال ونثرت القليل منها داخل يسراها وبدأت تغمس الاسفنجة وتوزع من البودرة حول عينيها برقة تخفي بها عيوبها وهالاتها السوداء !!....انتهت ومسحت يدها بمنديل ثم قرصت وجنتيها بشدة لتعطيهما تورد طفيف يكسر بياض بشرتها وتبسّمت فخورة من ذكائها لما رأت نتيجة مرضية لحد كبير!!.....شعرت بهدوء يعم الغرفة فوجدت ابنها يحارب للنوم من مكان ورشة الساعات خاصته التي كان يعبث بها !!....يغمض عينيه فيسقط رأسه على صدره فيعود ويفتحها مجفلا ناظراً حوله واستمر هكذا على هذا الحال!!....شهقت معترضة تقبل نحوه:
" لااا أرجوك محيي....لا تنم ...أحتاجك....كل الخطة تقف عليك!....."

حملته تلاطف وجنتيه ليستيقظ متابعة برجاء:
" اصحى حبيبي......إن نمت ستسرق الفأرة والدك منا ....أرجوك ...خاصة أنه بأضعف حالاته....رجل محروم من حقوقه الزوجية وتلك فأرة خبيثة أنيقة وجميلة تستطيع إيقاعه بلسانها المتملق!!....هيا محيي بالله عليك....."

صارت تهزه بخفة وتحاول مساومته على غرض جديد اكتشفته بالغرفة قررت أن يكون ضمن خطتها:
" إن استيقظت سأعطيك شيئا جميلاً من أغراض والدك التي تحب!....لم تصله يدك!!"

ثم استهمت جاعلة الحمام وجهة لها لتغسل وجهه وما إن لامسته المياه بحركة حنونة منها كي لا تجفله عادت حيويته من جديد.!!......عادت لوسط الغرفة ووضعته أرضاً ليتابع عمله ريثما تنتهي من ارتداء الحجاب ووضع اللمسات الأخيرة على نفسها.....!!...لما نظرت للمرآة أحست أنها غير طبيعية.!!..لم تشعر أن هذا وجهها.!!...كأنها تضع قناعاً لا يشبهها..!!....بهتت ملامحها أكثر وتملكها الإحباط مجددا وهبّت واقفة عن المقعد الخاص واتجهت للحمام تشتم نفسها وتلومها وهي تبكي:
" منذ متى أستخدم هذه الاشياء الرخيصة أنا....أنا ابنة العز والدلال ....من كنت أملك أشهر الماركات العالمية لمساحيق الزينة .....بتّ مثيرة للشفقة استخدم مسحوق للأطفال بكل سذاجة وغباء!!....."

يبدو أن هذا أضحى حالها في الآونة الأخيرة....التخبط بمشاعرها والانفصام بقراراتها.... لا تعلم أين ترسو وكيف !؟...كانت تصب الماء صباً على وجهها وتفركه باكية ...الماء ينزل من الحنفية والدموع تنزل من سماءيها وهي تكمل بلومها لنفسها متمتمة متزعزعة الثقة بجمالها:
" هو من تسبب بوجهي المرهق الكئيب ....والاعتناء والسهر بابنه السبب في تلك الهالات......عليه أن يتحملها شاء أم أبى ولا يحق له لومي أو من استنقاص جمالي!!.."

أغلقت الحنفية قانطة ونظرت لانعكاس صورتها بعد أن اختفت البودرة ليأتي مكانها تورّد فاتن يزيّن بشرتها بسبب البكاء والفرك ...وبقايا الدموع أعطت لمعة ساحرة لحدقتيها وخاصة لما عانقت رموشها بعضها كأنها استخدمت لها أدوات الزينة !!.....تنهدت براحة وتبسمت برضا من مظهرها ....عادت لها روح التحدي مرة أخرى وجددت ثقتها بنفسها.......اتجهت لطاولة الزينة ووضعت الحجاب ....أخرجت من درجها المرتفع المفتاح الأصلي لسيارتي الرياضية الثمينة والذي بالطبع يكون ثميناً مثلها.....فأنا أستخدم النسخة الاحتياطية منه!!....أقبلت إليه وهي تهزه ممسكة به بطرفي إصبعيها ضاحكة بمكر...اتسع فمه بضحكة كالجائع الذي وجد وجبة شهية متحمسا ليتعرف عليه وبدأ يخرج أصوات وهو يمد يده يبسط كفه ويقبضها بتكرار ...إشارة لتعطيه له ...هتفت قبل أن تعطيه إياه:
" أنظر محيي....متأكدة سيعجبك هذا ومستحيل أن تتنازل عنه بسهولة......ستأخذه الآن وتلعب به كما تريد وعندما يحين الوقت ونحن بالأسفل سآخذه منك لتبكي بشدة تهز الجدران بصوتك وكأن أحدهم يجلدك وهكذا تلفت انتباه والدك !! .....فهو لن يتحمل بكائك لقد لاحظت هذا عليه وسيأتي إليك ويترك الفأرة دون اهتمام أو ينهي الجلسة باكراً ونتخلص منها!.....المهم علينا النجاح بخطتنا بالإضافة لإتقان التمثيل لندخل لوحة عائلتنا الجميلة السعيدة بعينيها فتموت قهراً وتنصرف...."

وحملت الصغير تنزل تتهادى بمشيتها!!........كنتُ في غرفة الصالون أجلس ومعي (سامي) الذي أتى بدعوة مني لفهمه بهذه الأمور من القضايا وليكون رفيقا يكسر خلوتي بتلك الجريئة!!.....لما وصلتْ لبهو الطابق الأرضي وسمعت صوته وافاها شيء من الطمأنينة....فهمست له متنهدة:
" الحمد لله صغيري......الله معنا ...لقد بعث لنا زوج عمتك ليكون معهما فلا يكون مجال بينهما للتقارب......لكن مؤكد سنتابع خطتنا!!..."

كانت أمي في غرفتها تستريح.....أما هي اتخذت الجلسة الخفيفة الموجودة في البهو قريبة من الصالون مكاناً لها !!...لا يستخدمها أحد!!.....وضعت ابنها أرضاً وجلبت له من غرفة المعيشة دلو المكعبات التركيبية وفردته له ليبدو أنه يلعب بها فيظن الجميع أنها متواجدة بسببه فقط لا لشيء آخر!!...وكان هذا من أجل التمويه ...هي تعي أنه يسئم من هذه اللعبة بسرعة لكن معه البديل الأقوى لتلهيه به..... المفتاح فريسته الجديدة ا!!......مكانها يكشف عن جزءاً كبيراً من الأرائك بالصالون بينما جلستي تحجب رؤيتي لها بسبب عامود ما!!.....كانت بهذه الأثناء تدرب نفسها على كيف ستتصرف وماذا ستقول....لن تسمح أن تستفزها تلك فتكون انفعالية كالسابق والنتيجة توبيخ مني وفضيحة لها!!.....طُرق باب المدخل وبطبيعة الحال هي من يصلها الصوت أولاً لأنها الأقرب!.......فزّت من مكانها....نظرت لنفسها وهي تحاول ترتيب ملابسها باهتمام ...سحبت انفاسها وزفرتها متجهة للمدخل بكل ثقة ابتدعتها وكأنها أمام خط فاصل بين الربح والخسارة وعليها استخدام كل أسلحتها... عازمة لاستقبالها بكل رزانة وأنفة ولطافة كأن ما مضى لم يكن!!....خاصة من بعد مكالمة قصيرة مع صديقتها (ميار) التي وصّتها بألا تظهر غيرتها أمام خصمها كي لا تنقص من قدرها وإنما عليها أن تدخل قصة حبنا وعلاقتنا الموفقة في عينها لتلجمها !! ....فتحت الباب بهدوء وكيد خفي فبهتت ملامح ضيفتنا واختفت الابتسامة التي لمحتها تلك على ثغرها في البداية!!....تنحنحت تعيد صوتها الذي كاد يختفي من صدمتها بالتي امامها ....محجبة وساحرة وواثقة وبدا عليها أن حياتها تسير على ما يرام....فالراحة بادية في روحها!...لا مشاكل تعانيها!!..وهمست بتمهل لكن بنبرة واثقة فشخصيتها لا تهتز:
" مرحبا......كيف.. حالك... سيدة ألمى؟!.."

ردت بصوت رقيق ثابت تمد يدها تصافحها تحاول اتقان كذبتها :
" أهلا آنسة رفيف.....تفضلي .....زوجي بانتظارك....."

أفسحت لها المجال لتدخل وتابعت بمسرحيتها وكأنها تناولت وجبة العشاء معها تحت أنظارها المدهوشة:
" من الجيد أنك لم تتأخري ....حقا نشكر دقتك بمواعيدك.....فمن أساسيات النجاح الالتزام بالمواعيد وأنت كذلك......ونحن لدينا مشوار في الليل ..."

كادت رجفة صوتها تفضحها تأثرا من كلامها الذي يعكس أمنياتها مع عظمة كذبتها دون إدراك منها إلا أنها قاومته فخرج ثابتا ناعماً:
" فأنا وحبيبي..."

وشددت على أحرف كلماتها التالية لتذكرها بما يربطنا:
"أبا محيي الدين...."

ثم بترت جملتها تضم قبضتها أمام فمها تسعل بتصنع مع ضحكة خجولة أجادتها كأنها تفوهت بعيب :
" عفواً ...أقصد أنا وزوجي سنخرج معا لنحتفل بعودتنا لبعضنا!!...."

شكرتها في البداية على اطرائها لها وهي مستغربة في نفسها من هذا التغيير الجليّ الذي طرأ عليها وكأنها كبرت أعواماً .... ليست نفس الفتاة التي قابلتها في السابق.!!..أبقت ما يجول في خاطرها عنها وعن المشاعر التي أحستها لما رأتها أمامها ما إن فتحت لها الباب في ركن خفي داخلها!! ثم تبسمت برسمية تستخدمها للمجاملة وسارتا بتوازي الكتف للكتف تتجهان للداخل ترفعان الرأس بعنفوان ...كلّ منهما تحاول منافسة الأخرى بفطرتها الانثوية من الداخل....مَن أكثر جمالا وأناقة....ومن التي تلفت الأنظار وتسلب القلوب؟!....وكأنهما على ممر لعرض الأزياء بالفعل ....وعزف الكعب الرنّان لكلّ منهما يخرج كنغمة واحدة!! ...رفعتُ رأسي على الصوت وكلي ثقة أنه لأكثر من قدمين حسب قوته!! فذهلت لما رأيتهما معاً وخاصتي ترسم ابتسامة متملقة وهي تمد لها يدها مشيرة للصالون تنظر إليها فقط وهاتفة:
" تفضلي....من هنا!!.."

واستدارت تعود أدراجها ترفع رأسها بكل شموخ واعتزاز يعطيها مظهر لامرأة قوية واثقة بينما رنة كعبها تسحبني معها متفاخرة وهي تسحرني لتعزف بقلبي عابثة وتؤكد له أن الأنوثة كلها خلقت بها وأن الدلال خلق لأجلها ....ولا يمكن لأي امرأة بالكون أن تأخذ مكانها ..!!.....

دلفت ضيفتنا الجريئة تلقي سلامها علينا بعد خوض صراع سريع داخلها من شدة حيرتها .." أيعقل أن هذه نفسها التي قابلتها منذ شهور؟!....ازدادت جمالاً...وثقة...ونضوجاً....إن كان في الماضي وهي ساذجة بشخصية ضعيفة لا يرى غيرها وكيف الآن وهي بشخصيتها الجديدة ومظهرها الجديد؟!.!!."...عند آخر تساؤل حيرها انقبض النابض خاصتها لا إرادياً...وتعلم سببه!!......أما المدللة ما إن اختفت عن أنظارنا حتى تركت العنان لنفسها لتعود لطبيعتها التي لا تتخلى عنها.....زفرت أنفاسها التمثيلية بارتياح وهي تقبل نحو طفلها ...جلست على المقعد بالقرب منه تغمغم بشتائم تخص بها غريمتها تليق ببراءتها !!.......ألقت نظرة دائرية تفحصية لكل الأرجاء تتأكد من خلو المكان ثم ضحكت ضحكتها الشيطانية المكتومة تمسكه برقة من كتفيه هاتفة:
" محيي نجحت ولم افضح نفسي.....ظهر لي كيف تفاجأت مني !!....لقد شحب وجهها !!...بدوتُ مقنعة للغاية!!....والأهم تركتُ والدك ينظر بأثري حائراً مصدوماً.......لقد لمحته بطرف عيني!!.......ربما ظن كلاهما أنهما سيريان ألمى الساذجة التي تفضحها غيرتها!! ......هي ستشتعل من صورتي واظهاري لعلاقتنا الزوجية الساكنة السعيدة ووالدك سينفجر من قلة غيرتي منها عليه.!!.....لقد أكدّت له عدم اهتمامي به عندما أوصلتها له بنفسي دون أن تهتز شعرة بي....!!.."

تنهدت مطمئنة ناظرة للفراغ مبتهجة بإنجازها وهمست:
" الحمد لله....لقد تخطينا المرحلة الأولى بنجاح.....الآن ننتظر قليلاً ثم ننتقل للثانية...."

بعد دقائق من استقرارها في برج المراقبة خاصتها كسى البؤس عينيها وتنهدت تنهيدة ثقيلة علّها تخفف من وطأة ما اختلج صدرها عندما رنّ اسم والدها بصوت صديقي لبدء النقاش بالقضية!!....ارتدت رداء الخزيّ من ضعف موقفها!! ...لقد نفذ مخزون دفاعاتها عنه ولن تتجرأ لتنطق اسمه بين جدران بيتنا العريق إلا أنها بفطرتها الطيبة والرحمة التي تحملها روحها لم تستطع منع رجفة في قلبها أدت لإسالة دمعة وحيدة على وجنتها حنيناً له وقلقاً على ما آل إليه حاله بعد هجومي الوحشيّ عليه!!...تذّكرت أن يوم غد الأربعاء وهو اليوم الذي تجري به اتصالاتها معه عادةً...تملّكها اليأس فتقهقرت لوهلة في مقعدها وأخرجت نبرتها بوهن وهي تبوء له عمّا يجيش في صدرها ناظرة للفراغ:
" كـ...كيف سأتواصل معه الآن؟!...كيف سأطمئن على حاله؟!....المحامي انتهت علاقتنا به فلن أسمع منه الأخبار.....وهاتفي ما تبقى من رصيده بالكاد يكفي لرسائل قليلة أتواصل بها مع ميار!....وهنا في هذا البيت لا يمكنني طلب من أحد للسماح لي بالاتصال...ماذا سأقول لهم؟!...هل أقول عن إذنكم سأكلم أبي المجرم الذي دمّر لكم حياتكم؟!.....لكن...لكن...يساورن ي قلق شديد عليه يا صغيري....فهو يبقى أبي ولا يوجد غيري له!....هداه الله وغفر له ما تقدم وما تأخر من ذنبه!....عليّ أن أجد حلاً بعيداً عنهم لأطمئن!...."

تنهيدة أخرى أخرجتها بوهن لتنتبه بعدها لخفوت أصواتنا !!.....كان ذلك بطلب مني!!...منعاً من أن يصلها أي شيء عن القضية أينما تكون.!!..لا خوفاً منها ....بل عليها!....لا أريد لها أن تتألم أكثر وتُقهر ونحن نخوض في سيرة والدها الخائن!!....فكم سيتحمل قلبها الصغير؟؟!.....مضى وقتها الحالي بسكون تلاعب ابنها تارة وتسرح بهمومها مع حنينها لأبيها تارة أخرى!! ...بينما أنا حقيقةً في الداخل كانت تعليقاتي قليلة موجزة بالحوار وصديقي من تولّى مكاني لمّا انتبه لشرودي بين الحين والآخر!....فتلك أصابتني بالتوجس وأشغلت تفكيري بعدما ظهرت أمامي بتلك الصورة.!...المنافية لطبيعتها!!....ربما تفكير تافه كفتى مراهق لا يناسب الظرف الذي أنا به لكني أفكر بالفعل وبرضى من جوارحي كلها!! ...هل فعلاً تغيرت لهذه الدرجة ؟!....ألم تعد تغار عليّ من الإناث كما كانت عادتها وطباعها؟!....لم أنسَ معاملتها لـ(رفيف) سابقاً...كادت تخنقها بيدها من شدة غيرتها !...أما الآن !!...أوف.... إلى أين أوصلتِني يا مدللة ؟!...طردت أفكاري منزعجاً من إحساسي بأنها لم تعد تهتم بي وحاولتُ الانسجام بما يخص قضيتي!....نزلت أمي وجاءت إلينا تستقبلها ببشاشة منبسطة الأسارير كما تعامل كل ضيوفها..!!...قدّمت التضييفات جميعها في وقت واحد لتضعها أمامنا كي لا تزعجنا وتشوش علينا بذهابها وإيابها....الشاي يصب في الكؤوس والقهوة في حافظ القهوة مع الفناجين حوله!!....طبق فواكه وحلويات..!!.....أنهينا نقاشنا العام بالقضية وقررنا أخذ استراحة فنهضت (رفيف) من مكانها حيث كانت تجلس قبالتي على أريكة فردية لتقترب بجرأتها المجبولة بجيناتها وتجاورني الجلوس على الأريكة الثلاثية وكان ما يفصلنا هو القسم الأوسط منها هاتفة بنبرة مرتفعة بسبب حماسها وهي تحمل صورتين أخرجتهما من حقيبتها:
" أنظر ماذا أحضرت لك... وجدتهما والدتي وهي تقوم بتعزيل الخزائن في بيتنا....."

أرهفت السمع المراقبة لنا تُتَبّع معنا بكل ما فيها عندما وصلها صوت العدو والحماس بنبرة الكلام ثم حركت جذعها لترصد الصورة بشكل أوفى وألقت حدقتيها إلينا فرأت التقارب بجلستنا ليقرع ناقوس الخطر في قلبها باثاً اشعاراته لكافة الجسد عن طريق دمائها فأخذت حرارتها بالازدياد خاصة وهي تلك تتابع:
" أتذكر تلك الصورة.؟؟... التقطناها في ساحة بيت عمي سليم ...ونحن نلعب كرة السلة.....كنا دوماً أنا وأنت نشكّل فريقا لوحدنا مقابل فريق بنات عمي سليم الثلاثة وابن جيرانهم.....ورغم أنهم أكثر منا إلا أننا كنا نسحقهم بالأهداف!!.....أتذكر؟!!..."

صبرني يا الله ..ما لي وهذا الكلام؟!....أنا لا أهتم لهذه الأمور ...فلدي فائض من الصور والذكريات التي أحب....ربما ما زالت تحمل شيئاً في قلبها اتجاهي ...أو كلا أرادت ترطيب العلاقة التي جففتها بنفسي منذ شهور .!!..وأيٍ كانت نواياها أنا لا أطيق ذلك!! .....لكن الأشقر أوصاني بأن أكون لطيفا دون أن أنزِل عليها غاراتي وأقصفها بجديتي لأننا نحتاجها بقضيتنا أو أي قضية قد تواجهنا لمهارتها بذلك!!....تبادل مصالح لا أكثر من ذلك!!.....لذا شقت ثغري ابتسامة جاهدت برسمها وقلت بصوت هادئ لأجاملها لم أقصد خلفها شيئا ولا أعنيها بعد أن شتمت داخلي الحال الذي جعلني أكون بحاجتها:
" أجل بالطبع أذكر ....كانت أيام جميلة جدا كيف أنساها؟....ليتنا بقينا صغاراً!.."

وجملتي هذه أدت لغليان المستمعة لنا بإصغاء وكأنها جالسة على فوهة بركان قارب على الانفجار..!!.....كانت تضع ابنها الذي يمسك المفتاح بحجرها تهز ساقها لا لمداعبته إنما انفعالاً تكز على أسنانها وتشعر بالاختناق.....لم تجلس أمي معها لانشغالها بما يخص الملابس من غسيل ونشر وطي في الطابق العلوي !!....بدأت الدماء تفور وأعصابها اكثر تثور عندما وصلها من الجريئة جملة وما بعدها:
"وهذه الصورة لما خرجنا جميعنا للطبيعة برحلة شواء!!....أتذكرها؟!..."

ثم ضحكت ضحكة بدت لتلك المشتعلة مائعة وهي تكمل:
" يا الله.....يومها أنا وأنت اختفينا لساعات وحدنا... نحاول البحث عن أفاعي صغيرة تحت الصخور وقد أدركنا الوقت وجعلناهم يموتون قلقاً علينا ....ولما عدنا قبل المغيب تلقينا تقريعا وتوبيخاً من والدك رحمه الله ووالدي... له أول وليس له آخر .....لكن موقفك النبيل لا أنساه أبدا.....لقد حملت تهمة التأخير بالكامل ..أنت....دفاعاً عني! ...."

كان صديقي منشغلاً بقراءة أوراق تخص القضية وأنا عالقٌ بمجاراتها بقصصها التي لا تعنيني البتة بينما البعيدة عني الساكنة في قلبي تطلعت على يد ابنها المتشبثة بالمفتاح ورفعت زاوية فمها بمكر سام بعد أن فاض بها الكيل!......لقد حان دوره.....ستأخذه منه ليضج المكان بصراخه!!.....تنهدت وسحبته لتضغط على زر البكاء خاصته !!...ويا للريبة والعجب !!...كانت المفاجأة بل الفاجعة أنه لم يقاوم ليحتفظ به وسلّمها إياه صاغراً !!..حرّكت نفسها تميل لتنظر لوجهه فانطفأ نور التحدي من وجهها لما وجدته بدأ يستسلم للنوم فعلا بعد ثباته لوقت لا بأس به .!!....انقبض قلبها يائسة بعد فشل خطتها التي كانت تعتمد عليها لجذب انتباهي وابعادي عن عدوتها ...فهي تعلم أنني لن أتحمل بكائه وسآتيهما كالبرق !!.....صارت بإصبعيها تضغط برقة على خديه اللذيذين عابسة وهامسة:
" محيي أرجوك ....أخذتُ المفتاح منك ...لا تنم....جاء دورك...إبكِ الآن والفت انتباهه ليأتي ويأخذك ويبتعد عنها.!!.....حتى وجود زوج عمتك لم يكبح جموحها ووقاحتها مع والدك.....تذكّره بماضيهما البغيض كالملهوفة!......محيي ...ماما...لا تنم!!......"

فتح عينيه بنعاس وتثاءب مفرجاً شفتيه باتساع من شدة احتياجه للنوم تزامناً مع مجيء (شادي) عندهما لينظر لهما ثم للداخل مستغربا:
" ما بك تجلسين هنا؟!..."

لما رأته اتسعت عيناها مسرورة وكأنه سقط من السماء لينجدها وهبت واقفة تدفع (محيي) نحوه هاتفة بابتسامة تصل من أذنها لأذنها دون أن تجيبه:
" خذ محيي لوالده ...يريد منه أن يأخذه عند الدجاجات!!..."

تطلع عليها بصدمة وقال:
" ماذا؟!"

" أجل!!. ...يريد ذلك"

" سآخذه أنا....أخي مشغول....إن قاطعته سيغضب..."

عقدت ما بين حاجبيها معترضة وهتفت بإصرار:
" كلا....هو يريد أن يأخذه والده ليس عمه!!....والآن دون تأخير..!!"

جحظت عيناه هاتفاً بانشداه:
" هل هو من قال لك أريد أن يأخذني أبي... الآن... عند الدجاجات!!؟."

رمشت بزهوّ مؤكدة:
" بالطبع!!..."

طالعها بنظرات توحي أنها تبالغ وهمس:
" ألمى محيي لا يتكلم إلا با و ما ....من أين أتيت بهذه الجملة التي لا أستطيع أنا نطقها؟!.."

عبست وقالت بغرور:
" هو لم ينطقها بلسانه حرفيا لكنه يريد ذلك!!"

وضع يده على خصره وسأل متهكماً:
" بربك....كيف عرفت ذلك؟!"

مطت شفتيها لتعبس أكثر وأجابت بثقة متفاخرة:
" أنا أمه سيد شادي وأفهمه دون أن يتكلم!!..."

ثم رفعت رأسها بإباء تدعم كذبتها المبالغ بها مستطردة :
".بيننا لغة مشتركة لن يفهمها غيرنا"

نظر إليه ثم إليها مشيراً عليه وقال:
" لكنه شبه نائم...."

عادت تدفعه نحوه ليأخذه غصبا مضيفة على طلبها لتستعطفه:
" هيا خذه قبل أن ينام نوما عميقا كي لا تبقى بباله.....ألا تشفق على المسكين؟!......انظر...مؤسف حاله..!!.."

حوقل وحمله صاغرا....شك لوهلة بخطب ما لكنه لم يناقشها ..فهو واثق خلف هذا الإصرار غرض يهمها ولأنها صديقته التي يحب فما يهمها يهمه !!...وقبل أن يستدير لمح المفتاح الذي كانت قد وضعته على المقعد جانبها ...ضيق عينيه بتركيز ليفرج عنهما باتساع شاهقاً مشيراً إليه هاتفا باستنكار:
" ألمى ماذا يفعل مفتاح سيارة أخي معكما ؟!...هذا الأصلي وهو حريص على الحفاظ عليه خاصة أنه لا يمكن الحصول على غيره إلا من الشركة نفسها في ألمانيا بغض النظر عن سعره الباهظ!!..لذا يستخدم الاحتياط فقط...."

توترت حدقتاها وازدردت ريقها إلا أنها ادعت اللا مبالاة وهي تلتقطه من مكانه:
" لا تهتم !!...لن نأكله! "

همس ناصحاً بطيبة ومحبة:
" أنصحك بأن تعيديه لمكانه.....لا نريد أن نرى الغضب القبيح لأخي عليكِ بالذات....هذا يُحزننا.....أنا وأمي...!!...."

كلام بسيط عفوي صدر منه... رائحة الاهتمام خلف حروفه لامست نابضها.....أشعرها أن هناك من يهتم لأمرها حقاً بشكل خاص....ليس كونها كنة في هذا البيت ولا أم الحفيد....ليست لأنها تابعة لأحد بل لأنها (ألمى) فقط...بشخصها وروحها!!...تبسمت بصدق ولكن الآن هو ليس وقت العواطف عندها !!...فأي شيء يستفزني أو يؤلمني سيكون لعبتها علّها تضمد القليل من قروحها!!...اومأت كأنها ستلبي نصيحته وعادت تحثه لإرسال ابنها حيث أرادت بملامحه النصف غافية فسار بتمهل لمقصده ودلف للصالون !!....ألقى التحية بصورة عامة ولم يبالِ بالضيفة فهو لم يحبها سابقاً وحاضراً وتقدم نحوي يمد ابني لي هاتفا:
" خذ محيي ...يريدك أن تأخذه عند الدجاجات!..."

رفعتُ حاجبي بريب دون أخذه وقلت باقتضاب:
" الطفل نائم...ارسله لأمه!!..."

هتف مستندا على كلامها:
" مؤسف حاله... يثير الشفقة... لا تبقيها في باله ...خذه!!.."

" خذه أنت إذاً..."

" لكنه اختار من منا يأخذه للدجاجات.......وكنتَ أنت!!......."

" شادي..!!...ألا تراني مشغولاً؟!..."

قلتها بحزم فلا وقت لديّ للمزاح والترهات التي يتفوه بها فقال بمكر:
" لا يعقل أن تجعل ابنك ينام وهو يريد منك تحديدا أخذه عندهن!!......هيا أخي خذه لن يأخذ من وقتك"

تململ الصغير بحضنه وفتح عينيه قليلاً....ألقيتُ نظرة نحو الباب مفكراً ووصلت لسؤال طرأ في عقلي لأنني غير مرتاح للموضوع..." أيعقل هذه حركة من تلك ؟!.....هل كشفت عن غيرتها أخيراً وأرادت أن تشغلني به؟!...أم ماذا؟!....."....هذا الاصرار لا يشبه الواقف قبالتي وهذا العناد لا يصدر إلا من رأس ماعز وخاصة معي!!....فشقيقي مطيع لي كأنني والده ...لا يجعلني أكرر كلمتي!!...ولكن يبدو أن سحر الألمى قائما عليه ببراءة ....يحبها ويراها صديقته....ومستعد لخوض مغامرات معها بكل رضا كما أذكر كيف كانا بالسابق !!....انتشلني من تحليلاتي صوتها الانثوي الجريء:
" الطفل لم يكمل سنة....كيف يمكنه نطق كلمات كهذه؟!...أي اختيار ماذا ومن يريد......مستحيل!!..."

رمقها بنظرة مستفزة مع ابتسامة خبيثة هاتفاً ليقهرها:
" نحن نتكلم عن ابن .....ألمى وهادي!!....ذكي لوالديه ما شاء الله!!.....ليس أي طفل أمامك بالطبع......."

نظرت إليه بعدم تصديق واثقة بقولها:
" مهما كان ....لا يمكن أن ينطق الطفل جملة كاملة واضحة بعمره!...."

أخذتُه منه ووضعتُه في حضني فسقط رأسه غافياً...عدلتُ نومته جيداً ليهتف الواقف مستعينا بشريك جديد يدعم كذبته بكل حب :
" نحن حفيدينا لا يشبهون باقي الأطفال ....حتى اسألي سامي عن ابنه سليمان بأي سن بدأ الكلام...!!"

وهنا جاء دور النزول عن وقاره ورزانته وحنكته بالعمل التي رأتها عليه قبل قليل لاعتلاء المسرح والقيام بفقرته المحببة ..التهريج....تنحنح وقال راسما تعابير جدية على تقاسيم وجهه:
" أجل...الأسد سليمان ما شاء الله في سن خمسة شهور سألته من تحب أكثر بابا أم ماما فأجابني.... بالطبع بابا.."

تطلعنا عليه ثلاثتنا بانبهار من عظمة الكذبة فعدل ياقته بحركة تمثيلية وأسند ظهره للخلف متابعا:
" الآن هو في الشهر التاسع من عمره وأصبح يحكي لي قصة جحا وحماره بعد أن قصصتها عليه منذ ولادته حتى الآن كل ليلة !!....لا تستغربي آنسة رفيف!..."

ولأنها ماكرة وذكية....جريئة ومرحة بغض النظر أن ما سمعت لا يقنع طفل قررت انهاء المسرحية هاتفة تجاريهما الكذب:
" أجل صدّقتكم بالطبع فأنا مثلا كنتُ أغني ببطن أمي وأسبب الازعاج لها ولأبي ولا أجعلهما ينامان....لقد أخبراني بذلك!!.."

هتف الأشقر ناسفا الحدود:
" ويحك يا هذه!!...قولي كذبة تصدق...."

وتنحنح مضيفا معترفاً بدعابة مع القاء غمزة عفوية كالمتبادلة بين الأصدقاء:
" يعني عفواً منك آنسة رفيف!!....كذبتنا أقرب للحقيقة."

ضحكنا ثلاثتنا إلا الصامد أمامي لا يخون تلك ولا تلك!!...تطلع على صهره بنظرات مبطنة دون أن ينطق حرفاً وتفكيره يقوده بلؤم .." ماذا لو أخبرت دنيا عن مزاحك معها والغمزة يا صهري العزيز؟!!..".....ها هو أصبح لديه ورقة رابحة يساومه عليها وقت الحاجة!!.....نظرتُ لطفلي وداعبت وجنتيه اللينتين بإصبعيّ اضغط عليهما بلطف فتفاجأت بها تدنو مني أكثر ...ربما بعفوية!!... وشبر يفصلنا...صارت تتأمله بعد أن وضعت الصورتين اللتين كانتا بيدها على الصينية التي تحوي فناجين قهوة مستخدمة وكؤوس الشاي الذي احتسيناه وهمست باسمة وهي تداعب وجهه برقة:
" ما أطيبه تبارك الله ....ما لون عينيه؟!"

" بلون السماء والبحر.... كعينيّ والدته ....بسم الله ما شاء الله من غير حسد....!.."

قالها شقيقي فأكملت ناطقة كلماتها الجريئة توجهها لي غير مكترثة بالمتكلم:
" ربما عينيه كوالدته لكني أراه نسخة عنك بملامحه ....سيصبح وسيما جدا عندما يكبر وتتهافت عليه الفتيات!!..."

وكان غزلها هذا بمثابة تصريح لتنفجر غيرة المختبئة عن أنظاري فتدخل إلينا بكل جسارة مع كعبها الرنّان تمشي بخطى واثقة جامحة لتقف ازائي أنا و(رفيف) والطاولة من خلفها وقبل أن تنحني لتأخذه مني ترفس رجل الطاولة بقوة بقدمها المخفي بفستانها للوراء كي تتخلخل فترتطم الأواني ببعضها محدثة ضجيجا مع سكب البقايا التي داخلها على الصورتين ثم تدعي البراءة كأنها ارتطمت بها غصباً وتستدير ودمائها تغلي من الداخل توحي لنا بأنها تلملم الفوضى.. تحجبنا بجسدها بينما كانت بتكتيك حربي منها تسكب ما تبقى من قهوة وشاي عليهما أكثر وأكثر لتتلفهما كلياً دون إبقاء ذرة أمل بإنقاذهما هامسة بصوتها الرقيق العذب الذي يطرب القلب:
" يا الله...آسفة آسفة..... لقد اصطدمت برجل الطاولة غصباً عني..."

وعادت تلتفت نحونا تسحب ابننا النائم بسلام في حضني ناظرة لي وللقريبة مني بنظرات لو كانت شرار لأحرقتنا هاتفة بجدية تخفي شراسة خلفها:
" عليه أن ينام مكانه.....النوم بالحضن مؤذي لجسده الصغير!!.."

واستدارة أخرى بدرت منها بحركة منفعلة لم تخفها توجه وجهها للباب ثم تلحقها بنصف خطوة تخطوها ليخونها الكعب الذي شبك طرفه الحاد بخيطان السجادة فتتعثر وهي تحمله متشبثة به بقوة بيمناها تزامناً مع سقوطهما وكان حضني هو الأولى باستقبالهما فسمحت لنفسها بهذا الاستقبال مستسلمة وهي تمسك بحركة سريعة بيسراها ياقتي كي تثبت جسدها ولا تصل الأرض وبضع سنتيمترات تحول بين وجهينا فنسيتُ الموجودين ونسيت نفسي ورحت أتأمّلها ممعناً النظر بأناقتها تائهاً بجمال الأحمر على وجهها المشرق ولالتماع السماء ببريق ساحر وهي تسلطهما بعينيّ تخطف نظري بل تسلب روحي مني ضائعة في تقاسيمي ونحن بهذا القرب !!...لم يشعر غيرنا بالرعشة التي سرت بدمائنا نتيجة هذا التماس والالتصاق!! ...خائني يخفق بضراوة مستشعراً دفء جسدها وقلبها لم يقلّ عنه في الخفوق فهدير أنفاسها يشي عن فوضى مشاعرها الحانقة العاشقة وأمنية تجلّت أمامي... أن نبقى هكذا ملتصقين يربط بيننا طفلنا ثمرة حبنا المحشور بجسدينا بالتحام لا انفكاك منه!!...اقترب شقيقي بدهاء من صهري يختار بقعة تسمعه بها ضيفتنا ليقهرها هاتفا:
" أنظر لهما كيف ينظران لبعضهما بكل حب....كأننا نشاهد فيلما رومانسيا!!.....بل واقعهما أجمل وأصدق"
مد يده يمسك له طرف أذنه تحت تأوهاته الصامتة ونهره قائلا:
" هيه أيها الضفدع غض بصرك مثلي ...سيسحقك شقيقك على هذا الكلام....يعني تأدب ....ثم لنا حساب لاحقاً عما تشاهده......فيلما رومانسيا إذاً.؟!.."

طلب منه أن يتركه فهو لم يعد صغيراً وفي سنه يصبحون أكثر حساسية وخجلاً فلم يكترث لطلبه وشدّ أكثر على أذنه ليؤلمه الضعفين وهو يوبخه هامساً:
" اهتم بدروسك بدلاً من مضيعة الوقت على أفلامك المؤذية للمجتمع والمفسدة للأخلاق!!.."

وإلى هنا نفذ تحمله فلم يتردد بإشهار ورقته هامساً بهمس يسمعه وحده:
" سأخبر شقيقتي عمّا دار هنا وعن قربك من الضيفة إن لم تتركني...بل وتعتذر أيضاً !!.."

تهديد خطير !!...لن ينكر ذلك....ولكنه (سامي) الواثق الذي لا يستسلم ولا يحب إظهار ضعفه فقرّبه نحوه ليقول بأذنه:
" سأفلتك فقط كي أمنع شقيقك الأبله من أي تهور يفضحنا ولكن لي عودة لنتابع وسنرى من منا سيعتذر يا ضفدع!!....لا تنسى...أنا لا أهدد بامرأة.."

وتركه بالفعل ثم تنحنح حد السعال يخرجنا من ضياعنا قبل أن نفضح فتململت المدللة في حضني وهتفت غاضبة بحماقة تعيد شخصيتها لسابق عهدها عندما أدركت واقعها متناسية كذبتها لتلك:
" ماذا فعلت ؟!...ألم أقل لك لا تلمسني؟! ...أتركني... لمَ تمسك بي؟!..."

تحت مراقبة زوجين من العيون دون الثالث الذي يغض البصر احتراماً أخفضت رأسي ناظراً ليدها التي ما زالت متشبثة بياقتي لتتبع بنظرها نظري دون استيعاب وهتفتُ بهدوء وعدم اكتراث ولا اهتمام بها متعمداً:
" أولاً فعلت كي لا تسقطي أرضاً فيتأذى الصغير ..ثانياً من منا يمسك الآخر يا ترى؟!..."

غضنت جبينها لوهلة ثم جحظت عيناها شاهقة وهي تعدل جلستها بصعوبة وتستقيم واقفة وتجيب بجدية وأنفة:
" من أجل محيي فقط.... كي لا يقع ويتأّذى....!!"

أنهت جملتها دون انتظار رد مني واختفت من الغرفة بلمح البصر وعيناي تلاحقاها لتعود لمكانها وتضعه في حضنها تطالعه بنظرات أمومية حنونة مع همسة شجية فيها لمحة عتاب وخيبة أمل:
" فشلنا يا صغيري!!...أنت نمتَ وأنا وقعت في حضنه كالبلهاء وفضحت نفسي !...يعني....لا احتفظتُ بكرامتي ولا نجحتُ بتفريقهما!!....."

بعد لحظات قليلة لحق بها شقيقي يحمل الصينية التي تحوي على الكارثة التي أحدثتها!!...رآها عابسة لا حيوية بتقاسيمها ولا بحركتها......دنا منها أكثر ..أطلق صفير خفيف لتنتبه له ولما فعلت همس بعد أن غمزها:
" كانت حركة بطولية منك عندما ركلتِ الطاولة لتتلفي الصور خاصتها"

تطلعت عليه باستنكار وهتفت بدفاعية:
" لقد اصطدمت بها دون قصد ....ما الذي تقوله؟!..."

ضيق عينيه وهتف واثقاً:
" كانت حركتك واضحة لي أنها متعمدة خاصة وأنتِ تسكبين بقايا القهوة والشاي على الصور....احمدي الله أن سامي لم ينتبه لك ....فهو بالنهاية لواء لا تمر عليه تلك الحركات....ولم تكوني لتفلتي من تنمره!!......"

ثم انحنى نحوها ليهمس بخفوت:
" لكن لا تقلقي....أخي والفأرة لم يلحظا ذلك !!..."

افتر ثغرها عن ابتسامة شامتة لما سمعت اللقب ذاته الذي تنعتها به وقالت باستغراب ماكر:
" فأرة؟!....عيب!...لمَ تقول ذلك؟!.."

" تعلمته منك بالماضي عندما أطلقتِه على الآنسة تسنيم! فأطلقته بدوري على هذه المتملقة عندما زارتنا في السابق لأنني كنتُ رافضاً ارتباط أخي بها !...."

هل أدرك أي نيران أجج داخلها؟!...هل سمع صوت انكسار قلبها؟!.....لم يدرك ولم يسمع بل أكمل بعفوية غير شاعراً بالكوارث التي يخلّفها بكلامه:
" الحمد لله أن محاولات عمتي الحثيثة من أجل ارتباطهما لم تؤتِ ثمارها !!.."

" محاولات لارتباطهما ؟!.."....مر السؤال بترجمان عقلها فاستوعبت ماهيته !!....إن أخفت الانفعالات التي بدأت تعانيها لن تخفي اكتساء وجهها بالأحمر ولا الاهتزاز الذي رافق صوتها عندما سألت بهدوء كابدته كي تتجنب لفت انتباهه بما تعيش هذه اللحظة:
" لمَ...لمَ....لمْ...تؤتِ ثمارها؟!.....ألا....تراها؟...مُ? ?ا...سبة.؟؟...لشقيقك؟!.."

وتحشرج صوتها اكثر وبرقت مقلتاها بدموع وهي تصارع ألا ترمش كي لا تتيح لها السقوط بينما رسمت ابتسامة اتخذتها درعاً لكرامتها تمثل اللا اهتمام وهي تستطرد:
" كانا سيصبحان ثنائي متكافئ.....شخصيتان قويتان...قياديتان....أبناء عز....شهادات جامعية وأدوار مهمة !!...و....و...ر...رفيف جميلة ...أي شاب يتمنى الاقتران بها....."

عبسَ بضيق من كلامها وما زال لم يشعر بالخراب الذي عاثه داخلها وأجاب معاتباً بكلام يسبق سنواته الثلاثة عشر فهو يمتلك نباهة موروثة مميزة تبرزها جرأته:
" كيف تقولين هذا؟....هو زوجك أنتِ......ألا ترين كيف يحبك؟!....لو كان معي هاتفي لالتقطت لكما أجمل صورة حب قبل قليل لا يخطئها عاقلاً كان أو مجنوناً !...كم كانت ستكون رائعة ومحيي معكما!!...أرجوكِ ألمى لا تتحدثي هكذا.... تشعرينني أن لا قيمة لشقيقي عندك بينما هو مستعد أن يحارب العالم لأجلك !......لقد رفض الإتيان بسيرتها آنذاك قطعاً حتى أنه ولّى زوج شقيقتي متابعة العمل معها بدلاً منه لأنه لا يخون حبه لك وجميعنا نشهد..!!....هادي لألمى وألمى لهادي....حقيقة لا يمكن التلاعب بها...."
همست في سرها بعد أن وازنت الأمور.." إذاً لهذا وصاه صديقه بأن يعاملها بلطف!!...يا ترى كيف كانت علاقته بها؟..."

عادت ناظرة للذي أمامها ...لو كان غيره من ألقى عليها هذا الخطاب لصفعته به في وجهه رافضة هذا الكلام ومتهكمة لكنها لا تعلم أي راحة وأي انجذاب تجدهما معه هو خاصة وتتقبل منه ما ينطق برحابة صدر!!... رغم قلة اللقاء في الماضي وحداثة اللقاء في الحاضر.!!..الكيمياء بينهما نادرة ومميزة.....تشعر كأن بينهما رباطاً عميقاً يشبه رباط الدم!....شعور افتقدته بحياتها ولم تجربه آنفاً ....أيعقل هذا هو شعور الأخوة فعلاً؟!....هل أخيراً سترسو سفينتها الأولى في الميناء وعند أول انتماء صادفها بنقاء؟!! .....بعد أن تاهت بأحاسيسها نحوه أهدته ابتسامة صادقة مرتاحة نابعة من أعماقها ....لم يهمها الكلام نفسه بقدر اهتمامه الحقيقي بها ومراعاته من أجل توطيد علاقتنا معاً..!!

استقام منتصبا والصينية ما زالت بيديه ليقول بمكر ونبرة أخرى يبتزها باستغلال بريء عند تذكره ما ينتظره:
" ماذا تفعلين لو أخبرتُ شقيقي عن حركتك المتعمدة واتلافك للصورتين؟!..."

رمقته بنظرة مصدومة ثم قطبت حاجبيها وحاولت مداهنته بإباء:
" أنت أكبر من أن تفعلها !...شادي!!.....أعلم ذلك!.."

بنظرة ونبرة ثعلبية أجاب :
" لا تثقي....فأنا أريد المقابل للصمت!.."

ضيقت عينيها تسأله:
" ماذا تريد؟!.."

تلفت حوله بحذر يتأكد من خلو المكان وانحنى نحوها هامساً بخفوت:
" لديّ مهمة لغة انجليزية طباعة على الحاسوب وعليّ تسليمها بعد غد!....شقيقي هددني إن لم يجدها على طاولة المطبخ صباحاً سيحرمني من جهاز الألعاب الالكترونية ( PlayStation)....وأنتِ تعلمين العداوة التي بيني وبين هذا الموضوع!.....هل يمكنك مساعدتي عليها؟!.."

سألت بريب:
" وإن تم كشفنا؟!.."

همس ناظراً صوب باب الصالون:
" أمي تلزم غرفتها بالعاشرة مساءً تقريبا....المهم أن لا يصعد أخي فوق....علينا التأكد من استقراره بغرفته بالأسفل!...تأتين لغرفتي وهما نائمان!....ماذا قلتِ؟!..."

شردت برهة بالليلة الماضية وما حصل بيننا وقسوتها معي...ارتجف قلبها كمداً على حالنا! ولأنها تعلم علم اليقين عن كبريائي اللعين أجابت واثقة:
" لن يصعد شقيقك!....اطمئن....سآتي وهما نائمان!.."

رفع حاجبه متشككاً وقال:
" لمَ أنت متأكدة لهذه الدرجة؟!.."

أشاحت وجهها جانباً بشيء من الندم وتمتمت:
" متأكدة وكفى...!..لا تسأل"

اومأ برضى وتركها متجهاً للمطبخ ثم ليتابع ألعابه الالكترونية فعادت تركز نظرها على من بين يديها نائماً وفكرها شارد بأفكار تملأها الغصات!!....الأمس وعلاقتنا....موقفها المحرج الذي فضحت به نفسها أمام ضيفينا وبالذات (رفيف).!!....ثم كلام (شادي) عن موضوع الارتباط بغريمتها سابقاً!!..وأخيراً عن عدم قدرتها على الاتصال بوالدها!!.....زفرت أنفاساً أثقلتها ولم تعد تهتم بمراقبة ما يدور في الداخل لتتفاجأ بي أمامها عندما آثرتُ الهروب من تلك التي خنقني وجودها تاركاً إياهاً لحنكة الأشقر ودهائه بعد أن أشرتُ له بعينيّ لاستئناف ما تبقى معها!!..

" لماذا ما زال الطفل في حضنك؟!...ألم تأخذيه لتضعيه بالسرير؟!.."

رفعت حدقتيها برخاوة هادئة ورفرفت بأهدابها دون اهتمام!!....وسحقاً...سحقاً لقلبي الذي رفرف عشقاً بسماءيها الهادئتين!!....لم تنبس حرفاً كرد على كلامي بل استقامت واقفة واستدارت وقد قرأتُ على هامش وجهها خربشات حزن !...وقع المفتاح الذي كان مستقراً على طرف فستانها!...فاتسعت عيناها اللتان تتركزان عليه رهبة بينما ضيقتُ خاصتيّ مفكراً ماذا يفعل هنا؟!....احنيتُ جذعي التقفه وتنهدتُ يائساً ثم همست بهدوء لم تتوقعه مني بينما كنتُ أبسط كفي التي تحوي المفتاح ازائها:
" ألم تسأمي من ألعابك الرخيصة هذه؟!....."

اقتربتُ اكثر منها متابعاً وهي تنقل حدقتيها لوجهي مرة والثانية ليدي:
" إلى أين تريدين الوصول؟!...ما هي ردات الفعل التي تنتظرينها ؟!.....هل تخريب ممتلكاتي يشفي غليلك مني؟!....إن كان كذلك سأحرق البيت برمته !!...أترغبين بهذا؟!..."

ارتجا بؤبؤيها ارتجاجاً يصاحبه لمعاناً وردت بجفاء من بين أسنانها بعد أن كوّرت قبضتها لتطرق فوق قلبي بتلاحق قبل أن تسرع بخطواتها الحذرة غائبة عن بصري:
" لن يشفي غليلي إلا حرق قلبك كما أحرقت قلبي!....هيا عد لضيفتك... لا يليق بك التأخر عنها !!..."

لاحقتُ طيفها على السلالم وتمتمتُ بخفوت قانطاً:
" ألا تعلمين أنك تحرقين قلبي فعلاً كل يوم منذ فراقنا حتى هذه الساعة؟!......صبرٌ جميل والله المستعان"

هززتُ رأسي بأسى ونكسته أسير بتراخي حتى وصلتُ باب الصالون ثم شحنتُ قوتي وعزيمتي ودلفت إليهما بشموخ فهتف سيادة اللواء:
" تحدثت الآنسة رفيف سلّمها الله مع القاضي السيد إسماعيل لتأجيل جلسة المحكمة لأسبوعين آخرين مثلما طلبت وقد وافق بارك الله به...من حظك....يمكنك السفر بسهولة إن شاء الله..."

اومأتُ إيجابا مع ابتسامة طفيفة تلوح على وجهي مجاملاً وقلت لها:
" سلّمك الله....أسديتِ لي معروفاً فلم أتوقع أن يكون الموعد في اليوم الذي سأكون مسافراً فيه...أي بعد يومين!!..والحجز كان قد تم بغض النظر أن هناك ضرورة لا تقبل التأجيل!!..."

ابتسمت مجيبة بمزاح دون أن تخوض باستفسارات عن سفري تحترم بذلك خصوصيتي:
" على الرحب والسعة سيد هادي....المهم رضاكم عنا!.."

ورتبت بضع أوراق على فخذيها ثم وضعتهم بملف خاص ومدته نحوي هاتفة:
" هذه النسخ ابقها معك!.....ومثلما قلتُ لك... الأكيد ستكون غرامة مالية كبيرة كتعويض للسجين فحسب التقارير الطبية أنت أوصلته لحالة يرثى لها وكذلك حق الدولة !....تبقّى الحكم الآخر لا أعلم إن كان إيقافك لثمانية وأربعون ساعة وأكثر بمركز السجن الأمني أم إبعادك عن العاصمة لمدة محددة لكني سأبذل جهدي ليكون إبعاد فقط إن شاء الله دون توقيف !..."

في الأعلى بعد أن وضعته على السرير لم يكن يرتاح لها بالاً وفكرها مشغولاً بالضيفة اللدودة التي ما زالت متواجدة في محيطي!!....ألقت على ابنها الغافي نظرات حزينة...وضعت يدها على ظهره وهمست بابتئاس جزعة وكأنه يصغي لها:
" لم أعد أعرف كيف أتصرف.....يقترب مني فأتكهرب واصده عني بقسوة ونفور ثم في بعده أندم وأناشد قربه وغمره لي بأحضانه احتياجاً وعشقاً!...تناقض متلف للأعصاب...انفصام مشاعر.....لمَ يحصل هذا لي؟!....لمَ السد الذي بيننا صلباً لا يتزحزح ولا ينهدم ؟!..."

زفرت نفساً من رئتيها لحقته عبرة وأختها من عينيها ثم رفعت كفها حتى استقرت فوق الرابض بين أضلعها متابعة:
" ما زال قلبي يؤلمني ونبضاته مشتتة يا صغيري....لم يشفَ بعد ولم أستطع لملمة هذا الشتات.. !!..."

لاذت بالصمت للحظات ثم قررت النزول للحديقة لتستنشق هواءً نقياً بين الزهور والأشجار علّها تشحن طاقتها بعد أن اطمأنت من نومه العميق!.........لقد سلّمت عتادها بحربها لليوم ولم يعد لها طاقة على النزال لذا اجتازت الغرفة غير مبالية بنا ظاهرياً أما باطنياً قلبها يقاوم تحت الأنقاض! ...فتحت باب المدخل واغلقته بهدوء متسللة كي لا تشعرنا بخروجها...ليست هاربة لكنها ترغب ببعض الخصوصية لنفسها .....كان الليل قد أسدل ستاره بعد أن رحلت شمس الغروب والبدر يضيء الساحة والحديقة بسخاء يرافق المصابيح المزروعة بين أحواض الورود لتنير المكان باستحياء....النسمات عليلة والأجواء جميلة....أغمضت عينيها وأخذت شهيقاً فزفير لتحبس رائحة العشب الرطب مع شذى التراب المبلول الذي يملأ الاطراف ويحتضن المزروعات بفعل الرشاشات المائية ....شعرت بدغدغة سرت بعروقها تحثّها لتمشي حافية القدمين فوق العشب...خلعت كعبها وتركته على القسم المبلط وقشعريرة لذيذة باغتتها لحظة التحام لحم قدميها بالطبيعة العشبية....برقة ونعومة وبراءة تتهادى بمشيتها.....انتبهت لصوت وضوء فتح سيارة الضيفة على جهاز التحكم خاصتها والتي كانت تصطف بالساحة خلف سيارة (سامي)....كشّرت وجهها بردة فعل لا إرادية!...تمتمت شاتمة تنعتها بلقبها:
" فأرة بغيضة!...ذهاب دون رجعة إن شاء الله"

تنهدت بارتياح لانتهاء اللقاء ولحظة رحيل العدوة وعادت لتتمشى متجاهلة وجودها فسرقها التفكير للبعيد حيث يقبع والدها!.....صارت تبحث عن أي وسيلة وأي حل بين أروقة عقلها لتتواصل معه أو مع السجن للسؤال عنه وعن صحته!!....أحبِطت لما وجدت فراغ يسود رأسها لا تهتدي لحل يريحها!....أجفلت مستديرة عند سماعها تلك الكلمات:
" لم يكن هناك داعي للتمثيل لتريني عائلتكم السعيدة!.."

لم تتوقع أنها لمحتها في الحديقة خافتة الاضاءة ولم تنتبه لوصولها إليها ....والأهم لم تفكر بأنها ستكشف أوراقها وتشهرها بوجهها!!.....ازدردت ريقها بخفية وغضنت جبينها ثم كافحت أن تخرج حروفها ثابتة:
" أي تمثيل تقصدين ؟!....لا أفهم عما تتكلمي !.."

واقفة بإباء وبحركة عفوية ضمت طرف جاكيتها الخفيف الأبيض للطرف الآخر وهي تجيبها بنبرتها الواثقة:
" سيدة ألمى!....تفهمين عما أتكلم....وأنا جئتُ لأقول لكِ لا ترهقي نفسك عبثاً....فزوجك لا يرى غيرك!....لكن .."

ورفعت زاوية فمها بابتسامة مائلة تناظرها من الأسفل للأعلى بلمحة استصغار مضيفة:
" إذا استمريتِ بتصرفاتك الطفولية ربما تخسريه....نصيحة.. اهتمي به وحافظي على حبه لكِ !!..."

اثيرت حفيظتها لكنها رسمت هدوء على ملامحها فلن تسمح لها أن تنغص عليها شعورها الجميل الذي كان قبل اقتحامها لها فردت بهدوء :
" عفواً منكِ...ربما الذي ترينه تصرفات طفولية هو الذي أطاح بقلب زوجي!....فلا تحكمي على شيء لم تتعمقي به من قريب!....ونصيحة مني أنا.....لا تدخلي بين الزوجين تطفلاً !....فهذا لا يناسب مهنتك آنسة...رفيف!.."

ظلت ثابتة دون أن تتقلقل ثقتها بنفسها بينما الأخرى كانت تناضل مكانها تحاول المحافظة على هيئتها الساكنة زيفاً لتهتف الأولى ببرود:
" قدمتُ لكِ نصيحة لتستغلي الفرصة.....الحال يتغير والمشاعر تتبدل وصبر الرجال على نكد المرأة أو تصرفاتها غير المسؤولة له حدود......تعلمين أنا محامية ومر عليّ قضايا طلاق عديدة أو خيانات زوجية وكانت معظمها تتمحور على نفور الرجال من البيت بسبب المرأة.....هذا ما عندي وأنتِ حرة !.."

من يسمعها يظن بها خيراً لا تشبه شائبة لكن المقابلة لها لم ترتح لحديثها معتمدة على حدسها وليس غيرتها الفطرية فقط!!.....شعرت أن نصائحها هي فقط قناعاً تجمّل به سوء نواياها وأرادت أن تتأكد من ذلك باستفزازها غير الصريح:
" شكرا لكِ على النصيحة....لكن كلامك هذا ينطبق على أناس آخرين.....فأنتِ لا تعلمين من هي ألمى ومن هو هادي !....نحن لا نشبه غيرنا!....مهما توترت علاقتنا لن نكون إلا لبعضنا إن شاء الله !!.."

ومضة غيرة حسودة حقودة ومضت في صدرها....هي بالكاد تقف معها...لا محبةً بها ولا كرماً من أخلاقها ....بل لتوصل رسالتها التي تريد فبحنكتها تستطيع لجم تلك ببراعة ....لقد استطاعت قراءة شخصيتها الانفعالية النقية في الماضي والحاضر...شخصيتها التي تفضحها...لم تتغير كثيرا كما توقعت بالبداية...لا تجارب لها بالحياة وبالناس....والسبع سنوات فارق العمر بينهما له دور كبير باكتساب الخبرة بغض النظر عن طبيعة عملها والبيئة المحيطة بها !!...بحذر بالغ ألقت نظرة للخلف ثم أعادت وجهها إليها هامسة بصفاقة سافرة أقرب للفحيح:
" ربما لا أعلم جيدا من هي ألمى....لكني أعرف قلباً وقالباً من هو هادي!....كنا صديقيّ طفولة ونسب يربطنا ...فرقتنا السنين والمسافات لكنّا عدنا لنلتقي وسنلتقي ونلتقي....ستجمعنا الأعمال من حين لآخر إن شاء الله.........هو رجلاً ...ليس مثالياً ولا نبياً....يخطئ ويصيب لكن أي فتاة تتمنى الحصول عليه...لا يمكن لأحد انكار ذلك؟!...من تتخطى دوره العظيم...كقائد.... ونسبه المشرف... ابن قائد...جذاب للأنثى بوسامته ورجولته الحقيقية...حفاظه على دينه....وسأترك الكلام عن الماديات التي يمتلكها لأنها صراحة لا تهم بقدر شخصيته ...لذا.... لا تكوني واثقة بما بينكما لهذه الدرجة...فلكل جواد كبوة..... وربما ....ستجد امرأة ما... كبوته...!."

استرسلت بكلامها الوقح ولم تترك حيزاً بين الحروف لترد الأخرى عليها وقد كانت مع كل كلمة تلقيها على مسامعها تشعل الفتيل عندها ليندلع غضب مستعر داخلها فيؤدي لرجفة بأوصالها وتتوحش عيناها ثم تنطلق الكلمات من حنجرتها مهتزة مع هدير أنفاسها :
" لم أرَ بحياتي من هي أوقح منك!.....كيف تتجرئين على نطق هذا بكل فجور؟!.....كيف تسمحين لنفسك التحدث عن رجل متزوج بهذه الأريحية أمام زوجته؟!.."

ابتسمت بكيد وردت ببرود:
" في الحقيقة لم أفكر بأنه سياتي يوماً وأضع رجلاً متزوجاً في بالي أبداً....حتى لو كان هادي نفسه....أحببته سابقاً ولما رأيتُ حبه لكِ حاولتُ التنحي جانباً...لكن لا سلطان على قلوبنا ...تضاعف حبي له داخلي يوماً عن يوم ولم يملأ عيني أحدٌ سواه وعندما أمسك منصب رئيس الأركان لم استطع كبح مشاعري وأنا أراه في تلك الهيبة والمكانة فاعترفتُ لوالدتي بذاك العشق الخفي وخاصة كنتُ أعلم أنكما شبه منفصلان لذا تجرأتُ على ذلك .....إرادتي بالحصول عليه تضاعفت ولكني صُدمت عندما وصلني خبر عودتك للبلاد مع ابنه الذي خرج من العدم !....وفي النهاية اقنعتُ نفسي بأن لا ضير بذلك.....الشرع حلل أربعة ولن أمانع لو كنتُ له الزوجة الثانية أو الرابعة.....المهم أن يكون لي نصيباً به!..."

ارتفع عندها منسوب الغضب وكان قلبها يعج بالصخب ...حارت بأي شيء تقذفها؟...أبحجر تفلق رأسها أم ترميها بألسنة اللهب؟!....لم تراها هذه اللحظة إلا كفتاة عاهرة تخطت حدود الأدب ...ولن تسمح بأن تظهر طفوليتها فتهزم أمامها وتكون كالطالب الذي رسب ....شقت ثغرها بابتسامة منتصر عدوه قد انسحب وهتفت متحدية ورأسها بالكبرياء انتصب:
" وفري جهدك لنفسك....كان معك فرصة كبيرة لتحاولي الوصول إليه بغيابي كل هذه الشهور.....لكنك تعلمين كما أعلم أنه رفض الارتباط بك وبغيرك....لأن اسمي موشوم في قلبه وعشقه لي متجذر بين حنايا روحه....هو قالها بلسانه لا قبل لي عنده ولا بعدي.....ولأنه رجل حقيقي كما قلتِ ....إذاً قوله يكون ميثاقاً لا يقبل الشك فيه.....شهور من البعد والجفاء ولم يخن....كيف لو الآن وهبته نفسي واسقيته من نهر حبي بكرم وعطاء....هل برأيك سيفكر بغيري؟!...."

ورمتها بغمزة واثقة مردفة بجرأة :
" قررت الاستماع لنصيحتك!...سأبعد النكد عن حياتنا.....والليلة بالذات سأجعله في فراشي يتمرغ بين أحضاني ويطلب مني المزيد!....ربما نأتي بشقيق عاجل لصغيرنا.....من يدري؟!.."

رفعت سبابتها أمامها بعد أن تسربل إليها القلق من الخسارة وتملّكتها الغيرة أكثر ثم شملتها بنظرة زاجرة دونية لتستطرد هاتفة بتهديد كان عليها لزاماً تثبت به أوتاد قوتها الهشة:
" لا تتحدي امرأة استوطنها الأمان وهي على صدره وقلبها مغمور في عشقه وذاقت حلاوة قربه....لا تدوسي لها على طرف....ستكون محاولتك محفوفة بالمخاطر فالحدود وحدها عبارة عن حقل ألغام....."

التمعت عيناها بحسد جليّ لكنها مصرة بعناد وقح فهي التي اعتادت رفض الهزيمة والاستسلام في العمل....كيف سترضى بها في العشق؟!..مالت بجذعها نحوها بنرجسية لتهمس بخفوت سام راسمة ابتسامة أفعى على محياها:
" المغامرة في طبعي ...واللذة في الصعوبة وبصراحة لأصدقك قولاً المنافسة من أجله تستحق المثابرة والعناء والصبر اللا محدود ...في النهاية هو يحتاج لامرأة شاملة الامكانيات....ليست دمية ساحرة فقط تفتقد الكثير!....وهذه الامكانيات عندي أنا الحمد لله.....حسب ونسب وعراقة....مستوى تعليمي يليق به....حضور قوي ولباقة ....ثقة بالنفس واهتمام بالذات كالأناقة وغيرها.....امرأة يخرجها للمجتمع فخوراً بها...."

هي تغلي كالشاي بالإبريق فوق النار والمقارنة بينهما أربكتها وأوهنتها فتغلغل الخوف في كيانها...لا ثقة لديها بنفسها....من كل ما ذكرت لا تملك سوى الجمال والباقي معدوم عندها هذا تقييمها لحالها!...اكتست تعبيرات وجهها باستياء صريح وهتفت بدفاع بائس:
" ألا تخافين من إخباري له بكل كلمة تفوهتِ بها أو حتى لوالدته؟!.."

رفعت حاجبيا من فورها برفض مجيبة دون تردد:
" كلا....نقل الكلام اختصاص الأطفال والنساء المتفرغات اللواتي لا هدف لهن بالحياة ولا امكانيات عندهن...يتخذن هذا الطبع وسيلة ليغطين على فشلهن بالمجتمع!...وإن أخبرتهم ستؤكدين صحة ما ذكرت....تصرفات طفولية...وامكانيات مفقودة!..."

ثم استقامت بهامة مرفوعة تخرج تنهيدة ضجرة لتضيف بكذب تحمي به نفسها فهي تجيد التلاعب بها بما يدعمها:
" وإن حدث ونقلتِ ما جرى بيننا ربما يكون خير لي...ستسهلين عليّ الطريق للوصول....سنتواجه وسأبوء له بكل ما بقلبي وأقنعه بوجهة نظري!..."

ضحكت ضحكة ساخرة طعمها علقم مر تساند بها روحها المكتوية بنار الغيرة ونفسها الغارقة في ضعفها اللعين وهتفت بصدق دون تمثيل:
" لن أخبره....ليس من أجل ما قلتِ أولاً ولا آخراً....بل من أجله هو وابنه فقط....لا أريد أن أدمر العمل الذي بينكما ...فلو علمَ بكل ما جرى أستطيع تخمين إلى أين سيصل بردود فعله المتطرفة وسيؤذي نفسه ....لن أخسره قضيته بسبب امرأة جشعة قليلة تربية......حالياً... لن أفسد العلاقة بينكما .."

قالت متهكمة تخفي قهرها الحقود لتستفزها ليس إلا..:
" تساعديه على كسب قضيته ضد والدك؟!.."

غصة اختلجت صدرها آلمت قلبها على سيرته إلا أنها أجابت بصمود تحسد عليه:
" أبي يبقى أبي مهما كان لكن في النهاية كل منا سيأخذ نصيبه في هذه الحياة وكل مذنب يستحق العقاب ...نحن لا نعيش تحت قانون الغاب..."

شحب وجهها وعبست ملامحها ...لم تتوقع مثل هذا الرد منها...كانت تنتظر ثورتها....شتائمها...بكاؤها عليه....لكنها صدمتها....حقاً أذهلتها وما زادها غلاً وجعل قلبها ينبض وجلاً هي عند وصول نبرتها الصافية الى مسامعها والتي ترافقها رائحة شماتة مصحوبة بثقة ويقين :
" وأنا أتوق لأرى كيف سيكون عقاب ذنبك الذي تستحقيه على يديه حين يحين الوقت!.....والأيام بيننا إن شاء الله.."

وافترقتا بهدوء بعد افتعال إعصار بالقلوب والأنفس....خرجت الضيفة الوقحة من الساحة بعد أن فتح لها الحرس البوابة الكبيرة....ظلت الأخرى واقفة مكانها تقلّب الكلام الذي دار بينهما في عقلها...توغّر صدرها من كثرة التفكير الذي لوّث نقاء الجو....ألقت نظرة متفحصة نحو البيت والمدخل وقررت العودة لطرد طاقتها السلبية من جسدها واستبدالها بإيجابية تستمدها من العشب الرطب الذي دغدغ روحها قبل مواجهة البغيضة....رفعت طرفيّ فستانها الأبيض وكشفت عن ساقيها الحليبيين شبراً ونصف....وقفت على رؤوس أصابعها وبدأت تتمشى بخفة كالفراشة رافعة رأسها مغمضة عينيها تستشعر اللحظة وأخذت تدندن دندنة غير مفهومة بصوتها العذب لتلهي نفسها عما يؤرقها ويرهقها.......خرجنا أنا وصديقي والنية الذهاب لصلاة العشاء بمسجد الحيّ ....ركب سيارته واستدرتُ لأجاوره المقعد وبآخر لحظة لمحتها تتفتل غندرة فوق العشب في الحديقة وكأنها تعزف على آلة موسيقية بمهارة عازف...وكانت تعزف حقاً....تعزف على أوتار الخائن الذي جعل روحي ترقص مبتهجة عشقاً وهياماً....أملت جذعي نحو نافذة الباب قائلاً:
" اذهب....سألحق بكَ .."

تطلع بريب وسأل:
" ما بك غيرت رأيك؟!..لم يتبقَ كثيراً على رفع الأذان"

قلت:
" لديّ عمل صغير سريع....سأنتهي منه وآتي بإذن الله!.."

شغل المحرك وهو يومئ برأسه إيجاباً وأدار سيارته خارجاً من الساحة....لم أبقَ لأنعم بهذا السحر الذي تنثره في فلكها وإن كان واجباً وحقاً الامتثال امامه احتراماً وتقديراً....بل الغبية أثارت حفيظتي!...تكشف عن ساقيها وتتمايل بمشيتها وهي بالخارج ...والخارج ليس أمان من الأعين ...فبيتنا محاط بالحرس من خارج الأسوار الشبيهة بأسوار القلعة واثنان منهما يبقيان في الداخل ليلاً فقط يجولان في ارجاء الساحة حذراً من أي تسلل غريب! ولأن ليس من عادتها الخروج لم تكن تعلم بهذا النظام...من الجيد أنه لم يكن أي منهما في هذه الأثناء بالمساحة التي تحتلها...تقدمتُ بخطواتي الثابتة لأردعها عن حركاتها التي تستفز مشاعري ولأزج بها للداخل حفاظاً وخوفاً وغيرةً عليها من أي عين قد تراها فتؤذيها وقلبي سوياً....عند اجتيازي الساحة بهدوء وصولاً للممر المبلط الموصل للحديقة حيث كانت دون الإتيان بأي صوت من قدميّ لمحتُ خيال ما....عدتُ خطوة وإذ بي أجد أحد الحارسين يتكئ على جذع شجرة الزيتون المعمرة ...يراها ولا تراه ورؤيتها في دستوري جريمة ...كيف وإن كان خيانة للبيت وصاحبه....للعمل وواجبه...للدين وحرماته.....كيف إن كانت نظرته نظرة مرضية...يراقبها متسلياً ..لا يسمع دندنتها بل يترصد حركتها وهي لاهية بعالمها....تصلبت عضلاتي تحفزاً....ثارت دمائي غيرةً... قست عيناي لتقذف لهباً...هدرت أنفاسي سخطاً لأخرج أول صرخة أخصها بها:
" ألمــــى....إلى الداخل فوراً..!!.."

لم يدرك هفوته ولم يقدّر حجم جريمته....ظن أنني لم أرصده فتحرك متسللاً ليبتعد عن المكان!.....كانت قد توقفت تحرر فستانها المرفوع مجفلة ..انحسرت الابتسامة التي كانت تزين وجهها قبل ثواني وتركزت أنظارها على جسدي المنتصب بين ظلال الأشجار ...ولأني غارقٌ في لجة غضبي مستثار الحمية شعرت أن حركتها متوقفة فكررتُ ندائي لتتحرك تخطو شبه متعثرة متعجبة من حدة صوتي....وصلت كعبها ولم تنتعله...حملته وأسرعت خطاها ....أقبلت إليّ شبه لاهثة تزدرد لعابها كأن وجهي ينذر عن كارثة ...تلكأت لما دنت مني بشحوب....أفرجت شفتيها لتسأل أو ربما لتعاكسني بعنادها....لم أعطها المجال عندما عقدتُ ما بين حاجبيّ بشدة رافعاً سبابتي أمام فمي هامساً بأمر حاسم:
" ششش....ولا كلمة الآن....إلى الداخل فوراً ..."
" لـِ...لماذا؟!....بماذا اخطأت؟!...."

اغتصبتُ المسافة القصيرة بيننا وأسرتُ ذراعها بقبضتي أسحبها للداخل هاتفاً بغضب:
" قلت للداخل دون كلمة....فقط مرة واحدة فاجئيني بطاعتك!!.."

تسيرُ معي وهي هلعة الملامح وعيناها تزيغان بألم لتقول:
" تؤلم يدي....اتركني....ماذا حصل؟!.."

لم انتبه لقبضتي القوية التي تضغط على ذراعها الرقيق....مدرك أن لا ذنب لها بما حصل ولكن لا صبر لدي للشرح....أفلتها مني عند وصولنا درجات المدخل القليلة مشيراً للباب هاتفاً بحزم:
" يكفي تحقيق....ادخلي حالاً.."

وتركتها مدبراً اصك فكيّ بغل مرير والشرر يتطاير من عينيّ حتى لحقتُ بالخائن الذي يتعدى على حرمات بيتي ولم يصن أمانتي وقبضته من خلف ياقته حيث كان يقف مع زميله ثم أدرته مسدداً له لكمة على خده ولحقتها بثانية أقوى من أختها على الآخر لأعود وأمسكه من تلابيبه أهزه بقوة هادراً به:
" طلبتُ رجالاً للحراسة لا ديوثين ....إن لم تتمكن من صون نظراتك عمن يخصني هل ستقدر على حمايتهم وحمايتي؟!....لا أريد أي كلب منكم يخطو لداخل البوابة وإلا قسماً أنسفكم جميعاً..."

بقيت ممسكاً به ورمقتُ الآخر بنظراتي الساخطة وقلت:
" اتبعني أنت الآخر.....لا حاجة لوجودك هنا !!.."

تلعثم قائلاً:
" سيدي لم أفعل شيئاً...."

الرجل هذا صادقاً لقد انتبهت سابقاً لالتزامه بالصلوات وقراءته للقرآن حتى نظراته مريحة ولكن لم أعد أرغب بوجود غرباء داخل محيط بيتي!!...لن أجازف للوثوق بأحد!!...فإن لم أغر على نساء عائلتي على من قد أغار؟!.....أجبته بجدية والأول ما زال محاصر بيدي:
" أعلم...أنت لا تشبه هذا الحقير....لكن توزيعكم سيتغير....اتبعني!!.."

سحبته بقساوة أخطو بملامح وجه حادة تنزف بغضاء وهياج ولما وصلتُ البوابة الكبيرة صرخت منادياً:
" سيد أسامة تعال حالاً..."

فتح البوابة الصغيرة المتواجدة داخل الكبيرة وضرب تحية العسكر هاتفاً:
" احترامي سيدي....اؤمرني!.."

تطلع مرتاباً على الذي بقبضتي والآخر فدفعت الأول نحوه باشمئزاز آمراً:
" هذا الكلب إما أن تسحب منه رخصة الحراسة أو تضعه لحراسة بيت مسنين أو رياض أطفال...فقط!....لغير ذلك لا يصلح!..."

سأل مستفسراً:
" خير...ماذا فعل؟!.."

" لا يهم!.....يكفي أنني أنا أعرف!!.."

قلتها ووليتهم ظهري ماشياً بإباء فلمحت الفضولية ذات رأس الماعز ما زالت على المدخل تراقبني من بعيد ولما رأتني مقبلاً فتحت الباب مهرولة لتصعد السلالم هاربة وتعتكف بغرفتي المحتلة!!...

×
×
×

صلينا العشاء في المسجد أنا وأصدقائي الثلاثة ثم دعوتهم لشرب كأسٍ من الشاي مع كعكة صنعتها أمي بعد أن أرادوا الاستفسار عمّا حدث اليوم مع (رفيف) بشأن قضيتي!!...كانت شقيقتي قد جلبت ابنها اثناء صلاتنا لمعرفتها بنية زوجها للعودة عندنا!!....العلاقة بينها والمدللة ما زالت كما هي!...جافة....لا كراهية بها ولا محبة...لا تنافر ولا تجاذب!!...أساساً لا تلتقيان بسبب اعتكاف تلك في الطابق العلوي!!.....كنتُ قد تكلمتُ معها بشأنها هاتفياً لكني سأترك لها مساحة لتتقبل الأمر تدريجياً.....فلا يمكنني فرض العلاقات فرضاً...المهم أن الوضع مستتب لا خطر شجارات!!.....دخلنا غرفة الصالون وكانت حالته فوضوية لحد ما فهتف (أحمد) موجها كلامه لي ولصهري بشيء من الجدية لأنه شخصاً منظّماً لدرجة كبيرة :
" مسكينة خالتي عائشة .....أنظرا حجم الدمار ألذي يسببه ابنيكما بألعابهما..."

كانت الألعاب مبعثرة هنا وهناك فقد كان شقيقي يداعبهما في هذه الغرفة ونحن في الصلاة أنا والأشقر فلحق(بلال) شيخنا الوسيم قائلا بنبرة مرحة:
" معك حق....لوهلة شعرتُ أنني داخلاً لحضانة أطفال!!..."

اجتازهما الغليظ يسبقهما مرتمياً على الأريكة الطويلة بوقاحة متوسداً ذراعيه غير مهتماً بهما بعدما هتف بلا مبالاة موجها كلامه للأخير:
" لنرى بيت الخالة أم سلمى إن شاء الله بعد أن تفقس صيصانك ....لا تتبجح قبل أن تجرب!!..."

أمسكتُ مخدة عن أريكة أخرى وألقيتها عليه هاتفاً:
" عدّل جلستك....ما هذه الوقاحة يا رجل.؟!.."

ثم أشرت للآخرين بالجلوس فردّ الأشقر:
" ما بك مهتماً يا هذا وكأن أشخاصاً مرموقين في ضيافتك؟!..."

وحرر إحدى ذراعيه مشيراً دون اكتراث ناطقا بلهجة ساخرة:
" أنا تعبان ...ما زلت مستيقظاً منذ الفجر وكل ما في الأمر .....أن بلبلاً وغراباً جاءا ليطفحا من الكعكة التي صنعتها عيوش لي!!....فتخيّل أن احترمهما!!.."

استقر كلّ منا في مكانه نتجاذب أطراف الحديث بعد أن عدّل (سامي) جلسته وتناقشنا عن القضية ومرّ بعض الوقت فدخل أخي يحمل (سليمان) ابن شقيقتي بعد أن سئم منه ومن ذاك الآخر وهو يقوم بدور الحاضنة لهما هاتفا بكذب قبل أن يناوله إياه مع مصاصته ليخرج:
" تقول لك دنيا خذه لتنهي هي غسل الأطباق!!..."

أخذه وبدأ يقبّله ويداعبه ..يرفعه للأعلى ويهزه والصغير يصدر ضحكات بريئة بينما هو يقول مفتخرا به:
" أسدي البطل قاهر الأعداء !!.."

انتهى من مداعبته فوضع له المصاصة في فمه وأنزله أرضا ليحبو ويجول في أرجاء الغرفة فسألني (أحمد):
" أين محيي الدين؟!...لم نره إلا أول يوم !!..."

قال الأشقر متهكماً قبل أن أرد:
" لم أرك تسأل عن سليمان لتراه يا حضرة الشيخ؟!!"

رفع حاجبه راسماً ملامح حادة مصطنعة على وجهه الوسيم بينما كان يلقي كلامه بمزاح مبطن:
" وهل تعطينا المجال لنسأل عنه وأنت تدخله بأعيننا كلما سنحت لك الفرصة.؟!....تضعه في جيبك وكأنه لم ينجب أحدٌ ولدٌ غيرك أيها الغليظ.."

ردّ في الحال يرفع يديه للأعلى داعياً مستهزئاً به:
" يااا رب ....اجعل الدعسوقة تملأ بيته بدعسوقات صغيرات ليبكي متمنياً أسداً كأسدي!!..
غضن جبينه بعد أن استعصى عليه الفهم والتفت للذي بجانبه مستفسرا :
" ما قصده بدعسوقة؟!..."

كنا جميعاً نعلم عن الخطوة القادمة التي اتخذها وقراره بعقد القران بعد أيام من اليوم فشقت ثغر (بلال) ابتسامة ماكرة متذكراً الأشقر وتنمره في المركز الأمني منذ خمسة أيام وأجاب:
" يقصد عن خاصتك ....لقد أخذت نصيبها من التنمر عنده!!..."

وتزامنت إجابته مع إرجاع ظهره لظهر الأريكة معتزاً متخذاً منه ونيساً له ليضيف:
" أي أنكما انضممتما إلينا لتكونا تحت مرمى سخرياته..!!.."

تحولت ملامحه شديدة الوسامة لتصبح جادة خشنة وهتف مستنكراً:
" ماذا تقول؟!.."

ثم انحنى بسرعة بديهة يلتقط سيارة صغيرة ثقيلة بعض الشيء لا تملأ كف اليد كانت أرضاً جوار قدمه ليلقيها بطلاقة قناص محترف نحو الأشقر بغتةً لم يستعد لها فتصيب جبينه فوق حاجبه وتترك أثرا واضحاً مع تحذيره له بجدية وصرامة:
" هيه أنت!!.....لا تنعتها بالدعسوقة وإلا لفرمتك فرماً يا بغيض!!.....!!...الزم حدودك فلا مزاح عمن تخصني!!....تأكد أنني لن أسمح بهذا إطلاقاً..."

كان يضع يده مكان الضربة يكمش ملامحه بألم ولم يترك شتيمة يعرفها إلا ونعته بها لينهي وابل شتائمه قائلا لي:
" ليته بقيَ عازفاً عن الزواج ....لقد كان عاقلاً ما شاء الله والآن أصبح مجنوناً فمنذ أيام مد يده عليك والآن انظر بماذا ضربني .....الله يلطف بنا ....يا ترى ماذا ينتظرنا منه بعد؟!.."

كنا نستمع إليه ثلاثتنا ضاحكين بشماتة فسلّط حدقتيه نحو (بلال) مردفاً بين التهكم منه والاستفزاز للآخر:
" اضحك اضحك أيها البلبل الأسمر....الضربة القاضية ستكون لك على يده إن شاء الله.......من اليوم فصاعداً سنتجنبه......أعان الله تلك المسكينة التي ستترك بلادها لتقع بين يديّ غرابا منحوسا...مجنونا...معقّدا ....حسنته الوحيدة وسامته التي بمثابة فخاً للفتيات!!.....آاه فقط لو تعلم تلك حقيقته المرّة كما نعلمها...."

أكمل مزاحه الغليظ ونحن نضحك عليه.... بعد قليل عاد شقيقي إلينا حاملاً صغيرنا مقبلاً نحوي ليقول بتأفف ضجراً من استخدامه كمرسال:
" تقول لك أمي خذه فما زالت لم تصلي العشاء!!.."

كان يرتدي منامة بلون الزي العسكري مما أحضرت له فأخذته وقبّلته ووضعته على رجلي هاتفاً بسرور:
" أهلا بالجندي الصغير ....أهلاً بحبيب أبيه!.."

ثم عدّلت جلسته مشيراً لصديقيّ واحدا تلو الآخر أعرّفه عليهما بابتسامة فخورة:
" أنظر....هذا عمك أحمد وهذا عمك بلال.....اذهب وسلّم عليهما..."

ثم قمتُ من مكاني أخطو خطوة منحنياً جهة شيخنا الوسيم أعطيه إياه فأخذه بحب وقبّله ..داعبه قليلاً ثم أجلسه على حجره ليلفت انتباهه ساعته السوداء الالكترونية التي تحيط معصمه وبدأ بإصبعه الصغير يتفحصها مدققاً بزرقاويه عليها لزمن بسبب ألوان الإضاءة على شاشتها فلم يتردد صديقي وخلعها يناوله إياها هاتفاً بمحبة:
" ما دام أعجبتك أيها البطل خذها....أصبحت لك!!"

قلت معترضاً:
" كلا أحمد....ماذا تفعل؟....ما زال صغيرا لا يفهم بها وكيف تستغني عنها..."

أجاب بهدوء مبتسماً:
" أولا لم اهدهِ شيئا بعد ثم اشتريت الانتاج الأخير منها ...يعني لم تعد تلزمني ويبدو أنه يهتم بالساعات فلتكن هديتي الأولى له!! ....مباركة عليه!!.."

القى الأشقر الغليظ سخرياته التي لا بد منها ....بعدها وضع (بلال) ابني أرضا بعد أن أخذ نصيبه من مداعبته فصار يصول ويجول وهو يحبو متنقلاً من لعبة لأخرى يشارك (سليمان) ببراءة بينما نحن عدنا لنغوص بأحاديث جادة لوقتٍ غير معلوم وفجأة وصلنا صوت بكاء الأخير بعد أن انقض (محيي الدين) على مصاصته يأخذها غصباً من فمه تاركاً خدشاً جليّا على خدّه بطرف اظفره الصغير فهبّ ( سامي) شاتماً:
" ماذا فعلت يا ابن ال***؟؟!....لا يعقل هذا....أنا وابني نتعرض لانتهاكات في هذا البيت!!..."

وتوجه نحوهما مقرفصاً ليحل المعضلة بينهما كضابط يحاول إعادة حق ابنه الضحية بالمصاصة من ابني المتهم الذي كان يضحك لبكاء الآخر وتوبيخ صديقي له ولما نجح بذلك وسكت ابنه عاتبه قائلاً:
" لا أريد بكاءً مرة أخرى وخذ حقك بيدك....لا تظن أنني سأدافع عنك المرة القادمة...."

ثم وقف تاركاً إياهما خلفه ليهز رأسه برفض يلقي كلامه لي بنكهة هازئة:
" هذا ليس عدلاً إطلاقاً....ألا يكفي أن ابنك محتال جاء قبل أوانه ....فقد كان من المفترض أن يكبره سليمان بشهرين لكنه استعجل بالنزول ذاك المخادع ليكسب منصب الحفيد الأول لعيوش ويسرقه من ابني الأسد بفارق أسبوعين....لا ولم يكفيه هذا بل ها هو بدأ يسرق ممتلكاته وكأنها لوالده.... هو لا يضع اعتبارا لوجودي ....!!....ضاعت هيبتي على يد الدب القطبي الصغير أزرق العينين الذي أحدث قحطاً في مطبخ عيوش وهي تحشوه!!....منكم لله ولا حول ولا قوة إلا بالله...."

ضحكنا لكلامه ثم هتفت منبهاً:
" قل بسم الله ما شاء الله وصلّ على النبي ...لا تحسده....صحة وعافية على قلبه بكل ما يأكل.....هل تحسب عليه عدد لقماته يا غليظ؟!..."

ضحك بمحبة ومودة لا تنبعان إلا من قلبه الجميل وحصّنه بالدعاء والتسبيحات ليلحق به الآخران ثم عاد للجلوس فسألتُ صديقي شيخنا الوسيم:
" هل قررت من ستأخذ معك لعقد القران؟!.."

أجاب دون تردد:
" بإذن الله أهلي طبعا...شقيقي مجاهد وزوجته وأختي التي تقيم بالعاصمة وعائلتها ...عمي الكبير وزوجته....وأنتم مع زوجاتكم!!....أنت تعلم الزفاف بعد شهرين إن أراد الله ولا أريد أن أتعب البقية بسبب بعد العاصمة عنا!!...."

قلت مبتسماً بصدق سعيدا لأجله:
" على بركة الله يا صاحبي..."

قال بشك:
" ستأتي أليس كذلك؟!....أم لديك برنامج بالمعسكر؟!..."

أجبت:
" كلا ...حتى هذه الساعة لا شيء تغيّر.!!....والحمد لله الوضع ساكن على الحدود خاصة بعدما نجحت تلك الدولة في عصر هذا اليوم بالإمساك بالعصابة التي هددتنا !!.....ثم إن لم أتفرّغ من أجلك لمن سأتفرغ يا شيخنا الوسيم؟!....نحن انتظرنا هذه اللحظة بفارغ الصبر اسأل الله أن يتممها على خير!!..."

أمّنوا ثلاثتهم خلفي ...انشغل الاثنان الجالسان جوار بعضهما بحديث ما فمال الأشقر نحوي من مكانه حيث كان يجلس على طرف الأريكة الثلاثية قريبا مني وقال بهمس بيننا:
" أتشم ما أشم؟!..."

ضحكت وقلت ببرود بعد أن غمزته مشيراً لابنه لأستفزه:
" مؤكد ابنك...أنظر يختبئ بتلك الزاوية!!"

" لمَ لا يكون ابنك يا هذا؟!.....ابني منذ قليل بدّلت له والدته الحفاظة!!....ويخجل أن يفعلها أمام الناس..."

اقترب منا طفلي فكمشتُ أنفي مشمئزا وهتفت:
" يبدو أنك محق....اووف"

ثم تبعت جملتي مناديا بصوت عالٍ:
" شادي تعال حالاً..."

لما جاء ألقيت عليه أوامري:
" خذ محيي لوالدته او لأمي لتبدلا له الحفاظة..."

فتأفف باشمئزاز ولم يجرؤ على نطق كلمة اعتراض في وجهي وحمله ملبياً طلبي فاسترخى الأشقر بغرور متكئا بذراعه على ذراع الأريكة واضعاً ساقاً فوق الآخر هاتفاً باعتزاز:
" أرأيت انا دائما محق!!....ابنك يحتاج لتربية ..ما زال يجهل حدوده أما ابني أصبح يعلم تماماً كيف يتحكم بنفسه أمام الغرباء..!!.."

لم أعقّب فأقبل (سليمان) نحو والده يصدر أصواتاً بقهر كأنه منزعجاً من شيءٍ ما وما إن وصله وحمله حتى صرخ منادياً:
" شادي تعال حالاً..."

عاد إلينا مرهقاً عابساً مستاءً هاتفاً لـ(سامي):
" ماذا تريد أنت الآخر من شادي؟!..."

أجاب ببرود:
" اشتقتُ إليك أيها الضفدع ولم أصبر على بعدك...لكن اشتياقي لا يضاهي اشتياق سليمان لك.."

وحمله يرفعه نحوه مردفاً:
" خذه لوالدته أو لعيوش لتبدلا له الحفاظة...
هيا أسرع سيغمى علينا..."

انفجر صارخاً بعد أن تملّكه اليأس من ابنينا وطلبات الجميع التي لا تنتهي بما يخصهما:
" يا الله....حسبي الله ونعم الوكيل ..........ماذا اقترفتُ في عمري لأخذ منصب وزير الحفاظات والحراسة عند هذه الكائنات الفضائية؟!.....شادي خذ...شادي اجلب...شادي انتبه.....شادي شادي.....استغفر الله العظيم!!......."

في ساعات متأخرة قبل منتصف الليل....أمي كانت نائمة بينما أنا التزمتُ غرفتي الجديدة لارتاح بعد يوم طويل وبعد مشاهدتي لبرنامج على التلفاز....وفي الأعلى بدأ الشريكان الجديدان تنفيذ جرائمها الصغيرة البريئة عند تأكدهما من استقراري مكاني ليكون عريف سهرتهما ( محيي الدين)....صغيرنا المدمّر.... الذي تركاه يعيث الخراب والفوضى حولهما حتى ينتهيان من المهمة المتفق عليها...!!

~~~~~~~~~~~~~~~~

" سأشتاق لك يا عمري. ....أحبك....أحبك يا روح الماما..."

تجلس على الأريكة في غرفة المعيشة بعد صلاة العشاء وقبل ساعات قليلة من منتصف الليل ....تضعه في حجرها ..فتضمه مرة لتنهال عليه بقبلاتها الحنونة ثم تبعده مرة لتكمل شرحها له بصوت أبح دون أن تسيطر على العبرات التي تملأ مقلتيها وتفيض على خديها بغزارة :
" أنا ذاهبة لجدتك سهيلة لحل بعض الأمور ....لن أتأخر عليك يا صغيري....فقط لليلة ويوم إن شاء الله ثم آتي إليك كالبرق ....وستبقى أنت مع جدتك عائشة وشادي.....لا تبكي ...اتفقنا؟!..."

بدأتُ أشعر بالضجر وأنا أنتظر سمو الملكة في الخارج بعد أن وضعتُ حقيبتينا الصغيرتين بالسيارة السوداء رباعية الدفع المدرعة التابعة للدولة والتي ستقلّنا لمطار العاصمة برفقة حراسة مشددة والذين سيرافقوننا لبلاد اللجوء أيضاً بأمرٍ رسميّ من منصب رفيع المستوى حفاظاً على سلامتي فدوما ما تسهل عمليات الاغتيال عندما يكون الهدف خارج حدود بلاده وأنا ممكن أن أكون ضمن هذه الأهداف لبعض الجهات الخارجية التي تتعامل مع أكبر العصابات العالمية !!....فتحتُ الباب وسرت خطوتين للداخل لأراها إن كانت ما زالت مكانها تبكي لفراق صغيرها بعد أن طفح بي الكيل ولما وجدتها على حالها ناديت بخشونة:
" هيا تعجّلي...تأخرنا والرجال تحولوا لأصنام في الخارج!!..."

لبّت طلبي مثقلة.....لا تقوى على الابتعاد عن ابنها...وكذلك.......بسبب توتر العلاقة بيننا وخاصة التي ازدادت سوءاً قبل ليلتين بعد رفضها اعتذاري ورمي وردتي البيضاء....ثم غضبي في الحديقة...!!

×
×
×

دلفنا إلى المطار بعد قرابة ثلاث ساعات من السفر .....كنتُ أرتدي ملابسي العادية ... بنطال جينز كحلي وبلوزة واسعة بعض الشيء بذات اللون وحذاء أبيض عليه خطوط تتناسق مع اللباس وقبعة .....حاجباً عينيّ بنظارة شمسية رغم عتمة الليل.... كنوع من تمويه هويتي بين عامة الناس!!...أسيرُ منتصباً القامة رافعاً الهامة وهي تسير جواري إلا أنني اسبقها بنصف متر لعدم استطاعتها موازاة خطواتي والحرس حوالينا يرتدون زياً مدنياً ومسدساتهم في ظهورهم على أهبة الاستعداد لأي شيء مشبوه...نظاراتهم على أعينهم يخفون خلفها نظراتهم التي تجول على كافة الاتجاهات كالنسور التي تتصيد الفرائس بكامل الاحترافية....!!....كان متبقياً حوالي ساعة ونصف لوقت الطائرة ......جلسنا على مقعدين حول طاولة دائرية صغيرة تابعة لمقصف موجود في بهو المطار فسألتها بجدية:
" ماذا تشربين؟!.."

فأنا بالتأكيد لن أجلب شيئا حسب ذوقها السابق حتى لو كانت ما زالت تحمل عاداتها ذاتها من الماضي لأنها سترفض عنادا بي هذا إن لم تسكبه في وجهي لتستغل كل ما يأتي بيدها كسلاح للانتقام مني..!!.....ظلّت صامتة وعلى كرسيها صامدة !!...كررتُ سؤالي بجدية أكثر سائلا الله الصبر فردت هامسة:
" فقط ماء...!!.."

" ألا تريدين...قهوة...شاي...عصير....ح? ?يب بالشوكولاتة؟!.."

جعلتُ نفسي نادلاً لأجلها أملي عليها قائمة المشروبات لعلّ وعسى تغير طلبها فرفعت حاجبيها مجيبة برفض..!!.....توجهتُ لطاولة الطلبيات أطلب قهوة لي وماء لها فأتاني اتصالاً ضرورياً....اتكأتُ بمرفقي على الطاولة حيث أقف ممسكاً كأس القهوة الكرتونيّ بيسراي ارتشف منه وأتحدث بالهاتف أوليها ظهري مطمئناً عليها لوجود الحرس حولها....بعد عشر دقائق انتهيتُ من المكالمة واستدرت لأعود فوجدت مكانها فارغاً...أسرعتُ بخطواتي متفحصا الأمكنة وفي بالي ممكن أن تكون قد ذهبت للحمام!!...ولما وصلت طاولتنا سألت (أسامة) رئيس الحرس عنها فأشار بعينيه لشباك تذاكر كان مخفي بعامود...!!....اتجهت إليها مستغرباً وإذ بها تقبل نحوي عائدة تمسك تذكرة...غضنتُ جبيني سائلا بريب:
" ماذا كنتِ تفعلين وما هذه التذكرة؟!.."

ردّت واثقة لا ذرة خوف في عينيها مني:
" تذكرتي للطائرة..."

كانت تذكرة لدرجة عامة ...سألتُ مستهترا هازئا بعد اثارتها لحنقي:
" كيف ولماذا؟!...ومن أين لك المال؟!..."

برقت عيناها بعزة نفس وعناد لتجيب دون تأخر:
" ميار.....طلبتُ منها أن تحجز لي تذكرة عن طريق الشبكة العنكبوتية وسلمها الله لم ترفض طلبي وقامت بالدفع بواسطة بطاقة الاعتماد خاصتها ثم بعثت لي رقم التذكرة المطابقة لاستلامها من هنا....هذا كل شيء!!..."

أنهت كلامها وتابعت سيرها بأنفة وكبرياء وثقة فأمسكتُ كتفها بغضب وأدرتها نحوي وقلت مستخفا بها بقهر:
" أأنتِ مجنونة ؟!...هل ضُربتِ بعقلك؟!...ألم أقل لكِ حجزتُ لنا في قسم الشخصيات المهمة جدا (vip)...؟؟"

ردت ببرود وغباء:
" أجل قلت....لكنك لستَ مجبراً بأن تدفع لمشوار يخصني!...."

" والآنسة ميار مجبرة ...حتى ليست ميار....بل والد ميار هو المجبر بأن يدفع عنك يا حرم رئيس الأركان هادي محيي الدين الشامي المحترمة....أليس كذلك؟!.."

ثم سحبتها من يدها بعدوانية مغتاظاً منها ومزقتها أمامها هاتفاً من بين أسناني بحنق:
" تريدين فضحي أليس كذلك؟!..."

وأمسكتها من ذراعها بحركة ظاهرها للعِيان اللطف وباطنها قليلاً من العنف هامساً بخشونة:
" هيا امشي معي ولا تتحركي لمكان....واجعلي الرحلة تمر على خير!.."

بعد أن عدنا لأماكننا بدقائق هدأنا قليلاً فهتفت ساخرة:
" لا أفهم لمَ أتعبت نفسك ورافقتني.؟!..كان يمكنني الذهاب وحدي دون أن تقلق فكان سيكون ابنك رهينة عندك لأعود....."

وأشارت بجسارة وجرأة للحرس مضيفة بذات النبرة:
" أنظر....لقد تسببت بخسارة دولتك سدى ...."

لا أريد أن أرضي غرورها.....فلو لم تثر حفيظتي لبحتُ لها عن خوفي عليها ومحاولاتي بالتعويض عن إهمالي لها سابقا كزوج ....لذا أجبتُ ببرود مراوغاً ولكن وراء كلماتي غاية في نفسي:
" لم آتي لأجلك كنت سأسافر لهناك معك أو دونك...لكن شاءت الصدف أنك تريدين الذهاب!!!....فأنا لديّ ملف ما زال معلّقاً بتلك البلاد....ولأني رجل أعمال منضبطاً لا أحب ترك الملفات التي تخصني معلّقة دون سائلاً او مسؤول....فعندي إما أن يكون إتمامها بسلام..."

وملتُ أكثر نحوها ممسكا بقارورة الماء خاصتها الصغيرة اعتصرها غلّاً وسخطاً مع انشداد عضلاتي والجز على أسناني هامساً بوعيد مع بريق غضب يشع من حدقتيّ :
" أو إحراقها ونسفها نسفاً عن بكرة أبيها....."

لأرتخي بعدها وأحرر القارورة التي كادت تتفجر بقبضتي سانداً ظهري للكرسي بأريحية مع رفع زاوية فمي بابتسامة مائلة مردفاً بصوت مرتاح:
" ولن أرضى بغير ذلك سيدة ألمى...."

لم نكن نتحاور كالبشر أو كزوجين طبيعيين ..لذا اتخذنا الصمت ليكون مرافقاً لنا....وكنا إما نرمق بعضنا بنظرات غضب وإما عندما يكون أحدنا منشغلاً عن الآخر ينظر الثاني إليه بنظرات حب وحنين.!!...وهكذا مضت الدقائق علينا فشعرتُ بالملل وأخرجت هاتفي اعبث به وكذلك رأس الماعز التي قبالتي كانت تحتضن حقيبتها الصغيرة السوداء بضجر هي الأخرى.!!.......دقيقتين من بعد حملي لهاتفي أخرجت هاتفها ذو الأزرار...عبثت بأزراره قليلاً وتأففت وأعادته للحقيبة فلا فائدة ترجى منه غير بطاريته التي تبقى دون شحن لشهور أو لعبة الأفعى الشهيرة ومؤكد لن تلعب بها ليس لتحافظ على مكانتي خوفا من استصغار من حولنا لي كوني زوجا بخيلا إن رأوا الكارثة التي بين يديها إنما لا تريد أن أشمت بها أو استهزئ بها لرفضها للهاتف الجديد!!.....كنتُ اراقبها بخباثة....عنيدة لكنها بريئة!!....ولما لمحت أن ضجرها زاد أكثر قررتُ مفاجأتها كمحاولة أخرى مني بالإصلاح عندما أخرجتُ هاتفها الجديد من حقيبة صغيرة معي تحوي على الأوراق والجوازات وما إلى ذلك خاصة للسفر ومددته نحوها راسماً ملامح جادة بتقاسيم وجهي وهتفت بنبرة هادئة:
" خذي هاتفك الجديد واتركي عنادك قليلاً.."

كتفت ذراعيها وأشاحت وجهها جانبا بعنفوان وجموح وردت:
" قلت لك لا فائدة منه بعد ما خسرت..."

" وقلتِ ستقبلينه بكل ود إن أعدتُ لكِ ما خسرتِ.."

نطقتها بتحدي وأسندت ظهري لظهر الكرسي فأعادت وجهها نحوي تضيق عينيها مستفسرة بدهشة بعد أن استرعت جملتي انتباهها:
" القصد؟!..."

أجبتُ بلا مبالاة:
" افتحيه واكتشفي بنفسك ماذا أقصد!!.."

دون تفكير سحبته وضغطت على الزر خاصته تفتحه ليشرق وجهها وتبرق سماءيها وتنقلب سحنتها مئة وثمانون درجة لحظة اضاءة شاشته ووقوع عينيها على صورة من صورها الأخيرة مع طفلنا قبل سرقة هاتفها.!!....كانت تلبسه ملابس سماوية وترتدي هي حجاباً سماوياً جاعلة السماء من خلفهما خلفية والشمس تعكس على أحداقهم الزرقاء لتوهبها ضوءاً ضاعف من سحرها بصورة جعلتني أتوه حيراناً بأي سماء من السموات أحلق بعيداً حين رأيتهما أول مرة بهذه اللوحة بعد أن أعاد صديقي (بلال) كل ما فقدت بخبرة ومهارة مدخلاً عليه أقوى برامج الحماية كبقيتنا ثم قمتُ حينها بدوري بإدخال كل البيانات لهاتفها الجديد لأسلمها إياه جاهزاً دون ارهاقها وما عليها سوى تعبئة الأرقام التي تريد واختيار كلمة سر لها..!!..وبالمناسبة قمتُ بالطبع بسرقة الصورة ذاتها لأضعها خلفية داخلية بهاتفي كما وضعتها لها سائلا أن يجمعنا الله ثلاثتنا قريبا بصورة حديثة توثق لحظات السعادة بعائلتنا الصغيرة....لن أقطع الأمل بالتأكيد!!....حملت الهاتف بلهفة وركّزت تتعرف عليه لأنها ما زالت تجهله فهو مختلفاً عما كان بحوزتها سابقا وبعد محاولات ذكية منها استطاعت الوصول لمبتغاها فتراقصت الفراشات داخلها واتسع ثغرها بابتسامة اظهرت اللؤلؤ المصطف داخله لتعود وتلمع عيناها لمعة كأن الروح ردت إليها وهي تقفز من صورة لصورة والعالم كله لا يسعها من شدة فرحتها وبعد فترة لم تشعر بها كان كل ما فعلته من أجلي هي رمقي بنظرة خالية من الغل والعتاب فيها حب وامتنان رأيتهما بعين قلبي ولم أكن أريد منها جزاءً أو شكورا ولم أنتظر حرفا منها فيكفيني رؤية ضحكتها تلك النابعة من أعماقها لتكون أعمق رد لامس شغاف مَن خانني مِن أجلها....!!

اقترب موعد اقلاع الطائرة وعلينا التوجه لختم الجوازات ....سرنا بمحاذاة بعضنا ومترا يفصلنا كالأغراب والحرس يحيطوننا تاركين لنا مسافة خاصة ...فجأة ظهر أمامي أناس من الصحافة ...وبدأوا بالتقاط صور لنا بعد كشف بعضهم لهويتي دون إذن منا محدثين فوضى عارمة بالمكان مع تعالي أصواتهم يحاولون الوصول إليّ لتوجيه اسئلتهم الفضولية فهذه وظيفتهم الترصد للمشاهير بكافة المجالات وكان الحرس يعملون على إبعادهم وما كان مني إلا سحبها واحتضانها تحت ذراعي كحماية لها بعد رؤيتي لانزعاجها منهم ليرن سؤال صريح فضولي من بين الاسئلة الكثيرة التي لم الق لها بالاً مخترقاً مسامعنا:
" سيادة القائد هل صحيح كما يقال أن زوجتك هي ابنة خائن للوطن ؟!..."

لم أشعر كيف اعتصرتها أريد تخبئتها بين أضلعي ليكون أكثر مكان آمن أحميها من فضول الناس الذي لا يرحم وأحجب عن قلبها ومسامعها كل ما يؤذيها خاصة بعد شعوري بانتفاضة عروقها داخل جسدها المتأثرة بالسؤال وبنبرة غاضبة أصدرتُ أوامري :
" سيد أسامة.....ابعد الفضوليين عن طريقي واخبرهم أن الفضول قد يكون قاتلا أحيانا......فليحذروا..."

وبيسراي أنزلت النظارة عن عينيّ لأظهر جديتي وغضبي مستخدما لغة العيون كتحذير مضيفاً بصوت يسمعه من حولي بينما هي مكبلة تحت ذراعي تغمض عينيها مستاءة موجوعة محرجة ورأسها قريب من صدري :
" ولا أريد تواجد لأي صورة تخصنا سواء بهاتف أو بآلة تصوير عند أحد من الموجودين هنا!!.....هيا تصرفوا حالاً..."

لبوا الأمر وألزموهم بحذف ما التقطوا لنا من صور ليبتعدوا حانقين بعد فشلهم ولما وصلنا مكان الختم الخاص بذوي المناصب السياسية المهمة اجتزت الحاجز الالكتروني بعد أن تم الأمر بنجاح وأنتقلت لأقف عند الحاجز الآخر الذي يبعد حوالي أربعة أمتار عن الأول لأسلم سلاحي قبل الركوب بالطائرة ولما لم تلحق بي استدرت ناظراً فوجدتها تبكي بصمت خائفة واقفة بين رجُليّ أمن جديين بشكل يرهبها قد استدعاهما الموظف بعد أن ظهر له على الشاشة أنها ممنوعة من مغادرة البلاد فعدت من فوري أكلمه فقال:
" احترامي لك سيدي لكنك تعلم نحن بالمطار أي بأكثر مكان حساس بالدولة والقوانين فيه لا مزاح بها ..... أعتذر منك....لا يمكنني إدخالها إلا بتصريح رسمي من الجهة التي أصدرت أمر المنع.."

ربما كان عليّ أن انزعج....ربما عليّ أن أقهر....لكني لم أشعر بأي منهما ولم أغضب من كلامه لأنني رأيته رجلاً شجاعاً يواجه ..وأميناً يحافظ ...فرغم بساطة وظيفته مقارنة بمنصبي إلا أنه ثبت على رأيه ونحن بمثل هؤلاء نعتز ونفتخر وعلينا الحفاظ عليهم لنبني ونحمي وطننا الحبيب...!! ..
اومأت موافقاً احترم اصراره رغم استطاعتي لاستخدام نفوذي وطلبت منه فتح الحاجز لأخرج عندها ففعل ...رمقت رجليّ الأمن بنظرة حادة وقلت لهما:
" من فضلكما....عودا لمكانكما....أنا سأتصرف!!..."

وأمسكت بذراعها أسحبها جانباً وكم وددت بمسح دموعها واحتضانها لكنها لا تطيقني أنا أعلم وخاصة بعد توقعها من المتسبب بمنعها من المغادرة.!!....أجريتُ اتصالا عاجلاً برئيس المخابرات العامة مع أننا في ساعة متأخرة من منتصف الليل ليتصرف سريعاً ويلغي الأمر بصورة فورية وقد فعل وهكذا دلفنا الى الطائرة بعد عناء ولكنها كانت ما زالت متأثرة....تشعر بالخزي مني ومن الجميع بعد السؤال الفضولي الذي سمعناه وحزينة من الموقف الذي عاشته قبل قليل..!!...توجهنا للقسم الفاخر الخاص بالشخصيات المهمة واتخذنا مقعدينا المريحين.......كان يوماً متعباً شاقاً والطائرة لن تنطلق قبل نصف ساعة بالإضافة لنصف ساعة أخرى المسافة الجوية بين الدولتين لذا قررت أن أسرق غفوة...خلعت نظارتي وقبعتي ووضعتهما في جيب المقعد الذي أمامي وأملتُ ظهر مقعدي للخلف قليلاً لأسترخي...ثم أغمضت عينيّ وهمستُ لها :
" يمكنك أن تنامي...!!"

" لا أريد..."

" أنتِ حرة.."

" الحمد لله أنني وجدت شيئا أكون به حرة.."

قالتها ساخرة فتنهدت متعباً وقلت وما زلتُ مغمض العينين :
" بربك....اهدئي قليلاً....ألا تتعبين من معاكستي ؟!..!!.."

وحركت يدي لأضعها على الوسادة التي بيننا فوجدتني أضعها فوق يدها الموضوعة عليها من غير قصد لتزيحها بسرعة قبل أن استلذ بنعومتها قائلة بنزق مصطنع:
" قلت لك سابقا لا تلمسني...لا تلمسني....كم مرة عليّ تكرار هذا؟!!.."

قلت ببرود ملتزماً بوضعي:
" لماذا؟!...أتخشين الاستسلام وعدم المقاومة؟!.."

ألقت غارة جاهزة:
" كلا...لا أطيق لمسك لي.!.."

" نحن آسفين...آسفين يا سعادة السفيرة .."

نطقتها وأنا على حالي....أدرك أنها مجرد ادعاءات ودفاعات واهية لا صحة لها!...فهي تخاف الاستسلام فقط!...تريد أن ترد اعتبارها بتعذيبي!!... أكملت بعد جملتي في سري.." من يوم لقاءنا أخرجتِ لا تلمسني من بين شفتيك أكثر من إخراجك لأنفاسك.." .......فيبدو أنها نسيت أنها كانت قبل نصف ساعة تحت ذراعي دون اعتراض منها....أيعقل أن بشروطها اللمس باليد ممنوع والحضن مسموح؟!....ربما!!...لا استبعد أفكار العقل الصغير الذي تحمله تلك الماعز ...!!

بعد دقائق سرقني النوم لتستغل سعادة السفيرة الفرصة لما رأت انتظام أنفاسي وسكوني واغلاق جفوني بثبات فتميل قليلاً بجذعها تتخذ وضعية مريحة لتأخذ راحتها وكامل حريتها وهي سارحة تتأملني...وبدأت تتغزل بي في داخلها.. ترسم ابتسامة حب بريئة على شفتيها ...." يا ويلي منك ومن رموشك التي تعصف بقلبي....اشتقت لتقبيلها.....وحاجبك المشقوق ذاك أريد لمسه...أيمكنك الدخول بغيبوبة لدقائق قليلة لأفعلها براحة ثم تعود لدنيانا بسلامة؟!........وماذا أقول عن ذقنك المهذب ....فهو حكاية أخرى!!....يا ترى أتذكر حين كنتُ أساعدك على تهذيبه وحلاقته فتملأ وجهي بمعجون الحلاقة لتداعبني؟!...رائحة المعجون ما زالت عالقة في ذاكرتي.....لو تعلم كم اشتاق لها يا هادي !!....يا ترى متى سيأتي الوقت الذي سأعود به للنوم على صدرك ...ولألمس عضلاتك وأسمع عزف قلبك ؟!....بل هل سيأتي أساسا أم أن الحياة تخبئ لي مزيداً من الكوارث؟!...وخاصة بوجود تلك الفأرة الحقيرة!!.."......لم ترحم نفسها بالأمنيات ولم تتمكن من ضبط مشاعرها الثائرة من وقع الذكريات ومن شدة شوقها أمسكت بطرف اصبعيها فستانها من عند كتفها تقربه لأنفها بعد أن هبت رائحة عطري منه بسبب احتضاني لها في الداخل فصارت تستنشق بهيام ونسيت نفسها وفجأة انتبهت لحركتها فتسارعت دقات قلبها وجلاً خائفة من إمساكي بها وبدأت تتململ ناظرة يمنة ويسرة وهمست في سرها.." تباً لهرموناتي ما لها تقف ضدي؟.... أين سأذهب....وجودي جواره خطر...سأفضح نفسي !!...هل أذهب لأختبئ منه بالحمام ؟؟!..." ....
ومع سؤالها لنفسها وقفت متسللة مختفية من المكان...!!

×
×
×

[ سيداتي وسادتي لقد هبطنا في مطار (...) الدولي...التوقيت المحلي هو الساعة الثانية والربع بعد منتصف الليل....الرجاء البقاء في أماكنكم حتى تتوقف الطائرة توقفا تاماً .....الحمد لله على سلامتكم وشكرا لتعاونكم ]

كان صوت مضيف الطيران بعد هبوط الطائرة في أرض المطار فتململتُ أفرك عينيّ بإصبعيّ يساري لأزيل غشاوة النوم عني وبقيت لثواني ما بين النوم واليقظة ثم وضعت يدي اليمنى لا إراديا على المخدة التي بيننا فلمست شيء!! ....ليس الملمس ذاته؟!....أكبر حجماً وأقل نعومة!!....كأنها تجاعيد؟!....هل سافرنا عبر الزمن فأضحت ألمتي عجوزا أم ماذا؟!....لم نهنأ بشبابنا بعد !!...التفتّ في الحال وإذ بعجوز ثمانينية تبدو بصحة جيدة أجنبية متزوجة من عربي شعرها أبيض قصير تجلس جواري وتضحك ضحكة واسعة تظهر طقم أسنانها الأنيق!!...تحركتُ مكاني مصدوما مذهولا أبحث بعينيّ عن خاصتي فلم أجدها فضحكت بمكر وقالت بلغة عربية سليمة وهي تحرك سبابتها بمزاح:
" أعرف أيها الوسيم الأزعر إنك تبحث عن تلك الفاتنة ذات العينين الزرقاوين التي كانت جوارك؟!..."

الحمد لله ترقيت درجات وأصبحت أزعر بفضلك سيدة (ألمى) ...اضطررت لسؤالها:
" أين هي؟!"

ردت تمدحها:
" اوه...إنها فتاة طيبة....نبيلة ومؤدبة جاءت للقسم الآخر العام وأشفقت عليّ بسبب ضيق المقعد وقالت أنه يمكننا تبديل الأماكن من أجل راحتي وشجعتني لأقبل قائلة بأنها لم ترتح مكانها أصلا لأنها تجلس جانب شاب غريب عنها وفي دينها حرام .!!..."

" هكذا إذا أيتها الكاذبة الصغيرة؟!...ماذا بعد سأسمع بفضلك...." قلتها في نفسي فتابعت العجوز ثرثرتها:
" بصراحة صدقتها في البداية لكني لما رأيتك .."

والتفتت حولها ثم قربت رأسها نحوي متابعة بهمس:
" لما رأيتك تأكدت أن هروبها خوفا من أن تفتن بك لا غير....ومعها حق بذلك ....لقد سألتها إن كانت متزوجة فقالت لا....أساسا لم يكن حاجة للسؤال فعمرها يوحي بأنها ما زالت بنت صغيرة لا تتعدى الثمانية عشر سنة وأيضاً لا تضع خاتماً بإصبعها....."
وألقت حدقتيها الرماديتين ليسراي ناظرة لخاتم الزواج لتضيف دون أن تبالي :
" وأنت تبدو متزوجاً وزوجتك حمقاء.....كيف تتركك وحدك ولا تخاف عليك من النساء؟!... نصيحة إن كانت زوجتك كذلك وبشعة....طلقها وتزوج من تلك الفتاة.....لا تضيعها من يدك .....فأنت وسيم وهي فاتنة ....أستطيع تخمين أي إنتاج سيخرج منكما !!.."

قررت مجاراتها بحديثها لأنهيه بعد توقف الطائرة توقفا تاما:
" أجل ابتليتُ بزوجة بشعة جدا....ولا تسألي عن حماقتها!!...."

وأضفتُ ساخراً وأنا أرفع يدي بحركة تعبر عن شكل رأس :
" تحمل رأساً بشريا بهذا الحجم لكن داخله مخ ماعز..!!.....لذا قررت أن أسمع كلامك.... أطلقها وألحق بتلك الفاتنة زرقاء العينين قبل أن تضيع مني...."

واستقمت مكاني مردفاً:
" هل تريدين مساعدة قبل الذهاب؟!..."

أجابت ضاحكة وهي تشير للممر بين المقاعد ثابتة مكانها وكل شيء يهتز بها مع ضحكتها:
" ساعد نفسك بالوصول إليها أيها الوسيم الأزعر ...هذا إن عبّرتك....فالفاتنات يخفين خلف جمالهن شراسة.....يعني احذر من مخالبها ...أما أنا لديّ مساعدتي الخاصة...."

×
×
×

" شكرا حرمي المصون على المفاجأة الجميلة.."

قلتها بعد نزولنا من الطائرة متجهين لداخل المطار وهي تسبقني تتبختر بمشيتها غروراً فردت ببرود:
" على الرحب والسعة ....أتمنى أن تكون قد قضيت وقتاً ممتعا برفقتها !!.."

"بالطبع ....عجوز مرحة لا تعرف للنكد طريقاً مثل بعض الناس!!.."

دخلنا للمطار وأنهينا اجراءاتنا بسلاسة وركبنا السيارة المحجوزة .. الخاصة... المحصنة ضد الرصاص ويستخدمها السياسيين ورجال الأعمال...وزعماء العصابات!! والتي كانت بانتظارنا مسبقا لاستقبالنا ليتبعنا الحرس يقودون سيارة أمامنا وأخرى خلفنا...!!

×
×
×

كنا قد اتفقنا على مضض مني بعد استخدامها لعناد الماعز خاصتها بأن تذهب هي إلى مربيتها فور وصولنا وكانت قد تواصلت معها ومع (رهف) في الأمس لتعلمهما بأوقات رحلتها وقررت السيدة (سهيلة) إمضاء ليلتها بقيام الليل حتى لا تنام وتستعد لاستقبالها بعد أن طردت ابن شقيقها الذي أصبح ونيسا لها بغياب ابنتيها الروحيتين(رهف وألمى)!!....عند دلوفنا للحيّ أمرتُ الفريق الأمني بالبقاء على مدخله...لا حاجة لمرافقتنا بين متاهات هذا الحي المكتظ بالبيوت!!....سرنا معا بالطرقات الضيقة وسكون الظلام يخيّم بالمكان لا يكسره إلا صرصرة الحشرات ....كانت هي تحمل حقيبتها الصغيرة وتجر الأكبر جرا.....ليس قلة ذوق مني إنما هذا ما أقره .....رأس الماعز!......لتُعلمني أنها ليست بحاجة لي ولمساعداتي وأنها تستطيع فعل الكثير دوني.....رسالة طفولية!!....لها ذلك !!....قبل اتخاذنا الزقاق الموصل للعنوان المنشود شهقت مجفلة تكاد تلتصق بي تحمي نفسها بنقطة معينة فغضنتُ جبيني مستفسرا:
" ماذا هناك؟!.."

" يوجد بهذه المنطقة الكثير من الصراصير ذوات الشوارب ....البلدية لا تهتم برش الحيّ بالمبيدات الحشرية!!..."

تبسمتُ بمكر شامتاً فلمحت ابتسامتي وقالت بجدية دون أن تبتعد عني:
" هيه لا تفرح.!!....أحيانا نضطر لنعانق الأفعى عند شعورنا بالخطر...وهذا ما فعلته!.."

" بارك الله بك ....يعني أنا أفعى؟!.."

لاذت بالصمت دون أن تجيب ثم اتسعت عيناها فجأة وهتفت مبتهجة لما ظهر أمامها ذاك البيت وقبل أن تتركني لتهرول إليه قالت ضاحكة ...ليس لي بالطبع!...إنما بسبب المشاعر الجميلة الدافئة التي حملتها بين طيّات أيامها لهذا الحي والبيت وأهله:
" يمكنك الذهاب ها أنا وصلت...!! "

لم أهتم بكلامها فلن أتركها إلا لما أسلمها لمربيتها بيدي....تبعتها ووصلتها وهي تنتظر أن تفتح لها....فتحت لها الباب بوجهها البشوش وعيناها التي تشع حنانا صادقا وهي جالسة على كرسيها لترتمي المدللة بحضنها وتجهش بالبكاء وكأنها غابت عنها لشهور وتهمس لها بين عبراتها:
" اشتقتُ لكِ خالتي....واشتقتُ لبيتنا كثيرا!!..."

كنتُ أقف على درجات الباب القليلة أراقبهما بصمت ....وكلمتها الأخيرة البريئة شعرتها كطعنة في قلبي!.....فلا ننسب شيء لنا بسهولة إلا بعد عِشرة عمر اكتسبناها وفي مثل حالها....هذا دليل على عدد الأيام والأسابيع والشهور التي تركتها بها لتجعله بيتها الذي اشتاقت له وتنسبه لها بسهولة (اشتقت لبيتنا) بينما وطنها الحقيقي لم تنعته سوى بـ(وطنك) تنسبه لي وحدي دون ربط أي علاقة لها به!!...عجزتُ عن وصف مقدار الألم الذي تذوقته وأنا واقفاً أراقب همسها وحركاتها الحميمية معها...والراحة التي تظهر على تعابيرها وبأنفاسها...اراقب مؤنباً ضميري أجلد به ذاتي لأجلها!!....وبعد حفلة الاستقبال تنحنحتُ وقلت برزانة:
" السلام عليكم سيدة سهيلة....كيف حالك؟!.."

ضحكت بحبور من قلبها وأجابت:
" أهلا بنيّ ...أنا في أحسن حال الحمد لله ويكفيني رؤيتكما معاً لأشعر أنني ملكتُ الدنيا....أنت كيف حالك؟!."

شكرت لطفها بينما الأخرى لم يعجبها كلامها...فقاطعتنا هاتفة:
" يمكنك الذهاب أينما تشاء ....لا حاجة لتنتظر !!.."

نهرتها مربيتها تمسك طرف فستانها تهزها لتسكتها هاتفة:
" عيب يا ابنتي.....البيت بيته ..."

ونظرت إليّ متابعة:
" تفضل بنيّ....لا أحد هنا....أعلم أن البيت ليس من مقامك لكن الفنادق بعيدة عن حيّنا وبيتك الذي أعرفه أبعد من ذلك.....فبما أنكما لن تمكثا إلا يوماً يمكنك البقاء مع زوجتك إن أردت!!..."

قاطعتها واثقة مجيبة باسمي:
" كلا خالتي هو لا يرتاح بهذه الأماكن.....أنت تعلمين له منصبه وحرسه بانتظاره خارج الحيّ ....لا يمكنه البقاء معنا!!..."

وبغبائها استفزتني بدلا من أن تحرجني لأذهب فجعلتُ كلامها كطنين ذبابة هششتها عندما وجهتُ كلامي للسيدة (سهيلة) بجرأة تزامنا مع اجتيازي للباب وخلع حذائي:
" بكل سرور سيدة سهيلة ....لي الشرف البقاء ببيتكم الجميل إن لم أزعجك!!....بارك الله بك..."

كان متبقياً لآذان الفجر حوالي ساعتين....لم تهتم بابنتها الروحية بل صبّت جل اهتمامها بي...لتنهي موجة الترحيبات مشيرة لغرفة المدللة هاتفة:
" يمكنك الدخول لغرفتها وأخذ راحتك....يوجد سرير والحمام قريب منها....لا بد أنك ما زلت تذكرها فلقد زرتها آنفاً...!!"

اومأت شاكرا بابتسامة وتوجهتُ لتلك الغرفة التي بها رائحتها....بها دموعها وضحكاتها....بها توجعتْ من الماضي الذي يمثلني (أنا)...وبها أمل المستقبل (ابننا)....جلتُ في نظري أتعرف على كل ركن احتواها كأمانة قبل أن تعود لصاحبها....نظرت لبعض ملابسها المعلقة على المشجب...ولصور صغيري التي تثبت على أبواب الخزانة متفرقة ....رأيتُ الرطوبة على السقف والحيطان والتي كانت أحن عليهما مني!! ...وعدت لأزيد ضميري تأنيبا لا حدود لقسوته .....زوجتي وابني في هذا المكان وأنا أنعم بالقصور.؟!...يرضي من هذا؟!......." تباً لي ولرجولتي وتباً لأبوتي..."....لمحت بقايا آثار الحريق الذي أخبرتني عنه فشعرتُ بصخرة ضخمة تجثم على صدري...ماذا لو تأذيا منه؟!..ماذا كنتُ فاعلاً؟!... ..إني أختنق ...وبنارها أحترق...يا مغيث أغثني...يا غافر اغفر لي ذنبي.....توجهتُ للنافذة أفتحها علّني أتنسم هواءً عليلاً بعد المشاعر السلبية التي اجتاحتني.....وقفت مكتفا ذراعيّ مغمض عينيّ وسحبتُ أنفاسي بعمق لأزفرها بتمهل أجدد بها طاقتي!!...ولم ألبث أن أفرج عن جفوني حتى وصلني صوتها داخلة إليّ بعد أن ألقت عليها مربيتها الوصايا لتعاملني باحترام:
" أين ستنام؟!"

أغلقت النافذة واستدرتُ مستجمعاً قواي ورفعتُ زاوية فمي بابتسامة مائلة مجيبا بمكر وأنا أسير متجها نحو السرير:
" السرير صغير لكن يمكن أن نتدبر أمرنا به .."

وأنهيتُ جملتي مرتميا عليه متوسدا ذراعيّ محتلا ثلاثة أرباع مساحته بجسدي وقلت ببرود:
" تعالي...ما تبقى منه يكفيك..."

" مستحيل..!!.."

اتخذت جانبي الأيمن أضع كفي تحت خدي موليها ظهري هامساً بقلة ذوق:
" إذاً تدبري أمرك!"

توجهت هي للأريكة الموجودة بالغرفة....تكفي جسدها الضئيل لكنها غير مريحة البتة...قاعدتها رقيقة لا تصلح للنوم....جلست بملابسها دون أن تبدلها ودون خلع حجابها....وكوّرت نفسها متخذة وضعية الجنين على جانبها الأيسر توليني ظهرها بدورها وشرد كلّ منا بأفكاره ....هي غفت وأنا لم أغفُ....تململت متحركاً أبدل جهتي وسلطت عينيّ عليها أراقب سكونها البريء الذي يوحي أنها غارقة بعالمها الآخر......اقترب موعد الفجر ...جلستُ متنهداً ثم دنوت منها لأراها عن قرب.....ملامح حورية فاتنة....حركتُ كفي أمام وجهها لأتأكد من نومها العميق فلم ترمش ولم تتحرك......انحنيتُ بتمهل وحملتها بحذر ورفق وشعرت بتماس لذيذ سرى في عروقي عندما لامس جسدها صدري....تأملتها مبتسماً...وكم رغبتُ بطبع قبلة على خدها الناعم ولكني مربوطا بوعدي ولن أخون!!....وضعتها بلطافة على السرير وهي مغيبة عن واقعي وقمت بتغطيتها ثم ابتسمتُ بحب وهمست بحنو:
" نامي بسلام حبيبتي!.....استودعك الله!..."

وخرجت قاصداً المسجد لأبدأ من بعده يومي...!!

×
×
×
في ساعات الصباح الباكر بعد أن أمضيتُ ساعة بالمسجد اقرأ وردي قررت التوجه لصديقي (عمر) من شلة أصدقائي التابعين لبلاد اللجوء لمعرفتي أنه الوحيد الذي يكون مستيقظا بهذا الوقت....قمت بمكالمته ودعاني لأتناول الفطور معه ومع والدته التي تحبني ...خالتي (أم عمر).....مرت ساعتان وأنا بضيافتهم لم أشعر بهما....والآن حان وقت ذهابي....لأحقق غايتي.....ملّفي المعلق الذي أخبرتها عنه بأنه السبب الأهم لمجيئي!......ركبت السيارة الخاصة التي ترافقني برحلتي وأعطيتُ العنوان للسائق....نحن الآن في أوج الازدحامات المرورية لهذه المدينة الساحلية!!....لذا وصلنا بعد ساعة لهدفي الأول....الحي الإيطالي وصديقي (إدوارد)....ترجلتُ من السيارة وتبعني اثنين من الحراس منهما (أسامة) ...

" مرحباً بالمتسكع!!.."

هتفتها تزامناً مع فتحي للباب الذي ارتطم بالأجراس المتدلية من السقف لتصدر رنيناً فالتفت بالحال صارخاً بسعادة ومشتاقاً مقبلاً نحوي يعانقني عناق رجولي ملقياً كلامه بإنجليزيته المتكسرة:
" يامن!! ....أين أنت يا رجل......هرمتُ وأنا أنتظر مجيئك لتخبرني قصتك أيها الماكر صاحب المهمة الصعبة!!......ولم أستطع الوصول إليك لأبارك لك بمنصبك بسبب هاتفك المغلق!!..."

ضحكتُ وطبطبتُ على ظهره بحركة أخوية خشنة كما فعل وأجبت:
" مؤكد سأخبرك بكل شيء إن شاء الله ....لكن ليس الآن...وقتي ضيّق وسأدعوك لاحقا لتزورني في بيتي ووطني لنتحدث ما رأيك؟!...."

بسط يديه وهتف مسرورا :
" أوه كيف سأرفض هكذا طلب.....وطنكم مميز بتراثه وبكل ما يملك وخاصة أنواع الطعام لذا سآتي بالطبع لأتذوق أصنافكم..."

قلتُ ضاحكاً:
" لم تتغير يا رجل....بطنك أغلى ما في حياتك!!.....المهم من عينيّ....تعال وسأجعل والدتي تملأ كرشك بأكلاتها المميزة إن شاء الله...!!..."

اومأ موافقا بابتهاج ووضع كفه على ظهري يدفعني لأجلس على طاولة قريبة هاتفا:
" إجلس هنا ريثما نحضر لك فنجان قهوة مضغوطة كما تحب(إسبريسو) ثقيلة ومرة!!....."

قالها وأردف مازحا:
" أم أنه يمكنك الآن شرب كأساً من الخمرة؟!....فما زلنا نجهل شخصيتك الحقيقية!!..."

أجبت بجدية مشمئزا ومعترضا:
" استغفر الله العظيم ....كن متأكد شخصيتي ما زالت كما هي لم تتغير أبدا....مبادئي وديني وتركيبتي مثلما عرفتني ....واختلاف الاسم ما هو إلا مجرد شكليات على الأوراق الرسمية من أجل المهمة !!"

تبادلنا أحاديث خفيفة عامة ...تنهدتُ وتنحنحت أجلي صوتي لأبدأ بتنفيذ غايتي:
" سمعت أنك فتحت فرعاً آخرا منذ مدة.....تشاركت به مع عربي!!.....ليست من عادتك الشراكة...ماذا جرى؟!..."

تبسم وقال:
" أجل أحببت خوض تجربة جديدة ...فتشاركت مع رجل عربي ستيني محترم!!.... ما زلنا في البداية لا نعلم خيره من شره....لكن من أخبرك؟!.."

" العصفورة أخبرتني بأن الطعام هناك لذيذ له نكهة أخرى.....لذا أرغب بزيارته الآن وتناول وجبة حارة من التي تبرد قلبي......هلّا رافقتني؟!..."

رد بملامح غير مرتاحة بعد أن نظر لساعته:
" ما رأيك أن تأتي عصراً ونذهب لأعرّفك على شريكي؟!"

" لماذا ليس الآن؟!"

" في الحقيقة في هذا الوقت ابنه الصغير وسام من يمسك المطعم.....لا أتحمل سماجته ...ثقيل الظل بشكل لا يطاق صدقاً!!....لا يشبه أباه بتاتاً...."

تصلبت عضلاتي وتحفزت أعصابي...فالاسم ما زال يقرع في بالي لحظة نطقها به وبما فعل... صفقت بكفيّ الطاولة ناهضاً من مكاني بخفة ملقياً عليه ابتسامة غير حقيقية خلفها غايات وغمزته مشجعا وقلت:
" ممتاز.....ممتاز جداً....هيا بنا لنتسلى معه....أفضل من مقابلة العجوز..."

هتف باستغراب:
" أنت؟!....أنت من لا تطيق سماجتي أنا صديقك تحمست للقاء نبع السماجة والوقاحة؟!...."

" يا رجل أشعر بالملل وأحب أحيانا أن أستمع لسماجة ذاك الصنف ...هيا لا تتكاسل...خذني إليه!!..."

قلتها كاذباً وأمسكت معصمه أشده لينهض واستجاب مجبراً على مضض يشعر بالثقل من هذا المشوار لا يعلم مآربي المختبئة وراء حماسي...!!

×
×
×
رافقني صديقي الايطالي بسيارتي الخاصة ونحن في الطريق هتف متفاخراً بمزاح:
" اوه لا أصدق أشعر أنني رجلا مهماً.....ما هذه الفخامة يا رجل؟!....يبدو أنني سأغار منك وسأبحث عن مهمة مشابهة لخاصتك لأحصل على كل هذا !!....حياة ملوك!!....حرس وسيارات محصنة!!.....مظهر كله هيبة!!....يا لها من سعادة كبيرة...."

ارتسمت ابتسامة طفيفة على وجهي ثم هتفت بهدوء:
" صدق أو لا تصدق....كل هذا لا يهمني.....أجبرت على الحرس إجباراً وما تبع ذلك....أنا ولدت حرا وأحب أن أبقى حرا لا تقيدني مظاهر ولا غيرها لكن لنقول أتحمل من أجل الرسالة السامية والأمانة الثقيلة اللتين تكمنان وراء المنصب!!.....الأهم بالنسبة لي الحصول على راحة البال التي لا تشترى بكل كنوز الدنيا والمال ...وكما قال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم (( مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا))....أي من ملك هذا فقد حصل على نعمة عظيمة فهي الأساسيات التي يمكن الانتفاع منها من أجل المتفرعات في هذه الحياة...اسأل الله أن يدمها من نعمة ويحفظها من الزوال "

كان مصغياً مبتسما وبعد الانتهاء من خطابي رد بمشاكسة ضاحكا:
" تأكدت أنك بالفعل تحمل نفس الشخصية ولم تتغير......فها أنت عدت لتلقي عليّ خطبك العميقة لتغريني للدخول بالإسلام ..."

قالها وأسند نفسه لظهر الكرسي براحة وانتقلنا لأحاديث أخرى متفرعة حتى وصلنا العنوان المطلوب بعد قرابة ثلث ساعة من الزمن وهو المشوار بين المطعمين....دلفنا الحيّ الجديد الذي هو عبارة عن حي ايطالي بنسخة مصغرة للحي الأصلي...!!......تمشينا بين أزقته واثنين من الحرس خلفي وهو يثرثر ويشرح لي عن الأمكنة والمحلات حتى توقفنا على باب المطعم المراد ليهتف باسطا ذراعه أمامه:
" هيا تفضل....ها هو مطعمي الجميل!!...."

للمطعم شرفة صغيرة مليئة بالمزروعات والورود تضم طاولتين فقط ....قلت له:
" سنجلس هنا في الهواء الطلق.."

اومأ موافقا وجلس قبالتي وهتف:
" أخبرني ماذا تريد أن تأكل.."

قلت مبتسما بمكر :
" هل أنت من ستتولى الخدمة أم من يتواجدون بالمكان؟!.."

" غير مهم....كلنا واحد"

" ابقَ معي وليقدموا لنا الطعام هم .."

تبسم ونظر للداخل من الحائط الزجاجي ثم رفع يده يلوّح بها مناديا بالإنجليزية:
" وسام ...تعال من فضلك"

اشتعل جسدي من جديد من ذكر اسمه إلا أنني حاولتُ الحفاظ على سكون ملامحي ولا أعرف إلى متى سأنجح بالسيطرة على ثباتي.....أقبل إلينا يسير بثقة وسبحان الله رغم أنه يحمل صفات الوسامة إلا أنه يفقد القبول....ذاك القبول الذي يأتي من الله مهما كان شكلنا ولوننا.....وصلنا مرحبّا بصديقي بالإنجليزية ثم نظر إلي ضاحكا وتزامنا مع مده ليده لمصافحتي حملتُ هاتفي عازما على إجراء مكالمة طارئة مجتازا الشرفة وصولا للشارع وتركتها معلقة بالهواء ليحمر وجهه حرجا وحنقا تحت نظرات (إدوارد) المستغربة..!!....كانت حركة جريئة وقحة مني لا لطافة فيها ...تعمّدتها بكل سرور...فأنا لن أضع يدي بيد نجس حاول انتهاك عرضي .!!...دقيقتين وعدت بثقة وملامحه تحمل حقدا بسبب طعن كبريائه واحراجه......جلست ضاحكاً حاملا شخصية أخرى وقلت بمرح كاذب بينما اتكئ بمرفقي على سطح الطاولة:
" اين كنا....أجل تذكرت.....لو سمحت جسدي يطالبني بوجبة حارة لا مثيل لها....لا لحوم ولا شحوم.....طبق املأه لي بالشطة الجافة وما عندك من كافة البهارات الحارة ولا تبخل!!....مع ملعقة لا رغيف خبز...وكأس ماء....لتفتح شهيتي أولاً ثم أطلب وجبة ثقيلة بعدها."

زوجيّ من العيون يطالعاني من الأمام بذهول وصدمة... كانت له ولصاحبي.... ومثلهما من خلفي للحارسين خاصتي ....(أسامة) وآخر !!.....فطلبي كان الطلب الأشد غرابة بين وجبات المطاعم......سحب قدميه ليلبي طلبي دون رغبة مستغربا منه وحانقاً على تصرفي الأول بينما صديقي بدأ يرتاب ويحدّق بي كأنه يريد قراءة ما يدور في ذهني .....مرت خمس دقائق ليعود إلينا حاملاً صينية عليها طبقا أبيضاً فيه وجبتي وجانبه ملعقة وتحتها منديل طعام والجانب الآخر كأس ماء بعد أن صفها بشكل أنيق كأي وجبة طبيعية ...وضعها أمامي والأحداق تراقبني بانشداه وأصحابها يزدردون ريقهم لترطيب حلوقهم من مجرد التفكير بشدة اللهيب الذي تحمله هذه الخلطة القادمة من قعر الجحيم!!.....حركت الخليط بالملعقة ببرود ثم سميت بالله وجرفتُ أول ملعقة لأبتلعها بمساعدة رشفة من الماء ....وكررت حتى الملعقة الرابعة صامداً والعيون تراقب.....فأنا بتّ خبيرا بهذه الأمور......لطالما تدربنا على الصعاب وتناولنا مثل هذه الوجبة بل اسوأ منها ....فمثل هذه الخلطات تستخدم للتعذيب من أجل سحب الاعترافات وافشاء الأسرار سواء نحن ضد الأعداء أو هم ضدنا.....وهي من المراحل المتقدمة للوصول لرتب عليا إن كان في الجيش الرسمي أو الكتائب لأنه لا يمكن لأي كان تحملها وبسبب صمودي أمامها وأمام صعاب اخرى بفضل الله وتوفيقه تمكنت آنذاك من نيل لقب قائد [كتيبة الفهد الأسود] رغم صغر سني!! .....لما انتهيتُ من رابع ملعقة....شربتُ كأس الماء بالكامل وقد طرأ احمرار على بياض عينيّ وجفوني وتعرّق طفيف على جبيني كردة فعل طبيعية من الجسد لا علاقة لي بالتحكم بها !!....التفتُ للذي يقف على يميني وأهديته آخر ابتسامة ثعلبية ماكرة حاقدة يمكن أن يراها على الأقل لهذا اليوم وحملت الطبق بخفة تزامناً مع وقوفي المباغت ناثراً ما تبقى داخله بمهارة فهد ثاقب النظرات لداخل عينيه مباشرة لأتبعها بالإمساك بكفه الأيمن ألوي ذراعه خلف ظهره وسط صراخه المتألم المستنكر فهو لا يفهم أي ذنب اقترفه ليلقى هكذا عقوبة والهمهمات من حولنا تتعالى وبدأت تجمعات المارة من الناس تنهال علينا ومنهم من يوثق بهاتفه المشهد ومع محاولة صديقي الجادة بإبعادي عنه بينما كنتُ غير آبه لمحاولاته بل نهرته بحزم غاضب ألا يتدخل ولما شعرتُ أنني تمكنت من كسرها له دفعته أثبته على الطاولة وهو يعافر للخلاص مني ويئن بصخب مزعج بسبب اشتداد أوجاعه لأنهي عقوبتي بلكمة قاسية تحمل غلّي وغيرتي أنزلها على أنفه ثم اقتربت من أذنه منحنيا فوقه هامساً بفحيح رغم أنينه الصاخب:
" أتذكر المرأة التي أتت لتعمل عندكم ومعها طفلها منذ أسابيع؟؟!.....أنا زوجها الأحمق ....جئت لأهديك شيئا من حماقتي التي عبثت بها يا نجس!!....."

ثم انتصبتُ واقفاً زافرا أنفاسي براحة بعد وجبتي الحارة التي برّدت نيران قلبي ولما ساعدوه على النهوض قلت ببرود تحته التهديد بعد انجازي مهمتي وحرق ملفي المعلّق :
" اليد النجسة التي لمستها لا يجب أن تبقى سليمة بل تستحق ما فعلتُ بها.... اشكر الله أنني لم أقطعها لك.... والعينين اللتين لم تغضا البصر عنها حتى هذا الفلفل الحار كان قليلاً عليهما.!!.....بل يجب اقتلاعهما من جذورهما.....أتفهم؟!........هيا انصرف من أمامي ولا تنوح مثل النساء..!!..."

جلستُ مكاني منتظرا مجيء الشرطة الذي لم يكن سواهم الطرف بمكالمتي الطارئة مستبقا الحدث من أجل الاجراءات القانونية بحقي وحقه وقد وصلوا مع سيارة إسعاف ولحق بهم والده الستينيّ الذي استدعاه بشكل عاجل أحد النُدل !!.....كنت جالساً مطمئناً غير مهتم بشيء فالمهم أنني أخذت حقي وحقها وأشفيتُ غليلي....وبعد تحقيقات وحوارات لم أذكر خلالها فعلته بشكل صريح قلت ببرود:
" أريد التكلم مع والده على انفراد!!..."

كان غاضبا يرمقني بنظرات كراهية ومتوجعا على ابنه ...وافق مرغماً بعد إقناع صديقي له للاستماع لي ....جلسنا على طاولة في الداخل ...شرحت له ما جرى بالتفصيل وختمت كلامي أملي عليه خياران لا ثالث لهما:
" يعني لديك هذين الخيارين.!!...أولهما يمكنكم رفع شكوى ضدي لتهجمي عليه وسألتزم بها بكل سرور لكن سيكون المقابل شكوى مني ضده بتهمة التحرش ومحاولة الاغتصاب التي سأضع لها أمهر المحامين كي ينال أقسى العقوبات ولا يخرج قبل عشر سنوات..."

امتقع وجهه من الفكرة وابتلع لعابه وقال:
" أو ماذا؟!.."

قلت:
" أو خروجك من هنا لتتنازل عن القضية وابنك معك بالطبع أمام الشرطة ليغلق الملف دون ذكر حرفاً من اسمي!!...."

ارجعت ظهري على ظهر الكرسي براحة مبتسما أمد يدي على سطح الطاولة أعبث بعلبة المناديل بإصبعي ...لاذ بالصمت مفكرا ثم وقف هاتفا على مضض وهو يعقد ما بين حاجبيه :
" حسناً....الخيار الثاني يناسبنا أكثر!!.."

وخرجنا لينهي القضية ويغلق الملف ثم ركب مع ابنه في سيارة الإسعاف ليداوي جروحه التي لن يخرج منها لأسابيع بينما أنا سحبني صديقي جانبا يريد أن يفهم الحكاية فشرحت له بالمختصر ليقول بإنفعال:
" لقد استحق ما فعلت به...بل عليه أن يشكر ربه هو ووالده المسكين لأنك لم تزجه بالسجن!!..."

×
×
×

أمضيتُ بقية يومي بفندق بعد أن قمت بشراء خمسة علب من الحليب الخاص بصغيري تكفيه لأيام .....فلا حاجة لحمل أكثر لأن الصفقة المرتقبة تمت بفضل الله ثم بفضل أبي(إبراهيم) وستبدأ الشركة بالتصدير لنا مطلع الأسبوع القادم ..!!.....كان موعد طائرة العودة في العاشرة من مساء هذا اليوم فكان علينا الذهاب لعاصمة بلاد اللجوء حيث المطار خاصتهم بوقت مبكر قليلاً لذا عدت للحيّ القديم وبيت مربيتها قبل صلاة المغرب....لم أكلمها خلال اليوم إطلاقا ولما استيقظت في الصباح تفاجأت من عدم وجودي ومع تقدم الساعات ساورها القلق الذي حاولت اخفائه عن مربيتها وخاصة القلق الذي أخذ حيزاً من قلبها بعد أن أفرغت القليل من غلّها عليّ وذلك بفضل اعتراف مربيتها لها بقصة المال الذي تعالجت به وما كان مصدره مجبرة كي تعيد لها ما تبقى منه بكل أمانة وبعد أن أخفته عنها خوفا من غضبها ثم فقدانها للأبد !! ولكنها رفضت أخذه وأبقته كهدية منها لها ولم توافق السيدة سهيلة إلا بعد أن أقسمت عليها مرغمة!! ..وأخبرتها عن مكالمات السيدة (إيمان) لها قبل اشتداد الحرب للاطمئنان عليها وإيصال ذلك لي لتطمئنني عنها بطلب مني قبل انقطاعي التام عنهم .!!..وبهذا أصبحت تعرف القليل عن اهتمامي غير المباشر بها اثناء فترة تنفيذي لهجرها ولكن ما زالت باقي الشهور وهي الشهور الأطول والأصعب مجهولة عندها لذا لن تغفر بسهولة من أجل قرابة شهرين من الاهتمام!!...زارتهما (رهف) أثناء غيابي ليقمن ثلاثتهن مهرجان من البكاء والنحيب يودعن بعضهن لحظة اقتراب الفراق من بعد شهور وأيام نشأت فيها علاقة بينهن من أجمل وأدفأ وأصدق العلاقات التي قد تكون دون أي رباط قريباً أو بعيد ثم قامتا بتوصيتها على حياتها الجديدة ووعدتهن أنها ستزورهن بين الحين والآخر لأنهما هما عائلتها الحقيقية التي وجدتها في أحلك وأصعب لحظاتها واتفقن على التواصل الدائم هاتفياً فهن لن يسمحن لهذا البعد أن يهدم أي خيط غزلته لهن الأيام يوماً بعد يوم حتى بات حبلاً غليظاً لن تؤثر به إي عوامل خارجية!!......

تسلّحت بالملامح الجامدة عندما رأتني لتثبت على عقابها وانتقامها وظلت واقفة على الباب الموارب الذي يخفي ما بالداخل وانهالت عليّ بأسئلة قلقة وعتاب بنبرة جافة يشوبها الاستعلاء والغرور كي لا يصلني اهتمامها الحقيقي خلفه:
" أين كنت؟!...لمَ تأخرت؟!.....ألا تعلم أن العاصمة بعيدة عنا وعلينا التوجه لها قبل ساعات من الموعد!!...لمَ هذا الاستهتار؟! ....أتريد أن نفقد طائرتنا؟!....ألا تشتاق لابنك؟!.....القليل من المسؤولية لو سمحت!....لا يعقل غيابك لساعات دون إهتمام بموعدنا!!
.."

" مهلا يا امرأة.....تريثي وخذي نفسك...ما هذا التحقيق الذي لا يصدر من ضابط المخابرات حتى؟!......كل ما في الأمر انشغلت بإغلاق ملفي الذي اخبرتك عنه وتوجهت لفندق لأنام قليلا دون ازعاجك وها أنا أتيت.."

قطبت جبينها ولوت فمها وقالت بتبرم:
" نحن هنا ننتظر وابنك هناك ينتظر وأنت نائم بالعسل لا تفكر إلا بنفسك..."

زفرتُ أنفاسي المرهقة من وابل اسئلتها وعنادها الغبي وأجبت ببرود لأتخلص من مناكفتها لي:
" صحيح لا أفكر إلا في نفسي....والآن هيا اجلبي حقيبتك وما تريدين أخذه!..."

فتحت الباب مشيرة لأغراضها ببراءة هاتفة:
" هيا أحمل...ها هي أغراضي!!...."

جحظت عيناي بذهول من شدة المنظر المروع الذي أراه أمامي وهتفت بعد إحساسي بشلل بأطرافي:
" ويحك ألمى ...ما كل هذا؟!.....جهاز عروس لا يكون بهذه الكمية!!..."

كانت تضع حقيبتها التي أتت بها وأخرى حقيبة أكبر جانبا وباقي أغراضها بكراتين عديدة أغلقتها بإحكام بملصق وكأنني أقف أمام مستودع لمصنع ....ردت بتلقائية جادة:
" هذه أغراضي كلها وأغراض محيي وألعابه...."

قلت:
" اتركي الألعاب وتبرعي بها ...اشترينا له متجر بأكمله.."

قالت واثقة بإصرار:
" ابني يحب الألعاب التي اشتريتها له أنا....ألعابك لم يهتم بها أساسا ويلعب بمقتنيات البيت فقط!!..."

" يا صبر ...يا صبر.......صبراً آل ياسر.......صبرٌ جميل والله المستعان......الهمني الصبر يا رب."

قلتها جميعها في سري محاولا تصبير نفسي صدقاً ثم حملت هاتفي ووضعته على أذني بعد الضغط على اسمه وبعد التحية ألقيت أمري:
" سيد أسامة ....تعال حالاً....اجلب الفريق بالكامل معك.."

" أهناك أمرٌ خطير سيدي؟!....هل أمسكت بأحد يترصد لك؟!.....هل رأيت مجرم ما......دقيقتين ونكون عندك بكامل الأسلحة...ابعث خارطة المكان..."
" الأمر أخطر مما تتصور لكنه لا يحتاج لأسلحة...لو كان هنالك مجرم لقضيت عليه بنفسي ولن أطلب مساعدتكم.......صدقني قتل رجل أسهل مما ستلقون....اسرعوا"

بعثت له المكان برسالة وانتظرت....خمس دقائق وأقل جاء الفريق كاملاً يقفون أمامي بانتظام بعد التحية العسكرية فقال (أسامة):
" اؤمرنا سيدي....!!.."

أشرتُ له للداخل وأجبت بوجه واجم محرج:
" ساعدوني لو سمحتم بنقل هذه الأغراض لسياراتنا..."

بدأوا بحملها ونقلها بطاعة ..منها الثقيل ومنها الخفيف بينما توليت بنفسي جر حقيبتيها لأنني لن أسمح لأحد بلمسها....فبالطبع تحتوي على اشياءها الخاصة وملابسها الداخلية ومن غيرتي لن أعطي المجال لغريب أن يخمن ما بداخلها وهو يقوم بجرها !!....أما سعادة السفيرة تسير جواري بخيلاء تعلن سيطرتها على رجال الدولة بكافة مناصبهم لا تحمل إلا حقيبتها الصغيرة بشكل أنيق ودلال محبب.....لا يليق إلا بسموّها!!...
×
×
×
مرّ يومان على عودتنا من السفر والأوضاع بيننا لم تتبدل....لم أكن أزر الغرفة المحتلة فقد أضحى هذا نظامي منذ ذاك اليوم وقسوتها وكنت اكتفي بأمي وأخي كوسيط لجلب ابني لي!!.....ما طرأ عليها من تغييرات هو الظهور اكثر عن ذي قبل في الطابق الأرضي....لم تكن تشارك الغداء والعشاء بوجودي وإن أخبروها بغيابي تشاركهما باحترام ووهن فما زال الشعور بالإحراج من افعال والدها يلازمها!!......في عصر هذا اليوم زارني صهري الأشقر ليحتسي كأساً من الشاي هارباً للتنفس من العمل!!....لم يلبث أكثر من نصف ساعة!!.....تركني مستلقياً على الأريكة بغرفة المعيشة وخرج....بعد سماعي لإغلاق الباب بدقيقتين تكرر الصوت مرة أخرى فسألتُ من مكاني:
" من هناك؟!..."

لم استقبل أي رد....تجاهلت الأمر بالبداية إلا أنني لم اثبت على ذلك!....فقد تذكرت أن أمي مستقرة فوق وشقيقي يلعب أمامي بلعبته الالكترونية ويضع سماعات على أذنيه....لم يبقَ إلا المدللة!!.....قمتُ من مكاني وأزحت الستار عن النافذة لأنظر للخارج فضيقتُ عينيّ لما رأيتها تقف مع صديقي في الساحة......تنكس رأسها أرضاً بخجل بينما هو يشيح وجهه جانباً عنها احتراماً لي ولغيرتي عليها فأنا وأصدقائي نحمل نفس الطباع بما يخص الغيرة لذا نفهم بعضنا دون كلام!!...خفق قلبي بوجل وساورتني شكوك عديدة!!....ما قصتها؟!....هي لا تكلم صديقي البتة؟.....وفي الحقيقة تملكني الفضول واجتاحتني موجة غيرة!.....أنا موجود كيف تكلم غيري؟!....ما الذي تراه عنده وليس عندي لتتجه إليه بحديثها الذي تحرمني منه؟!....واثقاً أنها لها طلب ما أجهل ماهيته!!.....لكني بحجم الحائط كما تنعتني ..!.....لم تحاول أن تطلب مني شيئاً آنفاً ولم ألبه لها لأقول أنها اضطرت للجوء للأشقر!!.....أم أنها انتقلت لمرحلة جديدة من استفزازي تريد ضربي بأصدقائي؟!.....وثبتُ من مكاني حامي الدماء والفضول وموجة الغيرة يضغطان على أنفاسي......انتعلت خفاً بيتياً وفتحت الباب خارجاً مقبلاً نحوهما ولما وصلتهما قلت بجدية أنقل حدقتيّ بينهما :
" ماذا هناك؟!....هلّا أخبرتماني؟!..."

كان قد تبدّل لون وجهها ليكتسي بالأحمر حرجاً ولاحظت رجفة خوف على كفيها الذين تشبكهما أمامها بتوتر......سحبت نفسها تستجمع قواها ودون أي كلمة ولّت عنا تخطو بسرعة نحو البيت هاربة من سؤالي!!...شيعتها بنظراتي المبهمة حتى اختفت خلف الباب ثم عدتُ بعينيّ لصديقي رافعاً حاجبي بتساؤل ليقول في الحال مع ابتسامة مجاملة:
" أرى أن تتحدثا أنتما أفضل!!..."

قلت بجدية جافة:
" سامي أخبرني ما بها ...لن تجيب تلك!..."

رد بهدوء:
" لا استطيع...أعطيتها كلمة وعد بألا أتكلم عن الموضوع بعد أن طلبت مني قبل البدء بالكلام ولما أخبرتني ما تريد نصحتها بأن تكلمك بنفسها!......حتى شعرت بخيبة أملها مني لكني قلت لها لو لزم الأمر لاحقاً للتدخل سأتدخل!.....يعني كلمها افضل..."

لم يعجبني رده فهتفت بامتعاض ساخرا:
" ما هذا السر الخطير الذي أمّنتك عليه؟!....وكيف أساسا تكلمك وأنا موجود بحجم الحائط؟!..."

رفع كتفه مع التواء طفيف بفهمه ليجيب:
" لا أعلم....ربما خائفة منك....يمكنك سؤالها ولا تضعاني بينكما !!...."

نظر لساعة يده وقال جاداً:
" عليّ العودة للمركز.....لقد تأخرتُ....أراك لاحقاً إن شاء الله...!"

القينا السلام على بعضينا وكلٌّ راح في سبيله...عدتُ أدراجي والفضول يؤرقني فيؤدي لاشتعالي ....ولجتُ للداخل وألقيتُ نظري للأعلى نحو السلالم مفكراً....حسمتُ الأمر صاعداً بخطوات واسعة ابتلع بها الدرجات......طرقتُ باب الغرفة ففتحت بتردد وهي على هيأتها باللباس والحجاب !....كان الصغير مستيقظاً لتوّه ويبكي....دلفتُ للغرفة وهي تحمله تهدهده فلحقت بها أجاري حركتها قائلا بهدوء:
" ماذا أردتِ من سامي؟!.."

لم تعرني اهتماماً واعتبرتني كأنني لست موجود وبقيت تسير ذهاباً وجيئة تربت على ظهره هامسة بحنو:
" ششش صغيري ..اهدأ أنا هنا....لقد أتيت!.."

" أجيبي!!..."

" اهدأ اهدأ صغيري..."

هتفتُ بحدة أمسكها من عضدها لأوقف حركتها وألفها نحوي مغتاظاً:
" أنا أكلمك فتوقفي مثل البشر وأجيبي!....ماذا تريدين من سامي؟!...."

ازداد بكاءً فصرخت تتهمني:
" انتبه لأسلوبك ولا تخيف الولد...!!.."

صرختُ مثلها دون مراعاة لبكائه لأول مرة بسبب استفزازها الساحق لي بتصرفها مع صديقي من ورائي ثم تجاهلها لأسئلتي عدة مرات :
" لا تتحججي بالولد.....عندما أسال سؤالاً ردي عليّ دون حركاتك المستفزة هذه......قولي ماذا تحيكين ...ما الذي تريدينه ولم انفذه لك أنا؟!!..."

صمتت لوهلة مفكرة وشدت على شفتيها بألم لأنها لا تستطيع البوح والنابض خاصتها تتسارع دقاته برهبة إلا أنها قررت الالتزام بذات الردود المستفزة:
" لا شيء....لو أردت مشاركتك الأمر لما احتجتُ للحديث مع صديقك..."

" ألمى ...لا تثيري أعصابي أكثر وستخبرينني حالاً..."

ردت حانقة:
" ألا يمكن أن يكون لي اسراري الخاصة؟!..."

هدرتُ بقسوة:
" أسرارك لك ولصديقاتك وليس لرجال غرباء عنك!...أتفهمين؟!.."

" ألا تثق بصديقك؟!....ألا تثق بي؟!.."

أمسكتها من عضديها أضغط عليهما بعدوانية مخرجاً صوتي من بين بكائه ودموعه:
" أثق بصديقي أكثر من نفسي وإلا لما سلمته شقيقتي وعائلتي...وأثق بك وإلا لما أعدتك إلى بيتي!....لكني لا أثق بالشيطان!.....والآن ستخبرينني !..."

عادت تعاند فتعالت أصواتنا وسط بكاء الصغير لتطرق أمي الباب ثم تتبعه بفتحها له مقبلة نحونا بهرولة مستاءة منا وهي تسحبه من بين يديها تضمه لصدرها تهدئ من بكائه هاتفة:
" لمَ أصواتكما تصل لآخر الشارع؟!.....كيف تفعلان هذا بكل غباء أمام الصغير؟!...ألا تسمعان بكائه!...."

ثم وجّهت كلامها لي بحدة منزعجة من تصرفي :
" منذ متى تتصرف بهذه الطريقة ؟!...ألا مكابح لغضبك أمامه؟!...هل تريد أن يخرج بصدمات نفسية بسبب توتر علاقتكما؟!....لم أعهدك بهذه الشخصية المتهورة التي لا تحكم عقلها عند اللزوم يا هادي!....خيبت ظني ...خيبت ظني!!....هيا اخرج من هنا....."

التمعت عينيّ بقهر وقلت من بين أسناني:
" أمي من فضلك....خذي محيي وأخرجي ...."

تطلعتُ على جانبي الأيسر حيث تقف مبعثرة الشكل خائرة القوة لاهثة الأنفس وتابعت:
" لديها ما تخبرني به .....ولن أخرج من هنا قبل معرفتي بذلك!..."

حوقلت صاغرة باستياء وضمت حفيدها لصدرها أكثر تغدق عليه بحنانها وتقبله وتمسد على شعره الناعم القصير وكان قد بدأ يستكين بحضنها ثم أدبرت خارجة تغلق الباب خلفها...ومن خلف الباب توقفت قليلاً تشعر بالقهر...ليس منا بل على حالنا .....تنهدت بألم والحزن يلمع بعينيها.....نظرت للمستكين بحضنها وهمست بخفوت:
" آه يا صغيري....لا أعلم كيف نصلح بينهما....الاثنان يعشقان بعضهما بجنون لكنهما يكابران بغباء والنتيجة تتلقاها أنت ......لكني أفهم ولدي وتصرفاته.....هو ليس قاسياً أو غير مراعي.....أعي غضبه جيداً.......هو رجل له احتياجاته.....شهور بقي دون امرأة وأدى هذا لتراكمات من الرغبة قد كبتت حد الهلاك!.....والآن هي أمامه بجمالها لن يتحمل هذا العذاب فيخرجها بالغضب المؤذي...ليتها تدرك ذلك....ليتها يا صغيري...ما زالت تخجل مني وبعيدة عني وإلا لكنتُ قد ألقيتُ عليها نصائحي ...فهي بالكاد تتكلم معي بالأساسيات!!......هداها وإياه الله وأفرح قلبنا بجمعهما من جديد!!...."

عدنا لمعركتنا عندما هتفت ساخرة تعيد كلام والدتي عني:
" أرأيت كيف خيبت ظن والدتك بك؟!....."

" اتركي تهكماتك واخبريني ما الأمر؟!...."

استدارت مقبلة نحو الباب فاجتزتها واغلقته بالمفتاح ثم سحبته ووضعته في جيبي قائلا بنفحة برود:
" لا ترهقي نفسك ولا ترهقيني معك.....قسما لن نخرج من هنا إلا وأنت تخبريني ما الذي تريدينه؟!.."

" لمَ تحرجني؟!.."

" وأنتِ بنظرك لمْ تحرجيني وأنت تختاري صديقي عني للبوح بسرك ؟!.....قولي...."

زفرت أنفاسها ونكست رأسها ثم تركتني متجهة نحو طاولة الزينة متهربة مني دون إجابة متسلحة بصمتها...لحقت بها وكررت سؤالي ولم تجب مصرة...كانت تزدرد ريقها وتشعر بجفاف حلقها لشعورها بالإحراج ولم أفهمها!....ففجرت آخر ما تبقى عندي من صبر عندما أمسكتها من ذراعيها وحشرتها بالحائط صارخاً بها بقهر:
" اسألك للمرة المليون....ما الذي تريدينه.؟!...لن أسمح لكِ أن تعامليني كرجل كرسي سواء فيما بيننا أو أمام الناس....أنا زوجك فاجعلي عقلك الصغير يستوعب هذا....رضيتِ أو لا هذه الحقيقة!.....لن تلجئي لأي غريب بحضوري وغيابي وعليكِ احترام اسمي ومشاعري!....أتفهمين أم أعيد علّ مخك يفهم ما أقول؟!.."

رفعت يديها بقوة استحوذت عليها وأمسكت ساعديّ لتتحرر ثم دفعتني من صدري صارخة بقهر أكبر دون منع دمعاتها الحارقة المحترقة من الانسياب على وجنتيها المخضبات بحمرة الوجع والحسرة :
" هل يمكنني أن اسألك أنت كيف حال والدي؟!.."

تدفع وتتابع:
" هل أطلب منك أنت السماح لي بالتواصل معه أو الاتصال لمرة به على الأقل؟؟!..."

تستطرد والقهر يتعاظم داخلها والعبرات كشلال منهار من السماء يبلل حجابها من تحت ذقنها:
" لو طلبت منك زيارته ...أتسمح لي؟!..."

أجهشت ببكاء مرير بعد أن تسمرت بوهن في منتصف الغرفة مطرقة رأسها للسجادة مستطردة:
" كل ما طلبته منه أن يعلمني بحال والدي ....هو عدوكم أعرف...لكنه والدي ....والدي الذي لا يمكنني إلا أن اقلق عليه! ....أن أحبه....أن أشفق....لا يمكنني نفي مشاعري المتجذرة في خلاياي صوبه مهما فعل.....إلا أنني أشعر بالإحراج منكم جميعا....منذ اليوم الأول لم انفك عن التفكير به وبمصيره وحالته ولم اهتدي لسبيل للاطمئنان......وبعد تفكير عسير ارهقني أيام وليالي رأيت السيد سامي منقذا لي بحكم منصبه الذي يلبي مطلبي ولأنه...لأنه يبقى لا يربطه رباط دم بـ..بـ...والدك...رحمه الله.!!...حتى شعوري هذا اقتحمته بفضولك وغيرتك ..لم تسمح لي ببعض الخصوصية بريئة النية...لم تترك سرا لي ....بيني ونفسي!!......هل ارتحت الآن؟!....اخرج!!...."

أأرتاح وكلامها ترك ندوباً في قلبي وجراح؟!...ما زالت تظن بي ظن السوء....ما زالت تجهلني!!....لقد قلتها في السابق والآن سأعيدها لتسمعها .....خفضت صوتي ليتخذ الهدوء ممراً له وهمست بحنان مغلف بالخيبة منها وعليها:
" عندما خيرتك قبل فراقنا أن تبقي معي أو تتركيني.....اخترتِ تركي فخسرتِ حينها كل شيء...كل شيء.....يوجد تدابير القدر لكننا مخيرون بالكثير من قراراتنا ....نختار ونترك الباقي لله ولحكمته بالتنفيذ أو المنع........كنتُ انتظر أن تختاري البقاء معي لكنتِ قد كسبتِ الكثير وأولها تواصلك متى شئت مع والدك.....لم أفكر إطلاقاً أن أمنعك عنه ولن أنزعج....فما بيننا وبينه شيء ورباطك به شيء آخر ....لستُ ظالماً ولا قليل عقل كي لا أتفهم هذه النقطة!!.....ولو أنتِ بنفسك أهملته لحثثتك على الوصال.....من أجل صلة الرحم ومرضاة الله ....فأفضالها كثيرة وغاياتها جميلة....خالتك رحمها الله قالت لي يوما وهي توصيني عليك.....لم نختر أهلنا بأيدينا ....هم رزق من الله سبحانه مقسم الأرزاق....سمعتها حينها ولكني كنت أدرك ذلك من قبل ولم أفكر يوما بإيذائك بسبب والدك أو معايرتك به.......ومنعك عنه وحرمانك منه وهو حي هي كل الأذية وأنا لم أتربّ لأؤذي بل لأنقذ...لأحمي...لأعطي..... لأنصر الحق وأمنع الظلم....هكذا نشأت من طفولتي ...لكن للأسف حتى بحبي لك لم تفهميني ولم تقرئي ما تحمله شخصيتي!!....ربما لا يقع اللوم عليك.....فالظروف كانت سيدة الموقف دوماً ولم نعش لحظة بحقيقتنا وفطرتنا التي جبلنا عليها....بل العناد والغضب فقط كانا من يحكمانا....!!..."

كانت قد دنت من السرير تجر قدميها بخطوات واهية لترمي ضعفها عليه جالسة توليني ظهرها تتابع بكائها إلا أن كل كلمة مني وصلتها وسمعتها ....اقتربتُ منها وبعد تردد مستفز ما بين بسط كفي وقبضه بسطته أخيرا أمده لأضعه على كتفها أشد أزرها هامساً بلطف:
" لا تبكي....كلانا أخطأنا!!....هيا انهضي الآن وغسلي وجهك لنصالح المشاغب ....لن نبقي صورتنا البشعة بمخيلته...."
" لا تبكي....كلانا أخطأنا!!....هيا انهضي الآن وغسلي وجهك لنصالح المشاغب ....لن نبقي صورتنا البشعة بمخيلته...."

استدارت بحدة طفولية مجيبة:
" صورتك أنت البشعة ....أنت من بدأت ..."

ابتسمت رغماً عني وقلت:
" حسناً كما تريدين...صورتي البشعة....تعالي ساعديني عليه!..."

أجابت بانزعاج:
" لا تعاملني كالطفلة وتوافق على كلامي لتسكتني فقط وفي داخلك أفكار مغايرة!!...."

ضحكت وحوقلت ثم تحركت لأكون مقابلاً لها بوضوح وأصدرت صوتاً اجذب نظرها ورفعت يدي لفمي بحركة أني أغلقه ....لم تضحك العابسة ولم تتحرك قيد أنملة بل كانا حاجباها ملتصقان من شدة العبوس ...تركتها لتهدأ على مهلها وخطوت للخروج.....حككتُ رأسي متذكراً ثم التفت صوبها هاتفاً متحمسا لأحمسها معي:
" آه صحيح تذكرت....تعلمين بعد ثلاثة أيام عقد قران صديقينا....علينا الذهاب غداً للصائغ لتختاري على ذوقك هدية العروس فأنت أعلم بذوقها.....كي تلبسيها لها يوم عقد القران!!....اتفقنا؟!..."

وسحقت كل آمالي وهدمت حماسي بل فتكت قلبي دون رحمة عندما ردت جادة ببرود :
" ارح بالك....لن أذهب معك لا للصائغ ولا لعقد القران ....تستطيع شراء ما يحلو لك لا يهمني .....أما صديقتي قد اعتذرت منها عن الحضور وتفهمت ذلك في النهاية واحترمت قراري!!......نحن لسنا عائلة سعيدة لنخوض مثل الناس حياة طبيعية .....أعتذر سيادة رئيس الأركان إن كنتَ...... ستظهر وحيداً بالاحتفال.... خلافا لأصدقائك!!......"

تبسمتُ....فقط تبسمتُ ...والابتسامة تحمل من المعاني كثير.....هذا كان كل ما بحوزتي للرد...فلم يعد لي طاقة على القتال!!....وخرجت بهدوء مميت لتفعل ما يحلو لها....!!.....وكان تصرفها هذا صدر منها متسرعاً بحماقة نابعاً من كيدها لأنني لم أعطها وعداً أو أملاً بما يخص والدها وهي التي تحترق وتتعذب لتسمع كلمة عنه!!....أما تصرفي الأخير .....ابتسامتي الصامتة وهدوئي كان السلاح الأشد فتكاً بها دون قصد!....فبعد اختفائي استوعبت رعونتها وردها الذي بغير محله !!...هي كلمت صديقتها فعلاً واعتذرت لكن كان هذا لاعتقادها أنني لن اصطحبها فحفظت كرامتها أمامها مستبقة الأحداث والآن أحست بفجاجة الأمر وما جنت بيدها وهي التي عزمت بداخلها إن تقدمتُ خطوة ستتقدم منذ الكلام الكبير الذي صفعته (رفيف) في وجهها ولم يتحمله قلبها.....احتل البؤس مقلتيها وتأجج احساسها بأن الخطر يقترب منها والخسارة قادمة لا محالة...بات كل شيء ثقيلاً على صدرها....أفكارها تشتتت دون مرسى...شعرت بهوانها الذي تغذيه بعنادها....كانت الطبول على مسرح قلبها تقرع دون شفقة.....استقامت منفعلة لتخفف من وطأة ما تعيشه هذه اللحظة....فكان كل شيء يجتاح جسدها كثيرا عليها ولا تقوى على تحمله....اقتحمتها قابلية تلح عليها للصراخ لكن الجدران لها آذان فتشي عن حالها المثير للشفقة.!!....انحنت تكمش غطاء السرير وبدأت ببعثرته مع المخدات أرضاً وهي تبدل صرخاتها لبكاء صامت عصيب تشتم ذاتها:
" غبية ..غبية ....الحقيرة محقة ....أنا لا شيء لدي فعلاً....بدل الاصلاح أزيد على الطين بلة وأدفعه نحوها بسخاء....أمهد لها الطريق بسهولة للوصول........ابكي يا حمقاء وأرثي مستقبلك معه من الآن.....مستقبلك الذي أضعتِه بقلة نضوج تفكيرك وردودك الرعناء....!!

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

ذهب الليل وانبلج صباح اليوم التالي......زرتُ (بلال) في الشركة ورافقني سيادة اللواء....أما عريسنا فهو بهذه الأيام منهمكاً بين أعماله وتجهيزات حفل عقد قرانه لذا كانت الجلسة تنقصه.....تطرقنا لعدة أمور خلال الحديث وكان على رأسها فرحتنا بشيخنا الوسيم والتحضيرات.....كنا سابقاً قد اتفقنا فيما بيننا أن تهدي نسائنا عروسه مجوهرات تعبيراً عن صلتنا المتينة ببعضنا وأنها هي ستكون زوجة لأخينا ...فأهل العريس في العادة وأخوته هم من يقومون بتلبيس الكنة الذهب والمجوهرات ونحن أخوته وأكثر.......وأثناء جلستنا اتفق صديقيّ على إرسال النساء للصائغ دوننا وأن تكون زوجتي المصون رفيقة لهن للاستعانة بها على ذوق صديقتها العروس.....تفاجئا لما ألقيتُ عليهما قنبلتي بأنها لن تذهب لا هنا ولا هناك وقد وصل الأشقر لمعة الحزن الذي يسكن في قلبي ووشت عنه عيناي ونبرة صوتي !!......بعد أن انتهى من دوامه عاد للبيت يحمل خيبته من أجلي ...هو يعلم عن توتر العلاقة بين زوجتينا ولم يتدخل بالموضوع ولم يحاول الضغط على خاصته....أما الآن بعد أن رأى الشجى الذي يعتمر قلبي وخاصة بعد أن تكلمت معه المدللة ولمس براءتها ونقائها بات يقرأ شخصيتها أكثر وطيبتها وعفويتها فعزم على المحاولة مع زوجته لإقناعها بالتقرب منها عسى أن يكون لها دورا مؤثرا لإصلاح علاقتنا....فهو أدرك أن تلك تشعر بالغربة بيننا وأنها تحتاج لعلاقات تملأ عليها وقتها كي تنسجم وترتاح وتتبدل غربتها لانتماء حقيقي بكل جوارحها !!.....فتح باب المدخل بمفتاحه الخاص ولما أحست دنيته به هبطت السلالم تستقبله وهي ترتدي منامة قطنية صيفية من بنطال ضيق قصير لونه أسود وبلوزة دون أكمام بيضاء يتوسطها قلب أسود ....هجمت عليه لوحدها كالسابق قبل أن يقتحم المخلوق الصغير حياتهما ويحرمه تلك اللحظات التي باتت نادرة الوجود....تعلّقت في عنقه بدلال يحبه فأحاط خصرها بذراعيه القاسيين يقربها نحوه ثم يميل بجذعه ليقبّل ثغرها قبلة سريعة تعني السلام....همست متغنجة وهي أسيرة بين يديه:
" أشقري يريد أن يأكل أولاً أم يستحم ؟!.."

ارخى تطويقه لها ورفع حاجبه بارتياب ناقلاً حدقتيه بالأرجاء ليسأل بدلا من أن يجيب:
" أين سليمان؟!..."

" نائم......لم تقل لي ماذا تريد أولاً؟!..."

" تقولين نائماً وتسألينني عن الطعام والاستحمام...ألا تخافين الله بعبده البائس الظمآن؟!..."

أخرج كلماته وبحركة خفيفة متقنة منه حملها لتغدو على ذراعيه بوداعة أنثى تهدم حصون قوته وبالذات عند اطلاق قهقهة مائعة منها تؤدي لالتماع شهد عينيها وسار بتمهل هاتفاً برغبة عاشق محتاج:
" هل أنا بحلم يا عيني الشهد؟!....أخيراً من بعد أسبوعين تكرّم علينا السيد سليمان لنخلو في بعضنا؟!.."

خفتت ضحكاتها وتنحنحت لتسحق طموحه قبل أن ينمو أكثر هاتفة بلا مبالاة:
" الآن موعد استيقاظه ....منذ ثلاث ساعات وهو نائم!!..."

أنزلها أرضاً حانقاً يعاتبها:
" ولمَ لم تتصلي بي وتخبريني؟!.."

بميوعتها معه مررت اصبعها على صدره تمط شفتيها بعبوس مصطنع هامسة بدلع:
" وهل هي المسألة فنجان قهوة لأدعوك بنفسي وأنت بالخارج؟!.."

رد متخطيا سؤالها يذكرها بتهديده الماكر لها منذ أيام والذي أحيانا تأخذه بمزاح وأحيانا بفعل الهرمونات تخشاه:
" لا يعنيني....تصرفي.....شطبتُ أسبوعين الحرمان من القائمة وبقي آخر أسبوع معك.....إن لم تستغلي فرصتك سأتزوج كما قلت مع انتهائه......ها أنا أحذرك!!..."

حاوطت عنقه بذراعيها واستطالت على رؤوس اصابعها لتصل شفتيه تهديه قبلة قبل أن تهمس:
" قلت لك هو طفل لا يعمل على جهاز تحكم ....هذا نصيبنا!....سيكبر إن شاء الله ويستقر في غرفته ونومه!!..."

فك ذراعيها ناظراً باعتراض وهتف:
" بربك....هل سأنتظر حتى يكبر السيد سليمان وينام قرير العين؟!.....قلت تصرفي ....أنت أمه وتعلمين نظامه جيداً....إما أن تضبطي نومه بموعد مناسب أو تدعوني لفنجان قهوة كلما سنحت الفرصة كما قلتِ...."


" هل ستترك العمل وتأتي لتحتسي في بيتك فنجان القهوة ؟!...لا يعقل....سيادة اللواء سامي لن يفعلها!..."

" يوجد أوقات كثيرة غير العمل...حججك ضعيفة....ابحثي عن غيرها في الوديان يا ضفدعة!!.....أنا لا يعنيني....تصرّفي!!.....الوقت ليس لصالحك!!..."

قالها وبدأ بفك أزرار قميص زي الشرطة الرسمي متجهاً نحو السلالم للصعود ليضيف:
" سأستحم وأجدك حللتِ الموضوع....دبريه بمعرفتك!.....أنا إنسان ليس آلة ....لي قدرات محدودة على التحمل!!....."

صدح بكاء الصغير مع وصوله للأعلى فتأففت يائسة وتمتمت:
" آه منك يا سليمان .....تسوّد وجه والدتك دوما أمام حضرة اللواء....اعطف علينا بين كل حين كي لا تدمر أسرتنا الجميلة!!..."

وتنهدت قانطة قبل أن تبتسم مردفة بعد أن لاحت ببالها الفكرة:
" سأتصل بشادي ليأخذه عندهم....سأتحجج بأن سامي نائماً وأن لدي عمل لم ينتهِ بسبب سليمان....سأنهيه وألحق بهم!!....."

هزت أصبعها تكلم الهواء تؤيد فكرتها معتزة بإنجازها:
" أحسنتِ دندن ....سينطلي الأمر على أمي وشقيقيّ......فهذا الحل أفضل من اقتراحاته السابقة بأن يبعثه لأهله....هنا أخوته كلهم شبان وهو وقح سيفضح نواياه متفاخراً ببطولاته ويحرجني!!...."

بعد ساعة من الزمن خرج من الاستحمام الثاني واستلقى على فراشه منتشياً .!!..مرتاح البال مسرور الحال.....لقد نال ما يريد بعد قحط دام لأيام ليست قليلة!!....يبدو أن ضرب المرأة بالمرأة يأتي بنتيجة وخاصة ضفدعته سريعة الانفعال وشديدة الغيرة بالذات عندما تلعب بها الهرمونات تخشى تهديداته وتأخذها على محمل الجد!!.....خرجت هي الأخرى ترتدي روب الحمام القصير ولما اضحت بالقرب منه باغتها يمد يده ليشدها فتسقط على صدره....أحاط وجهها بحنان واقتنص شفتيها بقبلة تحوي عشق ملتهب لا ينطفئ وهمس عند أذنها بدفء أنفاسه يهديها نبرة امتنان:
" كنتِ رائعة يا عينيّ الشهد!!.....ساحرة... كعادتك حبيبتي....رضي الله عنك وأرضاك....."

قبّل جبينها واستأنف معتزاً:
" نعمَ الزوجة أنتِ يا ابنة الأصول....لا حرمني الله منك!.."

تركها لترتدي لباس الخروج حيث ستقوم باللحاق بابنها ...عدّل جلسته على السرير ينزل ساقيه أرضاً.....كان يراقبها ...يهديها نظراته المحبة بينما فكره ضائعا بحالنا أنا وزوجتي!.....لما انتبه لانتهائها من تجهيز نفسها ناداها وهو يربت على السرير جواره لتجلس ففعلت مستغربة.....أخبرها عن وضعنا وعن رفضها لحضور الحفل والمساعدة بالهدايا....وبدأ يشرح لها عن تلك تحت نظرات اندهاشها لأنه لأول مرة يفتح معها هذه السيرة.....في البداية كانت مستمعة له....هي تفقه أن لا ذنب لها بأفعال والدها لكنه لا يدرك الجزء المخفي الذي جعلها تنفر منها وتحقد في الماضي وهي محاولة أذيتها لي كما اعتقدت وما زالت تعتقد!!......قررت الافصاح عن السر فأخبرته بقصة البندقية وإطلاقها للنار صوبي وتحذيري لها بعدم إخراج كلمة.....وما أثار ذهولها هو ردة فعله عندما لم يجفل بل ابتسم بوقار وقال:
" أولاً لو كنتُ مكان هادي لفعلت نفس الشيء...لن أقبل لأختي أن تشي عن موقف حدث بيننا أمامها مهما كان جيد أو سيء.....فهذا حقي كما حقه.....حقنا بحمايتكما من التعرض للكلام الجارح أو التسبب بنفور الأهل منكما.....وها أنت قد نفرتِ........أما عن تصرفها وإن كان خاطئاً أنت لم تري غيره ولم ولن تشعري بما عاشت وعانت حتى وصلت لهذا الموصول وهو رفع البندقية ....اسألك بالله حقاً....أن تفكري عندما تختلي بنفسك ...ماذا لو كنتِ مكانها .....لا تتركي أي تفصيل من حياتها والصقيه بك وحاولي استشعار ردود فعلك عند كل موقف هي عاشته.....ألا يكفيها أنه تزوجها من أجل مهمة ...مهما كان يحبها.....ألا يكفيها خداعه لها أشهر بشخصية أخرى وحياة أخرى ....هذا وحده كافيا لتنبت عندها ردود فعل متطرفة!!...لن نجبرك على الاقتراب منها والتعاطف معها ومحبتها......لكن لا تنسي!.....عيشي بخيالك ما عاشت منذ طفولتها .....وتصرفك العفوي التلقائي سيكون الإجابة لما شعرتِ...."

×
×
×

بعدما استقرت في بيتنا وتبادلت أحاديث متنوعة مع أمي فاجأتها بقولها:
" أمي....أريد أن أتصالح مع ألمى!....لقد اقنعني سامي في الحقيقة.....وسأعتذر لأخي إن أحزنته بتصرفي الجاف معها فهي تبقى زوجته ولن يسمح بها!...."

شقت ثغرها ابتسامة عطوفة فخورة وربتت على ظهرها بامتنان وتشجيع ثم همست:
" هذه هي ابنة القائد محيي الدين رحمه الله....من لا تترك مكانا للغل والحقد في قلبها ....من تسعى للإصلاح ونثر السعادة على من حولها!!.....رزقك الله سعادة الدارين يا ابنتي......أنا متأكدة ستصبحان بإذن الله شقيقتان جميلتان مترابطتان لن يقدر عليكما أحد!!...."

هي قوية واثقة بشخصيتها لكن بسبب البعد والجفاء بينهما كانت ملتبسة بعض الشيء....تخشى ألا تنجح بمهمتها....أو أن تصدها تلك بقسوة فتتشاجران بدلا من أن تتقاربان......كانت تحمل حجتها.....ابنها (سليمان) ليكون المفتاح للدخول وتسيير الحديث بحجة أنه جاء لزيارة الآخر واللعب معه رغم أن في سنهما لا طلبات منطوقة وصريحة !!....طرقت الباب بهدوء وردت على سؤالها عن هوية الطارق!!....في الداخل أصابها توجس وخفق قلبها برعب....هي تخشى مواجهة شقيقتي ....لا تستطيع مواجهة قوتها وبعد معرفتها بحقيقة والدها صعُب الأمر أكثر......لا شيء جيد في حياتها تعتمد عليه لتدافع بثقة....كل أساساتها مغشوشة الصنع!!....تنحنحت ودنت أكثر من الباب دون أن تضع حجابها فالضيفة أنثى لا زوج غريب غير مرغوب به لتخفي عنه كنوزها!!...فتحت لها بحذر وعقلها يصوّر لها أنها ممكن أن تكون تحمل بندقيتها لتشهرها عليها كما فعلت هي لي أمام مرأى عينيها......وجدتها بشوشة الوجه مريحة النظر وابنها مثلها مسرور ببراءة....حيتها بالسلام وأضافت بعد ردها عليها:
" جاء سليمان ليلعب مع صديقه محيي الدين....هل يمكننا الدخول أم نسبب لكِ الازعاج؟!..."
هربت أول مخاوفها وجزء من السكينة زارها ففتحت الباب باتساع أكثر وضحكت بطيبتها قائلة:
" أهلا بكما....تفضلا ...لا يوجد ازعاج!!..."

دلفت وأسرعت خطاها لما رأت الصغير يلعب على الأرض....وضعت ابنها جواره وحملته قبّلته هاتفة بمحبة:
" جئنا لنلعب معك يا روح عمتك!!....لا نريد شجار وترك علامات عنيفة على الوجه.....العبا بهدوء !!..."

كان يضحك يناغي فرحاناً فهو يحب رؤية الناس حوله!...أعادته لمكانه وجلست على أريكة فردية قريبة من طاولة الزينة....وهمست :
" كيف حالك ألمى؟!..."

ردت برسمية كما السؤال:
" الحمد لله بخير..."

أشارت للأريكة الفردية الأخرى التي تفصلها عن الأولى منضدة دائرية وطلبت منها الجلوس ففعلت.....تنحنحت وهتفت مبتسمة تدعي عدم معرفتها برفضها لمرافقتي:
" كيف تحضيرات صديقتك لعقد القران؟!.."

" على قدم وساق....متحمسة جداً...فليسعدها الله..."

أمّنت خلفها وأردفت تنسج قصتها والنية طيبة:
" لقد احترنا أنا وسلمى زوجة بلال صديقهم بالهدية.....فجئتِ ببالي لأنها صديقتك المقربة...مؤكد تعلمين ذوقها....فهكذا أنا وسلمى نحفظ كل شيء يخصنا!!.....ما رأيكِ لترافقينا بعد قليل وتساعدينا بالاختيار؟!..."

تخضب وجهها بالحمرة حرجاً وزاغت عيناها جزعاً....ابتلعت غصة توقفت في حلقها ثم أجابت بتلعثم تحاول التملص:
" ميار فتاة طيبة تقبل أي شيء .....سيعجبها ذوقكما بالتأكيد!!....أضمن لكِ هذا...."

وأضافت بثقل:
" لا أستطيع مرافقتكما ....اعذريني أرجوك..."

حاولت أن تستعطفها فمدت يدها منحنية بجذعها نحوها لتمسك كفها بدفء أخوي مستخدمة سحر اللمسات وهي تقول برجاء :
" أرجوك أنتِ ألمى ... رافقينا.....سأعرّفك على صديقتي سلمى وستحبيها وتحبك.......لا تخذليني!!..."

تلاطمت الأمواج داخلها بين مد وجزر....تارة شعرت بالحماس لتفعلها ومرة يختفي هذا الحماس خلف الخوف من عواقب أي خطوة قد تتخذها....!!...عادت تلح عليها برجائها فوجدت تلك حجتها:
" في هذا الوقت سينام محيي الدين ويرهقني بحمله!!..."

هتفت بحبور تشجعها:
" من قال أننا سنأخذ الصغيران؟!....سنتركهما لأمي والضفدع شادي......."

ونصبت كتفيها بتباهي وتمثيل مستكملة:
" سنخرج كفتيات عزباوات ونمرح معاً بالمجمع....نأكل البوظة ونصرف أموال أزواجنا بسخاء دون ذمة أو ضمير!!..."

في البداية ضحكت وقد ذكرتها بأحاديث (ميار) لوهلة ولكن عند كلامها الأخير انسحقت الضحكة وشعرت بالكدر وشيء سيء يجثم على صدرها توترت فخرجت حروفها مرتجة:
" لن....لن اشتري شيئاً ...سأرافقكما من أجل الهدية فقط!"

تحولت للجدية وهتفت بهدوء:
" ألمى أعلم بتوتر العلاقة بينك وأخي.....لكن أرجوك لا تحبسي نفسك ولا توقفي حياتك من أجل أي شيء .....لن أتدخل فيما بينكما فهذا يعنيكما لوحدكما...لكن.."

بدلت نبرتها بمكر باسمة لتشعرها بالراحة نحوها وتقربها منها بعفويتها تلك التي لا تكون إلا مع المقربون وهتفت بمبالغة في سرد الأحداث:
" لكن بصراحة أنتِ مخطئة.....تعلمي مني.....كلما أتشاجر مع زوجي لا اصالحه إلا بقطعة من الحليّ التي أعشق أو بأخذ بطاقة الائتمان خاصته والضياع بالمجمعات لأصرف ماله هنا وهناك !!....فلا يمكنني ضربه ولا شتمه لكن يمكنني الانتقام منه بجيبه....هكذا يفكر ألف مرة قبل أن يزعلني! ...أما أنت استمري بشجارك مع أخي إن وددتِ لكن لا تحرمي نفسك من لذة الانتقام من جيوبهم....فصرفهم علينا واجبٌ عليهم رغما عنهم ومتعتنا حق لنا ننتزعه منهم .."

ضحكت لحديثها ولم تعلم كيف اختفت الرهبة منها لتحتل السكينة التامة مكانها فقالت بقنوط:
" حسناً مثلما تريدين......"

رمقتها بنظرة رضا مبتسمة ثم مررت عيناها لشعرها ومسكت أطرافه بيدها قائلة باهتمام:
" تبارك الله شعرك ساحر لكن تحتاج أطرافه للقص ويحتاج لمساحيق عناية قبل أن يجف!!..."

ضمت بعض الخصل بكفها وهمست ببؤس:
" أجل أعلم....لكن محيي كان يأخذ معظم وقتي وأنت تعلمين هنا لا أخرج لمكان!!.....لا أعرف أي شيء في بلدكم ...لا صالونات تجميل ولا غيرها!!..."

تململت متحمسة وهي ترفع يدها بحركة عرض عضلها كرجال كمال الأجسام لتمر ذكرى هذه الحركة في بال التي تقابلها لما فعلتها عمتي( لبنى )عندما مكثنا عندهم بعد عبورنا النفق فابتسمت لما رأت كم التشابه بينهما في الشكل والحركات والأولى تقول تزامنا مع حركتها :
" لا تقلقي......مع دنيا لن تضلي....سأدلك على صالون تجميل أتعامل معه ....تشترين كل ما تحتاجين من أدوات عناية ومساحيق زينة..."
غمزتها ورفعت كفها أمامها لتضرب الأخرى كفها به وهي تهتف:
" اتفقنا؟!.."

" اتفقنا!!.."

كررت الكلمة فنهضت شقيقتي عن الأريكة تتمطى وألقت نظرة مراقبة للصغيرين الذين لم يفتعلا أي مشكلة تشوش عليهما وهمست طالبة وهي تدنو من ابنها وتحمله:
" حمليني محيي على ذراعي الآخر لأنزله معي وتجهزي....سأنتظرك في الأسفل كي آخذ من امي بطاقة الاعتماد خاصتكم من أجلك.."

تعمدت انتقاء ضمير جمع المخاطب لتحسسها بالانتماء لكل شيء في البيت وأن جميع ما هنا يخصها ولها حق به دون حساسية وشعور بالإحراج والخجل!!.....

×
×
×

خرجتا من البيت برفقة سائقنا العم (أشعب) وكان قد بعث الأشقر حارس بيتهم الخاص معهم وهو رجل في نهاية العقد الرابع ...ملتزم دينياً ...دمث الأخلاق...صحته معه ...يبدو عليه ابن الثلاثينات بقوته.....التقيتا بالرفيقة الثالثة (سلمى) الحامل بنهاية الشهر الخامس والتي أشعرت المدللة بألفة وانجذاب صوبها....كانت كأنها فيها منها ....هادئة الطباع وخجولة ولا تمتلك قوة الشخصية الموجودة عند (ميار) و(دنيا) ....تجولتا في المجمع وكان الحارس ينتظرهما في الطابق الأسفل ليترك لهن الخصوصية كما أوصاه صديقي الحريص على كل ما يخص زوجته.....اتفقن على شراء أساور بذات القيمة المادية ليعدلن بين الأصدقاء بالهدية ولكن بتصميمات مختلفة وراقية وكان وفق ذوق صديقتها ....عند دخول المحل الخاص بالفساتين الأنيقة من أجل الحفل اتخذت (ألمى) ركناً قصياً تقف به دون اهتمام بالغوص معهما بين الفساتين ....تنبهت لها (دنيا) دنت منها هاتفة باستغراب:
" ألن تختاري فستاناً للحفل؟!..."

تأكدت من بعد الثالثة عنهما فهي تعتبرها غريبة ولا يمكنها مشاركتها وضعنا وردت:
" أنا لن أذهب للحفل...."

عقدت ما بين حاجبيها وقالت بنبرة معترضة:
" بسبب أخي؟!.."

حاولت التملص من الإجابة إلا أنها آثرت نطق الحقيقة لتقطع طرقها بالاقناع:
" أجل دنيا.....نحن علاقتنا مهزوزة ...لم نتعافى بعد!!......لا يمكنني مرافقته بسيارته لوحدنا مسافة طويلة وكأن أمورنا على ما يرام....ولا يمكنني مرافقته بالحفلة والتمثيل أمام الناس بالسعادة وداخلي لست راضية....!!..."

ردت من فورها دون بذل جهد للإقناع:
" من قال ستذهبان لوحدكما؟!....ستأتيان معنا!...هذا أولاً...فأخي كلّم سامي ليرافقنا....ثم لا يوجد عندنا اختلاط بالمناسبات كي تتواجدي معه!...بغض النظر أن صديقهم أحمد خاصة ملتزم جداً ولا تروق له هذه الأجواء.....بمثل هذه المناسبات في المجتمعات المحافظة نفصل بين الرجال والنساء!!....ونحن منهم!!.....عليك أن تعتادي يا زوجة أخي على هذه الأجواء وهذه الحياة......المهم اطمئني.."

وضعت يدها على ذراعها ...غمزتها وأكملت بخباثة:
" لا يوجد خلوة لكما في السفر لكي تخشي اعتداء غاشم أو اغتيال من أخي.....يعني لو رافقتيه لوحدكما بالفعل لن أضمن صبره......ربما سيخطفك لفندق حينها!..."

توردت وجنتاها حياءً وابتسامة طفيفة ارتسمت على محياها تجاملها....لتردف (دنيا):
" ثم عليك انت الاصرار للحضور لو هو من منعك.....هذا يوم مميز لصديقتك وعليك الوقوف جانبها!...."

سحبتها من معصمها تحفزها وهي تهتف دون اتاحة لها الفرصة بالرد والرفض:
" هيا لتختاري فستانك معنا..."

بعد انتهائهن من المهم وشراء اللازم ...تجولن من غير هدى بين المحلات....انتبهت شقيقتي لمحل ملابس داخلية وقمصان نوم مميزة للحوامل فشدت صديقتها هاتفة بحماس مشيرة باصبعها:
" انظري سلمى... هذا هو المحل الذي أخبرتك عنه فيه للحوامل....ستجدين ما يعجبك....راحة وجمال...."

وكزتها بمرفقها على ذراعها واضافت بجرأة محدودة:
" سيذوب زوجك....اسأليني !!...."

كانت تتحدث بعفوية وطيبة ولم تفطن لوضع رفيقتهما الخاص وحياتها البائسة بالزواج والحمل والميلاد والى الآن .....ويعلم الله حتى متى!!....شعرت بغبطة من حديثهما عن الأزواج أثناء الحمل....المغامرات بحلوها ومرها....المناوشات والهرمونات ....كل هذا لم تعش لحظة منه....ضاقت أنفاسها لما وصلتا لمدخله ....تحججت بحاجتها للحمام....تريد الهروب...الهروب من كل شيء يذكرها بمعاناتها ...تراهما تعيشان حياة مستقرة وسعيدة مع زوجيهما...يمكنهما شراء أي شيء من أجلهما.....أما هي...لمن تشتري؟!...وأبسط المشاكل غير محلولة بيننا....حتى حديث حضاري عقلاني نفتقر له بسبب العناد والغضب ....هل ستتخطى كل هذا وتصل لغرفة النوم والعلاقة الحميمية؟!.....نجحت بالتملص من المكان وذهبت للحمام تترك العنان للعبرات أن تتحرر من مدامعها علّها تحرر معها ضيق أنفاسها!!....غسلت وجهها وعدلت حجابها وملابسها وعادت لهما حين انتهائهما من الدفع......جلسن مرهقات حول طاولة دائرية في المحل الخاص بالبوظة ليختمن يومهن بها كمكافأة على التعب وصرف المال دون حساب ...!!.....
لامست الطيبة والتواضع والروح الجميلة التي تحملها شقيقتي خلال هذا اليوم بعد أن أزيلت الغشاوة التي كانت تحجبهما عن بعضهما !!...فبدأت القلوب النقية التي لا تترك مكاناً للحقد داخلها مهما ما حصل من سوء فهم بالاتجاه نحو التآلف والإخاء وقد أدركت أن سفينتها الثانية شارفت للوصول لميناء آخر للانتماء...!!

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

ها هو أتى اليوم المنتظر ....أقبل ليجمع الشمس مع القمر....ويوحد اثنين من أجمل البشر......إنه اليوم الذي سيلتقي به الجمعان بعد معاناة ..ضنك ومقاساة ...اليوم الذي سيربط اسميهما بعد أن ربط من قبلهما قلبيهما....فيه سيتوج حبهما المختلف بميثاق غليظ.. بحول الله وقوته... بكرمه وعطائه ....فسبحانه....سبحانه من جمع بينهما رغم بعد المسافات واختلاف العادات ليتلاحما معاً ويكتبان قصة عشق مميزة يسرداها لمن بعدهما...!!.....في ساعات المساء ستتشابك الأيدي كما تتشابك الأفئدة....وستدمع العيون فرحاً واحتفاءً بالعشق المجنون!!.....ستصبح هي ....خاصة (أحمد) ...الشيخ الوسيم.... والمقاوم الجسور ...والرجل الفريد......وسيكون هو ....زلزال (ميار)... الفتاة الشقية ...الرقيقة الندية ....عزيزة النفس الأبية!!........دنا من المرآة وهو يزرر آخر زر لقميصه الكلاسيكي الرصاصي الذي تناسق مع بنطاله الأسود .....بهدوء تام لا يليق إلا برجلٍ واثق بنفسه دائم التوكل على الله حمل زجاجة عطره الصاخب الرجولي الذي يعبث بالمشاعر وخاصة بأنثاه المجنونة التي لم تكن إلا له عاشقة مفتونة....رش على عنقه وقميصه وأرجعه مكانه متفحصاً ذقنه الأسود المهذب بعينيه الفحميتين الحادتين ومرر يده على شعره الفاحم ليتأكد من اكتمال أناقته ....الهدوء كان قلباً وقالباً...لم يشعر بأي توتر كبعض العرسان بل برضى يغلف قلبه فينشر الطمأنينة لسائر جسده ...كان هذا الرضا يزداد يوماً بعد يوم في هذا الأسبوع وهو يكرر صلاة الاستخارة قبل النوم !!...كان واثقاً باختياره لها الشريكة والرفيقة وبات أكيداً أن معها لن يضل وحياته بها ستكتمل!!.....أمسك بالهاتف الذي كان على سطح طاولة الزينة ...فتحه فلاحت على ثغره ابتسامة وقورة فخورة...لقد لبّت طلبه ولم ترسل حرفاً واحداً لهاتفه منذ مكالمتهما الهاتفية الواحدة والوحيدة....وكان التواصل من قِبل أنسبائه وتحديدا العروس وحماته مع شقيقته التي تقطن العاصمة ....فهي تتولى عن والدته مهمة المناسبات بشكل عام بسبب سن الأخيرة الذي اجتاز منتصف الستين بالإضافة لصحتها الشبه ضعيفة!!....لقد مضى هذا الأسبوع بالتجهيزات.....مشتريات من لوازم العروس ...فستان لعقد القران وما حوله والحليّ من الذهب وغيره... تخص الكنة المنتظرة ...وضع الهاتف بجيب بنطاله وخرج للضيوف الذين ينتظرون في صالون بيتهم ممن سيرافقهم في الموكب الصغير ....!!

×
×
×

في غرفتي الجديدة ألقيت نظرة أخيرة على مظهري بعد ارتدائي قميصا أبيضاَ وبنطالاً أسوداَ ...نثرتُ عطري الخاص وحملتُ هاتفي والعلبة التي تحوي على الأسوارة الخاصة بعروس صديقي......عندما علمتُ منذ يومين عن ترميم الشرخ الذي كان بين زوجتي وشقيقتي لم أستطع إنكار شعوري بالسعادة التي غمرتني بعد القاء الخبر من والدتي على مسامعي....وحمدت الله داعياً بأن يوفقنا جميعا ويألف بين قلوبنا .....حينها زارتني في غرفتي وبشرتني ثم ادهشتني لما تابعت تخبرني عن نجاح (دنيا) بإقناع المدللة لتساعد باختيار الهدية ثم طلبت مني بطاقة الاعتماد من أجل ذلك!!....رغم شعور النقص الذي يعتريني بسبب علاقتنا السلبية ورغم وجعي على رفضها القاطع لمرافقتي إلا أنني فرحتُ من أجلها لأنها وافقت على الخروج من البيت وانتقاء هديتنا الخاصة بصديقتها.....لا أريد التصادم معها وإجبارها على الحضور ولم أكن أعلم أن شقيقتي خططت بدهاء لتفاجئني بها ولم تخبراني لا هي ولا أمي بذلك....فبعد خروجي من غرفتي استأذنتُ والدتي التي كانت تطعم صغيرنا واستودعتهم الله وقبّلت خده ثم أدبرتُ مجتازاً المدخل وصولاً لسيارة الأشقر الذي كان ينتظرني برفقة زوجته....جلست جواره ولم يتحرك ...رمقته بريب وقلت:
" انطلق...سنتأخر....ماذا تنتظر؟!..."

ردت من خلف مقعد زوجها:
" انظر ليمينك لتعلم!!..."

لم تلبث أن تنهي جملتها حتى اشرأب رأسي متجها بوجهي لحيث قالت......توقفت الساعة عندي لما سقط قلبي وبقيت أرضي معلقة بالمسافة التي تفصلها عن تلك السماء ....فكانت الصاعقة الأولى التي هزت الخائن حبوراً هي مرافقتها لنا...ولحقتها بصاعقة أخرى لما أدركت تناسق ملابسنا معا دون تخطيط ....فقد كانت ترتدي حجاباً أملساً كلون قميصي وفستاناً هادئاً كبنطالي ويرسم القسم العلوي من جسدها بإتقان مهلك ...مهلكاً لي أنا !!...ثم ينزل من تحت خصرها النحيل باتساع طفيف حتى يتسع اكثر تدريجيا وصولا للنهاية.....على خصره زنار ثابت جانبي يدخل طرفه بحلقة معدنية فضية تكسر سواده الحالك.....تحمل بيدها حقيبة بيضاء تتماشى مع الحجاب والكعب مثلهما ....تقبل نحونا متهادية بمشيتها حذرة بسبب الأرضية الخشنة للساحة وكل خطوة تترك أثرها في قلبي....أما عن الكحل الذي نافس العينين بلونه المضاد فهو حكاية أخرى...كان أشبه بالتقاء الليل مع النهار واللمعة اللعينة التي تكسو شفتيها المزينتين باللون الوردي جعلتني سالكاً طريقاً منحرف الأفكار وهنا أُعلنَ عن سقوط ملك الخيانة مفتوناً بسحرها ....!!.....فتحت باب السيارة لتجلس خلفي...ألقت السلام فمددت يدي للخلف دون النظر أناولها العلبة الخاصة بالأسوارة....أخذتها بتردد....انطلق الأشقر خارجاً من البوابة وفتح الحديث بيننا بينما زوجته مالت للأخرى تسألها بمكر:
" متأكدة أنكما متخاصمان؟!....لو كنتما اتفقتما على اللباس لما خرج بهذا التناسق.....بسم الله ما شاء الله....قسما ثنائي رائع ووحدكما من لا تدركان ذلك!!..."

لكزتها بعفوية تسكتها خجلاً وخوفا من أن أسمعها وساد الصمت في الخلف لتسترقا السمع لكلامنا العام الذكوري الممل بالنسبة لهما حتى وصلنا بيت والد شيخنا الوسيم والتقينا هناك ب(بلال) الذي كان ينتظرنا وزوجته لندخل معاً ثم ننطلق مباشرة للعاصمة بعد أداءنا صلاة العصر جماعة في بيتهم لنصل بمشيئة الله مع حلول المغرب لبيت جد العروس ولأهلها.....!!

×
×
×

تقف أمام المرآة وغرفتها في بيت جدها مليئة بالصخب العائلي...فالدخول والخروج منها وإليها لم ينتهِ....إما لمشاكستها من قِبل بنات الخال والخالة ومساعدتها وإما من أطفالهم الفضوليين الذين يريدون رؤية العروس...وكانت شقيقتها الكبرى التي حضرت لحضور الحفل مع زوجها من تلك البلاد في الأسفل تساعد في التجهيزات!!....ترتدي فستاناً وردياً مع حجابه المناسب الذي يبرز بشرتها الخمرية ببهاء ...تضع مساحيق زينة خفيفة على وجهها لتبقى طبيعية غير مصطنعة إلا أن لون أحمر الشفاه أرهقها اختياره....تضع مرة لون وردي بدرجات داكنة فتفكر بزلزالها حائرة!!.."...هل سيحب هذا اللون أم سيكون مبالغ به؟!....".....تتأفف وتمسحه بنزق ثم تضع أفتح بدرجات منه مع لمعة بسيطة فيلوح ببالها الزوار .."...هل سيقولون ما هذه العروس غير المهتمة بإبراز زينتها وجمالها وكأنها مغصوبة على الزواج؟!...." ....ألقت ما بيدها على سطح طاولة الزينة وعبست مستديرة تكتف ذراعيها على صدرها تسند ظهرها للطاولة فاقتربت منها إحدى بنات خالاتها تسألها عن حالها فأجابت:
" سئمت الاختيار.....أنا واثقة أنه لا يميل للزينة الصارخة ...ولكن أخشى بعدم إظهارها أبدو للآخرين كأنني عروساً غير مهتمة وكئيبة!! .....يا الله أيهما يناسبني ووضعي أكثر؟!....أيهما يعجبه وأيهما يرعبه؟!!..."

قفزت أخرى مقتربة تقاطعهما وهي تغمزها بمشاكسة:
" لمَ هذه الحيرة....اتصلي واسأليه ماذا يرغب هو؟!..."

كادت تضحك حد القهقهة على اقتراحها وهي تتخيله....لم يتكلما أسبوعا لتأتي وتكسر الاتفاق بسؤال بسيط .."...مرحبا يا شيخ ...أيهما تفضل ويعجبك أكثر كزينة على شفاهي ....الداكن أم الفاتح؟! ...."......تدخلت ثالثة وهي تسخر قائلة:
" أمجنونة أنتِ؟!....رجل جدي...صاحب منصب.....طول وعرض....وأيضا شيخ.....تسأله عن أحمر الشفاه كأول سؤال بالعلاقة؟!....لم يبقَ إلا أن تسأله أي نوع تفضل من أجل القبلات؟!..."

تورّد وجه العروس وساندتها تخفي توترها وخجلها وهي تشير للتي قبلها:
" بالله عليكِ....اخبريها بذلك....تريد فضحي أمامه!!.."

هتفت الأولى بعد استماعها لحوارهما :
" من رأيي اختاري أنتِ ما تحبين وترتاحين له دون أن تفكري بالعريس وغيره......لا تفعلي شيء غير مرتاحة له .....لكِ ما تحبين وما تكرهين وللغير حرية تقبل هذا منك أو الرفض......كوني كما أنتِ ....لا تصهري شخصيتك من أجل إرضاء الغير وأنت غير راضية عن نفسك!.....ابقي على طبيعتك وعادتك باختياراتك وستخرجين مرتاحة داخليا مما يجعلك جذابة فطرياً فتكوني مقبولة ومحبوبة مِن الجميع بمختلف الأذواق لا إرادياً..."

زفرت مرتاحة من كلامها ونصحها لها واستدارت دون تردد ثم حملت القلم الداكن لتمرره على شفتيها وقالت في سرها..." ..عفواً يا شيخي....أنا عروس ومن حقي فعل ما أريد!!...وسنرى أيعجبك أم لا.....فإن لم أجازف لن أفهمك وأفهم تركيبة شخصيتك...."

×
×
×

استقبلنا أهل العروس وأقاربها الكرماء طيبين الأصل بكل حفاوة وترحيب....جلس الرجال في الصالون الكبير بينما النساء في غرفة العائلة الواسعة......عندما جاء دورها لتصافح العروس...صديقتها الحبيبة....ارتمت في حضنها بدلاً من مسك يدها بعناق حميميّ يحمل الشوق والمحبة الخالصة ...فيه الامتنان والحنين لها وقد شاركتها الأخرى مشاعرها بسخاء حقيقي....كانتا تتهامسان فيما بينهما بتعبيرات ودية وتجاهدان كي لا تبكيان أمام الجمهور فهمست العروس مازحة لتضحكها:
" ألمى يكفي....لا تدمري زينتي فيفر زلزالي من مظهري المزري!!.....سنؤجل البكاء لوقت لاحق...أعدك ....تماسكي بشهيق وزفير يساعدك .....فها أنا وراءك وراءك لا خلاص لكِ مني من بعد اليوم....سآتي لندمر البلاد وأصحابها معاً....!!....فإن كانوا هم الجبال الراسخات والزلازل الماحقات ...سنكون نحن كل الكوارث الطبيعية التي يعرفوها ولم يعرفوها.....انتظريني!..."

نجحت بإضحاكها دون إسالة الدموع التي تفسد زينتهما فتنحت جانباً وهي تشير لشقيقتي هامسة:
" هذه دنيا...."

لتكمل بنفسها وهي تصافحها مبتسمة بمجاملة:
" زوجة سامي صديق أحمد وشقيقة هادي زوج ألمى.."

بادلتها المجاملة ببشاشة هامسة:
" تشرفتُ بكِ....تفضلي!..."

تقدمت الثالثة لتصافحها بخجل وهي تقول بعد التحية والمباركة:
" أنا سلمى زوجة بلال صديق الشلة !!..."

حيّتها بود وأشارت لهن بالجلوس قربها ....اقتربت منها شقيقة العريس الكبرى وقالت لها بلطافة:
" تعالي معي لتتعرفي على أمي وقريباتنا..."

اومأت موافقة بحياء وسارت معها...تعرفت على من رافقتنا من النساء ضمن الموكب بالتتابع حتى وصلت لأم العريس هتفت شقيقته بسرور مشيرة لها:
" هذه أمي....الحاجة أم مجاهد...بركتنا حفظها الله..."

انحنت بجذعها باستحياء تصافحها وتحيّيها...كان داخلها توتر لأنها تجهلها وتجهل معدنها لكن الآن لما رأت النور الذي يشع من ملامحها ووجهها الوضاء قد سكن قلبها من الله وارتاحت....سألت باهتمام لأنها تعلم من ابنتها أن صحتها مهزوزة غير معافاة:
" كيف حالك يا خالة؟!....أتمنى ألا تكوني تعبتِ من السفر!..."

ردت بطيبة نقية:
" الحمد لله يا ابنتي....أنا بخير ولم أشعر بأي تعب فهذا كان عندي يوم المنى المنتظر رؤية ولدي الحبيب عريساً ذاهباً لعروسه....وفقكما الله وأسعدكما وأبعد عنكما شر ما يؤذيكما.....!!.."

حضر الشيخ الذي سيعقد لهما القران قبل صلاة العشاء .....طلب يدها والده من جدها وأبيها أمام الحضور والشيخ ...بدأت مراسم العقد....ناداها شقيقها لتخرج لوالدها والشيخ معه بعيداً عن النساء جانباً وسماع موافقتها التي لا يحتاج أحد لسماعها فكل ذرة فيها تنبض لهفة له وتصرخ بالموافقة عليه وتفضحها!!...عادوا لأماكنهم لإتمامه مع العريس فوضع قبضته الصلبة بيد والدها الحنون على بركة الله وتحت كلمات الشيخ....ليختتم ذلك بطلب قراءة الفاتحة عند جمع الرجال والنساء فتهل المباركات الصادقة من كلا الجهتين للعروسين ....نهض من مكانه تاركاً الجميع متجهاً لوالده....صافحه وقبّل يده ورأسه طالباً بوقار:
" رضاك عني يا حاج..."

طبطب على كتفه بقوة داعمة وقال:
" مبارك لك بنيّ.....وفقكما الله لما يحبه ويرضَه وجعل سعادتكما قائمة بطاعته .....رضي الله عنك وأرضاك!!..."

سلّم على الرجال واحداً تلو الآخر حتى وصل لوالدها.....تصافحا باحترام ومودة وتعانقا عناق رجولي يباركان لبعضهما ثم تبعه يفعل بالمثل مع شقيقها(قصيّ) وشقيقها الأكبر الذي حضر مع عائلته من تلك البلاد أيضا كما فعلت شقيقته وزوجها !!.....عندما وصلنا قمنا من مقاعدنا....مددنا أيدينا أربعتنا نضرب قبضاتنا ببعضها فهذه هي مصافحة الصداقة وختم عهد الصداقة خاصتنا....باركناه بعناق ودود وجلسنا ليضع الأشقر ساقاً فوق الآخر مسنداً ظهره للمقعد هاتفاً للعريس بشماتة بيننا:
" الآن ارتاح بالي.....وقعت بالفخ مثلنا وسأجد إن شاء الله كل يوم سبباً لأسخر منك بكل رضا ...الحمد لله امتلأت جعبتي وأصبح لديّ فائضاً للتنمر...!!....اللهم بارك...."

اتكأ بمرفقه على ذراع الأريكة مقترباً بهدوء منه باسما بثقة متفجرة تميزه:
" إن أعطيتك شيء لتتنمر عليه ....لك هذا يا صاحبي!!..."

كانت الأصوات عند النساء تتفاوت ...من بعيد أشبه بمَدْبرة.....أما العروس عن سعادتها لن تكفيها كلمات اللغة لتعبر عنها .....كان كل شيء بها يضحك ....فرحة تغمرها....ورضا يزيّن قلبها.....دنت منها مجددا (صفا) شقيقته هامسة:
" سأنادي أحمد لتلبسا المحابس ..!!.."

مجرد ذكرها لأسمه ارتعشت أوصالها عشقاً ورهبة من الموقف....التمع البنّ في عينيها توتراً....هل ستراه الآن ويراها؟!....كيف ستتحمل ولا تذوب من القرب الحلال؟!...كيف ستصمد أمامه بحضور الناس؟!...حرّكت رأسها توافقها وفي داخلها صراع بين الحماس ليأتي والرفض رهبة من الموقف المجهول!.......خرج من الصالون لشقيقته الكبرى بعد اخباره وهتف مستفسرا:
" أجل أختي....لمَ تناديني؟!...."

قالت متحمسة:
" هيا أخي.....ستَلبسا المحابس وتُلبسها انت الحليّ!!..."

رفع حاجبه بحدة متسائلا بعد أن ألقى نظرة سريعة صوب باب غرفة المعيشة مقر النساء وهتف بتشكك:
" أين هذا سأفعله؟!..."

ردت من فورها مشيرة:
" في الداخل عند العروس...كما العادة..."

قال معترضاً:
" بربك أختي.....أتريديني الدخول عند النساء؟!"

وأكمل باستهتار عفوي:
" ناديها لهنا وسأفعل ....لا تجعلوا منها قصة وعادات وتقاليد!!..."

اتسعت عيناها شاهقة تضع يدها على صدرها وقالت بحزم:
" أحمد!!.....تنازل قليلاً عن معتقداتك...هذا اليوم يومكما ومن الطبيعي فيه العريس من يدخل للعروس ويلبسها المحبس وما إلى ذلك!!..."

رد في الحال:
" صفا تعلمين أنني لا أدخل بين جمع النساء لمَ هذا الاحراج الآن؟!.."

" أحمد لا تطل المسألة وتثير الشبهات وكأن هنالك مشكلة ما.....كل ما في الأمر تُلبسها وتخرج....لن يأكلك أحد!!.....بإمكانك غض البصر إلا عن عروسك...هي مثل كل البنات تنتظرك فلا تخذلها!...."

تنهد ضجرا من الفكرة وهتف مشترطاً:
" حسناً لكن بشرط!..."

" ما هو؟!"

" سألبسها المحبس وأخرج ....أنتم تتكفلوا بوضع الباقي لها!!..."

زفرت أنفاسها يائسة مستسلمة:
" أمرنا لله ....مستحيل أن نصمد أمام عنادك ولا أمل بتغيير طباعك!!.....ولا تقول لي الدين وتتحجج به لأن بغض النظر عنه ....هذه شخصيتك الصعبة...!!.."

وأضافت وهي تهز رأسها برفض باسمة:
" أعانها الله عليكَ..."

ابتسم بمكر منتصراً ثم سأل مهتما:
" أين وضعتِ الطوق؟!......كنتُ سأضعه لها عندما أراها ولم أتوقع أنني سأدخل لها الآن"

رفعت الكيس الذي بيدها وأجابت:
" ها هو معي...لقد أحضرته لأن هذا وقته !!..."

أخرجته من الكيس وناولته إياه ...بسمل يشحن عزيمته ...رتب نفسه بعفوية ..ترتيب لا حاجة له فأناقته بارزة بثبات ووسامته فتنة حد الهلاك !! ....طلّ لها من الباب فهرب قلبها من النافذة لحظة انجذاب بنّ عينيها لفحم عينيه يقبل نحوها يمشي واثقاً شامخاً كما عهدته لا يهتز به شيئا وكأن لا أحد موجود غيرهما ..ناظراً بقوة وثبات بعينيه الحادتين اللتين النظرة منهما لوحدها كفيلة لتلهب حبها وتبعثر أحاسيسها ....يتفحصها من رأسها لأخمص قدميها دون تردد أو خوف من الحرام مع تقدمه صوبها....تلاشت الأصوات من حولهما ....نظراته تتحدث عنه....يوصل لها بها محبته وسلامه ...رضاه وغرامه....يقترب أكثر بحديثه الصامت....ها أنا أتيت....ها أنا فزتُ بك بعد انتظار طويل وصبر جميل...كانت واقفة مكانها وقفة يراها الناس كلها صمود...لكنها وحدها من تعلم الضعف الذي وصل بها لأبعد حدود....يتقدم خطوة أبية فيزلزل داخلها خلية خلية...ناشدت قلبها الهارب للرجوع...وتوسلت عيناها بألا تفضحها بالدموع.....لكن وا اسفاه.... نداءها لم يكن مسموع!.......ملكة هي بعينيه ولا كل الملكات.....فاتنة قلبه العاشق الذي كان قبلها في سبات....هي له وهو لها ...هي امرأته وهو زلزالها....وصلها باسماً بعشق يزينه الحنان فعاد لها الهارب ينبض بالأمان وعطره الصاخب سرق روحها لأعالي الجنان ....رفع يديه ممسكا بطوق الورد الطبيعي الذي على شكل عقد وكان من اختياره شخصياً بألوانه البيضاء والوردية التي تتناسق مع فستانها بعد الاستفسار من شقيقته عن لونه لينزله عن عنقه حيث وضعه ثم دنا منها أكثر مع انحناءة طفيفة منه وطوق به عنقها برقة رجولية يعلم متى يستخدمها ومع من واقترب من أذنها تحت دقات قلبها التي تخوض سباق العشق مع فوضى التوتر وهمس بأنفاسه الدافئة:
" وضعتُ لكِ أول طوق من الورد..... لأقيّدك بي!.."

" لا حاجة لتتعب نفسك ...فأنا قيّدت نفسي بنفسي ...يوم التقينا ....حباً وكرامة ....مني لك..."

كما اعتادت أمامه.....كلماتها تبقى محشورة داخلها لا تجرؤ على النطق بها إلا بحالات ممكن أن يتغيب بها عقلها فيفضحها لسانها..!!.......دنت شقيقته الصغرى (مروة) منهما متحمسة مسرورة وهتفت له:
" مبارك لكما أخي...."
وألقت نظرة سريعة للتي بجانبه متابعة:
"عروسك جميلة ما شاء الله..."

سحبها تحت مراقبة خاصته له بحركة عشوائية حميمية وحبسها تحت ذراعه يشد عليها بمداعبة يضم رأسها لصدره مقبّلا أعلاه فوق حجابها يفرك عضدها بفائض من الحنان وقال ضاحكاً بمزاح حتى ظهرت أسنانه البيضاء المرتبة لتُصدم تلك وتقف مكانها مبهمة وهي تراه بهذه الحالة لأول مرة:
" العقبى لكِ يا صغيرة لأتخلص منك!..."

أسرته بذراعيها جانباً أحدهما خلف ظهره والآخر على بطنه ورفعت نفسها تحاول الوصول إليه فانحنى برأسه يساعدها لتقبّل وجنته وردّ لها القبلة ثم تحررت منه مع مناداة (صفا) لها لتحمل صندوق المجوهرات بينما التي جواره تحدث نفسها.."...يضحك؟!...له أسنان مثلنا؟!..يقبّل.؟!...يمزح؟!.....ا لحمد لله !!...هو من البشر!!..."......حملت الكبرى المحبس وناولته إياه والجميع يراقب مراسم الخطوبة وعقد القران وأقاربها يتهامسون بينهم لتقييم العريس الوسيم بتفاصيله والذي سرق قلب ابنتهم دون رحمة بها وجعلها أكثر جنوناً حتى قرعت رؤوسهم تتباهى به دون خجل....وأقرّوا بأنفسهم كم كانت محقة بغزلها به..!!...رفعت يمناها المرتجفة ليضع طوقه الثاني...تبسّم لما لمح توترها وأبقى يده التي تحمل المحبس معلقة ثم همس بأذنها:
" اليسار..."

لم تستغرب فهي باتت تعلم جانب من شخصيته أن لا علاقة له بهذه الطقوس وأنه يجهل أي اليدين يضع بها الخاتم بالخطبة لأن كل هذا خارج نطاق اهتمامته!!...ضحكت ضحكة مبتورة وهمست مقتربة منه ويدها اليمنى ما زالت ممدودة:
" في الخطبة اليمين....اليسار بالزواج!!.."

ببرود أتقنه أخرج كلماته الواثقة التي أتقنت بعثرة خفقاتها :
" أعلم!!.......لن أضعه بمكان وُضع به غيره قبله ...سأكون الأول بكل شيء ......إن شاء الله"

وها هي اكتشفت أن حتى الجانب الذي ظنت أنها تعلمه لم تعلمه لما فاجأها بمعرفته بمثل هذه الأمور إلا أنه قاصدا نوايا أخرى وعادات يرسمها لنفسه مع سبق الاصرار والترصد!!....وتلميحه غير المباشر لارتباطها السابق جعل خفقة رهبة تهرب منها بغير إرادة!!.....أخذ نفس بهدوء وأضاف بهمس يذيب الحجر فكيف بها هي:
" ثم لا تروق لي تلك العادات والمراحل التافهة ...عقدنا القران إذاً أنتِ أصبحتِ خاصة أحمد وامرأته.....قلباً واسماً ...زوجته أمام الله وبشرعه ...وهذا الذي اتبعه أنا لا شرع البشر........انتهى الكلام!! .....هيا...مدي اليسار!..."

برجفة قلب عاشقة وبسمة عروس خجلة مدت يسراها لينتقل الارتجاف الصريح لها عن سابقتها وبحركة دافئة منه رفع يسراه يبسطها ويلصقها من الاسفل ببطن كفها الغارقة بصقيع الانفعال ليسندها بها ويعيد حرارتها مع همسة خافتة أكثر دفئا وأشد فتكاً لروحها:
" ششش....اهدئي....لا تتوتري ...أنا معك!...."

يا الله....هو معها....أجل معها!!.....وضع لها المحبس بسلاسة وأجاد بإخفاء رعشة المحبوس خلف أضلعه لحظة لمس اليدين بالحلال والتحامهما ببعضهما لتوازيه برعشاتها الداخلية والخارجية فعاد ليقول بابتسامة مائلة تزيده وسامة حد الاجرام:
" لا حاجة لكل هذا التوتر....ميار.....لم يكن سوى محبس...!!.....هذا هو طوقي الثاني لكِ... من المعدن.....أما الثالث أعطيه لكِ في بيتنا بإذن الله..."


سحقاً لميار....تفضح نفسها في حضوره...سحقاً لميار....دائما مكشوفة...سحقاً لميار تستسلم لجرائمه بحق قلبها......لم تلقي بالاً للطوق الثالث المجهول بقدر ما انزعجت من حالها معه وأمامه وكم أحرجت من ابتسامته واشتمت رائحة سخرية بكلامه كيفما صور لها عقلها فردت عابسة:
"أنت مخطئ....أنا لستُ متوترة...من قال أنني سأتوتر من وضع محبس؟!..."

تبسم بمكر وغمغم يوافق على كلامها منتصباً كرجل جليدي:
" حسناً لستِ متوترة...ربما أنا المتوتر فخيّل لي ذلك!!.."

تأكدت من سخريته الآن دون ظنون فأجابت معترفة بحنق طفولي وبشرة خمرية كساها احمرار الحرج مع رجاء بريء مما أشعل دمائه وجعله يتمنى سحقها بين أضلعه رغبة وتوقاً دون إفلاتها:
" أحمد!....لا تسخر...كلانا نعلم أنك لم تهتز ولم تتحرك قيد أنملة بينما أنا التوتر يفضحني.....رجاءً لا توترني أكثر وتجعلني أضحوكة للجميع وخاصة أهلك!.....احفظ لي ماء وجهي ومرر لي الليلة على خير ...."

مدّ يسراه وهو يقول ببروده الذي عليه كلمات تسمعها هي فقط:
" شقيقتي نادت عليكِ عدة مرات لتأخذي محبسي وأنتِ لا تنتبهين لها....لا تتهميني أيضاً بأنني السبب بهذا!!......فستبدو الصورة......للجميع.....هم نفسهم الذين يؤرقونك ويشغلون بالك.... كأنك غير راغبة بعريسك المسكين وأجبرتِ عليه ....هيا ضعيه لي وانجزي..."

تململت مرتبكة وتنحنحت تجلي صوتها محرجة وهي تمد يدها لتأخذه منها هامسة:
" اعتذر منكِ ...وربي لم انتبه لكِ..."

ضحكت وطمأنتها بمشاكسة:
" لا عليكِ ....أعرف أن حضور أخي الوسيم له تأثير كبير!!...."

" بالطبع.....فالزلازل لا يأتي منها إلا الدمار.." حدثت نفسها وألقت نظرة سريعة مرتبكة لوجهه ثم أعادت حدقتيها ليده وكان كفها الممسك بمحبسه يهتز أكثر وهي تدنو به لبنصر يسراه وبسبب اهتزازها لم تفلح بإدخاله بإصبعه فوراً فقال ببرود متهكماً قاصداً أن يشعلها عسى أن تنسى توترها وتركز متحدية إياه كعادتها لما تنفعل منه:
" لم تفلحي بإدخال قطعة معدنية بسيطة بإصبعي....أتريدين مني أن أعلمك على مسك السلاح الثقيل والتصويب والقنص؟!..."

وكانت النتيجة مغايرة لنيته إذ أن كلامه زادها توترا فوق توترها وخاصة وهي تتذكر أمنياتها تمسك السلاح متكئة على صدره وبين يديه فسقط الخاتم مصدراً رنيناً عند قدميها اختفى رنينه خلف رنين الضحكات التي تعالت متفرقة لا نوايا خبيثة بها إنما لوضوح توترها المضحك للحضور ...ولا تعلم لمَ وافتها رغبة ملحة بالبكاء وهي تشتم داخلها.." خرقاء...دائما أمامه خرقاء...فضحتِ نفسك...".....برقت عيناها حرجاً وشدت قبضتيها على جانبيها بخفية ناقمة من نفسها وهدر قلبها قهراً على حالها ثم ما لبثت أن تبدأ بالانثناء لتأخذه عن الأرض حتى زجرها بذراعه القوي الصلب وهو يمده أمامها مع ملامسة خفيفة رقيقة لبطنها رافعاً حاجبه بحدة وملامحه جادة بعد أن استثارت حميته عليها تلك الضحكات وقرفص أمامها يلتقطه بنباهة وذكاء ليلفت الانتباه عليه لا عليها ويسحق الأصوات التي لا تهمه النوايا فيها ثم تبسّم ابتسامة رجولية فتاكة ورفع يده امامها وهو على وضعيته مع ارتفاع وجهه الوسيم لوجهها محيطاً بالمحبس برأسيّ إصبعيه فيتبعها بغمزة وصلتها من وراء الحلقة خاصته لتخترق روحها هامساً بصوت مسموع:
" تفضلي يا عروس.....نحن في خدمتك!!..."

رباه.....كم بدا رومانسياً زلزالها المغرور....أخذته منه مغيبة وتناست كل الحضور ....والقلب ينبض في صدرها عشقا وحبور.... بينما عيناها تلمع ناظرة إليه ممتنة بسرور.....طوقت له إصبعه براحة فرمقها بنظرة زوجٍ فخور.... يَنبُت حبه لها متأصلاً من الجذور ...لا يسمح أن يمسها أذى فهو شيخها الغيور.....هو من يتملّكه بقربها شعوراً نادراً......شعوراً لا يضاهيه شعور....!!

خرج من بينهن متمّا مهمته بتطويق بنصريهما وترك ما تبقى لشقيقته تكمله بعد أن أوضح لعروسه ذلك باختصار وقد تفهمته بل على العكس أرادت أن تتنفس كالبشر دونه وأن تعيد شخصيتها الطبيعة المرتاحة قليلاً وتستجمع شتاتها وقواها ولا تنفضح أكثر...ثم تحميه أجل تحميه...فحضوره كان طاغياً أربكها ....وحركاته كانت دافئة أذابتها......ووسامته كانت ملفتة أخافتها ....أخافتها عليه من عينها وكل العيون....!!

أما المدللة قد لفتت أنظار أقارب العروس ليس لحسنها فقط إنما لمعرفتهم بزوجة من تكون !!....اقتربت منها إحدى بنات خالة العروس والتي تشبه شخصيتها إلى حد ما شخصية (ميار) في العفوية وقريبة من سنها ...صافحتها وعرفتها على صلة القرابة وصافحت شقيقتي و(سلمى) الجالستان جوارهما ثم وجّهت كلامها لها ول(دنيا) ببراءة وحماس:
" لا تتصوران فرحتنا جميعاً عندما علمنا أن سيادة رئيس أركان جيش دولتنا السيد هادي محيي الدين
سيزورنا الى هنا بنفسه مع عائلته! ....متحمسة للذهاب غداً للجامعة كي أتفاخر أمام زميلاتي بذلك...أشعر كأنه قريبي وسأتبجح عليهن به...."

تبسمتا لكلامها فأخرجت هاتفها من جيبها دون تردد وهتفت بعفوية :
" هل مسموح أن التقط لكما صورة ذاتية معي؟!....أم ممنوع؟!....."

وأردفت ضاحكة بنبرة أعلى:
" مؤكد سأكون بينكما كالغراب بين الغزالتين ...فأنتما تبارك الله آية من الجمال.....لكل واحدة منكما جمالها الخاص!!.."

شكرتاها بحياء وامتنان لإطرائها اللطيف ثم نظرتا لبعضهما بنظرات دون مغزى لما كررت طلبها فهتفت (دنيا) بتردد محرجة:
" لا أعلم ماذا أقول لكِ....لكن...لكن...زوجينا لا يقبلا ذلك..."

أشفقت المدللة عليها لما قرأت ملامح الخيبة في صفحات وجهها....وتلاشت الشفقة في الحال ليستبد مكانها التحدي عندما هتفت متحمسة صديقتها العروس المتهورة وهي تقف تشد ضيفاتها الثلاث للوقوف :
" هيا سنتصور معا جميعنا.....نحن في حفلة ويحق لنا ذلك دون اعتراض من بعض المتطفلين...."

تشجعت شقيقتي وتحفزت دمائها...راقت لها الفكرة بينما المدللة استغلت الوضع لاستفزازي بخباثة وحدثت نفسها....." صحيح لم يكن يرضى بالصور وهو مجرد رجل أعمال ...كيف الآن وهو صاحب منصب كبير؟!...لقد انتبهت لحرصه على ذلك في المطار يوم رحلتنا....إذاً وجدتها... سأفعلها وأقهره إن أخذت قريبتها الصورة وعرف بذلك....لكن بالطبع لن أشي أنا كي لا أتسبب بمشاكل للأخريات...ربما يعلم من شقيقته صدفة.....!!.."...وأنهت حديثها الداخلي تتقدم لتتجهز للصورة وقد ارتاحت (دنيا) عندما رأتها تقترب ..كي لا تكون وحدها تحت المقصلة في حال كشفن ولما لمحت صديقتها تلك مترددة وجلة هتفت بلطافة وهي تسحبها...ربما للجحيم !؟؟........فالذهاب جماعة للموت في الحياة مؤنسا أكثر :
" هيا سلمى....مجرد صورة!....للذكرى من أجل العروس..."

تسربل إليها القلق وردت:
" تعلمين رأيهم بهذا الموضوع...سيغضب بلال....والبقية...."

قالت تشجعها:
" هم لن يرونها....هذه خاصة لميار ..كالصور التي بيننا في هواتفنا ولا يهتمون لها.......أليس كذلك؟!...."

وجهت سؤالها للمعنية فردت دون تملص باندفاع وكأنها عشرة عمر معهن:
" سنتصور بهاتف رُسُل بنت خالتي وهي سترسلها لي وبدوري أرسلها لكن......هاتفي في الأعلى...يعني فقط تبقى بهواتفنا دون نشر بمكان!......ثم تريد أن تتفاخر بكن أمام زميلاتها يا زوجات المشاهير....ما الضرر بذلك!؟!..."


" أجل بالتأكيد سأحتفظ بها بهاتفي فقط ...قسماً...."

قالتها ابنة خالتها بصدق ونقاء فاطمأننن ووقفن أربعتهن لتصورهن صورة أولى لوحدهن دونها لتبقى خاصة لهن ثم نادت على شقيقتها القريبة لتلتقط لها صورة معهن وقبل أن تقبل نحوهن همست شقيقتي بأذن (سلمى) :
" على فكرة....عن نفسي أعجبتني ميار....شكلا ومضموناً....أراني سأتفق معها عندما تتزوج ...جريئة وجسورة وتغامر مثلما أحب دون تفكير!... ليست مثلكِ أنتِ وزوجة أخي ساذجتان ومترددتان ... ستتسببان لي بجلطة يوما ما..."

ردت عليها صديقتها (سلمى) بارتياب وخشية تفكر بحكمة:
" أخشى أن ينقلب حماسك هذا ضدنا .!!...فنشر صورنا وصور العائلة للعامة من خطوطهم الحمراء.!!....يسمحوا أن نتصور بهواتفنا فقط لأنها محصنة ضد أي اختراقات وسرقات ببرامج وضعها لنا بلال جميعنا!!......وابنة خالتها رغم أننا لا نعرفها وإن كانت طيبة فعلا إلا أنه الخطأ وارد والخطر قائم....اسأل الله أن يسترنا!!..."

وكزتها من مرفقها بعد أن دب بها الرعب وقالت:
" هيه كفى لا ترعبيني....لن نقع إن شاء الله من أول مغامرة....وإن كنتِ خائفة اتركينا....أنا وألمى لن نستطيع أن نعتذر وننسحب الآن كالفتيات الصغيرات متقلبات الرأي...!!.."

" لن أذهب....إن لم أستطع سحبك معي إلى بر الأمان إذا سأقفز إليكِ لبحر الخطر......هذا اتفاقنا وعهدنا الذي كان وسيبقى إن شاء الله!!...."

تبسمت بإرتياح وهمست:
" بالطبع يا توأم روحي..."

لما انتهت من التقاط الصورة الثانية بعد عدة محاولات طلبت العروس الهاتف وقامت بتكبير إحدى الصور لتقرب على الوجوه وهتفت باعتزاز وغرور مصطنع وهي تعرفها على الشخصيات التي يتبعن لها:
"ركزي معي.... تقولين لهن.... هذه العروس زوجة قائد في القوات البحرية والمتحدث العسكري لدولتكم.....وهذه زوجة مهندس البرمجيات ومدير الاعلام العسكري.....وهذه هي زوجة رئيس أركان جيش دولتكم وقائد الثورة.....أما هذه زوجة سيادة لواء المنطقة الوسطى للدولة وشقيقة رئيس الأركان......زميلاتك عندما يرينها سيتكفلن بنشر خبر معرفتك بنا دون مجهود منك وسيقوم أساتذتك بدورهم بإلقاء تحية احترام لكِ كل صباح واعفائك من الواجبات والامتحانات ثم تتخرجين بشهادة تفوق وستكون الوظيفة بانتظارك...."

أنهت جملتها الأخيرة بتمثيل مسرحي لتضيف وهي تربت على صدرها:
" وستدعين لي لأني أسديت لكِ هذا المعروف طول عمرك..."

تبادلن الضحكات على كلامها المؤكد أنه مزاح فقط.... إلا أن الأفكار المبهمة في دواخلهن تذهب وتأتي ....ربما اخطأن التصرف؟!!...كلا....لا ضرر بمغامرة بريئة!.....الازواج هم فقط من يبالغون بحرصهم الزائد دون معنى!!.....

بدأ الناس بالرحيل على مهل فور انتهاء المراسم الأساسية للحفل البسيط......كان آخر من رحل من موكبنا هم أهل العريس في الفوج الأول...وبقينا نحن نرافق صديقنا في حفلته ....الآن جاء دورنا للعودة لمدينتنا وجبلنا فأوصلت العروس ضيفاتها للباب والعريس قام بالمثل ....التقينا معاً خارج المدخل ....شدّ الأشقر زوجته لجانبه يحاوط خصرها من الخلف برقة رجولية وهتف للعروس مبتسماَ بعبث ناظراً لـ(أحمد) دونها احتراماً:
" مبارك عليكِ شيخنا آنسة ميار ....وأخيراً جاءت من تخلصنا منه..!!.."

ضحكنا جميعاً فردت بتهذيب تجامله ليجيب بعدها العريس :
" ها أنت تزوجت ولم نتخلص منك مع الأسف......يعني سأبقى إن شاء الله ثابتٌ عندك وفي وجهك مثل الهم على القلب..!.."

تابعنا ضحكاتنا القلبية فقالت شقيقتي بلطافة:
" مباركة عليكَ عروسك أخي أحمد..."

ونقلت شهد عينيها نحوها باسمة بألفة تتابع:
" في الحقيقة ما شاء الله...تدخل القلب دون استئذان....أتشوق متى ستصبح عندنا؟!!...."

اومأ باسماً يتشكر ذوقها بينما عروسه مدّت يدها اليمنى ليسرى المتكلمة تمسك طرف أصابعها تضغط عليهم بخفة وتتبسم لها بامتنان تحت نظرات عريسها الذي رمقها بنظرة اعتزاز ثم تنبه الأخير ل(بلال) وهو يضع ذراعه على كتفيّ زوجته بحركة دافئة هاتفا للعروس وهو يغض بصره عنها:
" مبارك لكما عقد القران يا عروس أخي ....اسأل الله أن يتمم لكما على خير...."

تشكراه كلاهما فكررت المباركة لهما زوجته ليأتي دوري!!.....أقفُ على درجة ثانية للأسفل أسبقهم ...كان كلٌ منهم يعانق زوجته بطريقته الخاصة بينما أنا عانقتها بعينيّ...وبنبض قلبي!!......تلك التي تفصل بين شقيقتي وصديقتها ...كما تضع فاصلاً بيننا!!......بُعدها قرب وقربها بعد......تقف تبتسم دون روح وصقيع الوحدة يلفحها....كأنها تحتاج لمن يواسي قلبها....أمسكتُ بها تحدّق بي وما إن التقت الأعين واطبقت الأرض على السماء حتى أشاحتهما جانباً بأنفة واستعلاء وانحسرت ابتسامتها بينما الأنظار تتركز عليّ وكأنهم ينتظرون خطابي ولا يدرون عما يجيش في صدري وعن الثقل الذي يحمله الرابض بين أضلعي ولا يدرون عن وجعي وعذابي!!.... بدوت وكأنني عاجزٌ عن نطق حرف بل كأنني ببعدي عنها رجلاً فظاً لا يحمل لزوجته أي لطف...!!......في النهاية قررتُ المجازفة والانضمام علّني أحصل على الالتحام ..دنوتُ منها بإقدام...حاملاً أمنياتي والأحلام....وكان الخائن يناشد السلام....إلا أنها رمقتني باحتدام ...وابتعدت تصر على الخصام ...ما كانت محاولتي إلا كرماً من ابن الكرام ...رفضتها بقلة اهتمام وجعلت خائني يضام....فتراجعتُ ناسفاً عني كل الأوهام وزيّنتُ وجهي بابتسام ناظراً للعروسين باحترام ثم شرعتُ موجزاً بالكلام:
" مبارك لكما عقد القران .....العقبى للزفاف ...."

صمتاً يسيراً بدر مني لأتبعه:
" عن إذنكم......سلام....."

ثم استدرتُ لأعود أدراجي متابعاً طريقي نحو سيارة صديقي بعد أن قلت بلهجة آمرة:
" هيا إلى السيارات......تأخرنا عن العودة!.."

سبقتهم جميعا ونيران الغضب والقهر لخذلانها لي في صدري تكويني....بدأت تسخن أنفاسي ...شددت على قبضتي لما وصلت السيارة المركونة في عتمة إحدى الأشجار بعيدا عن الأنوار ثم ضربتُ سقفها بغل منحنيا بجذعي متكئا بمرفقيّ عليها منكساً رأسي شاتماً من بين أسناني بخفوت قبل وصولهم لي :
" تباً لكِ.....ماذا تريدين بعد!؟....أتريدين أن أركع لك والركوع لغير الله مذلة ؟!.....أتريدين أن العن نفسي لترضي واللعنة في شرعنا حرام؟!...ماذا تريدين؟!...ماذا؟!..."

استقمتُ بوقفتي وفركتُ صدغيّ مغمضاً عينيّ بالوسطى والابهام ثم أخرجت تنهيدة عميقة وقلت بنبرة هادئة ولهجة فيها الوعيد:
" لصبري حدود يا ألمى....أنا بشر لستُ حجر.....والصبر قارب على النفاذ!....قسماً قارب......فتحملي..."

×
×
×

بعد رحيل جميع الضيوف الغرباء والأقارب من بيت جد العروس ورحيلنا معهم!!.بقي شيخنا الوسيم في ضيافتهم ليكمل سهرته حتى حين...!! ....كان الشبان من أولاد الأخوال غير المتزوجين في حركة مستمرة غير ثابتين....يختفون ثم يعودون لإكمال السهرة مع (قصيّ) القريب من سنهم والمحبوب لديهم بالإضافة لشوقهم للتعرف على النسيب الجديد الذي دخل قلوبهم....!!.....فبيوتهم مجاورة لبيت الجد الذي يكون المقر الرئيسي لتجمعات العائلة وخاصة في هذه الفترة لم يخلو من حركتهم التي تضاعفت بسبب مكوث أهل (ميار) في البلاد كزوار أعزاء عليهم....!!......في البداية بعد ذهابنا عاد العريس للصالون عند ما تبقى من الرجال وبدأت حملة التعارف عن قرب أكثر بعيدا عن الرسميات بينما هي اتجهت عند النساء حيث تتواجد بعض من خالاتها وبناتهن وشقيقتها الكبرى ووالدتها وجدتها لتبدأ ثرثرتهن كملخص وتقييم عن الحفل والضيوف بشكل عام كعادتهن وبالطبع كان الكلام عن العريس الوسيم خاطف الأنظار هو سيد الجلسة !!.....مضت ساعة زمنية وهو مسترسل بالحديث مع من حوله يجاملهم باحترام...يسألون ويجيب بما يريد بينما مجنونته البعيدة عن عينه تشغل تفكيره بعد قلبه!!....أليس من المفترض أن يكون لهما لقاء خاص بعد عقد القران ككل الناس؟!.....هل يتّبعون العادات بكل شيء وعند هذه النقطة ...على حظه.... نسوا العادات؟!.....بدأ يشعر بالضجر قليلاً ....ليس بعيب فيهم أكيد.....إنما شوقه يزيد إليها وخاصة أن في الغد مساءً سيكون سفرها وذويها للعودة إلى بلادهم!!.....يريد أن يستغل الوقت الضائع بينهما ليشحن نفسه في بعدها حتى اللقاء الكبير!.....ليتعرف عليها أكثر...وتتعرف عليه!.......كانت هذه رغباته المدفونة والتي لا يظهرها للسطح للذين أمامه ليس خوفاً ولا خجلاً بل احتراماً وتهذيباً.....فهو يجلس بينهم جلسة ملوك تتفجر منها الثقة!!......لأنها أضحت له رسمياً وشرعياً وقلبياً واسمياً ...كل ما فيها له وبكل مواثيق الكون له.. بفضل من الله ومن ثم رضاهم به كنسيب وزوج لابنتهم الغالية!!......وفي الغرفة الأخرى ومع مضي الساعة نفسها كانت ثابتة ملتزمة بالحياء لا تبوح عن رغبتها بلقائه ...تحاول إمساك نفسها قليلاً وارتداء ثوب الركازة التي يجب أن تكون عليها العروس!!......ولكنها تبقى (ميار) التي في طبعها الصبر قليل..... تسحق كل شيء عندما تريد ولا تأبه لصورتها.....فعفويتها المتدفقة من افكارها ومشاعرها دوما تقف لها بالمرصاد وتتحكم بتحركاتها ولسانها.....هبّت واقفة بعزم عابسة تشد جسدها كأن دبور لسعها واللواتي حولها يحدقن بها ....استغربت والدتها تلك الحركة منها فسألت:
" ما بكِ ميار؟!...هل حصل شيء؟!..."

أجابتها بنزق وهي تعقد ما بين حاجبيها:
" يعني لا يعقل يا أمي أنكن تحتجزنني هنا وكأنكن لم ترينني من قبل وأقاربك الأحباء يستحوذون على خطيبي كذلك ...لم تتركوا لنا فرصة لنتحدث ومؤكد سيرحل بعد قليل لمدينته البعيدة وغدا سنعود لبلادنا دون أن نرى بعضنا أو حتى نتعارف ونودّع بعضنا....ما هذا الظلم؟!..."

قالت إحدى خالاتها تشجعها:
" معك حق.....اذهبي إليه مؤكد ينتظرك بشوق ويخجل أن يطلب ذلك!..."

مسكت فستانها الوردي المصمم على شكل حورية يجسّدها ورفعته لتسير دون أن يشبك بكعبها وتتعثر به وهتفت وهي ما زالت عابسة:
" وهو كذلك....ها أنا ذاهبة!!.."

أوقفتها شقيقتها وهي تقول باستغراب:
" ميار.....ربما لن يعجب هذا عريسك ....الغرفة مليئة بأولاد أخوالي وزوجي....."

" ماذا بهذا؟!.....هي متسترة وهم لن يأكلوها ومعها أربعة من محارمها....والدها ....شقيقيها وزوجها...!!.."

كلمات خرجت من إحدى بنات خالاتها فتبسمت (ميار) وأشارت لها بإصبعها هاتفة بتأكيد:
" بالضبط....هذا صحيح!!.."

وتابعت مشيتها خارجة غير مهتمة لهمهمات اللواتي خلفها بين مؤيدة ومعارضة!!......بذات الحماس الذي خرجت به من عندهن دلفت به الصالون لتشد الأنظار إليها تلقائيا بسبب كعبها وهمسها المرح:
" السلام عليكم....أعتذر على الازعاج....لكني جئتُ من أجل عريسي!..."

بدأت تهل عليها المباركات من كل حدب وصوب سعداء من أجلها وهي تحييهم وتشكرهم بعفويتها ...ولم ترَ ولم تلحظ ولم تحس لا ولم تعي أي نيران استعرت داخل الذي كان يجلس في البداية مسنداً ظهره للوراء بأريحية وتبدل حاله فور ولوجها عندهم بفستانها الذي يلفت النظر عن بعد أكثر من عن قرب فتصميمه بات أوضح حتى له نفسه...يرسم جسدها الانثوي الناعم لتبدو على هيئة حورية البحر وخاصة في هذه الغرفة الاضاءة قوية تكشف كل شيء وكأنهم في وضع النهار ومع كعبها الذي يصعق الآذان ووجهها السمح البشوش المزين بالألوان..!!....تلقائيا تشنجت عضلاته وتحفزت أعصابه فانحنى بجذعه يتكئ على مرفقيه ويحرك ساقه يهزها بخفة ورتابة يبدو عليه الانفعال قليلاً بينما يرفع رأسه قاطب الجبين مضيق العينين غير راضي أبداً ولكن عليه الصبر ...التحمل....التروي.....وصلته وكان يجلس على الأريكة ثنائية المقعد وجواره فارغاً.....جلست ..وتزامناً مع جلوسها عاد جلسته لسابق عهدها يسند ظهره للوراء!!... ....صارت تنظر له جانباً نظرات صريحة توزع ابتساماتها مع حبها اتجاهه بينما هو جاد الملامح منتصب الكتفين ولم يكلف نفسه عناء تبادل النظرات معها!!.....خفتت ابتسامتها تدريجياً وانقبض قلبها!!....تساءلت داخلها.." هل شقيقتي كانت محقة؟!....منزعج من تواجدي هنا؟!.." ..ولكن تساؤلها هذا لم يربكها فقررت الثبوت مكانها!!...وما إن عادت الأصوات تعلو والنقاشات تعود في الغرفة بزوايا متفرقة ....مال إليها في الحال وهمس باقتضاب خشن:
" دقيقة والثانية تختفي من هنا!..."

شحنت قوتها وسألت بجسارة:
" لماذا؟!...ألا تريد أن تراني؟!..."

رد من فوره:
" أراكِ أنا ليست أمة محمد.....صلى الله عليه وسلم!!"

قالت:
" لكن أمة محمد صلى الله عليه وسلم في كل مكان في هذا البيت!...ماذا نفعل؟!.."

رد بجدية:
" إذاً هذا نصيبنا......نتحمل ونرضى بالموجود....."

" يعني ترضى بأن أذهب الآن من هنا حتى تذهب؟!.....ثم أسافر في الغد دون لقاء وكلام وستتحمل هذا وأنا عليّ التحمل والرضى....أليس كذلك؟!.....هذا ما فهمته!.."

بخيبة وخذلان وشيء من الإنكسار نطقت حروفها وتململت تضع كفيها جانبيها تستند بهما لتقوم فبقبضة يمناه قبض على يسراها يثبتها مكانها هامساً بأمر صارم..
:
" انتظري...!!..ابقي هنا.."

" حيرتَ قلبي معك...."....جملة تمثل وضعها الحالي لاحت في ذهنها اقتبستها من أغنية ما ...أتذهب أم تبقى؟!....أتعارض أم ترضى؟!....ماذا يريد بالضبط؟!......ارتخت مكانها تنتظر كما أمر سيد قلبها لترى ماذا يريد ودقات الرابض في صدرها من قبضته الحارة التي ما زالت فوق يدها تعلو وتزيد!!....سحب كفه عنها وهي تلحق حركته بحدقتيها....رفعها لفوق يفرقع بإصبعيه مع اطلاق صفير خفيف بالكاد يُسمع تحت ضجيج المتحدثين ليسترعي انتباه شقيقها (قصيّ) الأقرب إليهما فانتبه له ليكمل يحرك له عينيه الفحميتين بنظرة شاملة على من بالغرفة دون انتباههم مع حركة بيده ورأسه تعني .."تصرّف بالموجودين".....تبسّمت راضية وتورّدت وجنتيها لما اومأ له الآخر بمعنى "حسناً" ووضعت كفيها في حجرها بتهذيب كالطالبة المؤدبة!!....وقف شقيقها يتمطى ثم صفق يديه بمرح ليشد انتباههم ولما لبوا له ذلك قال بنبرة لطيفة ونكهة مزاح:
" هيا كل واحد إلى بيته.....الوقت تأخر ومؤكد العروسين لديهما بعض الأمور ليحلوها معا قبل سفرنا.....علينا أن نخلي الغرفة كي لا نسبب الازعاج...!!"

ورفع إصبعه بتحذير مكملا مزاحه:
" وتذكروا أن هذا اليوم سيأتيكم فافتحوا الطريق لغيركم كي يفتح الله طريقكم مع عرائسكم دون تطفلات الأهل.......هيا يا جماعة.....الله معنا جميعا...."

ثم بكل أدب نظر لوالده ليسانده هاتفاً :
" أليس كذلك أبي؟!.."

وكان أول من نهض من مكانه هو مؤكدا له:
" بالطبع.....الجلوس مع ابننا أحمد لا يمل منه.....لكن مثلما أعطانا حقنا ولم يملّ من اسئلتنا وتحقيقاتنا علينا أن نعطيه حقه ليسأل ويحقق مع عروسه كما يريد!!..."

وكان هذا ما حصلا عليه بالفعل....باركوا لهما من جديد واستأذنوهما ثم تركوهما متمنيين لهما سهرة سعيدة!!.....لقد نجح في اقصائهم ليخلو له الجو مع عروسه التي لعبت نبرتها الحزينة المكسورة وراء كلماتها في سجين صدره فأضعفته!!......الغرفة واسعة والاحساس بالفرحة لا يسعها.....مال قليلاً بشكل جانبي نحوها ثم رسم طيف ابتسامة على ثغره ليتبعها هامسا وهو ينظر لها بمكر:
" ها نحن طردناهم شر طردة...هل أنتِ راضية الآن؟!..."

بادلته الابتسامة وبعفوية تسحقه سحقاً مالت أكثر نحوه لتهمس بدلال بريء:
" وأنتَ ألم ترضَ يا شيخ؟!..."

تحرك بجذعه يبتعد بتلقائية عنها وأجاب:
" راضي بكل شيء أعطاني إياه الله....له الحمد والشكر!"

" تقصد لو انتهت الليلة دون لقاء لنا ...أكنتَ سترضى؟!.....أليس علينا السعي والمحاولة؟!..."

" وها أنا سعيتُ من أجل الحصول على اللقاء وبتوفيق من الله تحقق سعيي وبالطبع ليس بقوتي!.....الفرق بيننا أنكِ أنتِ لم تصبري .....كنتُ صابراً انتظر الوقت المناسب لأفعلها سواء الآن أو بعد قليل.....فإن نجحت بذلك لنا هذا وإن لم أنجح رغم محاولاتي إذا هذا مقدر لي ..سيكون قد قدّر الله وما شاء فعل ....وبالحالتين عليّ الرضا!!.......ربما كنتُ سأشعر بسوء في البداية كأي إنسان له مطالبه وله مشاعره إلا أنني لن أسمح لهذا الشعور بأن ينمو داخلي ويثبطني لأنه من الشيطان ....بل سأطرده بالرضى بما قسّم الله لي....يعني إجابتي لسؤالك...أجل سأرضى لو لم يتم اللقاء رغم محاولاتي!!.."

عاد ليميل نحوها واقترب أكثر وعطره يسبقه يفتح له الطريق فهدر قلبها متأثرا من هذا الخطر الذي بدأ يحيط بها ...استطرد ليضيف على كلامه مثالا حيّاً:
" تماماً مثل ما حصل بيننا بالسابق.....سعيتُ لتكوني لي ولم تكوني ....بالنهاية رضيت!.....ولكن خروجك أمامي من جديد محررة رغم أن أميال وبحر يفصلانا... رأيته كإشارة .....أنك لي..... وأن ما حصل من فراق في السابق لم يكن سوى امتحان من الله لي في الصبر والرضا ....فلما نجحت بهما....وفقني للسعي مرة أخرى بل وأعطاني ما اردت بصورة أوفى أكثر مما تمنيت...!!"

كانت تراقب كل كلمة تخرج من شفتيه بكل فخر ....تحب كلامه ...تحب إيمانه....تحبه كله على بعضه!....عند آخر جملة طمعت بالمزيد.....فهمت مقصده أن الله أعطاه إياها هي وربما قصد بصورة أوفى لأنها غدت محجبة وليست كالسابق !!....ظنت لوصوله إليها سيبدأ يستفيض أكثر بما يخص مشاعره اتجاهها ......أفكاره عنها وأخرى أشياء.....ربما سينتقل الآن من الحالة الإيمانية إلى الشاعرية!!.....سيخفت صوته ويمسك يديها وينظر لعينيها ويقول ...مبارك يا عروس....أو ...يمكنني الآن أن أقول أحبك فأنتِ حلالي.....أو يشرح لها عن ما عاش في بعدها .....أو....يمدحها لارتدائها الحجاب......لكن تذكرت أن بعد الظن إثم فما هي إلا مجرد أفكار تأكدت أنها لا تمت له بصلة لما أمسك هاتفه ناظرا للساعة ثم قال وهو يقف بنبرة ثابتة:
" سأجري مكالمة لأخي مجاهد....يفترض أنهم وصلوا المدينة الجبلية بسلامة إن شاء الله ....عليّ الاطمئنان عليهم..!!..."

اومأت إيجابا مبتسمة وتتبعت خطواته لما توجّه نحو إحدى النوافذ ليجري مكالمته جانبها وأطلقت العنان لعينيها ومشاعرها لتتأمله عن بعد من الاسفل إلى الأعلى بوسامته المهلكة وأناقته الصارخة وتمتمت لنفسها.." يا الله لا أصدق....أنا صرتُ زوجة لهذا الشيء الذي لا يشبهه أي شيء!!..."......تلفتت صوب الباب لما رأت احدى بنات خالتها الصغيرات تقبل باندفاع محدثة صخب لتتناول قطعة شوكولاتة من التضييفات الموجودة على الطاولة....فنهرتها قائلة:
" على مهلك ....لمَ هذا الصخب؟!..."

ردت بنبرة هجومية بريئة وهي تمد يدها لهدفها :
" أريدُ من هذه مثل روان أختي ....لم يبقَ منها هناك!!"

ألقت نظرة إليه ورأته ما زال منشغلاً بالمكالمة يوليها ظهره فقالت للطفلة ذات السبع سنوات:
" هيه أنتِ...."

" اسمي عرين...لستُ أنت!!.."

تنهدت تصبر نفسها وقالت بابتسامة مصطنعة:
" عرين...حبيبتي....احضري لي هاتفي من غرفتي عن طاولة الزينة!!..."

" أمي قالت لي يجب أن نقول لو سمحت عندما نطلب طلباً..."

بدت تغلي دمائها إلا أنها عليها أن تبقى لبقة وناعمة لأبعد حد كي تحافظ على صورتها فالزلازل محيطة في الأرجاء ولن تفضح نفسها !!...شهيق يتبعه زفير ثم همست تكز على أسنانها بابتسامة صفراء:
" لو سمحتِ حبيبتي عرين....هل يمكنك احضار هاتفي؟!.."

تخصرت مع إمالة طفيفة وهتفت بغرور:
" ماذا ستعطيني في المقابل...؟!.."

" صبرك يا الله..."

تمتمتها دون أن تسمعها الصغيرة ثم كابدت لتحافظ على ثباتها الانفعالي وردت:
" ماذا تريدين آنسة عرين؟!..."

ردت في الحال وهي تنظر ليسراها مشيرة :
" أريد أن أسلم على عريسك وأتعرف عليه....طلبت من أمي ومنعتني قالت عيب ممنوع الدخول للصالون...."

" لكنك دخلتِ..."

" دخلتُ لأخذ شوكولاتة وليس لأسلم على عريسك.."

" ما شاء الله الآداب والطاعة ..على أساس هناك فرق."......

جملة همهمتها بخفوت ثم قالت بنفاذ صبر:
" حسناً ...اجلبي الهاتف وتعالي لتسلمي عليه يكون قد انتهى من المكالمة..!!..."

فرت في الحال متحمسة فعادت الاخرى بوجهها ونظراتها لتراقبه بأريحية إلا أنه قطع راحتها لما وضع الهاتف في جيبه مقبلاً إليها ثم جلس مكانه هاتفاً:
" الحمد لله...وصلوا بالسلامة!!..."

تبسمت وهمست:
" الحمد لله على سلامتهم..."

شكرها وأسند ظهره للخلف وهو يمد ذراعه على ظهر الأريكة من خلفها واستطرد جاداً بعد أن زفر أنفاسه:
" أجل سيدة ميار.....لنتابع حديثنا!!...علينا أن نتفق على بعض الأمور."

" ما هذه الجدية الآن؟!... ألن تبارك لنا ؟!.....ألن تثني على مظهري؟!...ألن تعبر عن فرحتك بالاقتران بي؟!.....متشوقة أن أسمع أي كلمة....كلمة واحدة..... تخص يومنا المميز ...منك أنت فقط!!......ما زلتُ انتظر كل هذا منذ وضعك للخاتم في إصبعي.... كما يفعل كل العرسان قبل الخوض في حديث آخر!!.....حتى لو انتقدت أحمر الشفاه الصاخب ومنعتني عنه...سأرضى....المهم اعطني إشارة أنك تنتبه وتهتم....."...هي ذاتها أحاديث النفس التي تخوضها !!......ظلت صامتة لم تجد كلمة لتشرع في الحديث فزادت الجدية على تقاسيمه الوسيمة وهتف بهدوء:
" حسناً......ما سأقوله .....أنت تعلمين... فترة الخطوبة بإذن الله ليست طويلة !!....وبسبب البعد...لن يكون بيننا لقاءات!!...إلا إذا سنحت لي الفرصة من بين أعمالي أن أزورك مرة إن شاء الله في بلادك!!.....وبالطبع يمكنك مكالمتي بالهاتف الآن...لكن!..."

غضنت جبينها ترهف السمع ليكمل بجديته:
" في ساعات عملي لن يكون مكالمات إلا إذا للضرورة فقط!!....أحب الانضباط بالعمل ولا أرضى بمداخلات خارجية!!....إن كان بالشركة أو بمقر القوات المسلحة البحرية!!.......أما باقي الأوقات لكِ متى تريدين...!!....وهذا الوضع قائم حتى بعد الزواج إن شاء الله....اتفقنا؟!.."

اومأت راضية وهمست :
" إن شاء الله...!!..."
ليلتفتا معا لصوت خبطات قدميّ الراكضة وهي تحمل الهاتف وتتقدم نحوهما لاهثة ثم تضعه في حجرها قائلة وهي تنظر للعريس:
" والآن يمكنني مصافحة زلزالك الوسيم والتعرف عليه!!..."

امتقع وجهها وبصعوبة ازدردت ريقها فدقت كلمتها السرية من فورها تفتح هاتفها دون مغزى تلهي نفسها به متهربه من عينيه إثر الغارة التي ألقيت عليها أمامه بينما الجالس جانبها مر على ملامحه طيف دهشة ليطرده بالحال ضاحكاً يمد يده لمصافحتها وما إن استجابت ليده حتى شدها نحوه بلطف هاتفاً:
" ما قصدك بزلزالك الوسيم؟!..."

ثم بابتسامة ملتوية مال برأسه قليلاً نحو التي توقفت حواسها عن العمل لبرهة يطالعها بنظرة متشككة أربكتها لتتململ ترفع يدها تدفع الطفلة من كتفها قائلة بارتباك وهي تبتسم بتصنع:
" ها أنتِ صافحتيه ...هيا اذهبي لأمك!!.."

غضنت الطفلة جبينها بعبوس تناظرها بعدم رضا وما زالت كفها الصغيرة أسيرة قبضته لتعود ترخي ملامحها نحوه مجيبة:
" سمعت ميار تقول لرسُل شقيقتي في النهار أنك زلزال وسيم ..."

اتسعت عيناها بذهول واختل الإيقاع في قلبها من هول الموقف المحرج بينما هو ينقل نظراته الجليدية التي تحمل خبث عاشق بينهما محافظا على كف الطفلة في يده هامساً لها بنبرة ثعلبية يرسل موجاتها للمتسمرة جواره:
" حقا؟!.."

أطرقت رأسها وتخضب وجهها بالكامل بلون الدماء وتحفزت أعصابها تتمنى أن تنقض على تلك الواشية الصغيرة وتحملها وتلقيها من النافذة ثم حاولت تدارك وضعها وانقاذ ما تستطيع من سمعتها فهتفت بتلعثم وهي تنظر إليه كالقطة البريئة المتوسلة ثم إليها كالقطة الشرسة الحاقدة:
" لا تصـ...تصدق....لا بد أنها ...فهمت... كلامنا خطأ....!"

" كلا لم افهم خطأ لأنك حملتِ هاتفك أيضا لتريها بأنك تسميه فيه بزلزال قلبي..."

"كاذبة!!."

نطقتها بوهن فردت الطفلة:
" لست كاذبة!!.."

أفلت يدها عائدا بظهره للوراء والضحكة الصاخبة تملأ وجهه الوسيم فغزتها موجة احراج ذات بأس شديد جعلتها تبتلع لسانها لا تعلم ماذا تقول وكيف تثبت ولما انتهى من ضحكاته ...تنهد بروية ثم تقدم بجذعه يضع يده بلطف على كتف الصغيرة هاتفاً بهدوء:
" لا يصح أن ننقل ما نسمع من كلام....هذا تصرف غير مقبول بل عيب وحرام ...وأنت فتاة جميلة جداً عليكِ المحافظة على جمالك هذا لأن التصرف غير المقبول يفسد صورتنا ويجعلنا قبحى ويُنفر الناس منا والأهم يغضب ربنا!!...."

واستطرد بعد أن قرص وجنتها:
"اتفقنا يا حلوة؟!...."

اومأت مبتسمة توافق كلامه وقالت مستنتجة ببراءة:
" إذاً أنت وسيم وجميل لأنك لا تنقل الكلام...!!.."

شقت ثغره ابتسامة خجولة رجولية من غزلها به وأجاب:
" حسناً لنقول ذلك.....أجل لأنني لا أنقل الكلام!!..."

ثارت حفيظة عروسه وكانت تنظر بنقمة لها غير مرتاحة لتواجدها !!...تريد التخلص منها قبل أن تفلت لسانها بكلمة من هنا أو هناك فقد تذكرت أحاديثهن الكثيرة وهذه كانت موجودة ولم تتوقع أنها كانت متابعة معهن وتترصد لكلامهن ...نهضت ووضعت الهاتف الذي كانت تعبث به دون هدف مكانها تمسك كفها تسحبها هاتفة:
" هيا عرين حبيبتي....اذهبي إلى أمك!!.."

أرخى جسده بارتياح على الأريكة وشيّعها بنظراته السخية حتى اختفت وبقي شارداً لبرهة في طيفها...ثم بدرت منه تنهيدة من الأعماق وحده يعرف ماهيتها!!.....لمح هاتفها المفتوح....التوى ثغره بابتسامة لعوبة ثم اخرج هاتفه وضغط على اسمها الخالي من الألقاب(ميار) ...رن عليها فأضيئت شاشة خاصتها بصورته تلك الخاصة بالثوار مع اسم (زلزال قلبي)....سرح بأفكاره ثم تمتم بخفوت:
" مجنونة.!!......وأنا وقعتُ في هذا الجنون...!!"

ثم سمح لنفسه بحمل هاتفها ليحذف اتصاله من قائمة الاتصالات كي لا تكتشف ذلك وتزيد احراجاً وارتباكاً....والنية حفاظاً على مشاعرها....وأعاده مكانه بهدوء تام منتظراً عودتها!!........كانت خارج الغرفة تتفحص حالتها في مرآة موجودة في بهو البيت ...حاولت ترتيب حجابها....مررت لسانها على شفتيها المزينتين بأحمر الشفاه الوردي الداكن تعيد لهما رطوبتهما....رفعت صدرها تسحب أنفاسها لتساعدها على الصمود معه قبل أن تعود إليه من جديد!!....وصلته وجاورته جالسة وكان يعبث بهاتفه فسألت بنبرة مرحة:
" ماذا تفعل؟!..."

أجاب وهو يسلط نظره على شاشته لثواني قبل أن ينظر إليها:
" كنتُ قد وعدتُ متابعيني عندما أرتبط سأخبرهم بذلك بعد إلحاح كبير منهم في السابق بحجة أنهم يريدون أن يفرحوا لي.!!....وها أنا سأفي بوعدي....نزلتُ منشور أزف لهم الخبر رغم أنني من شهور أهملتُ صفحتي ولم أعد اتفاعل بسبب الحرب وما بعده من تطورات وانشغالات.. !!.."

وضعت ساقاً فوق الآخر ودست بحركة وهمية خصلات ظنتها نافرة من تحت الحجاب وهي تقول بتلقائية:
" أجل منذ زمن لاحظتُ غيابـ..بـ...ك...."

تلكأت عند حروف كلمتها الأخيرة لتتسع عينيها على مهل لما استوعبت ما نطقت به ولم يمهلها ثانية بل جزء من الثانية لترقّع عما تفوهت عندما التفت إليها من فوره قاطب الجبين يضيق عينيه هاتفاً بتساؤل:
" لاحظتِ غيابي؟!...كيف؟!....أذكر حظرتك منذ زمن وصفحتي خاصة مغلقة!!..."

ثم بنباهة استطرد متوقعا:
" أم أنكِ انضممتِ باسمٍ آخر؟!.."

حركت رأسها طواعية تؤكد على ذلك دون أن تنبس بكلمة وفي الداخل شجار عنيف يحدث في أحشائها من شدة شعورها بالخزيّ ليسأل بجدية:
" أي اسم؟!..."

" الأسير!!.."

همستها بخفوت ...تعترف بجريمتها غير محتاجة لصفعات....فكرر الاسم بذهول:
" الأسير؟!...."

مر الاسم بين أروقة الذاكرة وبنبرة اقل ارتفاعا أردف مستنكرا:
" العضو الذي كان يشاجر المتابعات وكنت أنشغل بحذف تعليقاته ؟!......وكان الخاص دوماً مغلقاً عنده ولم أستطع التواصل معه لأهدي عليه!!......لكنه في الحقيقة كان مزعجاً..."

نسيت خزيها ومطت شفتيها ترفع رأسها لما نعت بالمزعج شخصيتها التي تقمصتها بصفحته وسألت بغرور:
" ولمَ لم تحظره ما دام يزعجك سيد أحمد؟!.."

أمسك نفسه عن الانفجار من الضحك وهو يرى صورتها الطفولية بل من الفكرة بحد ذاتها وما فعلت ....لقد اكتشف انها لم تكن سوى غيورة تناكف المتابعات مختفية خلف شخصية وهمية......والصراحة....قد أعجبه ذلك وأرضى غروره !!.... تنحنح يجلي صوته يطرد منه النبرة الضاحكة ليقول:
" لم احظره لأني لا أريد أن أُحرَم أجره ...ربما كان يستفيد من دروسي ويطبقها وأكسب من خلفه الحسنات!!....حسنات جارية!!.......كنتُ فقط أدعو له بالهداية...!!..."

" لمَ لم تناقشه بالتعليقات وتهدي عليه إذاً؟!..."

رسم هدوء على ملامحه فبدا أكثر وقاراً:
" لأن النصيحة فيما بيننا أفضل من العلن...أخلاقياً.....لن ألفت الانتباه له وأضعه في موقف محرج.......ثم ستكون نسبة تقبله لها أكبر بغض النظر أنني أخاف أن أدخل في الرياء دون قصد والعياذ بالله....!!..."

أنهى خطابه الجاد دون سخرية منها لينهي من داخلها شعورها بالخزيّ ويجعلها تكتسب شيء من الثقة فقالت في سرها "...الحمد لله لم يهتم كثيراً ويسخر مني....نفدنا..."..... ران صمت بينهما فعاد يعبث بهاتفه يفعل شيئا ما وراحت هي تحدق به هيمانة تستغل انشغاله ...الهالة الرجولية التي تحيط به تسلب الأنظار والأنفاس.....ذهبت للبعيد حالمة وهي تدقق بتفاصيله الوسيمة عن قرب!.....ترغب بشدة مد يدها لتلمس ذقنه النابتة بتهذيب وأناقة والتي يختفي تحتها طابعه الحسن...." هل يمكنك البقاء هكذا حتى الصباح؟!....لا أملّ النظر....حماك الله لي !!..."

انتفضت مجفلة عندما ضربها بسبابته على أنفها بعد أن أمسك بها في الجرم المشهود سارحة به بهيام!!...افتر ثغره مبتسماً بحب وهتف:
" أين وصلتِ؟!....أنادي عليكِ ولم تسمعيني!!..."

" وصلتُ لمملكة الوسامة أقف على بابها أتوسل قربك!!...هلّا فتحتَ لي وخبأتني في حضنك ؟!...." جملة في عقلها أبقتها وأخرى بلسانها نطقتها:
" هنا هنا....معك!....أجل ماذا ؟!!..."

" تحدثت مع والدك وقصيّ بشأن جامعتك ودراستك!!.."

" كنتُ سأسألك....ماذا سنفعل؟!..."

" سأرسل لك إن شاء الله صفحات أفضل الجامعات في مدينتنا والمنطقة....واختاري ما يعجبك لننقل ملفك إليها!! ..."

فكرت سريعاً وردت:
" أريدُ أن أختارها مع ألمى....لنتابع دراسة معاً..."

غضن جبينه وسأل:
" هي أخبرتك؟!.."

" كلا لم تفتح معي سيرة الدراسة إطلاقاً...لكني أريد ذلك وسأقنعها إن كانت قد غيرت رأيها!!...."

أجابت واثقة فقال بنبرة حازمة يشرح لها :
" بما أنها لم تفتح السيرة إذاً هناك شيء لا تعرفيه...مثلا....ربما زوجها لا يريد ذلك ربما وربما....لا نعلم ماهية الأمور بينهما....فما زال الوضع جديد وحساس!...أي... اقول ذلك كي لا توهميها أو تحرضيها عبثاً......!!...ونحن الآن لا وقت لدينا ..علينا المضي بالموضوع كي لا تتأخري عن استكمال دراستك بعد الزواج إن شاء الله.."

تركت ما يخصها وتحركت متحفزة لتقول بانفعال ونبرة مرتفعة هجومية عاقدة ما بين حاجبيها وهي تحرك يدها بنزق:
" لماذا لا يريد؟!....أم يريد حرمانها تعليمها لأنها حرمته ابنه كي يعاقبها فارضا سيطرته الرجولية!!......لا يمكنه.....هذا هراء وليس من حقه.... وعلى العكس يجب أن يجبرها إن رفضت هي لو كان رجلاً بالفعل وتهمه مصلحتها !!....؟!....."

تحولت ملامحه للصلابة ودنا منها بجذعه لتكون نبرته تماثل نظرته بحدتها وهو يرفع سبابته بتحذير صلب جاد أرهبها:
" انتبهي لنبرة صوتك بالكلام معي!...أنتِ أصبحتِ زوجتي.....هذا أولاً........ثانياً انفعلتِ على شيء لستِ متأكدة منه وفقط مجرد تخمينات.......ثالثاً أنا لم آتي هنا كي أحل مشاكل الغير.....تلك حياتهما الخاصة وإياك أن تدخلي بينهما مهما كانت صلتك بصديقتك......كما لا أقبل بأن يدخل أحد بيننا....."

وقست عيناه أكثر لتغدو نبرته أكثر صرامة وهو يتابع بهيمنة:
" ورابعاً وهو الأهم....هذه المرة الثانية التي تحاولين الاستنقاص من رجولته...في الأولى تغاضيت بسبب أن مشكلتهما كانت في ذروتها وعذرت حنقك وغيرتك عليها....أما الآن لن أسمح لكِ ميار ....لأن بكلامك هذا تطعنيني أنا أيضاً برجولتي ...فالرجل لا يصاحب إلا رجل مثله أو العكس!.....ولا تختبرينا في ذلك!!.....وكلامي لا يعاد!!..."

شعرت أن ضربها إعصار مباغت....لم تتوقع ردة الفعل القاسية هذه.....ما بها تشعر بلسعة صقيع رغم الجو الصيفي؟!....الألم يعتصر قلبها ....وعيناها شارفت أن تذرف الدموع.....لمح طيف الحزن في مقلتيها.....استغفر في سره.... أيراضيها ؟!....ربما!!....ربما يراضيها لكن قطعاً ليس الآن كي لا تستهين بكلامه الذي لن يتراجع عنه وتعرف حدودها جيداً حتى لو غرقت في الدموع!!.....خيّم عليهما السكون للحظات ...كانت وردة مفعمة بالحيوية وأضحت ملامحها ذابلة كالوردة العطشة!!.....ما إن قرر أن يتابع كلامه كي يطرد الجو المشحون بأنفاسهما الصامتة النافرة ما بين غضبه الساكن وحزنها الصارخ ويستأنف حديثهما حتى دخل والدها مقبلا إليهما يحمل هاتفه مبتهجاً يمده نحوها دون أن يلحظ تقاسيمهما الواجمة:
" اتصال مرئي من جدك يريد أن يكلمكما ويبارك لكما...."

رمشت بحزن حاولت إخفاؤه بابتسامتها الشاحبة وأخذته منه وما إن أمسكت به حتى صدر تنبيه أن شحنه قارب على النفاذ وسيغلق بعد قليل فهمست بصوت أبح:
" أبي انتهى شحن الهاتف وسيغلق الآن..."

أخذه منها من فوره وصوبه نحوه قائلاً بعد أن لمح هاتفها معها:
" حاج اتصل على هاتف ميار حالا....هاتفي انتهى شحنه....السلام عليكم!!..."

ورمقهما ببسمة حنونة ثم استأذنهما ليكلما جدها براحة ....حملت الهاتف تنتظر الاتصال!!...مال جانباً بجذعه مقترباً منها أكثر لينتظر معها يحاول تلطيف الوضع بعد القصف الذي أنزله عليها بينما عطره الرجولي الصاخب يخترق أنفاسها ويعبث بها ولا يرحمها...!!...كلاهما ينظران بصمت للشاشة....ارتج الهاتف بفعل ارتجاج يديها الذي أدّى لارتجاجهما قلبها الوجل المرعوب لما صدح الرنين مع إضاءة الشاشة باسم (تامر) وصورته!!.....ابن عمها وخطيبها السابق!!........فهذا نظامها الذي تنتهجه لكل شخص تعرفه تضع صورته على رقمه عندها!!....ما زال محفوظا في هاتفها ليس لأنه ابن عمها وتحافظ على العلاقة بل لأنه لم يكن يعنيها إطلاقاً ...لا تحبه ولا تكرهه...فلم يشغل تفكيرها ولم تعتبره موجودا لذا نسيت حذفه !!....بينما الذي جانبها كان ساكناً وديعاً ليتحول سكونه لنار مستعرة بعد أن ثارت دمائه وتصاعدت حتى كادت تخرج من رأسه فاسم الشخص الذي خطفها منه لم ولن ينساه....ما زال عالقاً في دماغه منذ أن اعتذر منه شقيقها قائلا....".جدي يريد من أبي أن يعطيها لتامر ابن عمي ..."... ....هو ليس رجلاً تضنيه الشكوك ولا يسمح أن تسيطر عليه الظنون...لا يفكر بماضيهما وعلاقتهما ولا يحاسبها على ما مضى بالتأكيد!!....لكنه من البشر...ورجل غيور الطباع على من يخصه!!وظهوره أمامه بهذه اللحظة وعلى هاتفها خاصة أشعل فتيل الغيرة في المسجون في صدره.....ابتعد تلقائياً عنها واتكأ بمرفقه على ذراع الأريكة ناصباً ذراعه يمرر اصبعيه على خديه المكسيين بلحيته الخفيفة شارداً بالفراغ أمامه بملامح جامدة ولأنها ما زالت تجهل شخصيته وجوانبه الغامضة لم تستطع أن تقرأ ما وراء تلك الملامح والحركة!!...ساورها القلق وكستها عتمة من الألم ....ما زال رنينه يصدح دون توقف....رمقها بنظرة فيها ملل واضح من صوت الهاتف الرنان وقال بضجر:
" أجيبي.....جدك ينتظرك!!.."

ارتعش اصبعها وهي ترفعه كي تمرره على الشاشة لتجيب على الاتصال المرئي!!..فظهر لها جدها بنظّاراته يجلس على الأريكة في صالون بيتهم ليقول ما إن رآها:
" ميار ابنتي....مبارك عليكِ عقد القران صغيرتي..!!.."

كانت منطفئة ليست على طبيعتها بسبب ما حصل بينهما في آخر الحوار وازداد الانطفاء بهذه المكالمة التي تحمل اسم متصل غير مرغوب به فردت بوهن وخجل ليس منه إنما من الجالس جانبها منشغلا بشروده في اللا شيء غير مهتم بمكالمتها البتة:
" بارك الله فيكَ جدي....ك...كيف أنت؟!...."

" بخير يا ابنتي....اخبريني كيف عريسك؟!..وأين هو ؟!...اليس معك؟!...."

سرقت نظرة سريعة إليه وعادت ببنّ عينيها للهاتف مجيبة بخفوت وتمهل:
" الحمد لله ...بخير يا جدي.......ها هو هنا.....معي...."

أعرضت حدقتيها عن الشاشة لتلقي عليه نظرات بدت وكأنها متوسلة ترغب بأن يجاملها أمام جدها فهي التي حاربتهم حتى آخر رمق لتتحرر من ذاك ابن عمها البغيض متمنية من عمق قلبها أن يكون نصيبها شيخها الوسيم فانتبه لنظرتها تزامنا مع اجابتها لجدها ليتبدل بالحال ويقترب منها يرفع يمناه مسانداً يسراها في حمل الهاتف وتثبيته أمامهما فتتعانق أطراف الأصابع بعناق لطيف يتبعه بإلصاق كتفه الصلب بكتفها الغض الرقيق ثم صدغه بصدغها فيتكئ برأسه على رأسها محدثاً تماساً كهربائيا أدى لارتعاش كامل أوصالها بشكل صريح إلا أنه هو لم يتأثر ولم تهتز شعرة منه وكأنه اتكأ على مخدة وليس على كتلة بشرية تنبض... عشقا به... وتلك الكتلة ذاتها تفضحها حرارتها الآخذة بالارتفاع تدريجيا وكان هذا ما ظنته عنه أنه لا يشعر مثلها كما ظنونها التي تأخذها إلى طريق الآثام عندما يكون الشيء يخصه لأنها تكتشف لاحقا كم كانت مخطئة..!!....ضحك برسمية يتقنها وألقى سلامه عليه ليهتف المتكلم من الجهة الأخرى :
" أهلا بك بالانضمام كنسيبٍ لآل زيدان .....كيف هي ميار معك؟!..."

تحرّك قليلاً برأسه نحوها وجارته بالحركة فالتقى الفحم مع البنّ لتغلي مع حركتهما وقربهما المهلك قهوة العشق على النار وتفيح منهما رائحة نظرات تواقة عبقة تُخلخِل القلبين بل تجعل نبضهما نبضاً فوّار وتنشئ داخلهما صراخ رغبة لو لبّيا نداءها لخلّفا في المكان دمار !!....مرر عينيه الثاقبتين من هذه المسافة الفاصلة على تقاسيم وجهها الخمري الناعمة واستقرت نظرته أمام شفتيها المزينتين بأحمر الشفاه الذي حيّرها ...المنفرجتين قليلاً بحركة عفوية مغرية يظهر منهما طرف ثناياها العلوية !!.....راقبت نظرته المركزة والتي عاثت فساد في مشاعرها فغطى الإحمرار بشرتها وتبعثرت نبضاتها ولم تقوَ على ابتلاع ريقها ولا حتى على الحراك قيد أنملة بل كل ما فعلته لتخفي توترها هو عضة خفيفة ببراءة على طرف شفتيها لم تدرك تأثيرها ولم تسمع الشتيمة التي رنّت في عقله بسببها .." تباً لكِ....ماذا تفعلين؟!..."....حافظ على ثباته بكل امكانياته وكادت هي تعلن انهيارها التام عندما همس ليجيبه بأنفاسه الدافئة من هذا القرب باعتزاز في كلامه وشموخ في نبرته دون أن يحيد فحميتيه عنها وعن ثغرها غير آبه بالذي يحدق بهما منتظرا من وراء الشاشة:
" ملكة ......تتربع على عرش الملكات!!....."

كيف يقتلها وينعشها في آن واحد؟!.....أهو مجرم أم منقذ؟!...

كلمات متمهلة مقتضبة نصبها بها على العرش تنضح فخراً ليتابع مبعد تركيزه عن هدفه الذي لولا المكان والزمان لاقتنصه دون رحمة ثم رفع عينيه لعينيها يبث لها من خلالهما ثقته المتفجرة بل سطوته بعد ثنائه عليها :
"وإلا لم تكن لتحمل اسم أحمد عبد الجبار الخطيب.... ابن الجبل ومدينة الثوار الأحرار...!! "

ومن إجابته تأكدت أنه لا ذاك المجرم ولا ذاك المنقذ بل هو فقط عبارة عن الزلزال نفسه ....زلزالاً مغروراً !!....زلزلها قبل قليل بحدته وشيء من قسوته وتركها تحت الركام ثم عاد لينتشلها بغرور وهو يمدحها وينسبها إليه بكل تباهٍ وكأنه محور الكون!! ....ولكنه فعلا عندها هو محور الكون ومحور قلبها ومحور كل شيء....!!..." ارحمني أرجوك ......حتى غرورك يا رجل بحد ذاته فتنة!!........لا أعلم إن كنتُ سأجد مكاناً في قلبي لأحبك أكثر بعد!!......تباً لمشاعري الثائرة منك ولك..."

بدأ جدها يسترسل بالكلام معه كأنه يخضعه لامتحان يستفسر منه عن كل شاردة وواردة تخصه ليطمئن على حفيدته وابنة دمه بل حتى خاض معه أحاديث سياسية ووطنية سريعة وكان هو يجيب بكل هدوء وثبات على ما يريد وبالطريقة التي تعجبه لا يزعزعه سؤال محرج ولا يهمه رأيه به إلا أنه سواء أراد أم لم يرد قد أفحمه بشخصيته الرجولية واتزانه فهتف ذاك بوقار معترفاً!! ....ذاك جدها نفسه الذي اعتادت منه الجمود بطباعه وقلة مديحه للغير بسبب تركيبته وكبريائه :
" ما شاء الله عنك يا ولدي....في الحقيقة أستطيع الآن الاطمئنان على حفيدتي معك ...كنتُ أخشى عليها من الغربة فهي من حفيداتي المميزات!!...إلا أن من يحمل تلك الأفكار الدينية والغيرة على وطنه لن يكون إلا نعمَ السند والحماية لمن تخصه بل لن يتركها في الأزمات وسيمسك بيدها ليسيرا معاً نحو الجنة "

كان جدها يخبره عن رأيه به وهي تصغي وقلبها يملؤه الرضا... إنها فخورة به لأبعد مدى.....!!....ألقى السلام يبارك له بعقد القران ثم ودعه بكلمات لطيفة ليضيف:
" أين ميار.....اعطني اياها..."

لف الشاشة نحوها أكثر بعد أن جامله كلمات الوداع ....أخذته منه ولوحت له بيدها هاتفة بمرح وبشاشة بعد أن أمهلها حواره مع جدها زمناً تستكين به وتستجمع قوتها وتطرد ما اجتاحها من كدر وتوتر قبل دقائق وتعود الى كامل طبيعتها :
" أنا هنا جدي .....اخبرني كيف أنتم وكيف الجميع؟!.."

ضحك وقال:
" ها نحن نتجمع مع أعمامك وعائلاتهم في بيتنا...جميعنا فرحون لأجلك!! ....كانوا يشاهدون مباراة كرة قدم وأكملوا السهرة رغم تأخر الوقت ..."

" ابعث لهم سلامي يا جدي....نراكم على خير إن شاء الله!!..."

" انتظري!!....يريدون المباركة لكِ..."

توسّع فمها بضحكة صادقة وبدأت ترتب نفسها بإحدى يديها متخذة الشاشة مرآة لتحسن مظهرها كعروس أمام أعمامها وزوجاتهم ليكون ثاني من يظهر لها بعد جدها هو الوجه الذي لم تنتظره ولم تفكر أنه سيكلمها أساساً..!!..بهتت ملامحها من الصدمة ونبض قلبها بوتيرة مختلفة بعد أن أحست بوخزة ألمّت بروحها !!...." هل يمتحنني الله بهذه المواقف الصعبة؟!....لماذا كل شيء سيء يخصني يظهر أمامه ؟!...".......تطلعت على الذي يجاورها فتصادمت نظراتها المرتبكة بنظراته المظلمة التي لم تتمكن من قراءتها.....فعندما ظهر غريمه على الشاشة عرفه من فوره بسبب صورته التي يحملها اسمه بهاتفها......لم يُبدِ أي ردة فعل ولم يبوء بأي اعتراض أو حتى تأثر ...بل جعل الظلام في عينيه مخبأ لمشاعره التي لن يظهرها للسطح...على الأقل الآن!!....جامد الملامح مستكين الحركة...يراقب بصمت القادم!!... سمح ذاك البغيض لنفسه بمحادثتها لما أخذ هاتفه من جدها ليناوله لبقية العائلة رغم أن علاقتهما السابقة كانت منفرة لا تفاهم بينهما ولا انجذاب ولا أي تكافؤ وأحاديث قليلة بالكاد كانا يضطران لها وبعد الانفصال أضحيا أكثر من غرباء وكأن لا رباط دم بينهما.....هتف بنبرة يميل بفمه:
" سمعتُ حديث عريسك مع جدي.... أخيراً حصلتِ على ما ومن تريدين في بلاد غريبة عنا.....!!....على كل حال مبارك لكِ يا عروس!!..."

رفعَ سبابته يلوّح به ليتبعه بغمزة يتخذها عادة في كلامه دون نوايا....فتربيته مختلفة بحكم أن والدته أجنبية ثم هتف مع ابتسامة ملتوية :
" هذه مباركتي الأولية وعندما تعودوا الى الوطن.....نراكِ يا ابنة العم!!......فجدنا ما شاء الله يحضّر احتفال كبير لأغلى حفيداته.....!!.."

ازداد وجهها شحوباً ...لمَ تمر الدقائق عليها متثاقلة؟!....يا ترى هل رأى غمزته؟!...هي تعلم أن هذه عادة للبغيض اثناء كلامه لكن زلزالها لا يعرفه.....كيف سيكون انفجاره إن لاحظها؟!...أيصرخ أم يصفعها ....هل يتركها ويذهب بعد أن يصب عليها الغضب ؟!....أم أنه سيتفهما إن شرحت له؟!.......حانت منها التفاتة ضعيفة صوبه تريد أن تتأكد ما مدى تأثير ما سمعه عليه وإن كان لمح الغمزة اللعينة!!....رأته يعبث بهاتفه....تنهدت بخفية لترتاح....لا بوادر غضب عليه!!.....كم هو متفهم؟!...." حمدا لله....لم أتوقع هدوئه...." قالت في سرها لتعيد في الحال نظرها المصعوق على الشاشة عندما أضاف ذاك آخر كلامه باستهتار يحاول أن يبدو خفيف ظل أو كمجاملة فهي في الحقيقة لا تعنيه وليست من ذوقه لأنه لا يميل للمحجبات وخاصة هي شعوره اتجاهها الرفض فقط بسبب اجباره عليها اجبارا في الماضي في وقت لم يرغب به بالارتباط اطلاقاً رغم أنه لا ينكر جمالها الهادئ بتقاسيمها الناعمة البشوشة :
" اليوم أنتِ بدوتِ أجمل من يوم خطوبتنا....أم هذا له علاقة بمن يكون العريس؟!..."

كيف أصبحت يديها فارغتين لم تفقه؟!.....فعند سماع الصامت الصامد جوارها جملة ذاك الأخيرة تصلبت عضلاته والتهبت أعصابه بسبب دمائه التي ثارت غيرة وحمية وأضحى قلبه غارقاً في بؤرة مشتعلة تكوي صدره ورغم كل هذا ورغم تلك الانفعالات إلا أنه لم يسمح للغضب أن يفقده صوابه وينفجر انفجارا مدويا فسحب بخفة الهاتف من يديها ووجه الشاشة لوجهه ليرسم ابتسامة متصنعة واثقة تاركاً لعينيه أن تتكفلان بإيصال نفوره وعدم تقبله وحروفاً تحمل التحذير خلفها للبغيض البعيد محافظا على البرود في صوته دون اهتمام بتقييم الآخرين سواء هي أو أقاربها هناك لأسلوبه الفظ وقلة ذوقه:
" أتعبناك معنا سيد تامر ....رجاءً حافظ على عينيك تحتاجهما لرؤية عروسك المستقبلية!!.....والآن انتهت المكالمة ...وصل السلام للعائلة لأن الهاتف سيُغلق !!....."

ووضع على إنهاء المكالمة ببساطة دون إمهال البقية فرصة المباركة لها ليتبعه بحظر رقمه من فوره ثم حذفه كلياً من هاتفها وكي يثبت صدق كلامه ضغط على الزر الجانبي وجعل الهاتف مغلقاً تماماً ومده نحوها بهدوء مبتسماً بهمس ونظرة جليدية :
" ضعيه جانباً...."

تناولته وهي تشعر بلذوعة في تصرفه الهادئ....ليست مطمئنة!.....لن تكون هذه ردة فعل (أحمد) إذا غار.....وخاصة حركته الأخيرة تعني عدم رضاه وإن اغرقها بالابتسامات....سرحت بين أروقة عقلها تفكر إن كان عليها التبرير؟!....أن تشرح له شخصية ذاك المستفزة؟!....هل عليها هذا لتخفف من وطأة الظنون إن كان يظن الكثير في ذهنه!!....هل عليها أن تبوح بكيف كانت علاقتهما يا ترى ليطمئن قلبه؟!...أم تلتزم الصمت وكأن شيئا لم يكن؟!......رجحت اختيارها الأول فتململت متحفزة تشد جسدها وتضع يديها في جحرها تستدير بجذعها صوبه ثم تتنحنح تنظف أوتارها لينتبه لها محدقاً مرهفاً سمعه منتظراً ما ستتفوه به قبل أن تنكس عينيها للأسفل وتهتف بخفوت :
" في الحقيقة أنا وتامر...."

جمعت اسمها مع تامر بعفوية لتشرح فلم يمهلها المتابعة عندما هتف ببرود دافناً نيران غضبه وغيرته داخله:
" ششش....لا تنطقي اسمه!!....لا حاجة لسيرته."

تطلعت عليه بحدة مصممة أن تخبره ليرتاح فترتاح فنهرته هاتفة بجسارة:
" بلى يوجد حاجة ...لترتاح !!.."

يجلس منحنيا للأمام بظهره متكئاً على مرفقيه وبنظرة استصغار ملؤها الكبرياء والشموخ مال برأسه نحوها رافعاً زاوية فمه ببسمة متهكمة:
" عفوا؟!....لأرتاح؟!...من ماذا؟!..."

لم يعجبها تهكمه ولا نظرته فأجابت بثقة مصرة:
" أجل ترتاح....لا تقل لي أنك لم تنزعج من تامـ.."

" مياار..!!.."

زجرها بحدة وهو ينصب ظهره واستطرد بنبرة حازمة:
" قلت لك لا تنطقي اسمه.....ا!!..."

خافت أجل خافت من الحدة في صوته والأمر بكلماته....لكنها لن تستسلم فردت بجرأة وربما بحماقة:
" حسنا لن أنطق اسمه....لترتاح فقط.... لكن ستسمع كيف كانت علاقتنا في الماضي ....."

ابتلعت كلماتها واتسعت عيناها بهلع عندما أخرج غضبه المكبوت وهو يحافظ على انخفاض صوته لأنه في منزل يعج بالناس ...احتراماً لهم ليس خشية من أحد!!...... ثم هدر بها وهو يستدير نحوها آسراً عضديها بقبضتيه:
" أقول لكِ لا تنطقي اسمه وتريدين أن تشرحي لي عن علاقتكما السابقة؟!...."

هزها قليلاً وتابع:
" هل سألتك شيء بالموضوع؟!...هل طلبتُ منك ذلك؟!...."

" كـ...كلا.."

ذراعيها مأسورتين بقبضتيه يشد عليهما قليلاً وهتف بصلابة وخشونة:
" إذاً يغلق الموضوع وينتهي هنا بل يدفن لقعر الأرض!!.....ما كان بالماضي لا يعنيني....فلا تفتحي هذه السيرة إطلاقاً بل احذفيها من ذاكرتك...وعندما تذهبين لبلادك ...لا تسلكي طريقاً يظهر به أمامك .....هذا كل ما عليك فعله لأرتاح إن كانت تهمك راحتي!......أتفهمين؟!..."

حركت رأسها بوهن توافق على كلامه!!....هي حمقاء ألا تعلم ما يفعله الحديث للحبيب والزوج عن رجل آخر كانت ترتبط به؟!....هو لم يسألها ودفن كل مشاعر آلمته في الماضي حين سرقها ذاك البغيض منه!!....لمَ إذاً تصر على إحياء تلك المشاعر داخله؟!....لو كانت ارتبطت بابن عمها قبل أن تعرفه ربما لتقبل الأمر بصورة أكبر...لكنها أوقعته في حبها المجنون وتركته فكان وقع الخبر عليه موجعاً.... ألا يكفيها ما مر به بالماضي وتريد الآن أن تستفزه في الحاضر ليسمح لشياطين أفكاره أن تتلاعب بصدره وتوسوس له أشياء قد حصلت بينهما وربما لم تحصل !!...هل ستذّكره أنه أمسك يدها بدفء مثلا وأول لمسة؟!....هل ستخبره عن أول هدية أو أول خروج لهما؟!...هل ستحكي عن قبلته على خدها أو جبينها؟؟!.....رماها بنظرة غاضبة ثم أنزل فحميتيه المجمرتين للشفتين الموردتين بلونٍ داكن لون أعجبه بل أهلكه وكم كابد نفسه بألا يتذوق طعمه!!.. وثبتهما عليهما وتابع بالأسئلة التي تكالبت عليه وأرهقته في ذهنه....".. هل ستتفاخر أمامي وتتبجح عن قبلتهما الأولى على تلك الشفتـ..."....أشاح وجهه بسخط ناقماً يشد على شفتيه بغل يحاول طرد تلك الفكرة الحقيرة من باله والتي هاجمته بضراوة !!...لن يتحمل ...يريد أن يبقى الأول والأخير عندها وبكل شيء يخصها.......عصره الغيظ وسخن الدم في عروقه فتمتم شاتماً وهو يكز على أسنانه:
" اللعنة....."

وزفر أنفاسه بعمق ثم فرك صدغيه مغمض العينين وعاد بظهره للوراء يكمل تمتماته بلهجة اهدأ:
" استغفر الله العظيم.....استغفر الله......اللعنة على الشيطان!!...."

واستدار للتي كانت تراقب انفعالاته الصامتة وأفكاره المجهولة التي لا تعي أين أوصلته ثم همس بنبرة جادة هادئة:
" من فضلكِ....احضري لي كأس ماء..."

لبّت النداء طوعا وعشقا....ساورها القلق عليه ولم تنزعج من قسوته معها!......استوعبت أن كلامها عن الماضي ما هو إلا حماقة وعليها ألا تختبر غيرة رجل بذكر آخر أمامه وخاصة إن ربطتهما في السابق علاقة ما!.....ناولته الكأس البارد الذي أحضرته بيدها بحب وحنان وهي تقف أمامه وهمست حاملة شعور بالخجل من تصرفها:
" تفضل..!!.."

أخذه منها في الحال شاكراً وشربه على ثلاثة مراحل بعد البسملة ثم وضعه على المنضدة جانباً وسحب هاتفه ومفتاح سيارته عنها منتصبا بطوله الفارع فحدقت به بذهول متفاجئة من رحيله وهما لم يتطرقا لأحاديث أخرى هامة بل والأهم لم يتكلما عن هذه الليلة كلها ولم يباركا لبعضهما فهمست بتعجب متسائلة وهي ثابتة مكانها ترفع رأسها لتصل وجهه :
" إلى أين......أحمد؟!.."

نطقت اسمه بتمهل فخرج من بين شفتيها بدلال بريء سحق قلبه العاشق إلا أنه لم يظهر تأثره بل أجاب بصوت متزن وهو يرفع ذراعه ويزيح كم قميصه الرصاصي قليلاً عن معصمه لينظر لساعته الفضية الفاخرة التي تتماشى مع لباسه :
" الساعة شارفت على الثانية بعد منتصف الليل وعليّ الوصول مع حلول الفجر بإذن الله إلى المدينة الجبلية.."

بتوسل عفوي بريء قالت:
" لكن أمي تحضّر لنا الطعام لنتعشى معاً.....لا بد أنك جائع مثلي!!.....ألن تأكل؟!."

" صحة وعافية....لا آكل بعد منتصف الليل....غير صحي!....ثم يكفي ما أكلنا من تضييفات....سلمت يداكم..."

مررت بنّ عينيها على كامل جسده الرياضي الجذاب المثير وهمست داخلها.."...معك حق....واضح تبارك الله اهتمامك بصحتك....فجسدك القاتل للأعصاب وللقلوب يخبرنا بذلك دون أن ترهق نفسك بالشرح.." ..ثم أنزلت عيناها لجسدها وتحديداً لبطنها المسطح الملتصق بظهرها مع خصرها النحيل ووضعت يدها عليه وتذكرت أن أحيانا يبرز قليلا بالفترة التي تسبق الدورة كانتفاخ طبيعي ثم بسبب نهمها للطعام في أوقات متأخرة فأحرجت من نفسها بنفسها وتابعت في سرها.." عليّ أن أعتاد على عدم تناول الطعام في آخر الليل مثله من الآن فصاعدا وإلا كرشي الصغير الذي يبرز بين حين وحين سيفضحني أمامه عندما نتزوج !!...."....غضن جبينه وضيق عينيه سائلاً لما رآها تضع يدها على بطنها:
" ما بكِ؟!....هل بطنك يؤلمك من الجوع؟!...."

انتفضت تسحب يدها عنه مجيبة برفض:
" كلا ..كلا...وضعتها لا إراديا......لستُ جائعة كثيراً..."

" حسناً....خذي لي طريق للخروج!!...."

سبقته تفتح له الطريق ...نادته فلحق بها....خرجا معاً من المدخل والمسافة حيث تُركَن سيارته لا بأس بها....!!...كانا يسيرا بصمت....هو هادئ الأفكار ثابت الخطى الشامخة رافعاً الجبين بإباء وهي تحاول موازاته بمشيته لكنها حذرة بسبب كعبها تطرق رأسها أرضا ومشاعر مختلطة تضغط على صدرها سببها اسئلة كثيرة تلح في بالها طول الليلة..."...لماذا لم يبارك لنا؟!.....لمَ لم ينطق كلمة واحدة عن ليلتنا ؟!....حسناً أعلم أنه لا يعرف للغزل طريقاً لكن تلك حتى مجاملات بسيطة عامة وعليه أن يدرك ذلك وخاصة بحكم عمله كمدير للعلاقات العامة....هل لم يعجبه فستاني؟!...أكانت زينتي مبالغ بها؟!.....ما نطق به من حلو الكلام هو ما كان أمام الناس ...مرة في الحفل ومرة لجدي!!....لكني أطمع بكلمة يخصني بها وحدي لا يسمعها غيرنا..."...

رفعت رأسها لما توقفا جانب سيارته رباعية الدفع رصاصية اللون وهو يقابلها ....بدا على تقاسيمها الحزن وهذا لم يخفِهِ.....سأل مرتابا:
" أهنالك شيء؟!..."

حركت رأسها يمنة ويسرة تعني (كلا) دون نطق تضغط على شفتيها تحاول حصر رغبة بالبكاء سببها غصة أرهقتها واحتقنت مقلتيها بدموع لكنها حمدت الله لأن الإضاءة خافتة هنا تحت الشجرة كي لا يراها.....وما إن ضغط على مفتاح سيارته ليفتحها قائلا:
" حسنا الآن سأذهب..."

حتى استدارت توليه ظهرها للعودة للداخل هاتفة بلهجة ضعيفة:
" قُد على مهلك....في أمان الله...."

وقد فاجأه أنها لم تنتظر حتى ركوبه وذهابه بل تعجلت بالرحيل...!!

" توقفي!!..."

كلمة يتيمة فرض بها سيطرته بنبرة جادة!!.....ففعلت وتوقفت دون الالتفات ولم تكن إلا خطوة التي مشتها.....سحق المسافة مقترباً يقف خلفها فتبع كلمته اليتيمة بيتيمتين مثلها وبنفس النبرة المسيطرة...:
" أنظري... إليّ...."

تباً ...هي أرادت الهروب لتطلق العنان للبكاء وحدها ....ما هذا الاحراج الآن؟!....شهيق وزفير استجمعت بهما قواها واستدارت ملبية تخفض عيناها للأسفل مع رأسها.....مد يده يحيط ذقنها بسبابته وإبهامه ورفعه لها برفق تزامناً مع إمالة رأسه نحوها ليقترب من طولها وقال برقة رجولية:
" أهناك شيء يزعجك؟!..."

" كلا.."

" إذاً لمَ استعجلتِ الذهاب؟!"

سلطت حدقتيها بجسارة لحدقتيه وهتفت بنبرة لا اهتزاز فيها:
" ألم تقل أنك ذاهب؟!....إذاً اللقاء انتهى !!.."

ما زال يحيط ذقنها بإصبعية ليهز رأسه بتمهل يمنة ويسرة ويلحقه بغمزة بطيئة مستنكرة ثم صوت أصدره بلسانه يعني كلمة (كلا) وهمس بتمهل:
" لم أنهِ كلامي.....أنتِ من هربتِ!!.."

حدّق بها بإمعان مستغلاً إضاءة جانبية تضيء نصف وجهها ..!!..كان يتأملها بشغف عاشق بداية من عينيها البراقتين المحتقنتين بالدموع ثم ينزل بتروي لباقي تقاسيمها حتى يستقر بنظره على تلك الشفتين اللتين أهلكتاه منذ التقائه بها الليلة حتى هذه اللحظة !!...طال النظر وطال الانتظار....سرطت ريقها سابحة بأفكارها الحائرة ...أيتجرأ ويفعلها أم لا؟!.....وناشدته في سرها..." عذبتني يا شيخي....أنا لك قسماً لك ..وربي حلالك....تجرأ وافعلها لن أهرب ولن أقاوم !!......"......دنا برأسه أكثر نحوها وهي تبذل قصارى جهدها بألا تذوب وألا تنهار....استقر وجهه أمام وجهها بشكل موازي وذقنها ما زالت أسيرته...حرّك أهدابه للأعلى حيث كانت أهدابها المكثفتان بأدوات الزينة ترمش بتلاحق ثم عاد حدقتيه لثغرها....تحرّك عضل خده لرسمه ابتسامة ماكرة لعوبة ثم حاد عن طريقه المستقيم المؤدي لرغباته متخذا طريقاً فرعيا نحو وجنتها وبكل الرقة الرجولية التي يحملها هبط بشفتيه الدافئتين على خدها البارد من إنفعالاتها بقبلة تنضح عشقاً نقياً دافئا ثم همس بخفوت مذيب مكان القبلة ليكويها بأنفاسه الراغبة:
" لا تستعجلي شيئاً....كل شيء في وقته جميل!...."

لاحظ التيه بمقلتيها....بدت كجثة حُنطت من هول ما تعيش داخلها...تنظر بخواء للا شيء...أيا ترى هل شعر بها وهي كالزبدة تسيح على نار هادئة مع كل حركة فعلها إلى أن أوصلها لهذا الحال النهائي بعد لمس شفتيه لبشرتها...وأي حال كانت به؟. أي مشاعر تنتفض في أحشائها؟!...هل يمكن أن تجري عملية استئصال للمعدة وتزرع قلباً آخراً سرمدياً أكبر حجماً ليسع حبه ورغبتها اللا متناهية به؟!...فقلبها الصغير لم يعد يتحمل!!.والخلود في ملكوت عشقه هو مناها!!...كانت شبه مغيبة عن الوعي ولولا ذرة العقل المتبقية عندها مع لمسة الحياء لكانت فعلت الكثير وفضحت نفسها !!.....كانت بالكاد تسيطر على صمودها الكاذب ..!!....بدأ يستقيم بتروّي يهديها نظرات تشع بنور الغرام ليتابع بهمسة أعلى ارتفاعا عن سابقتها :
" مبارك لي أنا..... أنتَ أيها الأسير!!...."

عادت لأرض الواقع ما إن سمعت اسمها المستعار من بين شفتيه ..!!.....هل يسخر منها وهي التي ظنت أنه نسي الموضوع ولم يعره اهتماماً..؟!...هتفت شاهقة جاحظة العينين قبل أن تزدرد لعابها :
" ماذا ؟!...الأسير؟!..."

هزّ رأسه ضاحكا يؤكد لها وهو يخرج هاتفه من جيبه:
" أجل الأسير..."

ثم فتحه وضغط على لائحة الأرقام متصلا ليظهر اسمها الجديد (الأسير) الذي راق أن يسجلها به بعيداً عن اسمها الحقيقي(ميار) كي لا يعطي المجال لأحد غريب بنطق اسمها إن رنّ هاتفه وهو بين جموع الرجال أينما ذهب وبأماكن أعماله المختلفة وارتباطاته!!....وبالطبع لم تفهم هي أفكاره الخاصة وأنه استغل الفكرة من شدة غيرته وحميته عليها.!!...ليحميها من سائر المخلوقات!!......مطت شفتيها بعبوس وهو مستمرا بضحكاته !!....سحقا لحركاتها.....عادت تتلاعب بمشاعره بمظهرها هذا ليتلاشى العبوس ويحل مكانه الذهول تنظر ببلاهة دون مغزى عندما مد إبهامه يضغط به على شفتيها العابستين قبل أن يحركه بمسحة خفيفة يسرق من اللون الذي يزين ثغرها ثم يقربه لفمه يقبّله مع إلقاء غمزة مشاكسة ويوليها ظهره مستودعها الله بعد أن قال:
" اذهبي وافتحي هاتفك الآن!!..."

تتبعت أثره تشيعه بقلبها حباً وبعينها سلاماً وبلسانها دعاءً حتى اختفى ثم أدبرت تهرول بخطواتها للداخل لتستجيب لطلبه...!....لما وصلت هاتفها فتحته فوجدت رسالة مكتوبة منه:
[ لونه لذيذ وطعمه ألذ..!!..]

همست بقلة فهم:
" ماذا؟!....هل هذا لغز أم ماذا ؟!..."

فكرت قليلا فشهقت مصدومة وتابعت همسها:
" لا يعقل...لا لا....لم يقصد شيء غير أخلاقي!!....أم أنه كذلك؟!....."

رأى أنها قرأت الرسالة فانتظر ردها الذي جاء بعد دقيقتين وهي تقلب الكلام بعقلها تحاول سحبه للتفكير البريء:
[ ما هو؟!...]

[ أحمر الشفاه.....أعجبني لونه وطعمه.....لقد لاق بشفتيك.....خبئيه لبعد الزفاف إن شاء الله....لي وحدي!....]

توردت وجنتيها انفعالا من كلامه وأشرقت ملامحها لتتمتم للهواء ناظرة للفراغ:
" ياااه وأخيراً يا شيخي الوسيم نطقتها!!.....لولا أنني سأفضح نفسي لأطلقت الزغاريد..."

أصدر هاتفها رنين ورود رسالة أخرى...قرأتها وكانت:
[ اصعدي لغرفتك كلميني اتصالاً مرئياً..... اغلقي الباب ..وبدلي ملابسك لأخرى مريحة ....]

شهقة أخرى بذهول خرجت منها لتحدث نفسها مستنكرة..."...هل قام أحد بتهكير هاتف شيخي؟!....أم هو يريد أن يختبرني إن كنتُ خفيفة وسألبي له طلبه الوقح!؟؟....يقول اتصال مرئي وتبديل ملابس!......ماذا يظنني؟!..."

كتبت رسالة سريعة ووضعت من الأشكال التعبيرية الوجه الغاضب الذي يخرج الدخان من أذنيه لتريه أنها ليست خفيفة بل محترمة ومحتشمة ولم يعجبها طلبه :
[ ما هذا الطلب يا شيخ؟!...لن أفعل ذلك بالطبع!!...]

غضن جبينه مستغربا سؤالها ورفضها بل وغضبها....مد يده للهاتف المثبت مكانه بالسيارة ....يلقي نظرة إليه ونظرة للشارع ثم ضغط على خاصية التسجيل الصوتي ليقول:
" ما بكِ؟!....أريد أن نتابع كلامنا هاتفياً.."

[ لكن طلبك غريب بل جريء وغير مقبول ...عد واقرأ ماذا كتبت!!...]
قرأ رسالته السابقة وانفجر ضحكاً مع نفسه بالسيارة لما فهم ما فهمت ثم عاد ليسجل صوته الذي ما زال صدى الضحكات يحتله:
"نيتك سيئة.!!..في البداية طلبت أن تكلميني اتصالاً مرئيا....ثم فكرت أن البيت عندكم مليء بالحركة حتى بالساعات المتأخرة فطلبت اغلاقه كي نتكلم براحة وهدوء!!......وبعدها لأنني نويتُ أن نتكلم معاً حتى أصل بلدي إن شاء الله رأيت من الواجب أن أطلب منك تبديل ملابسك لتكوني مرتاحة خلال هذه الساعات غير مقيدة بملابس رسمية!!....أي كتبتها دون انتظام كيفما لاح في بالي وظننتُ بذكائك ستفهمين دون شرح!!.."

غُمرَ وجهها بحمرة الحرج وتسارع قلبها خجلا ثم بدأت تشتم وتلوم نفسها على ظنونها..." حمقاء فضحتِ نفسك....الرجل محترم ونيته طيبة بينما أنتِ من سلكتِ طريق الشمال بأفكارك المشبوهة المنحرفة.....كيف شككتِ به وهو بالكاد طبع قبلة على وجنتك بعد ساعات من الجهاد !!...استغفر الله....حقاً إن بعد الظن إثم!...."

اعتذرت منه بخجل محرج واضح من كلماتها والوجه التعبيري الذي أرسلته كان الخجول ببراءة وافترقا هاتفياً حالياً....هو تابع طريقه وهي صعدت للغرفة لتقوم بكل المراحل قبل أن تتصل به ....بعد دقائق عديدة أضيئت شاشة هاتفه الصامت باتصالها المرئي تحت اسم (الأسير)...أطلق ضحكة وتمتم قبل أن يرد:
" أهلا بالأسير المجنون..."

ثم لمس شاشته ليستجيب لاتصالها!!....كانت الاضاءة تتبدل درجاتها عليه حسب إضاءات الشارع بينما هي غرفتها غارقة بالظلام وفقط وجهها منير من نور شاشتها....تنحنحت وهتفت:
" ها أنا بدلتُ ملابسي لمنامة مريحة يا شيخ أحمد!!...."

شعر بصوتها أنها ما زالت محرجة منه بسبب سوء ظنها...فقرر التلاعب ومشاكستها لما راقت له ظنونها الجريئة البريئة:
" جيد.......ما لونها؟!..."

لن تسمح الآن لأفكارها المنحرفة أن تجرفها بتيارها فيظن أنها راغبة بهذا لذا دوماً ظنونها هكذا.....هي باتت متأكدة منه وتعرف أحد جوانبه...شيخ محترم لا علاقة له بالوقاحة والسكك اللا أخلاقية!! ضحكت بثقة مطلقة مرتاحة وأخفضت عيناها لمنامتها هاتفة:
" البلوزة بنصف كم لونها أصفر عليها قلب زهري والبنطال طويل لونه زهري بالكامل"

بتقاسيم جادة أتقنها عمداً وبرود قاتل زلزل كيانها همس جملته:
" لكني سألتُ عن لون حِمَالةُ الصدر وليست المنامة.!!"

ولم يتوقع أن بمجازفته هذه ستكون آخر جملة ينطقها لسانياً هذه الليلة وأنه سيحرم نفسه من اتصالها وصوتها لما أغلقت الهاتف تصفعه في وجهه لا تعلم أين ستهرب من شدة خجلها تدثر نفسها تحت اللحاف بعد أن قالت له قبل الهروب:
" لم أظنك بهذه الدرجة من الوقاحة يا شيخ ..."

توقف على جانب الطريق يلقط أنفاسه بعد أن تعالت قهقهته في السيارة على مجنونته ....تناول من درج المقعد الذي بجانبه قارورة ماء ليشرب ويرطب حلقه الذي جف من شدة الضحكات ...لم ينفك أن يحضر لمخيلته جملتها الأخيرة وتعبيرات وجهها المصدومة!!...حاول إعادة الاتصال لها ...مرة ومرتين وثلاثة وكل مرة تتخطاها ...لا وجه لها لتكلمه ولا قوة لديها...لقد انهارت كل حصونها من شدة خجلها وحيائها....!!.....أرسل رسالة مكتوبة يختم ليلته معها قبل الاستمرار في طريقه:
[ تصبح على خير أيها الأسير.....أراكِ غداً بإذن الله في ساعات العصر لنتناول الغداء معاً في أحد مطاعم العاصمة قبل سفركم........استودعكم الله...]

تجرأت وقرأت رسالته فقفزت عن السرير بسرور صارخة متناسية ما حصل قبل قليل وحتى لم تهتم لاسمها المستعار الذي تعمد نعتها به!!..:
" لا أصدق ...لا أصدق.....سأراه غداً ونخرج لوحدنا معاً......لم يكتفِ بهذا اليوم وسيأتي ليودعني !!....يا الله أحمدك وأشكرك......."

تنهدت بارتياح بعد حفلتها الصاخبة مع وحدتها وتمتمت بحالمية:
" آه منكَ يا شيخي الوسيم ....ماذا تفعل بي؟!..."

استلقت على فراشها ناظرة للسقف تحتضن مكان القبلة بكفها شاردة في اللقاء القادم وقلبها يرقص شوقاً ...لاح في سرها."...هل ستكون في الغد القبلة من الفم ؟!...".....ولم تعلم ما الذي ينتظرها غداً....بل وما ينتظر غيرها!!......

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

في منتصف الليل بعد وصولنا لبيتنا بساعة ونصف من العاصمة وخلود الجميع للنوم كما ظننت!!..صعدتُ للطابق الأعلى متسللاً بهدوء كي لا أزعج أحداً قاصداً غرفة شقيقي لأخذ حاسوبه النقال لاستخدمه بدلاً من حاسوبي الذي احترقت شاشته فجأة!!....أغلقت الباب بهدوء بعد انتهائي من مآربي أخطو بتمهل وما إن وصلتُ أول درجة في السلالم حتى صدح بكاء طفلي ...توقفت برهة لأطمئن وإذ ببكائه يشتد ...أنتظر ويشتد أكثر....لم أسمع أي حركة أو صوتها كمحاولة منها لإسكاته!!.....هفت قلبي لقدميّ مرتاباً !!.....أين هي عنه؟!..ماذا يجري؟!.....اختفى صوته مختنقاً ببكائه لثانية ليصدح بصوت أعلى فلم أتحمل وعدت بخطواتي نحو باب غرفتي المحتلة ثم طرقتُه طرقات خفيفة مناديا بهمس:
" ألمى.....ألمى....ما به الصغير؟!...."

لم يصلني أي جواب فغلت دمائي وتحفزت اعصابي قلقاً وتسارعت نبضاتي خوفاً....حاولت فتح الباب وإذ به مغلق!!...وضعت الحاسوب على منضدة جوار الغرفة بعد أن تذكرت أن باب غرفة شقيقي له نفس المفتاح....أخذته بسرعة وعدت مقرفصا محاولاً دفع المفتاح الآخر من الداخل ضائعا بين التركيز لأنجح وبين الشتات من انفطار الذي بين أضلعي على صوت نشيج مهجتي الذي ما زال يخترق خلاياي وينخر بجسدي كالمسامير .....وهمست بحنية:
" أنا قادم يا حبيبي....قادم.."

سحبتُ أنفاسي لأطرد شتاتي وحدثت نفسي...".....لطفك يا الله ولا تفجعني بشيء لا أقوى على تحمله!!....".....نجحتُ بحمد الله بفتحه بعد أن أسقطت المفتاح الآخر!!....دلفتُ بلهفة متفحصاً كل الأرجاء بنظرة فهد ثاقبة لأحتوي الموقف بالكامل دون تضييع للوقت!!.....كانت الغرفة شبه مظلمة عدا إضاءة قادمة من طاولة الزينة!!.....اقتربت لمصدر البكاء واشعلت الأباجورة القريبة وإذ بالسرير فارغ منها.....حملتُ (محيي) الذي تحولت بشرته الحليبية للأحمر والعبرات كانت تغرق حدقتيه الجميلتين ووجنتيه وقبّلته قبلة دافئة تبث أماناً وسكينة ثم احتضنته واضعاً خده على كتفي مطبطبا على ظهره بحنو أهدهده هامساً:
" ششش....اهدأ ...اهدأ يا صغيري ها أنا أتيت لم تعد وحدك!...."

يبدو أنه رأى حلماً مزعجاً...!!....فحسب الوقت من بعد عودتنا من عقد قران صديقي لم يتعدّ نومه النصف ساعة لنقول أنه قد شبع وحان موعد صحوته !!......

خفُت بكائه فقلت له:
" عد للنوم حبيبي .... أنا معك ولن أتركك.."

تقدمت من خزانتي وفتحت الدرفتين اللتين يكون خلفهما مباشرة باب الحمام لأتأكد من وجودها بالداخل وقد وصلني انهمار المياه بقوة من الدش فاطمأننت أنها تستحم وكان لم يصلها صوته بسبب وجود الخزانة ثم باب الحمام مع خرير المياه ...فكل هذا أغشى سمعها عنه!!.....اغلقت الدرفتين وابتعدت لوسط الغرفة أسير به بتمهل ثم بدأتُ أرتل في أذنه آيات من الذكر الحكيم علها تسكنه بصوتٍ شجيّ خافت حتى هدأ واستكان شاعراً بالأمان على صدري مع صوتي ثم وضع ابهامه الصغير بفمه يمتصه وغفى بسلام ...!!......تقدمتُ من السرير لأضعه بحذر وأخرج قبل أن تخرج وتراني لكنه بدأ يتململ من جديد...فأُجبرت على الاستلقاء على السرير متأنياً ووضعته على بطني وصدري ليتخذ وضعية الجنين منكمشاً بجسده بشكل معكوس فوقي فتصبح مؤخرته لفوق دافناً وجهه بعنقي!!....حركة لذيذة منه أحببتها...دافئة جدا جعلت نابضي يرفرف بحبور.....تبسمت وقبّلته هامساً بخفوت:
" ما أجملك وما أطيبك....حفظك الله لي يا مهجة قلبي!.."

ظللتُ على هذا الحال لعشر دقائق.....لا أخفي أنني كنتُ أشعر بالتوتر قليلاً وأنا افكر بردة فعلها عندما تتفاجأ بوجودي مقتحماً حدودها التي رسمتها ...فالله أعلم بأي منظر ستخرج لي!!....التخيل وحده مهلك للأعصاب!!......يا رب ساعدني على تحمل فتنتها ...والغارات التي ستقصفني بها!!......يا ترى هل ستصرخ في البداية وتلمّ عليّ أهل البيت والجيران كأنني لصاً أو متحرشاً أم كيف ستتعامل مع مكوثي فوق سريري الذي احتلته ليصبح لها ولابنها؟!.....بينما كنتُ سارحاً ما بين أفكاري المنحرفة لأجلها وتكتيكاتي لأصدّ هجومها عني فُتحت الدرفتين لتخرج!!...فخرجت!!....وبأي حال يا خائني الملهوف تراها قد خرجت؟!....خرجت يزّفها البخار من خلفها يحمل في ذراته أريج الأناناس ليقتحم أنفي دون رحمة !!... أما الاضاءة الخفيفة لم تفلح من اخفاء احمرار أنفها وخديها.... ذاك الاحمرار الشهيّ الذي يوسوس لي.... لأكلها كلها على بعضها!!...كانت ترتدي روب حمام ليلكيّ اللون على ياقته يطرز عروق خضراء مع بتلات ليلكية بدرجات أغمق من الروب!!...قصير يرتفع عن ركبتيها شبراً ليترك باقي ساقيها الأبيضين الناعمين مشاعاً لغسل النظر بهما مفتوناً......وذاك الزنار اللعين يحتضن خصرها بمتانة سارقاً حقي مني...يحتضنه بدلاً من ذراعيّ فينحته ليرسم تضاريس جسدها بلوحة ربّانية خارقة من صنع الخالق....أما شلالها حَجبته بمنشفة تابعة للروب فتطلّ من تحتها خصلتين متمردتين تتأرجح عليهما قطرات من الماء قبل أن تقفز على جانبي عنقها لتسيل بسرعة على نحرها الغض ثم تختفي تحت الروب ....ويا حسرتي....لا أعلم بأي نقطة تلقى حتفها!!.....كنتُ هائما بعالم الألمى بعد أن استطعتُ رصد وإحتواء كامل أوصافها بثواني معدودة من برج أرضي المتعطشة لضمها كاملة ولم أنزل عن برجي هذا إلا لما وصلتني شهقتها مجفلة مشدوهة من وجودي!!......

" ما....ماذا... تفعل ...هنا؟!.."

جملة بالكاد أخرجتها وهي تعقد ما بين حاجبيها مستغربة وتضيق حدقتيها تريد التأكد من وجودي... تتقدم ببطء بثقة ولا أدري حقاً إن تناست أم كانت بالفعل تنسى حجم الكارثة التي يحملها مظهرها الجريء الفاتن الذي حرمت منه أسابيعا وشهوراً....وكله من حماقتي!!....

" ششش.... نام بصعوبة!"

نطقتها بنبرة خافتة واضعاً سبابتي على شفتيّ وكنت ما زلتُ مستلقيا وهو فوقي ثم بتروّي وحذر شديد وضعته على السرير محافظاً على وضعيته وفززت من مكاني واقفاً لأتحرك وأصبح أمام السرير كي أجيبها فيصلها همسي دون إزعاجه:
" لقد انفجر بكاءً وأنت لم تشعري به...طرقت الباب وناديت ولما لم تستجيبي فتحته!!..."

اقتربت أكثر مني ووضعت يدها على خصرها ببراءة سائلة:
" الباب مقفل بالمفتاح...كيف فتحته؟!.."

أجبتها بما فعلتُ فتقدمت أكثر تستفسر قاطبة حاجييها بقلة رضا :
" لماذا لم تخرج بعد أن نام؟!.."

كادت تلتصق بي دون أن تشعر فتراجعتُ شبراً لتتقدم مشيرة بسبابتها نحوي مردفة:
" أنت تعمدت هذا....أليس كذلك؟!.."

أتدرك هي ما الذي تفعله بي دون أن تحس وأنا أراقب صورتها المدمّرة ببصيرة فهد يستعد للقفز على فريسته غير مهتماً بكل أسئلتها؟؟!......

أعود بعد الشبر للخلف متراً فتخطو مقبلة أكثر نحوي متابعة لتلقي ما يدور بعقلها دون انتظار إجاباتي:
" تحاول استغلال الفرص للدخول هنا..!!.."

وبحزم وجسارة تضيف بينما أنا لا أراها إلا كائناً لذيذاً لطيف:
" إياك أن تنكر ذلك!!.."

خطوة مني للخلف تتبعها خطوة منها للأمام...ونظرة مسحورة منحرفة مني تتلوها همسة موبخة بريئة منها وعلى هذا المنوال حتى توقفنا بعدما اصطدم ظهري بطاولة الزينة فارتجت زجاجات العطر لترتطم ببعضها فتصدر رنيناً يعلن الانتهاء من هذه المرحلة للانتقال للمرحلة التالية عندما أمسكتها من عضديها بقوة جائع ولطف عاشق لأبدل الأماكن من فوري فتغدو هي المأسورة بيني وبين طاولة الزينة وأنا التصق بها محافظا على تكبيلها بقبضتيّ هامساً بشغف:
" أجل ألمى.......سأستغل كل فرصة تقودني إليك ولسحر عينيك!!.."

تململت بين يديّ كمحاولة لتحرير نفسها فشددتُ أكثر على عضديها أثبتها في أرضها متابعاً بصوت رخيم يعزف على أوتار قلبها فيجعل دقاته تتبعثر داخلها محدثة تماساً اقشعرّ له بدنها:
" يكفي....لن تذهبي!!."

" إبـ...ابتعد..."

همستها بصوت مختنق وحرارة جسدها تزداد مع ازدياد حرارتي ونظرت بزرقاويها للأعلى بنظرات متوسلة لتصل تقاسيم وجهي القريب منها والذي ينعكس عليه نور الضوء الأصفر الخافت الثابت خلفها على طاولة الزينة وضاعت للحظات بلمعة عينيّ ورموشي التي تعشق فدعمت توسلاتها البريئة بتوسلاتي المحروقة بلهيب الغرام :
" متى الغفران يا ألمى متى؟!"

وجلتُ بحدقتيّ تائهاً على رأسها المحجوب بالمنشفة وأضفت ظمآناً:
" لمَ تحرميني شعرك؟!...أريد أن أراه...أريد أن ألمسه....أريد أن أسكر برائحته....لقد اشتقته !!..وربي اشتاق!!..."

نبرة صوتي المتعطشة لها جعلت ناقوس الخطر يدق في عقلها وهي تأبى الاستسلام....تأبى تلك العنيدة ...ستقاوم بأسلحتها وما تملك من عتاد فحاولت بما تبقّى عندها من ذخيرة تتحصن بها أن تهتف بصوت خرج مرتعداً :
" شعـ...شعري وكل ما يخصني أضحى....من... من الماضي يا سيادة القائد......أنت نسيتني ونسيته.....فلو كان يهمك... أو لو ...اشتقت له وتشتاق كما تقول... لما تخليّت عن صاحبته من البداية!...."

انحنيتُ أكثر بجذعي ودنوتُ منها دنو مضاعفاً ثم أملت رأسي واضعاً جبيني على جبينها مغمض العينين لتفعل بالمثل بينما أجيب بهمسٍ رجولي مذيب :
" لم أنسه ولن أنساه......أنا أحفظ كل شيء يخصك...كل شيء ألمى ....كله مطبوع في ذاكرتي وقلبي....."

وتابعتُ بصوتي الرخيم ثابتاً على حالي محررا يمناي ممرراً سبابتي على عنقها من الخلف حتى استقر بنقطة معينة بينما هي مقشعرة وضربات قلبها آخذة بالازدياد لا ترحمها وأنفاسها بدأت تتناثر بعنف شرس تأثرا مني:
" مثلا هنا في هذا المكان ....يوجد شامة صغيرة ...لو سألتِها عني لأخبرتك بعدد القُبل التي سرقتها مني!!.."

واكملتُ بتمريري لإصبعي على ذراعها نزولا لتحت وهي ما زالت على حالها تبدو صامدة وجسدها يوحي بالثبات لكنه في الحقيقة آيل للانهيار التام من شدة ما تعاني من لمساتي وهمساتي ولما وصلت خصرها في نقطة ما أيضا وكزتها فأجفلت منتفضة لشعورها بدغدغة لذيذة بينما أنا أقول بخفوت مهلك:
" وهنا... في هذا المكان ....يوجد شامة أكبر من الأولى.... وكانت العلامة لأكثر مكان يدغدغك في جسدك......!!"

ابتلعت ريقها بعد شعورها بجفاف حلقها وحاولت حشر نفسها أكثر وأكثر للخلف تتوهم الهروب ولكن أين المفر؟!....كان صدرها يعلو ويهبط من تعاقب أنفاسها المغدورة من قربي بينما اجتزت بطنها للجهة الأخرى بسبابتي بلطافة لأنزل لجانب فخذها الخارجي حتى وصلت منتصفها تزامناً مع انحنائي قليلاً لأصل مرادي وتوقفت بالمكان ملتزماً بنبرتي ذاتها وهي تقف كالمحنطة بزيف فلو نفثتُ عليها لخرّت أرضاً وتلاشت روحها:
" وهنا تحديداً يوجد وحمة منذ ولادتك!!..."

وأردفتُ مؤكدا بصوت خافت أبيّن لها حفظي لخارطة جسدها وبكل تضاريسها:
" ها أنا أثْبَتُّ لك كيف ما زلت أحفظ أغلى كنوزي وأملاكي!!.."

ثم باغتتها واضعاً كفي أسفل ظهرها لألصقها بجسدي بشكل مضاعف متابعاً بهمساتي ولهاناً بها بعد إصدارها لشهقة عفوية زادتها اغراءً:
" والآن أجيبي... ألا تشتاقي كما أشتاق؟!"
" ألا ترغبي بي كما أرغب بك؟!"

لم تعد تقوى على الرد والصد ولا على الاعتراض والرفض.....نفذت ذخيرتها واستطعت بجيوش عشقي تطويقها وأسر روحها والتفاوض على رغبتها عندما داعبتُ أنفها بأنفي حاجباً أرضي عن سمائها متسلحاً بنغمة صوتي لأضرب عقر فؤادها :
" يقف أمامك رجلا صائماً وزوجاً محروماً.....عاشقاً نادماً وقائداً مهزوماً......رجاءً ....فلتغفري له يا روحي!!..."

واتممتُ جملتي ساحباً المنشفة بخفة عن رأسها دون استشارتها أو انتظار النطق بغفرانها لينسدل ليلها الرطب متفرقاً مشرداً في كل الاتجاهات فينثر شذاه من حولي ويخترق كل ذرة في جسدي وأنا أتأمله هيماناً ذائباً لأضع من فوري كفي عليه قابضاً خلف عنقها بين اللين والعنف وبين القوة والضعف أشدّها إليّ محاصراً شفتيها بشفتيّ لأسحبها لفَلَكي أنا.. أنا الهادي وأضيّعها في مداراتي أبوح لها بعشقي وغرامي لتشهد عليه شمسي وقمري ونجماتي ولم نتحرر إلا لالتقاط أنفاسنا اللاهثة التي ضاعت منا وعدتُ بعدها من جديد لأغرق برحيق ثغرها طالباً المزيد حتى وصلتُ حد الثمالة مغيباً بعالمها لا أشعر بالكون حولي ثم أنزلتُ يدي عن شعرها ممسكاً بزنار روبها وشددته بحركة محترفة أفك عقدته عازماً لأسترد كل ما هو من حقي... أرضي وسمائي...موطني وشتاتي....حربي وسلامي....ربحي وخساراتي ....دائي ودوائي.......هوا الروح....وسلطانة قلبي.....ألمتي.....أجمل امرأة ....وحب حياتي...!!

×
×
×

بين الطفولةِ والصبا....
حروب دمرت ما بقى ...
تائهين.. مشتتين.. مُغربين
على أرض وطنٍ لم يكن يوماً لنا....
لجوءٌ.. ومأساةٌ.. وجوع..
أين السبيل إلى الحياة بلا رجوع ...
دارت بنا الأيام وخطت منا السنين...
ونحن على المآسي نبكي الحنين....
نحن أطفال كبرنا قبل أواننا...
بفعل حروب أخذت كل حقوقنا...
ممن سنأخذ حقنا؟!
هل يا ترى سنلقى يوماً جوابنا!!
تعال يا حلمي البعيد...
ها أنا أراكَ اليوم قريب...
لنزيل معاً غبار الأيام على الأحلام....
ونعيد للوطن الجديد فجر السلام....
(( كلمات الجميلة شذى الشيباني))
تعليقات