📌 روايات متفرقة

رواية بعينيك وعد الفصل السادس 6 بقلم تميمه نبيل

رواية بعينيك وعد الفصل السادس 6 بقلم تميمه نبيل

رواية بعينيك وعد الفصل السادس 6 هى رواية من اجمل الروايات الرومانسية السعودية رواية بعينيك وعد الفصل السادس 6 صدر لاول مرة على موقع التواصل الاجتماعى فيسبوك رواية بعينيك وعد الفصل السادس 6 حقق تفاعل كبير على الفيسبوك لذلك سنعرض لكم رواية بعينيك وعد الفصل السادس 6

رواية بعينيك وعد بقلم تميمه نبيل

رواية بعينيك وعد الفصل السادس 6

كان كلا منهما يجلس على كرسيه بجوار الآخر كتلميذين مذنبين ...
بينما يجلس سيف امامهما بتحفز و شكل من يوشك على القتل .... احدى قبضتيه مضمومة .. تضرب راحته الأخرى بصورةٍ رتيبة ... تزداد قوة وهو يراقبهما كمجرم ....
ثم قال اخيرا بصوت مخيف
( اذن تريد خطبتها ؟!!! ............. )
كان يوسف يجلس كالبؤساء ... و لم ينتبه الى أن السؤال موجهها اليه ... الا أن ورد تنحنحت بعنف كمن يشتم .... فرفع رأسه يقول منتبها
( آآآه أنا ؟!!!! .... أقصد .. نعم أنا ......... )
ظل سيف يضرب قبضته مرة بعد مرة ..... ثم قال أخيرا بلهجة تهديد
( و تريدني أن أصدقك ؟!! ..... بهذه البساطة ؟!! .... )
قال يوسف بهدوء
( و ما هو سبب مجيئي اذن ؟!! .... انظر ... باقة ورد أو المتبقي منها بمعنى أصح .... فما الذي أتيت أفعله بها ؟!!! .... أتأمل جمالك ؟!!! .... )
برقت عينا سيف وهو يقول هادرا
( التزم الأدب فأنا أحاول جاهدا احترام البيت الذي توجد به أمي اكراما لها ...... )
قالت ورد بصوت متوتر ...
( أهدا قليلا يا سيف ... أنت تضخم الأمر أكثر من اللازم ... مجرد عريس ... فلنرفضه و يا دار لم يدخلك شر ..... )
قال يوسف بهمس وكأنما يشجع لاعبا
( أحسنتِ وردات .... تابعي على تلك النغمة .... لا تتخاذلي ... )
هتف سيف بعنف
( بماذا تهمس لها ؟!!!! ....... )
قال يوسف وهو يرفع فنجان القهوة الذي جائت به ورد ...منذ لحظات
( أقول لها سلمت يداك يا سيدة البنات ..... قهوة عرائس فعلا ..... )
صرخ سيف بقوة
( اصمت تماما ...... )
ثم نظر الى ورد ليقول لها بعنف ...
( و أنت يا سيدة البنات .... الأمر ليس بمثل هذه البساطة ..... الا تدرين أنه كان يريد زوجتي ؟!!! ... )
رفع يوسف يده وهو يقول
( اسمع الآن .... أنت تجعل من الأمر قذرا جدا و أنت تعرف ذلك ..... أنا كنت أريد تخليصها منك ... )
صرخ سيف بجنون
( لقد عرضت عليها الزواج و هي لا تزال زوجتى !!! ...... )
هتف يوسف هو الآخر ...
( كنتما منفصلين و بينكما قضة خلع ...... و لم أفعل معها ما يشين أبدا .... )
مالت اليه ورد و هي تهمس من بين أسنانها
( ماذا تفعل تحديدا ؟!!!..... أرجوك دع ذكائك جانبا و دعني أنا أتولى الحوار .... )
التفتت الى سيف تقول بتوتر
( اسمع يا سيف .... موضوع يوسف مع وعد انتهى منذ وقت طويل و قد تأكدت من ذلك بنفسي .... حتى أنني اشطرت عليه أن يحاول الإصلاح بينكما كي أوافق على خطبته ...... )
هز يوسف رأسه كمن يسمع الطرب الأصيل هامسا
( ياسلااااام .... أطربيني و زيدي من الطين ابتلالا ......... )
صرخ سيف فجأة
( اسمع أنت ..... أنا لست مرتاحا لهمسك لها .... تعال و اجلس هنا على المقعد المقابل بعيدا عنها ... )
ارتفع حاجبيه بتوجس ... الا أنه نهض و فنجان القهوة بيده ... قائلا بارتياب
( انتم تعاملون الخاطبين هنا معاملة غريبة الأطوار ....... )
جلس على الكرسي المقابل وهو ينظر اليهما .... بينما التفت سيف الى ورد ليقول بجنون
( هل تريدين إصابتي بالجنون بالله عليكِ ؟!!! ...... الستِ مخطوبة ؟؟!! ..... )
رفع يوسف رأسه ليلتقط الخيط من هنا .... فقال بصوتٍ مصدوم
( مخطوبة ؟!!! ...... ياللهي .... كيفِ استطعتِ التلاعب بهذه الصورة ؟!! ... )
ارتفع حاجبي ورد بذهول و هي تراه ينهض من مكانه بإباء ليقول بصوتٍ باهت
( عذرا ...... أنا أحتاج الى الإبتعاد عن هنا ..... )
ثم ابتعد في اتجاه الباب أمام أعينهما المذهولة ... لكنه اكتشف أنه لا يزال ممسكا بفنجان القهوة , فعاد ووضعه على الطاولة ليقول بصوته الرخيم المصدوم
( شكرا لكِ على القهوة ..... يبدو أنها أقصى ما حصلتِ عليه الليلة .... أتمنى لكِ السعادة ... )
ثم ابتعد أمام أعينهما و تعبيرتهما المصدومة ... بينما همست ورد بداخلها من بين أسنانها
" أيها الجبان !! ......... "
الا أنها انتفضت على صوت سيف يقول بعدم تصديق
( هل تريدين افهامي أنكِ وافقتِ على خطبة رجل و أنتِ مخطوبة لآخر ؟!!! ..... هل يصدر عنكِ أنتِ يا ورد تصرفا بمثل هذه الحقارة ؟!! .... )
كان يوسف قد وصل الى الباب ..... و أوشك على الخروج , الا أنه توقف حين سمع تلك العبارة القاسية ...
فاستدار ينظر الى ورد التي كانت تجلس مكانها مطرقة الوجه ... منكسرة الخاطر ...
زم يوسف شفتيه وهو يستدير مجددا ينوى الخروج وهو يهمس
" هي من تسببت بذلك لنفسها ........ "
الا أن يده توقفت على مقبض الباب .... ثم زفر بقوة وهو يهمس
" لا أستطيع تركها .... ذلك المعتوه قد يضربها .... "
استدار و عاد اليهما ينوى ايقافه عند حده ... الا أن في اللحظة التي أوشك بها على الكلام .. كانت ورد قد نهضت من مكانها تقول بعنف
( أنا لا أسمح لك بمخاطبتي بتلك الطريقة ........ من تظن نفسك ؟!! .... ساعة و أنا أحاول أن أفهمك الموقف و أنت تهينني أمام الغرباء !!! .... )
قال يوسف مبتسما باعجاب
( أحسنتِ وردات ........ تابعي .... )
التفتت اليه متفاجئة و قالت من بين أسنانها ترفع يديها الى ر أسها
( الازلت هنا ؟!!!!!! ...... هل أنت عملي السيء في الحياة !!!! .... )
قال يوسف بغيظ
( أتعلمين ماذا .... أنت محقة , تعاملي مع أخاكِ ...... سلام .... )
الا أن سيف هدر غاضبا
( انتظر هنا ........ أنت شخص مختل , على ما يبدو أنك لا تعجب سوى بمن تخص غيرك و أنا أعرف نوعك تماما ..... )
قال يوسف بنفاذ صبر
( بسم الله ماشاء الله ..... نبيه و يمكنك التقاطها من الهواء و هي تمرق أمامك .... أنا فعلا من هذا النوع .... سلام مرة أخرى .... )
هتفت ورد بقوة
( هذا ما لم أجد الفرصة كي أحدثك عنه ...... لقد قذفته بكوب ماء و أخبرته أن الخطبة لاغية ... فقد تطاول علي ... و أنا أخرجته من هنا يقطر ماءا .... )
ساد صمت طويل .... بينما رفع يوسف حاجبيه , ليستدير محاولا المغادرة
( تعاملى معه هذه المرة بجدية ........ لو انتظرت أكثر سأجد المأذون على الباب ... )
هتف سيف وهو ينظر اليها غير مصدقا
( فسختِ خطبتك .... من تلقاء نفسك , دون حتى تكلف عناء اخباري ؟!! و لا أعرف الا و أنا أرى الخاطب التالي ؟!! تعرفينه و تستقلين معه سيارته دون علمي ؟!! ... من تظنين نفسك ؟!! .. لا كبير لكِ ؟!!.....)
تدخل يوسف بينهما وهو يقول غاضبا هذه المرة ...
( اسمع أنت الآن !! .... بأي عصر تعيش ؟!! ... وبأي حقٍ تهينها أمامي ؟!! .... هل تعرف عمرها ؟!! انها بنتصف الثلاثينات و ربما بظروف أخرى لأصبح لها طفلا مراهقا يقاربها الطول !! ..... )
مطت ورد شفتيها و هي تهمس
( رائع ....... مداخلة ترفع الروح المعنوية حقا ..... هذا ما كنت أحتاجه بتلك اللحظة ....)
الا أن يوسف لم يسمعها .. بل قال بقوة
( شخص و أهانها ... اتريدها أن تنحني له و تنتظر الى أن تمنحك السلطة العليا في أن تفسخ أنت الخطبة ؟!!! ..... و ماذا إن استقلت معي السيارة مرة أو مرتين ؟!!! .... ألم تفعلها مع وعد قبل أن تتزوجا ؟!!!
أتحداك لو أخبرتني أنه لم يحدث ...... )
تشجعت ورد و هي تهتف بقوة
( آآآه نعم ... الآن تذكرت , لقد أوصلني البيت يوم أن أرسلتني أنتى الى وعد بحجة ملك كي اطمئن على زوجتك الغالية ... فوقعت و لويت كاحلي , و الآن تحاسبني ؟!! .... )
ابتسم يوسف وهو ينظر الى سيف متشفيا
( يا له من حرج بالغ !! ...... )
هتفت ورد تقول بغيظ
( لا دخل لك ..... أنا فقط من أكلم أخي .... )
دخلت منيرة اليهم متوترة الوجه و هي تقول
( يا أولاد ماذا يحدث ؟!! ... أصواتكم تصل الى الجيران ... هل هذا منظر يليق بمقابلة لخطبة ؟!!! ... )
ثم التفتت الى سيف تقول
( و أنت يا سيف ... أيا كان سبب الخلاف , لا تعامل أختك أمام خطيبها بتلك الصورة الفظة ... و هو ضيفنا أي مكانه فوق رؤوسنا .... )
وجمت ملامح يوسف وهو يهمس
( خطيبها ؟!! ...... هل وافقتم ؟!! .... )
نظرت منيرة الى سيف تمسك بذراعه و هي تقول مترجية
( من يعلم !! .... اليس من النصيب أن تفسخ خطبتها ليتقدم يوسف لخطبتها ؟!!! ... الرجل دخل البيت من بابه , فلماذا تعامله بتلك الصورة ؟!! ...... وعد الآن مطلقة و لوكان يريدها لكان ذهب اليها ليخطبها .... )
أغمض يوسف عينيه وهو يقول
( كلام كالدرر ..... موزون و منطقي .... فهل لو كنت أريد وعد لكنت أتيت الى هنا ؟!! ... )
نظرت اليه ورد مذهولة و هي غير مصدقة ... بينما همس هو بداخله
" منكِ لله يا وعد .... و أنا الذي كنت أريد اسعادك !! .... ها هي السعادة تهبط على رأسي كالمطرقة .. "
تابعت منيرة تقول بحزم
( أنا لن أسمح لك بأن تفسد سعادة ابنتي يا سيف ... لقد تعرضت للكثير بحياتها و أنا أريد لها الفرح .. فإن كانت هي ويوسف متأكدان من رغبتهما .... فأنا من سيساند هذا الأمر مهما بدا سريعا ....)
هتف سيف بغضب
(أمي !!! .............)
الا أنها التفتت الى يوسف تقول بقوة
( يوسف ..... أتريد ورد ؟!! ..... أريد سماع جوابك الآن ....)
نظر يوسف الى ورد فهمست تقول بيأس
" انسحب الأن .... أنا كفيلة بهما "
ظل ينظر اليها طويلا ... و كانت علامة الإنكسار واضحة عليها ... ما بين أخ أناني يفكر بنفسه فقط ... و بين أم تريد تزويجها بأي طريقة ...
استدار ناظرا الى منيرة يقول بوجوم
( أنا أريدها ...........)
قالت ورد فجأة
( ماذا تفعل ؟!!! ......)
استدار اليها يقول بقوة
( لن أتركك الآن ..... فأنا من تسبب بذلك ....)
لوحت ورد بذراعيها و هي غير مصدقة ... بينما التفتت منيرة الى سيف و قالت تمسك بذراعه
( لنقرأ الفاتحة يا سيف .... و لا تغضب أمك حبيبي .... )
هتف سيف من بين أسنانه
( يا أمي ما تفعلينه هو الجنون بعينه ؟!! ..... إننا نلقيها بالمعنى الحرفي .......)
أطرقت منيرة و هي تهمس بألم
( أنا مجنونة يا سيف ؟!!! .......)
شحبت ملامح سيف وهو يطبق على كفها هامسا
( ياللهي !!!! .... لم اقصد ... أقسم لم اقصد .... أنا آسف يا أمي ..... أنا فقط لا أريد لأختى أن تتزوج لأول شخص غريب بعد فسخ خطبتها ..... ثم أن هذا ال .....)
هتفت منيرة بصرامة
( لقد سامحتك فيما يخصني .... لكن اياك و الخطأ بخطيب أختك .... أرجوك يا ابني لا تفسد الأمر المسكينة لم تحظى بيومٍ سعيد بحياتها ...... )
همست ورد بيأس و انكسار
( ياللهي !!! ..... أمي تتسول بي !! .... أي ذل هذا ؟!! .... )
سمعها يوسف و نظر اليها صامتا .... فقال وهو يخاطب سيف بهدوء
( أنا لست غريبا .... لو كنت بهذا السوء لتناسيت ميراث زوجتك ... و لما وافقت على شراكتى لكل هذه الأشهر ...... أنا لست غريبا ... أنا أقرب لهذه الأسرة من خطيبها السابق .... )
نظر اليه سيف بغل و حقد ..... لكن أمه قالت تقاطع نظراته القاتلة
( استحلفك بالله أن توافق .... لتكن الفاتحة , ثم ندع لهما الفرصة كي يتعرفا الى بعضهما .... )
نظر سيف الى امه غير مصدقا لما يحدث ... كانت الفاتحة ... بينما تجلس ورد مذهولة بينهم ... و يوسف ينظر اليها بصمتٍ ..... يقتلها !!!
.................................................. .................................................. ..................
كانت وعد في سريرها تغمض عينيها بتعب و ارهاق نفسي ... تحاول النوم جاهدة ...
الى أن أتاها الإتصال من يوسف ... أخذت تستمع عدة لحظات قبل أن تستفيق و تقفز جالسة على السرير هاتفة بقوة ضاربة صدرها
( خطبت من ؟!!!! ....... يا مصيبتي !!!!!..... )
أخذت تستمع الى هتافه الغاضب في الهاتف و هي تغمض عينيها و بينما ارتفعت يدها الى أعلى رأسها و هي تميل يمينا و يسارا ....
( أرسلتك تخطبني فخطبت أخته ؟!!! ...... بالله عليك كيف فعلتها ؟!! .... أخشيت أن تخرج بيدك خالية ؟!!! ..... حسنا ..... حسنا ... أغلق الخط الآن , أنا سأتصرف ..... نعم .... أغلق الآن ... )
سقطت يدها بالهاتف الى حجرها و هي تتنهد بيأس
( كلما فكرت بشيء يقربك مني .... يتحد مع غيره ضدي ..... )
سمعت رنين هاتفها في حجرها فرفعته تنظر اليه ..
الا أنها شهقت حين رأت اسم سيف يضيء بشر .... فقفز الهاتف من يدها و هي تهمس بهلع
( سلام قولا من رب رحيم ....... )
ابتلعت ريقها بخوف و هي تستمع الى ذلك الرنين ... ثم دفنت وجهها تحت وسادتها و قلبها ينتفض
و ما أن سكت الهاتف أخيرا ... حتى رفعت أنفها قليلا بتوجس ... لكن صوت رسالة شنجتها ... فمدت يدها المرتجفة و فتحتها ببطىء لتقرأ
" حسابك معي فيما بعد ...... تظاهري بالنوم الأن ..... لنا لقاء "
عقدت حاجبيها و شعرت بالغضب ... و قالت بحنق
( و ما ذنبي أنا ؟!!! ........... أحمق تقدم لهم و حمقى أكثر حمقا منه و قبلو به ....... فما ذنبي أنا ؟!! .... )
رمت هاتفها جانبا و هي تهتف بغضب و يأس
( تبا لذلك ...... لقد عدنا خطواتٍ للوراء بسبب تلك الخطوة المتهورة ...... )
.................................................. .................................................. .................
كانت وعد تعمل باحباط و يأس .....
فاقتربت منها راوية لتقول بفظاظة
( سيدة وعد ..... أي ألوان ستختارها الآنسة ميرال لأقمصة النوم ؟!!! ..... سنتأخر و أنتِ أمرتِ بعدم التأخير ....)
نظرت وعد اليها بطرف عينيها ثم تابعت التقليب بين فساتين الزفاف في المجلة الخاصة بالمعرض ...
و قالت بفتور و بصورةٍ آلية
( الرمادي الفضي .... الذهبي الشاحب .... البنفسجي الداكن ... فصليهم كلهم من هذه الألوان .... )
عقدت راوية حاجبيها و هي تقول بعدم قبول
( و أين الأحمر و الأسود و الفيروزي .... انها بيضاء بياض شاهق و هذه الألوان ستناسبها .... )
أغلقت وعد المجلة بعنف و هي تنظر اليها بنفاذ صبر قائلة
( نفذي الألوان التي اخترتها يا راوية ..... انا المصصمة و أنا لي رؤية خاصة ..... )
مطت راوية شفتيها و هي تقول
( براحتك يا سيدة وعد ...... الغيرة تفعل أكثر من ذلك ..... )
كانت قد ابتعدت الا أن وعد هتفت بقوة
( انت ..... تعال الى هنا ...... ماذا قلتِ للتو ؟؟؟ ... )
عادت راوية اليها و هي تضع يدا فوق أخرى لتقول بنفاذ صبر
( قلت براحتك يا سيدة وعد ........لك القرار و لك النظرة كذلك ... .. )
قالت وعد بغيظ
( حسنا اذهبي الى عملك ...... لكن انتبهي فأنا عيني عليكِ .....)
ابتعدت راوية و هي تهمس متذمرة
( و هل ترين أصلا بدون نظارة ؟!! ....... )
اتسعت عينا وعد و ارتفع حاجبيها ... لكنها أقنعت نفسها بأنها لم تسمع ما سمعته للتو ....
زفرت بقوة و هي تضرب المجلة بغضب ... بينما جائت كوثر تقول بتوتر
( لقد جائت العروس .......... )
عقدت وعد حاجبيها و هي تقول
( أي عروس ؟!! ..... من لدينا اليوم ؟!! ....)
قالت كوثر من بين أسنانها
( الآنسة ميرال ............. )
أغمضت وعد عينيها و هي تقول بيأس
( ليتنا ذكرنا جنيها لكان خيرا لنا .......... ياللهي ليس وقتها أبدا .... )
عادت لتزفر بقوة .... ثم قالت و هي تحك جبهتها ...
( دعيها تدخل الى مكان القياس يا كوثر من فضلك .......... )
بعد وقت طويل .... و مضني ... كانت وعد تلهث تعبا و هي تقف خلف ميرال تلف القماش من حولها و تثبته بدبابيس ... بعد أن اختارت تصميما معينا ....
كان فستانا عاري الصدر و الكتفين .... و بالفعل نفذت وعد منه نموذجا للتجربة و هي تثبته عليها .... تراقب جسدها الأبيض المكتنز بعينين مائلتين من الحزن ....
بينما ميرال تراقب نفسها في المرآه بخيلاء ....
قالت وعد بخفوت و هي تعمل
( لكن علينا العمل على تصميم لإغلاقه من الآن ........ )
عقدت ميرال حاجبيها و هي تقول لعدم فهم
( إغلاقه ؟!! ....... ماذا تقصدين ؟!! ....... )
استقامت وعد من إنحنائتها و هي تقول بهدوء
( فتحة الصدر ..... سنغلقها ..... )
ضحكت ميرال ببرود ... ثم قالت ببطىء
( لا أتذكر أنني طلبت إغلاقها !!! ......... )
عقدت وعد حاجبيها و هي تقول بحيرة
( هل تنوين ارتدائه كما هو ؟!!! .......... )
ردت ميرال ببساطة
( بالطبع .......... )
ظلت وعد تنظر اليها عدة لحظات قبل أن تقول بخفوت
( سيف لن يوافق عليه ........ )
ابتسمت ميرال و هي تعض باطن خدها ... ثم قالت أخيرا بصوت بارد كالصقيع
( آآآه ...... اسمعي يا وعد , لا تقلقي على علاقتي بسيف .... انا أستطيع تدبيرها جيدا ... أما أنت فكوني احترافية بعملك كي يزدهر أكثر ..... )
شعرت وعد بوجهها يمتقع ... و كادت أن تطردها خارجا .... و أوشكت بالفعل ... الا أنها حافظت على السيطرة .... فهذا ما تتمناه ميرال ... أن تفقدها أعصابها ... لكنها لن تمنحها تلك اللذة ...
فابتسمت ببرود هي الأخرى و قالت
( لكِ هذا .......... )
قالت ميرال ببشاشة زائفة ...
( جيد ..... اذن من فضلك أرني كيف سيكون شكل انحراف حافة الفستان .... )
.................................................. .................................................. .................
دخل سيف مندفعا من مدخل البناية و علامات الغضب توشك على إحراق المكان ...
فقفز حار الأمن وهو يهتف مجددا
( سيد سيف ..... سيد سيف .... )
الا أن سيف قال بعنف دون أن يتوقف للحظةٍ واحدة
( يمكنك طلب الشرطة ......... )
دخل المصعد و قبل أن يعترض كان سيف قد أغلق باب المصعد بوجهه !! ....
لم يجد أمامه سوى كوثر فقال بصرامة
( مساء الخير يا كوثر ..... أين السيدة وعد ؟؟ ..... )
قالت كوثر مرتبكة
( إنها في الداخل مع الآنسة ميرال .......... )
تسمر سيف مكانه لعدة لحظات ... قبل أن يقول غير مستوعبا
( مع من ؟!! ..........)
ردت كوثر بخفوت
( مع الآنسة ميرال خطيبتك بحجرة القياس ........ )
رد سيف بصوتٍ جليدي
( و ماذا تفعل ميرال هنا ؟!!! .........)
ردت كوثر بتوتر
( ظننتك تعرف سيد سيف ..... لقد طلبت من السيدة وعد تفصيل فستان زفافها ..... )
شحب وجه سيف و تسمر مكانه وهو يقول بصوتٍ واهي ... خطير
( ماذا ؟!!! .............. )
ترك كوثر ليندفع الى غرفة القياس .... و التي كان بابها مغلقا جزئيا بعد أن انتهت وعد من تثبيت الفستان على ميرال ... و نسيت أن تغلقه , فدفعه سيف ببطىء ليتسمر مكانه وهو يرى وعد تجلس على ركبتيها أرضا .... تقوم بتثبيت طرف الفستان ... بينما ميرال تقف أمامها بخيلاء و يديها في خصرها ....
شعر في تلك اللحظة أن الدماء تفور بصدره و تصعد الى رأسه .... فهتف بقوة
( انهضي من عندك يا وعد ........ )
انتفضت كلا من وعد و ميرال بمكانهما .... و كانت ميرال أول من تكلمت رغم التوتر الذي شعرت به يشل كيانها كله
( سيف !!! ....... ماذا تفعل هنا ؟!!! .... )
نظر اليها ببرود قائلا
( علي أنا أن أسألك نفس السؤال ........ )
ارتبكت أكثر ... لكنها ابتسمت برقة و هي تقول
( كان من المفترض أن تكون هذه مفاجأة .... الفستان سيكون هدية وعد لنا في زواجنا .... )
نظرت اليها وعد ... غير مصدقة كيف أنها تستطيع تجميل موقفها بتلك الصورة ....
ثم قال ميرال متابعة بدلال و ضحكة مغرية
( لم يكن عليك دخول غرفة القياس دون اذن ........ماذا لو لم أكن قد ارتديت ملابسي بعد ؟!!! .... كنت لأموت خجلا ..... لكن عامة سيتحتم علينا الآن تغيير تصميم الفستان بعد أن رأيته
الا أن سيف هدر بقوة أكبر
( أنهضي يا وعد من على الأرض ....... حالا ..... )
قفزت وعد من مكانها بسرعة و قلبها يخفق بعنف .... بينما التفت سيف الى ميرال التي كانت تنظر اليهما ببرود متوتر .... فقال بخشونة
( سأخرج الآن الى أن ترتدين ملابسك ..... ثم تغادرين حالا .... )
رفعت ميرال ذقنها و هي تقول مصدومة
( أتطردني يا سيف ؟!!! ....... )
قال سيف بصوت خطير
( أريد وعد بأمر يخص العائلة ..... أما موضوع الفستان , فهو لن يمر مرور الكرام .... )
كتفت ذراعيها و هي تقول
( ما تلك المعاملة يا سيف ؟!!! ...........أنا لن اسمح ... )
الا أن سيف قاطعها هادرا بقوة
( الآن .......... )
نقلت عينيها بينه و بين وعد التي كانت واقفة مكانها ترتجف بقوة .... ... فخرجت ميرال بقوةٍ مندفعة تتجاوزه ...
بينما رمقها سيف بنظرة ٍ جعلتها تتجمد مكانها للحظة خاطفة .... ثم ابتعدت و هي تقول
( حسنا يا سيف ....... للحديث بقية ... )
انتظر سيف الى أن خرجت ميرال من المعرض .... بينما وقفت وعد مكانها تنظر اليه و قلبها يضرب و يفر كأرنب مذعور ....
أخذ يقترب منها ببطىء ....و عيناه الملتهبتان لا تحيدان عن عينيها بينما همست وعد ترتجف و تتراجع للخلف
( أعلم أنك غاضب بشأن يوسف وورد ...... )
الا أن سيف قاطعها هادرا بقوة زلزلت جدران المكان
( كيف وافقت ؟!!!!!!!!!! .......... )
انتفضت مذعورة ... ففعلت ما تستطيع فعله بتلك اللحظة ....
رفعت يدها الى جبهتها و همست بتعب
( سيف ........ أشعر ب ......... )
ثم سقطت أرضا متظاهرة بالإغماء !!! ....
هتف سيف بهلع وهو يندفع اليها جاثيا على ركبتيه
( وعد .......... )
ثم وضع ذراعيه خلف ظهرها و تحت ركبتيها ليحملها بين ذراعيه بحركة واحدة وهو يهمس بقلق
( وعد ......... وعد ....أفيقي حبيبتي أنا آسف ... لم اقصد ارعابك ..... لم أتمالك نفسي حين رأيتك تجلسين أرضا ....وعد ..... )
و لم يعلم أنها كانت تبتسم متنهدة بحرارة .... بين أضلعه !!! ............
يأبى النظر اليها عن عمد .... بينما يضاحك الجميع , تترصده بعينيها عن قصد و تعلم بأنه يشعر بوهج اختراق عينيها و يكابر ... و يتجنب رفع عينيه ...
كانت تسير بين الجمع ... في مؤخرة القاعة .. تميل برأسها لتراقبه كلما حجبه عنها شخص ما ... و على شفتيها ابتسامة شوق و أنبهار ! ...
خلال شهرين من الخصام ... يوليها كل اهتمامه النظري ... البارد ...
طلباتها هي و محمد و البيت بأسره مجابة دون حتى ان تجد الفرصة لتطلب ...
سؤاله عنهما يوميا بصورة روتينية .. لكن تلك الروتينية تتحول الى دافئة طويلة مع محمد ... بينما معها يقتصر الأمر على مجرد سؤال خافت بسيط ....
أما في أسلوبهما معا في العمل فهو يتسم بالدماثة و الرقي ... كي لا يسمح بأي تخاذل تجاه العمل أو الخلط بينه و بين الحياة الشخصية ...
و على الرغم من تلك القواعد الصارمة ... الا أنها كانت تراقبه بافتتان ميؤوس ..
حتى وقعت في غرام مديرها !! ...
ترى أيمكن للمرأة أن تقع في حب نفس الرجل مرتين ؟!! .....
لأنها فعلت دون شك ... لقد أحبته زوجا من شدة ما نالت منه من حب و رعاية و احترام ...
أما الآن و بعد شهرين من البعد المهذب ... و الهجر الأنيق !!
لم يعد أمامها سوى سوى مراقبته و التقام كل تفاصيله .... هفواته ... شروده أثناء العمل ,..... صوته وهو يشرح شيئا ....
روعته في التعامل مع الجميع .... حتى عشقته مرة أخرى و كأنه رجل تتعرف عليه بارادتها ...
تحبه من طرف واحد و تراقبه من بعيد كي تملأ عينيها بكل خصاله .....
اليوم هو يوم مميز في العمل ...
لقد أقام العاملين في المصرف حفلا للمدير بمناسبة اتمامه عام كامل بالعمل !!
حين وصلها أمر الأعداد للحفل دون معرفته ... ذهلت و فغرت شفتيها و هي غير مصدقة ..
عام مر يا حاتم منذ أن وطئت قدميك الى حياتي قبل أن أعرف ؟!! ....
لماذا أشعر أنه كان البارحة لا أكثر ؟!! ....
نظرت اليه وهو يبتسم للجميع ... اندهاشه الأولي كان جميلا ... كجمال عينيه و هو يفاجىء بذلك الحفل في نهاية اليوم بعد انتهاء موعد العمل ...
و كان سعيدا و كأنه قد مضى فترة منذ أن شعر بالسعادة لشيء .....
و على الرغم من أنها كانت من المنظمين الأساسين للحفل ... الا أنها وقفت في نهاية القاعة , تراقبه و هي تبتسم بحزن و صمت ... تترجاه في خيالها أن يرفع رأسه و يمن عليها بنظرة ...
و رغما عنه و كما ظنت ... خدعه عقله و غافله , فأعطى الأمر لعينيه كي ترتفعان اليها ...
مباشرة و دون حاجة للبحث ... فألتقت أعينهما و كأن لعالم قد اختفى من حولهما ...
الا أن البعض كانو يحولون دون هذا التواصل ... فكانت تذهب يمينا و يسارا , كي تكمل ذلك التواصل اللحظي الجميل بينهما ... و ما أن وجدت عينيه مجددا , حتى ابتسمت برقة ... و عذوبة ... و اشتياق
لم تستطع للحظة واحدة أن تشعر بالنقمة عليه لهجرها لمدة شهرين كاملين بمثل تلك القسوة ...
كان الحزن و الشوق يقتلانها ... الا أنها لم تستطع للحظة أن تنقم عليه ...
بل أن أقصى ما استطاعت فعله هو أن تقع فريسة هواه مرة أخرى !! ....
لاحظت التواء شفتيه قليلا وهو يبادلها النظرة العاتبة المشتاقة ... الا أنه سرعان ما رسم التعبير الدبلوماسي على وجهه وهو يبتسم تلك الإبتسامة الرسمية المهذبة و التي يلجأ اليها كلما أراد اخفاء مشاعر جامحة ... سولء كانت عشق أم غضب ..... أم هزيمة ...
و هي تعلم أنه يشعر تجاهها في تلك اللحظة بالثلاث ....
وجدت ساقيها تتحركان اليه .. تحاول تجاوز الجميع دون أن تحيد بعينيها عنه ... الى أن وصلت الى مقربة منه ...
حينها لم يخدعه شعوره للمرة الثانية وهو يشعر بها قريبة ... تقف أمامه تماما ,
فأبعد وجهه عمن يخاطبه كي ينظر اليها و هي تقف مبتسمة بحزن على الرغم من اتساعة ابتسامتها التي أظهرت صفي أسنانها ... ثم قالت برقة من كل قلبها العاشق
( كل عام و أنت بخير يا حاتم .... و أكثر قدرة على العطاء و العمل .... )
تعمدت نطق اسمه مجردا من أي لقب ... فهي زوجته قبل اي منصب آخر .. و أى لقب سيكون متكلفا مزيفا ....
لم تبتعد عيناه عن عينيها ... بينما التوت شفتاه قليلا حين سمع اسمه مجردا من بين شفتيها أمام الجميع .. و كأنها تنطق عبارة غزل رقيقة أوشك وجهه على الإحمرار من شدة الإنفعال الذي جاش في داخله بسببها ..
و حين عجز عن النطق لعدة لحظات ... بادرت متابعة برقةٍ هامسة
( لا أصدق أنه مر عام كامل منذ أول يوم دخلت فيه الى هذا المكان !! ...... )
التوت شفتاه أكثر قليلا , ... ثم ابتسم هامسا و كأنما يخاطبها وحدها ناظرا الى عينيها
( و كان اليوم الأجمل بحياتي ..... )
ارتجفت شفتيها قليلا و عيناها تتوهان بعينيه .... لقد تاه عن فكرها أنها كانت الأولى التي رآها و تعرف عليها في هذا المكان ... ربما لأنه لم يكن يوما مميزا بالنسبة لها وقتها ...
بينما الطريقة التي نطق بها عبارته ... جعلتها تدرك بأنه يذكر كل لحظة من لقائهما الاول ... تلك الذكرى التي كان يحتفظ بها بين اضلعه كبداية لطريق طويل من لوم النفس و الرغبة في العودة من حيث أتى ...
ابتلعت ريقها بصعوبة و هي تنظر الى عينيه المتألمتين رغم ابتسامته الدبلوماسية ...
لكم تسببت له في الأوجاع !! ...
بعضها كان خارج عن ارادتها ... و دون حتى معرفتها ..
لكن الأكثر كان من فعل يديها ... و هي تحاول التغلب على الخطوة الصارمة التي اتخذتها في حياتها و أخذ القرار بترك شريك العمر بعد أن أيقنت بأنها لن تستطيع الصمود أكثر ...
لكنها كانت أجبن من هذا القرار ... ففرت الى أول يد امتدت الى مساعدتها , تركن اليها و تحملها مهمة انهاضها عوضا عن متابعة حياتها باستقلالية و قوة ...
نعم لقد كانت جبانة .... لم تكن بالقوة التي تخيلتها في نفسها دوما ...
بل كانت و لا تزال في حاجة الى شخص تسير في ظله ....
و كان حاتم هو هذا الشخص ... أول من وقع في طريقها .... ففضلت ظله على ظل الحائط ...
و كم نقلت هذا الشعور اليه بمنتهى الوضوح الفج ... بأنه أفضل قليلا من الحائط !! ....
أما الآن و بعد الشهرين اللذين مرا على فراقهما ... و على عشقها له من جديد ...
تود لو تقسم له آلاف المرات بأنه بالنسبة لها الآن ليس السند أو العون ... بل هي لا تحتاج وجوده كحائط على الإطلاق ...
انها فقط تحتاج وجوده ... فقط وجوده يكفيها .... تحتاج رؤيته ... استنشاق عطره ... الكلام معه و الضحك طويلا على اسخف الأشياء ....
ابتسمت بحرارة مضنية و هي تفيق من شرودها لتقول بخفوت
( لتكن كل أيامك جميلة يا حاتم .... )
اخفض وجهه رغم عنه أمام الحنين اللاهب بعينيها ... و هي وحدها من لاحظت تضخم صدره و كأنه يتنفس محاولا ازاحة ثقلا من على قلبه ... فشعرت بغصة تنخز قلبها هي الأخرى ..
فابتسمت في مواجهة الجميع و هي تحاول السيطرة على تعابير وجهها كي لا تفضحها فتنفجر بكاءا كبكاء كل ليلة ...
ثم ابتعدت متراجعة ... مطرقة الوجه .. تعود الى مكانها البعي في الزاوية ... تجلس لتراقبه و تملأ عينيها من وجوده الساحر بين الجميع ...
و كانت هذه المرة من الشرود بحيث لم ترى اختلاسه النظر لها بين الحين و الآخر وهو يتكلم مع عدة أشخاص ... بينما تركيزه كله منصب عليها و على ذبولها ..
و الأكثر مفاجئة هو أنها رفضت القطعة من قالب الحلوى التي قدمت لها !!
مما جعله يقلق بحق .... و كأنه يحتاج الى القلق بجوار كل ما يشعر به من وجع و شوق و سهر كل ليلة ....
انتهى الوقت بأسرع مما تخيلت ... فغادر الجميع واحدا تلو الآخر و بقت هي تراقبه وهو يلملم أغراضه .. مبتسما لكل من يغادر و ملقيا له التحية ...
لكن و قبل أن يخلو المكان من آخر موظف ... و قبل أن تستطيع الإنفراد به , كان قد حمل أغراضه و رفع وجهه اليها مباشرة لينادي بهدوء
( الن تغادري يا كرمة ! ......... )
انتفض قلبها بقوةٍ ناسيا طريقة الخفقان الطبيعية .. فأحدث خللا في ضخ الدم الى أوردتها .. بينما ارتفع رأسها بسرعة اليه بعينين لوزيتين تبرقان بسعادة تثير الشفقة و هي تقول بوله
( حالا ..... سأغادر حالا ...... )
أومأ برأسه اليها صامتا ... ثم أشار اليها بذقنه آمرا أن تسرع و تتبعه ... و بالفعل كانت تقفز من كرسيها لتلملم حقيبتها و حقيبة حاسوبها ... ثم أسرعت تخرج خلفه و هي تسرع الخطا . كي تلحقه بينما كان هو يشق الأرض مسرعا في اتجاه المصعد المفتوح .. و ما أن رأته يدخل دون أن يستدير اليها , ظنته أنه سيغلق الباب دون أن يسمح لها بالدخول ... فهتفت بلهفة و هي تجري الى الباب
( انتظرني يا حاتم ....... )
و أسرعت تمد يدها لتوقف أنغلاق الباب ... فوجدته يقف مستندا الى المرآة من خلفه و هو ينظر اليها بهدوء خالي من المشاعر ... فارتبكت بشدة و هي تدخل مطرقة الرأس و تضغط زر الإغلاق لتقف أمامه بعدها ...
تحاول جاهدة السيطرة على ضربات قلبها بينما المصعد يتحرك بهما نزولا ...
همست كرمة تقول بارتباك مبتسمة
( ظننتك ستغلق المصعد و تذهب بدوني !! ...... )
لكن إن كانت تنتظر ردا فقد انتظرت هباءا ... حينها رفعت وجهها اليه , لتجده ينظر اليها بحدة دون أن يزيح عينيه عنها ... مما أربكها أكثر و هي تعود لشخصية الموظفة التي وقعت في غرام مديرها ..
ابتسمت رغما عنها لتلك الفكرة بخجل و هي تعض على شفتيها ... متوترة ...
ثم قالت متابعة بخفوت دون أن ترفع عينيها اليه
( هل يمكنك أن تقلني معك ؟!! ........ )
اعتقدت أنه سيتجاهلها مجددا ... لكنه قال بخشونةٍ خافتة
( ألم تأتي اليوم بسيارتك ؟!! ............. )
رفعت عينيها اليه و هي تمط شفتيها بعجز من فعل مصيبة ... لكنها همست بتوتر
( لا ..... السيارة ... في الصيانة .... )
عقد حاتم حاجبيه بشدة وهو ينظر الى رأسها المنخفض .... فقال بخشونة أكبر
( و كيف جئت صباحا اذن ؟!! ....... و لماذا هي في الصيانة ؟!!! ..... )
عادت لتمط شفتيها و هي تعض عليهما ... لكنها قالت بخفوت
( جئت بسيارة أجرة .............. )
ازداد عبوسه أكثر وهو يراها تصمت , فقال بصرامة
( و الشق الآخر من السؤال ؟!! ..... هل سمعتهِ أم أن الإرسال فصل عنده ؟!! .... )
رفعت أصابعها لتحك مقدمة شعرها بتوتر ... ثم قالت أخيرا بقنوط و بشفتين متكورتين كالأطفال
( لقد صدمت السيارة أمس ........ )
استقام حاتم من وقفته فجأة ليتقدم اليها وهو يهتف بحدة ممسكا بذراعيها
( ماذا ؟!!! ....... هل أنتِ بخير ؟!! ..... )
رفعت وجهها اليه و هي تبتسم برقة ... تقرأ في عينيه و صوته تلك اللهفة و الحب الذي يحاول جاهدا اخفائه .. بينما هي تعيش حتى الآن على تلك الهفوات التي تسقط منه سهوا .. كالآن مثلا ...
قالت بخفوت مبتسمة
( أنا بخير حبيبي ..... أنظر الي .... كالقط بسبع أرواح ..... )
نظر اليها بالفعل , من أعلى رأسها و حتى أصابع قدميها ... في نظرة قلقة شملتها كلها ... فأرسلت موجاتِ دافئة خلال عروقها جعلتها ترتعش تحت قبضتيه ....
لكن و قبل أن تجيب ... كان المصعد قد وصل الى الطابق الأرضي و فتح أبوابه تلقائيا .... و كان أحد حراس الامن يقف أمام الباب فنظر اليهما بفضول و هما على وقفتهما الصامتة و النظرات المتبادلة بينهما ...
انتبه حاتم الى وقفته .. فاعتدل منزلا كفاه عن ذراعيها لكنه لم يتخل عنها ... بل أمسك بكفها وجرها خلفه وهو يقول
( تعالي ........... )
كانت تسير خلفه مبتسمة ... تنعم بتلك الكف القوية التي تحتضن كفها بين أصابعه بعد شهرين من الحرمان من تلك الصلة الأبوية الامومية المتبادلة بينهما عبر كفيهما منذ أن تزوجا ....
كانت كمن يطير على بساط من الرقة و السعادة خلال تلك المسافة القصيرة التي تفصلهما عن المرآب ..
و ما أن وصلا الى سيارته .. حتى دفعها ليسندها الى السيارة وأشرف عليها يقول بقلق
( كيف صدمتِ السيارة بالضبط ؟!! ......... )
ارتبكت أمام عينيه القلقتين ... و صدمها ذلك الإهتمام الذي ناقض شهرين من الجفاء المر ...
لكنها همست بخفوت متبرم
( تعرف أنني حديثة التعلم .... و مع ذلك فقد اصطدمت بشخص متخلف .. وقف فجأة .... )
عقد حاتم حاجبيه وهو يقول بغضب
( هل هو المتخلف فعلا ؟!!! .......... )
عقدت حاجبيها و هي تنظر اليه حانقة قائلة
( ماذا تقصد ؟!! ..... أنا متخلفة يا حاتم ؟!! ...... )
زفر بقوة فلفح الهواء الساخن بشرتها مرسلا المزيد من الشوق و الحسرة الى أوصالها ... ثم قال بغيظ
( و لماذا القيادة طالما لستِ متمكنة منها بعد ؟!! ...... أيجب عليكِ اتقان كل شيء ؟!! .... )
قالت كرمة تدافع عن نفسها
( الجميع يرتكبون بعض الهفوات في بداية التعليم ..... و ليس معناه اليأس ... أنا أحد مدراء المصرف و كيف لا أستطيع القيادة حتى هذا العمر ؟!! ........ )
مال اليها حاتم وهو يقول بغضب
( و ما عيب السائق ؟!! ........ )
مالت بوجهها تنظر اليه ثم قالت بخفوت
( العيب الوحيد به هو أنك لم تكن مرتاحا لاستقلالي سيارة مع رجل غريب معظم اليوم .... دون حتى أن تخبرني بذلك .... أنا فقط أعلم ... من نظرة عينيك ... من نبرة صوتك .... )

نظر اليها صامتا .... عاقدا حاجبيه , متعجبا أنها استطاعت قراءة رفضه لتلك الفكرة بل الرفض كان أقل مما يشعر به في الواقع كلما أخبرته أنها تتنقل من العمل الى الجامعة .. و منها لفريدة .. ووعد .. كل هذا مع رجل غريب حتى و إن كان يثق به ... بينما هو يجلس قابعا في البيت يحترق على نار هادئة .. منتظرا اتصال عودتها للبيت كل يوم ...
لكن موضوع السائق تحديدا لم يستطع أن يفرض به رجولته نظرا لما تعرضت له من هوان من قبل على يد زوجها السابق لنفس الموضوع ... فخاف أن يؤلمها بتكراره ... و تشعر بعدم الثقة من جديد
فهي مجنونة .. و تربط كل تصرف يقوم به .. بتصرف شبيه قام به طليقها مع الفارق في التعامل
و دائما ما تتوقع منه الأسوأ ......
رفعت عينيها الى وجهه المقطب الصامت ... فقالت بخفوت
( اذن .... هل تقلني معك أم أستقل المواصلات ؟!! ...... )
ظل ينظر اليها صامتا دون أن تلين ملامحه .. ثم قال آخيرا بلهجةٍ آمرة مكتومة
( ادخلي ........... )
اشرقت روحها بابتسامة براقة ... ظهرت على شفتيها فازداد عبوسه و كأنه يكره فكرة تدليلها حتى و لو بأبسط تصرف ... و مع ذلك خفق قلبه خفقة غادرة حانية وهو يراها تسرع كالأطفال ... لتدور حول السيارة و تجلس في المقعد بجوار مقعده ..
وقف حاتم مكانه يتنهد قليلا .. آخذا أكبر قدر من هواء المساء العطر ...
قبل أن يجلس بحوارها بصمت .. محاولا بكل طاقته تجاهل عطرها الناعم الذي تسلل الى أنفه و رئتيه كرذاذٍ سحري ...
استمر بهما الطريق بصمت عدة دقائق وهو يختلس اليها النظر ... ليجدها تنظر من نافذتها مبتسمة قليلا و الهواء يداعب خصلة من شعرها ... بينما الإبتسامة لم تمحو شعور الوحدة المرتسمة في عينيها ...
زفر دون صوت وهو يركز عينيه على الطريق أمامه ... ثم قال أخيرا بجفاء حين طال الصمت و بات خانقا
( اذن ...... كيف حالك ؟! ..... )
نظرت اليه بدهشة وهي لا تصدق تبرعه بالسؤال من تلقاء نفسه .... الا أنها همست بخفوت
( و هل يهمك هذا كثيرا ؟!! ........ )
زم شفتيه بغضب وهو يقبض أكثر على المقود .... و تجاهل الرد على هذا السؤال عمدا , الا انها لم تتجاهله فتابعت بالم هامس
( شهران يا حاتم !! ..... شهران كاملين و لم تشعر بأنك عاقبتني بما يكفي ؟!! .... ما تلك القسوة فيك و كيف كنت تخفيها عني ؟!! .....)
لم يرد عليها على الفور ...لكن اشتداد فكه أبرز لها خطورة محاولتها و مع ذلك لن تندم أبدا على دفعه كل يوم الى مصالحتها ,.... الا أن حاتم قال بجفاءخافت
( أنا لا أعاقبك .......... )
صدرت عنها ضحكة سخرية مريرة و هي تنظر اليه باستهجان ... ثم همست بألم
( و هل هناك عقاب أكثر قسوة من ذلك ؟!! ..... الا تعرف أن البعيد عن العين بعيد عن القلب ؟!! .... )
كان دوره هذه المرة في الضحك بسخرية غير مرحة وهو يقول بجمود
( و هل كنت قريبا من قلبك من قبل يا كرمة ... كي أبتعد ببعدي عن عينيكِ ؟!! ...... )
نظرت اليه بصمت طويلا ... قبل أن تقول بخفوت خافت بلا تعبير
( تعلم أنك الوحيد في قلبي الآن .... و لن أقسم لك مجددا , فما ذلك الحب الذي أضطر للقسم عليه كل يوم ؟!!!! )
التوت شفتيه و تشنج فكه ... ثم قال بصوت عميق
( لستِ محتاجة للقسم ... الأفعال خير دليل عوضا عن القسم .... )
تنهدت بقوة وهي تعود و تنظر من النافذة هامسة
( لا فائدة ........ تعبت والله .... )
ابتلعت غصة في حلقها و هي تتابع السيارات المارة بجوارهما ... تضم وجوها مبتسمة و أخرى يرافقها الحزن .. و بعضهم أغمض عينيه ...
قطع حاتم الصمت مجددا ليقول بصوت جامد
( لقد فقدتِ الكثير من وزنك ..... هل أنتِ مريضة ؟!! .... )
عادت لتنظر اليه بدهشة ... ثم قالت بخفوت
( لم اظن أنك قد لاحظت ذلك !! ...... انا بخير و لست مريضة , إنها مجرد حمية .... )
رغم عنه صدرت عنه ضحكة لم يستطع كبتها ... فقال بهدوء
( هذه أكبر كذبة في التاريخ !! .. أولا أنتِ من المستحيل عليكِ التقيد بحمية ... ثانيا أكواب كريما الشوكولا التي تحضرينها من مقهى المصرف كل يوم لا أعتقد أنها تتبع أي حمية .... الا لو كانت حمية خالتي أرزة ... )
مطت شفتيها بحنق حقيقي و هي تستمع اليه و كأنما يخاطب غولا مفترسا .... فقالت بغيظ من بين أسنانها
( و من هي خالتك أرزة تلك ؟!! ........ أهي اللتي ورثت اللطف و خفة الظل عنها ؟!!! .... )
ضحك مجددا مما جعلها تنظر اليه مشدوهة و هي تتذكر شكل وصوت ضحكته اللذي قاربت على نسيانهما .. فانتفض قلبها و فغرت شفتيها بشكلٍ مبهور يثير الشفقة ...
و بعد أن انتهى من ضحكته التي كانت تراقبها بفم مفتوح كطفل محروم ... قال أخيرا بهدوء و لطف
( ثانيا .... الهالات الزرقاء تحيط بعينيك ... و هذا ليس علامة حمية غذائية صحية ... )
ابتلعت ريقها و أغلقت فمها الذي نسيته مفتوحا ... فأطرقت قائلة بخفوت
( أنت تعلم الفترة الماضية كانت مزدحمة المشاغل جدا لدي ..... من العمل للجامعة لتحضير الطعام و المذاكرة مع محمد ..... )
رفع حاجبيه وهو ينظر اليها بطرف عينيه قائلا بصوت ذا مغزى
( و التسوق ؟!! ....... )
مطت شفتيها و هي تقول بخفوت أكبر متلاعبة بأصابعها
( لم أتسوق شيئا منذ شهرين تقريبا .... أقتصر خروجي خلالهما على المشي مع فريدة و الصغيرة قليلا كل يوم ..... )
قال حاتم بهدوء وهو ينظر اليها
( و المذاكرة مع محمد متعبة على ما أعتقد ........ )
تنهدت و هي تقول
( أنا أحب الدراسة منذ اليوم الأول لي في المدرسة .... في الواقع أعشقها و أكتشفت أنني أحب التدريس كذلك .... )
لم يرد حاتم على الفور ... ثم قال أخيرا بهدوء
( لقد تعلق محمد بك بشدة ...... أخشى أن يقع في غرامك ..... )
عقدت حاجبيها و هي تقول بخوف
( و هل هذا يضايقك ؟!! .... أقصد تعلقه بي ؟!! .... هل تنوي فعل شيء حيال ذلك ؟!! ... هل ستبعده عني !!... )
عبس حاتم قليلا ثم قال بخشونة
( مهلا يا كرمة ..... لم أقل أنني سأبعده عنكِ ... أنا فقط أشير الى تعلقه بك ..... )
و مع ذلك شعرت بعدم الإطمئنان .... و ظلت تنظر اليه بخوف و صدرها يعلو و يهبط قلقا ...
الى أن أبعدت وجهها ببطىء الى النافذة مجددا ... لكن ما لم تتوقعه هو أن تنتفض مكانها و هي تشعر بكفٍ قوية دافئة ... و قد أطبقت على يدها الموضوعة على ساقها ...
فنظرت مشدوهة تتأكد من تلك الكف التي لم تكن لتخطئها ... و هي تراه يرفعها الى شفتيه !!
ففغرت فمها و هي تشعر بنفسها تذوب في مقعدها ...
بينما هو يطبع شفتيه على ظهر يدها بقوة دون أن تحيد عيناه عن الطريق !!! ....
و حين أنزلها لم يحرر كفها من يده ... بل أبقاها على فخذه مغطاة بيده ...
همست كرمة بإختناق ما أن وجدت صوتها ..
( ما كان سبب هذا ؟!! .......... )
ظل صامتا للحظة .... ثم قال بهدوء دون أن ينظر اليها
( هذا من أجل اعتنائك بابني لدرجة التعب ...... )
شعرت روحها تصعد للسحاب و تطفو من فوقه ... بينما كان صدرها يخفق بعنف ... لكنها قالت بخفوت و هي تنظر الى كفها تحت يده ...
( في الحقيقة أنا لا أفعل الكثير .... لقد أصبح شابا ماشاء الله و مجهودي معه ضئيل جدا .... )
لم يترك يدها ... وهو يقول بهدوء دون أن ينظر اليها
( إنه في سن المراهقة ... و كان تمرده يرهقني , حتى أنني كنت أفشل في التعامل معه في كثير من الأحيان .... أما الآن فأشعر و كأنه تخطا هذا السن في لمح البصر ..... )
صمت قليلا , ثم ضحك بخفوت قائلا
( يبدو أنني من كنت المشكلة دون أن أدري ........ )
نظرت كرمة اليه بصمت و قلبها يهفو اليه , بينما الهوار من خلفها يدفع شعرها أمام عينيها فترفع بأصابع يدها الأخرى ... ثم همست بخفوت
( نحن أصدقاء ليس الا ..... لم أفعل أكثر من ذلك .... )
لم يرد حاتم لفترة .... ثم ابتسم بحزن قليلا وهو يقول بهدوء و ايجاز
( و انت تجيدين لك .......... )
عضت على شفتها قليلا و هي تنظر اليه .... ثم قالت بفتور خافت
( لكنني لم أجيده معك على ما يبدو ........ )
حاولت أن تسحب يدها عن كفه كي لا يكشف ذلك النبض الميؤوس منه في باطن معصمها ...
الا أنه شدد عليها يمنع هربها من يده .. فرفعت حاجبيها تحاول اقتناص الأمل من حركته ... الا أن ملامح وجهه كانت صامتة بلا تعبير ... بلا أملٍ يرجى ...
و شيئا فشيئا ... تحركت أصابعه بحكم العادة القديمة ... تتحسس ذلك النبض , تتحقق منه ...
فزفرت كرمة نفسا مرتجفا و هي تغمض عينيها ....
قال حاتم بهدوء بعد فترة دون أن يدري الفوضى التي يثيرها بداخلها بتحسسه نبضها ...
( و كيف حال دراستك أنتِ ؟!! ....... )
ابتلعت ريقها و تنحنحت تحاول أن تجعل صوتها المبحوح متزنا قدر الإمكان
( جيدة .... متعبة قليلا , لكن متعبة , و يوما بعد يوم يقترب موعد المناقشة .... )

و ساد الصمت بينهما لفترة ... فنظرت اليه كرمة بطرف عينيها و هي تهمس بخفوت رقيق يكاد أن يكون مترجيا
( هل ستحضر المناقشة يا حاتم ؟!! ............ )
نظرت اليه بصمت وهو يتابع القيادة دون رد ..... و دون أن تستطيع ترجمة ما يشعر به في تلك اللحظة ... فهو ليس هادئا تماما كما يبدو لها .....
الا أن كل منهما على ما يبدو كان غير قادرا على ايجاد الكلام المناسب ...فأرجعت رأسها للخلف تغمض عينيها متنهدة ...... الى أن أفاقت بعد فترة على صوت حاتم يقول بخفوت جاف
( لقد وصلنا ........... )
رفعت كرمة وجهها متفاجئة ... لم تلحظ أنهما قد دخلا من المرآب المرفق للبيت فعلا ...
ظلت تنظر حولها الى الظلام النسبي المحيط بهما ... ثم نظرت الى حاتم طويلا و كان هو يبادلها النظر دون أن تستطيع قراءة شيئا من ملامحه الداكنة ... ثم همست أخيرا بخفوت
( ألن تصعد معي يا حاتم ؟!! ..... أرجوك ..... توقف عن تلك القسوة إنها لا تليق بك ... )
التوى فمه بابتسامة ساخرة رأتها بوضوح فهتفت غاضبة
( و توقف عن تلك الإبتسامة ..... لا تسخر مني بتلك الصورة فأنا لم أقتل لك قتيلا ... )
أبعد وجهه عنها لينظر الى نافذته بصمت , مستندا بمرفقه اليها ... و تركها تنظر اليه و يدها تتجمد في كفه التي لم تتركها حتى الآن ....أتراه نسي أنه يمسك بكفها ؟!!!
أم أن جسده له قواعد أخرى معارضة لأوامر عقله العاصي .....
ابتلعت ريقها و همست
( محمد سيعود الى والدته خلال يومين .... أتعرف ذلك ؟!! .... )
ظل صامتا عدة لحظات ثم قال بجمود
( طبعا ........... )
ظلت تنظر اليه صامتة ثم قالت بخفوت
( و ماذا سيكون وضعي أنا ؟!! ...... )
التفت ينظر اليها ... ثم قال بجفاء
( ماذا تقصدين ؟!! .......... )
نظرت الى عينيه ثم همست بخفوت
( أمينة تغادر بمغادرة محمد ..... هل سأبقى وحدي ؟!! ...... )
ظل ينظر اليها دون ان تتبين ملامحه .. الا أنها شعرت بكفه يشتد على يدها قليلا .. أم أنها توهمت ذلك ؟!! ...
فحين تكلم قال بفتور خافت
( أنتِ باقية في بيتك ........... )
طرفت بعينيها قليلا ... و تكورت يدها داخل كفه , فقالت بخفوت
( لقد أكتشفت الآن أنني رغم ظروف حياتي باختلافها .... الا أنني لم أبقى وحيدة يوما .... و أكتشفت أنني لا أستطيع البقاء وحيدة ..... )
أرجع رأسه للخلف وهو يتنفس بقوة .... و الآن تلمح له بأن زوجها السابق رغم كل عيوبه الا أنه لم يتركها يوما .... مهما تأخر ... و نبذها .. و آذاها ... الا أنه كان يعود في النهاية , ليجدها تنتظره ...
بعكسه هو الذي ينوي تركها بمفردها تماما الآن .....
تعرف جيدا كيف تضرب تحت الحزام ...
زفر بقوة وهو يبعد كفه عنها أخيرا ليقول بخفوت
( اصعدي الآن يا كرمة ...... أنا لا أريد الصعود معكِ لأنني أعرف نفسي و أعرف أنني قد اجرحك أكثر بوجودي ..... دعي الأيام و هي كفيلة لحل الأمور .... )
هتفت كرمة بأسى
( الى متى ؟!! ..... الى متى يا حاتم ؟!! ... ألم يكفك خصام شهرين يا ظالم ؟!! ... هل كانت جريمتي بهذه الخطورة ؟!!! ..... نعم لقد أخطأت لكن هل أستحق ذلك العقاب بارد القلب الطويل الأمد ؟!! .... )
زفر حاتم بقوة و هو يدير رأسه بعيدا عنها مجددا ثم هتف فجأة بعنف
( أنا لا اعاقبك يا كرمة تبا لذلك .... )
لم يجد ما يتم به كلامه فصمت يحك جبهته بنفاذ صبر ... بينما كرمة مستندة بظهرها الى الباب بجوارها تتابعه بحزن ... ثم قالت بصوت مرتجف
( اذن ما هي نواياك تجاهي ؟!! .... هل تنوي ......... )
صمتت قليلا و هي تاخذ نفسا مرتجفا خائفا ... ثم تابعت و هي تضع يدها على صدرها قائلة
( هل تنوي ...... الإنفصال ؟؟؟! .... )
عقد حاجبيه بشدة و كأنه يتألم .... و كأن رصاصة قد نفذت الى صدره بشدة و اخترقت قلبه ...
فابتلع ريقه بتشنج وهو يهمس لنفسه
" ما أقساها من كلمة !!! .... كلمة لم تعبر خياله خلال شهرين .. ستين يوما ... "
لكن العودة اليها يجرحه أكثر و شبح رجل آخر لا يزال بينهما ....
قال بصوت أجش وهو يتنجب النظر اليها
( اخرجي الآن يا كرمة ............ )
بهتت ملامحها و هي تراه يتهرب من نفي سؤالها .... فوقع قلبها بين قدميها ,
الا أنها عادت و همست لنفسها بأنه لم يرد بالموافقة أيضا ....
فابتلعت كرامتها عند هذا الحد و هي تقول بفتور بينما عيناها تدمعان رغم عنها
( حسنا يا حاتم سأنتظرك ..... عبارة لم أملها على أمل أن أعوضك بطول انتظاري عن كل ما تسببت به لك من أذى .... )
و دون كلمة أخرى اندفعت خارجة من باب السيارة لتصفقه خلفها بقوة و هي تجري خروجا من المرآب غير آبه حتى بالقاء التحية اليه ... بينما كان هو ينظر اليها بصمت و عيناه منحنيتان و كأنهما تناديانها أن تعود .. أن تعذره ....
غاضبا منها بشدة ... و رغم هذا يريدها أن تعذره ...
لو كان يملك بعضا من برود القلب ... لكان تحمل حبها لرجلٍ آخر واقحامه لحياتهما كل حين ....
فلقد تعهد ذات يوم أن يتحملها بكل أوجاعها ... و يحارب من أجلها ..
لكنه أكتشف مع مرور الايام أن الألم أكبر من طاقته على التحمل ... فابتعد ليعيش فقط على طيفها البعيد ...
لكن الى متى ؟!! ... هل يتركها هكذا معلقة ؟!! .... دون أن يجروء على تحريرها .... فقد تعود الى طليقها .. او أن تكون لأي رجلٍ آخر !! .... سيصاب بالجلطة حينها .....
أغمض عينيه و هو يشعر بانقباض في صدره ... لكنه قاومه ليحرك السيارة و يخرج بها مسرعا ... مصدرا صريرا عاليا .... قبل أن تهزمه أشواقه ... و تعلن الحرب على عقله الحائر ....
كانت الساعة التاسعة ليلا وهو مستلقٍ على أريكته الوثيرة ...
ذراعه تحت رأسه يحملق في السقف المظلم ... لا ينير غرفة الجلوس سوى مصباح جانبي شاحب ...
يتذكر كلماتها كلمة كلمة ... يفكر حتى أعياه التفكير ...
و كأن القدر قد رسم هذا اليوم تحديدا ... وهو نفس اليوم الذي رآها به لأول مرة ...
كي يمر العام ... و يستلقي مكانه متسائلا عن مكانته في حياتها !!....
الم تعلم المجنونة و هي تترجاه كل يوم ... كم الطاقة التي يحتاجها كي يمنع نفسه من الهجوم عليها متقبلا توسلها و رجائها بكل ترحيب و ضمير ...
انها حياته .. القطعة الأغلى على قلبه ... مكافأة القدر له ....
مدللته التي جمالها يذيب روحه قبل عينيه .... منبع ضحكاته و آلامه ...
و من مدى تضخم مكانتها لديه ... كان بعده عنها !! .....
أغمض عينيه وهو يرجع رأسه للخلف هامسا
( آآه يا كرمة ......... )
و مع آخر تنهيدته ... سمع صوت جرس الباب , يفيقه من أحلامه ... فرفع رأسه عابسا وهو يتسائل عن هوية الزائر في مثل هذا الوقت ...
فقام متكاسلا الى الباب .. و ما أن فتحه حتى تسمر مكانه وهو يهتف بقلق
( كرمة ؟!!! ..... )
كانت تقف أمام الباب ... مبتسمة برقةٍ و خجل ... كملكة متوجة الجمال و البهاء ... و في احلى صور زينتها ... و ليست تلك المرآة التي خرجت من سيارته منذ عدة ساعات باكية .. صافقة الباب دون حتى أن تودعه !! ..
قالت كرمة بصوت خجول و هي تتمسك بحقيبتها الرفيعة الأنيقة
( هل عطلتك عن شيء هام ؟!! ...... آسفة لأنني جئت دون موعد .... )
مال حاتم الى الأمام ليمد يده و يقبض على معصمها يجرها اليه و يغلق الباب بعنف .. ثم استدار اليها قائلا بقلق
( هل أنت بخير ؟!! ..... و محمد بخير ؟!! ...... )
اتسعت ابتسامتها و هي تقول بسذاجة
( أنت حقا مبدع في التسبب بالإحباط لأنثى مكتملة الانوثة مثلي !! .... هل هذا منظر امرأة تمر بمشكلة ؟!! .... )
و كدليل على كلامها ... وضعت كفيها في خصرها و مالت بوركيها جانبا .. لتدعه يراها بكل وضوح ...
و بالفعل تراجع القلق , لتمر عيناه عليها بتفصيل شامل ...
و هي ترتدي فستان كلاسيكي انيق .. يصلح لكل المناسبات .. من صدر أسود و تنورة بيضاء تعدت طول ركبتيها .. بينما يعلوه سترة بيضاء قصيرة أنيقة ....
و شعرها كان مجموعا بفوضوية كيفما اتفق ... مما زادها جمالا و أناقة ... خاصة مع زينة وجهها البسيطة و المتقنة و التي أخفت كل أثرٍ الى تعبها و الهالات تحت عينيها ...
رفع عينيه المتوهجتين الى عينيها ببطىء شديد بعد أن كان أشعل بها ارتجافا مذهلا .... ثم مضت عدة لحظات قبل أن يقول بهدوء صارم
( ماذا تفعلين هنا يا كرمة ؟!! ........... )
قالت كرمة بابتسامة جميلة
( حسنا أنت فعلا محبط ..... لكنني سأتغاضى عن ذلك , .... هل ستدعني أتكلم من عند الباب ؟!! .... )
نظر اليها قليلا ... ثم زفر وهو يمد يده قائلا
( تفضلي ......... )
ابتسمت بانتصار و هي تتقدمه ... واعية الى نظراته لها ... متمنية أن يكون مأسورا بها ...
تلفتت يمينا و يسارا بقلب يرجف .. ثم قالت مبتسمة بتهذيب
( شقتك جميلة ......... )
زفر مجددا وهو يقودها الى الأريكة البائسة التي كان مرتميا عليها منذ لحظات وهو يقول متيرما بخفوت
( نعم ............ )
أمسك بكتفيها ليدفعها حتى سقطت جالسة عليها أو بمعنى أصح مرتمية على جانبها ... فرفعت وجهها بغضب و هي تستقيم في جلستها دافعة خصلات شعرها خلف أذنيها ..
( ماذا !!!!!! ....... لما لا تركلني أفضل !!!..... )
وضع كفيه في على وركيه بتحفز دون أن يجلس قبالها ... بل ظل واقفا أمامها كالباب وهو يقول بجفاء
( توقفي عن حركات الأطفال تلك يا كرمة ..... )
ابتسمت برقةٍ و طفولية و هي تضع ساقا فوق أخرى فانحسر فستانها عن ركبتيها أمام عينيه الغاضبتين .. ثم قالت ببراءة ووله
( انت السبب ..... أنت من دللتني ..... )
توهجت عيناه للحظة ... قبل أن يبعد وجهه يزفر مجددا بقوةٍ ... ثم قال بقوةٍ
( هلا توقفتِ عن العبث يا كرمة و أخبرتني عن السبب الذي جعلك تنزلين في هذا الوقت دون اذن مني ؟!! .... )
ظلت تنظر اليه ببلادة ... ثم فتحت ذراعيها تقول بنبرة من يكلم غبيا
( هاااي ... أنا هنا عندك !! .... هل آخذ الاذن لآتي اليك ؟!!! ...... )
هتف حاتم بحنق
( نعم ..... و تأخذين الاذن للنزول لشراء كيس ملح أيضا ...... )
افترت شفتيها عن ابتسامة رقيقة و هي تقول بدلال
( يسلم لي الخشن .... حار الدماء ..... )
رفع عينيه الى السماء وهو يزفر مجددا ..... فقال من بين أسنانه غاضبا و أعصابه تتلاعب به , فقلد جاءت في أكثر أيامه ضعفا ... و شوقا ....
( كرمة ............)
الا أنها قاطعته تقول ببساطة و تهذيب
( هلا أعددت لي ما أشربه من فضلك ..... أم أنك ستنزلني من هنا جائعة ... ظمآنة ..... )
همست الكلمة الأخيرة بطريقة ذات مغزى .... و عيناها تلمعان , فلعن ذلك الشوق الذي يتلاعب به و يجعله كمجرد مراهق أحمق ... و لكي يقطع عليها الطريق ....
قال بخشونة مبالغ بها
( سأذهب لأحضار شيئا .... ثم لنا حديث طويل معا ... ,)
اتسعت ابتسامتها و قابلت لهجته الفظة ... بأخرى رقيقة تذيب الحجر
(معك للصباح .....كلي آذان مصغية )
زفر مجددا وهو يرمقها بحنق ... ثم اتجه الى المطبخ , لكنه ما أن تحرك عدة خطوات حتى استدار اليها يقول بصرامة
( ابقي مكانك ...... و لا تتحركي ..... )
رمشت بعينيها ببراءة و هي تقول
( سألتزم بأدب الزيارة ..... كن مطمئنا ..... )
زفر مجددا وهو يدخل المطبخ ... و أخذ يطرق الأكواب بنفاذ صبر , .. بينما صدره يموج بالشوق لها و للجلوس معها .... و الإمساك بيدها ... ضمها الى أحضانه ليخبرها مجددا أنه لا يعاقبها ...
و أنه آسف كونه سبب لها الألم .... لكنه في الواقع يتألم أكثر .... وهو يشعر بأنه لم يملكها من الأساس كي يخسرها ....
الا أن تفانيها في ارضائه خلال الشهرين الماضيين ... كان مضنيا ....
لقد تحملت منه الكثير و لم تنتهز الفرصة للهرب كما توقع ....
زفر للمرة الثالثة وهو يقلب القهوة السريعة في كوبيهما ... شارد الذهن , مثقل القلب ....
لم ينتبه للحركة من خلفه ... الا حين التفت ذراعيها حول خصره ... و شعر بجسدها دافئا يتنعم بقوة ظهره ...
انتفض حاتم من مكانه و هو يطبق على ذراعيها ليبعدهما و يستدير اليها ناويا أن يكون فظا ...
الا أن الكلمات تسمرت بفمه و اتسعت عيناه وهو يراها و قد بدلت ملابسها ... أو بمعنى أصح قد خلعتهم وفقا لذلك الشىء الصغير الذي ترتديه الآن ,و الذي لا يخفي ذرة من جمالها أمام عينيه المذهولتين ...
و قد أطلقت شعرها على ظهرها بأمواجه المتراقصة ....
و عيناها تنطقان برسالة من المستحيل أن يخطئها ... و لم يستطع سوى أن يهمس باختناق
( كرمة !! ...... ماللذي ؟!! ..... )
الا انها ارتفعت على أطراف أصابعها فوق أرض المطبخ الباردة .... لتحيط عنقه بذراعيها و هي تهمس بحب أمام شفتيه
( أنا لك الليلة ..... و دع الغد للغد ........ الليلة احتفالي بمرور عام منذ رأيتك لأول مرة سيكون خاصا بيننا .. و لن يشاركنا به أحد .....)
االتوى فكه وهو يحاول جاهدا أن يتملص منها قبل أن تنهار ارادته .. و قال بخشونة
( أشك في أنكِ تتذكرين تفاصيله من الأساس ..... )
تاهت عيناها بعينيه و رفضت أن تحرره من بين ذراعيها الناعمتين المحيطتان بعنقه بدفىء غريب ... فهمست في أذنه
( أتذكر أنه بعد عام .... أصبح هذا الرجل زوجي ... و حياتي كلها ... )
قال حاتم بصرامة واهية وهو يحاول ابعادها متنهدا
( لا تفعلي ذلك يا كرمة .... ارتدي ملابسك قبل أن ..... )
الا أنها ازدادت اقترابا و هي تهمس بدلال متنهد ...
( قبل أن ... ماذاااااااا ...؟!!! ...... )
هتف بخشونة و غضب
( قبل أن ............)
الا ان الكلام فقد معناه حين أعلن قلبه و عقله و جسده الحرب ضد ارادته ... فقطع كلامه وهو يهجم عليها كطائر جارح يروي شوقا مؤلما ... ينهل من شهد شفتيها وهو يقتنصها بين ذراعيه بقوة حتى ارتفعت عن الأرض بينما هي تقابل شوقه بشوق ... مرحبة بكل عنفه العاطفي .. تحاول أن تعطيه المزيد ... و هي غير مصدقة لنجاحها أخيرا !!! ... كانت تريد الصراخ بكل قوة الفرح بداخلها في تلك اللحظة ...
و دون أن تشعر وجدت نفسها ترتفع ليجلسها على طاولة المطبخ وهو يكاد أن يفقد سيطرته على كل بقايا عقله الشارد ...
و جدت نفسها تندفع للخلف بقوة ضارية ...بينما لا تسمع سوى انفاسه الهادرة و اسمها يصدر بهمس أجش مجنون من بين شفتيه المهاجمتين ....
الا انها تمكنت من الهمس في أذنه متحررة من سيطرة شفتيه في لحظة خاطفة ..
( ألن تريني غرفتك ؟!!! ..... ولندع رؤية باقي البيت لما بعد .... )
أصدر زمجرة من حلقه وهو يئن دون أن يتركها ولو للحظة ... و حين تمكن من النطق همس موافقا على كلامها بنفاذ صبر ..
( فيما بعد ....... )
الا أنها تمسكت بعنقه و هي تلهث مغمضة عينيها ... تضحك برقةٍ غير مصدقة
( الآن يا حاتم أرجووك ..... دعنا نذهب الى غرفتك ... مكان يخصك .... أرجووك ... )
كان كل رجاء منها يلهكه ... خاصة وهو يصدر بمثل ذلك الهمس اليائس المبتسم من بين شفتيها المتوسلتين ...
فما كان منه الا أن استقام وهو يسحب ذراعيها معه بقوةٍ حتى حملها بين ذراعيه و هي تطير فوق السحاب ضاحكة ...
ترى تعاقب الإضائات أمام عينيها الضاحكتين .. و شعرها يطير من أمامهما الى أن وجدت نفسها تدخل غرفة بسيطة .. و شديدة الأناقة ... الا أنها لم تجد الفرصة لتتفقدها ...
فقد أسقطها على السرير بقوة .. و لم ترى أمامها سوى عينيه .... و كم ودت لو تصرخ من فوق أعلى جبل في العالم و هي تلمح تلك النظرة بهما ... قبل أن يسقط اليها !! ...
بعد وقت طويل ... كانت كرمة مستلقية على ذراعه و هي تتطلع الى سقف الغرفة ... تشعر أنها تطفو فوق غيامة وردية ... ...
ارتجف قلبها كطائر صغير و هي تشعر بأصابعه تداعب خصلة شعر متهدلة على وجهها ... و صوته يقول بخفوت أجش
( هل أنت بخير ؟!! ......... )
لم تجد القدرة على الرد فورا .... بل تنهدت تنهيدة حارة و هي تبتسم بشرود ... ثم همست بصوت لا يكاد أن يسمع
( بألف خير ........ )
كانت أصابعه تتجول على وجهها و هو يراقبها بصمت ... بينما كانت هي مغمضة عينيها .. مبتسمة للأبد ... الا أنه قال بخفوت مجددا
( ما الذي جعلك تفعلين ذلك ؟!! ...... )
هزت رأسها قليلا دون أن تفتح عينيها ... ثم رفعت أصابعها الرقيقة ببطىء .. تتلمس وجهه الى أن وجدت شفتيه ... فغطتهما بأصابعها و هي تهمس مغمضة
( هشششش ...... دع الحديث لما بعد , ... أرجووك ... )
ها هي تنطق كلمة السر التي تعرف أنها تثير كيانه كله ... ذلك الرجاء الخبيث الهامس ...
تتلاعب به و تعرف أنها تنجح تدريجيا و بنفسٍ طويل ......
لذا همس أخيرا بخفوت ..
( سأحضر لكِ شيئا تشربينه ...... أم هل أنتِ جائعة ؟!! .... )
ضحكت برقة دون أن تفتح عينيها بعد ... ثم همست برقة
( كوب حليب بالشوكولا سيفي بالغرض ........ )
ابتسم برقة وهو يتأمل ملامحها الهادئة المستكينة ... ثم قال أخيرا بهدوء
( و كأنني أحتفظ به من أجلك .... على الرغم من أنني لا اشربه , انتظري هنا ...... )
نهض من السرير ... و بقت هي صامتة مغمضة عينيها تبتسم .. و هي تسمع حفيف ملابسه ...
و قبل أن يخرج استدار يتأملها مرة أخرى قبل أن يقول بهدوء
( ابقي مكانك و لا تتجولي في المكان ....... )
ضحكت عاليا هذه المرة .. ثم قالت دون أن تجد القدرة على النظر اليه من شدة الخجل ..
( سألتزم بأدب الزيارة ............ اطمئن .... )
الا أنه مط شفتيه ليقول بجفاء
( أنتِ انعدام الأدب نفسه يا كرمة ........... )
عادت لتضحك باختناق و قد تحول وجهها الى لون قاني غير قادرة على معايشة الصدمة المتأخرة من شدة الخجل ... بينما ظل هو واقفا مكانه يراقب وجهها شديد الإحمرار و عينيها المغمضتين الغير قادرتين على النظر اليه حتى تلك اللحظة ...
رمش بعينيه ثم استدار ليذهب صامتا .... و بعد دقائق محدودة كان قد اعد مشروب الحليب بالشوكولا
لكن ما أن وطأت قدميه من باب الغرفة وهو يحمل الكوب ... شيئا ما جعله يقف مكانه ...
شيء بارد انزلق على طول عموده الفقري ....
كانت كرمة لا تزال بنفس الوضع الذي تركها به .... حتى أن عينيها كانتا لا تزال مغمضتين ...
لاشىء يثير الفضول لأي انسان آخر .... لكن ليس هو ...
فهو يعرفها حق المعرفة .... يحفظ سكناتها و كل تفاصيلها بكل المواقف ...
كان حفظ ردات فعلها المختلفة هو شاغله و هوايته الكبرى ....
و الآن وهو يقف لينظر اليها ... مستلقية تحت الغطاء مغمضة عينيها .. و رافعة ساقيها قليلا ... بينما يدها تقبع على معدتها باسترخاء .....
شيء ما .. جعله يعقد حاجبيه وهو يراقبها طويلا ....
كانت ملامحه جامدة و كأنه تحول الى تمثال ... و من يراهما لن يفهم أبدا سبب تبدله ...
لن يفهمه سوى من يحفظ كل تفاصيل كرمة و كل انطباعات وجهها و حركات يديها !! ....
اقترب بهدوء أخيرا .... الى أن وضع الكوب فوق الطاولة الجانبية للسرير ... فسمعتها كرمة ,و قالت مبتسمة برقة و خجل
( أشتقت دلالك لي ........ )
لم يرد حاتم .... بل أمسك بهاتفه الموجود بجوار الكوب و رفعه كي ينظر الى تاريخ اليوم .... على الرغم من أنه يسجل التاريخ أثناء العمل حوالي عشر مرات على الأقل ...
رفع وجهه وهو يجلس بجوارها على حافة السرير يوليها ظهره ....
و حين طال الصمت و لم يرد عليها ... فتحت كرمة عينيها أخيرا تبحث عنه , ففوجئت به يجلس بناحيته من السرير و يوليها ظهره ....
خفتت ابتسامتها قليلا ... فقالت بخفوت و قلق
( ماذا بك يا حاتم ؟!! .... لماذا تجلس صامتا بهذا الشكل ؟!! .... )
حين لم يرد ... تضاعف قلقها مئات المرات ... فرفعت نفسها تلمس ظهره وهي تهمس بخوف
( حاتم !! ....... )
الا أنها لاحظت تصلب ظهره تحت لمستها ... فاستقامت تجلس أكثر و هي تعقد حاجبيها بينما شفتيها ترتعشان من القلق ... فهمست
( ماذا بعد ؟!! ....... لماذا عدت لجفائك مجددا ؟!! .... قلبي لم يعد يتحمل تلك المعاملة يا حاتم بالله عليك !! ... )
التفت حاتم اليها أخيرا ببطىء ... الا أن قلبها وقع بين قدميها و هي ترى تعبي وجهه الجامد .. المعتم ...
هزت رأسها قليلا و كأنها تسأله عما به ... و أنها لا تفهم ما أصابه... الا انها لم تجد صوتها لتنطق به من شدة قلقها ....
ظل حاتم يرمقها طويلا ... بتلك الطريقة التي تخترق أعماقها دون حنانه الذي تعرفه ... ثم قال أخيرا بصوت هاديء ... مباشر ... لا يحمل أي تعبير أو ذرة من العاطفة ... بل كان فعلا كمدير مصرف يقرر أمرا واقعا
( هل جئتِ الى هنا كي تحملي طفلا ؟!! ...... )
اتسعت عيناها و فغرت شفتيها فجأة .... و ساد صمت مخيف بينهما وهما ينظران الى عيني بعضهما ...
حاولت أن تفيق من الصدمة .... أن تنطق .... أن تهز رأسها نفيا ..... الا أنها لم تستطع سوى النطق باختناق
( ما !! .......... )
صمتت غير قادرة على المزيد من النطق بينما كانت حنجرتها تتلوى و تتشنج ....
و حاتم يراقب كل انفعالاتها ....... فاستدار قليلا حتى بات مواجها لها ... و مد يده يحيط بذقنها يرفع وجهها اليه .. ثم قال بهدوء وهو ينظر الى عينيها مكررا .... مشددا على كل كلمة
( هل جئت الى هنا ..... من أجل ... الحمل ؟!! ..... )
ظلت تنظر الى عينيه ... غير قادرة على الرد , فقط لو تستطيع أن تهز رأسها نفيا .... لو تمكنت من ان تهز رأسها نفيا ....
لو نطق لسانها بكلمة واحدة من حرفين فقط .. لأنقذت نفسها ....
لكنها لم تستطع ... بل ظلت ساكنة ترتجف مكانها و قد فطت عينيها طبقة شفافة من دمعتين عاجزتين ...
ترك ذقنها ليقوم فجأة مندفعا وهو يهتف بغضب
( تبا لذلك ......... )
تحرك مبتعدا وهو يهدر
( تبا ...... تبا ....... كان يجب أن أعلم ...... )
هتفت كرمة من خلفه بعجز و ألم و قد انسابت الدمعتين
( حاتم ....... ما الخطأ في ذلك ؟!! ..... أرجووك ... )
الا انه التفت اليها بجنون وهو يهتف
( اخرسي يا كرمة ..... اخرسي ...... لا اريد سماع صوتك الآن .... )
شعرت و كأنه قد لكمها في معدتها ... فتبعت الدمعتين .. دمعتان أخرتان ...
وقف مكانه يتند الى الجدار بكفه ... مطرق الرأسه , يتنفس بسرعة قليلا و كأنه يحاول تهدئة غضبه الغير مبرر ....
بلى اللعنة !!! مبرر و مبرر .. و مبرر !!! ....
زفر أخيرا باختناق .. ثم رفع رأسه ليقول بلا تعبير ...
( نامي الآن ...... و غدا صباحا سأقلك الى البيت كي تبدلي ملابسك للعمل .... )
و دون حتى أن يهتم بدموعها الصامتة .... كان قد خرج مغلقا الباب خلفه بهدوء
كان حاتم واقفا ينظر الى الظلام المحيط به من النافذة ... دون أن يرى أنوار المدينة ... بل كان يرى الظلام فقط لا غير .... بداخله شيء , لم يتفهمه سواه ... شيء مر الطعم ....
لكنه استدار فجأة وهو يسمع صوت كعبي حذائيها و هما يضربان الارض بقوة ...
ليجدها أمامه بكامل ملابسها بينما شعرها يثور من حولها .... أما وجهها فكان محمرا منتفخا ... مغرقا بالدموع ....
و ما أن فتح فمه مصدوما .... حتى صرخت بقوة و بنشيج غاضب مختنق في وجهه
( كنت أريد الحمل لأجبرك على التمسك بي أيها الاحمق ........ أردت أسرك و تقييدك بي .... و ليس لأي شيء آخر .....أنزلت من قدر نفسي كي لا أفقدك .... لكنك أحمق و أعمى ... و أنا لا اريدك بعد الآن ... )
هتف فجأة
( كرمة !! .......... )
الا أنها كانت تندفع الى الباب و هي تبكي بعنف ... لكن و قبل أن تخرج استدارت اليه لتصرخ بقوة
( احتفظ بشقتك البائسة لنفسك ...... لأنني لن أبيت بها , فالنوم تحت سقف انسان يتطلب الثقة أولا ... )
عادت لتندفع الى الخارج و قبل أن تصفق الباب ... نظرت اليه وصرخت
( و أياك أن تتبعني و الا قسما بالله سأرمي نفسي تحت اطارات أقرب سيارة .... )
صمتت قليلا تنشج أمام عينيه المصدومتين ... ثم قالت بيأس و الدموع تندفع من عينيها دون توقف
( لم أعد في حاجة اليك كسائق بعد الآن ......احتفظ بشهاتك لنفسك )
ثم صفقت الباب بقوة و بقى هو متسمرا ... مذهول العينين ... و لأول مرة عاجزا عن ايجاد الرد المناسب ...
.................................................. .................................................. ......................
ينظر من نافذة مكتبه بصمت .... و بصدره شعور كئيب منذ أن تركته ليلة أمس ...
فما ان تمكن من الإفاقة من صدمته ... و ارتداء شيئا ما مناسبا .... حتى كانت قد اختفت تماما ....
و عرف من أمينة فيما بعد أنها قد عادت و أغلقت باب غرفتها عليها و من وقتها و هي تبكي ....
و اليوم لم تأتي الى العمل !! .....
من حقها أن تتجنب رؤيته بعد ما فعله ليلة أمس وهو يعاملها كفتاة هوى .... و ليست كزوجته !!
لكنه كان متألما بدرجة لن يفهمها الا أن من يشعر بنفس شعوره لحظتها !! ... لم يستطع السيطرة على ملامح شعوره بالخيبة !! ....
رفع أصابعه يغرسها بخصلات شعره وهو يتنهد بتعب ....
كانت ليلة من الأحلام أشبع بها كيانه المفعم بحبها ..... لكنها انتهت بشكل مأسوي ...
سمع رنين هاتفه فجأة فأخرجه ينظر اليه بتثاقل و عدم رغبة في الرد ....
لكنه ما أن رأى اسم أمينة حتى ساوره القلق بشدة .... فهل تكون كرمة قد مرضت أو آذت نفسها !!!
أمينة لا تهاتفه في العمل الا للضرورة القصوى ....
رد عليها مسرعا و قلبه ينبض بخوف مفاجىء قوي ....
الا أنها قالت بتلجلج .....
( اسمع يا ولد .... دون أي مقدمات أو مبررات ... و دون أن تضيع الوقت في ثورات غضبك البهائمية .... علياء تعاني من نزف شديد ... و هي في حاجة للنقل الى الشفى حالا و أنا وحدي هنا .... )
للحظة الأولى هتف حاتم و قد توقف قلبه برعب
( ماذا بها كرمة !!! ..... أي نزيف ؟!!! ..... ياللهي !! ,.... )
سمع صوتها تحتسب عند الله و تزفر بنفاذ صبر ... ثم قالت بعصبية
( من جاء بذكر كرمتك النفيسة !! ....... أقول علياااااااااااء .... )
كان يلهث مكانه قليلا عاقدا حاجبيه .... ثم قال بعدم فقهم
( من علياء ؟!! ....... )
زمت أمينة شفتيها و هي تقول بدخلها
" ها قد أتت لحظة انطلاق الثور من عقاله ..... فلأرمها بوجهه و ينتهي الأمر ... "
قالت أمينة بخشونة مرة واحدة
( زوجة المعدول ..... طليق المعدولة .... )
اتسعت عينا حاتم وهو يستوعب أخيرا بما نطقت به امينة .... و استمر تشنجه عدة لحظات قبل أن تبرق عيناه بغضب بطيء ... كفحيح الأفعى وهو يقول من بين أسنانه
( هل تريدين أن تفهميني ...... انك تذهبين لمساعدتها ؟!!! ..... دون علمي ؟!!! ..... مجددا دون علمي !!!!)
صرخت أمينة فجأة بمبدأ " اصدموهم بالصوت قبل أن يهزمونكم .. "
( اسمع يا ولد ..... انا لست زوجتك خائبة الرجا كي أمتثل لأوامرك !!! .... لقد كنت أغسل لك ملابسك الداخلية و أنت شاب صغير ... و الآن تريدني أن آخذ منك الإذن حين أفعل شيئا ؟!!!! .... احترم نفسك يا ولد !! .... )
اتسعت عينا حاتم ... ثم قال بخفوت
( كنت أتسائل فقط يا مينة !! ........ )
هتفت بصرامة و قوة
( و لا حتى تتسائل ......... ثم أنك ستظل تتسائل بغباء الى أن تنزف المسكينة حتى الموت ... )
زفر حاتم بقوة وهو يحك شعره .. ثم قال بلهجة حازمة
( حسنا ..... حسنا .... اهدئي قليلا و دعيني أفهم الموضوع )
زفرت أمينة بقوة و هي تقول
( يا صبر أيوب !! ..... يا ولد افهم .... الفتاة وضعها حرج و قد اتصلت بزوجتك الا انها أغلقت هاتفها ... و تذكرت أنها اليوم ستحضر مباراة محمد ..... و أنا هنا وحدي .... و لا أعرف أحد في المنطقة كي يقلنا الى المشفى .... الا لو نزلت و سألت في الشارع الآن .... عل أهل الحي يساعدونني ... لكن أشك أن نجد سيارة أجرة بسهولة ... )
رمش حاتم بعينيه وهو يقول بايجاز
( حسنا سأتي اليك حالا ............ )
هتفت أمينة بسرعة قبل أن يغلق الخط
( انتظر ...... هل تعرف العنوان ؟!! ...... )
التوت شفتي حاتم بسخرية مريرة وهو يقول
( بالطبع .......... )
ثم أغلق الهاتف وهو يتابع هامسا من بين أسنانه باستهزاء مكبوت
( و هل هناك ما لم أعد أعرفه عن تلك الأسرة !!! ....... )
.................................................. .................................................. ....................
خلال وقت قصير كانت أمينة تفتح الباب و هي تقول متنهدة براحة
( الحمد لله أن بقايا من الضمير لا تزال قابعة بداخلك .... خشيت أن تلتزم الغباء حتى آخر لحظة )
مط حاتم شفتيه وهو يقول
( عيب على من كانت تغسل لي ملابسي الداخلية أن تشك بضميري ....... كيف هي الآن ؟.... )
ردت أمينة بحسرة
( المسكينة ....أعتقد أنها تخسر الطفل رغم كل حرصنا ... لقد ألبستها عبائتها .. لكنها لا تستطيع السير .... )
قال حاتم بخفوت
( اسبقيني الى غرفتها و أنا سأساعدها ...... )
دخلت أمينة أمامه ... بينما كان حاتم ينظر الى البيت البسيط المتهالك بصمت ... هل هذا البيت الذي كانت كرمة تحيا به ؟!! ..... هل هذا هو المكان الذي عشقت صاحبه ؟!!! ... حتى بعد أن علت مكانتها و حققت الكثير من أحلامها ....
كان يعرف أنه حين تزوجها بأنه قد عثر على كنزٍ لا يقدر بمال ..... لكن تظل المشاعر الهوجاء ضريرة .. تحتاج الى معين كي تعبر الى البر المقابل ....
دخل حاتم الى غرفة نوم .... كان يعرف جيدا انها غرفة نوم كرمة السابقة ... فابتلع بداخله شعورا رجوليا خانقا .... و حاول ان يتجنب النظر الى أجزائها القديمة المستهلكة ....
نظر الى الفتاة النحيفة الشبه مستلقية على الفراش تبكي بصمت ... بينما كانت ترتدي عباءة سوداء ووشاحها على شعرها ... ذكره بمنظر كرمة حين وجدها بعد أن بحث عنها وهو مكسور الأضلع ....
حين نظرت اليه علياء ... شهقت برعب وهي ترفع يدها الى وشاحهها هاتفة
( من أنت ؟!! ....... )
اقترب حاتم و أمينة معه و التي قالت بهدوء
( انه زوج كرمة ...... سيقلنا للمشفى لا تخافي .... )
كانت علياء تحاول أن تعدل من وشاحها و هي تشعر بالخوف ثم قالت بارتباك و قلق رغم اعيائها الواضح
( سيغضب محمد بشدة ..... أرجوك غادر مشكورا .... )
زم حاتم شفتيه ... وود لو يخنق محمد هذا و يريح العالم من وجوده ... و يريح نفسه أولا ...
الا أنه تماسك و قال بهدوء و بطىء
( لا بأس سأغادر .... لكن هل لكِ أقارب نستطيع أن نحضرهم لمساعدتك ؟؟ .... )
همست علياء و هي تشعر بأنها تغيب عن الوعي ...
( ليس لي سوى جدتى .... و هي لا تتحرك .... )
قال حاتم بخفوت
( اذن لن نستطيع تركك بهذا الشكل ...... يمكننا النزول و طلب العون من احد رجال الحي ان كان هذا سيريحك , لكنني لا أرى فارق .... )
لم تستطع علياء الرد و الدوار يشتد بها .... فساندتها أمينة بين ذراعيها و هي تقول بقلق
( إنها تغيب عن الوعي ........ )
تقدم حاتم يمسك بها ... ثم حملها بين ذراعيه و خرج من البيت امام اعين المارة ... حتى أجلسها على المقعد الخلفي ... و جلست أمينة بجوارها ... و انطلق بسيارته دون الحاجة لتبرير أي شيء لأي من يتسائل ....
.................................................. .................................................. ..................
جلس حاتم و أمينة على كرسيين في ممر المشفى ... و هما ينتظران ما سيقوله الطبيب ....
و كان حاتم مائلا للأمام ... شاردا تماما ... و كأنه في عالم آخر غير العالم ....
لكن وقع أقدام رجولية قادمة من البعيد ... جعلته فجأة يرفع رأسه وهو يشعر بأن شيء ما يقبض على قلبه ...
تسمر مكانه فجأة وهو يرى الرجل القادم من البعيد .... كانت لحيته هي الشيء الجديد عليه ...
الا ان حاتم استقام وهو يلا يخطئه أبدا ....
اقترب محمد ببطىء و تثاقل .... حتى وقف أمام حاتم الذي وقف يواجهه بالفعل .... و في عين كل منهما نظرة كره لآخر ....
كان محمد هو أول من تكلم .... بصوتٍ متعب و كأنه قد كبر في السن سنواتٍ عديدة ...
( ماذا تفعل هنا ؟!! ..... هل أنت مسلط على حياتي ؟!! ..... )
لم تتحرك عضلة في جسد حاتم .... بل ظل ينظر الى محمد طويلا من أعلى رأسه و حتى أخمص قدميه ...
ثم قال بهدوء
( من الواضح أنك أعطيت رقمك الى أحد رجال الحي للطوارىء قبل أن تختفي بشهامة .... بينما تركت أسرتك تعاني وحدها .... أما أنا و زوجتى لم نستطع تركها , .... أنا لن أجادلك و لن أحاول النفخ في مزمار مكسور ..... فقد طلبت منك ذات يوم نفس الطلب ... و أنت سبقتني و طلبته قبلها .... يبدو أنها دوائر تصر على أن تجمعنا معنا الى أن تهذبنا الأيام و تجعلنا نقدر قيمة ما نملكه بين أيدينا ..... )
كانت عينا محمد متعبتين ... متألمتين ... الغضب بهما أصبح شبحا عجوزا يوشك على الموت محتضرا ...
لكن حاتم قال متابعا بهدوء
( يمكنك الصراخ .. و يمكنك البدء بالتشابك بالأيدي و سأكون أكثر من مسرورا .... لكن قبل هذا ادخل الى زوجتك و أشعرها ولو لحظة انها انسانة .... و أنا على استعداد تام لانتظارك كي نتشابك معا لو أحببت .... تلك المخلوقة الهزيلة تحتاج الى رعاية ...... )
همس محمد من بين شفتيه باجهاد
( كيف تجرؤ ؟!! ......... )
قال حاتم مقاطعا بكل هدوء
( ستكون بخير ...... لكن هناك تعليمات مشددة من الطبيب يحتاج الى أن يناقشها مع زوجها بعد أن ينتهي ....... )
صمت محمد و عيناه تنظران الى الباب المغلق خلفه .... بينما قال حاتم بخفوت
( و الطفل سيكون بخير أيضا ....... )
انتفض محمد ينظر اليه دون رد ... و بادله حاتم النظر بصمت ... ثم قال أخيرا بهدوء
( بالمناسبة ..... حين حاولت مساعدتها ... كانت تهتف و هي تعدل من وشاحها حول شعرها بأن هذا سيغضبك .... و طردتني بتهذيب ... شيء لم تفعله زوجتي حين جائت لزيارتك و أنت مريض .....
هنيئا لك بها .... و باخلاصها .... )
و دون كلمة واحدة قال بصرامة
( هيا يا أمينة ........... )
ثم تجاوزه ليبتعد .... و ما أن مرت أمينة بمحمد حتى رمقته مزدرية وهي تقول
( خيبة عليك !!..... طول و عرض و احتار منك دود الأرض ...... )
ثم تركته و لحقت حاتم مسرعة قبل أن يتهور ذلك المجنون و يطرقها بضربة مفاجئة ....
بينما وقف محمد ينظر الى الباب المغلق .... شفتيه تحاولان الابتسام دون القدرة على ذلك ...
كم شهر مر على حملها ؟!! ..... و كم شهر متبقي ؟!!! ....
لكن هل يملك الجرأة على الدخول لها ؟!!! ......
.................................................. .................................................. ....................
قفزت كرمة من مكانها على مدرجات الملعب و هي ترفع قبضتها صارخة بقوة
( محمد ...... محمد ..... هيا .... هيا ...... محمد ,......... )
و كان هو ينظر اليها خلال اللعب ليشير بيديه بما معناه
" اجلسي .... فضحتينا ... "
الا انها لم تستطع أن تتمالك نفسها ... وكلما جلست تراقبه بعينيها المتورمتين من شدة بكاء ليلة أمس ... و تجده يلعب بمهارة ... حتى تقفز صارخة مبتسمة باسمه ... و ذيل حصانها الطويل يتراقص من خلفها ...
جلست تتابع المبارة بشرود .... بينما كان هناك أحد اولياء الأمور يجلس في المقعد المجاور لها ...
يراقب قفزتها كل حين و عيناه تمران على انحنائاتها الجذابة و هي تقفز ليتطاير شعرها ....
و في احدى المرات ... و بعد أن جلست , اقترب منها قليلا ليقول مبتسما
( مرحبا ......... )
التفتت اليه متفاجئة ... ثم قالت بتردد و توجس
( مرحبا ....... نعم ؟!! ....... )
قال الرجل مبتسما
( هل أنت والدة محمد ؟!! ..... )
ظلت كرمة تنظر اليه بصمت قليلا .... ثم قالت ببلادة
( نعم .......... )
قال الرجل مبتسما
( آه تشرفنا ....... أعرف أن والديه منفصلين , لذا لم نتشرف بمقابلتك من قبل .... )
رفعت حاجبيها فجأة .... انه يظنها مطلقة !! ... و كرجل شرقي أصيل يجب أن يمر من أمامها عله ينال من الحب جانب !! .....
أخذت نفسا عميقا و هي تقول
( لا أنت لا تفهم .... أنا ..... )
الا أن صوت رجولي صارم هدر بجوارهما يقول
( ابتعد ............. )
انتفضت كرمة مكانها و التفت رأسها كرصاصة طائشة و هي ترى حاتم واقفا خلف الرجل و ملامحه مبلدة بالغيوم ....
رفع الرجل وجهه الى حاتم و ارتبك بوضوح بين نيته الغير سليمة ... و قال متوترا
( آآه سيد حاتم ...... مرحبا ... )
الا أن حاتم قاطعه مجددا صارما
( هلا أجلستني مكانك لأتمكن من الجلوسك بجوار زوجتي !! ..... المكان خالي امامك ... لم تضيق الدنيا كي تجلس هنا ..... )
شهقت كرمة و هي ترفع يدها الى فمها من فظاظة حاتم .... الا ان الرجل تنحنح و قام مسرعا و هذا يدل على محاولته الغريبة الأطوار و التي لم يكتب لها النجاح .....
و ما ان ابتعد حتى جلس حاتم بجوارها ... ملاصقا لها ... وهو ينظر الى محمد ليلوح له و يخبره أنه هنا ...
بينما كانت كرمة تجلس مكانها ... متسعة العينين ... تنظر أمامها بوجل و ارتباك , تود لو أن الأرض تنشق و تبتلعها ... بعد تصرف ليلة أمس و ردة فعل حاتم عليه ....
لقد أوشك على أن يطلب لها شرطة الآداب ......
لم تتعرض في حياتها لإهانة مثل تلك !! .... و الان لا تستطيع حتى النظر اليه ....
حسنا .... ستتجاهله تماما , و ليكن غير موجود مطلقا .....
رفعت ذقنها و هي تتجاهله بالفعل .... لكن و ما أن أحرز محمد هدفا ... حتى قفزت واقفة مكانها و هي تصرخ
( محمد ....... محمد .... هدف هدف هدف هدف ...... يا محمد يا هازمهم ... يا محمد يا قاهرهم .... ووووووووووووووووووه ...... )
وقف محمد مكانه وهو يشير الى حاتم أن يجلسها ... بينما كان حاتم ينظر اليها مذهولا ...
ثم مد يده يقبض على ذراعها و يسقطها جالسة ليقول بغضب
( ماذا تفعلين ؟!!! ...... لما لا تنزلين الملعب و ترقصين أيضا !!! ..... )
جذبت ذراعها من يده و هي تنظر أمامها ... تدلك ذراعيها دون أن تنظر اليه ... غير قادرة على مواجهته بعد .... فزفر بقوة و قال بصرامة
( اياك و الفقز هكذا مجددا أمام الناس ..... جعلت من يسوى و من لا يسوى ينظر اليك نظرة حقيرة ... )
ظلت ناظرة تشعر بالألم من فظاظته دون أن تنظر اليه .... لكن لسانها الغبي قال بقنوط
( تزوجت من منحرفة ..... نصيبك ... )
التفت اليها و همس بصوت خافت
( اخرسي يا كرمة ....... )
خرست بالفعل ... و هي تشعر بالخزي يملأها ... و ساد الصمت بينهما وهما يراقبان المباراة ... الى أن قال حاتم ناظرا أمامه
( لماذا تغيبتِ عن العمل اليوم دون اذن ؟!! ...... )
التفتت اليه مذهولة غير مصدقة لما يقوله .... و ما أن وجدت صوتها حتى قالت بصدمة
( حقا !!! ...... و أنت ماذا تفعل هنا اذن ؟!! ..... )
قال حاتم ببساطة ناظرا أمامه
( أنا حضرت العمل منذ الصباح .... لا أن آخذ اليوم كله كعطلة بسبب المباراة !! ... حجج تافهة ... )
ظلت تنظر اليه مذهولة ....
" هل ضربه أحد على رأسه ففقد الذاكرة و نسي ليلة أمس ؟!! "
يا رب أن يكون ذلك قد حدث .... يا رب ... يا رب .... أن يكون قد أصيب بفقد ذاكرة جزيئ و ينسى كارثة ليلة أمس ...
نظرت أمامها ترتجف و هي تطرق برأسها .... و ذيل حصانها يرتاح على كتفها فبدت شهية و رياضية و جميلة ... حتى مع وجهها المتورم وعينيها المنتفختين ...
و لم تكن تدري أن حاتم يراقبها مبتسما .... و أثناء تسجيل الهدف الثاني و هتاف اولياء الأمور
اقترب حاتم من كرمة ليهمس بأذنها
( لقد نسيتِ قميص نومك بحمامي ليلة أمس ...أو أيا كان اسمه ذلك الشيء المصنوع من خيوط العنكبوت ..لكن دعيه ربما ألبستك اياه المرة القادمة بنفسي .... )
فغرت كرمة فمها على أقصى اتساع حتى سقط فكها ... و احمر وجهها بشدة .غير قادرة على التنفس ... بينما نهض حاتم من مكانه يهتف بقوة
( محمد ..... أحسنت ...... أحسنت ..... )
كانت رافعة رأسها تنظر اليه مذهولة و قلبها يخفق بعنف ....
بينما رمقها بطرف عينيه ... ليغمز لها في الخفاء .... فشهقت مرة أخرى و هي تنظر أمامها و قلبها يخفق بعنف متسائلة
" هل تحرش بي للتو ؟!!! ....... "
.................................................. .................................................. ..................
( لا بأس .... أنت بخير .... لا بأس .... )
تلك العبارة الليلة التي كانت الرابط الجسدي الوحيد بينهما خلال ساعات الليل المظلم ...
على مدى اسابيع ... أدرك أن حالتها ليست مؤقتة , انما هي شبه يومية ...
كلما مر ليلا امام غرفتها ... او تعمد المرور بمعنى اصح .... كان يسمع صوت تأوهاتها المختنقة فيدخل اليها و يوقظها كهذه اللحظة تماما ...
احيانا كانت تستيقظ مباشرة و تنظر اليه قليلا قبل أن تشكره بخفوت و تستدير الى جانبها .. و تعود للنوم
و أحيانا أخرى مثل الآن ... تصارعه بقوة قبل أن تستيقظ ...
تضربه و تلكمه و هي تصرخ و تتأوه و تختنق ... فيضمها اليه بقوةٍ الى أن تهدا و تستيقظ ...
قال مجددا بصوتٍ أقوى كي تسمعه ... بينما هي تتأوه بشدة و تتعرق بتعب
( بشرى ..... بشرى أنت بخير , لا تخافي ...... )
هتفت فجأة بقوة و الدموع تغرق عينيها
( أنااااا لست بخير ....... أنا لست بخير .... ابتعد عني .... )
تفاجأ أنها ترد عليه .... و ادرك أنه قد دخل معها في الكابوس الذي تعانيه .... فشدد عليها و استلقى يجلس بجوارها ليرفعها على حجره يضمها بقوة و يحبط مقاومتها قائلا بقوة
( بلى أنتِ بخير ..... افتحي عينيكِ و انظري ..... أنتِ هنا بغرفتك .... )
شهقت بشرى مرة و مرتين و هي ترمش بعينيها .. بينما كانت تلهث بقوةٍ الى أن فتحت عينيها أخيرا لتنظر حولها باجهاد ... لتقوم بصوتٍ ناعس
( ماذا ؟!! ......أين أنا ؟!! .... )
قال بهدوء وهو يرجع رأسه للخلف
( أنتِ بغرفتك .... بين ذراعي .... )
استغرقت عدة لحظات ... و هي ترمش بعينيها مجددا قبل أن تفيق تماما و تعي الى وجودها بين ذراعيه ... فاختلج قلبها بقوة و هي تشعر بيده تداعب فروة رأسها بينما بدا وجهه شاردا ...
أغمضت عينيها و هي تشعر بحركته تلك كالمهدىء لها بينما أوصالها لا تزال ترتجف جراء الكابوس المجهول الذي كانت تعاني منه ...
قالت بخفوت بعد فترة طويلة ..
( آسفة لأنني أوقظك من نومك كل يوم ...... لقد مللت هذا الإعتذار ... )
لم تتوقف يده عن متابعة مداعبة فروة رأسها .. بينما قال بهدوء خافت
( اذن توقفي عن الإعتذار ...... ثم أنني لم أكن نائما .... )
تنعمت بصدره الدافىء و ارتسمت ابتسامة طفولية على وجهها مخبئة بين قوة عضلاته ...
لكنها قالت بخفوت جدي
( و لماذا لست نائما حتى الآن ؟!! .......... )
لم يرد عليها ... و لم تتوقف يده , فقالت بخفوت و تردد
( لقد أربكت لك حياتك .... أليس كذلك ؟!! .... )
لم يرد على الفور .... ثم قال بإيجاز
( نعم ........... )
رده البسيط كان كالصفعة على وجهها .. و أشد قسوة من كل شجارتهما سابقا .. فقد كان صادقا .. صافيا .. محملا من القلب ...
اختفت ابتسامتها ... و رفعت يدها تتلمس صدره , فتشنجت عضلاته رغم عنه ... الا أنها قالت بخفوت
( لقد أمرتك كثيرا في بداية علاقتنا أن تبتعد عني .... لكنك لم تمتثل ... )
قال بخفوت ..
( لم أعتد الإمتثال بحياتي ..... و ها قد نلت جزائي , ربما المرة المقبلة كنت أكثر حرصا .... )
كورت شفتيها كالأطفال المتألمة ... و استلقت على صدره , تداعب صدره بأصابعها ... فرفع يده يقبض على كفها يبعدها عن صدره وهو يقول آمرا بخفوت
( نامي الآن ........ )
أغمضت عينيها و هي تحرك وجنتها على عضلات صدره عوضا عن كفها التي اعتقلها بيده ... فشعرت بأنفاسه تتسارعه .. و شفتيه تزفران بنفاذ صبر ... فقال بهدوء زائف مهتز
( توقفي يا بشرى ........ )
رفعت وجهها تنظر الى وجهه الجامد و عينيه المغمضتين ... فقالت بخفوت تئن
( ماذا بك ؟!! ..... لقد أصبحت رقيقا و طيبا معي , فاعتقدت أنك ستتناسى ماضيَ , لكنك امتنعت عن .... عن ..... عن .... )
أسبلت جفنيها و صمتت .... الا أنه فتح عينيه ينظر اليها طويلا قبل أن يقول بفتور
( امتنعت عن ماذا يا بشرى ؟ ..... تابعي .... )
ارتبكت قليلا و عقدت حاجبيها لكنها همست بخفوت
( أنت تعلم عن ماذا ....... )
رد عليها بنفس الفتور وهو ينظر اليها
( لا ..... لا أعلم ..... أنتِ أخبريني .... )
ارتبكت و تململت بين ذراعيه ... هل يريد أن يذلها ؟!! ... لكنها ردت عليه بقنوط
( منذ تلك الليلة التي ... اتهمتني بها أنني أستدرجت أختك ... و أنت توقفت عن .... لمسي .... )
لم يترك رأسها ... بل استمرت أصاعبه تداعب شعرها بحركاتٍ ناعمة جعلتها تبتسم كقطة ... فقال بخفوت
( ها أنا ألمسك ....... )
زمت شفتيها و هي تفتح عينيها و تعقد حاجبيها و قالت بتذمر مرتبك
( توقف عن التلاعب بي ..... منذ ذلك اليوم و أنت مختلف .... تبدو .... متناقضا .... أحيانا تعاملني بلطف و أحيانا تتجاهلني ..... لكنك لم تعد تقترب مني و تجبرني على ارتداء هذه الملابس الغريبة !! ... )
أشارت الى قميص النوم الذي ترتديه كان طويلا ... و بكمين يصلان لأسفل المرفقين ...
نظر بالفعل الى ما ترتديه ... ببطىء , ثم رفع عينيه الى عينيها المنتظرتين أخيرا ...
الى أن قال في النهاية بخفوت
( ما تقصدينه هو العلاقة الزوجية ..... الجسدية منها , .... لماذا تصرين عليها ؟؟ .... )
الجمها السؤال فجأة ... و رمشت بعينيها لا تعلم كيف تجيبه , الا أنها كانت سعيدة أنه لم يبعدها عنه بقسوة ككل مرة .. بل يحاورها بهدوء ... و ذلك أشعرها بالسعادة ... شعرت أنها تريد الكلام و السماع ... تبادل بعض الحديث مع شخص تحبه ... و هل هناك أفضل من زوجها ؟!! .... حبيبها ؟!! ....
قالت بشرى بخفوت و تردد و هي ترفع كتفها قائلة
( لأن ...... لأن هذا هو الوضع الطبيعي ....... )
لم تهتز ملامح وليد ... بل كان ينظر اليها طويلا ... الى عينيها تحديدا ... و كأنه يغوض بخضارهما .. ثم قال أخيرا
( الطبيعي من أي ناحية ؟!! ...... لأنني دفعت لكِ .... أم لأنك ترغبين بها ... تمتعك ..؟!! ... )
ابتلعت ريقها و رمشت بعينيها دون أن تحيد بهما عن عينيه ... ثم قالت بخفوت
( لأنك زوجي ....... )
مط شفتيه وهو يقول
( أي أنك تعنين لأنه حق من حقوقي .... لكن أنا متنازل عنه , طالما أنكِ لا تشاركينني نفس المتعة ... )
زمت شفتيها و هي تنظر اليه طويلا .. ثم قالت أخيرا بجمود
( هذا ليس حقيقيا ........ )
الا أنه قال ببرود
( بلى حقيقيا ..... و لا تخافي أن أطردك ما لم أجد منكِ الفائدة المرجوة ... فلقد غيرت رأيي بهذا الشأن و قد أخبرتك بذلك تلك الليلة .... أنتِ ستبقين هنا .... فلا تخشين شيئا ...)
رفعت ذقنها و هي تنظر اليه ... ثم قالت بنفس بروده
( و ماذا لو ألحت رغباتك الطبيعية عليك ..... ماذا ستفعل ؟!! .... هل تخونني وتتوقع مني القبول ؟!! .... )
ما لم تنتظره هو أن ضحك بسخرية ... ثم قال أخيرا بهدوء
( هل تريدين اقناعي أن أي من أزواجك السابقين لم يخنكِ ؟!!! ..... )
شردت عيناها و هي تتذكر كل قذارات رابح ... و مع ذلك فقد سكتت عنها و سجلت بعضا منها في سبيل استغلالها ضده يوم أن تحتاجها ....
أما وليد .... فالأمر يختلف بالنسبة له ... لو علمت يوما أنه يخونها فقد .... فقد ... تقتله ... أو تموت ببساطة ...
ابتلعت ريقها ببطىء ...بينما كان وليد يراقبها بدقة ... و عيناه تقرآنها بوضوح ...
و كأنها قد قصت عليه أمر خيانة أحد أزواجها .....
شعر بانقباض بأحشائه ... فقال لها بخفوت
( أحكي لي ما تفكرين به ...... )
التفتت اليه و هي تقول مجفلة ..
( ماذا ........... )
قال لها وليد باصرار وهدوء
( احكي لي ما كنت تفكرين به حالا للتو ..... )
رمشت بعينيها قليلا ... و أطرقت برأسها .. ثم قالت بخفوت
( أتعلم ماذا ...... أود أن أحكي لك الكثير , لكنك تجرحني دائما .... )
قال وليد بعد فترة من صمت
( لن أجرحك مجددا .... على الأقل كي أكون صادقا معكِ .. دعينا أن نعقد اتفاقا ... لن أجرحك بأي شيء تحكيه لي من تلقاء نفسك .... أما لو اكتشفت أنا المزيد مما يثير غضبي فأنا لن أضمن لك ذلك .... )
رفعت وجهها اليه بصمت ... تحاول التأكد من صدق كلامه , ثم قالت أخيرا بخفوت
( هل تعطيني الأمان ؟!! ...... )
قال بثقة
( أعطيتك الأمان ..... جربي و لن تندمي .... )
رفعت وجهها قليلا و شردت عينيها , ثم قالت بخفوت
( حسنا ..... كنت تسألني للتو عن خيانات أزواجي !! .... شاكر زوجي الثاني , لم يخني مطلقا ... بل كان رجلا شريفا ... كان من أكثر الرجال اللذين عرفتهم احتراما .... )
شعر بنارٍ شرقية تحرق أحشائه ... و سخرية تموج في حلقه تريد الخروج على هيئة ضحكة ساخرة مجلجلة ... فهذا الرجل المحترم الذي توسلت اليه أن يعيدها اليه بأي شكل كان ... قد رماها كالقمامة مع بعض العبارات الأبوية .... بعد أن أفاق لنفسه وأدرك أنه على وشكِ أن يخسر بيته و اسرته ...
الا أنه أمسك نفسه بمعجزة عن سيل الكلام الجارح الذي يود النطق به ... كي يفي بوعده لها ... فقال بخشونة
( تابعي .... أنا أسمعك ..... )
قالت بخفوت أكبر
( أما رابح .... رابح كان وسيلتي لأكبر ربح مادي حصلت عليه بحياتي ... لذا سكت عن كل خياناته لي و التي كنت أعرفها كلها .. و قمت بتسجيل الكثير منها كي تكون سلاحا بيدي أستخدمه كي أتحرر به منه ... )
كانت تتكلم بشرود ... بينما كان وليد يشعر بتقزز يموج داخله أعلى و أعلى ... الى أن تابعت بخفوت
( و قد حدث ذلك .... حين ماطلني بالطلاق مرة بعد مرة ..... استخدمت ما لدي ضده فطلقني .... )
رفعت عينيها اليه و قالت بتلذذ
( لكنني كنت استعراضية قليلا .... و قد استخدمت شفرة حادة مسلطة على عنقه و أنا أوقظه .... )
صمتت و هي تنظر الى عينيه المراقبتين لها ... ثم قالت بهدوء
( لو ترى نظرة الرعب بعينه و أنا أجثم فوقه !!! ...... كانت من أسعد لحظات حياتي ... )
ارتجف كيان وليد قليلا ... و الغريب انها كانت تقص عليه هذا و هي مستكينة على حجره و بين ذراعيه كطفلة تحكي حكاية قبل النوم ....
قال وليد أخيرا ....
( لقد آذاك كثيرا .... أليس كذلك ؟!! ...... )
ارتبكت بشرى قليلا .... الا أنها قالت بخفوت
( تعرف ذلك ...... سبق و أخبرتك ..... )
هز وليد رأسه وهو يقول
( أخبرتني عن ساديته ... لكنني لم أعرف بعد ان كانت ترضيكِ أم لا .... )
اتسعت عيناها و فغرت شفتيها تقول مجفلة
( ترضيني ؟!!! ..... لقد كان يعاملني حيوانٍ يقتنيه ... و كان يطلق عليها غريزة الكلاب ...)
شعر وليد بصدره ينقبض الى درجة الإختناق .. و الرغبة في القتل تعود اليه .. و عضلاته تتوتر تحت جسدها الطفولي الصغير ....
لكنه سيطر على نفسه ببراعةٍ لم يكن يعرف يوما أنه يمتلكها ... و قال بهدوء متشنج
( ربما كان هذا صحيحا .... لكن حتى لو كان وسيلة ربح ضخمة , فمن الطبيعي ما أن تستشعرين ساديته منذ اليوم الأول ترتعبين و تحاولين الهرب .... لا ان تتابعين معه الى النهاية ... راضخة لكل رغباته بمنتهى البراعة .... )
أجفلت ملامحهها و تحولت الى رمادية شاحبة .... و هي تنظر اليه بصمت طويلا ... فشعر برغبة عنيفة في ضمها الى صدره بقوة ... بكل قوة عضلاته التي يمتلكها ... و أكثر ...
لكنها قالت تنفي تلك التهمة بخفوت
( هذا ليس حقيقيا .... لم أستمتع بذلك , بل كانت محنة ... لقد أوشكت على ارتكاب جريمة قتله كي أتخلص منه .... )
قال وليد بهدوء
( لقد قلتِ للتو انه كان استعراضا ... و بعد ان انتهى عقدكما كاملا ... بل و زاد أيضا ... فهل كنتِ لتقتلينه فعلا لو رفض ؟!! .... )
قالت بشرى بتأكيد
( نعم ...... طبعا ...... )
الا أن عيني وليد كانتا متربصتين بها ... فأجفلت و ارتبكت .. ثم أطرقت برأسها و هي تقول
( لا أعلم ..... لا أظن .... أحب منظر الدم , لكن .... أنا لست مختلة الى هذا الحد ... )
قال وليد باختناق لم تلاحظه
( هل جرحتِ أحد من قبل ؟!! .... و أسلتِ دمه غزيرا .... )
أظلمت خضرة عينيها .. و باتت عميقة للغاية و هي تشرد ... تتذكر الدماء العنيفة التى غطت يديها و ملابسها ... و صوت ثور هائج يخور عند قدميها ...
و رغم عنها برقت عينيها مجددا و ابتسمت و هي تهمس لنفسها
( نعم .......... )
كانت شاردة مع نفسها .. الا أن وليد سمعها فقال بقوة
( من كان ؟!! ........ )
انتفضت تنظر اليه و قالت بخفوت
( من ؟؟ .......... )
قال وليد دون مواربة ..
( ذلك الذي جرحتهِ و تلذذتِ باسالة دمه ....... )
ارتجفت بين ذراعيه بوضوح ... ثم تشنجت و رمشت بعينيها تحاول حجب أفكارها عنه ... فقالت بخفوت محاولة التهرب
( شخص .... مجرد شخص كان يحاول التحرش بي .... )
ظل وليد صامتا طويلا وهو يراقبها ... ثم قال أخيرا بصوت هادىء
( اذن فهو يستحق ......... )
ارتفع وجهها اليه بسرعة و هي تقول مترددة
( هل هذا ما تظنه ؟!! .... ظننتك ستقول أنني مختلة ... )
رد وليد بثقة
( بل هو المختل ..... و ليست أنتِ .... )
ابتسمت بارتجاف و هي تنظر الى عينيه ... ثم قالت بخفوت و امتنان واضح
( شكرا ..... لم أظن أنك ستمدحني يوما .... )
تبا لها و لذلك الشعور الخانق الذي تثيره بداخله ... شعور من التقلصات الشبيهة بتلك الخاصة بالتمارين الرياضية ... الا أنها بروحه لا بجسده ...
تجعله يشعر بها و كأنها لا تزال طفلة ... و أنه قادر على محو كل أفعالها بسبب ما تعرضت له ...
لكن ... هل يعد هذا منطقيا ؟!! ...
تنهد بعمق و يده تتحرك على ساقها بشرود ... بينما كانت هي تنظر الى تلك اليد .. ثم رفعت وجهها اليه و همست باغراء
( أنت تريدني ..... فلماذا تكابر ؟!! .... )
فتح عينيه فجأة و هو يراها تتلون مجددا بلون الإغراء الفاشل و كأنه النقطة الوحيدة التي تعود لها دوما ...
فقال ببرود مصطنع
( لو كنت أريدك الآن .... لما بقيت كل هذا الوقت أضيعه بمجرد الحديث ... )
شعرت بأنه أهانها بقوة ... فسقطت ملامح الإغراء عن وجهها سريعا و نظرت اليه بقنوط طفلة ...
ثم قالت بصوت حانق
( أنت تخدع نفسك ...... و تجعلني ارتدي تلك القمصان القبيحة كي تطفىء رغبتك بي ... )
هز كتفيه بلامبالاة وهو يتكىء للخلف مستريحا يقول بصوت هادىء مستفز
( لكِ أن تفكري كما يحلو لكِ .... لو كان هذا يرضيكِ .... )
ابتلعت ريقها بتوتر .....و هي تنظر اليه مسترخيا , لا تظهر عليه اي مظاهر انصياع للرغبة فعلا ...
فقالت بصوتٍ حاد تغيظه
( عامة انا لن أرضخ لرغبتك الغير مبررة تلك .... انا أحب أن أرتدي قميص نوم أنثوي قصيرا حريريا .... )
فتح عينيه ليقول بصوت غريب
( ترتدينها و أنت وحيدة دون زوجك ؟!! .... الا تعرفين أن ذلك خطر ؟!! .. )
عقدت حاجبيها و هي تقول بتوجس
( و ما خطورته ؟!! ......... )
عاد ليهز كتفيه قائلا ببساطة
( لا يصح ارتداء مثل هذه الأشياء ما دمتِ لن ترتدينها لزوجك .... خطر ... )
زمت شفتيها و هي تقول حانقة تتلوى على ساقيه
( لماذاااا خطر ؟!! ....... )
هز كتفيه و لم يرد .... بل أغمض عينيه مرتاحا ... لكنه شعر بشيء ما أسفل الوسادة ... فأخرجه كي يرتاح ... الا أنه توقف حين اكتشف بأن كتاب !! ...
ارتفع حاجبيه وهو يقلبه قائلا بخفوت
( لمن هذا الكتاب ؟!! ............ )
رفعت بشرى عينيها واضعة اصبعها على وجنتها وهي تقول مفكرة
( امممم كتاب تحت وسادتي .على سريري .... بغرفتي .... ترى لمن يكون ؟!! .... انه يخص البواب ... )
مط شفتيه وهو يقول ببرود
( ليس لدينا بواب .... لكن و بما أنك ظريفة الى هذا الحد ... فدعيني اخبرك أن هذا الكتاب يخص لجين و أنا أعرفه جيدا .... و لم يكن موجودا لديك من قبل و قد منعتك من الإختلاط بها .... )
تحول كلامه الأخير الى صارم ... شديد اللهجة .. فارتجفت و بهت وجهها و هي تقول بخفوت
( آآآآخ ...... أمممممممم )
قال عابسا بحدة
( آآآه الآن تحولتِ الى كائن فضائي يتكلم بالإشارة ....... ألم آمرك بالإبتعاد عنها ؟!! ... )
اطرقت برأسها و هي تزفر بحزن و قد عاد لطبعه الشديد القاسي ... فابتلعت تلك الغصة بحلقها ... ثم قالت بخفوت دون أن تنظر اليه
( لماذا تخاف عليها مني ؟!! ..... أعلم أنك لا تثق بي .. لكن هل تظن أن فتاة بنفس مستواي و تعليمي تستطيع أن تخدع أختك المبهرة عقليا بأي طريقة كانت ؟!!! ..... )
لم تلن ملامحهه أبدا بل قال ببرود
( لا تحاولي تصنع دور المسكينة يا شيراز .... لديك خبرة في الحياة لا تمتلك لجين ذرة منها .... )
شردت عيناها و هي تقول هامسة .... بصوت بعيد
( نعم ....... صحيح .... )
رفعت وجهها اليه لتقول بخفوت أكبر
( لكنني لن أخدعها بأي شيء ..... على الأقل لأضمن بقائي هنا .... )
قال وليد بجمود لكن عيناه كانتا اعمق
( أعلم أنك لن تحاولي شيئا .... كانت لحظة تهور مني , لكن ..... )
صمت لا يعلم كيف يشرح لها .... و منذ متى كان مطالبا بالشرح لها من الاساس ؟!!! ...
الا أنه قال أخيرا بخفوت
( لكل منكما ..... ما يعقد سير الأخرى .... )
عقدت حاجبيها و هي تقول بيأس
( لا أفهم ......... ماذا تقصد ؟!! ...... )
ظل ينظر اليها قليلا ثم زفر بقوة و هو ينظر بعيدا عنها ... فانتهزت الفرصة لتقول برجاء
( أرجوك اسمح لي برؤية أختك من الحين و الآخر .... و الخروج أحيانا .... أو أن أخرج معك أنت ... أريد رؤية ملك .... أنا أحتاجها ... )
قال لها بخفوت
( و لماذا تحتاجين ملك ؟!! ..... فيما تحتاجين اليها بمثل هذه الشدة ؟!! .... كيف تستطيع تهدئتك ؟!! ... )
ابتلعت ريقها و هي تنظر اليه ... لا تجد جوابا محددا لتلك الأسئلة , الا أنها حاولت .. فقالت بخفوت
( إنهااا .... إنها!!! .... تقلم لي أظافري ... أظافر يدي و قدمي .... أنا احب ذلك و يجعلني أتوقف عن البكاء ..... )
ارتفع حاجبيه قليلا ... و مع ذلك ظل يستمع اليها ... بينما شردت هي ثم حاولت مجددا
( ملك ....... ملك جميلة و أنا وجدتها اولا ..... أنا حافظت عليها ... و راقبتها ..... كي تبقى كما هي .... )
شعر و كأنه فهم ما تقول بوضوح الآن .... فالتوت شفتيه بابتسامة حزينة قليلا ... مختنقة ..
لكنه حارب ذلك الإختناق و قال مغيرا الموضوع بهدوء
( و ماذا عن لجين ؟!! ..... لماذا تريدين صحبتها ؟؟ ...... )
نظرت اليه تفكر قليلا ... ثم أخذت نفسا و هي تقول
( لجين ..... انها المرأة الوحيدة التي استمتعت بصحبتها دون أن تحتقرني و تنظر لى بازدراء ... لقد وصلت الى هذا السن و لم تكن لي أي صديقة .... أما لجين فقد عاملتني بلطف منذ أول يوم .... انها .... )
صمتت قليلا تحاول ايجاد الكلمة التي تلخص كل ذلك ... فهمست بشرود
( تحترمني ....... )
ساد صمت طويل بينهما .... طويل ... طويل .... و حين شعر وليد أخيرا أنه أصبح قادرا على الكلام .. قال آخذا نفسا قويا ... وهو ينظر الى كتاب
( الى أي صفحة وصلتِ بقرائته ؟!! ..... )
اجفلت و هي تنظر اليه ... ثم عبست ناظرة الى الكتاب و قالت بخفوت
( صفحة رقم ثمانية ......... )
ارتفع حاجبيه وهو يقول بوجوم
( ثمان صفحات ... من بينها صفحة دار النشر و المقدمة ؟!!! ..... )
هزت رأسها نفيا و هي تقول بخفوت
( لقد تجوزتهما ........... )
قال وليد ببساطة
( آآآه لقد ظلمتك .... هكذا أفضل طبعا .... )
هز رأسه يأسا ثم عاد لينظر الى الكتاب وهو يقول بهدوء
( منذ متى وهو معك ؟!! ...... )
قالت بشرى تنظر الى الكتاب هي الأخرى
( منذ أربعة أيام ....... )
مط شفتيه وهو يقول
( أي أن كل يوم صفحتين ........ مجهود رائع ... )
قالت بشرى محتدة
( لك أن تعلم بأن هاتين الصحتين اللتين تسخر منهما استغرقتا ساعات طويلة بالفعل .... )
مد اليها الكتاب و قال ببساطة
( هيا ابدئي ..... أسمعيني ..... )
نظرت اليه مجفلة و هي تقول
( ماذا ؟!!! ....... لا ... لا .... لن أقرأ لك ... انت تريد اهانتي ليس الا .... )
الا أنه قال بصوت آمر
( أقرئي يا بشرى .......... )
زفرت بقوة هي تمسك الكتاب و تفتحه بتوتر ... و ابتلعت ريقها بأسى ... كانت تعلم حجم المأساة ...
لكنها لم تجد بدا ... ففتحت الكتب على ركبتيها ... و فوجىء بها وليد تحني رأسها الى أن كادت تمس الورق بأنفها ... و اصبعها يتحرك منذ الحرف الأول !! ...
كل ما تفعله يؤلمه .... و كان هذا نفس شعوره حين كانت تقرأ قائمة الطعام أثناء رحلتهما ...
مد يده ووضعها تحت ذقنها حتى رفعت رأسها ... فقال بهدوء
( ليس معنى أن تلصقي عينيك بالأحرف ... أنكِ ستفهمين المعنى .... المعنى لن تفهميه الا بالسؤال ... )
ابتلعت ريقها و هي تنظر اليه ... ثم بدأت القراءة ... و كم كانت صدمته وهو يسمع فتاة لا يزيد عمرها عن الثانية عشر تقرأ .... و ذات مستوى متأخر كذلك ...
بهت وهو يسمعها ....
رفع يده الى فمه وهو يسمع و يعدل ... يسمع و يعدل .....
بينما هي وجدت أن الأمر أصبح عاديا لأنه لم يسخر منها و لم يمل ... فعلا صوتها بدرجة أكبر من المعتاد كأطفال الصف الإبتدائي ... و باتت تقرأ بكارثية دون خجل ....
و دون أن يدري مع مرور الدقائق .... كانت هناك ابتسامة مرتسمة على وجهه ...
سمعا فجأة آذان الفجر .... فنظر الى النافذة بهدوء شارد ... ثم قال بخفوت ناظرا اليها
( يكفي هذا الآن ....... تعالي لنصلِ صلاة الفجر ...... )
فغرت شفتيها قليلا و هي تنظر اليه .... بينما بهت وجهها .. ثم همست
( هل تصلي ؟!! ......... )
نظر الى وجهها الطفولي المتردد .... فلم يجد سوى أن يكون صادقا فقال بوجوم
( كنت أواظب على الصلاة كالساعة .... لكن فجأة ... أصبحت غير منتظما بها .... )
همست بقلق
( حقا .......... )
أومأ برأسه وهو يشعر بالضغط النفسي الذي يولده هذا الموضوع .... ثم قال بخفوت
( من اليوم سنصلي معا .... و سنعود لانتظامنا ....... اتفقنا ؟؟ .... )
قالت بشرى بخفوت
( و لماذا قررت الآن ؟!! .......... )
ظل ينظر اليها طويلا ... ثم قال
( القرار موجود دائما .... لكن يظل الإنسان يتخاذل و يضعف فتضيع منه المرات تابعا ... لكن الآن أنا أحتاجها بشدة .... أحتاج الستر و البركة و العفو .... )
كانت تستمع اليه بوجوم .... فأخفضت رأسها تهمس
( لا أظن أن الله سيتقبل صلاتي .......... )
عقد حاجبيه وهو يستمع اليها ... ثم قال أخيرا بهدوء
( لو كان هذا هو ظنك ..... فما سر تشدقك الدائم بأنكِ لم ترتكبي الحرام و الخطئية ؟!! ... طالما انكِ يائسة هكذا من الفوز بآخرتك ؟!! ...... )
ابتلعت ريقها و هي تهمس
( هذا شيء و ذلك شيء آخر ....... )
هز رأسه نفيا وهو يقول
(نفس الشيء ........ )
مد يده يمسك بكفها ... ثم قال بخفوت
( سأعلمك ..... و سننتظم معا .... و حينها سأدعك تخرجين مع لجين .... )
ضحكت بيأس .. ثم قالت برقة
( لو نجحت بذلك فهو لن يكون بسبب كرمك و عطائك بالتأكيد .... )
نظر اليها قليلا ... قبل أن يقول بهدوء
( لكن أنا أشعر بأنك ستكونين السبب في انتظامي بها ...... فأنا أرغب بحماية بيتي ... )
حماية بيته .... هل اعتبرها بيته ؟!! .....
شرد ذهنها بذلك طويلا ... الى أن قال أخيرا
( هيا لنتوضأ .......... )
بعد أن قام بتعليمها .... وقفت خلفه ... مرت اللحظات و اذا به يسمع نشيجها الخافت ... كانت تحاول أن تكتمه لكنه كان واضحا ... شيئا فشيئا بدأ يتعالى ...
كانت كمن يخرج كل ما به من شكوى طويلة في أسرارٍ بينها و بين ربها لا يستطيع سماعها ....
و دون أن يدري وجد عيناه تحمران فنفض الشرود عن ذهنه وهو يركز بصلاته ....
بعد فترة من الجلوس على سجادة الصلاة ...
استدار ينظر اليها مرة أخرى .... يحاول أن يحفر تلك الصورة برأسه أكبر فترة ممكنة ...
كانت صغيرة الحجم في اسدال الصلاة .... ذلك الذي استعاره من أخته لجين منذ دقائق ... وهو يعلم أنها تستيقظ لصلاة الفجر ... كانت دهشتها بعينيها كبيرة ... الا أنها أعطته له و هي تبتسم برقة ... بينما هو يتجنب النظر اليها بفظاظة ...
بدت كطفلة يحيط بها حجاب كبير ... عيناها الخضراوان أكبر ما بوجهها ... بياضهما أصبح محمرا بسبب البكاء ...
أطرق برأسه ليقول بخفوت
( بشرى ........ منذ الغد ستبدأين بعلاج نفسي ..... )
اتسعت عيناها بذهول و هي تقول
( ماذا ؟!!! .............. )
قال وليد بجفاء خافت
( ما سمعتهِ ........ هذا شرطي لبقائك هنا , و ليس لدي حلول أخرى .... )
هتفت بشرى و قد احمر وجهها بشدة و غضب
( هل عدت لنفس الكلام مجددا ؟!! .... أتظنني مجنونة لمجرد بضعة كوابيس تنتابني ؟!!! ... )
تنهد بقوة وهو يرفع وجهه الجامد اليها ... ثم قال
( و لو تطلب الأمر قد أعهد اليهم بحجزك في مصحة خاصة ...... )
شهقت فجأة بصوتٍ عالٍ .... ثم ضحكت بذهول ... ثم لم تلبث أن صرخت بقوة
( اذن تلك هي الخطة , اليس كذلك ؟!!! .... أنت ...... أنت ...... أنت ....... )
الا أنه مد يده بسرعة ليقبض على كفها و يسحبها اليه ... حتى حجزها بين ذراعيه و قال ناظرا بعينيها
( أنت ترتدين اسدال الصلاة .... و لازلت على سجادة الصلاة ... فتعلمي أن تحافظي على لسانك ..... )
كانت تلهتث و تتنفس بسرعة و رعب .... بينما الدموع تنهمر على وجهها بغزارة ... فلم تملك سوى أن نهضت بسرعة مندفعة ... تتعثر بطرف الإسدال ...
ثم ارتمت على سريرها بقوة و هي تبكي بعنف و هيستيرية ... فزفر وليد بنفاذ صبر وهو يقول
( هذه الحركات لن تجدي ........ )
الا أنها صرخت بصوتٍ مختنق من بين ذراعيها
( أخرج من هنا ........... )
الا أنه نهض من مكانه و اقترب منها ... فأمسكها بذراعيها كي يجلسها و جلس القرفصاء أمامها ...
هاله منظر وجهها المحمر من شدة البكاء .... فمد يديه ينزع عنها اسدال الصلاة رغم مقاومتها فقال بصرامة
( هذا ملك لأختي و انا أريد استعادته ........ )
توقفت عن المقاومة و هي تبكي و تشهق كالأطفال مجددا ... و ما ان خلعه عنها ... حتى ألقاه جانبا و نظر الى وجهها الباكي ... ثم قال بهدوء
( سأسعى جاهدا كي تبقين هنا .... على ان تكوني متعاونة ... اتفقنا ؟!! .... هذا شرطي ... )
هتفت بيأس و نحيب و هي تغمض عينيها و تضرب الارض بقدميها
( أنت تبتزني ........ لماذا تفعل بي ذلك ؟!!! ..... )
ابتلع ريقه بصعوبة و هو ينظر اليها بمنظرها الذي يرثى له .... ثم قال فجأة
( أيمكنني تقبيلك ؟!! ........ )
ظلت تنتحب عدة لحظات ..... الى أن مرت كلماته عبر مرشحات العقل ... فاستوعبتها ...
صمتت فجأة عن البكاء و فتحت عينيها تقول
( ماذا قلت ؟!!! ......... )
قال وليد بهدوء
( أريد تقبيلك ....... لو كنت تريدين ذلك , اعلم أنكِ لا تحبين العلاقة الجسدية , لكنني لاحظت ان قبلتي لك من قبل قد أسعدتك .... فهل يمكنني أن أعيدها ؟..... )
شعرت و كأنه يتكلم بلغة لا تفهمها .... و كانت تنظر اليه كم ينظر الى شخص متأخر ذهنيا ... لكنها ابتلعت ريقها و هي تقول بصوت مختنق بائس
( نعم يمكنك .......... )
ابتسم فجأة لعينيها ... ثم أمسك بكتفيها يدنيها اليه بينما هي واسعة العينين غير مصدقة ... الى أن التقت شفتيهما برقة خالصة ... تكاد أن تكون كلمسات الفراشات ...
و ما أن ابعد وجهها عنه ... كانت مغمضة العينين ... ساكنة تماما ... ففتحت عينيها تبادله النظر
حينها نهض واقفا ليجلس بجوارها على حافة السرير وهو لا يزال يبتسم لها بينما قلبها يخفق بعنف
الى أن جذبها له مجددا و كان آخر ما رأته هي ابتسامته التى لم ترها منذ أشهرٍ طويلة ....
قبل أن يغرقها بقبلةٍ بعيدة أكثر قوةٍ .... تاها بها الى تلك الأيام البعيدة على الشاطىء ... حين كان الموج يرافق همساتهما ....
ومرت بهما عدة لحظات مجنونة ... قبل أن يبعدها عنه وهو يلهث قليلا ... ثم همس لعينيها بينما هي مشدوهة تتنفس بصعوبة ...
( و أنا أيضا لا أحب سوى تقبيلك ........ )
أخذ نفسا عميقا ... ثم همس لها برقة
( نامي الآن ..... و لأنكِ كنتِ فتاة طيبة , سأسمح لكِ بالذهاب الي ملك ..... )
ثم خرج أمام عينيها المذهولتين .... بينما كان هو في الخارج يحتضر رغبة بها .......
مددها على الأريكة البيضاء الأنيقة وهو يهمس بقلق مبعدا شعرها عن وجهها
( وعد ..... وعدي حبيبتي ردي علي ...... )
تأوهت ببطىء ... بينما اقتحمت كوثر المكان و هي تقول بهلع
( ها هو العطر يا سيد سيف ....... )
تناوله سيف منها و أفرغ بعضا منه على يده قبل أن يربت بها على وجنتيها قائلا بقلق حقيقي جعل صوته يهتز
( وعد ...... وعدي ,إن لم تردي أقسم أن أحملك للمشفى حالا .... )
حينها اقتربت كوثر و هي تقول بقلق
( ابتعد قليلا سيد سيف لأكبر في أذنها .... )
ابتعد سيف بالفعل وهو ينهض واقفا ناظرا اليهما بقلق ... بينما انحنت كوثر لتهمس في اذنها
( لملمي الدور و أفيقي بدلا من ان يفتضح أمرك ... تنفسك يتسارع .... و لولا رعبه عليكِ للاحظ ... )
تأوهت وعد بصوتٍ مسموع وهي تهمس
( سيف !!! .........)
اقترب مسرعا ليجثو على ركبتيه فابتعدت كوثر مبتسمة بينما قال سيف بقلق وهو يبعد خصلات شعرها عن وجهها
( أنا حبيبتي ......... ماذا بكِ , نبضك طبيعي لكن وجهك شاحب تماما ,,, )
شكرت الحظ الذي جعلها تفقد الشهية ليومين متتاليين ... حتى بدت شاحبة فاقدة التورد ...
همست كي تلم الدور فعلا
( انا بخير الآن ....... مجرد إغماءة بسيطة .... )
مدت يدها تبحث عن كفه فالتقطها بسرعة وهو يغطيها بيده الأخرى ...قائلا بخشونة
( هل هي متكررة ؟!! .... هل حدثت من قبل و أنتِ وحدك ؟!! .... )
فتحت عينيها الرماديتين اليه أخيرا و هي تتأمل بهاء منظره ... ووجهه الغير حليق و القريب من وجهها بقلق و بعينين تنطقان بالكثير ....
همست أخيرا بخفوت
( لا ......نعم ..... أقصد مرة أو مرتين ...... )
قال بعنف مكبوت
( متى حدث هذا ؟!! ..... و لماذا لم تخبريني لنستشير الطبيب ؟!! ... )
همست قائلة بخفوت
( لم يكن هناك داع لكل ذلك .... أنت تعرف انني مصابة بفقر الدم و هذا عارض معتاد .... على الأقل لم أصب رأسي حين سقطت في الحمام و أنا استحم وحدي .... )
فغر سيف شفتيه و شحب وجهه .. بينما شتم هامسا وهو يكاد يعتصر كفها بين يديه لدرجة أن تألمت بقوة ..
لكنها كانت في غاية السعادة في تلك اللحظة ... و كم تمنت لو ان تطول لآخر العمر ....
قال سيف بخشونة و جفاء
( لا يمكنك البقاء وحدك أبدا ..... لن أسمح بذلك ... )
همست وعد بمسكنة و حزن
( ملك معي ....... لا تخف يا سيف .... )
هتف غاضبا وهو يضرب الأريكة بقبضته حتى انتفضت كالريشة ثم عادت لتستلقي عليها مرتجفة
( ملك ستتزوج يوما ما ليس ببعيد أيتها الغبية ....... و أنت لا يمكنك البقاء وحدك , أنت تحتاجين الى من يرعاكِ ..... )
رمشت بعينيها الحزينتين وهي تهمس برقة
( لهذا السبب كنت أخبرك عن احتمال زواجي مجددا ..... ليست رغبة في رجلٍ آخر من بعدك ... و انما احتاج الى من يمسك بيدي لو شعرت بالدوار و الوحدة ..... أنا أخاف الموت وحيدة يا سيف ... )
انتزعت يدها من كفيه ... لتستدير على جانبها ... تدس وجهها في زاوية الأريكة الوثيرة التي كادت أن تبتلعها ... الا أن سيف لم يكن ليتركها ... بل انتزعها انتزاعا حتى أجلسها ليهتف أمام وجهها بخشونة ولوعة
( لا تنطقي بتلك الكلمة مجددا ..... أنت تقتليني ...أنت لن تموتي وحيدة .... و أنت بالتأكيد لن تتزوجي أي رجلٍ آخر من بعدي ... )
رفعت يدها و كأنها تريد أن تلامس فكه ... الا أنها أنزلتها سريعا و هي تهمس
( أنا لآسفة ... لقد كنت حمل ثقيل عليك لفترة طويلة ... )
عاد ليشتم هامسا وهو يهزها قليلا ... ثم قال بصرامة هامسة أمام وجهها القريب من وجهه
( وعد ستنتقلين لبيتنا ..... و هذا أمر ..... )
الا أنه عا ليناقض صرامته الفظة وهو يهمس
( هذا رجاء يا وعد ..... تعالي الى بيتنا ....... سأرعاكِ و أهتم بكِ .... و سنكون عائلتك بحق .... )
همست وعد و قلبها يخفق بشدة لدرجة انها رفعت يدها الى صدرها كي تهدىء من جنونه
( أنت تعلم استحالة هذا .... خاصة و أنك مقبل على الزواج ..... )
ابتلع ريقه و برقت عيناه برفض و نفور .... قبل أن يقول بلهجة خطيرة
( اتركي امر زواجي جانبا ....... كيف امكنك أن تخيطي فستان الزفاف بنفسك ؟؟؟ .... كيف تجرأتِ على ايلام نفسك بهذا الشكل ؟!! .... )
همست وعد تقول
( اذن أنت تعترف بأنني أتألم ........ )
قال سيف بجنون وهو يهزها
( و انت تعرفين بأنني أتألم منذ اللحظة التي تركتك بها ..... لكن لم اتخيل أن يصل بكِ حب تعذيب الذات الى هذه الدرجة ؟!! ..... )
قالت وعد بخفوت
( لم أستطع رفض طلب عروسك ...... لقد فعلت من أجلي الكثير يا سيف .... و أردت أن قدم لك القليل .. )
ضحك سيف قائلا بسخرية مريرة
( بتنفيذ فستان عروسي ؟!!!! ...... امرأة أخرى تحتل مكانك !! ... كم أنتِ متفانية لدركة كدت الا اتعرف عليك ....... )
رمشت بعينيها و هي تهمس
( أرجوك الا تفسد اعدادات الزواج بسببي ....... هي من المؤكد لم تقصد ايلامي ..... )
زفر سيف بقوة وهو يقول بلهجة مختصرة مخيفة
( ما سيدور بيني و بين ميرال لا دخل لكِ به ........ )
زفر بقوة و بينما كانت روحها تزغرد كأم عروسٍ في فرح شعبي ...
ثم قال أخيرا بصرامة وهو يتحسس كتفيها النحيلتين بأصابعه قائلا
( اهتمي أنت بصحتك ..... لا تشغلي نفسك بشيء آخر .... اتفقنا ؟؟ .... )
اومأت برأسها بصمت .... و هي تنظر الى عينيه مباشرة ... تقتحم اسوارهما المنيعة بعينيها الرماديتين .... فلم يملك سوى أن يهمس رغم عنه
( ابعدي عينيكِ يا جارة القمر ........... )
أسبلت جفنيها بالفعل و هي تهمس بقلبٍ خافق سعيد مذعور
( آسفة ......... )
ابتسم رغم عنه وهو يقول بخفوت
( تأسفين دون جدال ؟!!! ... و كأنكِ قد سلمت بسحرهما علي أخيرا !!! .... )
همست دون أن تمتلك الجرأة على رفع عينيها اليه مجددا
( سلمت يا سيف ......... )
زفر نفسا لاهبا وهو ينظر اليها ... محرقا بشرتها الشفافة بهدير زفرته ... ثم قال أخيرا بهدوء
( أنا ........ يجب أن أغادر الآن , بقائي هنا ليس .... سليما ... )
ثم نهض من فوره و تركها نصف مستلقية تنظر اليه بقلب يصرخ باسمه مناديا أن يعود ....
لكنه لم يغادر كما قال ... بل وقف يويلها ظهره و يداه في خصره ... يحاول تنظيم أنفاسه الهادرة ...
بينما هي تتأمله و كأنما ترسمه بعينيها .. و قلبها يهمس
" أنتِ تعشقين هذا الرجل ...... و لن يكون لسواكِ "
قال سيف بخفوت صلب أخيرا
( آسف لإقتحامي المكان بهذا الشكل ..... موضوع الحقير و خطبته لورد كان يجعلني كالمجنون .. )
همست وعد بخفوت
( ماذا ستفعل ؟!!! ....... )
زفر بقوة وهو يقول بعنف
( المشكلة ان أمي دخلت في الأمر بكل قوتها ... و هي تصر على اتمام تلك الخطبة .... )
قالت وعد بخفوت
( بعيدا عن حكمك عليه .... إنه شخص ممتاز ...... و رجل مميز بحق ... )
انتفض يستدير اليها كأسدٍ كاسر .... و عيناه تطقانِ بالشرر .... فتداركت نفسها و هي تقول
( كخطيب لورد ... أنا أثق به ... كما أنه سيبتعد ما أن يجد العروس المناسبة و يعود لحياته في الخارج .... )
لم يتظاهر بالغباء ... بل هدر قائلا
( أنا لن ألقي بأختي لأي كان لمجرد أن أبعده عنكِ .... أنا أكثر من قادر على طرده من حياتك نهائيا دون التضحية بأختي ......)
ابتسمت رغم عنها و هي تراه يعترف بحبه في كل كلمة ينطق بها ....
بينما زفر هو بنفاذ صبر ... قبل أن يقول
( أنا أتعبك أكثر ..... و أرفع من ضغطك .... )
قالت وعد برقة
( جيد .... فلقد كان منخفضا ..... )
قال من بين أسنانه
( كفى تخلفا يا وعد ..... لست في مزاج يسمح الآن .... )
قالت بوداعة و رقة
( حاضر ..... آسفة .... )
عقد حاجبيه وهو ينظر اليها مرتابا ثم قال بشك
( أنت مختلفة جدا في الآونة الأخيرة !!! ..... )
رفعت حاجبيها و هي تقول ببراءة
( أنا .!!! ..... لماذا ؟!!! ...... )
ظل ينظر اليها طويلا محاولا تفسير تغيرها ... فقال بخفوت
( أصبحت أكثر رقة ووداعة ..... )
زمت شفتيها و هي تشعر بطاقتها الداخلية تود لو أن تشتمه بكل قوتها ... الا أنها تمسكت بأنوثتها و هي تقول
( أنا فقط أريدك سعيدا ........ )
ازداد انعقاد حاجبيه بشدة وهو ينظر اليها مرتابا ... ثم تنهد أخيرا وهو يقول بخفوت
( بمناسبة كوني سعيدا و أنها أصبحت حالة نادرة هذه الأيام ..... )
رفع عينيه اليها و ابتسم قائلا
( مهرة تنتظر طفلا .............. )
فغرت وعد شفتيها و هي تهتف
( بهذه السرعة !!! ...... بسم الله ماشاء الله !!! ... ياللهي !!! ..... )
كانت تضحك بانبهار ... مما جعل الإبتسامة تبهت و تموت من على شفتي سيف ... وهو يتذكر محادثات حملها القديمة فيما بينهما ... و كم كانت كئيبة و خالية من الود و السعادة ...
كتلك السعادة المتألقة على وجهها الآن .... شعر بقبضة باردة تعتصر صدره بقوة .... بينما قفزت من مكانها بلهفة فقال سريعا
( على مهلك .... قد تصابين بالدوار ... )
الا أنها تقدمت اليه وهي تهتف
( كم هو خبر سعيد !! ....... أنا أتوق لحمله من الآن .... ليس في وسعي الإنتظار , أتصدق بأنني لم أعايش أي طفل رضيع من قبل !! ...)
مد يده فجأة ليقبض على جانب وجهها بحنان ... بينما ينظر اليها صامتا .... بعيدا عنها مئات الاميال ,,,,
بينما همست وعد بقلق
( ماذا بك يا سيف ؟!!! ...... لماذا فقدت عينيك الفرحة ؟!! .... )
قال سيف بخفوت قاسٍ
( أنا يجب أن أغادر الآن ............ )
ثم ابتعد عنها سريعا متجها الى الباب ... بينما هتفت هي بقوة من خلفه
( سيف !!! ......... )
توقف بمكانه للحظة ... لكنه عاد و اندفع خارجا دون أن يضعف نفسه بمجرد الرد !! ... بينما بقت وعد واقفة مكانها تنظر الى الباب الذي خرج منه للتو ... فهمست بألم
( حتى تلك اللحظة القصيرة حرمتني منها يا سيف ؟!!! ........ )
.................................................. .................................................. ...............
جلس مكانه في المقهى الأنيق .. واضعا يده على فكه الصلب منتظرا ... بينما أصابعه تربت على سطح الطاولة ببطىء رتيب ينتظر قدومها ... ... و الغضب بداخله يتفاقم ... و يتزايد ...
الى أن أبصرها تدخل المكان بخيلاء واضحة .... رافعة ذقنها و هي تنفض شعرها الأشقر بينما بدت عيناها كقطعتي جليد شديدتي البرود ....
وصلت الى طاولته أخيرا و جلست دون حتى أن يكلف نفسه عناء النهوض من مكانه ... بينما ظلت هي جالسة أمامه تتحداه بعينيها ... قبل أن تفرد كفيها قائلة بهدوء
( حسنا ..... أسمعني المزيد من الإهانة يا سيف ..... )
لكن سيف قال بجفاء
( سؤال واحد فقط ...... ما كان هدفك من تلك الخطوة ؟!! .... )
قالت ميرال ببرود
( الا ترى أنك تعطي الأمر أكبر من حجمه ؟!! ........ )
قال سيف بصوت جمد الدم بعروقها
( أريد ردا واضحا ....... )
ظلت تنظر اليه لعدة لحظات قبل أن تقول أخيرا
( أردت أن أبدأ معها ببادرة صلح كي نصبح عائلة واحدة ...... )
قال سيف وهو يواجه عينيها
( ألم تصلح بادرة الصلح الا بان تخيط لكِ فستان زفافك بي ؟!! ......ألم تكفي باقة ورد و فنجان قهوة مثلا ؟!! .. )
رفعت ميرال ذقنها و هي تقول
( آآآه ..... اذن فقد سارعت تشكو اليك و تدعي الألم ؟!!! ...... كان يجب أن أعلم ...)
قال سيف بقوة
( أنت من ذهبتِ اليها ... لا العكس ..... لم تحتك هي بكِ مطلقا كي تتصرفي ذلك التصرف الغريب ... )
قالت ميرال بغضب و قد بدأ صبرها ينفذ
( ما المشكلة ؟!! .... ذلك هو عملها ... سواء خاطت الفستان لي أو لغيري ..... )
مال سيف الى الأمام مندفعا وهو يهتف بغضب
( أردتِ ايلامها بدرجة أكثر قسوة مما ظننتك .... دون أن تحسبي حسابا لصحتها أو مرضها !! .... )
هتفت بملل و نفاذ صبر
( آآآه توقف عن تلك الاسطوانة يا سيف ...... أنت تجعل من نفسك مثيرا للشفقة و تجعل منها نفس الشيء ... )
تسمر مكانه وهو ينظر اليها مليا .... قبل أن تقول متابعة بقسوةٍ جليدية
( عامة لقد أدركت خطأي ..... و أنا اوافقك الرأي بأن الإختلاط بها كان أكبر تهور .... وعد تشكل عائقا بزواجنا .... لذا اختار بيني و بين وجودها في حياتنا ..... الآن ...)
ظل ينظر اليها طويلا .... بملامح رخامية باردة .... و دون كلمة واحدة كان قد نزع خاتم الخطبة من اصبعه ووضعه أمامها على الطاولة قبل أن يقول بجفاء خافت
( إن كانت دائي ... فاقتلاعها سيكون بموتي و أنا اريد الحياة ..... )
ثم ابتعد عنها امام عينيها المصدومتين المحدقتين بخاتم الخطبة و هي تدرك بأنها فقزت لنهاية الطريق قبل أن تعبره ... و لأول مرة في حياتها جانبها التوفيق و تخلت عنها الإرادة و قوة التخطيط .... ......
مرت عدة ساعات قليلة منذ أن تركها .... وها هو يجلس في اجتماع عمل بارد كئيب و لا يفكر سوى بها
زفر بقوةٍ فاستدارت الرؤوس اليه ... الا أنه قال بخفوت
( تابعو من فضلكم ..... من كان يتحدث ؟!! ...... )
وصله صوت رسالة من هاتفه .... فتحها بتثاقل قبل أن يقرأها بصمت
" سيف ... آنا آسفة ...
آسفة على رحيلي .... و آسفة على ابعادك .... و آسفة على كل حجرٍ بنيته في الحاجز بيننا ....
انا احبك ... بل أعشق التراب الذي تسير عليه ..... هلا أعدتني اليك لأنني فعلا لم أعد أمتلك القدرة على الصبر أكثر و تحمل المزيد من حماقاتك منذ أن تركتك ..... "
قال سيف بصوت هادر فجأة مقاطعا الحديث
( هلا خرجتم ......... الآن من فضلكم ...... )
سادت حالة من الإرتباك و القلق ... لكن الجميع بدأوا في الخروج و قد عرفو من ملامح سيف و نظرته النارية المتوهجة الى هاتفه .... بأن من سيتأخر في الخروج ... فسيخرج طيرانا عبر النافذة ....

.................................................. .................................................. .....................

حسنا لماذا جاء مبكرا ؟!! ....
بالطبع لن يصعد اليها قبل الموعد المحدد منذ أشهر طويلة بنصف ساعةٍ كاملة .. كي يخبرها بأن تلك الثلاثين دقيقة كانت أشد صعوبة من الأشهر الماضية كلها !! ....
تنهد بقوةٍ وهو يرى السيارة تبطىء من سرعتها استعدادا للوقوف ... فسمعه السائق ليقول بتهذيب
( هل من مشكلة سيد رائف ؟!! .... )
رفع رائف عينيه الى عيني السائق في المرآة بصمت .... ثم قال بخفوت عميق
( لا .... ما من مشكلة ,قد نضطر فقط للإنتظار لفترة ..... )
أومأ السائق برأسه وهو يقول بأدب
( تحت أمرك ......... )
عاد رائف ليأخذ نفسا عميقا وهو يلتقط نسيم الهواء البارد المتسلل اليه من النافذة المفتوحة ... فأغمض عينيه و روحه تهمس
" على يديكِ عرفت طعم الشوقِ للأحياء يا أميرة .... "
و كأنه سمع من تهمس ملبية ندائه ... ففتح عينيه ناظرا من نافذته بعد أن توقفت السيارة تماما ..
و كأن عيناه تعرف طريقهما دون أن يرشدها عقله ... فألتقط بسرعة تلك الشابة الواقفة على مسافة بعيدة نوعا ما ...
تضخم قلبه خلال لحظتين وهو يضخ الدم أقوى و أسرع الى أوردته ...
و تجمدت عيناه عليها .... كانت هناك بالفعل .... نعم هي ... إنها ملك ....
تقف خارج بنايتها ... مطرقة الرأس .. و ضفيرتها الطويلة منسابة على أحد كتفيها ...
تلك الضفيرة الشقراء الداكنة الشبيهة بالعسل المصفى .... تتناقض شقرتها بشدة مع ..... سواد ملابسها !!! ....
لقد كانت ترتدي الأسود !! ....
قميص أسود بسيط على تنورة سوداء تماثله بساطة ... تماما كالحذاء الأسود الأرضي ...
كانت آية في الجمال .. و شحوبها يبرز بهائه مقارنة بملبسها السوداء ...
زادت نحافة أم أن الأسود هو ما يجعلها هشة رقيقة ؟!! ....
أختفت كل الألوان من أمامه ليبقى لونا واحدا فقط .... الأسود الذي ترتديه ملك ؟!! ...
إنها ترتدي ملابس حداد ؟!! ..... و كانت الجمال بعينه , لكن لأول مرة يكون جمالها مقبضا لقلبه بتلك الصورة !! ....
فتح الباب ببطىء .... و عيناه تلتهمان تفاصيل حزنها و لم تكن قد رأته بعد
" أرفعي رأسك الآن ...... "
و كأنه قد راهن نفسه ان تسمع ندائه ... فرفعت رأسها بالفعل و هي تراه يخرج ساقا ... ثم الأخرى مستعينا بعصاه ....
لو كان شاعرا... لما كان استطاع وصف تعاقب المشاعر العنيفة على ملامحها المستكينة المجهدة في تلك اللحظة ...
فقد اتسعت عيناها ... و فغرت شفتيها الورديتين قليلا .. بينما تحركت قدماها ببطىء و دون وعيٍ منها تجاهه .... ثم تسارعت خطواتها و عيناها ترمشان بارتجاف .....
و ابتسامتها الحزينة تتلون بلهفة و شوقٍ على هاتين الشفتين الهامستين باسمه ... و الذي قرأه بكل وضوح ...
كان قد استقام واقفا أخيرا .... في اللحظة التي وصلت اليه .... فوقفت قبل أن تقع وهي تلهث ...
و قد احمر وجهها البهي ,ترفعه اليه ... تتأمل وجهه و تغوص في عينيه .... قبل أن تهمس بخفوت ملتاع
( رااااائف ..... )
و قبل حتى ان يجيبها ... كانت قد ارتمت بأحضانه وهي تضم صدره بذراعيها بقوة ...
تسمر جسده بصدمةٍ شلت أوصاله ... بينما ضاعت صدمته حين انفجرت باكية بعنف و كأنها قد كتمت دموعها منذ آخر مرة رآها بها ....
شعر بعبيرها يتخلل أنفاسه المضطربة بدرجة لا تلائم اتزانه ... بينما ظهره يشعر بأصابعها تتشبث بقماش سترته كالمخالب الصغيرة ...
اهتزاز صدرها الشاهق الباكي كان يثير جنونه و يجعله يتأوه بألم و كأنه يتمنى امتصاص ألمها ليحتل جسده بدلا عنها ...
ارتفعت كفه ببطىء لتلامس شعرها الحريري ... ترتاح لتلك النعومة الخلابة ... قبل أن يقول بخفوت أجش .. بطىء
( منذ متى لم تبكين بالضبط ؟!! ........ )
ظلت تنشج على صدره قليلا و تتشبث به أكثر ... حتى أنه شعر بقميصه يتبلل تحت وجنتيها , الى أن تمكنت من الهمس أخيرا بإختناق ....
( منذ آخر مرة رأيتك بها .......... )
ابتسم رائف بحنان و بداخله مشاعر تهدر كالطوفان .... لا يصدق أنها هنا اخيرا .. مرتاحة على صدره , تودعه دموعها ... فقال بخفوت
( اذن أنا من يجعلك تبكين ؟!! .... قد ارحل اذن كي تكفي عن البكاء ..... )
ظلت تنشج قليلا ... قبل أن تقول بصوت مختنق دون أن ترفع وجهها
( فقط حاول .... و أقسم أنني .... اقسم أنني ..... )
لم تستطع المتابعة , فقد اختنق صوتها بشدة و تحشرج و انطبقت عيناها أكثر على دموعٍ تفيض بجنون ..
فانخفضت يد رائف الى ظهرها برفق وهو يهمس لها بينما روحه تنتفض مع إنتفاضاتها
( لا بأس .... أهدئي حبيبتي .... اهدئي ..... )
لم يلحظ أنه نطق بكلمة حبيبتي وهو يضمها الى صدره .... و لم يلحظ ان قلبها كان قد فقد كل دقاته محتضرا عند قدميه ... فتوقفت انتفاضاتها و تشنجاتها ... و هي ترفع وجهها المتورم اليه ...
تنظر اليه أخيرا بعينين حمراوين منتفختين مبللتين ... و ملامح ساكنة ... مصدومة ... و شفتين فاغرتين قليلا .. ثم همست بخفوت
( ماذا قلت للتو ؟!! .........)
ابتسم وهو يسرح بعينيها العسليتين الحمراوين ... ليقول بخفوت
( قلت أننا يجب أن نغادر هذا المكان على الفور ... أو ستنحدر سمعتك للحضيض ...)
ابتلعت ريقها و رمشت بعينيها و هي تنظر حولها ... كان الطريق هادئا .... خاليا تقريبا ... لكنها لم تصدق بأنها ارتمت في أحضانه ما أن وقعت عيناها عليه !! ...... من أين واتتها تلك الجرأة ؟!! ...
ابتعدت قليلا عن صدره و هي غير قادرة على رفع عينيها الى عينيه .... نظراتها متعلقة بقطرات المطر من عينيها و التي بللت قميصه ....
عضت على شفتيها و قد تشنجت أصابعها ... الا أن كف رائف قبضت على كفها بدفىء كي يفك تشابكهما وهو يقول بخفوت
( هيا ..... أدخلي ..... )
دخلت ملك بارتباك أمامه .. تكاد تتعثر و تسقط ... لكن و ما أن استقرت جالسة في المكان البعيد عن الباب حتى التفتت اليه متفاجئة بجلوسه بجوارها وهو يدخل عصاه ... و يحرك ساقه بحذر ...
و بعد أن أغلق الباب قالت ملك بقوةٍ
( كيف حال إصابتك ؟! .......... )
ابتسم رائف قليلا وهو يحرك ساقه بحرص ناظرا اليها ... ثم قال بهدوء
( تتحسن .... لكن تحتاج بعض الوقت ...... )
تأوهت بخفوت و هي تهمس من كل قلبها
( كنت أحتاج أن أكون بجوارك ... أساعدك ... و أساندك ...... )
صمتت للحظة قبل أن تقول متأوهة بخفوت و هي تمسح وجهها المحمر بظاهر يدها
( اشتقت اليك يا رائف ........ جدا ..... )
شعرت بملامحه الرجولية ترتبك قليلا .. و قد انتقلت نظراته رغما عنه الى السائق الصامت امامهما ....
فأجفلت هي الاخرى و هي تنظر اليه ... ليحمر وجهها بشدة و عنف ... فتشنجت أعصابها بقوة و هي تميل بوجهها بعيدا عنه كي تنظر من النافذة ....
نوعا ما لم يكن هذا هو اللقاء الذي تخيلته طويلا ... خلال أشهر طويلة ....
ابتلعت غصة في حلقها و هي تشعر بنبضها يتزايد و الغصة تزداد حدة بحلقها ....
بينما قال رائف بهدوء بعد فترة
( اذن ........... كيف حالك ؟؟ ..... )
شعرت بشعور مقبض بداخلها ... و تسمر جسدها قليلا و هي تسمع سؤاله الذي يتناقض تماما مع الرسائل التي كانت تصلها منه .....
لماذا عاد لهدوءه ؟!! .... لماذا يرفع بينهما الحواجز ؟!! ... الا يعلم أنها كانت تعد الأيام التي تفصلها عنه ؟!!
لماذا هو هادئا بهذا الشكل ؟!! .... و كأنه يقابلها بعد يوم عمل عادي .... لا بعد شوق الأشهر الماضية ...
ترى هل نطق بكلمة حبيبتي فعلا أم أنها كانت تتوهم سماعها .... و ربما .... تتمناه !! ......
عبس رائف حين وجدها لا تلتفت اليه ... و لا ترد .....
فقال عاقدا حاجبيه بقلق
( ملك ........ هل أنتِ بخير ؟!! ..... )
ردت باختصار خافت
( انا بخير ............ )
ظل رائف ينظر اليها قليلا ... قبل أن يقول بهدوء
( لماذا اذن أنت غاضبة مني و لم تكد تمر الدقائق على لقائنا ؟!! ..... )
نظرت الى السائق نظرة جامدة ذات مغزى ... ثم قالت بقنوط
( لست غاضبة .......... )
ظل يرمقها بترقب و إهتمام ...... ثم قال أخيرا بهدوء
( ليتني استطعت المجيىء و القيادة بنفسي .... لم أكن لأتأخر ... )
احمر وجهها بشدة .. و ارتبكت و تشنجت أصابعها .. و طارت عيناها الى المرآة الأمامية , فوجدت ان السائق كان يبتسم في الخفاء ... فارتبكت أكثر و أطرقت برأسها بسرعة
" حسنا ...... إنها تستحق ذلك .... "
قالت بقنوط خافت
( آسفة ............. )
اتسعت ابتسامة رائف وهو يقول بهدوء متسليا
( لا عليكِ ...... لكن أظن أن هناك ما يضايقك مني غير هذا ...... )
التفتت اليه بصمت .... و هي تنظر اليه مختنقة من نفسها ... ماذا كانت تتوقع ؟!! ....
أن تجد حاله ملتاعا ملهوفا كحالها ؟!!! ....
ابتلعت ريقها بتوتر و همست بخفوت
( لا شيء ...... أنا فقط ..... )
تنهدت بقوة و هي تهمس بتوتر
( هلا انتظرنا الى أن نكون وحدنا ..... رجاءا ..... )
رفعت عينيها مجددا الى السائق الذي كان يعض على ابتسامته بمعجزة ... فزفرت بقوة بينما قال رائف متسليا
( أنتِ من تتحدثين منذ أن بدأنا الطريق ......... )
زفرت ملك بقوة و هي ترمقه بطرفِ عينيها .... ثم اعادت نظرها الى النافذة و ألتزمت الصمت ...
لكن بعد مرور دقيقةٍ واحدة شعرت بكفه ... تقترب من كفها الموضوعة بينهما ... ففردها على ظهرها و كتب على راحتها بإصبعه أمام عينيها المذهولتين و اللتين انخفضتا الي اصبعه
" و أنا ...... اشتقت ..... أليك ..... جدا .... "
كان يخط كل كلمة ببطىء .. حرفا حرفا كي تتمكن من قرائته .... و قد قرأتها بالفعل , بمنتهى السهولة و اليسر .. و كأنه نطقها بصوته العميق الوقور ..
فارتعشت بشدة ... و تعرقت جبهتها ... بينما ازداد النبض في باطن معصمها بجنون ..
و ما كان منها الا أن نزعت يدها من يده بسرعةِ وهي تضم قبضتها الى حضنها ... قبل أن ترفع عينيها اليه , فوجدته يبتسم لها .... فأطرقت بوجهها المحمر بشدة و هي تعض على ابتسامتها الخجولة ... و حينها أدارت وجهها الى النافذة ... لكن الإبتسامة كانت رفيقتها هذه المرة ...
هدأت السيارة من سرعتها بعد فترة من الصمت كانت أكثر صعوبة من أن يتكلم خلالها أحدهما ... فرفعت ملك وجهها تنظر حولها مجفلة ... الى أن وقفت السيارة تماما ....
حينها نزل السائق من مكانه كي يفتح لها الباب .. بطريقةٍ مهذبة , لم تعرفها قبلا ..
بينما تولى رائف النزول بحرص وهو يستند الى عصاه بعرجٍ واضح ...
ابتلعت ملك ريقها و هي تبتسم للسائق بخجل ... و ما أن رفعت وجهها الى رائف في الجهة المقابلة و بينهما السيارة ...
حتى تاهت عيناها في وسامته .. و هيبة طلته التي بدت و كأن المكان كله قد تشبع بها ...
لم تكن قد أمعنت النظر به منذ البداية ... فقد كان شوقها أكثر عنفا من أن تدقق به ... لقد ارتمت على صدره و انهارت بكل حماقة ... تودعه شوقا و تشبعه دموعا ....
كان مهيبا ... وقورا ... بحلته النهارية الأنيقة ... و شعره الذي انتشر به اللون الفضي بما يزيد عن سنوات عمره الحقيقية ... حتى عصاه زادته أناقة ... و زادتها وجعا و لوعة عليه ....
مد رائف يده من فوق سقف السيارة و اشار اليها باصبعيه وهو يقول بهدوء
( هلا ساعدتِني و جئت اليً من فضلك ........ )
ارتبكت و توترت أعصابها و هي تدور حول السيارة الى ان وقفت أمامه و عينيها على المكان الذي سيدخلانه ... ففوجئت به مكانا أنيقا راقيا .... باهظ الثمن ... و الداخلين اليه في شدة الأناقة ....
شردت عيناها طويلا بينما بهت وجهها و هي تنظر الى المدخل الأنيق ... حينها قال رائف بهدوء
( ألم يعجبك ؟!! ......... )
اجفلت لصوته فرفعت وجهها اليه ... بينما بدت عيناه داكنتان و كأنهما تتخللانها بقوة و دون سيطرة منها ...
فأخفضت رأسها و هي تقول بخفوت
( لم ارتدي ما يلائم مكانا كهذا ....... )
ساد صمت قليل .... قبل أن يقول رائف بهدوء
( و مع ذلك ستدخلين برفقتي ..... هذا عقابك على ارتدائك الأسود بخلاف الفستان الذي اشتريته لكِ ... )
كان بصوته نبرة مختلفة ... جعلتها ترفع عينيها الى عينيه , فلم تجد بهما ظل الإبتسامة المطمئنة التي اعتادت عليها .. حينها همست بتوتر
( دعنا نذهب الى أي مكان آخر يا رائف ..... أرجوك ... )
ظهر التصلب في عينيه وهو يقول بنبرةٍ هادئة لكن بها من الحزم ما أثار الرجفة بداخلها
( بل سندخل ....... لقد انتظرت هذا اليوم طويلا و أعددت له , و لن أسمح لكِ بإفساده ...... )
فغرت شفتيها المتكورتين قليلا و هي تنظر اليه برجاء ... بينما قابل عينيها بعينين صلبتين غير مبتسمتين , فعلمت حينها أنه قد تم رفض طلبها ...
فأطرقت بوجهها و هي تشبك يديها الا أنه مد يده يقبض عليهما حتى نجح في فكهما و أخذ أحدهما في كفه وهو يدخل معها ببطىء وهدوء ....
و بينما هما يسيران ببطىء قال لها يراضيها قليلا
( الا لو كنتِ تشعرين بالحرج من السير بجوار رجلٍ أعرج ... يفوقكِ عمرا .... )
انتفضت ترفع وجهها اليه مشدوهة ... ثم قالت بهدوء
( سأتظاهر بأنني لم أسمع هذا المقطع الذي تفضلت به الآن ...... )
ابتسم رائف وهو يقول برضا
( ها قد عادت الصغيرة التي أعرفها .... كنت قد بدأت أتسائل عن تلك الطفلة العصبية المتوترة و التي تكاد أن تنشب مخالبها الصغيرة بي دون سببٍ واضح .... )
احمر وجهها من انتقاده الدافىء ... و لم تشعر الا والنادل يقودهما الى طاولتهما .. فضاع منها حرج لحظات الدخول الأولى و هي مأخوذة بوجوده الساحر بجوارها ...
جلست ملك بتردد وهي تنظر حولها .... بينما استراح رائف بمكانه و ارجع ظهره للخلف وهو يطرق على سطح الطاولة ببطىء و هدوء ... ثم قال أخيرا بعد رحيل النادل
( هل أعجبك المكان ؟؟ ..... )
نظرت اليه ملك مجفلة ... فهي رغم كل شيء لم تكن معتادة على الفخامة الشديدة ... فقالت بخفوت و ارتباك ..
( إنه ...... شديد الفخامة ..... )
ابتسم رائف قليلا دون مرح
( يليق بكِ ............. )
رفعت وجهها اليه و قالت بهمس خافت
( لا ........ لا يليق بي , أنا أقل من ذلك .... )
ظل ينظر اليها قليلا .. ثم قال بهدوء صارم
( لا تتحدثي عما يخصني بتلك الصورة مجددا ...... مفهوم ؟! ... )
نظرت اليه طويلا ثم همست مرتبكة
( يخصك ؟!! ........)
قال رائف بنفس الهدوء و الثقة
( هل عندك شك بأنكِ أصبحتِ تخصينني منذ فترة طويلة ؟!! ........)
أخفضت ملك وجهها البهي و هي تشبك أصابعها فوق سطح الطاولة ... و على الرغم من قلبها الذي كان يخفق عنيفا بذعر ... و سعادة مجنونة تتدفق الى شرايينها ... الا أنها وجدت نفسها تجيب بخفوت متوتر
( أحيانا أشعر بأنك لست ...لم تقل اي .... .. بأنني أكثر ....... )
وجدت نفسها تهذي ... و كلامها غير مترابط .... فصمتت و هي تشعر بمدى غبائها , فساد الصمت بينهما طويلا ... الى أن قال رائف بعد فترة طويلة بصوتٍ هادىء غريب ... حزين
( كثيرا ما أنسى ... أو اتناسى جموح عمرك .... و أتصرف بما يلائم ضميري فيما يتعلق بكِ ... )
رفعت وجهها اليه فجأة بقوة و هي تقول
( انسى ضميرك رجاءا ........ إنساه ولو قليلا .... أنت أكثر من وقف بجواري في هذه الحياة , الا يكفيك ذلك لتضع مسألة الضمير جانبا ... و تزيل الحواجز بيننا ؟!! ... )
كان يراقب هجومها بصمت ... بينما ظهر بريق في عينيه , جعلهما و كأنهما تشتعلان ... ثم قال بخفوت
( ها قد عدتِ لجموحك مجددا .... و أنا الذي كنت أتسائل ... )
زمت شفتيها و هي تنظر بعيدا ... بينما قال رائف بهدوء
( هل لديك فكرة عما يعتريني كلما عاتبتني ... و أظهرتِ شوقك السابق لأوانه ؟!! ..... نحن حتى لم نكد نمضي عدة دقائق معا !! .... )
احمر وجهها بشدة و هي تشعر بالجنون من حماقتها الغير متوازنة ..... إنها بالفعل تشعر بنفسها غير متوازنة ...
لكن طالما أنها قالت ما بخاطرها و حدث ما حدث .... فلتتابع بشجاعة , فقالت بخفوت متجنبة النظر اليه
( لا فكرة لدي .... لأنك لا تخبرني .... )
فتح رائف فمه ليرد ... الا أن النادل كان قد عاد سريعا ليقدم اليهما قائمتي الطعام ... تناولته منه ملك برهبة و هي تنظر حولها من جديد ... بينما كان رائف يراقبها بصمت ... ثم قال أخيرا
( هل تحبين شيئا معينا .... أم أختار أنا لكِ ؟! ..... )
رفعت وجهها اليه لتقول بقنوط
( أختر انت ...... من فضلك ..... )
و بدلا من أن ينظر الى قائمة الطعام ... كان قد وضعها جانبا ليميل على سطح الطاولة مشبكا أصابعه وهو يراقبها بجدية ... فارتبكت أكثر , ليقول بعدها بلهجة جادة
( لماذا ترتدين الأسود ؟! ..... )
أجفلت و رفعت وجهها اليه ... ثم أجابت مرتبكة
( أنت تعلم الوضع الذي أمر به ....... زوجي توفي منذ أربعة أشهر فقط ... و هو .... )
صمتت قليلا و هي تشعر باختناق حاد ... فحثها رائف يقول بجفاء
( نعم ......... أسمعك ...)
أخذت ملك نفسا مرتجفا .. و نظرت بعيدا عن عينيه و هي تقول بخفوت
( وهو كان صديق الطفولة ..... رغم كل شيء أشعر بال......... )
صمتت مجددا ... فتابع رائف يقول بهدوء وهو يراقب عينيها
( بالذنب ؟!! ..... بالشفقة لما ناله في النهاية ؟!! ..... أم تحملين بعض المشاعر اليه ؟!!..... )
رفعت وجهها اليه و هي تقول منتفضة
( المشاعر انتهت منذ وقت طويل ...... لم يكن عليك قول ذلك ,...........)
قال رائف دون أن تهتز عضلة بوجهه
( لكنني أردت سماعها منكِ ........... و بحاجة ٍ ملحة ..... )
رفعت ملك وجهها و هي تقول بخفوت مرتبك
( لم أستطع ارتداء الفستان الذي أحضرته من أجلي ..... شعرت بأن هذا غير لائق ... )
رجع رائف في مقعده للخلف وهو يراقبها مليا ... قبل أن يقول بعد فترة طويلة بصوتٍ غريب
( اذن ...... ربما كنت تسرعت في هذا القاء ... و ضغطت عليك أكثر مما تستطيعين .... )
انتفضت و هي تهتف
( تسرعت ؟!!!!! ...... لقد كنت أحيا على أمل هذا اليوم و الذي كنت أعد الدقائق في انتظاره !!!!!! .... )
عادت عيناه لتبرقان ذلك البريق الذي يخطف انفاسها ... و التوت زاوية شفتيه قليلا ... لكنه لم يرد ... بل كان يستغرق اغلب الوقت في مراقبة كل رد فعل لها
و كأنه يخضعها الى تجارب و تحليل شخصي بداخله ... و هذا كان يوترها و يخنقها ... الا يتكلم و يهتف كما تفعل هي معه ؟!! ....
تنهدت بقوة و لم تجد سوى ان تتابع .. فمن الواضح انه يريد السماع منها اكثر من الكلام ... فقالت بخفوت
( أنت لا تعلم كيف اشعر ....... ذلك الشاب الذي كان يتفجر صحة و قوة .... و ظلما .... فجأة أصبح بعيدا عن عالمنا .... لقد تم دفنه !! .... على الرغم من كل ما فعله الا أنني أظل أتذكر طفولته الصعبة و كل ما مر به .... و كيف كنت أنا أجمل شيء بحياته كمان كان يقول .... لم أكن لأطري نفسي لولا وجدته تحول الى هوسا ..... جعله يدمر بداخلي كل احترام لنفسي .... و ينتهك كل حقوقي واحدا تلو الآخر ..... أما الآن .... الآن ..... )
صمتت قليلا أمام عينيه المراقبتين لها ... ثم همست
( الآن .... مات .... مات و ترك الاسم الذي باع نفسه لأجله .... و الأب الذي تبعه معصوب العينين ... و الأم التي لم تكن امه يوما ...... و تركني قبل أن أحقق له ذلك الحلم الطفولي الوحيد بامتلاكي ..... )
صمتت و هي ترفع عينيها الحمراوين اليه .... و كان هو ينظر اليها مقطبا ... ثم همست
( وعد تعيش حياتها بمنتهى القوة .... لم تشعر بذرة تأثر عليه .... و كأنه لم يكن شخصا حيا يتنفس ذات يوم .... ترفض حتى ذكر اسمه في البيت ..... و أقصى ما تستطيعه هو أنها لا تذكره بسوء .... فقط تحاول أن تجعلني أنسى ذلك الشاب و أنه كان موجودا معنا في الحياة ذات يوم ... و هذا يشعرني بانقباض الصدر ... )
عادت لتصمت و هي تطرق بوجهها .... تتلاعب بأصابعها ... ثم همست بخفوت مختنق
( هل يمكنني الآن أن أرتدي هذا الفستان الرائع الذي أحضرته لي ؟!! ..... بينما قلبي في زاوية عميقة منه .. يخفق بسعادةٍ ميؤوس منها و أنا أطير اليك .... كي أراك اخيرا .... )
خفتت كلماتها الأخيرة حتى صمتت تماما .... و توقف قلبها
هل اعترفت له للتو بكل مشاعرها ؟!!!! ... بهذه البساطة ؟!!!! ....
لكن الغريب في الأمر انها ليست نادمة ..... بل هي الآن في ترقب فظيع لأن تسمع منه مشاعرا تماثل ما تفوهت به .....
الا أنه قال أخيرا بهدوء خافت ...
( لو كان الحزن بالملابس ..... لما رأيت للألوان طعما بحياتي كلها .... بدءا من وفاة رؤى ... و حتى موت كريم .... و الذي أفكر به كصبي تربى أمامي و تحت سقف بيتي حتى صار شابا كما تقولين ..... لكن ذلك الشاب .... جعلك تذرفين الدموع دما ..... فكيف أستطيع إضاعة المزيد من الأيام في حدادٍ عليه ؟!! .... )
حسنا ... لم يكن هذا ما توقعت سماعه !!
عادت لتشرد بعينيها بعيدا و هي تشعر بخيبة أمل تكاد أن تكون كحجرٍ واقع بمنتصف صدرها ...
قال رائف بهدوء
( أرى أنني قد ضايقتك مجددا ..... و لا أعلم السبب .... مجددا ...... )
زفرت بقوة و هي تريد أن تصرخ عاليا حتى تتكسر الجدران الزجاجية المحيطة بهما
" انطق ...... بالله عليك انطق بشيءٍ يخبرني بأنك ...... بأنك ...... "
( رائف ..... أهذا أنت ؟!! ...... )
انتفضت ملك على صوت سيدة في منتصف العمر أنيقة و راقية ... تقترب منهما مبتسمة و هي تميل بوجهها كي تنظر اليه من فوق كتفه ....
نهض رائف من مكانه وهو يصافحها بكل تهذيب قائلا
( سيدة سناء ..... أهلا بكِ ... إنها صدفة رائعة ..... )
ابتسمت السيدة و هي تقول بينما عيناها تجريان على ملك بفضول
( فعلا عزيزي ..... منذ فترة لم أرك .... تحديدا منذ حفل زفاف كريم ابن ميساء رحمه الله .... كيف حالها الآن المسكينة ؟!! ..... لقد سمعت بالخبر و أنا في عطلةٍ خارج البلاد ...... )
زم رائف شفتيه وهو ينظر الى ملك بطرفِ عينيه ... لكنه قال بتهذيب
( انها تتعافى ...... و الوقت كفيل بمداواة الأحزان .... )
أومأت برأسها بينما لم ترفع عينيها عن ملك التي كانت جالسة مكانها ... متوترة مشبكة أصابعها بتوتر ....
ثم قالت السيدة باهتمام
( كيف حدث الأمر اذن ؟!! ........ سمعت قصصا مختلفة و انت ماذا أصابك ؟!! ...... )
رد رائف بإيجاز
( انها قصة تطول .... كان حادثا واحدا اصابنا معا و نفضل أن نطوي تلك الصفحة ..... )
قالت السيدة بفضول و هي ترمق ملك
( لكن سمعت أن الشرطة قد ......... )
قطعها رائف بنبرةٍ اكثر صلابة
( لقد انتهى الأمر ...... و نفضل نسيانه ... )
الا أن هذا لم يكن كافيا لينهي فضولها القوي و هي تلتفت الى ملك قائلة
( ألست أنتِ زوجة كريم ؟!! ...... لن أتوه عن شكلك في الزفاف ؟!! ... كيف تشعرين الآن ؟!! ... )
نهضت ملك من مكانها بوجهٍ ممتقع و هي تعدل من تنورتها السوداء الضيقة .... و كأنها تحتمي بلونها الأسود من أعين الناس و ألسنتهم التي لا ترحم ...
فقالت بخفوت
( نعم أنا ......... تشرفت معرفتك ..... )
نقلت السيدة عينيها بينهما و هي تبتسم ابتسامة باردة لتقول
( لطالما كان رائف طيب القلب ..... يراعي عائلته كلها , و أنتِ الآن أصبحتِ من العائلة .... )
نظرت ملك جانبا و هي تتنفس بسرعة شديدة ... بينما بهت وجهها و بدت و كأنها على وشك الإصابة بالإغماء ..... حينها تدخل رائف وهو يقول
( عذرا سيدة سناء ....... ملك لا تبدو بخير ... ونحن مضطران للرحيل الآن .... )
مد يده ليمسك بكف ملك اللتي فغرت شفتيها بصدمة ... الا أنه جرها خلفه بقوة ليخرجا من هذا المكان تحت نظرات تلك السيدة المستنكرة و المذهولة ......
كان رائف صلب الملامح بدرجةٍ مخيفة ... و هي تحاول ان تلاحق خطواته ... فقالت و هي تلهث من خلفه
( رائف .... تمهل على قدمك المصابة ..... هل انت بخير ؟!! .... )
للحظة بدا و كأنه لم يسمعها ... لكنه بعد لحظتين , توقف و استدار لينظر اليها بملامح غير مقروءة ثم قال بجدية
( ماذا عنكِ ...... هل انت بخير ؟!!! ..... ما حدث للتو شيئا ستواجهينه كثيرا منذ اليوم .... )
وقفت مكانها و الهواء يتلاعب بشعرها و يدفع خصلاته الشقراء فوق وجهها الأبيض الشاحب ... و كأن عينيه كانتا طوق النجاة ... فقالت بعد فترة بثقة
( و أنا مستعدة له ..... طالما كان هذا ثمن وجودي معك ....... )
هل هناك اعتراف أقوى من ذلك ؟!!!! .... هل تقفز لتتعلق بعنقه و تخبره بأنها ..... تحبه !!! ... بل تعشقه من كل قلبها !!! ....
ظل واقفا في مكانه ينظر اليها طويلا بملامح جامدة .... قبل ان يبدأ طيف ابتسامة في الظهور على وجهه ببطىء تدريجيا .... حتى صارت و تحولت الى اجمل و اقوى ابتسامة رجولية رأتها بحياتها ....
فشد قبضته على كفها ليقول بهدوء
( اذن تعالي ........ أريد انقاذ المتبقي من ذلك الموعد الكارثي .... )
جرت خلفه و هي على استعدادٍ لأن تتبعه لآخر العالم .... اليس هو الغريب ؟!! ..... السكن الدافىء لقلبها ...
و كان المتبقي من الموعد هو أن طار بها الى عشه البعيد .... كانت تعرف قبل حتى ان يأمر السائق ...
قلبها اخبرها بذلك .....
وصلا اليه ووقفت السيارة امام البيت الذي شهد أجمل ايام حياتها ... و أخرها الأكثر ذعرا على الإطلاق ...
نظر اليها رائف ليقول بخفوت
( هل تثقين بي ؟!! ...... )
نظرت ملك الى رائف طويلا قبل أن تقول بهدوء
( ألازلت تسأل ؟!!! .......... )
قال لها رائف مبتسما بخفوت وهو يتخلل أصابعها بأصابعه
( اذن هل تقوين على الدخول ؟!! ...... )
قالت ملك بنفس الشجاعة و الرقة
( لم أكن لأتبعك لولا أوقوى على ذلك ..... أنت معي و هذا يكفي ليمنحني الشجاعة ... )
ابتسم رائف لعينيها وهو يقول بخفوت
( اذن تعالي ..... بيننا حديثا لم ينتهي بعد .... )
لحقته ملك و هي تتنهد هامسة بداخلها
" ليتني أدرك نهايته .... عل قلبي يرتاح أخيرا "
حين دخلت مع رائف من باب البيت , شعرت بالدوار للحظة و هي تتذكر ما حدث .... المدخل كان له ذكرى بشعة مرت أمام عينيها ...
الا أنها أقسمت الا ترتعب .... أقسمت الا تسمح للضعف أن يتخللها بتلك اللحظة بالذات ...
و دون ارادة منها وجدت نفسها تشد يدها على قبضة رائف ... و التي كانت اصابعه تتخلل أصابعها بدفىء يصل الى أطرافها كلها ...
شعر رائف بارتجافها للحظة ... فتوقف ينظر اليها دون ان يترك يدها ... ثم قال بخفوت
( انا هنا .... معكِ ...... )
رفعت وجهها الشاحب اليه و ابتسمت .... ثم همست ترتجف
( نعم ............ )
قال رائف بصوته العميق وهو يشير بعينيه
( اذن انظري للمكان ......... و أخبريني برأيك .... )
أخذت ملك نفسا عميقا ... و أبعدت عينيها عن المدخل الى أرجاء المكان وهو يشدها معه كي تدخل أكثر ..
لكن عيناها اتسعتا بذهول و هي ترى ان المكان قد تغير جذريا .... و ليس مجرد التغيير البسيط الذي قامت به ....
بل كل شيء قد تغير .....
الأثاث ... و لون الجدران .... و اللوحات و الوسائد ....
كل شيء تغير بحيث بات يشبهها أكثر و أكثر ..... ألوانه أصبحت عصرية أكثر .. و أشد دفئا و حبا للحياة ...
و مكتبة طويلة سلبت عينيها بكل الكتب و الروايات التي تحتويها ....
نظر اليها رائف و ابتسم سعيدا بنظرتها المشدوهة .... قبل أن يقول ضاحكا
( تلك المكتبة هدية من خالي ....... انها لتضحية كبيرة أن يهديك جزءا من مكتبته .... )
فغرت ملك شفتيها ... ثم همست باختناق و صدمة و عدم تركيز
( يهديني ..... أنا ؟!! ....... لكن هذا بيتك أنت ........ )
رفع احدى حاجبيه , الا أنه لم يرد .... بل قال بكل هدوء متجاهلا عبارتها وهو يشدها اليه أكثر ..
( الحقيقة أن عاطف قد أبهرني بكرمه ..... فليست تلك هي الوحيدة منه لكِ .... انظري هناك ... )
أمسك بكتفيها ليديرها الى الجهة الأخرى .... فوجدت كرسي وثير كلاسيكي و ملون بأناقة .. و أمامه طاولة صغيرة ثمينة يعلوها ... شطرنج عاطف مفتوحا عليها ... و قد رصت القطع لبدأ دور جديد ...
شهقت ملك بصوتٍ عالٍو هي ترفع يدها الى صدرها هاتفة
( الشطرنج ....... هدية لي أنا ؟!!! .... )
ابتسم رائف بحنان و أصابعه تتحرك برفق فوق كتفيها دون إرادة منه ..... ثم انحنى قليلا ليهمس بأذنها
( أما باقي الهدايا فستكون مني أنا ...... )
تصلب جسدها ... و شعرت و كأن روحها تزهق بعنف .. لتعود و تزدهر من جديد ... فابتلعت ريقها بصعوبةٍ و هي تحنى رأسها للأمام ... بينما تشعر بأنفاسه الدافئة تلاعب جانب عنقها ...
ودت لو تهرب من بين يديه بعد أن تركتها الشجاعة التي كانت منذ لحظات ... و قلبها الآن تحول الى مضخة تالفة ... تضخ مرة .. لتتتوقف عشرات المرات , ثم تضخ بأقوى منها ....
و صدرها كان يعلو و ينخفض بسرعة و ألم ... و هي غير قادرة على التقاط انفاسها ... بينما خرجت همستها ذاهبة الأنفاس
( رااااائف !!! ............ )
همس رائف بأذنها
( أتحبين أن تبدأي دورا جديدا معي ؟!! ........ )
استدارت اليه و هي تتنفس بسرعة وقوة ... و ضفيرتها ملقاة على كتفها تتوهج تحت الضوء الشاحب ... و حين خذلها الكلام ... أومأت برأسها مواقفة و عيناها تلمعان بدموعٍ حبيسة ...
جذبها رائف لتجلس على الكرسي الوثير ,..... بينما هي تسير خلفه مغيبة و كأنها تعيش حلما جميلا طويلا ...
ثم جلس أمامها على كرسي صغير ... بعد أن خلع سترته أمام عينيها المبهورتين بوسامته و جاذبيته الرجولية البحتة ...
كان يتصرف بهدوء و أريحية .... كشخص في بيته , بينما هي تموت في داخلها من عنف مشاعرها التي توشك على أن تحرقها ...
و تسائلت بجنون .... الا يشعر بها ؟!!! .... كيف يكون بمثل هذا الهدوء ... و الوقار ... و الجاذبية ؟!!! ...
ليس عدلا أن يكون جذابا حنونا الى هذا الحد .... بينما هي تكاد أن تحترق و تختنق في آن واحد ...
أخذت تراقبه و هو يشمر كمي قميصه الأبيض الأنيق ... فقالت هامسة بخفوت
( لما لا تجلس أنت على الكرسي الكبير كي تريح قدمك ...و تدعني أجلس أنا على هذا المقعد الصغير ..... )
ابتسم رائف وهو يقول ببساطة دون ان ينظر اليها
( على العكس .... هذا المقعد أفضل لي كي أمد ساقي .... أرجو الا تضايقك .... )
ابتلعت ريقها بصعوبةٍ و هي تراقبه ... يمد ساقه ذات القدم المصابة حتى كادت أن تلامس قدمها ...
بينما بدا جميلا عريض الصدر ... فضي الشعر بين سواده ... أمام عينيها المفتونتين .. و كم ودت في تلك اللحظة لو ارتدت الفستان الذي اشتراه لها و دعت الحزن جانبا !!! ....
همست ملك تقول بخفوت
( أين سيد ؟!! ...... لم أره حين دخلنا !! ..... )
قال رائف بهدوء دون أن ينظر اليها ...
( لقد منحته أجازة طويلة الى أن ينتهي الأمر ....... وهو في حاجةٍ لها ... )
قالت ملك بإختناق
( و أنت ..... ماذا عنك و ماذا سيفعلون معك ؟!! .... لم نجد الوقت لنتكلم من قبل ... )
رفع رائف وجهه اليها وهو يقول بجدية صارمة
( و لن يكون هذا الوقت الآن ........... نهاية الموضوع ... )
ثم عاد ليرسم على وجهه ابتسامته الراقية وهو يقول بهدوء
( مبدئيا ...... سيف يعلم بأمر موعدنا , فلا تقلقي .... )
ابتسمت بحزن و هي تتأمله ... قبل أن تقول بخفوت
( أعلم أنه يعلم ............ )
رفع رائف حاجبيه وهو يقول
( لكنه لم يعلم أنني سأصطحبك الى بيتي مجددا .... لذا يمكنك البدء في القلق ... )
ضحكت رغما عنها من بين دموعها الرقيقة التي تشوش رؤيتها له ....
مد جذعه للخلف .... أمام عينيها المتأملتين له ليمسك بسترته ... ثم أخرج منها مظروفا
مده اليها وهو يقول ببساطة
( قبل ان أنسى ...... خذي هذا , إنه مصروفك .... )
زفرت ملك نفسا مرتجفا و هي تمد يدها لتأخذ منه المظروف .... كثيرا ما تخيلت اليوم الذي ستأخذه من يده ... لا أن يصلها عبر وسيط .... لكنها كانت تشعر بالإحباط لهدوءه ... و البساطة التي يعطيه بها لها ...
لقد تخيلت كثيرا هذا المشهد .... حتى أنها كتبت عنه تصفه بصورةٍ عنيفة المشاعر ... مشتعلة العبارات التي كانت تنتظرها بصوته ....
و طبعا ليس هناك خطاب بداخله ....ككل مرة ... لأنه هنا معها الآن ...
أخفضت المظروف الى حجرها بصمت و هي تطرق بوجهها ... فقال رائف متحيرا
( ألن تفتحيه ؟!!! ........... )
همست ملك بخفوت
( سأفتحه حين أعود للبيت ..... لم يكن عليك أن تكلف نفسك يا رائف ... )
قال رائف عاتبا
( ظننتك قد بدأتٍ اعتياده ..... و الإستمتاع به ..... )
أومات برأسها دون أن ترفع وجهها اليه ... و همست بخفوت متكورة الشفتين
( بلى ........... )
فقال رائف مقلدا لهجتها الخافتة الأنثوية ... و كأنه يخاطب طفلة
( بلى ؟!!!!! ........ حسنا يا بابا ... اياكِ و أن تكوني قد عدتِ لقراءة مثل تلك الروايات التي رأيتها آخر مرة على حاسبك ... و الا فسأمنع عنكِ المصروف .... )
عقدت حاجبيها و هي ترفع وجهها الأحمر المشتعل اليه ... و هتفت مدافعة
( ليس من العدل أن تذكرني بذلك ........ لم أخترها بقصد ... )
قال رائف متظاهرا بالصرامة
( سأعمل على التأكيد من ذلك منذ اليوم ..... و سأفتش حاسبك يوميا .... )
زمت شفتيها و هي تنظر اليه ... إنه يعاملها كعذراء طفلة ..... و كم يشعرها ذلك بالدلال ... و الغيظ ... في آنٍ واحد ...
قالت ملك بقنوط
( عليك أن تصل الى حاسبي أولا ........ إنه في بيتي ... )
لم يرد عليها رائف على الفور .... بل قال بهدوء بعد فترة ناظرا الى عينيها .... آمرا
( العبي ......... )
وضعت وجنتها على احدى كفيها و هي تتنهد ...لتحرك أول قطعة ....
و مر الوقت وهما يلعبان بصمت ... يختلسان النظر الى بعضهما ... تتلامس أصابعهما ... و الهدوء من حولهما يضفي جوا من الرقة ليجعلهما يذوبان بعالمٍ خاليٍ بعيد ...
الإبتسامات كانت الردود الوحيدة بين نظراتهما ....
عيناه لا تنفكان عن ترك ضفيرتها الطويلة ... و تسائلت عن ردة فعله لو كانت قد تركت شعرها منسابا أمامه ... فوق الفستان ذو الزهور الصفراء ....
شردت ملك ... و هي تفكر في حركتها التالية .... فقال رائف بخفوت مبددا الصمت
( أتراهنين على أنني أعرف حركتك التالية ؟؟ ........... )
رفعت وجهها تنظر اليه .... ثم ابتسمت برقة و جمال و همست
( ستخسر الرهان اذن .......... )
نظر اليها و ابتسم ... فاختلج قلبها و شردت عينيها على بضع شعراتٍ فضية قصيرة ظاهرة على فكه القوي ...
الا أنها أفاقت من شرودها على صوته يقول بخفوت وقور
( اغمضي عينيك ..........و لنرى .. )
ابتلعت ريقها ... لكنها أغمضت عينيها مطيعة علها تهدىء من ضربات قلبها العنيفة ...
سمعت صوت حركة خافتة ... فهمست بخفوت
( لا تحرك قطعي ......... )
الا أن رده كان
( هشششششش ..... )
و بعد صوت آخر بدا كالرنين .... همس أخيرا
( افتحي عينيك ...... و هاتِ قيمة الرهان ..... )
فتحت عينيها ببطىء و هي تنظر الى رقعة الشطرنج ... و طبعا كان اول ما طارت اليه عيناها .. هي القطعة التي كانت تنوي تحريكها ... كي تتأكد من أنه لم ينقلها من مكانها ...
لكن لعدة لحظات لم تستطع استيعاب ما تراه !!!
فقد كانت قمة هذه القطعة الطويلة ... يقبع خاتم زواج ذهبي براق .. يعلوه خاتما آخر له حجر أزرق قاتم محاط بماسات تبرق ببريق يخطف الأعين ....
شعرت ملك في تلك اللحظة بأنها قد عجزت عن التنفس ... بينما عينيها كانتا متسعتين بذهول ...
فقال رائف مبتسما .... متوترا ...
( اذن .... هل ربحت الرهان ؟!! .......... )
أخذت ملك تحاول تنظيم تنفسها بمعجزة ... ثم همست أخيرا باختناق
( لا أفهم يا رائف .......... )
ابتسم ابتسامة خلابة وهو يقول بخفوت
( ربما لو كنتِ فتاة عاقلة و فتحتِ مظروف مصروفك ... لكنتِ استوعبتِ سريعا ... )
رفعت اليه عينين مهتزتين ... متوترتين ... مليئتين بالدموع , لكنها أسرعت و رفعت المظروف اليها ... و فتحته بأصابع مرتجفة ... فوجدت الأوراق المالية المعتادة لتشتري ما تتمناه و يسعدها .. بماله هو .. لا أحد آخر ....
لكنها وجدت خطابا آخر منه .... شهقت بصوتٍ عالٍ و هي تدرك بأنها كانت على وشك أن تضيع احدى خطابته الثمينة ... ففتحته بسرعةٍ ووله ... الا أن الورقة كانت بيضاء تماما ... خالية الا من كلمة واحدة
" أتتزوجيني ؟!!! ..... "
شهقت ملك مجددا بصوت أعلى و أقوى ... و هي ترفع يدها الى فمها المفتوح ...
الا أن رائف تجاهل شهقتها وهو يقول بهدوء خافت .... قلق ...
( ملك ..... لم تكن تلك حركة عاطفية بقدر ما كنت أكثر قلقا من أن أسألك هذا السؤال مباشرة ... منذ أشهر طويلة و تحديدا منذ أن طلبت يدك من سيف ... و أنا أشعر بالتوتر من تلك اللحظة .... خشيت أن تظني بأنني أطلب منك ثمنا لوقوفي بجوارك .... و كم أخشى أن توافقي بدافع لطفك و حرجك ..... أعلم أن الفارق بيننا في العمر يعد أزيد من المفترض .... لكن أنا .....أعدك إن وافقت ... فسوف أحاول جهدي أن .... )
قاطعت كلماته الخافتة المتوترة و هي تهتف من بين دموعها الغزيرة المجنونة
( أوافق بدافع اللطف ؟!!!!!!!!!!!!!! ........ ألم تسمع شيئا من كل ما أخربتك به من قبل ؟!! ... ألم تصلك كل تلميحاتي و همساتي ؟!!! .... الم تفهم حتى الآن ؟!!! ..... )
كانت تهتف بحرارةٍ من بين شهقاتِ بكاء ناعم لم تدرك أنها تبكيه فعلا ... بينما كان رائف ينظر اليها عاقدا حاجبيه ... وهو يراها تبكي برقة قبل أن تشهق هاتفة
( ألم تفهم بأنني أحبك ؟!!!! ..... انا احبك يا رائف ..... )
أخذ نفسا مرتجفا وهو يهمس متأوها
( ياللهي ....... ملك لا تقولي هذا الآن ...... )
هتفت بقوة و حرارة
( لماذا ؟!!!! ....... لماذا أخاف و ممن ؟!!! ..... أنا أحبك ...... )
التوى حلق رائف بتشنج وهو يقول بصوتٍ جاف مختنق
( امنحي نفسك الفرصة أرجوكِ ..... لا تقولي هذا الآن ... )
مالت اليه وهي تهتف من بين دموعها
( و لماذا لا أفعل ؟!!! ....... ألم تطلب مني الزواج للتو ؟!!! ... أليست هذه الورقة بخط يدك ؟!! ... )
هتف رائف فجأة بصوتٍ رجولي قوي
( نعم ..... نعم , أريد الزواج منكِ أكثر من أي شيء آخر أردته في حياتي .... لكن أن توافقي لأنك تحبينني أو هكذا تظني فهذا يقلقني و بشدة ..... أنتِ لا تزالين تحت صدمة مروعة ... و لو وافقت على الزواج بناء على حبك لي ..... فهذا يخفيني من أن يكون مجرد وهم و هذا احتمال وارد و بشدة ..... أريدك أن توافقي بعقلك .... أرجوكِ قولي فقط انكِ مقتنعة ..... )
كانت دموعها قد انسابت على وجنتيها و بغزارة و على عنقها الطويل الشاحب و هي تنظر اليه بألم ... مدركة بأنه لم يقل أبدا انه يحبها .... بل أنه رفض حبها الذي قدمته له بمنتهى السهولة ...
الا أنها رفعت ذقنها و هي تقول بهدوء و صلابة من بين دموعها الغزيرة
( أنا مقتنعة بأنني أحبك يا رائف .... و أنت لا تمتلك الحق كي تتهم حبي بأي اتهام .... فهل تقبلني كما أنا ؟!! ... )
كان ينظر اليها مذهولا بينما هناك عرق مجنون ينبض بحلقه وهو يسمع بكائها الناعم مختلطا بصرامتها و هي تقبض على ورقته منتظرة رده ... فقال بخشونة متحشرجة بدت كزمجرة شرسة
( ماذا لو أكتشفتِ خطأك فيما بعد ؟!! ..... لا أظن أنني سأسمح لكِ بالرحيل حينها .... أنا احذرك منذ الآن .... )
رفعت ذقنها و هي تقول بهدوء
( حقك حينها الا تسمح لي بالرحيل ...... الشرط نور ... )
زفر نفسا مرتجفا متحشرجا ... وهو يهمس
( ياللهي !!! ...... أنتِ أكثر احلامي جنونا .....)
ابتسمت رغم عنها بأسى من بين دموعها التي تحجبه عنها ... ثم همست باختناق
( و انت ضوءا انبعث لي في شدة الظلام .... أنت هدية من القدر لي , في الوقت الذي ظننت به أن قلبي قد مات .... و رفض الحياة .... )
رمش بعينيه عدو مرت قبل أن يستند بكفه الى ساقه الممتدة وهو يطرق برأسه ... قبل أن يقول بخشونة متحشرجة
( اذن ...... هل .... يمكنني أن ألبسك الخاتم ؟! ... على أن يكون عقد قراننا خلال اسبوع على الأكثر ... )
ضحكت منتحبة بعنف و هي تهتف
( أنت عملي جدا ....... لكن لحسن حظك أنا أكثر لهفة منك , لذا سأقبل شاكرة ...... )
أخذ نفسا عميقا ... قبل أن يمد يداه ليلتقط الخاتمين ... ثم أمسك بكفها البيضاء الناعمة , ففردها على كفه ببطىء يتأمل جمالها و نعومتها بصمت أخجلها بشدة و جعل وجهها يتورد ...
ثم تحرك ليدس الخاتم الذهبي ... و تلاه بالخاتم ذي الحجر الأزرق ... و ما أن انتهى حتى نظر اليهما مسحورا بجمالهما في أصبعها حتى بدت كلوحة فنية .... و همس برقة
( ما اجمل يدك يا صغيرة !!! ........ )
ابتلعت ريقها بتشنج و هي تهمس باختناق مشتعل
( هلا استعدتها رجاءا الى أن يتم عقد القران ؟!! ...... )
رفع وجهه اليها ليقول بجفاء خافت دون أن يترك يدها
( ملك ...... لا تزال هناك قضية مفتوحة و ..... )
كان هذا دورها لتضحك باكية و هي ترفع يدها الأخرى لتضع أصابعها على شفتيه ... فشعرت بارتجافتهما تحت لمستها ... و هي تهمس
( هشششششششش ..... لا تفسد خطبتي رجاءا .... )
صمت بالفعل وهو ينظر اليها بندم ... و ألم ... و قلق ... و كل المشاعر التي لم تنجح البتة , في محو جمالها في تلك اللحظة من عينيه ... و هي ترتدي الأسود دون أي ذرة من مساحيق التجميل ... و ضفيرتها على كتفها ... لم تكن عروسا تقليدية ... و مع هذا لم يرى من هي أجمل منها من قبل !!!
و تلك الآية من الجمال توشك على أن تصبح ملكه !!! .... فكيف يترفق معها ؟!!! ...
دخلت شيراز الى البيت مدفوعة بقوة قبضة وليد على ذراعها والذي كان يجرها جرا الى الداخل ... وهو يدفعها بقسوة لينزع يده هاتفا بغضب
( الى أين تظنين نفسك ذاهبة ؟!! ....... )
كانت مشعثة الشعر الخفيف الفوضوي حول وجهها الأحمر ... و هي تلهث غضبا و جنونا ... مندفعة الى غرفتها ما أن تركها ... فصرخت بقوةٍ دون أن تستدير اليه
( ذاهبة الى مصيبة تبعدني عنك ....... )
صرخ وليد من خلفها يهدر بصوتٍ زلزل الجدران
( انتظري هنا ..... أنا أكلمك .... )
الا أنها تجاهلته و هي تهتف بغضب
( كلم الحائط ... عساه يسقط عليك ليسحق رأسك الغبي .. أيها المعتوه ابن ال ..... )
صرخت فجأة حين شعرت بقبضة تقبض على خصلات شعرها بقوة تمنعها عن المزيد من السباب وهو يديرها اليه لتجد وجها مشتعلا من شدة الجنون وهو يهمس من بين أسنانه
( هل أزين شفتيك بقبضتي الآن لأسقط صفي اسنانك كي تنظفي لسانك هذا ؟!!! ... هل تحبين ذلك ؟!! ...... و صدقيني سأكون أكثر من ممتنا للفرصة .... )
كانت تلهث و تتنفس بسرعةٍ و هي تنظر اليه .... و عيناها متعلقتان بقبضته المضمومة ... لدرجة بياض مفاصل اصابعه ... لعقت شفتيها قليلا قبل أن تهمس باختناق
( أترك شعري .... لم يتبقى منه الا القليل , و سيسقط هذا القليل في قبضتك ..... )
لم يتحرك من مكانه وهو ينظر الى وجهها المحمر غضبا ... بينما عيناها قد بدأتا في التبلل رغما عنها ...
تركها أخيرا بقوةٍ دفعت رأسها ... فاستدارت لتغادر محنية الرأس الا أنه قال بصوتٍ سمرها مكانها
( لم آمرك بالإنصراف ...... )
وقفت مكانها لترفع وجهها البائس قبل ان تقول باختناق
( لست خادمتك ......... )
الا أن صوته قصف من خلفها
( بلى ...... ستظلين خادمة هنا طالما تتعمدين تلك التصرفات التي تحقر من شأنك .... استديري الي .... الآن ... )
انتفضت مكانها ...من صوته القوي , الا أنها أستدارت تنظر اليه بصمت و هي مطرقة الوجه ... ثم قالت بصوتٍ فاتر مختنق
( أنت تستخدم قوتك الجسدية لتخيفني ..... و هذا ليس انتصارا شريفا ... )
قال بمنتهى البرود و دون أي شعور بالذنب
( حربي معك حرب قذرة ...... ها .... أرني كيف ستتصرفين ؟!! .... )
رفعت عينيها الخضراوين الميتتين تنظر اليه بصمت و قد هدأ جسدها أخيرا من فرط انفعالها .... فهدر وليد يقول
( هل هدأت الآن و احترمت نفسك ؟!!! ........ )
ظلت تنظر اليه بصمت دون رد ... فهدر قائلا
( لم أسمع ردك ............ )
انتفضت قليلا و هي تغمض عينيها ..... صوته الهادر يخيفها و بشدة ... تبا لذلك ... منذ متى كانت تخاف الصوت العالي ؟!!! ....
قالت أخيرا بصوتٍ قاتم لا يكاد أن يسمع
( نعم هدأت ........... )
هدر صوت وليد غير مسامحا
( أكملي العبارة كلها ........ )
ابتلعت غصة في حلقها ... و اخذت نفسا مرتجفا قبل أن تقول باختناق
( و احترمت نفسي ........... )
ظل ينظر اليها قليلا غير مسامحا ... قبل أن يقول بصرامة واضعا يديه بخصره فبدا أكثر ضخامة و قوة ...
( الآن هلا أفهمتِني عن تصرفك القذر مع الطبيبة ؟؟!!!! ..... لقد اثرتِ فضيحة لا تغتفر .... لقد شتمتِها و كدتِ ان تضربينها !!!! ..... طبيبة محترمة و لها معرفة بي و بأختى .... كيف أمكنك ان تفتعلي مثل تلك الفضيحة العلنية و من المرة الثالثة فقط !! .... )
صرخت شيراز بقوة و غضب و هي تلهث بعنف
( أخبرتك أنها فكرة فاشلة .... من يسمعك سيظن أنك أحمق ممن يتم سرقتهم بسهولة من أصحاب مثل هذه الوظائف ...... لم أظنك بمثل هذه الحما .... )
قطعت كلماتها الغاضبة و هي تراه يندفع اليها و عيناه تلمعان بشرر خطير .. فهتفت بقوة و هي تتراجع خطوة و ذراعيها أمام وجهها
( أنا آسفة .... لم اقصد ... لم أقصد ..... )
وقف مكانه ينظر اليها وهو يتنفس بقوةٍ لفحت ذراعيها المرفوعين أمام وجهها .... فهتف بصرامة
( أخفضي ذراعيكِ ......... )
انزلت ذراعيها ببطىء و توتر ... و هي تقف امامه مرتجفة , مطرقة بوجهها ... ثم قالت أخيرا بصوت خافت
( أنت تزرعني في مكانٍ ليس بمكاني .... تلك الجلسات للمرفهين , ممن يعانون من كثرة المال و تعنت الأهل .... و تظن انهم ينالون علاجا فعلا مقابل ذلك المبلغ الضخم الذي دفعته ..... لا أصدق أنك تصدق بمثل تلك التفاهات !!! .... )
لوح بذراعيه و عينيه متسعتين بغضب ... ثم هتف بقوة وهو يمسك بذراعيها بقوة و يهزها
( و انت ما ادراكِ ؟!!!! ..... هل تظنين نفسك إنسانة موزونة قادرة على تقييم جلسات طبيبة متخصصة ؟!!!!!! ..... أنتِ لا تستطيعين قراءة صفحتين من جريدة بالله عليكِ !!! .... )
هتفت شيراز و هي تشير باصبعها بكل قوة ..
( أنا موزونة اكثر من كل هؤلاء المعاتيه .... الحياة تقاس بالخبرة ... لا بالقراءة أو بالشهادة !! ... )
ضحك عاليا مجلجلا وهو يصفق عاليا هادرا
( ماشاء الله على الخبرة التي اكتسبتِها !!!!!! .... تدرس بكتب ....)
ارتجفت شفتيها و هي تنظر اليه بعينين عميقتي اللون .. متألمتين ... ثم قالت بخفوت
( الا تمتلك شيئا جديدا تهينني به ؟!! ..... )
هتف بقوةٍ و عنف
( أنتِ من تهينين نفسك بتصرفاتك المتدنية تلك .... انا احاول و امنحك الفرص كي تحيي كانسانة نظيفة محترمة و أنتِ لا تقبلين ... و كأنك تصرين على بيع نفسك بعقد مشروع ... و الصاق القذراة بلسانك .. و رفض كل ما هو محترم ... )
هتفت شيراز بغضب
( أنا لم افعل اي تصرف يسيء اليك منذ أن تزوجتك .... انا بالفعل أحيا نظيفة محترمة , انت من اخذت عني فكرة لن تغيرها أبدا .... )
أوشك على أن يصرخ بها ... الا أنه أغلق فمه وهو ينظر اليها ... صدره يخفق و يتنفس بعنف .. يعرف انه لو صرخ مجددا فسينطق بما سيندم عليه فيما بعد ....
ظل الصمت بينهما طويلا ... قبل أن تقول بخفوت ميت
( سأذهب لأعد الغذاء ...... هذا شيئ مفيد على الأقل ..... )
تركته لتدخل غرفتها تبدل ملابسها أمام عينيه اليائستين ... و كلأنها تعبت و كرهت نظرة اليأس تلك ....
زفر بعنف وقوة و هي يستدير الى النافذة ينظر منها بجنون و تعب ... و خلال لحظات شعر بها تخرج لتتجه الى المطبخ فاستدار ينظر اليها و هي ترتدي قميصا حريريا مخططا يشبه سترتة المنامة الرجالية .. ضخم و يصل الى ركبتيها و بكمين طويلين ... بينما رفعت شعرها في شكل عشوائي غاضب و يشبه القنافد ...
لم تدري وهي تتجه للمطبخ أمامه ان جزء من روحه كان قد خطف معها و هي تمر أمامه مرورا عابرا يفتقر الى الأناقة ... مرتدية خفه البيتي الضخم !!
كانت تبدو كمن استيقظت لتوها من ليلة حب ... و كم أشعل ذلك روحه مقترنة بذلك الألم الذي بدأ يعتاده كلما اقترب منها أكثر ...
بدأت اعداد الطعام في المطبخ ... و من هنا بدأت الحرب ... من ضرب الأواني و الأطباق ..
و كالعادة انتهى الأمر بسقوط شيء ما ليتكسر ...
كل يوم تعتذر عن كسر شيء من أدوات المطبخ ... الا أنه كان واثقا أن هذا التصرف يريحها ..
و بالفعل سمع صوت تهمشم قوية ... زجاج قوي و كأنها كسرت رف الأكواب الزجاجية كله ....
دخل اليها ببطىء وهو يراها تمسك بمكنسة ... لتنظف الأرض من بقايا الأكواب الزجاجية و هي مطرقة الرأس ... هادئة الملامح تماما !!! ....
خشي أن تجرح نفسها ... و كاد ان يتقدم منها الا أن المهمة انتهت بنجاح و دون اصابات هذه المرة ...
توجهت الى موقد و أخذت تعد شيئا و تقلبه في مقلاة ضخمة .. دون ان تشعر بوجوده ....
الا أنه لاحظ أن كتفيها تنحنيان أكثر و أكثر ..... حتى انخفض رأسها فجأة و هي تشهق شهقة بكاء عالية ....
ثم كتمتها لتبكي و تبكي و تبكي بعنف ... دون صوت !!! ...
كانت ترتجف بشدة و تنتحب و هي تكتم شهقاتها ظنا منها أنه لا يسمعها ....
أخذت تقلب الخليط الغريب أمامها و الذي لا تتذكر مكوناته ... و هي تشعر بألم عنيف في صدرها من شدة ما تكتم صوت بكائها العنيف ...
الا أنها شعرت فجأة بذراعين قويتين تلتفان حولها من الخلف بقوة .....و جسد رجولي ضخم يحيط بها و فم يلامس جانب عنقها وهو يهمس بخفوت
( اهدئي ....... اهدئي ..... )
هاله أن يستشعر بذراعيه مدى تشنج عضلات جسدها الصغير و هي تحاول أن تكتم بكائها ... فقال بخفوت أكثر
( لا بأس أبكي ..... لن أتركك ..... )
هزت رأسها رفضا ... الا أنه شدد من ضمها اليه بقوةٍ وهو يهمس
( بلى ابكي ...... لا أحد هنا سوانا , يمكنك البكاء ...... )
و كأنه قد أطلق عليها رصاصة الرحمة ... فعلا صوتها بنحيبٍ عالٍ و هي تنحني للأمام قليلا ... باكية بكل قوتها ...
مضت بهما الدقائق وهو يضم جسدها المنتفض اليه بقوة .. كي لا يسمح لها بالسقوط ...
ثم مد ذراعه من خلفها كي يغلق الموقد .. قبل أن يعاود ضمها بقوة و نحيبها يتعالى ... ثم قال أخيرا بخفوت
( بما تحدثتما ؟!! ........ )
عادت لتهز رأسها نفيا و هي تنتحب و تنشج بقوة ...
الا أنه قال بهدوء و يداه تتحسسان معدتها المنقبضة بقوة
( أخبريني ....... بما تحدثتما ؟؟ .........)
استطاعت أخيرا القول بصوت مختنق من شدة البكاء
( لا أحب الحديث عن نفسي .... لا أريد أن أبوح بما لا أريده ..... و هي أجبرتني .... )
عقد وليد حاجبيه وهو يقول بخفوت
( كيف أجبرتك ؟!!! ..... هل تجاوزت معكِ حدودها كطبيبة ؟!! ........)
عادت لتبكي بقوة ثم قالت من بين نشيجها
( استدرجتني في الكلام ..........)
ابتسم وليد رغم عنه وهو يزيد من ضمها اليه .. و لم تنتبه الى أنه كان يؤرجحها ببطىء أثناء وقوفهما ليتمايلان كي تهدأ ... ثم قال بهدوء
( لهذا كدتِ أن تضربينها ؟!! ............)
قالت شيراز و هي تبكي بقوة
( لقد استفزتني .... كانت اعصابي قد بدأت تنهار ... و كان عليها أن تدرك ذلك .... )
رفع شفتيه يقبل فرق الشعر في رأسها برقة ... ثم قال بهدوء
( أنتِ محقة بذلك ....... )
ثم قال مازحا
( لكنها بالتأكيد لم تتخيل أن تكون ردة الفعل ... قذيفة من سلة قمامة لغوية اتحفتِها بها ... )
رفعت شيراز يدها لتمسح عينيها بها و هي تهتف باختناق
( توقف عن ذلك ..... أنت السبب .... )
عاد ليؤرجحها قليلا وهو يقول بخفوت
( المرة القادمة سأجلس معك ...... ما رأيك ؟!! ..... )
صمتت عن البكاء فجأة ... و أخذت عدة أنفاس قبل أن تقول بصوتٍ باهت خائف
( أنت آخر شخص أريده أن يسمعني ..... فلا تجبرني على ذلك ... )
لم يحررها على الرغم من مقاومتها لذراعيه ... لكنه قال بهدوء
( ألم نعقد اتفاقا أن تقصي لي كل ما مر بكِ ؟؟ ....... )
قالت شيراز بخفوت مجهد
( أنت آخر شخص مناسب لذلك ....... )
آلمته تلك العبارة بشدة ....دون أن يعلم السبب , الا أنه أخفى انفعاله بمهارة وهو يقول بصوتٍ هادىء
( اذن دعينا نناقش الثمن كالعادة .... ما رأيك أن أصطحبك معي في السفرة القادمة ؟؟ .... )
تسمر جسدها ... ثم استدارت اليه بين ذراعيه و هي تقول غير مصدقة
( هل تتكلم بجدية ؟!!!!! ............ )
عقد حاجبيه وهو يقول بهدوء
( و منذ متى كنت أمزح معكِ ؟!! ......... )
فغرت شيراز شفتيها و هي بعد غير مصدقة .... هل فعلا يعرض عليها عطلة كتلك التي جمعت بينهما ؟!! ...
لكن الأنفس قد تغيرت .... لم تعد بشرى بالنسبة له .... و لم يعد غريبا ...
فهل ستكون الرحلة بنفس جمال سابقتها ؟!! .....
لكن لو لم يكن راغبا في ذلك لما عرضه عليها ...
ابتلعت ريقها
و هي تنظر اليه بعينيها الكبيرتين الخضراوين ... بينما كانت كفاه تحترقان على خصرها الحريري بصبر و هو يكبح نفسه بكل ما أوتي من قوة ..... بداخله جوع ينهشه ... الا أن الألم بداخله أكبر ... الألم فيما يخصها
و يجعله راغبا في انتشالها من نفسها ....
رمشت بأهدابها المبتلة عدة مرات ... قبل أن يقول وليد بصوتٍ هادىء
( هل صليتِ فروضك اليوم ؟!! ....... )
رفعت وجهها اليه , ثم هتفت بقوة و غضب
( و هل فعلت أنت ؟!!!! ....... )
عقد حاجبيه وهو يقول عابسا
( نعم فعلت ...... ألم تفعلي ؟!!! ...... )
أغمضت عينيها قليلا و هي تهزر رأسها قليلا بيأس ... ثم هتفت بمرارةٍ
( توقف عن معاملتي كم يسكنني جن أو أشباح ......... )
عقد حاجبيه أكثر وهو يقول بخفوت
( إنها صلاة ......... لا علاقة لها بما تقولينه .... )
زفرت نفسا مرتجفا ... قبل أن تقول بارتباك
( نعم لكن أنت .... أنت ..... انت ..... تجعلني أشعر بأنك خائف .... )
عقد حاجبيه اكثر وهو يقول
( خائف من ماذا ؟!! ........... )
همست بتوتر و هي تطرق برأسها
( خائف ..... خائف على عرضك و أسمك ..... تجعلني أشعر بأنني وباء ..... تخاف أن تدير وجهك عني فألوث اسمك ..... )
ظل ينظر اليها طويلا ... هل ينكر ان هذا كان جزءا كبيرا من تفكيره في البداية ... حين وقع الفأس في الراس و تزوجها بدافع نزوة مؤقتة من غضبٍ لم يستطع السيطرة عليه !!!! ....
أخذ نفسا قويا حتى شعرت بصدره الضخم يضغط على صدرها و يخبرها بوضوح عن مدى الحمل الذي يحمله ...
ثم نظر الى عينيها أخيرا و قال
( أنا أمنحكِ حرية أكثر بعض الزوجات اللاتي تم اختيارهن بطريقة تقليدية .... كان يمكن أن يكون الوضع أسوأ ...... أو على الأقل كان بإمكاني أن اركلك خارجا ما أن نلتك أخيرا .... )
احمر وجهها فأخفضته ..... و تعجبت من أنها لا تزال تحمر خجلا حتى الآن .... لكن هو الوحيد الذي احمرت له خجلا ....
كانت شفتيها ترتجفان بشدة قبل أن تهمس بخفوت
( بقيت صلاة العشاء .......... )
رمش بعينيه فجأة وهو يحاول استيعاب استسلامها البسيط في النهاية .... فمد يده يلاعب الخصلات المتناثرة من كومة شعرها فوق رأسها وهو يقول بخفوت
( حسنا .... لنصليها جمعا معا .... )
ظلت صامتة و هي تنظر اليه قبل أن يقول متابعا بخفوت و هو يتأمل شعرها ...
( أنا امتلكت القدرة على الإنتظام .... و أنتِ تساعدينني بذلك ..... )
ارتجفت شفتيها قليلا بما يشبه ابتسامة مشوهة غير مصدقة .. و هي تقول بشك
( حقا ؟!!! ........... )
أومأ برأسه وهو يقول بتأكيد
( حقا ............ )
كانت نظرته الى شعرها تثير ارتباكها ... فمدت يدها هي الأخرى تتلمس خصلاته قائلة بتوتر
( أحتاج الذهاب الى مصفف شعر ...... )
عبس فجأة منتبها و هو لا يصدق مدى اضطرابها في التنقل بين المواضيع !! .... أحيانا يشعر بأنه غير قادرا على مواكبة هذا الإضطراب ... فقال متنهدا باستنكار
( لماذا ؟!!! ......... )
قالت شيراز بخفوت
( شعري أصبح ذا لون داكن باهت ... و خفيف كالزغب المتناثر ... منظري أصبح غريبا جدا.... كالمرضى ..... أريد تركيب خصلات شعرٍ طويلة و صبغه باللون الأشقر مجددا .... أنا أشعر بالنفور كلما نظرت لنفسي في المرآة ... )
ازداد عبوسه وهو يقول بصرامة
( أولا .... و كي ننهي الموضوع فإنه مرفوض تماما بكل التغييرات التي ذكرتها .... ثانيا أنتِ لستِ غريبة الشكل أو منفرة ..... )
ابتلعت غصة في حلقها و هي تقول
( انظر الى ذلك الزغب المتطاير ... انه يتساقط يوما بعد يوم ...حتى أنه أصبح غريب الشكل جدا ... أريد شعرا طويلا .... )
كانت تتكلم كطفلة بائسة ... و بالفعل لم يتبقى في شعرها الا القليل ... كان شعرها غريب التساقط ..
ووسادتها تبدو غريبة المنظر في الصباح ... كمن يعاني رعبا مزمنا يؤدي الى تساقط الشعر ...
قاطعت أفكاره و هي تقول باختناق
( لطالما كنت أستخدم خصلات شعر طويلة أو قصيرة ..... و كنت يوما ما فاتنة .... أما شكلي الطبيعي فيشعرني بالغثيان و النفور .... )
لم يعرف الوسيلة المثالية للرد عليها .... لقد جردها من كل أقنعتها ... الشخصية و الشكلية ...
حتى تحولت الى مخلوق هزيل .. قليل الشعر ... عارية المشاعر و السيطرة على الذات بدرجةٍ أوهنتها و أشعرتها بالخزي و الخجل من كل ما يخصها ...
رفع يده ليفك تلك الكومة من شعرها .. بينما اعترضت بشدة و هي تحاول ابعاد رأسها ...
الا أنه تمكن من اسقاط مقاومتها وهو ينجح في فكه .. ليتخلله بأصابعه .. و يتأمله , طويلا ... لقد طال عن كتفيها .. الا أن حجمه بات صغيرا متضائلا ... و كانت تبدو كفتاة دار رعاية بالفعل ...
كاد أن يقسم بأن شكلها لم يتغير طويلا عن يوم تركت الدار ....
و لم يجد سوى أن يقول بخفوت
( أنت حلوة جدا ..... تبدين كطفلة ؟!! .... كيف تستطيعن التوقف عن التقدم بالعمر ؟!! .... )
همست باختناق
( لا أريد أن أبدو كطفلة ..... اريد أن أكون امرأة جميلة ..... أعود لملابسي و أناقتي .... )
قال وليد بهدوء خافت و كأن يحاورها هامسا كي لا يسمعه غيرها
( الملابس التي اشترتها لكِ لجين أنيقة للغاية ..... )
همست شيراز تقول
( إنها تجعلني أبدو تائهة بها مع شعري هذا ........)
ضحك و هو غير مستوعبا شيئا مما تقول ... فقال بهدوء وهو ينظر الى شعرها الذي يداعبه
( لما لا تفكرين بارتداء الحجاب ؟!! .... لجين تبدو جميلة به جدا ...... )
اتسعت عيناها بذهول و هي تنظر اليه .... حتى انها فغرت شفتيها قليلا ... قبل أن تقول بغباء
( ارتدي الحجاب لأنني أفقد شعري ؟!!! ....... )
هز رأسه ببساطة وهو يقول بهدوء
( بل لتبدين أجمل ............ )
أخذت تتلمس خصلات شعرها ببطىء و هي تشرد بعينيها ... فقال وليد بخفوت
( هذا لا يتبع الشروط و لا الابتزاز ... او حتى الأوامر .... كان مجرد اقتراحا ... )
أطرقت برأسها تفكر طويلا ... و كم تمنى لو استطاع اقتحام رأسها في تلك اللحظة .... الا أنها قالت بصوت خافت غير مقروء
( و ماذا سيحدث لو تركتني ؟!!! ....... )
كان سؤالا غير مفهوم ... غريب و يناقض الموضوع البسيط الذي كانا يتكلمان به ... الا أنه فهمه و بدا معناه كرصاصة طائشة ...
جعلت أصابعه تتشنج .. و تنقبض و النار تندلع بصدره .... لقد استطاع قراءة أفكارها بصوتٍ عالٍ دون الحاجة لاقتحام اسوارها ...
ببساطة لو تركها ستعود لمهنتها القديمة ... و هي البحث عن زوج مؤقت يمنحها عرضا مربحا .... زواج مصلحة الى حين ...
و طبعا تحتاج الى أن تعود لشكلها القديم ... و اغرائها السافر كي توقع رجلا ثقيل الحافظة و الرصيد ...
لا أن تكون مجرد فتاة محجبة بسيطة الشكل ...
أوشك على أن ينفجر بها كموقد مشتعل ... و يسمعها الكثير من تقززه و احتقاره ... حتى أن جسده كان يحترق بنارٍ كاوية .... الا أنه مثلها ... كان يتعلم الصبر كل يومِ بدرجةٍ واحدة أعلى ...
فحاول تهدئة أعصابه و عضلاته وهو يقول بعد فترة طويلة بصوت غريب
( ماذا لو تركتك ؟!!! ..... لم تخبريني كيف ستتصرفين بحياتك حينها !! ......)
شعرت بشرى فجأة بنصل خنجر حاد ينفذ الى جانبها من شدة الألم في تلك اللحظة ...
فنظرت اليه بحدقتين مهتزتين و هي تهمس رافعة قبضتيها لتقبض على قميصه القطنى ... بتوسل غريب
( أرجوك لا تتركني ....... أنا موافقة على ان اكون خادمة , أنسى صلفي لحظة دخلت الى البيت منذ ساعة ... أنا مستعدة أن أكون خادمتك .... لكن لا تتركني ... )
رجائها أوجع قلبه أكثر .... و بفظاعة ... الا أنه ابتلع تلك الغصة وهو يتظاهر بالهدوء قائلا
( الخدمة ليست التضحية الوحيدة التي تستطيعين تقديمها ..... ماذا لو رغبت في الزواج من اخرى ؟!!! ... )
بهت لونها فجأة ... و انخفضت على قدميها و هي تنزل كفيها لتنظر اليه كالأموات ... قبل أن تقول بصوت لا حياة به
( هل تنوى الزواج ؟!!! ....... )
كان ينظر اليها وهو يعرف بأنه ضربها بمقتل ... الا أنه ضغط على نفسه ليقول بهدوء
( هذا أمر وارد ....... ماذا ستفعلين حينها ؟!! .... هل ستتوسلين البقاء لخدمتنا أنا و زوجتي ؟!! .... أم ستبحثين عن زوج جديد ؟!! ..... )
الغريب أنها لم تصرخ و لم تبكي منهارة كعادتها ... بل ابتعدت عنه خطوة للوراء و عي تنظر الى عينيه بعيني امرأة مكسورة ... فقدت الرغبة في الحياة ... فهمست بخفوت ميت
( لو قبلت ذلك أنت .... و ... زوجتك .... سأبقى ..... )
أمال وجهه جانبا وهو يتنهد بخيبة ... لكنه قال بجفاء
( و ماذا لو رفضنا .... و قررت ابعادك من هنا ؟!! .... ما هي خطتك التالية ؟!! ... لكل انسان خطة بحياته .... هل ستبحثين عن زوج جديد ؟!! ... أكثر ثراءا ؟!! ... )
ظلت تنظر اليه طويلا بصمت و ملامحها متهدلة بألم ... ثم قالت بخفوت
( لا ...... لا أظنني سأتزوج مجددا .... لقد فقدت كل قدراتي و أنت ادرى الناس بذلك .... )
شعر بانقباض في صدره ... و مع ذلك كان هناك بصيص من أمل , فقال بخفوت
( لكن تملكين جسدا .... و هذا هو الأهم ...... )
ابتلعت صفعته وهي تقول بخفوت
( لم أعد أجيد استخدامه ........... )
شعر ببصيص الأمل بداخله يتزايد شيئا .... فشيئا ... و يتوهج ... قبل أن يقول مصمما
( لا تجيدين أم لا تريدين ؟!! ....... )
فكرت قليلا بملامح متعبة .... منهكة .... ثم اقشعر بدنها و هي تهمس بتقزز
( لا اريد ...... كفاني ما نلته على ايديهم ..... انا متعبة و أريد الراحة ...... )
كان يظنها تريد الراحة في حياتها عامة ... و قد بدأ يشعر في داخله بسعادة كبيرة تنمو بسرعة ..
الا أنه وجدها ترفع يدها الى جبهتها ببطىء و هي تميل للخلف .... فسارع الى اسنادها بذراعيه وهو يهتف
( بشرى ...... ماذا بكِ ؟!!! .... )
همست بإعياء
( أشعر بالدوار ......... لا أقدر على الوقوف )
حملها بين ذراعيه بقوة وهو يرفعها الى صدره ليقول هامسا
( لقد أنهكتِ نفسك كثيرا اليوم ..... سآخذك الى السرير .... )
و بالفعل حملها الى السرير فوضعها برفق و ابعد خصلات شعرها الزغبي عن وجهها ...
منحنيا عليها من فوقها ... يتلمس ملامحها برفق وهو يهمس
( ستكونين بخير ...... سأجلب لكِ ما تشربينه ..... )
الا أنها أمسكت بيده القوية تمنع ابتعاده و هي تقول بخفوت مترجي
( لا تبتعد ...... ارجوك نم بجواري .... أنا أخاف بشدة ... )
ابتسم ببطىء وهو يرى انها غيرت رأيها خلال أشهر قليلة .....
رفع الغطاء و اندس بجوارها ... ثم دثر نفسه معها و هو يداعب شعرها الخفيف هامسا
( لن أغادر لأي مكان ....... هل تشعرين بتحسن ؟!! .... )
أومأت برأسها و هي ترجع رأسها للخلف ... مغمضة عينيها ....
و ظل ينظر اليها طويلا بنفس مهتز ... و لم يطلب الإذن هذه المرة وهو يخفض وجهه ليقتنص قبلة كل مساء التي بدت كالإدمان بالنسبة له .....
تلك الطفلة الزغبية الشعر .... تتلاعب بمشاعره ... و تجعل منه مجرد رجلا ضخم العضلات احمق !!! ...
همست بشرى برجاء
( لا تتوقف عن تقبيلي .... ارجوك ...... )
ابتسم وليد بجنون .. الا أنه همس على أملٍ في أذنها
( فقط تقبيلك .... أم تريدين شيئا آخر ..... )
همست بشرى بحرارة و هي ترفع ذراعيها لتحيط بهما عنقه هامسة برضا انثوي
( فقط تقبيلي ..... لا أريد شيئا آخر ..... أنت تجيد ذلك .... )
زفر نفسا محبطا .... الا أنه كان مستعدا لتلبية طلبها باخلاص ... و قد لاحظ انها بدأت تتردد و تتوتر ... و كأنها تتطلع الى المزيد من لمساته .... و كأن شيء ما يخبرها بالفطرة أنها تريد السعادة ... لا الإستلام ...
و كانت همسته من بين قبلاته الدافئة الى أذنها
( أخبريني بكل ما تريدين ....... )
.................................................. .................................................. .....................
كانت لجين تسير مع بشرى في اليوم التالي شاردة ... على الرغم من ابتسامتها الأنيقة التي تجيد ارتدائها حتى لو كانت حزينة ...
لكنها لم تستطع خداعها .. فقالت بشرى بهدوء و هي تتطلع اليها
( بما أنتِ شاردة لهذه الدرجة ؟!! ...... )
أجفلت لجين و هي تنظر الى بشرى ... و كانت أقصر منها فتضطر الى النظر اليها مبتسمة و كأنها تنظر الى طفلة ...
على الرغم من كل الأسلاك الشائكة ببشرى ... الا أن وجودها بجوارها كان يشعرها بالراحة ... و يجعلها تبتسم لأي تصرف تقوم به ...
قالت لجين مبتسمة برقة
( هل تمضين وقتا طيبا ؟!! ........ )
قالت بشرى بنبرةٍ ذات مغزى
( ليست تلك اجابة على سؤالي ...... )
عادت لجين لتبتسم و هي تنظر أمامها بصمت ... فقالت بشرى ببساطة و هي تسير بجوارها
( أنت تريدين الذهاب لرؤية صاحب المقهى .... اليس كذلك ؟!! ... )
عبست لجين و هي تنظر اليها قائلة
( لا يصح هذا يا بشرى .... انا لا أخرج لمقابلة احد ... و لا أتطلع لرؤية احدهم ... )
قالت بشرى و هي ترفع حاجبيها
( المرة السابقة أردتِ رؤيته .... و ذهبت لمقابلته ... )
توقفت لجين و هي تنظر اليها عاقدة حاجبيها .. لتهتف
( لا ليس صحيحا .... لم أذهب لمقابلته !!! .... )
وقفت بشرى كذلك و هي تقول عابسة
( كنت أكثر صراحة مع نفسك المرة السابقة .... و قد أعجبني ذلك ... )
فتحت لجين فمها تنوي المزيد من الإنكار ... الا أنها أغلقته أمام عيني بشرى الصريحتين الخضراوين الجريئتين ....
فتنهدت و هي تقول بهدوء كاذب
( أخبرتك المرة السابقة أنه كان صوتا اعتدت سماعه بجواري في أزمتي .... كنت أعبر عن امتناني ليس الا ... )
رفعت بشرى حاجبيها و هي تقول
( تعبرين عن امتنانك بشربك للقهوة على حسابه ثم الإنصراف ؟!! .... يجب أن يكون شاكرا فعلا ... )
زمت لجين شفتيها و هي تقول بقنوط
( أنا لم أعتد التعرف الى أحد الغرباء .... ليست طباعي أو شخصيتي .... )
قالت بشرى بهدوء
( لم احثك على التعرف اليه ...... لكن لو أردتِ رؤيته مجددا , ماذا يمنعك ؟!!! ... وهو لو أراد التعرف اليك فسيفعل من تلقاء نفسه ..... )
زفرت لجين بقوة و هي تقول بتوتر
( و ما المرجو من كل ذلك ؟!! .... لا ... لا ... هذا تصرف غير ذكي .... )
كانت بشرى تنظر اليها رافعة ذقنها ثم قالت
( تصرف غير ذكي ؟!!!! ....... نعم تصرف يعاني من بعض القصور في التفكير لكنه طيب و ابن حلال .. )
زفرت بغيظ .. ثم قالت
( هيا لنذهب الى هذا المقهى لقد تعبت و اريد شرب شيء .... )
هزت لجين رأسها برفض تام و هي تقول باصرار
( لا .... لقد كانت ردة فعل وليد المرة السابقة غير مشرفة .... و مستحيل أن نكررها ... مستحيل ... )
بعد فترة ... كانا يجلسان الى نفس الطاولة ....
و تلك المرة كانت لجين تبحث عنه ... الى أن جدته يدخل أخيرا .... لكن ملامحها بهتت وهي تجده برفقة فتاة شابة جميلة ... صغيرة السن و ذات شعر أسود طويل ...
كانا يتضاحكان و كان ينظر اليها بحنان ... مما جعل لجين تسبل جفنيها و هي تشعر بفقد معين ...
و كأنها خسرت شيء يخصها ...
فما كان من بشرى الا ان نظرت اليهما فشهقت ثم مطت شفتيها و هي تقول بامتعاض
( حسنا ... كان هذا متوقعا ..... انظري الفرق في الإمتنان ؟!!!! .... أنا لو مكانه سأرسل لك الكوب فارغا و انت تغادرين المكان ... و لتشبعي بامتنانك في مكانٍ آخر !! .... )
كانت لجين صامتة مستكينة باستسلام و هي تراقبهما من بعيد ... الى أن رفع وجههه فرآها ...
تسمر مكانه حينها وهو يبادلها النظر بقوة ... فارتبكت بشدة و اخفضت وجهها ...
الا أنه قال شيئا ما للفتاة الجميلة ... فأومأت له مبتسمة , ثم اتجهت الى احدى الطاولات البعيدة و هي تشغل نفسها بهاتفها ...
ارتبكت لجين أمام نظراته المتفحصة ... بينما همست بشرى فجأة بإعياء
( أنا أحتاج الذهاب الى الحمام ..... أشعر بغثيان مؤلم ... )
مالت اليها بشرى و هي تقول بقلق
( هل أنتِ بخير ؟!!! .... سآتي معك ...... )
الا أن بشرى امسكت بيدها و هي تقول بخفوت
( لا .... مجرد تعب من المشى الطويل , فلم اعد أقوى عليه ..... لحظات و اعود .... أظهري انت امتنانك و حاولى اختيار الطلبات غالية الثمن ..... )
مطت لجين شفتيها و هي تقول بقنوط
( هيا اذهبي من هنا ........ )
ابتعدت بشرى عنها .. بينما عادت لجين الى ظهر مقعدها و هي تراه ينظر اليها باهتمام .... لكنها كانت صلبة الملامح ترفض الابتسام كالمرة السابقة
و حين أومأ لها يحيها ... لم ترد عليه بإيمائة من رأسها .... بل ظلت صامتة ترفض مجاراة نظراته ..
حينها علم بأنها غاضبة من شيء ما ....
حانت منه نظرة الى الفتاة التي كان يقف بجوارها ... قبل أن يعيد نظره اليها بتفكير ... و بعينيه نظرة أمل , ترافق الإبتسامة الظاهرة ببطى على شفتيه ...
و دون أن يتأخر ... مد يديه يأخذ ورقة من الأوراق الموجودة على طاولته ... و أخذ يكتب بها طويلا أمام عينيها الحائرتين ...
و حين انتهى رفع وجهه مشيرا الى النادل و الذي جائه مسرعا ... فهمس له بشيء و هو يناوله الورقة المطوية ....
كانت لجين تراقب ما يحدث باهتمام و هي ترى النادل يضع الورقة في قائمة الطلبات ... ثم اقترب منها و امام عينيها المتسعتين انحنى بتهذيب وهو يقول
( تفضلي ...... )
اجفلت لجين و هي تأخذ القائمة بأصابع مرتجفة ... و عيناها على صاحب المقهى المهتم بكل التفاصيل و بعينين كالصقر ... فارتبكت اكثر و هي تنظر الى الورقة المطوية قبل أن تفتحها و تقرأ ما بها ...
فطارت عيناها على عدة أسطر بسيطة ... جدية ..
" السلام عليكم ...
كيف حالك ؟!!..... أتمنى ان تكوني بخير ....
أنا سعيد جدا بعودتك الى المكان من جديد ... كنت قد شعرت المرة السابقة بعد رحيلك , أنني قد ضيعت الفرصة من بين يدي للأبد ....
حاولت كثيرا أن أنسى طلبي خلال الفترة السابقة ... لكن و ما أن حظيت بتشريفك لمقهاي المتواضع مجددا ... حتى اكتشفت أن محاولاتي كانت عبثا ...
بداخلى قبول تجاهك أكبر مما أستطيع وصفه ... راحة و رضا تلك التي تملأني في تلك اللحظة , تجعلني أحاول مجددا .... و أنا غير نادم .. حتى لو لاقى طلبي الرفض مجددا ...
و حينها سيكون كل أملي أن تكوني سعيدة و بخير .....
هل استطيع التقدم لاخيكِ لطلب يدك .... مجددا ؟!! ..... " طارق " .."
ارتجفت الورقة بين أصابعها بشدة .... و هي تقرأها للمرة الثالثة ...
فقد اعتادت دائما قراءة كل محادثة ثلاث مرات قبل أن ترد ... كي يكون الرد منطقيا ...
و حين رفعت وجهها اليه بقوة .... كان عاقدا حاجبيه متوترا .. و كأنه ينتظر نتيجة الثانوية العامة ...
نهضت لجين من مكانها فجأة ... و اخذت تقترب منه بكل اناقة و عيناها عليه ... و الورقة في يدها ..
اتسعت عيناه قليلا وهو يلاحظ اقترابها ... فتناول كتابه من على طاولته و اسرع بفتحه مرتبكا وهو يتظاهر بالقراءة !! ...
و كانت لجين قد وصلت اليه فوقفت أمامه لتقول بكل تهذيب
( السلام عليكم .... أولا الكتاب مقلوب ... ثانيا على أساس انك لم تكتب هذه الورقة ؟!! .... أم ندمت عليها ؟!! .... )
رفع طارق رأسه مجفلا وهو ينظر بينها و بين الكتاب المقلوب ... فوضعه مرتبكا وهو ينهض واقفا ...
لاحظت لجين بعد أن وقف و اصبح قريبا منها ان وجهه شديد الجاذبية ... قريبا للنفس ... جميل العينين ..
اخفضت عينيها هي بسرعة و هي تنتبه الى أنها كانت تحدق به بوقاحة ... بينما قال هو مرتبكا
( و عليكم السلام و رحمة الله .... أنا آسف لأن أكون بمثل هذه الجرأة .... لكنني أخذت الخطوة خوفا من أن أظل أتسائل طوال عمري إن كنت قد ضيعت الفرصة .... )
ابتسمت لجين رغم عنها و هي تتمسك بالورقة ... مطرقة برأسها ... قبل أن تقول برقة خجولة
( طوال العمر قد يكون وقت طويل جدا للندم !!! ..... )
قال طارق بهدوء وهو يتأمل محياها الجميل الخجول
( هذا ما أشعر به ........ )
التفتت لجين خلفها قليلا و هي تنظر في اتجاه الفتاة التي تركته منذ لحظات ثم قالت بهدوء و شجاعة
( ربما اعطيتني الحق بتك الورقة الصغيرة أن أتجرأ و اسألك . من تلك الآنسة التي كنت تقف معها ؟!! ... )
كانت ملامحه مندهشة ... و ارتباكه واضحا ... الا أنه كان ارتباكا لطيفا محببا وهو غير مصدق لأنه يقف أمامها و يتحدث معها كل تلك الفترة ... فقال ببساطة خافتة
( انها أسماء ابنة خالي .... إنها أصغر شباب العائلة .... كانت تريد الإعداد لإقامة حفل يوم ميلادها هنا في المقهى ..... )
شعرت لجين بالغباء و هي تعض شفتيها المبتسمتين قليلا ... قبل ان تقول دون ان ترفع وجهها اليه
( أنت تعرف ما تعرضت اليه ..... )
قال طارق بهدوء خافت
( لا يهمني منه سوى أنكِ هنا .... واقفة امامي بخير .... )
ابتسمت ابتسامة حزينة قليلا .... قبل ان يسود الصمت بينهما طويلا قبل أن تقول بخفوت
( هلا تقدمت الى أخي مجددا ؟!! ..... قد تواجهك العديد من العوائق , لكن ...... انا أنتظرك ... )
كانت شيراز قد خرجت شاحبة الوجه و هي تنظر اليهما بذهول ... فقالت لجين و هي تسحبها من يدها
( هذه زوجة أخي ... و نحن مضطران للمغادرة الآن .....)
و بالفعل خرجا من المكان بينما كان طارق واقفا مكانه ينظر في اثرهما مذهولا و صدره يشرق بسعادة جديدة .. وهو يعيد نبرة صوتها داخل أذنه
" لكن أنا في انتظارك ........ "

" سيف ... آنا آسفة ...
آسفة على رحيلي .... و آسفة على ابعادك .... و آسفة على كل حجرٍ بنيته في الحاجز بيننا ....
انا احبك ... بل أعشق التراب الذي تسير عليه ..... هلا أعدتني اليك لأنني فعلا لم أعد أمتلك القدرة على الصبر أكثر و تحمل المزيد من حماقاتك منذ أن تركتك ..... "
أعاد قراءة الرسالة مرتين ... ثم ثلاث مرات و عيناه متسمرتان على الأحرف ... تتنقلان بينها و بين اسم المرسل , يخشى أن يكون متوهما ...
لكن سيطرته على كيانه كله كانت أضعف من أن ينتظر حتى يقرأها للمرة الرابعة ...
فنهض مندفعا من مكانه وهو يدس الهاتف بجيبه ... ملتقطا سترته , ليخرج مسرعا دون حتى أن يجيب سؤال علا المندهش عن احتمالية عودته اليوم الى العمل مجددا !!
في الطريق الواصل بين عمله و بيتها ... مئات الأميال ... بل آلاف الأميال ... و كأن الأرض قد انبسطت بينهما لتبعد وصوله اليها .... و تزيد من احتراق صدره اللاهث ... بينما عيناه ضيقتان مسمرتان على الطريق و كأنهما تودان احراق المسافة المتبقية ...
رفع الهاتف الى أذنه كي يتصل بها على الرغم من أنه كان مصمما على أن يكون الكلام بينهما وجها لوجه ...
من الظلم أن يواجهها صوتا .... لا أن يراها و يقابل عينيها عله يقرأ منهما الجواب .... لا من مجرد شاشة صغيرة باردة ...
انعقد حاجباه بشدة وهو يسمع الرسالة الصوتية الصادمة بأنها قد اغلقت الهاتف !!!
رمى سيف هاتفه على المقعد المجاور وهو يشتم بقوة
( تبا , يالكِ من غبية !!! ...... )
أرسلت له الرسالة ثم أغلقت الهاتف بكل جبن !!! ....
لكنه والله لن يسمح لها بالمزيد من الهروب و عناد البغال .....
زاد من سرعته أكثر و عيناه تزدادان ضيقا على الطريق من أمامه بكل اصرار ... و خلال لحظات كان قد أوقف السيارة محدثا صريرا عاليا لكنه لم يهتم و نزل منها مندفعا .... متجاوزا رجل الأمن لثاني مرة خلال هذا اليوم ... فنهض خلفه يناديه بقوة
( سيد سيف ...... سيد سيف .... )
الا أن سيف لم يتوقف وهو يهدر بصرامة
( يا ابني أخبرتك منذ الصباح أن تتصل بالشرطة و أنت من تتلكأ ....... )
لكن و ما ان وصل سيف الى المصعد حتى لحقه حارس الأمن وهو يهتف لاهثا
( السيدة وعد ليست موجودة ..... لقد غادرت منذ فترة ........ )
تسمر سيف مكانه ليستدير اليه بعينين تقدحان شررا و بداخله خيبة أمل ضربت اعصارا من الغضب في صدره ... ثم قال أخيرا من بين أسنانه
( أين ذهبت ؟؟!!! ......... )
رفع حارس الأمن حاجبيه و قال بلهجة مستفزة
( و هل سأسالها الى أين تذهب ؟؟؟؟ !!! .......... السيدة وعد ليست متساهلة تماما و أنت أدرى الناس بها .... انها تفكر قليلا قبل أن ترد سلام الصباح .... )
زفر سيف بقوةٍ و عنف و نفاذ صبر وهو يهتف بما يعتمل بداخله من كبت حارق
( ياللهي ..... كرم منها أنها ترد أصلا .....)
اتجه الى المصعد المفتوح .. فهتف حارس الأمن بقوة
( الى أين يا سيد سيف ؟!! ..... الم أخبرك أنها ليست هنا ..... )
نظر اليه سيف ببرود بينما عيناه تتوهجان غضبا ليقول بكل هدوء
( لا مزيد من الكلام بيننا .... اليوم أو أى يومٍ آخر .... و تعود على وجودي هنا يوميا منذ هذه اللحظة , و لنرى كيف ستعترض " السيدة " وعد ...... انتهى الحوار ... )
و قبل أن يرد الحارس المسكين .... كان المصعد قد أغلق أبوابه مخفيا وجه سيف شديد البأس و الذي كان من الحماقة مجادلته في هذه اللحظة ....
قال " علي " بقلق وهو يزفر حانقا ....
( لم يكن عليكِ السماح لها بالخروج يا كوثر بعد أن أصيبت بالإغماء صباحا ....... ماذا لو .... )
قاطعته كوثر بهدوء وهي ترتب قطع القماش الحريرية أمامها دون أن تنظر اليه
( لن يحدث شيء ...... إنها بخير و قادرة على العناية بنفسها , لا تقلق انت ..... )
هتف " علي " بغضب وهو يقذف بكرة خيط من فرط غيظه لتسقط في نهاية الغرفة عند قدمي "راوية " التي كانت تلبس أحد نماذج العرض فستانا ....
( ما هذا الهدوء بالله عليكِ ؟!! ........ )
رفعت عينيها تنظر الى بكرة الخيط من فوق نظارتها المستريحة على أنفها ... ثم قالت بصرامة
( أترى تلك البكرة التي قذفتها بعيدا ؟!!! ... اذهب و أحضرها كي لا أثقب رأسك بالأبرة التي معي الآن ... )
زفر بقوة وهو يهتف
( لن أحضرها ........... انتِ يا راوية ..... أحضري تلك البكرة بجوار قدمك ...... )
كانت حتى هذه اللحظة منعقدة الحاجبين .. تشتم سرا ... و تتبرم بشفتيها دون صوت , و ما أن سمعت أمر "علي" الفظ ... حتى التفتت اليه و عيناها تبرقان بجموحٍ غاضب و هي تهتف
( عذرا .... هل أنا الخادمة الخاصة لجنابك ؟!! ... أم أنني العبد الذي اشترتيه ؟؟ .... احضر ما ألقيته بنفسك ...ثم حين تريد أن تخاطبني ... لا تنادني بأنتِ هذه مجددا .... أنا يد عاملة منتجة في هذا المكان ... بينما أنت مجرد متأمر لا تفعل سوى أن تلاحظنا ... )
احمر وجه علي بشدة ..و ارتبك احراجا ... بينما رفعت كوثر حاجبيها اعجابا مبتسمة دون ان تنظر اليهما و هي تتابع عملها ... بينما نظر اليها " علي " عاقدا حاجبيه وهو يشير الى راوية هاتفا
( هل تعجبك طريقتها في الرد ؟!! ....... )
لم تنظر اليه كوثر و هي تقول بحيادية
( الفتاة محقة بصراحة .... فلا تستغل عضلاتك الجديدة هنا ..... شهرين في شقة التدريب الرياضي تلك و تجعلك فظا شكلا و قولا ..... )
قالت راوية مخاطبة نفسها و هي تزفر تشد على القماش حتى كادت أن تمزقه
( أجسام البغال و عقول العصافير ..... )
ارتفع حاجبي " علي " أكثر غير مصدقا ... ثم لم يلبث أن اندفع اليها رافعا قبضته مهددا .. وهو يعض على شفته هاتفا
( احترمي نفسك يا فتاة ..... لو نفخت بكِ فقط , لألصقتك بالجدار ....... )
تراجعت رغما عنها و هي ترفع اصبعا مهددا تهتف بذعر
( أقسم بالله لو ضربتني لحررت ضدك محضرا بقسم الشرطة ...... الحقيني يا كوثر .... )
حاولت الهرب منه الا أن حاصرها وهو يقول من بين أسنانه
( الحقيني يا كوثر .... ها ؟!! ...... لنرى كيف ستحميكِ مني .... )
تعالى صوت كوثر من خلفه
( هل آتي لأريك كيف ستحميها كوثر ؟!! .... أنا أنتظر أن تصمت حتى الآن من تلقاء نفسك كي لا أفسد هيبة العضلتين الجديدتين ..... )
زم شفتيه وهو يهدر تنفسا غاضبا .. بينما كان ينظر اليها و هي لا تكاد تتعدى طول مرفقيه بالكثير ...
خضراء العينين و رغم كل شيء كانت خائفة منه فعلا !! ...
قال أخيرا بفظاظة وهو يخفض قبضته بينما عيناه تتأملان وجهها الغاضب الأحمر و الشعر الناعم المتناثر من حوله ...
( سأتركك هذه المرة .....ثم ادخلي شعرك هذا تحت وشاحك ... نصفه متساقط على وجهك !!! ..أي حجاب هذا ؟!! ... . )
ارتبكت قليلا أمام نظراته ... الا أنها أخذت تدس شعرها البني تحت وشاحها الملون بوجهٍ محمر .. ثم قالت بجفاء و هي تحكم عقدته خلف عنقها ..
( لا دخل لك ....... )
أسند يده الى الجدار من خلفها وهو يقول بصرامة ...
( بل لي كل الدخل ... نحن من نفس المنطقة و أنا من أحضرك للعمل هنا .... و لن أدخل في شجار كل يوم و انا اضرب شخصا يغازلك .... )
مدت وجهها لأعلى و هي تهتف
( لم يطلب منك احد التدخل بشجارات ...... أنت أصلا تفضحني كل يوم بتصرفاتك تلك , كل اهل المنطقة يظنونك خطيبي بسبب تصرفاتك ... )
عقد حاجبيه بشدة وهو يهتف مستنكرا
( خطيبك ؟!!! ... من الأحمق اللذي يظن ذلك وأنا أذهب الليه و أقتلع عينيه ........ )
تكورت شفتي راوية .. و أطرقت بوجهها , بينما هزت كوثر رأسها يأسا و هي تهمس لنفسها
( جلف .. أحمق )
بينما قالت راوية بهتاف متعثر غاضب
( و من تلك التي تقبل بخطبتك ؟؟ ...... لو أنك الرجل الأخير في هذا العالم , فلن اقبل حتى بمجرد أن تمسح لي زجاج سيارتي عندما أمتلك واحدة عند اشتهاري و ثرائي ... فأنا أمتلك صنعة بيدي , بعكسك .... )
ارتبكت ملامح " علي " قليلا وهو ينظر اليها صامتا .. بينما همست كوثر و هي تتابع عملها زافرة
( أغبى منه .......... )
صمتت راوية و هي تنظر الى عينيه الصامتتين .. فرمشت بعينيها قليلا , قبل أن تقول بصوت متذبذب
( أنا ....... لم .... أقصد ...... )
تكسر صوتها بينما بقى علي ينظر اليها عدة لحظات بملامح ساكنة قبل ان يقول بخفوت
( لا تعتذري ... لقد اعتدت قلة حيائك , و مدى ازدرائك للجميع و كأنك تحملين شهادة جامعية بينما أنتِ متوسطة في كل شيء مثلك مثلنا..... لذلك سأشفق فقط عليكِ و أنت تتخيلين دائما أنكِ أفضل من الجميع ... )
نظر اليها نظرة أخيرة بينما امتقع وجهها و فغرت شفتيها المرعشتين ... ثم تركها و ابتعد عنها دون اضافة المزيد ....و ما أن ابتعد ووجدت صوتها حتى هتفت بألم من خلفه ..
( و أنت بالطبع لا تعجبك غير الجامعيات !! .... و لماذا ستحبك الجامعية بينما هي صاحبة المكان الذي تعمل به و تكبرك بعشر سنوات ؟!!!! ..... أنت أعمى و أحمق و تستحق كل الألم الذي تعيشه .... )
تسمر مكانه و اتسعت عيناه بذهول ... ثم استدار اليها ببطىء وكأنه يتحقق للتو مما نطقت به ... بينما صمتت تماما و قد أدركت مدى غباء ما نطقت به للتو ... فتراجعت للخلف و هي ترتجف , ملاحظة تقدمه منها بخطوات بطيئة ... و عينين خطيرتين مذهولتين , مسمرتين على عينيها ...
التصقت بالحائط أخيرا برعب ... بينما قال " علي " بصوت لا يحمل أي تعبير ... بينما بدى مخيفا بنفس الوقت
( ماذا قلتِ للتو ؟!!! ......... من مصلحتك أن يكون ما فهمته خاطئا !! .... )
كانت ترتجف بالمعنى الحرفي للكلمة .... فنادت بصوت مرتعش من خلف كتفه
( كوثر ..... الحقيني ..... )
الا أن كوثر لم تتنازل حتى برفع وجهها و هي تقول
( أخرجي نفسك من هذه الورطة بنفسك ........ لو انا مكانه , لضربتك على فمك .... )
هتفت راوية بخوف مستجدية
( كوثر ..... تصرفي ..... )
الا أن كوثر تركتها تواجه مصيرها هذه المرة و هي تقول
( اضربها يا ولد و أنا سأشرح الأمر لوالدتها ....... لكن لا تقترب من العينين لأننا نحتاجها في العمل .... )
كان علي قد وصل اليها وهو يبدو غير مبشر الملامح و النظرات ... بينما هي ترتجف و تقول
( انا ....... أنا لم أقصد ..... لكن أنت من تحمل بطحة على رأسك ..... لذلك تتخيل أن الجميع يشير الى عاهتك العاطفية ..... )
توقف مكانه وهو يفغر شفتيه ... ثم همس غير مصدقا
( أنتِ لا فائدة منكِ .... اليس كذلك ؟!! .... لا تملكين السيطرة على لسانك ...... )
عاد ليرفع قبضته المضمومة ... فصرخت و هي تغطي وجهها بكفيها ... الا انه لم ينزل قبضته وهو ينظر اليها ساخرا
( حين تطلقين اتهاما .... تأكدي أولا بأنكِ لستِ جبانة ككتكوت فقد أمه ..... )
انزلت كفيها و هي تهتف بغضب
( لست جبانة ......و انا عند ما قلته ...... )
عاد ليرفع قبضته , فصرخت مجددا و هي ترفع يديها أمام وجهها ... فضحك استهزاءا وهو ينظر اليها , قبل أن يبتعد عنها متفاخرا .... بينما رفعت وجهها ما أن تأكدت من ابتعاده ... لتنظر الي ظهره بغضب و احباط ... فأخذت تكلم نفسها كالعادة و هي تنحنى تلقائيا لإلتقاط البكرة التي سبق و رماها
( ربما لو كنا نتصنع الإغماء كصاحبة العمل لأعجبنا ........... )
قالت كوثر بصرامة
( اسكتي الآن يا فتاة ............ )
الا أن راوية قالت متذمرة بصوتٍ عالٍ و هي منحنية أرضا
( لقد سمعتها و هي تقول لكِ بأن شعرت بالرعب من أن تنكشف خدعة اغمائها .... و أن زوجها لأول مرة يفوته ازدياد نبضها و تظاهرها من شدة رعبه ..... )
وجدت فجأة حذائين أسودين لامعين يقفان أمامها عند البكرة التي انحت لتلتقطها ... يعلوهما بنطالا أسود كذلك .... فرفعت ذقنها لتتابع ذلك الطول المهيب المسافر لسقف الغرفة ...
الى ان استقامت ببطىء شديد و هي ترفع وجهها عاليا كي تصطدم عيناها بعيني سيف الغاضبتين المخيفتين !!!!!
فغرت راوية شفتيها بهلع لا يوازي ذرة مما شعرت به أمام " علي" ... فمرت لحظة واحدة قبل أن تتابع و كأنها تكلم كوثر .. بينما عيناها بعيني سيف الذي يبدو أنه على وشك احراق المكان
( زوجة خالي ....... زوجة خالي تتظاهر بالإغماء كي تتدلل على زوجها و قد يئسنا من تأديبها ..... )
صمتت حين وجدت بأنها تزيد من سوء الموقف , بينما وقع قلبها بين قدميها ...
و كانت كوثر قد أبصرت سيف ... فاتسعت عيناها بصدمة و هي تترك ما بيدها لتقف مرتبكة متعثرة , بينما قلبها يدعو غاضبا على راوية البائسة ....
اقتربت بسرعة منه و هي تقول
( مرحبا سيد سيف ..... مجددا !!! ........ )
نقل سيف عينيه بين ثلاثتهم بصمت وهو يضع يديه في خصره ... قبل أن يقول ببطىء و بصوته العميق ذو الصدى
( اذن فقد كانت مسرحية !! ........ )
ساد صمت مهيب و الثلاثة مشبكين أصابع أيديهم كتلاميذ في غرفة العقاب ... الا أن كوثر كانت أول من تكلمت و هي تقول ضاحكة بعصبية
( و هل تصدق كلام تلك المعتوهة الصغيرة ؟!!! ..... )
رفع سيف وجهه وهو ينظر الى كوثر نظرة جعلتها تبتلع المتبقي من كلامها , و تغص بها ... فسلكت طريقا آخر و هي تتابع بتوتر مشحون
( زوجة خالها دائما تفعل ذلك ... و اقد احترنا بها أمام أبواب المشايخ ...... )
صمتت و أطرقت بوجهها غير قادرة على مواجهة عيني سيف أكثر .... بينما نقل عينيه الى راوية التى كانت في حال من الرعب يرثى له و هي تعض أظافرها .... ثم نظر الى " علي " الواقف في آخر المكان يبادله النظر بصمت .... فاقترب منه سيف ببطىء الى أن وصل اليه ....
فوقف ينظر اليه عدة لحظات قبل أن يقول بخفوت شديد كفحيح الأفعى من بين أسنانه
( كم رجلا علي أن أقتل ؟!!!! ......... )
لم يتظاهر " علي " بعدم الفهم وهو يرفع ذقنه مواجها سيف ليقول بهدوء
( لو قتلت كل يوم رجلا فلن ترتاح ............ )
عض سيف على شفتيه وهو ينظر اليه طويلا قبل أن يقول بخفوت شديد الغضب
( لولا العشرة لكنت ضربتك بلكمة أوقعت صف أسنانك .... انسيت حين كنت مجرد صبي صغير أتيت للعمل عندي ؟!!! .... و الآن تدعي حب زوجتي بكل جرأة ؟!!! ..... )
شهقت راوية عاليا و هي تضرب صدرها ... بينما رمقتها كوثر بطرف عينيها قائلة من بين أسنانها
( منكِ لله يا غبية ..... قلبي غير راضِ عنكِ )
تقدمت راوية الى سيف لتقول بهلع
( لا تصدق ما نطقت به يا سيد سيف ..... الخطأ كله خطأي , أنا كنت أغيظه لأنني أغار عليه ...... )
انتفض رأس " علي " وهو ينظر اليها غاضبا ثم هتف
( هلا توقفتِ عن حماقتك و تهورك اللامحدودين !!! ..... حين يتكلم الرجال تبتعد النساء الغبيات ... )
نظرت اليع بعينين خضراوين تشتعلان شررا غاضبا ... ثم هتفت بجنون
( الخطأ خطئي بالفعل أنني أدافع عن أحمق مثلك ....... من المفترض أن يضعون امثالك في قفص لمشاهدة أفعاله و رمي بعض الحبوب له ..... )
جذبتها كوثر من ياقة قميصها و هي تهتف بحنق
( اخرسي يا فتاة أو أقحم جوربا في فمك ........ فضحتي الجميع و استرحتِ !!!!! )
بينما رفع " علي " حاجبيه لها وهو يقول بلهجة موجزة
( أهذا أنا فعلا ؟!!!! ..... ظننتك تتكلمين عن نفسك و أعدك حينها أنني سأكون أول من يطعمك جزرة بيدي )
كان سيف في تلك اللحظة يقف مطرق الرأس .... يديه على وركيه و هو يتنفس بضغط .. يعض على أسنانه وهو يهمس من بين أنفاسه الللاهبة
" اللهم طولك يا روووووووووووووح "
كان هذا آخر وقت في العالم ... الذي يمكن أن يكون مؤهلا به كي يقف بين اثنين في التاسعة عشر من عمرهما على الأكثر يتبادلان التحدي و الإستفزاز.... فصرخ فجأة بصوتٍ هادر
( كفى !!!!! ........ )
صمت الجميع دفعة واحدة و قد حل سكون غريب على المكان بينما نظر الجميع اليه وهو يحاول طرقعة عضلات عنقه المتشنجة .....
كان يتنفس بعمق محاولا تهدئة جنونه الداخلي ... قبل أن يقول بصوت خافت مخيف دون أن يرفع وجهه
( دون أي كلمة من أي منكم ........ سؤال واحد .... أين وعد ؟؟ ..... )
ظل ثلاثتهم ينظرون اليه صامتين ... فرفع رأسه اليهم قبل أن يصرخ بقوة
( أين وعد ؟!!!!!!!!! ............. )
تلجلجت كوثر قليلا .. ثم قالت بخفوت
( لقد خرجت منذ فترة .... وقالت أنها .... بحاجة لأن تكون بمفردها قليلا .... )
نظر اليها سيف طويلا محاولا أن يستشف الحقيقة .... ثم قال باحباط و كبت يكاد أن يضغط على صدره
( ألم تقل متى ستعود ؟!! ......... )
تنحنحت كوثر مجددا و هي تقول بتردد
( كل قالته هو الا ننتظرها مجددا اليوم .......... )
شحب وجه سيف وهو يزفر بقوة .... ثم أطرق رأسه عدة لحظات , قبل ان يقول بخفوت
( أنا سأذهب للبحث عنها ....... )
رفع وجهه الى " علي " ليقول بهدوء خادع
( أنت .......... لنا حديث آخر ...... )
ثم التف الى راوية التي كانت تقف مكانها بوجهٍ ممتقع .... ثم قال بنبرةٍ قوية صارمة
( و أنتِ ......... )
انتفضت راوية مكانها مذعورة و هي تهتف
( حاضر ..... أقصد نعم ..... تحت أمرك ..... )
اقترب منها خطوة و في عينيه يلمع بريق المجرمين و قطاع الطرق ... ثم قال بلهجة خطيرة مهددة
( هلا توقفتِ عن التطرق الى كل من هو معجب بزوجتي ......... فهذا لا يعجبني .... و ما لا يعجبني يجعلني شرييييييييييرااااااا .... )
خرجت كلمة شريرا منه همس كالفحيح ... بينما عيناه تبدوان كعيني القراصنة ... فارتجفت بذعر و هي تهز رأسها نفيا بسرعة ... ثم ايماءا و موافقة ... ثم نفيا مجددا ...
بينما قال " علي " بغضب
( لا تخيفها لهذه الدرجة ...... اننا نتحملها لأنها مسكينة العقل , لكننا لا نهددها ..... )
نظر اليه سيف بطرف عينيه قبل أن يقول
( انها لك ...... عاقبها بالطريقة التي تفضلها , لكن ابتعدا عن زوجتي و الا عاقبتكما انا كما يعاقب الأطفال قديما حين كانوا يحسون بركبتهم على الحصوات المسننة ... ثم أحلق شعريكما و أدهن رأسيكما بطلاءٍ أسود )
شهقت راوية و هي ترتجف مكانها .... و هي تعرف بأنه رجل ذو سلطة كبيرة و لو فعل بهما أي شيء فربما لن يناله أي عقاب ....
الا أن "علي " قال مستنكرا
( إنه يخيفك فقط ................ )
الا أن سيف قال بصوت رجال العصابات
( لقد أنذرتكما ..... و قد أعذر من أنذر ......... )
ثم ابتعد مندفعا .... و في قلبه و كيانه أمرا جاء من عقله مباشرة
" اعثر على وعد ..........بأي ثمن ... . "
بينما وقفت كوثر رافعة اصبعيها و هي تحتسب عند الله قائلة
( كشفت رأسي و دعوت عليكما ....... أضعتما المسكينة و خربتما بيتها .... )
عقدت راوية حاجبيها و هي تقول بقنوط
( ليس الى هذه الدرجة ..... لقد كان مخروبا من الأساس )
حينها هتف " علي " بجنون و هو يجري اليها
( لن يحميكِ أحد مني الآن ....... )
انطلقت تجري بين الماكينات بذعر و هو يجري ورائها .... بينما تصرخ عاليا
( الحقييييني يا كوثر ......... )
الا ان كوثر وضعت يدا فوق أخرى و هي تهمس باحباط
( ترى ماذا سيفعل بكِ يا وعد حين يجدك ؟!! ...... )
ثم صرخت عاليا
( ابتعد عن عينيها يا " علي " ........ نحتاجها لأن لدينا عمل متكدس ..... اضربها على رأسها بمسطرة القياس , لكن برفق .... )
.................................................. .................................................. ...................
فتحت ملك الباب لتجد سيف واقفا امامها ... يبدو شاحب الوجه ... بينما عيناه على النقيض , تبرقان بوهجٍ غريب ...
قالت بقلق و ابتسامة جميلة
( مرحبا يا سيف ...... تعال , تفضل ,,,, )
الا أنه بقى عند الباب وهو يقول بخفوت
( كيف حالك يا صغيرة ......... )
ابتسمت برقة أكثر و هي تقول
( بألف خير ......... لكنك لست تبدو كذلك , ماذا حدث ؟؟ .... )
قال سيف باختصار
( أتعرفين مكان وعد ؟؟ .......... )
رمشت ملك بعينيها ارتباكا و هي تمسك بحافة الباب ,.... قبل أن تقول بخفوت
( لا يا سيف .... صدقني لا أعرف مكانها , هل تريدها بشيء هام ؟؟ ..... )
اقترب منها سيف خطوة وهو يقول برجاء
( ملك ارجوكِ أنا أريدها بشيء هام جدا ..... لو تعرفين مكانها أخبريني رجاءا )
اشفقت عليه أن يترجاها مرتين ...... لكم هو ضعيفا ذلك الكائن المهيب أمام حبيبته كطفلٍ مدله !! .....
فقالت بخفوت و تردد
( صدقني لا أعرف .... لكن ...... لكن ......... )
أطرقت بوجهها فاشتعل وجهه قلقا وهو يقول بقوة
( لكن ماذا يا ملك ؟!! ...... ماذا بها ؟؟ ...... )
كانت تعرف بأنه سيغضب بشدة و يثور جنونه ... لكنها لم تجد سوى أن تقول بخفوت
( كانت حالتها غريبة الشكل ...... و أخبرتني الا أنتظرها , فهي تود قضاء الليلة بمفردها ..... )
اتسعت عيناه بذهول و بريق غضب ينتشر ببطىء ... ثم قال غير مصدقا
( هل ستبيت خارجا ؟!! ..... هل جنت أختك تماما ؟!! أم ظنت أن لا كبير لها كي يكسر عنقها حين يتطلب الأمر ...... )
زمت ملك شفتيها و قالت محاولة تهدئته
( اهدأ يا سيف ...... الا تعرف كم عمر وعد الآن ؟!! .... إنها ليست مراهقة تحتاج لمراقبة ... انها امرأة ناضجة و مطلقة و تحتاج لبعض الخصوصية لنفسها .... لقد حاولت أن أعرف أين ستبيت بكل الطرق و الوسائل ... الا أنها رفضت بهدوء و أخبرتني أنها تريد تغيير جو فقط .... )
رفع سيف رأسه عاليا وهو يكاد أن يجن ..... ثم قال غاضبا
( و هل من المفترض أن أقتنع الآن ؟!!! .... لمجرد أنها ناضجة و مطلقة ؟!!!! .... لقد جنت تماما ..... )
استدار جانبا و هو يزفر بعنف ... بينما قالت ملك بخفوت
( هل لك علاقة بالأمر ؟!! .... لقد أخبرتني انها تصرفت تصرفا متهورا و تخشى نتائجه ... و لا تقدر على الإنتظار ترقبا ...... هل يمكنك ترجمة هذا ؟؟ .... )
رفع سيف وجهه الشاحب الى ملك , ينظر اليها طويلا .... ثم ظهر طيف ابتسامة على شفتيه القاسيتين رغم عنه و عيناه تشردان للحظة ... فقالت ملك مبتسمة
( آها ..... من المؤكد بأنك قد فهمت المعنى و انك السبب في هروبها كأرنب مذعور ..... اذن ستتمكن من ايجادها , لا تقلق .... فقط قم بتشغيل جهاز التتبع القابع بداخل قلبك .... )
مط سيف شفتيه وهو يقول بغيظ
( و هل يصلح جهاز التتبع لأختك ؟!! ....... إنها تحتاج لمصفاة تعمل على غربلتها و تنقيتها من كل العقد و الشوائب بها ...... )
ضحكت ملك و هي تؤرجح الباب قائلة
( و أنت كذلك ......... )
ضحك برفق دون صوت ... ثم قال بصوت يتوهج قليلا
( إنها مصفاتي ........... )
توقفت ملك مكانها و نظرت اليه غير مصدقة .... هل سيعودان لبعضهما أخيرا ؟!!! .... الا أنها قالت ببهجة حقيقية
( هذا ألطف ما سمعته من زوجا كوصف لزوجته !! ....... )
مط سيف شفتيه وهو يزفر قائلا
( و ليتنا نعجب !!! ..... خسارة أنا بها ..... اسمعي , سأذهب للبحث عنها قبل أن يحل الظلام ... )
تحرك خطوة , الا انه عاد اليها عاقدا حاجبيه و على زاوية شفتيه شبه ابتسامة قائلا
( و أنت ؟!! ..... تبدين شاحبة الوجه .... براقة العينين ..... ماسبب هذا الخليط المتناقض ؟!! ... )
احمر وجهها و أطرقت به .. فزال الشحوب , و بقى البريق ....
لكنها قالت مبتسمة بخجل
( و أنت كذلك ...... فلوعرفت السبب لنفسك ... أخبرني به ..... )
عقد حاجبيه أكثر , بينما بان الحنان على وجهه وهو يقول
( حسنا سأبدا في الشعور بالغيرة حقا ....... لقد اختطف احدهم أختى الصغيرة لتوه , و ها هو الآخر يوشك على خطف الأميرة ذات الضفيرة ؟!! ..... )
أبعدت وجهها المشتعل خلف الباب و هي تهتف بقوة
( سيييف !!! ....... توقف .... )
حاولت تهدئة قلبها قليلا ... ثم أخرجت رأسها أخيرا كعروس العلبة و هي تقول بحزم
( اذهب و ابحث عن وعد و افرغ بها شغفك الأبوي .......... )
عقد حاجبيه ليقول
( أصبحتِ وقحة كأختك ......... )
مطت شفتيها و هي تقول
( أنت من تسيء نية فهم الكلام !! ........ سأخبر رائف ... )
اتسعت عيناه و وضع يديه بخصره وهو يقول مذهولا
( تخبرين رائف !! ..... هل أصبح لأمر بمثل هذه الصراحة ؟!!! ..... لا أعرف من سأراقب منذ اليوم بالله عليكن !! .....أنتِ أم المجنونة أختك ... أم ورد التي أتحفتني بمصيبتها مؤخرا .... لكن ما أعرفه هو شيء واحد .... )
رفع عينيه اليها و ابتسم ابتسامة غريبة نابعة من عمق صدره ليقول بخفوت حار مبتسم
( أنني لن أنجب فتاة أبدا ........... )
اتسعت ابتسامتها و هي تقول بخبث
( عليك أن تجد أمها أولا ...... ثم اعترض بعد ذلك ....... )
قال سيف مبتسما
( ألم أقل لكِ أنكِ أصبحتِ وقحة !!! ...... )
ابتسمت ملك بخجلٍ اكبر .... بينما نظر اليها نظرة اخيرة وهو يقول مستسلما
( سأذهب للبحث عنها ....... )
قالت ملك بسرعة من خلف كتفه
( اجعلها تفتح هاتفها لأطمئن ما أن تجدها يا سيف .... )
لوح سيف بكفه دون أن يرد ... أو حتى أن يستدير ,
فهو بصراحة لن يتمكن من قطع وعدٍ ... يشك في أن يتذكره من الأساس ..
.................................................. .................................................. .....................
ما أن جلس بسيارته حتى تنهد بقوةٍ وهو يقبض على المقود مطرقا برأسه .. بينما النبض بقبله لا يهدأ و لا يمل القفز بجنون ...
رفع رأسه اخيرا وهو يهمس للطريق أمامه
( اذن تظنين نفسك ذكية و بإمكانك الهرب من المواجهة ؟!!! .....مخطئة انتِ اذن ..... ها أنا آتٍ اليكِ )
و انطلق بالسيارة مسرعا وعيناه تفيضان عزما .... الى أن وصل بيتها القديم .... و كان الوقت قد قارب مغيب الشمس ... فنزل مسرعا في الحي الضيق بعد أن سده بسيارته الضخمة ...
و صعد السلم جريا كل درجتين معا .... قبل أن يصل الى الباب المعتم , فأخرج مفتاحه المعلق بين مفاتيحه
و فتح الباب ... الا أن رائحة الغبار و الوحدة أثقلت قلبه مع أول نفس .... فانتشرت خيبة بصدره مع أول خطوة متباطئة دخلها وهو ينظر الى الجو المعتم من حوله ....
وقف مكانه يلهث قليلا وهو ينظر الى الضباب من حوله .... و المكان يبدو مهجورا كئيبا بدونها ...
سقطت كتفاه و كأن العزم قد تركهما سريعا ... فنادى بصوتٍ خافت مهزوم
( وعد ......... وعد ........... )
و لم يجبه سوى صدى صوته ليجيبه و كأنه قد أشفق عليه من وحدته في بيتها و هي غائبة ....
أجبر قدميه على التحرك ببطىء وهو يقول مجددا
( وعد ....... )
الا أن الصدر كان رفيقه مجددا ... الى أن دخل غرفتها وهو يزيح الباب المتهالك بيده ....
الغرفة معتمة قليلا ... مجرد شعاع وحيد من أشعة الغروب الحمراء يتسلل من بين خشب النافذة المغلقة ....
ابتلع غصة بحلقه وهو ينظر الى تلك الغرفة التي سكنها مرارا ... يستنشق عطرها بين وساداتها ...
الى أن شاهد نفسه مكسورا الى عشرات القطع في مرآتها المهشمة ...
كان هو من حطهما بنفسه ... بقبضته التي نزفت على زجاجها ....
فوقف يراقب عينيه المكسورتين بشرخٍ طولي ....
بداخله خيبة قوية ... ممتزجة بذلك النبض المجنون أسفل عنقه وهو يعيد عبارتها مجددا و للمرة العاشرة ... أو ربما المئة ...
" انا احبك ... بل أعشق التراب الذي تسير عليه ..... هلا أعدتني اليك "
أغمض عينيه وهو يتنفس بعمقٍ ليهدىء ارتعاش قلبه ....
انها تعرف جيدا متى تضرب ضربتها و متى تهرب !! ......
فتح عينيه وهو يخرج هاتفه ليتصل بها مجددا رغم يأسه من الرد ... و بالفعل كان الهاتف لا يزال مغلقا ...
فشتم بخفوت قبل أن يتصل بأمه و التي ما أن ردت حتى قال بقوة
( أمي ..... هل وعد عندنا في البيت ؟!!! ...... لم تأتي أبدا ؟!! .... الا فكرة لديك عن مكانها الآن , لربما تكون قد اخبرتكِ .....لا .... لا تقلقي .... إنها فقط تقوم بإحدى مناوراتها ..... لا عليكِ , سأعثر عليها و لو تذكرت سأطمئنك ....... أراك لاحقا ... )
أغلق هاتفه وهو يزفر بعنف مغمضا عينيه .... بداخله الرغبة في قتل أحدهم ... و ربما كانت وعد لكن بعد أن يواجهها أولا ....
فتح عينيه و رفع هاتفه مجددا وهو يقول بخفوت
( تلك الكرمة الوعدية ... عرفت بأنني سأحتاج رقم هاتفها يوما ..... )
اتصل بها و انتظر طويلا قبل أن يصله صوتها الرقيق ... فقال دون مقدمات
( آآآ .... مرحبا كرمة , أنا سيف ...... آه نعم أهلا بكِ ...... هلا مررتِ الهاتف لوعد من فضلك دون الحاح طويل ؟؟؟ ....... )
رفع رأسه لأعلى و هو يغمض عينيه غضبا حين سمعها تقول
( وعد !! ....... لكن وعد ليست معي !! .... هل أخبرتك أنها آتية لزيارتي ؟!! ..... )
زفر سيف بقوة وهو يقول بهدوء أعصاب يحسد عليه بينما بداخله الرغبة في الصراخ و ضرب الهاتف بالحائط
( من فضلك يا كرمة ... انا أريد فقط ان أكلمها , لا تداعي لتخفيها ... فأنا أعرف أنها لديك .... لا مكان آخر قد تذهب اليه ... خاصة و أنها تنوي المبيت خارج بيتها ... )
شاب القلق صوت كرمة و هي تقول
( المبيت خارجا ؟!! ..... أين ستبيت و هي ليست عندي ؟!! ..... )
هتف سيف بقوة
( كرمة رجاءا ..... الموضوع مهم ..... )
قالت كرمة بتوتر
( أقسم بالله ليست هنا ..... تعال و ابحث عنها لو أردت , لكنك أقلقتني عليها ..... هل حدث بينكما شيء آخر ؟!!! ..... ألم تخطب فتاة أخرى و انتهينا من تلك القصة الطويلة !! ..... لما لا تدعها بحالها ؟!! .... )
رفع سيف عينيه للسقف وهو يهمس لنفسه من بين أسنانه
" هذا رائع ..... هذا فعلا رائع و في هذه اللحظة الضيقة على الأخص !! .... كم امرأة كلمت حتى الآن و لم أحصل منها سوى الثرثرة العاطفية التي لا فائدة منها "
لكنه و من شدة غيظه .... أمعن في الثرثرة العاطفية وهو يقول هادرا
( حسنا .... ظننت أننا انتهينا , لكن صديقتك الغالية كان لها رأي آخر .........)
قالت كرمة بحيرة
( كيف ؟!! ...... ماذا فعلت وعد ؟!! ..... )
عقد سيف حاجبيه وهو يشعر بأنه قد باح بالكثير .... فتلك الرسالة بينهما ستظل سرا آخر من أسرارهما لن يراها غيرهما حتى آخر العمر ....
أبسط حقوقه الآن , هو أن تهمس صاحبه السر به لأذنه فقط .....
لذا أخذ نفسا عميقا وهو يقول بهدوء خادع
( لم تفعل شيئا ..... لكن أنا فعلا أحتاجها , الا فكرة لديكِ عن المكان الذي قد تتواجد به ؟؟ ..... انها ثاني مرة أبحث عنها كالمجنون بعد هروبها المرة السابقة ..... )
قالت كرمة بخفوت
( لا أظنها ستهرب هذه المرة ..... فلا سبب يدعوها لترك حياتها التي بنتها هنا ..... أنظر الى أين جررتني في الحديث و هي لم تكد تغيب سوى بضعة ساعات فقط لا غير !!!! ...... )
قال سيف بأسى و قسوة
( فيما يخص صديقتك لم أعد أثق بشيء ...... )
قالت كرمة بهدوء
( ابدأ بالثقة يا سيف ......... و ستجدها ان شاء الله , لا تعاملها دائما كحيوان مطارد .... )
أغمض سيف عينيه وهو يحك جبهته بيده ..... ثم قال بخفوت يكاد أن يكون همسا
( أنا خائف عليها ........ لقد فعلت شيء ..... و تشعر بأنها تهورت ..... و أنا لا أعلم عما تفتق به ذهنها حاليا , أو المكان الذي اختارت الهرب اليه ..... )
ابتسمت كرمة على الجانب الآخر دون أن يرى سيف ابتسامتها ... ثم قالت بهدوء
( مجددا ..... لا تعاملها كحيوان مطارد , دعها تتعامل مع تهورها ببعض الخصوصية ..... و لا تخف , لقد عاشت معتمدة على نفسها لسنواتٍ طويلة ...... فلا معنى للخوف عليها الآن ... )
رفع سيف رأسه وهو يقول ببطىء و خفوت واثق .. حزين
( سأظل أخاف عليها الى أن يشيب شعرها ..... لا يهمني تلك السنوات التي قضتها بمفردها دون الحاجة لي .... يكفي أن أعرف بأنها محتاجة لي الآن , و بدوني هي ضعيفة ..... أنا أعلم أنها ضعيفة بدوني .... و هذا هو ما يخيفني .... )
قالت كرمة بخفوت مبتسمة ابتسامة أكبر
( حسنا هي بدونك ضعيفة ........ لما لا تمنحها ليلة اضافية من الضعف ؟؟ ..... و غدا ستعود بعد أن تكون قد رتبت أوراقها ...... )
قال سيف بقوة
( و هل سأتمكن من انتظار ليلة كاملة و رأسي على الوسادة و أنا لا أعلم أين تبيت ليلتها ؟!! ...... لن يحدث , سأذهب للبحث عنها و سأعود بها ..... )
كانت ابتسامتها الآن قد اظهرت أسنانها كاملة ... و هي تقول
( حسنا ...... حظا موفقا , لكن لا تقسو عليها كثيرا حين تجدها ..... )
و قبل أن تغلق الهاتف نادت سريعا
( سيف !!!! كدت ان أنسى .......... يؤسفني خبر فسخك لخطبتك ..... )
عقد سيف حاجبيه وهو يقول
( كيف عرفتِ ؟!! ..... لم أخبر أحدا بعد !!! ..... )
الا انها ضحكت و هي تقول ببساطة
( أنت تضيع الدقائق ...... ابدأ السباق للبحث عنها ..... )
نظر سيف من نافذة غرفة وعد و هاله أن يكون شعاع المغيب قد اختفى و حل الظلام دون أن يجدها ....
فقال سريعا
( يجب أن أغلق الخط الآن يا كرمة ....... نعم , سأطمنك عليها ...... لو تذكرت ..... )
أغلق الخط سريعا و هو يندفع خارجا من بيتها ليصفق بابه خلفه بعنفٍ جعل الغبار يثور ... و الزجاج يهتز ....
.................................................. .................................................. .................
كان يطوف المدينة بسيارته ليلا كالمجنون .....
طاف بكل الفنادق التي يعرفها و هي محدودة العدد في المدينة .... و لم يعثر عليها .....
و من هنا بدأ جنونه في التزايد .... و سرعة السيارة تتناسب مع جنونه الداخلي فتزيد تلقائيا , حتى كانت تبرق كالسهم في طريق البحر ذهابا و ايابا .... دون أن يجدها .....
داس المكابح فجأة وهو يتجاوز سيارة أخرى مسرعة .... فدارت سيارته دورة كاملة قبل يستقر أخيرا وهو يلهث بقوة .... بعد أن كاد أن يفقد حياته ...
لكن رعبه لم يكن على نفسه ... ساعات الليل تمضي سريعا وهو لم يعثر عليها حتى الآن !!! بأي مكان يمكنها الوصول اليه ....
ضاقت عيناه بزوايا متجعدة .. متألمة ... و هو يرى أمامه صور وهمية يرسمها خياله لها و هي تصرخ ألما ... أو أن تكون ضحية حادث .... او ربما انهار قلبها العليل أخيرا .....
أغمض عينيه على صوتها يهمس مناديا باسمه
" سيف ....... سيف ....... أين انت ؟!! .... "
انتفض صدره وهو يشهق بمقعده .... بمرآى تلك الصور المخيفة ... فرفع يده الى تلك المضخة المختبئة خلف صدره القوي و التي تضخ الدم بعنف و جنون ...
و رعبه يتزايد .... ماذا لو فقدها الآن بعد أن رآى رسالتها ؟!!! .... ماذا لو كانت قد تعرضت الى مكروه ...
همس بخوف حقيقي
" وعد .......... ليتني اموت قبل أن يصيبك مكروه "
أغمض عينيه بشدة و كأن ابنته قد ضاعت منه وهو يدور بحثا عنها ... ابتلع غصة مسننة بحلقه , قبل أن يفتح عينيه باصرار محاربا الضعف الذي ينتابه مهاجما ...
ثم تناول هاتفه ينظر اليه طويلا ..... يعيد قراءة رسالتها الرقيقة
" هلا أعدتني اليك ......... هلا أعدتني اليك...... هلا أعدتني اليك ........ "
عقد حاجبيه بألم و كأنه يسمع ندائها الي مجددا بصوتها المبحوح المرتجف ...
فرفع ذقنه وهو يضغط على نفسه بقوة ... و بكفاح الأبطال , ضغط رقما حفظه ليلة أمس بالأخص و انتظر .... بينما ملامحه الصلبة بدت كالحجر البائس .... الى أن سمع الصوت الرجولي الأكثر بغضا على قلبه يقول بسخرية واضحة
( آآآآه .... مرحبا صهر ..... لم أكن أظن أنك ستشتاقني هكذا بسرعة ..... بصراحة تأثرت ... أم أن الوالدة هي من أرغمتك على القيام بالواجب ؟!!! ......)
أغمض عينيه و أجبر نفسه على العد الى عشرة .... لكنه لم يستطع الوصول سوى الى خمسة فقط , قبل أن يفتح عينيه متحاملا على نفسه كي لا يشتمه بأقذع الالفاظ .... فقال بهدوء متشنج .. متقزز
( لقد اتصلت لسبب واحد فقط ....... )
رد عليه يوسف مقاطعا ببساطة
( تحديد المهر و قائمة الأثاث ؟!!! ....... ........ )
همس سيف من بين أسنانه لنفسه
( استغفر الله العظيم ............ )
قال يوسف يرد عليه مندهشا
( انت فعلا تحاول التغيير من نفسك و كبح لسانك !!! ...... الوالدة لها تأثير رائع حين تدخل الأمر بسلطتها ... )
صرخ سيف فجأة و هو يضرب المقود بقبضته
( هلا سمعتني للحظة و توقفت عن سماجتك ............. )
قال يوسف بخفوت
( آآآه ..... ها قد عدنا .للهمجية في الحوار ........ نعم ..... خير؟؟؟ ....... ماذا تريد ؟؟ .... )
زفر سيف بعنف وهو يحاول تهدئة نفسه .... ثم قال اخيرا متجرعا مجهودا جبارا من الصبر
( هل ........ هل لديك فكرة عن مكان وعد ؟؟ ...... )
نظر يوسف الى ساعة معصمه .... ثم قال بهدوء
( تكون بالمعرض في مثل هذا الوقت ......... هل اتصلت بي لأجل ذلك فقط ؟؟ ..... هل أنت طبيعي أم أنك أكلت شيئا فاسدا ؟؟...... )
هدر سيف بقوة
( وعد ليست بالمعرض .....و ستبيت ليلتها خارج بيتها و أنا أريد معرفة مكانها ..... )
عبس يوسف وهو يستمع اليه .... ثم قال بازدراء
( لا تخبرني أن الأفكار القذرة قد راودت تفكيرك العقيم حيال مكان تواجدها ؟!! ....... طبعا امرأة مطلقة و تبيت ليلتها خارجا , هذا من المؤكد معناه أنها تعبث في الخطيئة من وجهة نظرك !!!!!! .... )
تعبث في الخطيئة !!!!! ...... أي مصطلحٍ هذا !!!! ...... إنه بالكاد ينطق شيئا مفهوما ...
لكن مجرد كلمة الخطيئة كانت كفيلة بأن تفقد سيف الجزء الأخير المتبقي من سيطرته على أعصابه وهو يصرخ عاليا بجنون
( اسمع أنت ايها الحقير ..... اياك و أن تتجاوز حدودك و أنت تتكلم عن زوجتي ... أنا لي القدرة حاليا على قتل احدهم و ستكون أنت على رأس قائمة من أريد التخلص منهم في حياتي ..... )
كان يوسف قد ابعد هاتفه عن اذنه وهو يحكها باصبعه بهدوء بعد أن شعر بطبلتها قد خُرقت من الصوت العالي .... و ما أن انتهى صراخ سيف حتى أعاد الهاتف الى أذنه وهو يقول بهدوء
( هل انتهيت ؟!! ......... )
الا أن سيف عاد ليصرخ وهو يضرب شيئا ما ... بدا كمقود سيارة فنفيره بدأ في التصاعد مع ضرباته ولو رآه أحد الآن لتأكد من انه مجنون معتوه يجول طليقا بطرقات المدينة ...
كان يهذي الآن من شدة الغضب صراخا و تهديدا ... و انتظر يوسف ببساطة مبعدا الهاتف عن أذنه ... رافعا حاجبيه وهو يسمع قصائد غزلية في فن الشتائم لم يسمعها من قبل ... و ما ان انتهى سيف اخيرا و اخذ يلهث قليلا ... قال يوسف بهدوء وهو يعيد الهاتف الى اذنه
( سنك لن يتحملك طويلا بهذه الطريقة ..... و سيفقد العالم شخصا رائعا ..... لما لا تهدىء من نفسك و تخبرني عن المشكلة ..... باختصار .... )
زفر سيف عدة مرات وهو ينظر الى الطريق المظلم أمامه ...قبل ان يقول يوسف بهدوء
( لماذا تشعر بالخطر ؟؟ ...... هل حدث بينكما ما قد يسوئها ؟؟ ......الا ترى انك قد آذيتها بما يكفي ؟!! .... )
شردت عينا سيف أكثر في الظلام المنتشر من حوله بينما تابع يوسف يقول
( الفترة الأخيرة و منذ خطبتك و هي تذوي و تذبل ..... أخبرتني انها تتألم و بشدة .... فلماذا تعاود الدوران بفلك حياتها ... لا تسمح لها بالرحيل أو الراحة ؟!! .... )
شعر سيف بغصة تشطر حلقه نصفين وهو يضيق عينيه الما .... بينما التوت غضلة بفكه بصعوبة ....
فقال أخيرا بخفوت بائس
( أتعرف أين هي ؟؟ .......... رجاءا ...... )
ارتفع حاجبي يوسف وهو غير مصدقا لنبرة سيف اليائسة المترجية التي يسمعها .... فانتظر عدة لحظات قبل أن يقول بهدوء
( لا أعلم ........ و هي لم تكن لتخبرني , ........ )
أغمض سيف عينيه وهو يرجع رأسه للوراء بتعب ...... لكن يوسف قال بخفوت بعد فترة
( من الواضح أن شيئ قد حدث بينكما ....... و بما أنها مسكينة لا تزال مدلهة بحبك كما أخبرتني من قبل ... فهي من المؤكد ستكون باحد الأماكن التي تواجتما بها سويا .... كنوع من البكاء على الذات أو على الأطلال .. فتلك صفة يشترك بها الجميع في هذا الجزء من العالم ...... و منذ أن أتيت و أن أسأل نفسي عن جدوى تلك الخطوة ... و لم أجد تفسيرا مقنعا حتى الآن ...... )
فتح سيف عينيه وهو ينظر الى طريق الأسود أمامه .... و بدا طويلا جدا , الا ان شيء ما ومض بتفكيره
و كأنه ضوء بآخر هذا الممر المظلم ....فقال فجأة بقوة وهو يعتدل جالسا
( يجب أن أذهب الآن ........ )
قال يوسف بهدوء
( حسنا طمئني عليها ما أن تجدها ....... )
قال سيف بروتينية
( لو تذكرت ........ )
الا أنه هتف فجأة منفعلا
( لا ..... لن أطمئنك على زوجتي , و ما دخلك أنت ؟!!! ..... سلام , ....... لا بل بدون سلام حتى .... )
أغلق سيف الهاتف بقوة ... و انطلق بالسيارة محدثا صريرا عاليا مجنونا ..... بينما ظل يوسف ينظر الى الهاتف المغلق عدة لحظات ... ثم قال
( تلك الحالة يجب أن تدرس في كتب الطب ...... حالة من العته الممتزجة بعنف سلوكي و عدم قدرة على التركيز ....... )
ترك الهاتف ليرجع رأسه للخلف مستندا بها الى ذراعه وهو يفكر بوعد .... تلك المخلوقة الجميلة التي رغب في الزواج منها بكل قوة و رغم كل تعقيدات حياتها .....
لا يستطيع الآن أن يدعي الألم .... فقد هيأ نفسه لذلك طويلا مع كل مرة اعترفت بها بحب زوجها ....
و كم شعر بأنه يفتقد لوجود امرأة بحياته منذ سنواتٍ طويلة .... امرأة مثلها .... تتحمل كل هذا الألم دون أن تفقد ذرة من حبها لحبيبها ...... قوية كجزع شجرة ..... ضعيفة كزهرة .... مرهقة العينين دون أن تفقد بريقهما .......
أغمض عينيه مبتسما وهو يتذكر بأنه رجل خاطب الآن .... و لا يصح أن يفكر بامرأة اخرى غير خطيبته ...
تحولت ابتسامته فجأة الى ضحكة خافتة وهو يشعر بالرغبة في اغاظتها مجددا .... فاشعال غضبها يسليه بطريقة مذهلة ..... و ربنا نظم لها زيارة جديدة .....
.................................................. .................................................. .....................
الا تنتهي الأميال أبدا !!! ......
الطريق يطول و يطول ..... و يزداد ظلاما ..... مجرد أضواءا خاطفة لبعض السيارات المسرعة ....
و كأنها تنبهه أنه ليس وحده على هذا الطريق .... فتزيده عزما و سرعة ...
كانت عيناه تتقفيان الطريق ... و تفكيره الغريب يبحث عن آثار أي حوادث خلال اليوم ... و كأن الخوف قد أصبح شعورا طبيعيا يلازمه طالما أن اسمها يرافق حياته ....
شعر في نهاية الطريق بأن روحه لم تعد تحتل مثل هذا الألم .... فليجدها بخير .... أما لو لم يجدها فلا يعرف حينها كيف ستكون ردة فعله .....
وصل أخيرا أمام باب بيته الصغير بالساحل .... فأوقف السيارة كيفما كان و نزل مسرعا .. الا أنه ضم سترته ما أن شعر بالهواء باردا .. عاصفا من حوله ....
فأخرج مفتاحه بصعوبةٍ و فتح الباب بأصابع مرتجفة ....
و قبل أن يدخل أخذ نفسا عميقا وهو يغمض عينيه داعيا الله أن تكون هنا ..... و الا يعود الطريق الطويل مجددا بدونها ... فحينها لن يضمن سلامة وصوله ...
فتح عينيه و دخل الى البيت ببطىء .... و للوهلة الأولى شعر بشيء ما يدغدغ قلبه بإدراكٍ ساحر ...
فتقدم و جسده الضخم يرتعش رغم عنه .... و عيناه تجريان لمدةٍ لم تتعدى الجزء من الثانية خلال الضوء الشاحب المضاء جانبيا ..... بينما ملأ عطرها المكان ....
و في اللحظة الثانية رآها !!! ........
كانت هناك .... مكومة على الكرسي المتأرجح ... و ساقيها تحتها ... بينما رأسها مائلا للجانب و هي غارقة في سباتٍ عميق ... و شعرها الحريري الأسود يغطي جانب وجهها و ينسدل على كتفها ...
ليتولى الباقي غطاء ملون سميك وضعته فوقها من شدة البرد و تجمعت تحته ككرة صغيرة مسكينة .. و أصابعها الرقيقة تظهر متشبثة بحافته عند ذقنها !! ....
وقف سيف يتأملها طويلا ... فاغر الفم قليلا ... صدره يلهث بعنف و كأنه قد وصل لآخر السبق ....
اقترب منها خطوة مترددة ... و كأنه يخشى على تلك الصورة الخلابة من أن تتبخر من أمام عينيه المسحورتين ...
لكنه أجبر قدميه على التحرك باتجاهها و عيناه لا تتحركان عنها ... الى أن وصل اليها ...
كان الكرسي يتحرك بها و هي نائمة .... فانحنى اليها ببطىء حتى أمسك ذراعيه و أوقفه عن الحركة ....
أوقفه مائلا للأمام قليلا ... حتى اقترب وجهها الباهت من وجهه ... و حينها هاله أن يعرف بأن سبب تأرجح الكرسي هو ارتجافها بردا !! ...
فقد كان شفتيها زرقاوان لغاية .. تماما كزرقة أظافرها الظاهرة من تحت حافة الغطاء ...
و كانت شفتيها المرتجفتين فاغرتين قليلا يخرج منهما نفسا باردا يداعب بشرته الساخنة و كأنه محموم ...
فابتلع ريقه بصعوبه وهو يترك أحدى ذراعي الكرسي كي يمس بها جانب وجهها ببطىئ شديد .. مبعدا الشعر الناعم عنه ... و كانت بشرتها كالرخام البارد .... فانتفض جسده للمستها ....
كانت عيناه ترسمانها ....
بكل ما للعبارة من معنى .... تجريان على كل خطوطها و تفاصيلها ... تلونانها كما يشاء ... و تطبعان القبلات الحمراء على وجهها الأبيض ....
زفر نفسا دافئا جاء من قلبه ... لا من رئتيه .... فرمشت بعينيها قليلا حين داعبت السخونة أهدابها ....
انها مرهقة !!! ....
يعرفها في تلك الحالة من الإعياء ... حين تتكون الهالات الزرقاء تحت عينيها , و لا تخفيها بشرتها الشفافة ...
بينما يتحول نفسها الى ثقيلا ... خشنا .... صعبا و مجهدا على صدرها ....
و حاجباها الرفيعان ينعقدان قليلا بألم خفي ..... و كأن صدرها يئن تحت المجهود ....
فيصبح نومها ثقيلا جدا .... و كأنها تختار الضياع بداخل دواماتٍ عميقة , تسحبها بعيدا لأسفل ....
ابتلع ذلك الوجع المسيطر عليه بينما ازداد حاجبيه انعقادا .... لكن مهما كان وجعه , فهو لم يوازي ذرة من شعورٍ آخر ... أشعل بداخله جمرة متوهجة ... أخذت تنبض بخطورة و ضوئها ينتشر بداخله ...
فترك الكرسي اخيرا ليتأرجح بها ذاتيا للخلف ... قبل أن يمد كلتا ذراعيه من تحتها ليحملها بحذر هي و الغطاء معا ....
تدلت ساقيها من فوق ذراعه ,..... بينما ضمها الى صدره وهو يريح وجنته على جبهتها مغمضا عينيه ...
ليؤرجحها بين ذراعيه هو .... فما حاجتها للكرسي و صدره موجود للأبد .....
أخذ يدور بها ببطىء شديد ... و كأن الارض هي من تدور بهما .... و البرد من حولهما يتناقض مع الدفىء المشتعل بداخله ... بمذاقٍ يشبه المثلجات و عليها شوكولا ساخنة مسكوبةٍ بجمال ....
تحركت قليلا بعد فترةٍ طويلة بين ذراعيه ... متأوهة بصوتٍ متحشرج ... فتسمر مكانه تماما , رافعا رأسه اليها .... و كانت ترجف بجفنيها و هي تسعل قليلا ... فأنزلها سريعا قبل أن تستيقظ و أمسك بذراعيها كي يسندها و هي تقف أمامه على قدميها المتهالكتين ...
و سقط غطائها على الأرض بينهما ... بينما تناثر شعرها على وجهها المتساقط ... و هي تحاول أن ترفعه , فيسقط مجددا ... فقال بجفاء و خشونة متحشرجة
( وعد ....... وعد هل استيقظتِ ؟!! .......)
تأوهت قليلا و هي ترفع رأسها المتثاقل .... ثم رمشت بعينيها عدة مرات قبل أن تفتحهما متكاسلتين ... ثم وعت الى وجوده أمامها فجأة ... و ليس من واقع أحامها ...
بل أنه هنا بالفعل , واقفا أمامها و ممسكا بذراعيها و الألم الناتج من أصابعه الناشبة بلحمها يثبت وجوده ...
اتسعت عيناها تدريجيا أمام استيعاب حقيقة وجوده .... الى أن شهقت مذهولة و هي تهمس
( سيف !!!!! ....... انا ..... أنا ...... )
و دون أن تجد حلا آخر .... رفعت يدها الى جبهتها و رفرفت بجفونها قبل ان تسمح لساقيها بالتهاوي أمامه ... متظاهرة بالإغماء ...
الا أنه لم يسمح لها .... بل اتلتف ذراعه القوية حول خصرها ليرفعها قبل أن تسقط ارضا .. و أوقفها مجددا وهو يهدر بقوةٍ غاضبة
( قفي على قدميكِ قبل أن اصفعك على مؤخرتك ...... أعرف أنك تمثلين .... )
وقفت أمامه بالفعل وهي متسعة العينين ... ترتجف بشدة , لا تعلم إن كان من البرد أم من هول غضب نظراته و بأس ملامحه ..... فقالت بصوتٍ مختنق
( كيف ....... كيف ....... عرفت أنني هنا ؟؟؟ ..... )
لم تلين ملامحه ولو للحظة .... بل ظل ينظر اليها بصرامة غاضبا قبل أن يقول بصوت أثار الرجفة بها
( قليل من التفكير , ليكتشف المرء كم أنتِ شفافة مفضوحة ... و متوقعة التصرفات ... )
زمت شفتيها و هي تطرق بوجهها .... بينما كان صدرها يلهث بعنف و الذاكرة تعود لها بلمح البصر عن سبب هروبها بمنتهى الجبن ..... الرسالة ...
لقد قامت بأغبى تصرف من الممكن أن تقوم به امرأة ذات كرامة ... و في أكثر اللحظات يأسا من حياتها ...
لقد ترجته أن يعيدها اليه ..... بل توسلت له في الواقع ....
وهو رجل خاطب .... مرتبطا بامرأة أخرى تعمل على تفصيل ثوب زفافها !!!! ......
لو أي شخص عرف ما فعلت لظنها في منتهى الحقارة و الدناءة .... فكأنما ازداد حلاوة بعينيها بعد أن ارتبط بأخرى .... فأرادته لنفسها مجددا بعد أن تخلت عنه سابقا ....
و هي لن تلومه لو ظن بها هذا الآن ..... و ملامحه خير دليل على ذلك ....
همست وعد بخفوت و هي ترفع شعرها عن وجهها .. ببطىء ... دون أن ترفع وجهها اليه
( سيف أنا ......... أنا ...... أنا آسفة لاستخدامي لبيتك دون اذن منك .... كان المفتاح لا يزال معي , و لم افكر طويلا .قبل أن ...... )
قاطعها سيف قائلا بصرامة
( كيف وصلتِ الى هنا ؟!!! ............ )
ابتلعت ريقها و ارتجفت قليلا .... بينما ألزمت ملامحها الهدوء ... فقالت بصوتٍ خافت جدا
( بالحافلة .......... )
اتسعت عينا سيف بذهول للحظة , قبل أن يقول بصوتٍ خطير كاد أن يقطع عنقها
( استقليتِ حافلة من تلك التي تسير على الطريق السريع الخالي ؟!!!!!! ......... )
عقدت حاجبيها قليلا و هي تقول
( لم يكن الطريق خاليا تماما ..... و كانت الحافلة مليئة بمن يعملون بالساحل يوميا .... )
كان ينظر اليها بعدم تصديق كمن ينظر الى شخص مجنون .....
بينما عقله يرسم لها صورة مرتعبة و هي تجري بعد ما فعلته .... لتستقل حافلة مع العمال متجهة الى أبعد مكان يمكن أن تتواجد به وحدها ....
قال سيف بصوتٍ خافت بطيء جدا .... خطير جدا ...
( أتعرفين ماذا كنت لأفعل بكِ لو أصابك مكروه بسبب تصرفك المعتوه هذا ؟!!! ...... )
ابتلعت ريقها مجددا و هي تقول بصوت باهت
( أستطيع التخيل .......... )
ثم صمتت تماما .... فكاد الصمت بينهما أن يطبق على صدرها ...... لا يقطعه سوى صوت الرياح في الخارج .... و صوت أنفاسه الأكثر علوا و هي تلفح وجهها البارد بوهجٍ ساخن .... غاضب ...
أدخل سيف يده بجيب بنطاله قبل أن يخرج هاتفه .... ليفتح رسالتها ... قبل أن يم الشاشة لها و يقول بصرامة قاتلة و دون أي أثرٍ للرحمة ...
( هل كتبتِ هذه بالفعل ؟!!! .......... )
أغمضت عينيها بيأس متعب .... و ألم غير محدود ...
اذن هو يريد أن يجرحها للنهاية .... لم يكن ليسمح بالأمر أن يمر دون أن يستغله ....
الا أنها رفضت الظهور بذلك المظهر ... فقالت بجمود و هي تميل بوجهها بعيدا عنه
( ياللذكاء .... الا ترى أنني المرسلة ؟!!! ......... )
عبس أكثر وهو يعيد الهاتف الى جيبه .... لكن ليس قبل أن يلقي نظرة أخيرة للرسالة و قرأها مجددا
" هلا أعدتني اليك ............ "
لكنه رفع اليها وجها شديد البأس و الخشونة ... ثم قال بهدوء
( اعذريني إن أردت وضع كل الإحتمالات ..... فلربما أمسك أحد بهاتفك وود لو أن يرتكب تلك الخدعة الحمقاء ...... فالأمر لا يحتمل المجازفة ... )
أغمضت عينيها بألم .... " خدعة حمقاء !!! ..... "
حسنا هي تستحق ذلك بكل تأكيد .... فلتتحمل تلك اللحظات بمرها و بؤسها .... ثم تعود الى حياتها كقطعة بائسة من الخشب الفاقد للحياة ...
لذا رفعت ذقنها تواجهه بينما جفنيها مسبلين يخفيان عينيها عن عينيه ... و قالت بجمود خافت
( نعم ........ أنا كتبتها ..... و أنا آسفة لأنها ضايقتك كل هذا الحد ...... )
قال سيف بهدوء
( كلمة " ضايقتني" لا تصف حقيقة شعوري منذ أن قرأتها ........ )
قالت وعد بنفس النبرة الباهتة دون ان تنظر اليه ...
( استطيع أن أتخيل ....................... )
قال سيف بمنتهى الهدوء دون ان يرفع عينيه عن جفنيها المسبلين بجمال سحرهما ....
( لا ..... لا يمكنك التخيل ....... )
و دون أن يسمح لها بالرد ..... مد يده ليقبض على كفها بقوةٍ قبل أن يجرها خلفه وهو يندفع في اتجاه باب البيت ....
كانت وعد أقل استيعابا من أن تدرك ما يفعله ... الا أنها جرت خلفه لاحقة بخطواته و هي تهتف
( انتظر لحظة يا سيف ..... الى أين سنذهب ؟؟ ...... )
لكنه لم يعرها اهتمام لحظة اخرى ليضيعها وهو يدفعها أمامه ... قبل أن يصفق باب البيت خلفهما ... ثم عاود جرها خلفه الى السيارة ...
انتفضت وعد بشدة من قوة الرياح ... فضمت ذراعها الطليقة الى صدرها المرتجف قبل ان تهتف
( الجو بارد جدا ....... على الاقل انتظر حتى اغسل وجههي الساخن من النوم .... )
الا انه لم يرد عليها وهو يتوقف مكانه ... ليتلوى خارجا من سترته ... ثم استدار اليها وألبسها اياها بقوة و فظاظة .... و بينما يدخل ذراعها في كم السترة بخشونة قال
( لا تخرجي مجددا في هذا الجو بدون سترة ...... أفهمتِ أم أقحم الكلام برأسك الصلب ؟!! ... )
رفع يده فجأة ... فانتفض وجهها للخلف و هي تظنه يقحم الكلام برأسها بالفعل ....
الا أن يده تلمست وجهها و جبهتها برفق ... كي يتأكد أن وجهها لا يزال باردا ....
و لا يعلم ماذا فعلت تلك الحركة البسيطة بها .... فقد اذابت عظامها ... لكنه لم يمنحها الوقت للتهاوى ... بل جذبها مجددا و وهو يقول بصرامة
( الى السيارة ....... بسرعة ... )
ادخلها السيارة بالقوة ... قبل أن يصفق الباب خلفها ... و دار حول السيارة كي يستقل مكانه بجوارها ... مما جعل السيارة تنتفض كعادته في الجلوس دائما .....
ثم انطلق بالسيارة بكل عنف محدثا صريرا عاليا ... شق سكون الليل بعنف ...
.................................................. .................................................. ......................
رفعت حنين رأسها منتفضة عما تفعله و هي تسمع صوت صرير السيارة القوي بالخارج .... فقالت بقلق
( هل سمعت ذلك ؟!!! ....... )
رد عليها جاسر من أسفل السيارة المستلقي تحتها
( ماذا ؟!!! .......... )
اهتز المصباح الكهربي بيدها و هي جالسة بجواره على ركبتيها .. فقالت
( صوت صرير السيارة العالي ذلك !!! ....... من هنا في مثل هذا الوقت من العام ؟!!! .... )
قال جاسر من تحت السيارة
( سلطي الضوء على ما أفعله يا زيتونة ...... أكاد أن أقحم المفك بعيني ..... )
مطت شفتيها و هي تعود للإنحاء اليه مسلطة الضوء اليه وهي تقول بغيظ
( لا أعلم سر اصرارك بمكوثي هنا معك بالمصباح كفزاعة الطيور في الحقول ؟!! ...... الا تستطيع وضعه بجوارك و تعتقني كي أذهب لنوارة و عمل البيت المتكوم ...... )
قال جاسر من تحت السيارة ...
( و لمن سأقول يمينا قليلا .... يسارا قليلا ..... )
قالت حنين هازئة بامتعاض
( آها ...... رائع , أقنعتني .......... من الرائع أن أعرف بأن لي فائدة .... )
نظرت الي السيارة القديمة ... ثم هتفت بحنق
( ثم اخبرني بالله عليك ..... ما سر عدم يأسك في تلك السيارة الحقيرة !!!! ..... لماذا تظل تصلحها مرة بعد مرة ..... والله لو عرضتها للبيع فسيصلك شيك بمبلغ مساعدة خيرية ... و دعاء صادق من القلب ..... و طلب من الحكومة أن تدفنها في مكان بعيد عن البشر ....)
قال جاسر وهو يتابع عمله
( هاااا ... هاااااا ... انتظري قليلا !!! ... نعم هناك واحدة أخرى تدغدغ بطني ... هاااا هوووووو .... ألم يخبرك أحد مؤخرا انكِ أصبحت ظريفة جدا !! ..... )
قالت بغيظ
( هذا ما أنت فالح به !! ....... )
قال من تحت السيارة بصوتٍ ذون نبرة عابثة تعرفها جيدا
( هل هذا فقط هو ما أنا فالح به ؟!!! ........... )
مطت شفتيها و هي تمنع ابتسامة من الظهور على شفتيها ... ثم قالت بجفاء
( و هذا أيضا .......... قلة الأدب ..... )
قال جاسر وهو يتابع عمله
( جيد ..... ظننت بأنني قد فقدت مهاراتي بقلة الأب ...... )
قالت حنين بغيظ
( يا رجل احترم نفسك ..... ابنتك أصبحت عروسا على وجه زواج ... )
قال جاسر بهدوء
( نعم ....... على فكرة تلك العروس .... بللت كرسيك المفضل في المطبخ ..... )
شهقت حنين وهي تضع المصباح أرضا هاتفة بغضب
( أولم تنظفه حين لاحظت ؟!!!!!!!!! ............ )
قال من تحت السيارة ....
( و ما ذنبي ان كنتِ أنتِ من منعتها من ارتداء الحفاض سريعا ؟!!! ..... اذن نظفي انت خلفها ....امسكي المصباح و ثبتيه جيدا .... .. )
زفرت حنين بقوة و هي تهتف بعنف
( انت لا تساعدني بأي شيء ...... أنت لا تفعل شيء سوى اللعب في البيت .... بينما أنا و منذ أن تركت العمل لإدارة حور ... و أنا أعمل هنا خادمة و طباخة .. و مربية أطفال ... و ميكانيكي و نجار في المرآب ....... الحياة تزداد صعوبة معك يوما بعد الآخر ..... )
قال جاسر
( حنين .... دلكي لي ساقي , لقد عادت لتؤلمني مجددا ...... )
نظرت الى جسده المسجى بقنوط ... ثم تنهدت و هي تميل لتدلك له ساقه برفق ... لكنه هتف
( لقد ابعدتِ الضوء ...... ثبتيه بيدك اليسرى , بينما دلكي ساقي بيدك اليمنى ...... )
زفرت حنين بكبت ... و هي تثبت يدها .... بينما تميل بجزعها كله كي تصل الى نهاية ساقه من اولها لآخرها .....
همست لنفسها بشرود
( احتاج للراحة .......... و انت اللذي اخبرتني ان اترك ادارة العمل كي ارتاح ... و لأنك لا تريد التعب لي ....... )
لم تدرك انه كان قد توقف عن العمل منذ فترة ... الى ان خرج فجأة على المزلجة الخاصة بتصليح السيارة ليعتقل خصرها بقوة جعلتها تشهق عاليا وهو يسحبها معه على صدره ليدخلا مجددا تحت السيارة المرفوعة قليلا ....
هتفت حنين بغضب و هي تضرب صدره ....
( توقف عن اللعب ....... لقد مسحت أرض المرآب بشعري ..... و لن اتعجب لو وجدت به العديد من العناكب ...... )
قال جاسر بخفوت وهو يقبل جبهتها ....
( سأغسله لك .............. )
هتفت باستهزاء
( آه نعم صحيح ............. هذا عندما يحل الصيف القادم لو وجدت لي وقت .... )
عبس وهو يقول
( كل وقتي هنا أقضيه معك ........ كم أنت ظالمة ناكرة للجميل !!! .... )
هتفت بقوة و هي ترجع راسها للخلف
( هل تسميه جميلا ؟!!!!!! .......... لقد سلمت ..... )
ابتسم وهو يراقب عنقها الممتد أمامه على ضوء المصباح الموضوع ارضا ... بينما رأسها يميل الى الخلف من على ذراعه و كأنها قد خلدت للنوم قليلا بالفعل .... فانخفض وجهه ببطىء وهو يقبل عنقها برقة جعلتها تهمس
( توقف عن هذا .......... أنا غاضبة جدا الآن ولن يفلح ذلك ..... )
ابتسمت شفتاه على عنقها وهو يقول بخفوت
( نامي ........... )
قالت بسخرية
( هنا ........ تحت السيارة ؟!! ....... )
قال مبتسما
( لن تكون المرة الأولى ..... و إن كنت اظن أن الشاحنة أكثر ارتفاعا و بالتالي النوم تحتها أكثر راحة ....)
زفرت حنين بقوة .... فرفع جاسر يده يمسح بعض رذاذ زفرتها عن وجهه وهو يقول ببساطة
( رحمكم الله ......... )
قالت بغضب دون أن تفتح عينيها
( لم تكن تلك عطسة ........ )
قال بهدوء
( أعرف ..... لكنني حاولت تجميل رذاذ زفرتك الجميلة بأسلوب راقي ..... )
مطت شفتيها و هي تقول
( ونعم الرقي ......... جاسر حبيبي , حاول أن تقتنع بأنك و الرقي لا تتفقان .... يكفي ما فعلته بحفل عقيقة ابن رنيم .... و انت تقطع اللحم بيدك و توزع على الجميع ....... )
ابتسم جاسر قليلا ... ثم قال بخفوت
( هل أحرجتك ؟؟ ..............أخبرتك أنه من الأفضل الا نذهب .... )
ظلت صامتة قليلا .... فبهتت ابتسامته وهو يتأمل ملامحها الساكنة المغمضة ....و عاد اليه ألم قديم ... ربما كانت أبعاده الحقيقية قد انتهت .....
الا أنه كجاسر سيظل مختلفا .... مختلفا عن ذلك الشخص الطيب الراقي الذي توهمت حبه ذات يوم ....
عن " عمر " .....
لكنها همست بخفوت و دون مرح
( من المستحيل أن أحرج من نفسي ........ )
عاد ليبتسم ابتسامة مهتزة قليلا .... قبل أن يقول بخفوت
( و أنا حين الاعبك أشعر بأنني عدت طفلا صغيرا ... و حين العب مع نوارة أشعر بأنني اللاعب جزءا منكِ .. الجزء الأغلى منكِ ..... و حين اتمسك بكِ في كل مكان حتى المرآب أشعر بأنني لست وحيدا .... )
ظلت صامتة قليلا .... قبل أن تقول بخفوت بعد فترة
( أنت تثبتني بكلامك ...... دائما تفعل ذلك بدناءة .... )
ابتسم وهو يميل اليها قائلا
( و هل أنجح ؟!!! ........... )
قالت مبتسمة قليلا
( تعلم أنك تنجح ..... فتزيد مما تفعل ...... )
اتسعت ابتسامته اكثر وهو يضمها الى صدره بقوةٍ قائلا ....
( أحبك زيتونتي ........ )
تنهدت بقوةٍ على صدره و هي تقول بخفوت
( و أنا أحبك ......... كأمٍ لا تملك سوى أن تحب ابنها العفريت ...... )
ضمها اليه و قد شعرت بالنعاس يداعب جفونها ... الا أنها انتفضت فجأة تقول
( بالمناسبة ...... سيارة من التي انطلقت في الخارج ؟!! ...... )
قال جاسر
( هذا جارنا .... المأسوف على شبابه .... الحائر على الطريق جئية و ايابا خلف زوجته ..... له الجنة على صبره عليها ..... )
فتحت حنين عينيها و هي تقول بدهشة
( و ماذا كان يفعل هنا الآن ؟!! .......... )
قال جاسر ببساطة
( من المؤكد جاء ليلحق بزوجته ...... فقد كانت هنا منذ الظهيرة ..... )
هتفت حنين بغضب
( رأيتها و لم تخبرني ؟!!!!! ...... بالله عليك هل هذه تصرفات اناس عاقلين ؟!!! ..... ماذا ستظن بي الآن ؟!! ..... )
قال جاسر بهدوء ....
( لو أخبرتك لأصريتِ ان تقضي معك اليوم كله ..... و أنا أعلم أن زوجها من المؤكد سيلحق بها في أي وقت ...... لربما كانت المرة الأخيرة في سباق الثيران هذا ..... )
زفرت حنين بقوة و هي تقول
( أنت أصبحت لا تطاق ابدا ......... )
اغمضت عينيها عدة لحظات قبل ان تقول بخفوت
( بالمناسبة ......... نحن مدعوين لتناول الغذاء عند حور غدا ...... )
لم يظهر منه اي رد فعل ... ففتحت عينيها و هي تقول
( جاسر ...... هل مُت ؟؟؟ ....... لأنك حتى لو كنت كذلك فسنذهب ..... )
لم تتغير ملامحه .... الى ان قال بصوتٍ بائس
( اخبريني أنهم سيستعينون بطباخ ......... و سأفكر في الأمر .... )
قالت حنين بقنوط
( كل ما أعرفه أنها كانت سعيدة جدا بملفوفة الكرنب التي اشترتها ..... بخلاف البطة .... )
همس جاسر مشفقا
( ياللبطة المسكينة ........ الدجاجة المرة السابقة كانت محروقة , فكيف ستقدم لنا البطة هذه المرة ... مشنوقة أم مدهوسة ؟!! ..... )
ابتسمت حنين قليلا و هي تمرغ وجهها بصدره قائلة ...
( لكن طبخها تحسن والله ........... )
لم يستطع جاسر أن يجاري تلك الكذبة ..... حاول والله يعلم ... الا أنها لم تخرج من حلقه .... فقال بهدوء
( اذن علينا أن ننام الآن استعدادا لمغص الغد .... اقصد عزيمة الغد ...... كم أنا سعيد .... )
ابتسمت حنين و هي تهمس
( سأكون معك ........ و هذا يكفي ....... )
قال جاسر ناعسا وهو يتثائب
( بل أكثر من كافٍ ........... هل جهاز اللاسلكي معك ؟!! ..... )
تأكدت حنين من وجوده مربوطا بخصرها ... قبل أن تهمس
( انت تجعل نوارة و كأنها مجرم صغير .... نعم انه معي و استطيع سماعها .... )
همهم جاسر وهو يقبل شعرها
( رائحتك بنزين حبيبتي ......... )
همست الكلمة الأخيرة قبل أن تغرق في سباتٍ عميق
( البركة فيك ........... )
اخذت تنظر اليه بطرف عينيها وهو يقود بسرعة ... مركزا عينيه على الطريق امامه , دون ان يعيرها اي اهتمام ....
تضم سترته أكثر الى صدرها وهي تتنعم ربما للمرة الأخيرة برائحته الرجولية الخاصة و هي تملأ رئتيها بخدر عجيب .... ثم قالت بخفوت
( لو كنت أعلم أنك ستكون غاضبا لهذا الحد ... لما أتيت الى بيتك .... )
لم يرد عليها و لم يلتفت حتى .... لكنها لاحظت انقباض أصابعه على المقود بقوة .... فنظرت الى نافذتها بألم .... و ابتسمت بسخرية مريرة ...
"اين ذهبت تلك الثقة الحمقاء في حبه لها .... و انه لن يكون لغيرها ؟!! ...... "
الرسالة قلبته كانسان يبغضها ..... لكن له بعض الحق , لن تلومه أبدا ......
لذا همست بفتور و هي تضم السترة اكثر
( أما بالنسبة للرسالة ........ أنا آسفة كذلك , من المؤكد أنني قد سقطت بنظرك الآن و أنا أتوسلك أن تعيدني اليك .... بينما أنت مرتبط بأخرى ..... هلا مسحتها و اعتبرتها مجرد نزوة عابرة رجاءا ... )
رجائها الأخير خرج من بين شفتيها همسا مختنقا ... ذاهب الأنفاس ... مثيرا للشفقة ...
فنظر اليها سريعا ... قبل أن يبتلع ريقه و يعيد نظره الى الطريق و يزيد من سرعة قيادته وهو يقول بصرامة و خشونة متحشرجة
( اسكتي الآن يا وعد .......... )
الا أنها همست متابعة و هي تحاول التقاط انفاسها متظاهرة بالهدوء
( ربما تظنني امرأة تهوى اللعبة التي لا تملكها .... و ما أن تصبح بين يديها حتى تكسرها ...... لكن هذا ليس صحيحا ابدا , لقد كنت صادقة بكل كلمة كتبتها .... صحيح انني تهورت جدا و لم اراعي وضعك الحالي .... لكن من حقك ان تعرف بأنني صادقة .... لطالما كنت الرجل الوحيد بحياتي ... لم اعرف ابدا اي معنى حرفي للحب قبلك ... لم امر حتى باعجاب المراهقة بأي فتى أو رجل .... لم أظن أن تلك المشاعر موجودة أصلا ...
حياتي قبلك كانت كالصقيع الفارغ .... أقضيها بين العمل و الشقاء .. و بين العودة الى بيتٍ اكثر جفافا ....
لم أعرف أن للحياة جانبا ورديا مدللا للانسان الا بعدما عرفتك ..... و مع ذلك كان واقع ما عشته اشد قسوة من أن اتنازل لهذا الحب .... بل كنت حساسة لكل تصرف و كلمة منك .....
و نسيت تماما بأنك قاسيت مثلي و أكثر ..... و كان علي أن أتحملك بكل تصرف يخرج رغم عنك .... لكنني بالكاد كنت أتحمل نفسي ...... و الآن ..... الآن .... )
صمتت تماما و هي ترفع يدها الى شفتيها المرتعشتين ... بينما أغمضت عينيها على دموعٍ ارتعبت من أن تحررها فيظن أنها تتوسله أكثر
انها تزيد الأمر سوءا و كانها لم تعد تملك القدرة على التوقف .....
ابتلع سيف غصة مرعبة الألم بحلقه قبل أن يتنازل أخيرا و يقول بجفاء أجش
( لقد حجزت لنا موعدا .... هلا ارتحت قليلا و توقفت عن الكلام .... )
نظرت اليه عاقدة حاجبيها بينهما عيناها تدمعان بشدة و هي تهمس واعة يدها على صدرها
( أي موعد ؟!!! ...... الطبيب مجددا ؟!! .... بالله عليك انا بخير .... توقف .... فقط توقف ... أنا ... )
صمتت و هي تتنفس بصعوبة , تشعر بأنها بالفعل ليست بخير أبدا ..... و الألم بصدرها يخبرها بذلك ...
فقالت بخفوت بائس
( اطمئن ..... لقد تناولت أقراص دوائي ما أن شعرت بألم و ضيق التنفس .... و هذا ما ساعدني على النوم ....... )
نظر اليها مجددا سريعا بعينين تشتعلان خوفا و جنونا .... ثم زاد من سرعته أكثر و أكثر .... بينما هتفت وعد بقوة و رعب
( أخفض سرعتك يا سيف أرجوك ..... لا أريد أن أموووووووت ... )
و كأن كلمتها كانت المكابح على أعصابه المتوترة ... فهمس بجموح
( ياللهي ........... )
ثم أخفض سرعته تدريجيا ... و قال بصوتٍ متحشرج
( هلا حاولتِ النوم قليلا حتى نصل ..... لا اريد سماع صوتك الآن .... ارجوكِ حبيبتي نامي و لا تسمعيني صوتك الآن ...... )
نظرت اليه فاغرة شفتيها و هي تسمع نبرة مختلفة تماما ... و كلمة حبيبتي صفعتها بقوة ...
ترى هل سيظل يناديها بحبيبتي بعد زواجه ؟!!! .... هل هو مجنون و أناني و سفاح الى تلك الدرجة ؟!!! ....
الا أنها كانت أكثر تعبا من أن تتكلم بالفعل ... فأرجعت رأسها للخلف و أغمضت عينيها علها تهرب من أمامه .... و من عينيه المتهمتين ...
لا تعلم كم مر من الوقت .... و هل غفت أصلا ؟!!! ... لا تتذكر ....
الا أنها وعت على صوت سيف يقول بخفوت أجش و اصبعه يمر على وجنتها
( وعد ....... أفيقي .... لقد وصلنا , أخيرا ...... )
فتحت عينيها ببطىء ... ثم استقامت جالسة و هي تضم السترة الى جسدها النحيل أكثر ....
لكنها ما أن بدأت تستوعب المكان حتى عقدت حاجبيها و هي تجد نفسها امام بناية غريبة ... فقالت بخوف
( أين نحن ؟؟ .....................)
ظل ينظر اليها في ظلام السيارة بملامح غير مقروؤءة ... ثم قال اخيرا بهدوء
( هل أنتِ خائفة مني ؟؟ ........ لربما غررت بكِ و انا ابدو فاقدا السيطرة على نفسي ... )
احمر وجهها بشدة و ارتبكت اكثر ... الا انها قالت بحنق
( توقف عن تلك الحماقة .......... أنا لا اخافك ............. )
لكن ما أن رفعت عينيها الى عينيه حتى تسمرت مكانها و هي ترى النار الهوجاء بعينيه المظلمتين .... و أسنانه التي عضت على شفته بينما يضيق نظرته قليلا ....
بدا و كأنه ذئبا فار من فيلما مخيفا ..... فشهقت بصمت و قالت بعصبية
( توقف عن ذلك يا سيف ....... أنا لا أخافك ...... )
قال سيف بخفوت
( اذن يجدر بكِ الخروج الآن ..... لأنني أخاف نفسي ...... )
ارتجفت بشدة و استدارت تنظر من النافذة علها تتعرف على أي علامة مميزة .... لكنها فشلت تماما فأعادت عينيها اليه و همست
( قل لي فقط كيف ستعاقبني هذه المرة ........... )
رد سيف قائلا بخفوت شرير
( عليك أن ترين عقابك بنفسك .... كي تتوقفي عن كل نزواتك ...... هيا انزلي أو حملتك على كتفي .... و أنا لا أكذب ..... أتتذكرين حين خرجت بك من غرفة الفندق و انت على كتفي ؟؟ .... )
زمت شفتيها و هتفت
( نعم اذكر جيدا ....... ذكرى بائسة ........ والله لو أعدتها ل ....... )
الا أن قبضته امتدت و قبضت على شفتيها فجعلت فمها يبدو كفم البطة بين أصابعه وهو يقول بتشديد من بين أسنانه
( اذن اخرجي ........ بكل أدب .... )
ابتلعت ريقها تحت أصابعه وهو يبدو غير سويا في تلك اللحظة .... لكنها أومأت برأسها بصمت , فنظر الى عينيها نظرة أخيرة ... قبل أن يترك فمها .... و يستدير ليخرج من السيارة , فتبعته بتعثر مترددة و هي ترفع رأسها للمكان خائفة ...
الا أنها نهرت نفسها و هي تطمئن نفسها ... بأنه سيف ... من المستحيل أن يؤذيها ...
لكن عيناه ... تبدوان ...!!!!!!
كان قد دار حول السيارة ووصل اليها .. فمد يده ليمسك بيدها بقوةٍ كي يمنع تخاذلها ... ثم جرها خلفه داخلا الى البناية و هي تتبعه راجفة القلب ......تنظر اليه بقلق , الى أن صعدا أخيرا ووصلا الى باب عليه يافطة ..
رمشت وعد بعينيها أمامها عدة مرات قبل أن تستوعب ما قرأته
" مأذون شرعي .... "
فغرت وعد شفتيها ... ثم نظرت الى سيف مذهولة ... بينما شدد على قبضتها كي لا تقع منه ... فلم تجد سوى أن تهمس
( سيف !!!!!!!! ........ )
رفع حاجبه وهو ينظر اليها قائلا ببرود
( هل لديكِ اعتراض ؟!!! .........)
شهقت وعد غير مصدقة .... و أخذت تحاول الكلام كسمكة تتنفس بفمها خارج الماء ... قبل أن تتمكن من القول بإختناق
( لكن ...... أنت ..... أنت خاطب ..... تجهز لشقتك ... و حفل زفافك !!! ...... )
رفع يده اليمنى بأصابعه الخالية أمام وجهها وهو يقول بهدوء
( الم تلاحظي ؟؟ .......... )
شهقت مجددا بصمت و رفعت يدها الى شفتيها المرتجفتين الا أنه قال بهدوء خافت
( هيا ..... تعالي , فلا وقت لدينا ....... )
طرق الباب قبل أن يدخل وهو يجرها خلفه ... فنظرت حولها بقلبٍ يخفق بعنف و يدها على صدرها
كانت تبدو هزيلة تماما ببنطالها الجينز و قميصها القطني الأبيض و على صدرة وجه مبتسم بعين دامعة ...
بينما ترتدي سترة سيف و التي بدت مضحكة بضخامتها عليها ... و شعرها متنافر حول وجهها المحمر و كتفيها و على ظهرها .... كهربائيته تجعله يلتصق بقماش سترة سيف كأشعة شمسٍ داكنة ....
كانت ذاهلة .... دامعة ... مبتسمة بذهول .... أصابعها متخللة أصابع كف سيف و هي تتشبث براحته بمخالبها الصغيرة ...
تعرفت ان اكبر المتواجدين سنا هو المأذون .... بينما الاثنان الآخران هما .....
قالت وعد بذهول
( حسام ..... زوج مهرة ...... و ......)
استدار الرجل الثاني مبتسما و مستندا الى عصاه ... فهمست رافعة حاجبيها
( رائف !!! ........ )
قال سيف بهدوء
( الشاهدان على عقد قراننا ...... كنت اريد استئجار اثنين من على المقهى , لكن وجدت ان هذا لن يكون عاطفيا بالنسبة لكِ .... )
ابتلعت وعد غصة بحلقها باختناق و هي تهمس بصعوبة
( متى فعلت ذلك ؟؟ .......... )
قال سيف بخفوت
( اجريت اتصالاتي ...... و راهنت نفسي على أن أجدك ...... )
تساقطت دمعة وحيدة يتيمة مثلها على وجنتها .... و هي تنظر اليهما بينما قال حسام مبتسما
( مبارك يا وعد ............ )
و قال رائف مبتسما هو الآخر
( مبارك مقدما يا وعد ...... عسى أن تكون آخر مرة ..... )
عقدت حاجبيها و هي تتظاهر بالإبتسام له بسماجة ... بينما تكاد أن تخرج له لسانها ...
الا ان سيف قال بهدوء
( هيا لنبدأ ...... لقد تأخرنا بما فيه الكفاية ..... )
لكنه مد اصبعه ليمسح تلك الدمعة اليتيمة عن وجنتها فرفرت فراشات زرقاء ووردية أمام عينيها و هي تنظر بهما الى عينيه ... فهمس لهما
( اسبلي جفنيك عني لدقائق اخيرة .... فقط لدقائق يا جارة القمر .... )
شهقت باكية ضاحكة .... قبل أن تقول من بين دموعها
( نعم ...... نعم أرجوك .... سأفقئهما حتى لو أردت .... لكن لنعقد قراننا و ننتهي فقد اصابني الشيب بعيدا عنك ...... )
ضحك سيف بخفوت و ضحك الباقين ... بينما التمعت عيناه امام عينيها فقط ببريقِ يشبه ال ..... الدموع !! ....
فعضت على شفتيها كي تمنع بكاءا هيستيريا من الصعود الى حلقها و عينيها ...
فشددت على أصابعها بين أصابعه القوية و هي تومىء برأسها اليه ....
لكن و قبل أن يبدأ عقد القران ... رفعت وعد يدها تغطي فمها لتتكلم همسا من خلفها ... و هي جالسة بجوار سيف
( لا أريد رائف شاهدا على عقد قراننا .... الا يعد مجرما هاربا من العدالة .... )
مط سيف شفتيه دون أن ينظر اليها لكنه همس من بين أسنانه
( تم الإفراج عنه لحين اتمام التحقيقات و الحكم في القضية ...... )
همست مجددا باصرار من خلف يدها
( لكنني لا أريده شاهدا على العقد ...... ماذا لو لم يحدث النصيب بينه و بين ملك .... هل سيكتب علي أن أتحمل اسم احد أفراد هذه العائلة بوثيقة زواجي ؟!! .... )
قال سيف همسا
( تعلمين جيدا أنه ضحى من أجل ملك بشكلٍ لا يتصرف به الا انسان نبيل .... الا يشرفك ذلك بوضع اسمه في الوثيقة؟؟؟!! .... )
ظلت تنظر الى رائف عاقدة حاجبيها من خلف يدها المرفوعة الى فمها ... و همست
( ماذا لو أسأء الى ملك يوما ما ؟!! ..... ماذا لو تركها ؟؟ ..... قد لا استطيع اجبارها على رفضه , لكني استطيع رفضه كشاهدا على عقد قراني ..... )
تنهد سيف بقوة وهو يجلس بجوارها مستسلما ... ثم همس بخفوت
( و كذلك حسام .... قد يطلق أختى ذات يوم و يرميها هي و أطفالها في الشارع .... و تعود الينا مشردة حافية القدمين ... و قد يكون الاثنان اللذان سنستأجرهما من على المقهى تاجري مخدرات .......
من منا يستطيع أن يضمن المستقبل ..... )
زفرت وعد بقوة و عدم اقتناع و هي تراقب رائف غير متقبلة لاسم عائلته اطلاقا ... و الاسم في حد ذاته يجلب الى نفسها دفعة من القهر و الاحساس بالظلم على ما حدث لملك بسببهم ...
الا ان سيف نظر اليها وهو يقول بخفوت و ثقة
( انا و أنت لم نظن يوما أن نتطلق .... و لم نظن بعدها أن نعود لبعضنا ..... آذينا بعضنا كثيرا و أسرتينا فعلتا ببعضهما الأكثر ...... و انظري أين نحن الآن ؟!! .... )
مد يده يقبض على يدها المستريحة على فخذها ليهمس ناظرا الى عينيها
( انظري الى بريق عيني ملك حين تأتي على ذكر اسم رائف .... حينها ستشعرين بأنكِ تنظرين الى مرآة ... تحمل نفس نظرتك التى أراها الآن .... و التي كدت أن أضيعها من حياتي .... )
ابتلعت ريقها بصعوبة و هي تنظر اليه من بين غلالة الدموع التي غطت مقلتيها ... بينما أومأت برأسها مبتسمة .... و الزفير يخرج من بين شفتيها المرتجفتين مرتعشا مثلهما .... و صوت الضحكات يملأ أذنيها و قلبها .... ترى هل كانت يوما اكثر سعادة ؟!! ......
و تم عقد القران ..... و كل منهما ينظر لعيني الآخر ضاحكا ... دامع العينين ... غير مصدقا لتلك المعجزة التي لم يعرفا بها منذ ساعات الصباح الاولى !! ....
و شهد رائف و حسام ....
و قبل أن يهنئا سيف ووعد .... كان قد التقط يدها بيده وهو يقول ملوحا بالأخرى
( سنضطر للمغادرة الآن ......... )
احمر وجه وعد بشدة بينما تظاهر حسام و رائف بعدم الفهم وهما يتشاغلان بالحديث التافه كي يتخلصا من الحرج ...
بينما اندفع سيف ... ساحبا وعد من خلفه بقوة و هي تهتف من خلفه بصوتٍ يرتجف خجلا
( ما هذا اللذي فعلته ؟!! ............ لقد أحرجتني جدا ... )
الا أنه أجلسها في السيارة وهو يستدير مندفعا ليجلس بجوارها ... فقالت تهتف مرتجفة
( الى أين ؟!!! .............. )
قال بهدوء دون ان ينظر اليها وهو يقوم بتشغيل لسيارة
( الى مكان أستطيع تقبيلك فيه بحرية ......... )
فغرت شفتيها بصدمة ووجل ....لكنها لم تستطع النطق بكلمة ... و تبعته صامتة .... متسعة العينين !!! ....
.................................................. .................................................. ...................
بعد فترة طويلة ... و بعد أن أوشك الفجر على الإنبلاج ...
أوقف سيف سيارته .... و أستدار ينظر الى وعد التي كانت مستلقية على مقعدها ..
تتنفس بسرعة لم تهدأ بعد ...
بينما عيناها متسعتين و شفتيها منتفختين و متورمتين ... فاغرتين قليلا .....
و كذلك عنقها و جزء من كتفها .... أما شعرها فكان مشعث بجنون ....
مرر اصبعه المرتجف على شفتها المتورمة بنعومة وهو يهمس
( هل آذيتك ؟؟ .......... )
لم تستطع النظر اليه وهي تهز رأسها قليلا .... لا تعرف ان كانت تهزها ايجابا ام نفيا ...
فضحك بخفوت اجش وهو يهمس قائلا
( لم استطع تمالك نفسي .... مرت فترة طويلة جدا .... و كنت قد اشتقت اليكِ .... اكثر مما تتصورين .... )
استطاعت رفع عينيها الى عينيه المتوهجتين ببريق الرغبة و النهم .... فابتلعت ريقها و هي تهمس رافعة يدها الى ذقنه الصلبة الغير حليقة و التي خدشتها مرارا منذ دقائق ....
( و انا أيضا اشتقت اليك .... اكثر مما تصورت أنا ......هلا نزلنا , لا استطيع الانتظار اكثر كي اكون معك ..... )
همس مبتسما وهو يشير بذقنه
( لقد وصلنا ..... لكنك انتِ من لم تلحظ .... )
عقدت حاجبيها و هي تلتفت لترى ان السيارة واقفة امام بنايتها !!!! ... فأعادت وجهها اليه و هي تهمس بحيرة
( هل ستبيت معي هنا بشقتي ؟!!! .... لكن ملك موجودة ...... )
ابتسم اكثر وهو يهز رأسه نفيا ببطىء قبل أن يهمس
( بل ستصعدين الى شقتك كفتاة صغيرة مهذبة .......... )
اتسعت عيناها و هي تهمس بعدم فهم
( ماذا ؟!! ..... ألن تبيت معي ؟!!! ........ )
ابتسم برفق وهو يتلمس وجهها بأصابعه قبل ان يقول بخفوت
( لن أكرر الخطأ مرتين ...... لن تكوني ببيتي الا بعد الزفاف ..... )
فغرت شفتيها بذهول و هي تهمس بغباء
( بعد ....... ماذا ؟!!!!! ....... و ماللذي حدث للتو ؟!! ...... )
ارتفع حاجبيه وهو يقول ببساطة بريئة
( كانت مجرد قبلة ....... اهنئك بسبب عقد القران ..... )
فغرت شفتيها اكثر .... لا تصدق انه سيتركها بالفعل ..... اما هو فقد ابتعد عنها اخيرا وهو يخرج حافظته من جيبه قائلا
( بما ان لكِ عقد جديد ....... اذن لابد من مهر جديد .... )
استقامت تجلس معتدلة و هي تراه يخرج ورقة مالية كبيرة ... جديدة ....
و أخرج قلمه ليكتب عليها بصوته العميق الذي تخلل كيانها المرتجف كله
" زوجتي ..... تلك الكلمة التي كاد لساني أن يفقد حلاوتها ... دفئها .... و كادت عيني أن تفقد النور بغض النظر عن جمال عينيها .... ادامكِ الله لي .... يا طفلتي وزوجتي .... يا ابنة خالي .... زوجك المخلص :سيف "
حين انتهى بخط آخر نقطة .... رفع وجهه اليها مبتسما ... مشرقا ... و كأنه عاد ابن العشرين من العمر مجددا ...
الا انه وجد عينيها الرماديتين غارقتين في بركةٍ ناعمة من الدموع الضبابية ... فهمست من بين شفتيها المرتجفتين
( لا أستحقها ...... و قد أعدت اليك السابقة .... )
مالت ابتسامته حنانا
( و كنت لا أستحقك كذلك ..... لكنكِ اعدتِ لي روحي بعودتك ...... و بكل الأحوال تستحقين مهرك ... )
مدت يدها تلتقط الورقة بأصابع مرتجفة ... قبل ان تنظر اليها مجددا و الدموع تثاقل و تنساب من حدقتيها ..
فاختنقت بغصتها و هي تهمس
( سأحفظها بروحي .......... )
همس وهو يميل اليها ليطبع شفتيه المتوهجتين اللتين لم تشبعا بعد .. على وجنتها الحارة
( و احفظي روحك لي ........اعتني بها لأنها طفلتي الأولى .... )
شهقت شهقة ناعمة باكية و هي تغمض عينيها ... ضامة مهرها الى صدرها ... فهمس بصوتٍ متحشرج مختنق
( هيا اخرجي قبل ان أغير رأيي فأخطفك بعيدا و أجلب لكِ العار ......)
ضحكت من بين بكائها و همست بيأس
( ليتك تفعل ..... لا اريد زفافا آخر ..... أريدك أنت ..... )
همس سيف برفق
( لن تجريني لذلك ......... بداخلي الكثير مما اود فعله لكِ , فلا تفسديه ... هيا اذهبي .... )
.................................................. .................................................. .................
بعد فترة مثالية !! ....
في غرفة ورد و مهرة ..... ببيت سيف ...
كانت وعد تقف أمام المرآة تنظر الى نفسها ... بعينيها الرماديتين المظللتين باللون الوردي تلمع نجمات السعادة ....
بينما بدا طوق الياسمين المتوج لشعرها الطويل المنساب على كتفيها مثاليا .....
همست اخيرا بعدم تصديق
( لم أتخيل أن يأتي اليوم .... الذي ارتدي به هذا الفستان ...... انه مذهل ..... )
ابتسمت كلا من كرمة وملك .... وهما تنظران اليها في نفس الموقف الذي مر عليه ما يقرب من العام ...
فقالت كرمة
( اتتذكرين يا وعد حين ارتديته و قررت فجأة الهرب ...... لولا أن اجبرناكِ على اتمام الزيجة ..... )
ابتسمت وعد و هي تهمس
( و كأنه كان زمنا آخر ..... و أناس آخرين ...... )
وقفت كرمة من خلفها و هي تتلمس شعرها الأسود الطويل المنسدل على ظهر الفستان ... فقالت برقة
( أناس أفضل ...... و زمن أفضل ..... وان شاء الله ستكون حياة أفضل ... )
ضحكت وعد بطفولية و عيناها تبرقان ... بينما ذراعيها أمسكتا بطرف الفستان لتفردهما و هي تقول
( ألست جميلة ؟!!! .......... )
همست ملك برقة
( بل رائعة ......... )
رفعت وعد عينيها كي تلتقيان بعيني ملك الخائفتين في المرآة طويلا .... قبل ان تستدير اليها قائلة بخفوت
( لقد جهزت لكِ الفستان يا ملك في الحقيبة الخاصة به ...... و أوصله سيف ظهرا الى البيت ... )
ابتسمت ملك باهتزاز و اومأت برأسها دون رد ....
أما كرمة فقالت بهدوء
( وعد يجب أن أتركك الآن و أخرج الى حاتم قليلا .... لكن سأعود اليكما مجددا ... فلا تتأخران ... )
أومأت وعد لها مبتسمة .... و ما أن خرجت , حتى استدارت الى ملك تنظر اليها ...
كانت جميلة بشكلٍ خاص .... ترتدي ثوبا بسيطا جدا منسابا بنعومة ٍ ولونٍ سماوي رقيق .... أما شعرها فكان عبارة عن ربطة دائرية سميكة ملتفة دول بعضها بأناقة ...
لم تضع أي زينة و لم تشأ أن يراها الناس بأي بهرجةٍ زائدة عن الحد .... و لم يعترض رائف .....
كان مثلها يرغب في البساطة و البعد عن أعين الناس .....
اقتربت وعد بفستان زفافها الضخم من ملك الجالسة على ذراع احدى الكراسي .... شاردة تماما و تبدو بعيدة عن الفرحة .... فجثت وعد امامها و هي تضع يدها على ركبتها قائلة بخفوت
( ماذا بكِ يا ملك ؟!! ....... ظننتك ستكونين الليلة أسعد فتاة في الكون , ..... الم تنتظري الأيام كي يتم زواجك برائف ؟!! ..... و ها أنا قد حشرت نفسي معكما و جعلته حفل زفافي ايضا ...... )
ضحكت برقة و هي تقول مازحة
( اي انكِ من تعقدين قرانك .... و أنا من تحتفل بحفل الزفاف .... والله أخشى من سخرية الناس لما أفعله ........ )
ابتسمت ملك و هي تلمس وجنة وعد قائلة برقة
( تعبتِ كثيرا بحياتك ....... و تستحقين كل السعادة فلا تهتمي لرأي الناس .... )
كانت وعد ترمقها بإهتمام ... ثم همست
( و ماذا عنكِ ؟!! ....... لماذا لا تبدين سعيدة ؟؟ ...... )
رفعت ملك وجهها الشاحب و هي تقول بسرعة
( بل أنا سعيدة جدا ........ قلبي يخفق بعنفٍ مؤلم ..... لكن ...... لكن ..... )
عقدت وعد حاجبيها قليلا و هي تحثها على المتابعة
( لكن ماذا ؟؟ ....... قولي الآن قبل أن يدخل أحد ..... )
رمشت ملك قليلا و هي تخفض وجهها هامسة
( أنا خائفة يا وعد .............)
همست وعد بقلق
( مما أنتِ خائفة ؟؟ ...............)
ظلت ملك صامتة قليلا و هي تتلاعب بأصابعها ... ثم همست اخيرا بصوت لا يكاد أن يكون مسموعا
( كانت لي ..... تجربة واحدة جسدية ..... مجرد مرة واحدة ..... كانت مريعة و مؤلمة ... جسديا و نفسيا بكل ما حدث بها و بعدها ...... )
صمتت بعد ان اختنق صوتها و هي تهزر رأسها قليلا بينما أغروقت عيناها بالدموع ... بينما أخذت وعد تشد على ركبتها تطمئنها و تشجعها .... فتابعت تهمس
( أنا خائفة من تكرار المحاولة ........... )
قالت وعد تهمس بخفوت
( رائف يبدو متزنا .... عاقلا .... و لا أظن بأنه سوف ي ....... )
رفعت ملك وجهها الى وعد و همست
( اثق برائف اكثر مما اثق بنفسي ...... لكنني لا استطيع منع الخوف المتشعب بداخلي .... و أخشى الا أتمكن من ...... ارضائه ..... )
ظلت وعت تنظر اليها طويلا .... قبل أن تمسك بيدها قائلة بقوة
( لو كان كل ما يريده هو الرضا الجسدي لكان تزوج منذ فترة طويلة بعد وفاة زوجته ..... لا أظنه يبحث عن هذا النوع من الإرضاء ...... )
قالت ملك بصوتٍ مرتجف
( لكن هذا حقه في النهاية .......... )
شدت وعد على يدها و هي تقول
( و أنتِ ؟؟ ........ الا تريدين ؟؟؟ ..... )
احمر وجه ملك رغم عنها بشدة .... لكنها همست اخيرا بخفوت شديد و هي تكاد ان تموت خجلا
( أريد ......... لكن خائفة ...... كان عندي خيالٍ جميل , لكن حين بدأ الأمر يتخذ الواقعية و الجدية بدأت أشعر بالخوف ....... )
ابتسمت وعد برفق و هي تداعب يد ملك قائلة
( طالما انكِ تريدين ... فهذا معناه ان تلك التجربة السيئة لم تنل منكِ ..... أنتِ لستِ معطوبة النفس رغم كل شيء حدث لكِ و هذا في حد ذاته يجعلك محظوظة جدا ....... بعض الفتيات غيرك قد تتشوه رغبتهن للأبد ........ )
عضت ملك على شفتها و هي تهمس
( لكن كيف سأتصرف الليلة ؟!! ......... )
و كأي أم أصيلة طيبة .... قالت وعد النصيحة الذهبية
( لا تتصرفي ..... دعيه هو يتصرف ..... أهتمي أنت بالفستان و بكل ما يسعد العروس ليلة زفافها ... )
مطت ملك شفتيها بخيبة و هي تنظر الى وعد .... فقالت وعد بصدق
( خذيها نصيحة مني ...... لا تفكري في الأمر أكثر من اللازم .... فقط استرخي و اسعدي بكل لحظة بدئا من الآن ....... )
رمشت ملك بعينيها مجددا بخوف ... الا أنها أومأت برأسها على الباب ...
لكنهما انتفضتا وهما تسمعان طرقة على الباب قبل ان تدخل كرمة قائلة
( لقد وصل المأذون يا ملك .... و حان عقد القران ... )
شعرت ملك نفسها ترتجف بعنف ... بينما أخذت نفسا مرتجفا , اما وعد فقد نهضت واقفة و هي تشدها معها لتقف ... ثم قالت عابسة
( و ماذا عني أنا ؟؟ ...... من لدي كي ينصحني ؟؟؟ ..... )
رفعت ملك حاجبيها قليلا و هي تنظر اليها ببلادة .... ثم لم تتمالك نفسها من الإنفجار ضحكا رغما عنها ...
ثم قالت بهدوء من بين ضحكها العصبي
( أنتِ مدرسة ...... لا تحتاجين نصائح .... )
رفعت وعد احد حاجبيها بخبث وهي تقول
( المدرسة كانت في عطلة صيفية ..... أو بيات شتوى بمعنى أصح .... و ربما مع الاستذكار قد انجح ... )
ضحكت ملك مجددا بينما احمر وجهها كاحمرار الورود الجورية المغطاة بقطرات الندى فجرا ....
فأمسكت وعد بكفها و هي تربت عليه برفق قائلة ..
( هيا بنا .............. )
ابتسمت ملك و خرجت معها بساقين ترتجفان .... و ما أن نزلت أول درجة من السلم ... حتى ابصرتها عين رائف .... فنهض ببطىء من مكانه وهو يراقب عينيها ... يراقبها كلها و هي تكاد ان تختفي خلف وعد ...
كانت كلتاهما تقف أعلى السلم .... ملك مرتبكة من الأعين المسلطة عليها ... تمسك بكف وعد كطفلة صغيرة شاحبة .... بينما وعد تبدو كنجمة .....
" هل تجتمع النجوم مع الورود ؟!!! ... "
كان هذا هو السؤال الذي نطق به سيف مبهورا وهو ينظر اليهما .... فالتفت اليه رائف يقول مبهوتا ..
( ماذا قلت ؟!! ...... )
لم يستطع سيف أن ينزع عينيه المسحورتين عن وعد التي تباهت اعلى السلم بذلك الفستان الذي اختاره لها ذات يوم ... و هي تمسك بباقة من الورود الماسية تناسب صدره الماسي .... بينما التنورة الضخمة من التل ... تخفيها و تخفي ملك بجوارها ....
طوق الياسمين على شعرها هو الشيء الوحيد الذي خلا من الماسات .... بينما عيناها النجمتان كانتا اكثر لمعانا من كل ماسات العالم .....
ترى من يعشق اكثر ؟؟ ..... حزن عينيها القديم و الذي وقع في غرامه ؟؟ ....
أم ذلك البريق الجديد الذي جعل منها نجمة عالية في سماءه ؟؟ ......
لم يستطع الإجابة .... لكن كل ما كان يعرفه في تلك اللحظة .... أن تلك المرأة التي تقف أعلى سلم بيته ....
هي أكثر النساء رقيا و تضحية و جمالا .... زواجه منها كان نعمة سيظل شاكرا عليها المتبقي من عمره كله ...
فقال بصوت خافت متأمل لها و قلبه مشدوه بجمالها
( سألت هل تجتمع النجوم مع الورد ؟!! ........ )
أعاد رائف عينيه المذهولتين الى ملك .... تلك الوردة الصغيرة ستصبح ملكه أخيرا .... احد اضلعه التي سيحرس بها قلبه .....
التوى حلقه وهو يرى ارتباكها و توتر ابتسامتها .... و كفها الصغير المتشبث بيد أختها ,,,
فنشب العطف بداخله جرحا ..... وهو ينادي عينيها اليه كي يطمئنها ...
و كأنها سمعت النداء ...... فرفعت عينيها اليه مباشرة و فغرت شفتيها و ابتسمت .....
كانت ابتسامتها كفيلة بأن تضيء له الكون .... فبادلها الابتسامة باكبر منها وهو يرفع يده ليضمها في قبضة وضعها على صدره جهة القلب تماما .....
حينها بهتت ابتسامتها و هي ترى حركته البسيطة ... فتسائلت بجنون
" ماذا يقصد بتلك الحركة ؟!! ...... أيشجعني أم يعترف بحبٍ لم أسمعه منه حتى الآن ... "
انتفضت من أحلامها المجنونة على صوت الزغاريد العالية المنطلقة من كل مكان و كانت أبرزها زغاريد كوثر التي كانت تبكي و تزغرد في آن واحد و كأنها فرحة من قلبها للأبنة التي لم تنجبها .... و لن يتسنى لها حضور زفاف لها ....
أما منيرة فكانت تبكي دون صوت و هي تراقب نظرة سيف الذي جعلت منه فجأة أصغر سنا ... و كأنه يريد أن يقتنص من الحياة كل ما فاته و ضيع به عمر من حزن داكن مرير ....
كان حفلا عائليا في بيت سيف ... اقتصر على من اعتبروهم من العائلة ....
بما فيهم عاملات المعرض .... و علي الذي كان واقفا يستند الى احد الجدران ... مكتفا ذراعيه كعادته ... يبتسم بسعادة و عيناه حزينتان .... تراقبان وعد كما لم يرى سعادتها من قبل .... ستظل دائما حبه الأول ... و يكفيه ان يرى سعادتها التي تغطي في تلك اللحظة على جميع الحضور ...
لم يلحظ اقتراب احد الفتيات منه ... الا بعد أن قالت بخفوت
( عقبالك ............ )
انتفض من شروده وهو يخفض وجهه اليها ... و استغرقه الأمر عدة لحظات قبل أن يدرك تلك الفتاة ذات الشعر الكستنائي المنسدل على كتفيها و ظهرها ... بعينين خضراوين ... ترتدي فستانا اخضر يماثل لون عينيها .... و دون أن يمنع نفسه هتف بغباء
( هل خلعتِ الحجاب ؟؟؟!!! ........... )
عقدت حاجبيها و هي تقول
( بالطبع لا ......... أنا أخلعه في حفلات الزفاف و المصيف فقط .... )
اتسعت عيناه بذهولا اكبر ... و فمه مفتوحا بغباء .... الا أنه مد يده ليسحبها من ذراعها خارجا بسرعة ... بينما هتفت خلفه بغضب و هي تضرب ظهره
( الى أين تأخذني ؟!! .......,.)
فرد عليها بخشونة
( أعيدك الى أمك .......... )

أما ورد فقد كانت تنظر اليهما صامتة .... و رغم عنها كانت هناك شبه ابتسامة على ثغرها و هي تتأملهما ...
و حين شعرت بأن هناك من ينظر اليها ... وجدت يوسف واقفا بالقرب من الباب ... فأشار اليها أن تقابله خارجا .....
ارتبكت قليلا و احمر وجهها .... لكن ما ان رفعته مجددا حتى وجدت ان يوسف قد خرج مباشرة ....
زمت شفتيها بامتعاض و نهضت تنظر حولها تتأكد من أنه ليس هناك من ينظر اليها .... ثم خرجت من باب البيت ....
تم عقد القران سريعا .... بينما تجلس ملك عن بعد .... مواجهة لرائف الذي لم يخفض عينيه عنها منذ أن بدا عقد القران .... و كأنه بعينيه يمنعها من الهرب .... و بالفعل عيناه كانتا لها القشة التي تعلقت بها كي لا تصاب بالهلع ... و إن كان التفكير في الهرب هو آخر ما تطرق الى بالها ....
ابتسمت له برقة .... فلمعت عيناه وهو يبادلها الإبتسام بهما ... حتى تغضنت زوايتيهما .. بتلك الحركة التي تفتنها ....
انطلقت أكبر زغرودة من كوثر ما أن انتهى عقد القران .... فنهض رائف من مكانه ببطىء ... لا يرى في المكان المزدحم سواها ....
و نهضت هي الأخرى تشبك أصابعها و عيناها بعينيه ... الى أن وصل اليها فرفعت وجهها اليه تلقائيا ...
تنظر اليه مبهورة ... فاغرة شفتيها ... تتأمل هيبته و جمال اطلالته .....
أيوجد من هو هو أشد وسامة منه ؟!! ...... أم تراها هي فقط من تراه بتلك الصورة ؟؟!! ...
ابتلعت ريقها بصورة واضحة ... بينما كان قلبها يصرخ بجنون ... خاصة و هي تراه يرفع كفيه ليحيط بهما وجهها هامسا لعينيها
( مبارك لي يا وردتي ....... )
ارتجفت و هي تضحك مرتبكة بينما روحها تتلاعب بين يديه على وجنتيها ... و انتفضت و هي تراه بقترب منها ببطىء الى أن قبل وجنتها الأولى ..... ثم الثانية ... و طالت قبلته عليها حتى أغمضت عينيها و كادت أن تصاب بالإغماء ...
ماهذا الشعور ؟!!! .......
رفع وجهه عنها أخيرا لتهتز شفتاه و كأنه كان يحاول الإبتسام .... بينما أصابعه لا تزال على وجنتيها تتحسسان نعومة بشرتها ....
طال بهما النظر طويلا ... قبل أن تطلق أحد المدعوات ضحكة عالية تبعها الجميع .... فارتبكت ملك و اشتعل وجهها احمرارا و هي تلتفت جانبا عنه ... بينما تركها على مضض وهو يبتعد خطوة عرجاء للوراء ... و عيناه البراقتين عليها ...
أما سيف فقد أمسك بكفي وعد وهو يهمس لها
( هل أنتِ سعيدة ؟!! .......... )
ابتسمت وعد و هي تقول بخفوت متشبثة بكفيه
( ما هو ظنك ؟!!! ........ )
قال سيف بخفوت
( تمنيت لو أن يكون زفافا ضخما .... أسطوريا ... )
همست وعد برقة
( كان لنا الزفاف الأسطوري ذات يوم ....... أما ما أشعر به اليوم ... الليلة ... هذه اللحظة تحديدا .... لم أشعر به في حياتي كلها ..... )
صمتت قليلا و عيناها تتأملانه مليا قبل أن تهمس
( سيف ...... هل أحلم ؟!!! ...... )
انتظر لحظة قبل أن يقول بخفوت
( حلم أو واقع ...... لن تهربين مني مجددا , .... حتى بكوابيسك ستجدينني .... )
زمت شفتيها و هي تقول
( لابد لك أن تفسد اللحظة و تضيف لمستك اليها ...... )
رفع سيف حاجبيه وهو يقول بصوت يرتعش قليلا
( ربما لو تمكنا من اختصار الأربعين فقرة التالية و التي قمت بالإعداد لها ..... لتمكنت من اضافة لمساتي بشكل أكثر فائدة .... )
احمر وجهها و هي تنظر حولها بطرف عينيها ... ثم همست
( نقي تفكيرك قليلا يا سيف ......... لا أريد لوجهي أن يحمر الآن ..... )
قال سيف بخفوت وهو يقترب منها الى أن همس في اذنها دون أن يسمعهما أحد بصوتٍ متوهج
( مشتاق أنا يا وعدي ....... تضمك ذراعي و تفترشين صدري و أنام على حرير شعرك .... )
سحبت يديها من بين كفيه و هي تهمس بضعف
( ياللهي ...... ستفضحنا , .... سأبدا الرقص أفضل )
ابتعدت عنه مسرعة و هي ترفع حافتي الفستان ... بينما كان ينظر في اثرها مبتسما و صدره يلهث شوقا ...
لكن فجأة عقد حاجبيه وهو يقول عابسا ... مسرعا الخطا خلفها ...
( رقص !! ....... أي رقص ؟!! ....... انتظري هنا ..... )
.................................................. .................................................. ...................
فتح رائف الباب ببطىء .... ثم مد يده يدعو ملك للدخول دون كلام ....
فدخلت أمامه ترتجف بشدة .... و دخل خلفها وهو يغلق الباب ... و ما أن ابتعدت عنه بقدمين متعثرتين ... حتى ناداها قائلا بخفوت
( ملك ......... )
استدارت اليه متسعة العينين و هي ترقبه منتظرة .... بينما ظل هو ينظر اليها قليلا بنظراتِ غامضة قبل أن يقول بهدوء
( هل تشعرين بالندم ؟!! ...... )
اتسعت عيناها أكثر بذهول .... و همست بصوتٍ فارغ
( مما أندم ؟؟!!! ...... )
قال رائف بهدوء واضعا يده في جيب بنطاله ... و عيناه تنظران الى عينيها دون أن تسمحان لهما بالهرب
( أتشعرين بأننا قد تسرعنا في الزواج ؟!! ..... )
استدارت اليه بكليتها الآن و هي تنظر اليه متعجبة .... ثم اقتربت منه ببطىء و هي تهمس
( هل هذا ما تظنه ؟!! ............ )
قال رائف دون أن يزين من كلماته
( يمكنك القول بصراحة .. و سنتناقش حتى الصباح لو أردت .... لكن هناك شيء واحد كوني متأكدة منه .. )
رفعت ذقنها و هي تهمس بتردد
( ما هو ؟!!! ......... )
قال رائف بهدوء
( أنني لن أسمح لكِ بالتراجع ..........آسف .. )
ابتسمت رغم عنها و هي تطرق بوجهها .... ثم قالت بخفوت مشبكة أصابعها
( الم تثق للحظة في اعترافي لك بالحب ؟!!! ........ )
ظل صامتا للحظة ... ثم قال بهدوء
( لا أثق بنزاهة قبولي في تلك المرحلة من حياتك ...... )
ارتجفت شفتيها ... ثم همست بخفوت مبتسمة
( لم تخبرني حتى الآن ...... لماذا تزوجتني ؟؟ ...... )
التوت شفتيه بابتسامة بطيئة وهو يراقب كل ذرة من جمالها الذي صار خالصا له .... ثم همس قائلا
( أيسأل الإنسان لماذا يريد شعاع الشمس الذهبي بحياته ؟!! ..... )
احمر وجهها فأخفضته مبتسمة مجددا ... قبل أن تهمس برقة ذائبة
( هذا ليس جوابا ............ )
قال رائف بهدوء
( هذا مؤسف ............ لأنني أظنه كذلك , لكن ربما انتِ من لم تشعري به بعد ...... )
كان قلبها يخفق كعصفور صغير مرتعش ... بينما شفتيها ترسمان اجمل ابتسامة رآها بحياته ... وهو يتأملها بكل حرية .... يراها كما تجنب ان يراها من قبل ....
الكثير من الخوف ابتعد عنها .... لأنها سمعت صوته ... رأت ابتسامته .... نعمت بعينيه ....
لذلك و رغبة متهورة منها في التأكد ... رفعت وجهها اليه و همست بتردد
( هلا ضممتني الى صدرك ........ من فضلك .... )
اتسعت عيناه قليلا .... لكنه أخذ نفسا قويا ... و فتح ذراعيه هامسا
( من فضلي !! ...... تعالي الى هنا ....... )
اقتربت منه ملك بقلبٍ يرجف ...... و عيناها لا تتخطيان رحابة صدره ... الى ان وصلت اليه فارتجفت اكثر و اكثر قبل ان ترفع اصابعها تتلمسه بخجل و هي تضع وجنتها عليه بحذر كأنما ترغب في سماع دقات قلبه ... عله يخبره بسره .....
فقال رائف بصوت خافت مبتسما غريبا على اذنيها
( ماذا حدث للصغيرة التى رمت نفسها بين احضاني يوم لقائنا ؟؟ .... و من تلك الحذرة التي تستمع الى نبضات قلبي بخجل الآن ؟؟ ...... )
اغمضت عينيها مبتسمة بينما قلبها يخفق بجنون ... و خافت ان يشعر به ... و بينما تضع كلتا يديها على صدره حتى أغلق ذراعيه من حولها برفق حتى ضمها اليه تماما ... ثم همس
( هكذا أفضل ؟!!! ........ )
اتسعت ابتسامتها دون أن تفتح عينيها و همست
( أفضل بكثير ....... هل أخبرتك من قبل أن أحب احتضانك لي جدا .... أم أنني خجلت ؟؟ .... )
كان يمارس أقصى درجات ضبط النفس في هذه اللحظة المؤلمة حد الجنون وهو يحرك يديه على ظهرها ... بينما جبينه يتعرق قليلا .. الا انه تمكن من الهمس بنفس صوته الرقيق
( يسرني انكِ لستِ خجلة الآن ........... )
تنهدت بقوةٍ على صدره ..... بينما زاد جنونه الداخلي لكنه تمكن من اخفائه بمهارة .... وهو يخفض وجهه ليطبع شفتيه على جبهتها .... مقدمة فرق الشعر الواصل الى ربطة شعرها المستديرة .....
عطرها الوردي يكاد أن يسلبه المتبقي من أعصابه القوية ..... و حين أوشك على أن يفقد سيطرته ... رفعت وجهها متنهدة برقة أخيرا و هي تهمس
( اريد أن ....... ابدل ملابسي ....... )
زفر زفرة احباط وهو يغمض عينيه للحظة ... قبل أن يمد يده بجهد تجاه الغرفة وهو يهمس مستسلما
( خذي راحتك ............. )
ابتعدت عنه و هي تتجه الى الغرفة التي عملت على اختيارها عفوية دافئة مثلها .... مزدانة بالألوان الزرقاء و البرتقالية .... الا أن صوت رائف ناداها برفق
( ملك ........... )
استدارت تنظر اليه بصمت ... فقال لها بهدوء
( أتحتاجين لمساعدة ؟!!! .......... )
شعرت بوجنتيها تشتعلان ... الا أنها همست اخيرا مبتسمة ... متجنبة النظر اليه
( لو ...... احتجت مساعدتك , سأناديك ..... )
أومأ برأسه مبتسما برفق دون أن يرد .... فدخلت الى الغرفة , و اغلقت الباب خلفها بهدوء ...
و حينها تمكن رائف أخيرا من التأوه بصوتٍ مسموع وهو يرفع يده الى جبهته ليمسح تعرقها قليلا ....
ثم سار ببطىء حتى وصل الى رف من رفوف الحائط .. فاستند اليه بذراعه و احنى رأسه هامسا بجهد
( اهدأ يا رائف ........ مجرد فتاة عادية .... مجرد فتاة عادية تفتقر الى الجمال و الجاذبية ..... لا شيء بها يجذب القلب و النظر .... )
لكنه لم يلبث ان ضحك قليلا بيأس وهو يهمس محني الرأس
( من تقنع ؟!!! ...... الجمال نفسه يخجل منها ..... يالها من ليلة طوييييييييييييييييلة ..... )
رفع ذقنه قليلا وهو يتناول احدى اسطوانات الاغاني من على الرف ... ثم وضعها في المسجل ليشغل اغنيته المفضلة و التي لم يمل سماعها مؤخرا .... مرارا و تكرارا ....
انبعثت الألحان الناعمة عبر الغرفة .... و تناثرت عبرها الكلمات الوردية
" يا عاشقة الورد ان كنت على وعدي
فحبيبك منتظر يا عاشقة الورد
*******
حيران أينتظر؟ والقلب به ضجر
ما التلة ما القمر ما النشوه ما السهر
ان عدتي الى القلق هائمة في الافق
سابحة في الشفق فهيامك لن يجدي
********
يا عاشقة الورد ان كنت على وعدي
فحبيبك منتظر يا عاشقة الورد
.*******
نجم في الافق بدى فرحا يشدو رغدا
اليوم وليس غدا فليصدق من وعد
ياملهمة النجوى لا تنفعك الشكوى
فحبيبك لا يهوى الا ورد الخــــــد
*******

يا عاشقة الورد ان كنت على وعدي
فحبيبك منتظر يا عاشقة الورد "

كان مطرق الرأس وهو يستمع الى الأغنية التي سحرت فؤاده قبل اذنيه .... دون ان يدري بأنها قد خرجت في اعادتها الثالثة .... واقفة خلفه ... على مسافة منه .... تستمع الى الأغنية التي تناجيها ..
فاغرة فمها برقة و قلبها الصغير يرسم لها حلما تخشى تصديقه ......
فهمست بصوت خافت يرتجف ... مترقب
( رائف ............. لقد انتهيت ... )
تسمر جسده للحظة , قبل أن يستدير اليها ببطىء .... و ليته لم يفعل !!!! ...
وقف مكانه مشدوها .... غير مصدقا لما يراه في تلك اللحظة ....
فهمس بصوتٍ مبهور ... مذهول
( ياللهي .............. )
كانت تقف هناك ... ترتدي اجمل و أغرب فستان زفاف رآه بحياته ......
ابيض الصدر ..... عاري الكتفين و الذراعين .... تتراص ورود جورية صغيرة صفراء و ووردية على حافة صدره العليا ....... بينما انسدل في موجات بيضاء كبيرة منتفخة ..... دون اي زينة اخرى ...
اما شعرها !!! .... و آه من شعرها .... فقد اطلقته حرا ... طويلا و متماوجا حتى تجاوز خصرها ... بينما رفعت جانبيه عند اذنيها بوردتين من الجوري ....
كانت تترقب نظراته المشدوهة و هي تتلاعب بأصابعها بتوتر ... أما عيناها فكبيرتان متسعتان ... عسليتان كحلاوة شفتيها و هي تنتظر منه اي ردة فعل .... و حين يئست ... قالت بخفوت
( أردت ...... أردت ..... ارتداء فستان زفاف من أجلك أنت فقط ..... )
انبعثت الأغنية من خلفه مجددا وهو يتأملها دون أن يشبع .... كما لم يشبع من الأغنية أبدا ....
فهمس بخفوت غير قادرا على النطق
( ملك .............. )
ابتلعت ريقها بصعوبة و هي ترى توهج نظراته الجديد عليها .... فقال بخفوت
( استديري بالفستان حبيبتي ...... )
اتسعت عيناها اكثر ... الا انها دارت بالفستان كما طلب و ما ان واجهته مجددا ووقفت ... كان هو يتنفس نفسا رتيبا .... عميقا .... و غريبا .... فهمس متراجعا الى الرف من خلفه
( استديري مجددا ...... دون ان تتوقفي ..... )
ابتسمت بجنون و قد احمر وجها بشدة .... لكن عيناه شجعتها ... فرفعت ذراعيها لأعلى كعروس صندوق الموسيقى .... و اخذت تدور و تدور مع الحان الأغنية .....
و الفستان يدور من حولها منتفخا .... بينما تحيا حلما ورديا و كأنما ترقص فوق سحابةٍ عالية ... مبتسمة ضاحكة
لكن سرعان ما شعرت بالدوار ... فترنحت قليلا ... حينها وجدت ذراعاه تتلقفانها بقوة و تضمانها الى صدره
رمشت بعينيها املا ...و هي ترفع وجهها الدائخ اليه ....
لتراه يتأملها كمن يتأمل لوحة من الورود ... فمد يده خلف ظهرها ليمر بها ببطىءٍ على طول شعرها حتى انتهت اسفل خصرها ... بينما هي تموت في مكانها .... فهمس بصعوبة
( هل أنت حقيقية ؟!! ..... أم هاربة من احدى قصص الأساطير ؟!! .... )
ابتسمت بجنون و هي تطرق بوجهها الذي ازداد حلاوة باحمراره ....أما هو فمال بوجهه يدفنه في شعرها وهو يتمايل بها على الحان الأغنية ....
و كلما سمعت المقطع اللذي يقول
" فحبيبك لا يهوى الا ورد الخــــــد "
كان رائف ينحني اليها ليقبل وجنتها بقوة .... و هي مغمضة عينيها تتأوه قليلا ... تهمس باسمه ...
أما يداه فقد ازدادتا جرأة قليلا ... على عودها الغض و شعرها المجنون من حولهما ... فشعرت بأنها على وشك الموت انهيارا من شدة ما تشعر به ......
في تلك اللحظة رفعت وجهها اليه ... لكنها لم تتوقع أن يهبط وجهه اليها .... ليقتنص ورد شفتيها بقلبة لم تعرف شيئا مثلها من قبل .....
كان هو الآخر يعيش عالمه المجنون ... متنعما برحيق شفتيها بينما كانت هي عاجزة تماما أمام هذا الهجوم الضاري من شدة جماله ....
و فجأة وجدت نفسها تطير في الهواء بفستانها الضخم وهو يحملها بين ذراعيه ... ففتحت عينيها شاهقة متعلقة بأذنه و هي تهتف
( قدمك يا رائف ......... )
الا أنه همس بصوتٍ أجش مجنون
( ملك ....... جمالك أفقدني المتبقي من سيطرتي على نفسي ..... )
و تحرك بها وهو يعرج قليلا الى غرفتهما .... بينما قلبها يصرخ بعنف فوق صدره ....
و ما أن انحنى ليضعها على السرير ... و استلقى بجوارها برفق .. نظر الى عينيها الواسعتين .. بعينيه المتوهجتين و همس في اذنها
( هل أنتِ بخير ؟!! ........ )
أومأت برأسها بسرعة و ذعر دون ان تجيب .... بينما كان وجهها أحمر و شفتيها منتفختين ... عقد حاجبيه قليلا قبل أن يميل اليها ... يروي القليل من ظمأه المجنون بطول صبر ....
و بمرور اللحظات كانت تطوف بين دوامة عنيفةٍ من حلاوة ما تشعر به ... و بين ذلك الذعر الذي يقبع متربصا بها .....
و على الرغم من شدة رقة رائف ... و همسه برفق في اذنيها ... و اصابعه التي تلاعب شعرها بحنان بأكبر قدر يستطيعه ... الا أنه كان كلما انتقل معها الى مرحلةٍ أكبر .... كان الذعر بداخلها يزيد ....
الى أن رفع وجهه اليها بعد فترة ... ينظر اليها وهو يلهث قليلا ... فهاله أن يراها مطبقة الجفنين بشدة حتى تجعدا .... أما ابهامها فكان يعد بسرعةٍ على باقي أصابعها ... و شفتيها تتحركان بالأرقام سريعا دون أن تصدر صوتا .... الا أنه استطاع قرائتها بسهولة
" واحد ... اثنان .... ثلاثة .... اربع ..... "
ابتلع ريقه بصعوبةٍ وهو يتأملها طويلا ... حتى أنها لم تلحظ توقفه .....
حينها انحنى برأسه حتى طبع قبلة طويلة دافئة على شفتيها ... قبل أن يهمس في أذنها بصوتٍ خافت لاهث
( تصبحين على خير حبيبتي ........ )
فتحت عينيها المذهولتين لتراه يلملم ما تشعث من ملابسه و يغادر الغرفة .... مغلقا الباب بهدوء ... دون أن ينظر اليها !!!!! .... فهمست بعدم استيعاب
( رائف !!! ............ )
.................................................. .................................................. .....................
خرجت وعد من سيارة سيف بفستان زفافها تحمل طرفيه بين قبضتيها ... ترفع وجهها لتنظر الى البناية الفخمة الحديثة ....
لا تصدق حتى الآن ما يحدث معها حتى هذه اللحظة ....
شردت عيناها في البناية الضخمة ... في الواقع لم يكن مهرها الورقة المالية فقط ....
بل كانت شقة كبيرة مزدوجة ...... بآخر طابق من هذه البناية ....
أما شقتها مع ملك ... فقط طلب منها سيف أن تخليها من أغراضهما ... ليتم فتحها على شقة المعرض أسفلها كي يتم توسيعه .... بعد أن كاد الا يكفي زيادة العاملات و الطلبات .....
كم مر الأمر بسرعة ... لتجد نفسها متزوجة من جديد مع انتهاء عدة ملك ... فأصبح الفرح فرحين ....
كان سيف قد وصل اليها فوضع يده على ظهرها لتنتفض قليلا و هي تنظر اليه مبتسمة ...
أما عيناه فكانتا تحملان انفعالا عميقا ...
همست وعد مبتسمة
( لو بقيت أشكرك العمر كله .... فلن يفيك حقك ..... )
عقد حاجبيه هامسا بصوتٍ أجش وهو يمد يده و يلاعب خصلة متهدلة من شعرها على وجهها
( هذا مهرك يا غبية ...... كم مرةٍ سأشرح لكِ ذلك ؟!! ...... )
ابتسمت ابتسامة عميقة .... تنطق بالكثير و كأنها تخبره بكل شيء دون الحاجة الى النطق ....
ثم قالت بخفوت
( و كم مهرٍ ستعطيني ؟!!! ...... كي أستطيع استغلالك بإتقان .... )
فتح ذراعيه وهو يقول بهدوء
( استغليني براحتك ...... لكن لا تتوقعين مني الا أستغلك في المقابل .... و انا استغلالي مرهق للغاية ... )
مطت شفتيها و هي تحيد بعينيها عنه قائلة بغضب و خجل
( لا فائدة منك ........ مراهق ..... )
عبس وهو يقول
( حسنا يا سيدتنا العاقلة ..... هل سنقضي ليلة زفافنا هنا في هذا الظلام البارد ..... )
انحنى اليها ليهمس في اذنها
( مشتاااااق يا وعدي .......... )
ابتعدت عنه ضاحكة ضحكة شقت سكون الليل و هي تقول
( كل شيء له ثمن ..... لو اردت أن تروي شوقك .... أمسكني أولا .... )
عقد سيف حاجبيه غير مستوعبا لما تقوله ....
الا انها فجأة رفعت حافتي فستانها الضخم بقبضتيها و اطلقت ساقيها للريح ..... تجري داخلة الى البناية ...
اندفع سيف خلفها وهو يناديها بصوتٍ خافت كي لا يثيران فضيحة ...
( وعد ...... تعالي هنا ...... )
الا انها همست ضاحكة
( امسكنى اولا ............ )
كان على وشكِ الابتسام وهو ينوى الإمساك بها ... لكن فجأة ضاعت ابتسامته و شحب وجهه وهو يراها تتجاوز المصعد ... لتتجه الى السلالم و تصعد عليها جريا !!! ...
اتسعت عيناه بارتياع و انطلق يجري خلفها مناديا
( وعد ...... توقفي ....... )
الا انه كان يسمع ضحكتها و هي تهتف
( تعال و اوقفني ...... )
اخذ يصعد كل درجتين معا كالمجنون ... بينما كانت هي كالعفريته و هي تجري بسرعة .... خالعة حذائيها على احدى الدرجات ...
لكن سيف لم يلتقطهما .... بل اخذ يجري خلفها صعودا على السلالم وهو ينادي بخوف
( توقفي يا وعد ....... توقفي ..... )
و لا جواب سوى ضحكاتها ......
صعدت طابقين ... و اربع .... ثم ست طوابق .... و سيف خلفها بكل قوته وهو يصرخ غير مباليا
( وعد ...... لأجل الله توقفي ....... لا تفعلي ذلك ....... )
وصلت للطابق السابع و هي تلهث ... فأمسكت بسور السلم وتباطىء صعودها و هي تشعر بانها غير قارة على الإستمرار بالفعل .... فجلست على احدى الدرجات تلهث و تسعل بقوة ... ثم اسندت رأسها للجدار ... و بدأت تضحك بتعب ....
وصل سيف اليها في تلك اللحظة وهو يلهث جنونا ... ثم صرخ ما ان رآها تجلس ارضا
( وعد ...... هل أنتِ بخير ؟!! ...... )
ضحكت بتعب و هي تسعل
( تعبت للأسف ..... لم أستطع المتابعة ...... )
زفر سيف بقوةٍ وهو يرتمي جالسا بجوارها شاتما بلفظٍ جعل وجهها يحمر بشدة ... فقالت بخفوت
( هل هذا لفظ يليق بعروس ؟!!! ..... )
ثم رفعت يدها و بظهر كفها ضربت صدره بقوة .... فسعل عاليا مع ضربتها بسبب لهاثه ...
قالت وعد حينها و هي تنظر اليه
( لقد كبرت في السن يا سيف .......... )
رفع وجهه ينظر اليها غاضبا ... ثم قال بغموض
( كبرت في السن ها ؟؟ ........ حسنا تعالي الى هنا ... )
و قبل ان تشهق ضاحكة كان قد نهض ليرفعها على كتفه .... فتدلى شعرها حول وجهها وهو يصعد بها الثلاث طوابق المتبقيين .... لبينما هي تهتف
( انزلني يا سيف .... ماذا لو فتح احدهم باب شقته ...... )
الا ان سيف تابع صعوده حتى وصل الى باب شقتهما وهو يقول
( سيعلمك هذا حينها ان تتوقفي عن حماقاتك ...... )
ضحكت قليلا ... ثم خفتت ضحكتها لتقول بخفوت
( سيف .... احملني كالعروس .... لا كضحية حريق ..... ارجوك )
وقف مكانه وهو يخرج المفتاح من جيبه ... ثم قال بصرامة
( اعتذري اولا ........... )
همست بوداعة
( آسفة ........... )
لم يتوقع ان تكون بمثل هذا الخنوع و الادب ... فقال عاقدا حاجبيه
( و اقسمي الا تجرين على السلالم مجددا ..... )
همست بكل ادب
( اخر مرة ....... اعدك بذلك ........ )
ظل صامتا قليلا .... قبل ان يقول
( قولي احبك ........... )
ابتسمت بسعادة وهي تقول
( لا أسهل من ذلك ...... أحبك ..... أحبك .... )
و قبل أن تنطق الثالثة ... كان قد رفعها عن كتفه بحركةٍ أفعوانية ماهرة .... ليجعلها محمولة بين ذراعيه ...
دون أن ينزلها أرضا ....
نظرت اليه بعينين براقتين ... قبل أت تقول سعيدة
( كيف فعلت تلك الحركة ؟!!! ......... )
ابتسم لعينيها وهو يقول بصرامة
( كي أريك من هو الكبير سنا ....... قولي احبك مجددا ... )
همست لعينيه مبتسمة و هي تتعلق بعنقه
( احبك ........... )
داعبت رائحة الورد العطرة أنفها قبل أن تفتح عينيها ... اخترقت وعيها المرهق بعذاب حلو و هي تنتزعها من نومٍ مجهد جاء بعد تعب طويل ...
و ما بدأت أن تستوعب رائحتها حتى داهمها الشعور بلمسة حانية من أوراق الورد على وجنتها ....
فتحت ملك عينيها المرهقتين بصعوبةٍ و هي تجد شعاع شمسٍ يخترق مقلتيها .. فرمشت لترفع يدها و تظلل بهما عينيها .. قبل أن تشعر بتلك الوردة تمر على وجنتها مجددا!! ...
فتحت عينيها لترى حمرتها القانية تغشي عينيها .. و رائحتها الفواحة تزكم أنفها ... بينما يد رجولية تمسك بساقها الخطراء و تداعب بها وجنتها ...
انتفضت فجأة جالسة و هي ترفع الغطاء اليها .. لتجد نفسها جالسة و جها لوجه امام رائف المبتسم و الجالس على حافة سريرهما ... بجوارها ...
توقف قلبها عن النبض و هي تستفيق تماما و تجده بمثل هذا القرب منها ....
فأخفضت وجهها المشتعل أمام عينيه المتغضنتين ... و المبتسمتين لخجلها الرائع ...
الا أنه قرر ان يرحمها من ذلك الإرتباك فقال بصوتٍ عميق دافىء
( صباح الورد .......... الورد لا يليق بايقاظها سوى الورد ... )
عضت على جانب شفتها قليلا دون ان ترفع وجهها اليه .... فاتسعت ابتسامته اكثر وهو يقول بحنان
( الن تردي الصباح ؟!! .....يبدو أن وردتي غاضبة مني اليوم !!! .... )
أيضا جابهته بالصمت و هي تحاول جاهدة صفع وعيها الناعس ... لقد أخذها على حين غفلة ....
كانت تريد أن تتهرب منه .... لكنه اخترق احلامها المرتبكة المجنونة , قبل ان تستيقظ حتى .....
مد يده ليحتضن بها وجنتها برفق حتى اجبرها على رفع وجهها اليه ... الا أنها أسبلت جفنيها ... فقال برفق
( ملك ........ اتحرمينني نظرة الصباح ايضا ؟!! ... )
رفعت عينيها اليه دون ان تتمكن من ان تمنع نفسها ... و ما ان فعلت حتى عادت لتذوب عشقا امام هذا الحنان الدافق المبتسم من عينيه ... فارتجفت شفتيها بشدة , لتعض عليهما تمنع حماقتهما ..
الا انه لاحظ حركتها بوضوح .. فأضائت ابتسامته و قال دون ان يترك ذقنها
( هل نمتِ جيدا ؟!!! ......... )
نظرت اليه بعجب ....
أيسألها بهذه البساطة ؟!! ... ترى هل كانت تتوهم تلك اللحظات المجنونة التي عاشاها ليلة أمس قبل أن يتركها ؟!! ...
لقد رأت رائف كما لم تراه من قبل ... و بصورةٍ فاقت كل تخيلاتها المسكينة ...
كان نهرا عذبا متدفقا من حلاوةِ مجنونة .... و على الرغم من ذلك , تركها بكل هدوء و رفق و انصرف !!
دون حتى أن يظهر عليه أي أثر للجنون أو الشغف الحاد .... حتى بدأت تشك في تأثيرها عليه !! ...
و الآن يسألها ان كانت قد نامت جيدا ؟!!! ....
قالت بخفوت صريح بان فيه التمرد للحظة
( لا ..... لم أنم جيدا ..... )
عقد رائف حاجبيه و كانه مهتم بحديث طفلة .... فرفع اصبعه ليمر به على البشرة الرقيقة تحت عينيها وهو يقول ببراءة
( لا عجب اذن في ظهور تلك الهالات الرقيقة الجميلة تحت عينيك ...... )
ارتجفت قليلا لملمس اصبعه .... لكنها أخذت نفسا و رفضت أن يتصرف و كأن شيئا لم يكن ..
لقد كانت أول ليلة لهما معا !!! .... و تركها وحيدة في الغرفة !!! ....
هزت ذقنها بتمرد بعيدا عن اصبعه و هي تقول
( أنا بخير ...... هل يمكنني النهوض من فضلك ؟!! ...... )
ظل يتأملها مبتسما قبل أن يقول بمرح
( و من يمنعك ؟!! ....... تعالي .... )
مد يده ليبعد الغطاء ... الا أنها شهقت و تمسكت به بقوة قاتلة و كأن حياتها تعتمد عليه ...
فرفع رائف حاجبه بخبث وهو يقول
( لماذا تلك الحدة ؟!! ...... أستطيع أن أرى بأنكِ قد ارتديت قميص نومك !! .... )
و كتأكيد على ما قاله ... رفع نفس الإصبع المتلاعب .. ليداعب شريط قميص النوم فوق كتفها متسللا تحته بنعومة .... فارتجفت أكثر و كادت أن تتأوه و تلقي بنفسها بين ذراعيه بجنونٍ شاكرة القدر الذي جعل من هذا الرجل الرائع زوجها ... كمكافأة لها في آخر مشوارها ...
الا أن تمردها انتصر على شوقها اليائس ... فرفعت ذقنها قائلة ببرود
( و مع هذا ........ أفضل النهوض وحدي , فهو .... غير محتشم نوعا ما ... )
رفع رائف حاجبيه من ضربتها الجريئة البريئة في نفس الوقت ... و رغم عنه انخفضت عيناه بسرعةِ الى الشريطين الحريرين على كتفيها .......
فرفعت الغطاء عمدا لتغطي كتفيها عن عينيه بحركة حادة .... و هي تزفر ... بينما اتسعت ابتسامته الجذلى وهو يراقب انفعالاتها ...
من يدري ان تلك الشابة العاقلة المتزنة .. تحمل بداخلها طفلة متمردة ... واجهته عددا من المرات .. تغضب لأتفه الأسباب ... بينما قد تسامح على اقسى الأفعال التي وجهت لها ....
انها امراءة ذات طبيعة خاصة من القوة و الجلد .... و مع ذلك قد تصرخ غضبا لو اختطف احدهم قطعة من الحلوى منها .....
وهو الآن يرى بوضوح غضبها منه .... تماما كما كانت تحتد عليه كلما تأخر عنها فيما قبل ... و كأنها تحتد على طفلٍ زميلها في الروضة ....
رفع رائف حاجبيه وهو يقول بهدوء مخفيا التسلية التي تغمر كيانه حاليا ....
( حسنا .... تنهضين بعد أن تقبليني قبلة الصباح ..... )
اتسعت عيناها للحظة و توقف قلبها ... ثم عادت لتعقد حاجبيها و هي غير متأكدة مما سمعت , ... فلقد نطقها بلهجة هادئة متزنة للغاية ... نفس لهجته الدافئة بصوته العميق .... و كأنه لا يتحدث عن ..... قبلة !! ....
رفعت وجهها المتوتر اليه وهي تقول بقنوط
( ماذا ؟!!............... )
رد رائف بما لا يدع مجالا للشك وهو يشير اليها بصابعه السبابة أن تقترب منه
( قبلة الصباح ...... هيا ... من الأفضل لكِ أن تعتاديها من اليوم ..... )
هنا عادت نبضات قلبها تتقافز بجنون ووجهها يحمر بشدة ... قبل أن تقول بغضب زائف
( لا أريد ...... بالإضافة لأنني أظنك لا تريد , أنت أيضا ....... )
ظل ينظر اليها قليلا بهدوء قبل أن يقول بنبرة جادة
( لا تحكمي على ما أريده وردتي الوردية .... )
زفرت نفسا مرتجفا و هي تنظر بعيدا ... الى النافذة المشرقة بنور الصباح و هديل الحمامتين الواقفتين عليها يضفي لحنا على الجو بينهما ...
الا ان رائف لم ينتظر الى أن تتخذ قرارها المتردد ... بل مال اليها ليسحبها من خصرها وهو يبعد الغطاء عنها حتى ضمها الى صدره رغم اعتراضها ... و دون أن يسمح لها بنطق الإعتراض رسميا كان هو المبادر برشف رحيق جمالها الصباحي الذهبي وهو يهمس باسمها الجميل بصوته هو تحديدا ...
بينما أصابعه تجري في شعرها الطويل مسحورة أصابعه بتمشيطه و فك تشابكاته المجنونة في الصباح ... تشارك شفتيه الجنون ...
و ما أن تركها بعد فترةٍ طويلة اوشكت خلالها على ان تسقط على صدره فاقدة الوعي ...
عاد ليرفع ذقنها اليه وهو يتنفس بتعثر ... بينما كانت شفتيها ورديتين داكنتي الحمرة اثر قبلاته ... فاغرتين تتنفسان بسرعة ... وهو يتقبل نسيم تنفسها على وجهه الساخن ....
فهمس أخيرا بصوتٍ بدا أكثر عمقا ...
( صباح الورد ........ )
ابتلعت ملك ريقها بصعوبةٍ تحت كفه المحيطة بذقنها .. ثم همست أخيرا بإختناق
( هذه ليست ....... قبلة صبا.... قبلة صباح عادية !! ...... )
ابتسم برقة وهو يهمس بصوتٍ أجش
( هذا هو مفهومي عن قبلة الصباح .... و لكِ أن تبدأي اعتياده .... )
كانت تريد الصراخ بجنون
" لماذا تركتني ليلة أمس اذن ؟ّ!! ..... "
الا ان المتبقي من حيائها ... جعلها تهمس برجاء و هي ترفع وجهها اليه مغمضة عينيها
( اذن ...... ماذا سنفعل الآن ؟!! .......... )
ظنت انها سمعت صوت انفاسه الخشنة ... أم تراه كان هدير أنفاسها المجنونة .... لا تستطيع الجزم بالأمر في تلك اللحظة ...
لأن مشاعرها حاليا كانت هادرة ... تطغى على كل كيانها .... في اقصى ثورتها الشبابية و كانت ظنت بأنها قد فقدت تلك الطاقة العاطفية للأبد ....
الا أن جوابه جاء كدلو الماء البارد وهو يقول بهدوء
( الآن ...... ستنهض وردتي لتجهز نفسها استعدادا لتناول الفطور .... )
للحظة ظنت بأنها لم تسمعه جيدا ... الا أنها فتحت عينيها ببطىء و كأنها تتأكد بالفعل من أنه قال ما قال بالفعل ...
و كان مبتسما .... هادئا ....
حينها نفضت يده بقوة وهي تقول بحدة لم تستطع السيطرة عليها
( اذن ابتعد من فضلك ...... اريد النهوض , احتاج الذهاب الى الحمام بشدة .... )
ضحك رائف بقوة وهو يراقب احمرار وجهها اللذيذ ... ثم قال بخبث
( ربما لأنك أصريتِ على احتجاز نفسك هنا في الغرفة منذ ليلة أمس كفأر صغير خائف ..... )
هتفت بحنق و هي ترفع عينيها اليه
( لست فأر ... و لم أكن خائفة منك كي لا أخرج من الغرفة !! ....... )
قال رائف برقة وهو يداعب خصلة ملتوية من شعرها تطفو بنعومة على كتفها
( اذن لماذا لم تخرجي منها حتى الآن ؟! ........ )
طرفت بعينيها و هي تبعد وجهها عنه .... تربكها حركاته و بنفس الوقت تخجلها ...
انه رائف .... انه الغريب الرائع ....
لم تشعر يوما تجاهه بكل هذا التوتر و الخجل من قبل .... بل على العكس , كانت تمتلك الشجاعة الزائدة معه ... و كأن وجوده يطمئنها ...
و معه تستطيع أن تكون فظة .. حادة ,.... مصرحة بكل ما تشعر به و كل ما تحتاجه ...
لكن لماذا تتلجم الآن و ترتبك ؟!! ..... ربما لو كان قد أنهى الأمر ليلة أمس ... لإنقضى الكثير من هم التوتر الذي تحمله .... لكنه مصر على تأخير ما يثير قلقها ... و هذا يزيد من غضبها و .... خوفها ...
ابتلعت ريقها و هي تهمس مطرقة الرأس
( ها أنا أريد الخروج منها الآن ....... أنا أعلم جيدا يبدو شعري في هذه اللحظة .... على الأرجح أبدو مخيفة مع كل هذا الحجم المنتفش من التجعدات ..... )
قال رائف و عيناه تسرحان على موجات شعرها المتشابكة
( لم تبدين يوما أكثر جمالا ............)
ابتسمت رغما عنها ... و عضت على ابتسامتها بخجل و هي لا تزال مطرقة الرأس ...
ثم همست برقة
( شكرا لك ........... سألزمك بأن تقول هذه العبارة كل صباح ..... )
اتسعت ابتسامته الشغوفة وهو يقول بخفوت
( يمكنك أن تراهني على ذلك ............ )
رفعت وجهها اليه ونظرت الى عينيه طويلا ... و هي تتأمل وجهه ...
تداهمها حقيقة نزعت كل الحنق من نفسها ....
أن رائف أصبح زوجها !!!!!! ...... هل هناك ما هو أروع من ذلك ؟!!! ....
بدأت تلك الحقيقة تتشعب بداخلها ... و تنمو و تزدهر ببهجة مفاجئة .... جذلة ...
جعلتها تبتسم بأجمل ابتسامتها و هي تهمس برقة من كل قلبها
( لقد كنت نكدة جدا ..... أليس كذلك ؟!! ...... )
عقد رائف حاجبيه وهو يقول بخشونة
( حسنا .......... يبدو أنكِ ممن يستيقظون وهم يحملون رغبة فطرية في القتل ..... و علي اعتياد الأمر ... )
ضحكت برقة و ابتسامتها تتسع حتى أظهرت صفي أسنانها ... فاقتربت منه حتى صارت ملاصقة له و بكل جرأة رفعت ذراعيها تحيط بهما عنقه حتى بات وجهها مواجها لوجهه ... لا يفصلهما سوى أنفاسهما الدافئة ...
و استطاعت أن ترى كل الخطوط الدقيقة المرتسمة على وجهه و التي تزيده بهاءا و جاذبية ....
فرق له قلبها الحنون و همست برقة في جمال الشهد الذائب
( صباحية مباركة حبيبي ..... و كل صباحاتنا معا ....... )
ارتجف قلبها سرورا حين لاحظت انهيار كيانه الداخلي رأسا على عقب ... من مجرد ارتجافة حدقتيه .. و نفسه المتوتر ... الا انها ضمته الى قلبها تتعلق به بكل قوتها ...
و شعرت بجسده يتوتر للحظة من المفاجأة ... الا أنه لم يطيل التوتر وهو يحيطها بذراعيه ليضمها الى قلبه بقوة ... يغمض عينيه لعطر شعرها .. بينما همس برقة خافتة
( أين كنتِ ؟!! ..... و أين كنت ؟؟ ....... يبدو و كأنني قد نسيت الحياة الى أن وضعك القدر بطريقي ... )
تأوهت ملك برقة و هي تتسآئل كيف استيقظت غاضبة منه ؟!! .... و أي لذة تعادل تلك التي تعيشها الآن .. في تلك اللحظة تحديدا ... فهمست بخفوت و هي تدفن وجهها بعنقه
( كنت أنتظرك ..... وكنت تنتظرني ..... الى أن وضعك القدر انت بطريقي ...... أيها الغريب )
رفع وجهه عنها بصعوبة ... عاقدا حاجبيه وهو يقول بخشونةٍ عاتبا
( غريب ؟!!! ............. تستحقين عقابا على تلك الكلمة !! .... )
رفعت عينيها العاشقتين اليه و همست تتنهد
( لو تعلم مدى جمالها بداخلي !!....... لعفوت عني ... )
أمال بوجهه كي يطبع شفتيه على حمرة وجنتيها بقوةٍ هامسا
(فحبيبك لا يهوى الا ورد الخــــــد......... )
ضحكت برقة و شغف بينما تلك العبارة تحديدا لا تزال ترن بأذنيها منذ ليلة أمس مترافقة مع العشرات من القبلات القاطفة لورد وجنتيها ....
فاستطاعت بصعوبةٍ الهمس بنبرةٍ ذائبة
( ماذا تركت للعاشقين من غزلٍ عمي رائف ؟؟ ....... )
هذه المرة رفع وجهه بقوة وهو يعقد حاجبيه و قد تلاشت الرقة من ملامحه وهو يقول بخشونةٍ صارمة
( عمك من ؟!!! ...... من اين لك بمثل هذا اللقب الغبي ؟!! ....)
ضحكت بشدة دون أن تترك عنقه و هي تقول بخبث
( شخصا ساذجا .. نصحني ذات يوم بأن أدعوك بهذا ... كنوع من الإحترام ... )
انعقد حاجبيه بشدة وهو يتأكد من عينيها الماكرتين الشقيتين ... ثم قال بشك
( هل هذا فخ ؟!! ...... من نصحك بهذه النصيحة السفيهة ؟!! ..... لا أكبرك بهذا القدر !! ... )
اتسعت ابتسامتها و هي تقترب منه اكثر هامسة
( اخبر نفسك بذلك يا عمي رائف ,,,,, )
ازداد انفعاله وهو يقول من بين اسنانه
( توقفي عن تلك الكلمة يا ملك ..... أو اريكِ ماذا بإمكان لعمك أن يفعل كي يمحو تلك الصورة من مخيلتك ... )
ارادت أن تضاعف شجاعتها الشبابية المندفعة و تسأله ... " ماذا ؟!! .... ماذا كان ليفعل ؟!! ... "
الا أن حيائها انتصر هذه المرة فعضت على شفتيها و هي تمنع سؤالها الوقح ... مذكرة نفسها بأنها ليلة أمس ما أن تعمقت قليلا في أمواج العاطفة بينهما حتى انتابها الرعب بسرعة ... و تمنت لو ينتهى الأمر سريعا ..
تريد أن تختبر معه كل أسرار الحب و بكل عنفها ... الا أن بشاعة التجربة التي مرت بها جعلت شوقها لرائف مهددا و مشوها ....
أطرقت بوجهها الأحمر ... بينما كانت أصابعه تتلمس وجهها بنعومة .. و كأنه غير مصدقا بعد لأنها أصبحت هنا بالفعل ... و تحت رعياته ... ملكه ... قطعة من قلبه ...
همست ملك برقة دون أن ترفع وجهها
( رائف ............ )
أجابها بشرود خافت
( هممممم ........... )
قالت بعذوبة مرغمة
( أنا فعلا في حاجة للذهاب الى الحمام .... لقد أكثرت من المشروبات ليلة أمس ... )
رفع احدى حاجبيه وهو ينظر اليها مطرقة الوجه ... ثم قال بهدوء وهو يلاعب شعرها الطويل
( حسنا ..... أنتِ فعلا لكِ القدرة على تغيير مزاج اللحظة الى النقيض بمنتهى المهارة ... )
ضحكت بخجل بينما تركها على مضض وهو ينهض واقفا .... ثم مد يده اليها وهو يقول بحزمٍ آمر كي لا تجادل
( انهضي ............... )
نظرت الى يده برهبة عدة لحظات .... ثم لم تلبث أن قاومت ارتباكها و حياء ذكرى ليلة أمس ..
فتركت الغطاء المتشبثة به كحياتها ... و سمحت له بأن يسحبها حتى نهضت ببطىء أمام عينيه اللتين لم ترحمانها من قوة تأملهما بدقة ...
كان دائما مبتعد النظرات عن قصد .... الا أنه و منذ أن عقد قرانها , ترك لعينيه حرية الاستمتاع بحلالها ...
دون خجل او تردد .... و كأنه يعوض نفسه عن الأشهر الطويلة الماضية ...
و على الرغم من انها كانت ترتدي قميص نوم حريري وردي طويل حتى الأرض ... بشرائط على الظهر ...
الا أنها كانت تشعر بخجل مهيب و هي تقف أمامه بتلك الصورة .... مشعثة الشعر بجنون حتى خصرها ..
مطرقة بوجهها المشتعل الأحمر ... و يدها لا تزال في كفه القوية ....
قلبها يخفق بعنف .... بينما سرعة تنفسها تتزايد و هي غير قادرة حتى على رفع وجهها كي تتحداه بشجاعتها المعتادة ...
الى أن تنهد أخيرا بصوتٍ أجش متحشرج
( هل من العدل أن تكوني بكل هذا القدر من الجمال ؟!! ....... )
ابتلعت ريقها بصعوبةٍ ... بينما تقافزت نبضات قلبها كالأرانب و هي ترفع يدها المرتجفة لتبعد شعرها المشعث خلف أذنها ....
مضت لحظة مشحونة .. ثم لم يلبث أن تنهد بخشونة وهو يقول
( هيا اذهبي ... ثم الحقيني على المطبخ كي تتناولي فطورك ... و لا تحتجزين نفسك بهذا الشكل مجددا , مفهوم ؟؟ ... )
رفعت وجهها المحمر اليه ... و رغم عنها تألقت ضحكتها و هي تقول
( حاضر عمي رائف ,,.......... )
انحنى ليحاول الاإمساك بها غاضبا .. الا أنها فرت منه كغزالٍ طليق و هي تضحك بشدة ... فوقف مكانه متسمرا وهو يرى شعرها الطويل المشعث يتطاير معها و هي تخرج من الغرفة ركضا ...
حينها تذكر أول مرة رآها بها !!!
كانت ترتدي فستانا ورديا كذلك ... و شعرها تركته منسابا حولها في موجاتٍ تشبه تشعثه الطبيعي ...
ليلة عادية .... باهتة الألوان ككل لياليه .... مضطرا للخروج الى مناسبة عامة مع صديق ...
على الرغم عن انقطاعه عن كل حفلات الزفاف منذ سنوات ...
الا هذه المرة ... و كأن قلبه قد أخبره سرا بأن تلك الليلة ستكون لها أثرا سيقلب حياته رأسا على عقب ..
و بالفعل ... لم تكد تنتهي تلك حتى اصطدمت به أجمل عاصفة وردية ذهبية من الممكن أن يراها على الإطلاق ...
تنهد رائف بقوة وهو ينحني ليجلس على حافة سريرها .... مطرقا بوجهه ينظر الى الأغطية البيضاء المتناثرة بكل مكان عليه و كأنها تتحدى وجوده هنا ...
فمد يده يلمسها برفق ..... يختبر ان كانت بشرتها الحريرية قد تركت اثرا نافس نعومة الشراشف و الأغطية ...
همس فجأة بصوتٍ أجشِ خافت
( ماذا لو طلبتِ الرحيل يوما ؟!! ........ كوردة تغادر أرضها ذاهبة ليدٍ تغلفها و تسرقها للأبد .... كيف لأمنعك وقتها ؟!! ...... حذرتك و قبلتِ ..... لكن هل سترضخين لو أزالت الأيام غبار ذلك الحب الشاب عن قلبك المكدوم حديثا ؟!! ...... ماذا لو تعافى يوما و قرر التحليق بعيدا ؟!! ..... )
رفع وجهه يتأمل أنحاء الغرفة زافرا بقوة وهو يشبع عينيه بألوانٍ مجنونة لم يستخدمها يوما ... و ما استخدمها الا ارضاءا لذوق وردته الصغيرة ...
على قدر العذاب الذي عاشه ليلة أمس وهو يجبر نفسه بالإبتعاد عنها .... على نفس القدر من السعادة العميقة وهو يدخل الى الغرفة صباحا و يراها نائمة بين جدران بيته .... يضمها سريره .....
يملك قوة العالم في تأخير رغباته على الا يفزعها ... أو يدفعها للهرب ... و هو يعلم بأنه لن يسمح لها بذلك ...
أشد رعبه أن يضطر لمعايشة هذا العذاب مجددا .... ان يغلق الأسوار على حبيبته بينما قلبها بعيدا عنه ... يتسلل خارج تلك الأسوار ....
.................................................. .................................................. .................
خرجت ملك من الحمام بقلب منتفض .... تبحث عنه في كل مكان كطفلة صباح يوم العيد ..
و الإبتسامة الجذلى قد وجدت طريقها أخيرا الى شفتيها و أخذت موقعها ... فقررت الا تفارق شفتيها ...
لم يكن في غرفة النوم حيث تركته ... لكنها عرفت ذلك قبل أن تدخلها ....
فرائحة شهية اندفعت من المطبخ ... أثارت جوعها و فتحت نفسها للطعام .... و أخبرتها أنه هناك يعد الفطور ...
لذا جرت حافية القدمين بشفتين متسعتين الى غرفتها سريعا .... قبل أن يراها بالمنشفة الملتفة حولها ...
و ما أن دخلت و أغلقت الباب خلفها حتى سارعت الى ارتداء حلة رياضية خفيفة ....
كانت جميلة و عمرها يبدو و كأنه لا يزيد عن عمر مراهقة صغيرة ... و مع ذلك لم تفضل استخدام اي زينة لوجهها ... فذلك البريق الملتمع عليه قد أعجبها ... و قررت الا تخفيه بمساحيق الزينة ....
لكن شعرها فسيستغرق منها ساعات طويلة كي تمشطه وهو مبلل... و هي لا تريد اهدار هذا الوقت بعيدا عن رائف ...
لذا اكتفت بأن لفته بمنشفة وردية فوق وجهها الناصع ...
ظلت واقفة مكانها تطلع الى نفسها في المرآة عدة لحظات ... محاولة أن تهدىء من ضربات قلبها العنيفة ...
نفس العينين اللتين مات بهما شيء ما حديثا ....
لكن هذا لا يمنع أن بريقا من السعادة يحارب للظهور ... طاردا أشباح و ذكريات الأشهر الماضية ...
سحبت نفسا عميقا و هي تبتسم لنفسها مشجعة .... قبل أن تخرج من الغرفة ... اليه ! ....
ووقفت باطار باب المطبخ طويلا دون أن تحدث صوتا ...
كانت فاغرة شفتيها و هي تراه يوليها ظهره ... طويلا مهيبا ....
يضع مريول المطبخ و بالكاد افلح في ربطه حول خصره ....
و امامه طبقين من افطار رائع ... لبيض و نقانق معدين في انتظارها .... لكنه كان يشغل نفسه في هذا الوقت بمسح السطح الرخامي بمنشفة نظيفة !! .... اما حوض المطبخ فقد كان نظيفا تماما !!....
استدار فجأة وهو يمسك بالطبقين ينوى وضعهما على الطاولة ... لكنه توقف ما أن رآها واقفة في الباب ...
فالتقت عيناه بعينيها و ابتسم ..... ظل صامتا عدة لحظات قبل أن يتقدم من الطاولة و يضع الطبقين ...
ثم نظر اليها قائلا
( لماذا تقفين هناك يا حبيبة عمك رائف ؟! ........ )
اتسعت عيناها فجأة و هي تنظر اليه بصدمة ... قبل أن تهمس برقة و خفوت
( و هل أنا حبيبة عمي رائف حقا ؟!! .......... )
زم شفتيه وهو ينظر اليها بطرفِ عينيه بينما يضع شوقتها بجوار طبقها
( ستكونين ....... بعد أن تتخلي عن كلمة عمي تلك .... )
ابتسمت و هي تشبك كفيها بتوتر ... لا تعلم ان كانت تلك العبارة البسيطة صادقة أم مجرد عبارة تحببية فقط ....
أمسك رائف بظهر المقعد يبعده للخلف وهو يقول مبتسما
( تفضلي سيدتي .......... )
ارتفع حاجبي ملك بانبهار و هي تنظر الى كوبي عصير البرتقال و الطبقين ... و الكرسي الذي ابعده لها ...
ثم رفعت عينيها اليه و هي تهمس بخفوت
( انت ...... تعاملني .... كسيدة بالفعل .... انها المرة الأولى التي يعاملني بها أحد بهذه الصورة !! ... )
أظلمت عيناه قليلا .. و شعر بقلبه يعتصر من أجلها .... انها تبدو صغيرة جدا بالنسبة لما تعرضت اليه ...
و كانت تحتاج لأن تعامل بكل حنان الكون ....
فقال بصوته العميق الخافت
( لستِ مجرد سيدة ...... لقد قلت " سيدتي " ........ )
ارتجفت شفتيها المبتسمتين و هي تنظر اليه .... بينما تبللت عينيها قليلا , الا أنه قال محذرا بخشونة
( لو بكيتِ في صباح زواجنا فسوف أطردك خارج البيت سيدتي .... فأنا لا أطيق النكد صباحا ... )
ظلت تنظر اليه مبتسمة بجمال بينما تترقرقان بدموعٍ ماسية .... فتابع يقول بلهجةٍ أكثر حنانا و خفوتا
( ربما في المساء يمكنك البكاء قليلا ..... و كل مساء ... الى ان يأتي مساء لتجدين ان دموعك قد نضبت به تماما ...... )
رفعت ذقنها و هي تلتقط عدة أنفاس مرتجفة قبل أن تومىء برأسها مبتسمة و هي تهمس بحب
( نعم سيدي ......... )
ثم اقتربت و عيناها عليه الى أن جلست وهو يقرب منها الكرسي ....
ثم اتجه الى الجهة المقابلة و جلس امامها بعد أن نزع مريول المطبخ و علقها مكانها .. بينما كانت ملك تراقبه غير قادرة على اخفاء ابتسامتها تحت قبضتها المضمومة ....
و ما أن رفع وجهه اليها و رآى ابتسامتها حتى عقد حاجبيه و قال مبتسما
( ماذا ؟!! ......... )
ردت ملك تقول مبتسمة
( لا أصدق بأنك كنت ترتدي مريول المطبخ !! ........ إنه .... )
صمتت قليلا ... فقال رائف عابسا ليتم كلامها
( مضحك .. ها ؟!! .......... )
انتظرت ملك لحظة و هي تتابع بعينيها ملامح وجهه و عرض كتفيه ... ثم قالت ترد بخفوت
( في الواقع ...... زادتك وسامة ..... )
كان مطرق الوجه و كأنها أحرجته ... لكن زاوية شفتيه مالت بأجمل ابتسامة رجولية رأتها في حياتها ....
ثم قال أخيرا بهدوء
( تجيدين تملق الرجل سيدتي ......كي يزيد من أعمال المنزل .. )
استندت بذقنها الى قبضتها و هي تنظر اليه هائمة مبتسمة
( لست في حاجة لتملقك ..... من اليوم سيكون لديك زوجة , تقوم بكل أعمال المنزل .... ثم تمكث عند ساقك المصابة انقاذا لها ... تدلكها و تربت عليها بين أحضانها ...... )
رفع رائف وجهه اليها بتعبير عميق و عينين في عمق بئر داكن ... ثم همس بخشونة لطيفة
( أنت حقا تجيدين الكلام !! ........ )
هزت كتفيها و هي تقول برقة
( أهوى قراءة الروايات ........... )
ابتسم رائف وهو ينظر الى عينيها ثم قال بحنانٍ أذاب عظامها
( اذن اسمحي لي بأن اطعمك بنفسي ..... كي تجدين الطاقة لهذا العمل الشاق )
و التقط شوكته هو ليحمل بها بعض الطعام و يقربها من شفتيها .... فالتقطته بينهما دون تردد دون ان تخفض عينيها عن عينيه ... ثم همست و هي تمضغه برقة
( راائع .......... )
كانت عيناه تتأملان وجهها الوردي الخالي تماما من الزينة ... و الذي زاد جماله حين اخفت شعرها ...
مد يده يلتقط خصلة ملببة على ظهرها ... منسدلة من نهاية المنشفة , ثم قال بهدوء
( لم تمشطي شعرك ؟!! ........ )
كيانها كله منقلبا ... مرتجفا ... و سعيدا .... فقالت مرتبكة بمرح
( لا أريد أن أصدمك ..... لكن تمشيطه يستغرق ساعات طويلة , حتى ان ذراعي تصاب بالخدر من شدة التعب و الألم ...... )
ضحكت بمرح متابعة
( انه يحتاج الى قوة بدنية للإعتناء به ......... )
كانت نظراته تحتد ... و تزداد عمقا ... فتبلتلع ريقها و تصمت ....
من الواضح ان بعض ذكريات المشاعر بينهما ليلة امس لا تزال تحوم حولهما ... و كلاهما يحاولان ابعادها ...
قال رائف اخيرا بهدوء
( سأمشطه لكِ اذن ............ لدينا وقت العالم كله ..... )
ابتسمت برقةٍ ذائبة و هي تشعر بنفسها جائعة جدا .. فجأة ... فتناولت شوكتها مسرعة و هي تلتهم طعامها تكاد أن تزهق أنفاسها به ... فضحك رائف وهو يقول مراقبا لها
( على مهلك ايتها السيدة الصغيرة ...... ستسعلين , كنت أطعمك بنفسي .... )
نظرت اليه مبتسمة و فمها مليء بالطعام ... ثم قالت من تحت كفها المخفي لفمها
( لم تتزوج من سيدة صغيرة في الواقع ..... هي مجرد .... سيدتك ... )
ابتسم وهو يومىء مؤكدا
( صحيح ....... سيدتي ...... )
كتف ذراعيه فوق الطاولة وهو ينظر اليها , فقالت بخفوت
( ألن تأكل ؟!! ............ )
قال بخفوت
( منظرك و أنتِ تأكلين يشبعني ......... )
ابتسمت بخجل و هي تلتقط قطعة من النقانق و تقربها من فمه قائلة
( و مع ذلك .... ستأكل من يدي , اليس كذلك ؟!! ...... )
التقطع القطعة بين أسنانه و مضغها بهدوء .... ثم قال بخفوت
( نحن نبدو كعريسين جديدين في شهر العسل بالفعل ...... نحن نجيد الأمر , الا تظنين ؟!! ... )
احمر وجهها بشدة و هي تخفض وجهها الى طبقها تغص فيما تأكله و تسعل قليلا ... مبتسمة بارتباك .. ثم تنحنحت قائلة بتوتر
( آآه .... نعم ...... اظن ذلك ....... )
لا تزال حتى الآن تفكر بذلك الغريب ... و تلك اللحظة التالية التي سيضمها بين ذراعيه مجددا ... ترى متى ستكون ؟!! ......
انها تكاد تطير من مكانها من شدة الإرتباك ... و السعادة .... و بعض الخوف ...
قال رائف بهدوء يقاطع تخيلاتها
( حسنا سيدتي ..... كيف تريدين أن تبدئي شهر عسلك ؟!! ...... يمكنك الأمر و انا ألبي أوامرك ... )
ارتجفت أكثر و هي لا تصدق كل هذا الدلال لها هي !!!! ..... و من هذا السيد المهيب !!!! ....
انها تعيش حلما ..... لم تكن أبدا مميزة كالآن .... حتى في أقصى نوبات هوس و جنون شادي ... لم تكن تشعر بأنها مميزة كالآن ....
رفعت ملك وجهها اليه و همست بصوتٍ مبهور
( شهر عسل !! ......... )
اومأ رائف برأسه وهو يقول بهدوء
( طبعا ....... يمكنني الحجز للسفر لو أردتِ .... اي مكان تختاريه ..... أردت الآنتظار لتختاري بنفسك )
شردت عينا ملك بانبهار و هي تفكر بأي مكان تريد أن تراه .... و شوكتها ترسم خرائط على الطبق ...
بينما رائف يراقبها شاردا .... يرسم لجمالها الصباحي لوحة بين ضلوعه .....
فرفعت ملك وجهها منتفضة تنظر اليه هاتفة
( أريد مكانا حيث يلتقي البحر بغاباتٍ خضراء .... كتلك التي آراها دائما ..... )
أخفضت وجهها و هي تنظر اليه قائلة بانبهار
( هل من الممكن أن أذهب الى رحلة كتلك ؟!! ........ )
ابتسم و قد جاء دوره هو ليسند ذقنه الى قبضته قائلا
( ألم أخبرك بأن أوامرك مجابة ........... )
فغرت شفتيها لا تزال غير مصدقة ... و كانت بالفعل تهز رأسها نفيا بانبهار ... ثم همست
( رائف ....... هل أحلم ؟!! ......... لقد اعتدت الوحدة لوقت طويل جدا ... كل حياتي تقريبا , حتى ألفتها .... و أحببتها ..... )
مال على الطاولة بينهما حتى مد يده و امسك بكفها الرقيق بقوةٍ ثم قال بهدوء
( لن أسمح لكِ بالمزيد من الحب لها ..... ستقطعين كل صلةٍ لكِ بها منذ اليوم ..... لأنني سأدخل حياتك طاردا لها .. فأنا لا أقبل بالشركاء ...... )
أومأت برأسها هامسة برقة
( أعتقد أنه يتوجب علي الإعتياد ....... )
أومأ برأسه قائلا بخشونة
( نعم عليكِ ذلك ......... ثقي بي ..... )
ابتسمت برقة و هي تنظر الى عينيه هامسة
( أثق بك و اتبعك الى آخر العالم مغمضة العينين ....... )
.................................................. .................................................. ......................
( لست افهم تحديدا .... كيف يتم ارسال خاماتٍ غير تلك التي طلبتها ؟!!! .... استيقظ اليوم على هذا الخبر و نحن أصلا نسابق الزمن !!! .... ليست مشكلتي فالخطأ من عندكم .... تصرف الآن و ارسل أحد عامليك مجددا ليأخذ ما أرسلتموه ... و خلال ساعات اريد ما طلبته ... حتى لو نزلت بنفسك و قلبت البلد رأسا على عقب بحثا عنه ....... أنا لاااااااااا أصرخ .... )
رمش سيف بعينيه وهو يدخل اصبعه الى اذنه يحكها قليلا و قد شعر بأن طبلة اذنه تئن منذ الصباح بسبب صراخها ...
كان مستلقيا بفراشهما الوثير ... و ذراعه اسفل رأسه يراقبها بكسل قطٍ ناعس ....
بينما هي تقف عند النافذة تتحدث في هاتفها و يدها في خصرها بتحفز ...
شعرها مشعث بجنون و هي ترتدي سترة بيجامته التي كانت في انتظارها منذ أشهر طويلة باشتياق مؤذي ...
لا يصدق أن هذه الشابة المتحفزة الصارخة بصوتٍ أفزع العصافير من أعشاشها ... هي نفسها التي كانت بين ذراعيه طوال ليلة امس ....
ما أن انقضى الليل حتى عادت الى عملها و شخصها سريعا مع أول اتصال مزعج لها ....
رغم عنه كان يبتسم وهو يراقبها كسيدة اعمال حازمة تكاد ان تجمد من امامها بصوتها العالي عند اللزوم ....
هتفت بقوةٍ جعلته يجفل
( ساعتين على الأكثر و أريد أن يصلني اتصالا من المعرضي يفيد بوصول الخامات المطلوبة .... سلام )
أغلقت الهاتف و هي تزفر بعنف هامسة
( ما أن أغيب يوم حتى تتعقد الأمور ......... )
قال سيف وهو يتمطى بتكاسل و بصوتٍ ثقيل مبتسم
( تشعرين بالأهمية اليس كذلك ؟!! ......... )
انتفضت و هي تستدير اليه مجفلة ... ثم لم تلبث أن قالت بخفوت مبتسم
( متى استيقظت ؟!! .......... )
ابتسم هو الآخر وهو يراقبها مليا ... و كأنه يخشى أن تختفي من أمامه مجددا ... ثم قال بهدوء
( تحتاجين الى ميت ... كي لا يستيقظ على صوتك الذي يشبه مفرقعات العيد .... )
ابتسمت وعد و هي تطرق بوجهها ... بينما كتفت ذراعيها حول خصرها النحيل , تدلكهما قليلا ... و همست و هي تنظر الى السماء الرمادية من زجاج النافذة
( الجو بارد قليلا اليوم .......... )
مد سيف ذراعه اليها قائلا بخفوت
( تعالي الى هنا ...... سأدفئك ... )
ابتسمت وعد بخجل و قالت هي لا تزال تتشغال بالنظر من النافذة
( أشك بذلك ............ )
التوت ابتسامة سيف وهو يقول بخبث
( تعالي و سأضحد ظنونك .......... )
الا أنها ظلت مكانها واقفة .... توليه ظهرها و هي تنظر للمكان الجميل المطلة عليه شقتهما ...
ثم قالت أخيرا
( شقتنا ساحرة .... الا تظن ؟!! ...... )
قال سيف متذمرا
( تعالي اذن و اشكريني عليها ......... )
ضحكت وعد برقة و عيناها تلمعان بحب .... بينما نظراتها شاردة الى ابعد نقطة في السماء ... ثم قالت بخفوت
( حين فتحت عيني مع أول أشعة الشمس أجفلت ..... ظننت نفسي بمكانٍ غريب ... )
زفر سيف قائلا بتململ
( تعالي و أنا و أثبت لكِ أنه مكانك .......... )
ضحكت عاليا هذه المرة و هي تهز رأسها بنفي ....
ثم استدارت اليه قائلة بخفوت و عيناها تلتهمانه بشوقٍ مضني
( أنا آسفة لأنني أيقظتك .... احرقوا دمي من بداية الصباح فلم أتمالك نفسي ... )
زفر سيف بجنون وهو يقفز من مكانه مندفعا ... فلم تجد الفرصة لأن تهرب منه وهو يعتقل خصرها ليحملها الى جذعه ثم يليقها على السرير وهو يقول بصبر نافذ
( حين آمرك أن تأتي .... اذن فلتأتي مباشرة يا مزعجة ...... )
كانت وعد تقهتقه عاليا و هي تحاول الفرار منه دون جدوى فقد احتلها جسده الضخم و بات فرارها مستحيلا ..
سكنت تماما و هي تنظر الى عينيه البراقتين ...و صدره يضرب قلبها بعنف ... ثم همست بخفوت تلامس ملامحه بإصبعها الشارد
( عيناك تلمعان !! ........ )
رد سيف بخفوت أجش
( الا تعلمين السبب ؟!! .......... )
همست وعد بصوتٍ لا يكاد أن يسمع
( أخبرني ....... أرجوك ....... )
قال سيف بزمجرة خافتة ... لا يسمعها سوى أذنها هي فقط
( أوشكت أن أفقد اغلى شيء في حياتي .... لكن مُنِحت فرصة أخيرة .... )
ابتلعت وعد ريقها بصعوبةٍ و اختناق ... ثم همست بإختناق و اصبعها يرسم على حلقه المتحشرج .. ثم صدره النابض بمعانٍ أعمق ...
( أنت ...... تبدو .... سعيدا بحق !!! ...... )
همس سيف وهو يقبل وجنتها و فكها ...
( و هل هذا يدعو للتعجب ؟!! ............ )
قالت وعد بخفوت و هي ترسم النبض العنيف موقع قلبه تماما ..
( لم ارى تلك السعادة بعينيكِ سابقا !!! ..... كنت دائما أرى الخيبة .. الألم ... الغضب ....و الكثير من الشغف ..... لكن السعادة , لا أتذكر أني رأيتها بمثل هذا الجمال من قبل ... )
صمت سيف و رأت حلقه يتحرك بصعوبةٍ و كانه يحاول جاهدا التخلص من غصة مؤلمة بحلقه .... ثم قال بصوتٍ متحشرج
( كيف يمكنني أن أنسيكِ تلك النظرات ....... )
ابتسمت برقةٍ أمام عينيه و همست
( بأن تريني المزيد من تلك السعادة رجاءا ..... و لا تسمح لي بإفسادها .... لانني لا أضمن نفسي .. )
مد يده يبعد خصلة من شعرها عن جبهتها وهو يتأملها سارحا بلونِ عينيها ... قبل أن يهمس بصوتٍ أجش
( قد أقتلك قبل أن أسمح لكِ بالمساس بها ..... ثقي بهذا .... )
اتسعت ابتسامتها و هى تشعر بقلبها ينبض بعنف تحت صدره القوي ... فقالت ببراءة
( حتى لو أخبرتك أنني مضطرة للذهاب الى العمل اليوم ؟!! ..... )
طارت القلوب من عينيه ... و انطفأ البريق ... و تبخرت السعادة و حل محلها ملح بالليمون وهو يعقد حاجبيه هاتفا من بين أسنانه
( على جثتي ............ )
مدت يدها تتلاعب بخصلات شعره المتناثرة و ذقنه النابتة حديثا و همست برقةٍ مستعطفة
( مرغمة والله يا حبيبي ........... أنت تعلم أنني أكبرهم عقلا و بدوني يتوه الجميع .... )
الا أنه مد يده يقبض على معصمها بقوة قائلا بصرامة
( ان كنتِ أنتِ أكبرهم عقلا , فلكِ أن تبدأي في القلق من الآن على سمعة المكان و مع هذا لن تتحركي من هذا المكان .... من هذه الغرفة تحديدا حتى آذن لكِ بالعكس ...... لقد أخذت أنا أجازة من عملي ... و أنتِ تريدين الخروج ؟!!! ..... هذا ما هو ناقص , النساء يخرجن للعمل و الرجال ينتظرون في البيت !!! ..... )
مطت شفتيها و هي تعد للعشرة محاولة ان تتحمل فظاظته ....
زوجها و قد عرفت طباعه السيئة كلها و عليها ان تتحملها مرغمة .... فجاهدت كي تبتسم قائلة برجاء
( ساعتين فقط حبيبي ....... ارجوووووووووك)
ازداد انعقاد حاجبيه برفضِ تام .... بينما فتح فمه فحضرت نفسها لمزيدٍ من فظاظته المعتادة ...
الا أنه أخفض وجهه الغاضب و قبلها قبلة غاضبة ... في منتهى النعومة و الرقة !! ...
رمشت وعد بعينيها و هي تراه يرفع وجهه قليلا فهمست بخفوت
( ساعة واحدة ....... )
اخفض وجهه مرة أخرى و قبلها قبلة أكثر رقة و نعومة ... فتضخم قلبها بقوة و همست برقة ذائبة
( نصف ساعة ...... )
أحنى رأسه و قبلها القبلة الثالثة .... فأغمضت عينيها و هي ترفع ذراعيها لتحيط بهما عنقه هامسة في أذنه
( عشر دقائق ......... )
همس سيف أمام شفتيها بصوتٍ شاحب
( تقضينها بعيدا عني بعد هذا الغياب ؟!! ...... )
همست وعد و هي تهز رأسها يمينا و يسارا
( لا أظنني سأستطيع ........ )
غابا معا في لحظات ناعمة كأوراق الورد ... بدت من الرقة و الحنان بحيث أثلجت قلبيهما المجروحين منذ فترة طويلة ...
و بعد مرور بعض الوقت ... تلوت وعد قليلا و هي تقول بصعوبة
( سيف ........ سيف .... أريد أن أطلب منك طلب ..... )
همس وهو يقبلها بنعومة مهلكة
( سبق و أجبتك ...... على جثتي ...... )
الا أنها دفعت كتفيه بضعف و هي تقول مترددة
( لا .... اريد أن أخبرك بشيء آخر ..... هو قرار في الواقع و ليس طلب و عليك أن ترضخ له ... )
تشنج جسده فجأة و رفع وجهه ينظر اليها بتوتر .... بينما كانت ملامحها خائفة ... تدعو الله الا يفسد سيف فرحتهما مجددا باي من ردات فعله القاسية ...
الا أنه قال بصوتٍ جاف
( قرار ؟!! ...... لا استشارة لي حتى ؟!! ..... )
توترت أكثر و خافت و هي تبعد وجهها عنه قائلة بخفوت
( نعم , هو قرار في الواقع ....... ولو رفضته , أرى أن نفكر مليا ب ....... )
عقد حاجبيه بشراسةٍ وهو يشد على كتفيها قائلا
( نفكر بماذا ؟!! ..... هل عدتِ لعنادك و غبائك مجددا ؟!! .... ألم أعدك للتو بأنني لن أسمح لكِ بإفساد الأمر هذه المرة ؟!! ....ياللهي !! .. لم تكد تمر بضعة دقائق !! ... .)
أعادت وجهها تنظر اليه بصمت ... ثم قالت بخفوت
( انتظر فقط لتسمعني ......... )
حاولت التملص منه و بالفعل تركها لتنهض واقفة ... ثم فتحت جارور الطاولة الجانبية و التقطت منه شريط أقراصِ صغيرة .... رفعته امامه و هي تقول بهدوء
( أظنك تعرفه جيدا ......... كان مرافقا لحياتنا معا .... )
شحب وجه سيف ... و اظلمت عيناه وهو يزفر نفسا مرتجفا بعد أن ادرك في لحظةٍ واحدة ما هو قادم ....
ظلت وعد تنظر الى تعاقب الإنفعالات على ملامح وجهه بدقة ... ثم سارت ببطىء الى النافذة و فتحتها ...
و استدارت تنظر اليه مجددا لترفع يدها بالشريط بجوار النافذة قائلة بهدوء
( ليلة أمس ... أخذت منه قرصا , لأنني لم أشأ ولو للحظة أن أرى منك ما قد يفسد سعادتي .... أما اليوم .. و كل الأيام المقبلة ....... )
تركت جملتها معلقة و صمتت ... تتأمل وجهه القاتم طويلا , ثم قالت متابعة بخفوت
( ليلة أمس ..... شعرت بالألم المبرح لأنك رأيتني آخذه و لم تمنعني ..... و مع ذلك كانت سعادتي و حبي لك أكبر من هذا الألم .... أما الآن ....... )
مجددا تركت له فك شفرة حديثها و هي لا تزال واقفة بالقرب من النافذة المفتوحة ... رافعة الشريط بيدها ...
بينما سيف يراقبها بحاجبين منعقدين ... ألما .....
و حين طال الصمت .... قالت وعد بهدوء
( سألقي به ........... )
ابتاع سيف ريقه بصعوبةٍ متحشرجة ثم قال بصوتٍ متحشرج
( الا يمكننا الوصول الى حل وسط ؟!! ........ )
رفعت احدى حاجبيها و هي تقول
( لا أرى أي حلولا وسطية .... الا أذا كنت تريد نصف طفل .... ربما نزرعه في حديقة منزلك حينها و نسقيه ماءا يوميا لينبت ...... )
زفر بقوةٍ وهو يقول متعذبا
( ليس هذا وقت مزاحك الغبي ..... )
هزت كتفها و هي تقول ببساطة
( ما اللذي بامكاني أن أرد به عليك اذن و أنت تفكر بحل وسط ؟!! ..... بعض الخيارات لا تحتمل حل وسط ... تريد طفلا أو لا تريده !! ..... )
عاد ليتحرك حلقه باختناق وهو ينظر اليها واقفة عند النافذة .... أجمل من أي مرة رآها بها
رقيقة و عفوية .... ملامحها تبدو هادئة ظاهريا ... الا ان عينيها كانت ترجوانه الا يصدمها و يؤلمها مجددا ....
بينما كان صدره متشنجا و كأن حجرا كبيرا جاثما فوقه ... و حين ادرك بأن طول صمته جلب المزيد من الحزن الى عينيها ... قال بصوت مختنق خشن
( أخبرت ملك ذات يوم .... أنني لا أريد انجاب فتاة , بعد ما رأيته من أمها من معاناة ....... )
ابتسمت وعد بحزن و عينها تلمعان بالدموع .... بينما قال سيف بخفوت مطرقا برأسه
( حينها كنت أتخيل صبي صغير ..... قوي و مشاغب , ينال مني كل ما فعلته بكِ و يدافع عنكِ دائما ... )
صمت قليلا بينما ضحكت وعد بتحشرج و دموعها تنساب على وجنتيها بصمت ... فقال سيف بخفوت متابعا ...
( كنت سعيدا جدا حينها ..... على الرغم من أنه لم يكن لدي أي فكرة عن مكان وجودك .... لكن هذا التخيل منحني سعادة لحظية قوية , ساعدتني على تجاوز تلك الساعات التي قضيتها في البحث عنكِ .... )
رفع عينيه المظلمتين اليها ثم قال بصعوبة
( لكن ليلة أمس ...... نعم رأيتك تأخذين منها , حينها ..... حينها شعرت براحةٍ لم أعرف مثلها من قبل ... )
أغمضت وعد عينيها على دمعتين ثقيلتين انسابتا على وجنتيها بينما تأوهت بصمت متألم ...
فالتوى حلق سيف وجعا على منظرها .... فقال بصوتٍ أجش مختنق
( راحةٍ كبرى نعم ..... حين علمت أنني لا أريد في هذه الحياة سواكِ ..... )
هزت وعد رأسها نفيا دون أن تفتح عينيها و هي تهمس بنحيب خافت
( هذا ليس منطقا أبدا...... لو أحببتني حقا , لرغبت أن أكون أما لأطفالك ..... )
اندفع من سريره بقوةٍ وهو يتجه اليها و قدميه تطرقان الأرض مرسلة دبيبهما الى قدميها الحافيتين ... و ما أن وصل اليها حتى أمسك بكتفيها يهزها قليلا هاتفا بقوة
( لو كنت أحبك ؟!! ..... الا زلتِ تشكين بحبي لكِ ؟!! .... مستعدا للإستغناء عن شعوري بالأبوة ألف مرة دون تردد لكن لا أستطيع المجازفة بكِ ..... )
فتحت عينيها الرماديتين المغرقتين بالدموع لتنظر اليه بصمت ثم همست بغضب متعب
( هراء ..... أنا بخير ... و أنت تعلم ذلك جيدا .... )
هز رأسه نفيا وهو يهمس بصعوبة
( لا ....... بل انتِ التي لا تعلمين ... لا تعلمين بما أشعر ... )
و فجأة ضمها الى صدره بقوةٍ كادت أن تحطم عظام جسدها المكسو لحما ضئيلا ... حتى تأوهت دون صوت ..
بينما دفن وجهه بشعرها وهو يغمض عينيه , يتأكد أنها بالفعل بين ذراعيه و على صدره ... و ان لا شيء يبعدها عنه في تلك اللحظة
ثم قال بصوتٍ زفر أنفاس قلبه بين خصلات شعرها
( لا أريد سواكِ ..... بأي لغة تريدين أن أتهجئها كي تفهين ..... و تشعرين بي يا ابنة خالي .... )
ملست وجنتها على صدره بنعومة و هي ترتاح عليه هامسة
( لو تشعر بي فعلا ..... لو تعلم ما مررت به حقا .... لأدركت رغبتي أن تكون لدي أسرة كبيرة العدد , شرط أن تكون أنت جذرها ......تثبتني بأرضك ... )
أمسك بوجهها بين كفيه ليرفعه اليه .... حينها هالها الإنفعال الذي رأته مرتسما على وجهه ... ففغرت شفتيها بصدمة و هي تنظر الى عينيه بعينيها المتسعتين ... فهمست برقة
( أنت حقا تريد أن تكون أبا !! ....... )
ظل سيف صامتا قليلا ... ثم همس بصوتٍ أجش
( قد أريد شيئا ..... لكن أموت حيا بدونك .... )
رفعت يديها هي الأخرى و أحاطت بهما وجهه و همست ناظرة الى عينيه
( أنا .... بخير .... بأي لغةٍ تريد أن اتهجئها لك كي تفهم ؟!!! ..... )
عقد حاجبيه و ضاقت عيناه بألمٍ أكبر ... ثم قال بصوتٍ شبه مترجي متوتر
( لما لا ننتظر قليلا .... ربما ...... )
زمت شفتيها و قالت بقوة
( اين ذلك الذي صرخ بي بفظاظة وقحة " من اليوم ستتفرغين لإنجاب الأطفال " ؟!!! ..... )
قال سيف دون تردد
( مات ............ )
شهقت وعد بصدمة و هي تهتف متعلقة بعنقه
( بعيد الشر عنك ...... لا تنطق تلك الكلمة مجددا .....احمق ... )
ضمها اليه بقوة اكبر وهو يقول
( من المؤكد من يحب غبية مثلك يكون أحمقا ........ )
ابتسمت وعد بحب و هي تغمض عينيها قائلة برقة
( كم هو رائعا أن ننجب المزيد من الغبيات و الحمقى الصغار لهذا العالم !! ..... الا تظن ذلك ؟!! ... )
ظل صامتا و كأنه لم يسمعها ... فضحكت تقول
( حاول يا سيف ...... تخيل هذا البيت و به عدد من الأطفال يحيلون حياتك الى جحيم ..... سيكون الأمر رائعا و أنت تفرغ بهم شحنات يومك و تجري خلفهم و تضربهم ... او أن تقذفهم بخف الحمام .... )
لا يزال صامتا ... الا انها شعرت باهتزاز صدره و هي تعلم جيدا انها اشارة ضحكه صامتا ... مما انعش الأمل في قلبها ...
الا أنه حين أبعدها عنه و نظر الى وجهها كان عابسا .. عاقدا حاجبيه .. ثم قال بجفاءٍ خافت
( لن أضرب أي منهم يوما ........ )
بهت ضحكها و انتفض قلبها بسعادة مجنونة و هي تتلقى الجواب على قرارها ..... فارتجفت شفتيها بتأثر واضح و هي تهمس مومئة برأسها
( محظوظين اذن أطفالك ..... ستكون أبا ..... رائعا ..... ليتني كنت معهم نيلا لأبوتك ... )
قال سيف بصوتٍ هادىء واثق ,,, و عينان تنطق بالأكثر
( أنتِ الأغلى بينهم .... و ستظلين دائما .... و تعيشين سنواتٍ طويلة , تقصين عليهم بأن والدهم أوشك في التضحية بهم خوفا على أمهم ....... و لن أنكر , و ليضربوا رؤوسهم في الحائط غيظا .... )
ضحكت مبهورة مما تسمعه و هي تهز رأسها موافقة دون ان تجد القدرة على الكلام ... ثم اخذت نفسا قويا و هي ترفع يدها بالشريط قائلة بهدوء
( سألقي به ........ )
رفعت حاجبيها بتوجس و هي تراقب عينيه الرافضتين و كأنها تنزع قطعة من قلبه ... فتحت شفتيها تقول مشجعة
( هيا ... قل نعم ..... مجرد ثلاث أحرف .... هيا حاول ... ليست صعبة ... )
زفر عمق مما جعل غرتها تتطاير من على صدغها ... لكنه قال أخيرا بصوتٍ لا يكاد أن يسمع
( نعم ....... ألقِ به ..... )
افترت شفتيها عن ابتسامة قوية عريضة و هي تلقي به في الهواء على اقصى اتساع ... و مالت تنظر اليه يتطاير الى ان حل على الأرض بعيدا جدا ....
فضحكت تقول
( من سيجده سيعرف ما يحدث بسهولة ......... )
ثم استدارت تنظر الى سيف المطرق الرأس و المغمض العينين ... فعادت تقف على أطراف أصابعها و هي تحيط عنقه بذراعيها هامسة
( اذن ماذا كنا نقول ؟!! ....... )
كانت يداه لا تزالان على خصرها .. لكنه أبعد وجهه عن مرمى قبلتها وهو يقول بوجوم خشن
( البيت ...... كنت تثنين على جمال الشقة ..... )
ابتسمت بخبث و هي ترتفع اليه مجددا قائلة
( لكنني لم أشكرك بعد ...... )
الا أنه أبعد وجهه مجددا يقول بقنوط
( بعد تفكير عميق ..... قررت المواقفة على أن أوصلك الى عملك ... هيا اذهبي .... )
اتسعت عيناها للحظة ... ثم لم تلبث أن قالت من بين أسنانها
( النساء لا يتركن ازواجهن في أول أيام شهر العسل ........ هلا قبلتني من فضلك !! ...)
الا أنه بدا مترددا ... قلقا ... جسده الضخم متشنج و كأنه طفل على وشك ارتكاب فعلة متهورة ...
فضحكت وعد عاليا في الأخير بيأسٍ قائلة
( أنت تريد هذا الطفل يا سيف ....... كررها خلفي .... )
قال بخشونة متوترة
( لا ....... )
الا أنها ردت بقوة
( بلى ..... )
فعاد لينظر الى عينيها ... عله يجد التشجيع , لكن جمالهما جعله يعود و يقول بقنوط
( لا ..... لم نكد نعود لبعضنا بعد عناء .... لقد اخترت التوقيت الخاطىء تماما , و أنا لا أزال شاعرا بمرارة فقدك ...... )
زفرت وعد بقوة و هي تبتعد عن ذراعيه ... ثم اتجهت الى السرير مرفوعة الرأس فجلست نصف مستلقية تحت الغطاء وهي تكتف ذراعيها زامة شفتيها كمأمور الضرائب ثم قالت
( لنرى اذن الى متى ستبتعد ......... )
ظل واقفا مكانه ينظر اليها بوجوم ... بينما هي ناظرة أمامها بحزم ... تختلس النظر اليه بطرف عينيها الغاضبتين ...
فناداها بخفوت رقيق
( وعد ............ )
لكنها رفعت ذقنها برفض و هي لا تزال مكتفة ذراعيها ناظرة أمامها بحزم ... فقال سيف مجددا
( وعد حبيبتي ....... )
بدأ الضعف يتسلل اليها بنظرات اليه متنازلة بصمت دون أن ترد .....
فقال مبتسما بقلق
( أحبك .............. )
ابتسمت بتخاذل رغما عنها فقالت مقلدة لهجته
( اذن تعال الى هنا و اثبت لي ..... )
لم تحتاج لأن تكررها فقد ابتسم و اقترب منها ببطىء ... بينما عيناه جعلتها تعض على شفتها و تخفض وجهها بحياء ....
.................................................. .................................................. ......................
بعد فترة طويلة ... خرج من الحمام وهو ينظر اليها باستياء ...
كانت في قمة أناقتها ... كعروس في صباح زفافها بالفعل ... لقد نجحت تلك المخادعة في استدراجه الى الموافقة على توصيلها الى العمل ....
و ها هي تقف امام المرآة ترتدي فستانا بسيطا اسود اللون بحزام عريض للخصر ابيض اللون ...
و حذاء اسود عالي الساقين يلامس حافة فستانها .. فلا تظهر من ساقيها شيئا و مع ذلك تثير سخطه ...
بينما هو واقفا امام الدولاب ... يأخذ قميصا ليرتديه بحنق ... و عيناه تراقبان محاولتها في تثبيت القرط في اذنها ...
ثم قال بخشونة
( لا اصدق بأنك نجحت في نيل موافقتي ...... )
التقت عيناها بعينيه في المرآة و ابتسمت له بجمال لتقول متدللة
( امامنا العمر كله يا سيف .... انا فقط احتاج لساعتين اتابع بهما بعض المشاكل ثم اعود سريعا ... )
زفر بقوة و استدار عنها .. فاستدارت هي اليه و هي تقول مبتسمة
( الست انت من واقفت و طلبت مني الذهاب .... )
قال بغضب وهو يعبث في دولابه
( كان هذا قبل أن ............. )
صمت الا أنها ابتسمت بخجل و احمر وجهها قائلة
( اهاااا ........... )
قال بغيظ من بين اسنانه
( توقفي ............ )
رفعت يديها مستسلمة و هي تقول
( لم أقل شيئا ......... )
ثم لم تلبث ان ضحكت و هي تقول غير قادرة على التماسك
( اكنت تظن بأنك تستطيع أن تمنع نفسك عني أيها الأحمق !! ........ )
استدار اليها تاركا قميصه مفتوحا ... فحاولت الابتعاد عنه الا انها تمكن من الإمساك بذراعيها قائلا بغيظ
( توقفي ...... )
قالت بأدب ووداعة
( توقفت ........ )
الا أن عينيها كانتا مليئتين بالشقاوة و الضحك المكتوم ... فهزها قائلا مجددا
( توقفي ........ )
عضت على شفتيها معا كي لا تضحك و هي تنظر الى عينيه مومئة برأسها ... الا أن عينيها دمعتا من شدة كتمها لضحكها ... فانهارت و الضحكة تخرج كصوت مزمار من بين شفتيها المغلقتين ...
فشهقت عاليا و هي تمسك بطنها هاتفة بضحك
( لا أستطيع ...... )
هزها مجددا وهو يقول هادرا
( سأقسم الا تخرجي من هنا لو لم تتوقفي ...... )
رفعت يدها في تحية عسكرية و هي تقول منهارة من شدة ضحكها
( اعتذر .... اعتذر ...... لكن منظرك كان ..... )
زفر بقوة وهو يقول بحنق
( سعيدة انتِ بتحقيق كل مآربك ...... اليس كذلك )
قالت بثقة و هي لا تزال تضحك
( جدا .......... )
عاد ليزفر بقوة فقالت وعد ضاحكة
( توقف عن كل هذا الزفير ... لقد قضيت على أكسجين الغرفة كله و ملأتها بالشحنات السلبية ...)
زم شفتيه وهو يقول من بين أسنانه
( عدي رغبة قوية في رسم تلك الشحنات على جبهتك ...... )
ابتسمت و هي تمد يديها لتغلق أزرار قميصه واحدا تلو الآخر قائلة بتهذيب
( حين أعود من العمل ... سأعطيك أحمر الشفاه الذي تحبه و سأسمح لك بالرسم على وجههي كما تشاء ... )
ظل ينظر اليها قليلا .. ثم ظهر طيف ابتسامة عابثة على زاوية شفتيه وهو يقول متخيلا بخفوت
( تعجبني الفكرة ......... )
لمعت عيناها و هي تقول بعبث مماثل
( أعرفك أكثر من نفسك حبيبي ....... )
قال سيف بخشونة وهو يهزها قليلا
( ليكن بمعلومك ساعتين لا أكثر ............مفهوم .. )
قالت وعد و هي تمسد قميصه برقة ...
( مفهوم ....... لكن أخبرني أين ستهيم شريدا أثناء غيابي و انت المسكين عاطلا عن العمل اليوم ؟!!...)
قال سيف وهو يحاوط خصرها بكفيه و كأنه وطنهما الطبيعي
( سأذهب الى أمي ....... )
عقدت وعد حاجبيها و هي تقول بقنوط
( تذهب الى أمك بصباحيتنا ؟!! ......)
رفع حاجبه وهو يقول بهدوء
( أفضل من معدومة الحياء الذاهبة الى عملها ..... على الأقل آخذ ثوابا أستفيد به .... بينما اذهبي انتِ الى مصيرك و قلبي غاضب عليكِ ..... )
هتفت وعد و هي تضرب الأرض بقدمها
( لا تقل ذلك ..... أنت تبتزني عاطفيا ....... أنا أيضا لا أريد تركك و لو للحظة , ..... )
ابتسم رغم عنه وهو يتأملها ... ثم قال بهدوء
( لقد تغيرتِ كثيرا خلال بعدي عنكِ ..... علي الإعتراف بأن الفراق أفادك بعكسي .... )
قالت وعد بلهفة خجولة
( كيف تغيرت ؟! ........ )
ظل ينظر اليها قليلا ثم قال مبتسما بلهجة بدت غريبة على أذنها .... أتحمل بعض الزهو ؟!! .... فقط بعض !!!
( بت واثقة من نفسك أكثر ... و هذا جعل منكِ أكثر بساطة و عفوية في اظهار مشاعرك تجاهي دون تحفظ أو قلق .... بتِ تلمعين كنجمة .... )
شعرت بروحها طير مرفرفة لهذا الكلام البسيط منه .. فقالت بخفوت
( تجعلني أبدو كأغنية الأطفال .... المعي المعي يا نجمة .... سمعتها من أحد أطفال زبونة عندي , لكنني لم أتعلمها يوما في طفولتي البائسة ..... )
ابتسم سيف وهو يرفع ذقنها بين أصابعه ... يسبح في عينيها و يداعب فكها هامسا بشرود و كأنها أعجبته
( المعي ... المعي يا نجمة ..... عاليا ... عاليا ... كماسة في السماء .... )
احمر وجهها أكثر ... فقالت بخفوت
( كيف جعلت منها قصيدة بهذا الجمال ؟!! ..... اهو صوتك ؟!! .... أم قلبك ؟!! .... )
قال سيف بهدوء
( بل عقلي ..... أنتِ تلمعين بسرعة , تعلين و تعلين ..... و أنا كنت أحجزك خلف حاجز الشهادة الجامعية و المكاتب العقيمة ... و كلما تراجعتِ أسمعتك ما يؤذيك .... )
قالت وعد بحزم
( ألم نتفق على أن ننسى ما فات ؟!! ...... )
أومأ برأسه وهو لا يزال ينظر اليها مبتسما بعينين غريبتين ... فقال برقة
( نعم ....... سننساه , و سأعمل على ذلك .... كوني واثقة .... )
ابتسمت بخجل أكبر و هي تشعر بحماقة جميلة تنتشر في داخلها و تجعل منها انثى مكتملة الأنوثة بكلماته التي تسمعها منه للمرة الأولى .... أين كان هذا الحنان من قبل ؟! ...
تنحنحت وعد ثم قالت بهدوء مغيرة الموضوع
( لم تخبرني كيف تقبلت عمتي أن تسكن بعيدا عنها ؟!! .... هذا الأمر كان يقلقني منذ فترة ... )
قال سيف
( لقد تقبلته راضية ..... كنا نعلم أن حقك لن يكون مجرد كلمات عاطفية ... لكِ عندنا دين منذ سنواتٍ طويلة ... بيت مستقل و عائلة ... ... و ليس أقل من ذلك ... )
ابتسمت بحنان و هي تقول بخفوت
( لكن ....... ستبقى وحدها , و أنا لا أريد لها المزيد من الألم ..... )
قال سيف بتأكيد
( امي هي شريكتي الأولى في هذه الحياة .... كيف أتركها وحيدة ؟!! .... سأقسم وقتي بين هنا و هناك ... )
اتسعت عيناها فجأة و هي تتراجع خطوة لتهتف و يداها في خصرها
( نعم ... نعم ... نعم ؟!!!!!! ...... من هذا اللذي سيقسم وقته ؟!! .... و لماذا اخترعو الزيارات العائلية اذن ؟!!! .... )
ارتفع حاجبيه سيف وهو يقول ببساطة واضعا يديه في جيب بنطاله
( قد يكون هذا مناسبا للجميع في الحالة الطبيعية .... لكن أمي مرت بالكثير في حياتها ... و هي تحتاجني و يكفي أنها تنازلت مضحية بنصف حقها في .... )
فغرت وعد شفتيها ثم هتفت بقنوط
( لكن هذا ليس منطقيا يا سيف !! ..... تتركني هنا نصف وقتك و حياتك و كأنك متزوج من أخرى ؟!!! ... )
مط سيف شفتيه متظاهرا بالتفكير ... ثم قال مقترحا ببساطة
( تستطيعين المجيء معي لو أحببتِ ..... غرفتك لا تزال موجودة .... )
كورت شفتيها كالأطفال و هي ترسم على الأرض بكعب حذائها قائلة
( انها غرفتك ......... )
رد سيف بثقة و حزم
( بل غرفتك قبلي ...... و ستظل مكانك دائما .... و حتى قبل شقتنا هذه ... )
ابتسمت وعد و هي ترفع وجهها اليه قائلة ...
( بعد تفكير عميق ..... فكرة التغيير تبدو مثيرة للإهتمام .... و يؤجج العواطف ... )
لمعت عينا سيف وهو يحملها فجأة بين ذراعيه هاتفا
( و هل يحتاج الأمر ؟!! ..... ابقي معي و سأريك بعضا من العواطف ..... )
ضحكت وعد بقوة و هي تقول
( لن يتسع البيت من كثرة عدد الأطفال فيما بعد .... )
قال سيف وهو يدور بها
( توقفي عن ذكر أمر الأطفال حاليا .... أنا أحاول جاهدا أن أتقبله .... .... )
ضحكت وعد مجددا و هي تقول
( حسنا توقفت .... لكن أنزلني كي أتمكن من الذهاب و العودة باكرا ..... )
انزلها على مضض وهو يقول
( اووووووف ...... طار المزاج العاطفي ... هيا انتهى من تجهيز نفسك .... و اريدك في نفس هذه البقعة التي تقفين بها بعد ساعتين من الآن ..... )
اتجه الى الباب الا انها هتفت من خلفه
( وقت التوصيل ليس محسوبا من الساعتين .... ضع هذا ببالك ... )
ثم التقطتت هاتفها سريعا لتتصل بملك ... فقد كان القلق يقتلها منذ الصباح ... و سيطرت على نفسها بصعوبةٍ كي لا تتصل بها منذ الساعات الاولى ...
.................................................. .................................................. ....................
جالسة على حافة سريرها مبتسمة بوجه احمر ... بينما يداه القويتان تشدان على رأسها وهو يمشط شعرها الطويل بالفرشاة ...
جالسا خلفها و انفاسه الدافئة تداعب عنقها ... و الصمت رفيقهما الثالث , ....
فقد كان ما يشعران به اكبر مما يمكن ان ينطقا به في تلك اللحظة ....
رأسها تتراجع للخلف مع كل مرة يشد الفرشاة على الشعر الطويل .... فقال بخفوت بعد فترة طويلة
( هل اؤلمك ؟؟ ........ )
ابتلعت ريقها لتجلي حلقها ... ثم همست مبتسمة
( لا ..... ابدا ....... )
قال رائف بخفوت
( جيد ........ لأنني أحب ملمس شعرك على يدي ..... )
ارتجفت ملك قليلا .... ثم قالت بصوتٍ خجول
( حقا ؟!! ............. )
لم يرد رائف على الفور ... بل اقترب منها ليقبل عنقها فجأة برقة جعلتها تشهق عاليا ... في نفس الللحظة التى رن بها هاتفها بجوارها ...
و كانت الصدمتين قد جعلتاها تنتفض بقوة و هي تسارع بالرد قبل ان تفكر و قد داس اصبعها على مكبر الصوت قبل ان يسقط منها على الأرض ... فجائها صوت وعد يقول مترددا
( ملك ..... ملك .... هل تسمعينني .... )
أغمضت ملك عينيها و نادت عاليا
( آآآآه اسمعك يا وعد ..... لحظة واحدة )
و بينما هي تدير وجهها الى رائف المبتسم خلفها وهو لا يزال ممسكا بشعرها ... يقيدها بأغلاله وكأنه لا ينوي تحريرها ...
همست ملك بخفوت شديد
( لحظة .... سألتقط هاتفي من على الأرض ...... )
لكن صوت وعد انبعث فجأة تقول
( اسمعي ..... انا يجب ان اخرج حالا و سأهاتفك مساءا حين اعود ... اردت فقط أن أطمئن عليك .... ماذا فعل رائف معك ليلة أمس ؟؟ ......هل كان فظا ام متفهما ؟؟ ..... اريد تفاصيل سريعة .... هل خفتِ منه ؟!! ..... )
ضربت ملك وجنتيها بكفيها و هي تهتف همسا
( ياللمصيبة !! ....... )
ثم صرخت بارتياع
( نتكلم لاحقا يا وعد ........ )
ثم استدارت الى رائف الذي كان يضحك بصمت و قد اشتعلت عيناه ببريق متوهج ... فهمست بجنون
( اترك شعري ..... ... )
الا ان صوت وعد جاء مجددا بقلق
( صوتك ليس مريحا ......... هل كان همجيا ؟؟ ... أقسم أن انتزع احشاؤه لو أفسد الأمر أكثر عليكِ ... )
عقد رائف حاجيه بتوجس .. بينما صرخت ملك بجنون
( مكبر الصوت مفتوووووووووح ...... )
ساد صمت طويل بينما اخفت ملك وجهها بين كفيها بيأس و حرج .... ثم قالت وعد بصوت يائس
( لا تخبريني انه بجوارك .......... )
تنهد رائف ثم قال متسليا
( صباح الخير يا وعد ...... ملك بخير تماما , انها فقط .... خجلة قليلا ... )
كان يكتم ضحكته بصعوبة ... بينما همست وعد بذهول
( ياللهي !! ........... )
سمعا فجأة صوت سيف يقول
( هل انتهيت؟!! .......... )
فقالت وعد بقنوط
( رائف على الهاتف ........ )
فقال سيف متناولا الهاتف منها قائلا بسعادة
( آآآه صباح الخير يا عريس ..... كيف الأحوال ؟!! ...... أرى أن وعد قد أزعجتكما من الصباح الباكر ... )
أخذت ملك تربت على وجنتيها بصمت و هي تهمس مغمضة ... " ياللهي !! ...... "
بينما رد رائف وهو يضحك رغم عنه مناديا كي يسمعه
( نحن بخير تماما ..... و اخبر وعد ان ملك بخير ... و ستكلمها ما أن تجد صوتها ... أقصد ما أن تستطيع )
بعد ان أغلق سيف الخط .... تأوهت ملك بصمت دون ان تجد القدرة على رفع وجهها عن كفيها و ساد الصمت طويلا ...
الى ان شعرت بذراعي رائف تحيطان بخصرها وهو يشدها الى ظهره برفق و يحتضنها بقوةٍ حتى هدأت ... ثم همس أخيرا بخفوت
( اذن كنتِ خائفة مني !! ........ )
لم تستطع ملك الرد ... لكن قلبها كان يبدو كأرنب مذعور على كفه ... و هي تهز رأسها نفيا بصعوبة و اختناق ... فقال رائف
( خائفة ....... لكن ليس مني .... )
أومأت برأسها ببطىء شديد .... فشدد من ضمها الى صدره و كانت ممتنة انها توليه ظهرها فهي لم تملك القوة بتلك اللحظة كي تواجهه ... فقال رائف بخفوت هامسا لأذنها
( و لماذا لم تخبريني بخوفك ؟؟ ......... )
همست ملك بعد فترة طويلة جدا
( أردتك ...... سعيدا ..... )
أخذت يداه تدلكان ذراعيها المرتجفين ثم همس بجدية
( و ماذا لو كنت أنا من يريدك سعيدة ..... تجربين عاطفة لم تشعرين بها من قبل ...... )
ظلت ملك صامتة .... مغمضة العينين متربعة بين احضانه ... ثم قالت بخفوت
( الإنتظار يوترني ......... )
قال رائف بخفوت همسا
( لهذا كنتِ غاضبة مني صباحا ؟؟ ......... )
ظلت مستكينة بين احضانه ... ثم همست اخيرا بخفوت
( آسفة ...... كنت أنانية جدا صباحا .... )
كان حضنه رائعا .... دافئا واسع الصدر ... حنونا بشكل غير قادرة على استيعاب حلاوته بعد ... فقال رائف مبتسما برقة
( بل كنتِ كالعسل ..... حلاوتك لا يكفيها يوما واحدا لتذوقها ..... )
مسح وجنتها بشفتيه وهو يهمس
( هلا توقفتِ عن الإنتظار رجاءا ..... و تركتني اتذوقك على مهل ... )
ارتجفت و هي تهمس مغمضة العينين بشدة ...
( كلامك يذيب مفاصلي ...... اشعر بشعور غريب جدا .... )
قال رائف برقة و حنان خالص
( اذن ركزي على هذا الشعور .... فهو بداية رائعة ...... )
تنهدت متنعمة بين احضانه كقطة بيضاء صغيرة .... وهو يقبل وجنتها و شعرها , ثم همس اخيرا بصوته الرجولي دافىء
( اين تحبين تناول العشاء اليوم ؟؟ ............. )
ضمت ملك ذراعيه المحيطتين بها بذراعيها و هي تهمس
( هل سنخرج ؟؟ ......... )
اجابها برقة
( طبعا ........ و سترتدين الفستان ذو الزهور الصفراء الليلة ... انا اصبحت زوجك و يجب عليكِ ان تطيعينني ....... )
همست ملك بقلق
( اخشى ان نقابل شخصا غير مرغوب به مجددا ....... )
ابتسم رائف وهو يقول
( أنا لا أثق أن الصدف تتكرر أكثر من مرة ...... بالتأكيد لن يحدث هذا ..... اطمئني , فأنا معك ... )
أومأت ملك برأسها مترددة و بداخلها شعور غريب بأنهما سيقابلان شخص ما الليلة ...
الا ان القلق غادرها ما ان رفع رائف ذقنها اليه و اقترب بوجهه منها ... ثم همس برقة امام شفتيها
( اتسمحين لي يا وردتي ؟؟ .......... )
ابتسمت له بجمال و كانت ابتسامتها اكبر موافقة على قبلته ......
( بشرى ..... هل أنتِ بخير ؟؟ ...... )
كان ينقل نظره من الطريق اليها بقلق ... ثم يعيده الى الطريق مجددا ...
منذ اكثر من ساعتين و هي تعاني من دوارٍ و غثيان جعل وجهها شاحبا .....
القلق يفترسه بشكل مبالغ به ...
كانت في بداية الطريق في منتهى السعادة و الحماس ... حتى أنها بدت كطفلة تتناول كل ما على المائدة من حلوى ...
الا انها بدأت تفتر تدريجيا و تتململ بعدم راحة ... و أحيانا تتأوه مغمضة و هي تبعد ظهرها عن مقعد السيارة ...
و ظل الحال هكذا الى ان بدأت همتها تضعف منذ ساعتين و يزيد غثيانها فالتزمت الصمت تماما و هي تغمض عينيها ....
نظر اليها مجددا بقلق حين لم ترد .... فوجد وجهها شديد البياض بدرجة مخيفة ... و شفتيها زرقاوين للغاية
و أصابع يدها ترتجف فوق ركبتها بحركةٍ لا ارادية ..
كانت تبدو كالطفلة و هي تربط وشاحا حريريا حول رأسها و تعقده خلف عنقها .. فينساب شعرها الخفيف من تحته على ظهرها ... و فستانها الواسع جدا يماثله في الألوان المبهجة ... لكنها كانت تتناقض بشدة مع بياض وجهها ....
كم بدت هزيلة و شديدة الرقة و الهشاشة وسط تلك الالوان التي ترتديها ... و انتفاش فستانها الصباحي الذي يناسب البحر من حولها ...
أعاد وليد نظره الى الطريق و هو يشتم بخفوت ...
لم يكن يريد أن يجهدها الى تلك الدرجة ... لقد اعتاد السفر بالسيارة لأنه يفضلها و يحب طريق السفر الطويل ... لكنه لم يحسب حسابا لبشرى ....
عشر ساعاتٍ من الجلوس في السيارة امرا ليس بهينٍ عليها أبدا .... و لا يزال المتبقي طويلا جدا بالنسبة الى حالتها الحالية ...
لقد أراد بشدة أن تغير تلك الرحلة شيئا ما بحياتها و نفسها .... الا أنها ها هي ... تبدأها بالمرض و الغثيان و من المؤكد أن هذا سيترك بنفسها ذكرى بغيضة جدا ....
عاد لينظر اليها ثم قال بقلق
( بشرى .... لماذا أنتِ صامتة ؟!!..... ردي علي فقط كي أطمئن بأنكِ بخير .... )
ظل وجهها جامد لعدة لحظات ... فظن انها لم تسمعه , او ربما يكون مغشيا عليها !!
انعقد حاجبيه بشدة عند هذا الاحتمال ... لكن و قبل أن يناديها , رآى شفتيها تبتسمان بضعف ... دون ان تفتح عينيها .. ثم لم تلبث أن همست بتعب
( هل أنت قلق علي ؟!!! ........ هذا مؤثر .. )
شتم وليد وهو ينظر أمامه .. ثم قال بحنق
( هل كنتِ تتظاهرين ؟!! ....... )
فتحت عينيها تنظر اليه مجهود .. ثم قالت
( في الحقيقة لا أعرف ..... بعض الكيلومترات من الطريق تتوه عن وعيي .. لذا لست متأكدة من نومي و و استيقاظي .... )
نظر اليها بندم قليلا .. ثم قال بلهجةٍ أكثر لطفا
( كيف تشعرين الآن ؟! .... هل زال الغثيان ؟!! ..... )
ردت بصعوبةٍ و بأنفاسٍ ذاهبة
( أنا بخير ...... أنا مستمتعة جدا .... )
زفر وليد بقوة وهو يقول باستهجان
( واضح !! ....... )
ثم لم يلبث أن نظر اليها وهو يقول بحدة غير مبررة
( لماذا تتظاهرين بالتمتع و السعادة طالما أنتِ متعبة ؟!! ..... )
ظلت صامتة عدة لحظات ثم قالت أخيرا بصوتٍ ضعيف
( انا متحمسة بدرجةٍ رهيبة .... و كنت اريد أن اشعرك بذلك , لكن لم أحسب حساب دوار السفر ... )
صمتت للحظة ثم همست بحسرة
( اردت أن تجدني مرحة ..... لا عالة عليك بتلك الصورة ... )
زفر وليد و وهو يحك فكه بقبضته .... ثم لم يلبث أن نظر اليها مجددا فوجد جبهتها تلمح بحبات العرق البارد ..
حينها عقد حاجبيه وهو يمد يده الحرة ليمسح تلك القطرات عن جبهتها قائلا
( الا يعمل المكيف بصورة كافية ؟!! ... لماذا تتعرقين بتلك الصورة ؟!! .... )
كانت يده على جبهتها تريحها و تهدىء من تعبها ... فهمست بخفوت
( انه مناسب .... دعه كما هو , أنا فقط أشعر بالدوار و الغثيان و هذا يرفع من درجة حرارتي .... )
تنهد بقوة و هو يتابع مسح وجهها ... مضطرا للنظر الى الطريق ... و مضت فترة قبل ان تقول بتعب
( وليد ....... )
نظر اليها بسرعة وهو يقول بخفوت
( هممممم .... ماذا بكِ ؟؟ ..... هل تريدين شيئا ؟؟ .... )
ظلت تنظر اليه قليلا بعينيها القططية الخضراء ... ثم ابتسمت بتعب قائلة
( انا ممتنة جدا لأنك أخذتني معك ....... مضت أشهر طويلة دون أن أشعر بأي متعة بحياتي .... شكرا لك , ما ان نصل سأكون بخير و سأعمل على ارضائك بكل الطرق .... )
نظر وليد اليها بصمت مقطب الجبين ... قبل أن يقول بخفوت
( اهتمي بنفسك فقط ....... و لا تفكري بشيء الآن .... )
الا ان بشرى تابعت تقول بعدم تركيز
( سأعمل جاهدة على الا .... تتركني ..... أو أن تتزوج بغيري ...... )
عبس بشدة و هو ينظر اليها مصدوما بعبارتها الغير محسوبة النتائج ...
و أوشك على أن يرد عليها بقوة .... الا أنه وجد حالها يزداد سوءا و هي تميل الى الأمام فجأة متأوهة .... و هي تهتف بصوتٍ ثقيل
( أشعر بالغثياااااان .... أريد أن أتقيأ أرجووووووووك ... لا أسطيييع الإنتظار ... )
أوقف وليد السيارة بسرعةٍ الى جانب طريقٍ رملي ... قبل ان يخرج منها مندفعا وهو يدور حول مقدمتها واصلا الى بشرى التى كانت قد فتحت الباب و اندفعت خارجة طلبا للهواء الا أن ساقاها لم تسعفاها فسقطت على ركبتيها أرضا ...
فرفعها وليد بسرعةٍ عن الأرض وهو يهتف باسمها .... ثم جلس على مقعدها و أجلسها على ركبتيه وهو يرى أنها على وشكِ الإغماء و لا تستطيع الوقوف ....
فمد يده و نزع الوشاح عن شعرها المبلل بالعرق و أخذ يمسح به وجهها قبل أن يقول بقلق شديد
( هل تريدين التقيؤ ؟!! ...... )
أومأت برأسها و هي تترنح و تبيض حدقتيها ... ثم همست بإعياء
( لكنني .... لا أستطيع .... )
مال بها الى الأمام وهو يقبض بذراعه القوية على معدتها وبضغطة خفيفة منه ... بدت كمطرقة بالنسبة الى ضعفها الحالي .. فلم تتحملها الا و اندفعت تتقيأ بكل قوتها على الأرض أمامهما ... و استمرت بذلك عدة لحظات وهو يربت على ظهرها الى أن انتهت و أخذت تشهق بتعب ....
كانت تنشج دون دموع و هي متشبثة بذراعه على بطنها كي لا تسقط على الأرض و قد بدأت تشعر أن رأسها أثقل وزنا من جسدها كله و تهدد بأن تسحبها للأمام و تسقط بها ...
همست تهذي
( سأسقط ........ )
سمعها وليد بصعوبة , فقال بقوةٍ و قلق
( لن تقعي ... أنتِ جالسة على ركبتي و أنا ممسك بكِ ... )
الا انها كانت ترى الارض تقترب منها بسرعة ... فهتفت برعب
( سأسقط على الأرض ....... )
احاطها بذراعه الأخرى وهو يقول بقوة
( لن تقعي يا بشرى ..... اهدئي ........ الآن سترتاحين بعد أن تقيأتِ , هذا جيد ..... اهدئي ... )
كان يشعر بوزنها كله منحنيا على ذراعه حول بطنها .. و كأنها بالفعل تريد السقوط ... فقال بخفوت
( لقد نقص الأكسجين من جسدك جدا و جسدك يسعى للإستلقاء .... سأنهض بكِ ببطىء ... لا تخافي ... )
نهض باحتراس وهو يحملها بين ذراعيه ببطىء شديد ... ثم استدار و انحنى ليجلسها بمقعدها .... و مد يده كي يخفض ظهر المقعد حتى استلقت تماما بينما هي تتأوه و تتلوى بضعف هامسة
( ظهري يؤلمني ......... لا أحتمله ... )
همس بتوتر
( ماذا به ظهرك ؟!! ........ )
الا أنها كانت في عالمِ آخر .... و هي تكاد الا تراه , فدار حول السيارة و عاد الى مقعده خلف المقود و اخرج ماءا و عطره لينظف وجهها ... و أخرج قرصا من علبة دواء من بعض أدوية لديه في السيارة ... وضعه بين شفتيها ثم همس بخفوت ...
( ابتلعي هذا .... سيجعلك تنامين ....... )
ابتلعته بصعوبةٍ و شربت رشفة ماء من الزجاجة التي وضعها على شفتيها ....
ثم ارتمى رأسها للخلف و أغمضت عينيها ...
وضع وليد قبضتيه على المقود وهو ينظر أمامه بعينين ضيقتين غامضتين وهو يتنفس لاهثا بسرعة ...
نظر اليها بصمت طويلا ثم قال بخفوت
( بشرى ..... هل أنت ؟!! ......... )
لم يتابع سؤاله المهووس .... بل ظل ينظر اليها طويلا و قد راحت في سباتِ عميق قبل حتى ان يبدأ مفعول الدواء ....
حينها اندفع بالسيارة بسرعةٍ كبيرة و عيناه مسمرتان على الطريق بينما الشك يكاد أن يقتله ....
نامت بشرى عدة ساعات متصلة نوما ثقيلا دون ان تفتح عينيها ولو لمرة ....
لكن و ما أن حل المساء و اقتربت نهاية الطريق حتى فتحت عينيها فجأة و هي تصرخ
( ظهري يؤلمني جدا ............ )
و انفجرت فجأة ببكاء عنيف .... فزاد وليد من سرعته بجنون للمتبقي من الطريق حتى وصل الى الفندق اخيرا ... فأوقف سيارته أمام أبوابه ... و ألقى بمفاتيح السيارة الى العامل الواقف هناك وهو يسرع الى بشرى التي كانت مستلقية مكانها تبكي بقوة ... فحملها بين ذراعيه وهو يدخل بسرعة
و ما ان دخل من البهو حتى هتف بأول من يقف على الباب
( اريد الطبيب الموجود هنا فورا ..... سأسصعد الى غرفتي ... )
سارع احد عمالي الفندق وهو يقول بقلق ناظرا الى بشرى التي تبكي بين ذراعي وليد
( سيد وليد ..... هل السيدة معك ؟؟ ...... )
رد وليد بنفاذ صبر
( انها زوجتي ........ )
رد الموظف بتردد
( هلا أنهينا الإجراءات قبلا اذن ..... أنت تعرف ضرورة اثبات الزواج قبل الصعود الى الغرفة .... الموضوع غاية في الأهمية و انت خير من تعلم سيد وليد .... )
شهقت بشرى فجأة شهقة أقوى و هي تصرخ عاليا بقوة .... فصرخ وليد هو الآخر
( حقيبة أوراقي الصغيرة في مقدمة السيارة .... أخرج منها الأوراق التي تحتاجها , أنا سأصعد بها الى الغرفة ... و أريد الطبيب هناك حالا .... )
ثم ابتعد عنه بسرعة وهو ينظر الى بشرى برعب ... لا يدري ما بها ..
و ما ان دخل الغرفة اخيرا و جعلها تستلقي على السرير الوثير ... حتى مد يده يمسح وجهها المتألم وهو يقول بتركيز بطيء كي تسمعه
( بشرى .... بشرى ... ماذا يؤلمك ؟؟.... فقد اهدئي قليلا .... )
الا أنها كانت تتلوى بعنف و كأنها لا تطيق السرير .... فخرج وليد بظهره وهو ينظر اليها خائفا ... ثم خرج في الممر وهو يصرخ
( اين الطبيب الموجود هنا ؟!!!! ...... )
و تردد صوته المجنون في أرجاء المكان الساكن .... ثم لم يبلث ان شعر بالغباء وهو يهتف
( انا اتصرف كالحمقى !! ........ )
فاندفع داخلا مرة اخرى وهو يلتقط سماعة الهاتف الداخلي صارخا بانه يريد الطبيب حالا ...
بينما عيناه كانتا على بشرى التي تتلوى و تتأوه .....
لكن و قبل ان يميل اليها ... كان قد جاء الطبيب مسرعا وهو يقول باهتمام
(مساء الخير سيد وليد ..... ها أنا هنا ...... )
أشار وليد الى بشرى التي كانت تصرخ و صرخ هو الآخر
( انظر اليها ..... لا أعلم ما بها ... انها تصرخ منذ اكثر من ساعة ...... )
اقترب الطبيب منها سريعا و بدا يفحصها بحرص و يسألها ... بينما هي تصرخ
( ظهري يؤلمني ......... يقتلني .... )
قلبها على ظهرها بحذر ... ثم اخذ يزيح الفستان عن كتفيها ببطىء شديد ... فعقد وليد حاجبيه و قال برفض
( هل هذا ضروريا ؟؟ ..... انها المرة التي ارى بها فحصا يتطلب خلع الملابس كلها !! ... )
نظر اليه الطبيب متعجبا و هو لا يصدق ان شابا متحضرا على ما يبدو مثله ... و لا يزال حساسا لتلك النقطة !! ... بل و مبالغا في ردة فعله و كأنه سيغتصب زوجته !!! ...
الا أنه تكلم بهدوء و صبر
( لن أخلع ملابسها كلها ..... سأكشف ظهرها فقط لأرى ما يؤلمها ..... )
هتف وليد
( لما لا تضع سماعتك فوق الفستان ؟!!!! ..... )
رد الطبيب بنبرة جليدية بدأت تفقد صبرها
( لن استخدم السماعة .... اريد فقط النظر الى ظهرها .... )
صرخت بشرى فجأة بقوة .... مما جعلهما يصمتان , بينما التفت الطبيب اليها و اكمل ازاحة الفستان عن ذراعيها حتى انزله الى خصرها ....
حينها عقد وليد حاجبيه بشدة و هو يقول بصدمة
( ياللهي .. ماهذا ؟!!! .......... )
فقد كانت هناك بقعة كبيرة حمراء منتشرة على جانب ظهرها ... متورمة بشدة و متشققة ... و متعددة الألوان ما بين الأحمر و الأبيض .....
اخذ الطبيب يفحصها و كلما لامسها ... كانت بشرى تصرخ بشدة ....
هتف وليد فجأة بتوتر
( ما هذا ؟؟ ...... لماذا لا تجيبني ؟؟؟ .... )
التفت اليه الطبيب و قال بتعجب
( هل انتما متزوجان حديثا ؟؟؟ ......... )
رد وليد بسرعة
( بل منذ عدة أشهر ....... )
عقد الطبيب حاجبيه وهو يقول مستغربا
( و كيف تكون زوجها و لم ترى ظهرها ؟؟!! ..... لقد اخذ هذا التورم فترة طويلة كي يصل الى هذه المساحة !!! .... )
شعر وليد بالإرتباك فجأة من تلك الملاحظة التي لم يحسبها .... الا أنه قال بنفاذ صبر
( حسنا دعنا نهتم بالأهم ..... ماهذا ؟؟!! .... هل هو شيء خطير ؟؟ .... )
قال الطبيب بهدوء
( هو على الأغلب مرض هرموني ... لكن سنأخذ منه عينة و نحللها ... و نجري بعض التحاليل , سيحتاج الى وقتٍ طويل حتى يتحسن ... و الى هذا الحين سيكون الألم مبرحا .... سأحقنها بمسكن قوي لأنها لن تتحمل الألم .... )
اقترب وليد ببطىء من بشرى و اخذ يمسح على وجهها برفق وهو يهمس
( لماذا لم تخبريني به من قبل ؟!! ........ )
الا أنها كانت تتأوه و تبكي بقوة و لم يبدو عليها انها قد سمعته ....
التفت وليد الى الطبيب الذي كان ينتظر حضور المسكن الذي طلبه ... فقال بتوتر
( هل في الأمر خطرا ؟!! ...... )
قال الطبيب بصدق
( لم يكن يجب تركه حتى هذه المرحلة و كل هذه الفترة .... انه يحتاج الى علاج مكثف و طويل .. فهو ليس مرضا جلديا ... انما خاص باختلال في بعض خصائص الجسد المعقدة .... لكننا لن نجزم بشيء قبل ان ناخذ منه عينة و نحللها و نجري التحاليل ... الان فقط سنعطيها المسكن .... )
شحب وجه وليد وهو يمسد وجهها الشاحب المغرق بدموعها .... ممسكا بيدها الهشة بقوة وهو يشد عليها ..
ثم قال بتوتر و اختناق
( لكن لم يسبق لها أن تألمت قبلا كي أتنبه !! ........ )
رد الطبيب بتأكيد
( هذا مسحيل .... من المؤكد انها تألمت طويلا , لكنها لم تخبرك ... كما لم تخبرك بتلك البقعة التي بدأت في الانتشار على ظهرها ..... )
ظل وليد ينظر الى بشرى التي كانت تبكي ... نائمة على بطنها و الغطاء الأبيض يحرق ظهرها بشدة ...
فقال باختناق
( انا متأكد أنها لم تصرخ قبلا .......... و الا كنت سأسمعها , .... أنا أذني ترافقها اينما ذهبت ... )
قال الطبيب بهدوء
( ربما لم يصل الألم حد الصراخ بعد و ان كنت أشك بذلك ايضا .... لكن اليوم فهي لم تتحمل الحرارة و احتكاك ظهر المقعد بظهرها .... الالم حينها يبدو من يحك جلدا متسلخا ..... )
ابتلع وليد ريقه بصعوبةٍ و ألم ... و اخذ يلامس كتفها الظاهر من تحت الغطاء وهو يهمس لها برفق
( لا بأس .... تحملي قليلا .... الآن سيزول الألم ..... )
فسأله الطبيب فجأة
( زوجتك ليست حامل ... اليس كذلك ؟!! ..... )
انتفض وليد ناظرا اليه بصدمة .... ليس من استحالة الاحتمال , و انما لأن هذا هو تحديدا ما كان يفكر به منذ عدة ساعات ...
بقى صامتا ... مشدوها ... فقال الطبيب بقلق
( يجب ان تكون متأكدا .... لأن المسكن الذي سأحقنها به لا يناسب الحمل .... و الأهم ... انه ما أن يتم تشخيص المرض فستخضع لعلاج قد سيبب التشوهات للجنين بنسبة عالية ..... )
كانت بشرى قد توقفت عن البكاء و هي ترفع رأسها قليلا لترى الصدمة على وجه وليد ... فهمست بتأكيد و اعياء شديد و هي تشد على قبضته
( انا لست حامل يا وليد .... أنا متأكدة ....لقد اخبرتك ..... )
كانت كل كلمة تستهلك طاقتها كلها ... الا انها استجمعت كل قواها كي تؤكد له الا يخشى شيئا و الا يرتعب ..
الا أن وليد نظر الى الطبيب و قال بصوت قاتم غريب
( هل يكون من اعراضه ... الدوار و الغثيان المستمران ؟؟ ....... )
تنهد الطبيب بقنوط قبل ان يقول
( ليس حسب علمي للأسف .... أعتقد انه يتوجب علينا طلب اختبار حمل من صيدلية الفندق قبل أن نتسرع ... و هذا اجراء مفروغ منه في هذه الحالة ..... )
نظر وليد الى عيني بشرى بتعبير ارسل الرعب الى اوصالها ... فصرخت باعياء
( لست حامل .... صدقني ..... )
ظل وليد ينظر اليها طويلا دون اي اثر للين على وجهه ... الى ان قال اخيرا بصوتٍ لا يحمل اي تعبير
( سأتصل لطلب اختبار حمل ...... )
بهت وجه بشرى اكثر و هي تراه و كمن يقبع على حافة بركان ثائر .... لكنها همست بجهد
( حسنا .... فلنجرهِ ... ليس لدي ما أخاف منه ..... )
و بعد فترة كان يساعدها في المشي حتى تصل الى حمام الغرفة و الاختبار في يده .... فرفعت وجهها المتعرق تنظر اليه برجاء و هي تهمس
( لا تخشى شيئا يا وليد ..... أنا أستخدم وسيلة ثابتة .... لن يكون لك طفلا مني أبدا .... لا تخف ... )
وقفا امام باب الحمام ... فوقف ينظر اليها من علو بنظراتٍ لم تستطع تفسيرها ...
ثم قال اخيرا بصوتٍ صلبٍ جامد
( هيا ..... لماذا توقفتِ ؟؟ ...... )
ابتلعت ريقها و هي تهمس
( حسنا .... اتركني لأدخل .......... )
الا ان وليد قال بصوتٍ مشتد كالوتر
( بل سأدخل معك ............ )
اتسعت عيناها بصدمةٍ و هي تنظر اليه ... ثم همست بغباء
( م ... ماذا ؟؟ ........ )
التوى فمه بابتسامة لا تحمل اي اثر للمرح ... ثم قال بصوتٍ غريب
( انت لست قادرة حتى على اسناد نفسك ...... لا تخبريني بأنكِ تخجلين !!! .... )
ابتلعت ريقها و هي تشعر باهانة و ظلم اكبر من احتمالها .... فهي تعلم انه ما يفعل ذلك الا لأنه لا يثق بها ...
لكن كيف يمكنها ان تخدعه في حمام مغلق ؟!! ....
و ربما يريد انزال المزيد من الذل و الهوان بها ....
ظلت تنظر اليه طويلا بوجهٍ ميت .... قبل أن تهمس بخنوع
( تفضل ....... لكنك ستندم على هذا التصرف حين تتأكد بأنني صادقة ...... )
قال وليد بصوتٍ جاف
( سأتعامل مع الأمر لاحقا ...... هيا ادخلي ...... )
بعد دقائق .... كانت بشرى جالسة على حافة السرير محنية الظهر و الرأس .... تبكي بصمت ... لا تعلم ان كان من الالم الذي لم يبارحها حتى الآن و لا أحد يشفق عليها كي يمنحها مسكنا ....
أو من تصرف وليد الذي كسر المتبقي من نفسها المهترئة ..... بينما كان هو واقفا عند نافذة الغرفة ... ينظر الى الظلام الممتد امامه دون أن يبدى أي تعبير أو تصرف .... فالصمت لازمه تماما بعد آخر كلمة نطق بها ...
رفع معصمه ينظر الى الساعة .... طويلا جدا ... ثم قال أخيرا بجمود و بلا حياة
( مر الوقت .........)
انتفضت بشرى مكانها و استدارت اليه برعب ... الا أنها نهرت نفسها , لماذا ترتعب و هي واثقة من أنها لم تخدعه و قد كانت صادقة تماما ....
لكن عيناها المبللتين و المتسعتين أخذتا تراقبان وليد وهو يسير حيث الإختبار الموضوع على الطاولة ,,,
فلهثت بتوتر متشنجة و هي تنتظر النتيجة مثله تماما .....
ابتلعت رقها بصعوبة وهي تراه يقف أمام الطاولة ... ينظر الى الإختبار و يداه على وركيه بتحفز ....
فحاولت قراءة ملامح وجهه بيأس وهو ينظر اليه دون ان يرفعه ..... و ساد صمت غريب و كأنه قد تحول الى تمثال من الحجر .... و كانت كمن يساق الى حبل المشنقة .... لكنها فقدت صوتها و فقدت حتى الإحساس بألم ظهرها ... فالرعب خير مسكن لها ....
و حين اوشكت على الإنهيار ... رفع وليد وجهه الحجري اليها بشكلٍ غريب ... قبل أن يقول أخيرا بصوتٍ شطر قلبها و أزهق أنفاسها
( خطان أحمران !!! .......... )
و هنا عرفت معنى الإرتياع بحق !!! .........................
.................................................. .................................................. ......................
استيقظ من نومه متململا ... وهو يتمطى بتذمر , فهو لم يكد ينام أكثر من ساعتين فقط على الأرجح .....
منذ أن تركها ككل ليلة و ابتعد الى ..... غرفته !! .....
لقد عاد معها الى البيت في نفس اليوم الذي أوصلها به بعد مباراة محمد .... و كم كان ذهولها عنيفا و هي تراه يخرج معها بهدوء .... الى أن وصل الى باب البيت ... و ما أن فتحه حتى استدار اليها قائلا بتعجب
( ألن تدخلي ؟!! ........... )
لن ينسى ابدا الى آخر العمر ملامح وجهها في تلك الحظة .... من الذهول الى الصدمة و حتى الشهقة العالية ... و جريها خلفه ... بينما استدار عنها مجبرا نفسه على الهدوء و السيطرة على الذات ....
لقد صدمها صدمتين ...
صدمة برجوعه الى البيت دون سابق انذار .... و صدمة انتقاله الى غرفة اخرى منذ حينها !! ...
ثلاثة اسابيع حتى الآن وهو يلتزم غرفة أخرى .... و قد ساعده ذهاب محمد الى والدته ... كي لا يشعر بهذا الخلل المسيطر على البيت ....
كانت مذهولة و لم تقوى حتى على سؤاله ....
و في الصباح كان يكلمها بمنتهى التهذيب و كأن أمورهما قد تعدلت ....
تدريجيا عاد الى طبيعته في التعامل معها ... مهذبا رقيقا ... مراعيا لها ..... و هي تحاول ان تتلقف منه كل تلك الرقة التى اشتاقت لها ...
لكنهما كانا كممثلين فاشلين ... يدعيان الغباء ....
فهو يتظاهر بأن حياتهما عادت طبيعية تماما .... و في المساء يلزم غرفته المنفردة ...
و هي تتقبل كل حنانه برقة و براءة ... بينما لا يزال العتاب يظلل نظراتها من معاملته لها الليلة التي قضتها معه في شقته ..... و لم تجرؤ حتى على سؤاله عن سبب التزامه غرفة اخرى بعيدا عنها ...
لقد عاد اليها بكل رقته و طيبته ... لكنه هجر فراشها ....
و شيئا ما من تملكه الزائد ..... فلم يعد ذلك الخانق لها و يشهد الله كم يتطلبه ذلك من السيطرة على الذات
فلقد بدأ خطة الرجوع و عليه ان يتحمل تبعاتها ....
و قد نجح الى حدِ بعيد لمدة ثلاث اسابيع من الرقة و الدماثة .... و البعد عن التملك و الدلال الزائد ...
و كان هذا يتطلب ان يبتعد عنها ليلا ... كي لا تسيطر عليه عواطفه الجامحة .... و تنهار خطته المتأنية قبل حتى أن تبدأ ....
الى أن جائت ليلة أمس .... ليلة زفاف وعد و أختها .....
هو نفسه مذهولا .... لقد عشقها بزفاف وعد ... و عاد و عشقها مجددا في زفاف وعد الثاني !! ....
لقد كانت جميلة في عينيه ... حتى أنها فاقت جمال العروستين .... هكذا رآها بفستانها البسيط من الدانتيل عينيها و كأنها قطعة شوكولاه مزغرفة ....
و شعرها المتحرر بسيطا على ظهرها دون اي قيود ....
كانت دافئة جدا .... و قد شعر بقلبه يتحطم مع كل ابتسامة منها عن بعد ....
حتى انها همست له بكلمة " احبك " ... عن بعد لحظة عقد القران ... و انسابت دموعها مع مراسمه و كلمة المأذون .....
لقد تجرأت لأول مرة منذ ثلاث اسابيع و همست له وهما في السيارة في طريقهما للبيت
" لقد تمنيت أن أرقص معك ...... "
لا يعلم كيف تمكن وقتها من الا يدخل في احد اعمدة الإضاءة على الطريق ... الا أنه لم يرد عليها ...
لأنه لو رد ... فسيخر امامها على ركبتيه وهو لن يعتبره ضعفا ابدا .... لكنه لم يشأ أن يضيع لحظة الصلح الخاصة بينهما و التي يعمل على الإعداد لها بكل طاقاته ....
و ما ان دخلا الى البيت ... حتى تمنى لها ليلة سعيدة و توجه الى غرفته المشؤومة !! ...
لكنها نادته بتعب
( حاتم ....... )
وقف مكانه دون ان يستدير اليها ... فقالت بخفوت
( سريرك ينتظرك حتى و إن لم تقربني ....... )
لقد زال العتاب من عينيها و هي من بادرت بالخطوة الأولى متعبة .... مجهدة الصوت ...
حتى و ان لم تقربني !!!!!!
هل هي مجنونة ؟!!! ... هل تظنه ممكنا ؟!! .... انه يمنع نفسه عنها بصعوبةٍ لا تغتفر في حق نفسه ...
و يعلم انه يبني أساسا أكثر قوة ... و يمنحها الحرية و المساحة التي لطالما طلبتها دون ان يشوش عليها بعواطفه ...
فتلجأ الى التصرف من خلف ظهره ككل مرة و تطعنه بما تفعل ....
انه يتضور جوعا لها ... خاصة بعد تلك الليلة الأخيرة بينهما .... و كلما استبد به الشوق كانت تفاصيل تلك الليلة حاضرة في ذهنه ... ليغمض عينيه و يتذكرها في غرفته المظلمة الخالية من عطرها ..
كانت سخية محبة .... و مع ذلك أغضبته مجددا , ....
نهض من سريره فجأة يزفر بعنف .... لقد حل الصباح و التفكير لم يغادره بعد ..
كيف استطاع ان يرفضها ليلة أمس ؟!! .... فلتذهب الخطة الى الجحيم , لقد تعب و أتعبها معه ....
انها زوجته ... حبيبته .... هدية القدر له و التي ما ظن ابدا ان تكون له في اشد اللحظات استحالة ....
اندفع فجأة واقفا و قد بدأ صدره في الإنفعال سريعا .....
الليلة سيعود الى سريره .... و سيعمل الا يعطله ذلك عن التخطيط لعلاقتهما معا ... يتمنى ....
و حين اتخذ القرار كانت قدماه تقودانه باشتياق اليها .... يبحث عنها .... و يأخذها بين أحضانه ....
خرج من غرفته وهو يسرع الخطا الى غرفتهما .... و فتح الباب دون حتى ان يطرقه ....
هامسا بقوة
( كرمة ............. )
الا أنها لم تكن في الفراش .... رغم ان الوقت لا يزال مبكرا للغاية ....
اتجه الى حمام الغرفة و فتحه ... فوجده خاليا كذلك ..... فعقد حاجبيه وهو يشعر بالتوتر ...
فاندفع خارجا الى المطبخ .... حيث الثلاجة مليئة بالحلوى التي تعوضها عن غيابه .... لكنها لم تكن هناك ... فأسرع الى الغرفة الخالية التي قامت بطلائها .. عله يجدها هناك ... لكنه أيضا وجدها خالية ...
حينها بدأ جسده يتوتر وهو يهتف مناديا بصوتٍ عالٍ
( كرمة !!!!! ...... )
لكن لا مجيب ...اليوم عطلتهما من المصرف ... لذا أين يمكنها أن تكون متواجدة في هذا الوقت من الصباح الباكر .... الا اذا ..... كانت قد هجرته !!! ...
عند هذه النقطة صرخ عاليا في منتصف البيت
( كرماااااا ....... )
لكنه تأكد من خلوه !! .... فهي لم ترد على صرخته المدوية ....
اندفع كالمجنون في اتجاه الغرفة كي يبدل ملابسه و يخرج باحثا عنها ... فوالله لن يسمح لها بهجره أبدا , انها المعجزة التي تحققت له .... و ليس من حقها أن تهجره .... لقد أغضبها و هي أغضبته عشرات المرات من قبل ...
لكن الفراق لن يحدث ..... و يقسم على ذلك .....
توقف فجأة حين سمع جرس الباب .... فجرى اليه يفتحه بقوةٍ وهو يهتف لاهثا
( كرمة !!! .......... )
لكنه وجد أمينة و محمد يقفان وهما ينظران اليه بتوجس .... فقالت أمينة بارتياب
( لا تخبرني أنكما تمثلان دور طائري حب و تلعبان الإختفاء !!! .....اللهم عوض علينا عوض الصابرين )
قال حاتم وهو يلهث بقلق
( ما الذي أتى بكما الآن ؟!! ...... )
تراجعت أمينة خطوة و هي تمسك بذراع محمد قائلة
( تعال لنخرج قليلا يا محمد .... من الواضح أنهما يلعبان لعبة خارجة عن الآداب العامة .... )
الا أن حاتم هز رأسه وهو يهتف
( توقفي عن تلويث عقل الصبي يا أمينة ........ قصدت أن الوقت لا يزال مبكرا .... )
قالت امينة
( مبكرا من عمرك يا روح امينة !! ..... لقد أخبرتك امه أنني أنا من سأحضره الى البيت الآن و في هذه الساعة .... أم تراك تعيش شهر عسلٍ ثان بعد الأول الذي كانت تعاني فيه زوجتك من هلاوس سمعية و بصرية ...... )
أغمض حاتم عينيه وهو يتذكر بالفعل الموعد الأخير الذي حددته داليا .... لقد غيرته عشرات المرات حتى أصابه الإرتباك ....
تنهد حاتم وهو يبتعد عن الباب قائلا
( نعم .... نعم ,..... تذكرت الآن .... ادخلا ..... )
دخل محمد وهو يقول
( أنا ايضا اشتقت اليك يا أبي ....... شكرا على السؤال ... )
ضربه حاتم على رأسه حتى تناثر شعره وهو يقول
( لا تعش في الدور أكثر من اللازم .... لقد كنت معك أمس صباحا و نحن نشتري طلباتك التي لا تنتهي ... )
قالت أمينة و هي تنظر يمينا و يسارا ...
( أين المعدولة ؟!! ......... )
زفر حاتم بجنون أعصاب وهو يقول
( استيقظت اليوم و لم أجدها ........ سأذهب للبحث عنها ... )
قالت أمينة بيأس و امتعاض
( هل تشاجرتما مجددا ؟؟!! ....... عامة البيت التي تترك بيت زوجها , لا تستحق أن يظللها جناحه مجددا .... و رغم معرفتي بأن جناحك منتوف الريش و المتظلل به مفضوح ... الا أن الباب يمرر جمل , اتركها الى أن تعود من نفسها ...... )
قال حاتم بقوة
( سأعلمها الأدب يا امينة على فعلتها .... انتِ محقة تماما , لكن بعد أن أعيدها ...... )
كان محمد ينقل نظره بينهما بصمت وهو يحمل حقيبته تحت ذراعه ... ثم قال ببساطة
( هل بحثت عنها في البيت كله أولا ؟!! ....... لا أظن كمرة قادرة على هجرك .... انها تتمتع بخاصية الإلتصاق العاطفي ... تمنحها لكل من ترتبط به و لا يمكن لأحد أن ينتزعها الا بانتزاع قطعة من جلده معها .... لذا اصرف عنك فكرة الهجر تلك ..... )
كان حاتم ينظر اليه صامتا ... و قبله يخبره ان ابنه محق .... ليس هذا طبع كرمة ...
الهجر لا تتخذه الا بعد ان تموت روحها من سنواتٍ طويلة ....
لكن اتراه يبالغ في قيمته عندها ....
تنهد بعنف وهو يقول بتشنج
( انا لن أقف هنا لأضيع المزيد من الوقت في الكلام ..... كرمة ليست في بيتهما , زوجتى ليست في بيتها .... و هذا كفيل بأن يفقدني عقلي .... )
قال محمد بهدوء و سيطرة
( تخيل نفسك كمرة .... أين يمكن أن تتواجد في مثل هذا الوقت ؟!! ......)
أخذ حاتم يفكر ثم قال بتوتر
( في المطبخ .............. )
قال محمد
( جيد و لو كنت كمرة يائسة حزينة و تعاني من حرمان عاطفي ..... أين تتواجد ؟!! ......)
قال حاتم مرتبكا
( لا أعلم ........ أين ؟!!!...... انتظر لحظة , من اخبرك عن ..... ما تصفه بالحرمان العاطفي ؟!! ..)
قال محمد يهز كتفه
( أنت تنام في غرفتي ..... و بالمناسبة , ستخرج أغراضك منها حالا ...... يمكنك النوم على الأريكة ... طالما أخذت موقفا فالتزم به كي لا تتضرر صورتك كزوج محترم ... مهما بلغ حجم المعاناة ....)
قال حاتم متشنجا
( من الواضح أن بينك و بين كرمة حديثا طويلا ..... انطق يا ولد ... أين هي ؟؟ ..... أنا غير مسيطر على أعصابي الآن ...)
قال محمد وهو يهز رأسه يأسا
( كمرة لم تخبرني أنها سترحل ...... لقد أخبرتني فقد أنك تحتل غرفتي و تستخدم مشغل الاسطوانات الخاص بي .... كما أنه في التصليح الآن لأنك حشرت به قطعة من الورق ..... )
ضيق حاتم عينيه وهو يقول من بين أسنانه مهددا
( أين ...... كمرة ..... يا محمد ؟؟! ......)
ارتفع حاجبي محمد وهو يقول
( هذا الإسم خاص بي ..... انه اسم دلالها الذي ابتكرته أنا...... و ليس كووو كوووو !!! ... يعع !! ...أشعر و كأنها صدر دجاجٍ مخلي ... )
رفع حاتم أصابعه ليتخلل بها شعره يكاد أن يقتلعه من جذوره .... فقال محمد أخيرا مشفقا عليه
( لقد كلمتني فجرا و كانت تبكي .......)
اتسعت عينا حاتم بذعر .... كرمة , قطعة الحلوى الخاصة به ... و التي أقسم الا يبكي عينيها يوما !! ...
أمضت ليلة كاملة من البكاء و لم تجد سوى ابنه كي تلجأ اليه .... بينما هو على بعدِ أمتارٍ منها !.....
همس حاتم أخيرا باختناق
( لقد حنثت بقسمي لها ..... و أبكيتها ..... )
لكنه رفع وجهه بتصميم الى محمد ثم أمسك بكتفيه قائلا بقوة
( محمد ...... هل أخبرتك أين ذهبت ؟!! ....... أرجوك أخبرني .... خاطب الضمير الوراثي بداخلك ... واعتبرني والدك ..... )
قال محمد ببساطة
( لم تخبرني أين ذهبت صدقني .... لكنها أخبرتني سرا .....)
عقد حاتم حاجبيه وهو يقول بلهفة قلقة
( ما هو ؟!! .......... )
قال محمد ببراءة
( و كيف يكون سرا لو أخبرتك ؟!! ...... )
قال حاتم ملتزما آخر ذرات الصبر
( محمد ....... تذكر الضمير الوراثي ...... )
هتف محمد
( الضمير الأخلاقي أهم .... أيها الوالد .... المربي .... المعلم .... )
هدر حاتم بصوتٍ زلزل المكان
( اين كمرة ؟!!! .............. )
قال محمد متنهدا .....
( هل تعد ألا تبكيها مجددا ؟!! ........ )
هتف حاتم بقوة
( اقسم على ذلك ......... )
قال محمد من بين شفتيه المتكورتين
( طلبو من اللص أن يقسم ........ )
اتسعت عينا حاتم بذهول غير مصدقا ... فقال محمد بسرعة
( هذا مثل تقوله أمينة دائما ..... )
ضربته أمينة لكمة في كتفه و هي تقول
( يا منفلت اللسان .......... انه والدك يا قرد , أنا فقط المسموح لي بأن أقول له ذلك ... )
قال محمد متنازلا اخيرا ...
( حسنا يا ابي .... بعض الجينات الوراثية بداخلي تخاطب مشاعري ..... حين نتكلم عن كمرة مختفية , فنحن هنا نتحدث عن مكان محتمل واحد فقط ..... )
هتف حاتم بلهفة
( ما هو ؟!! ........... )
رد محمد ببساطة
( مائدة الطعام ........... )
اتسعت عينا حاتم فجأة وهو يهتف
( ياللهي , نعم ............. )
و دون كلمةٍ اضافية ... اندفع في اتجاه المائدة , بينما هتفت أمينة ضاحكة من خلفه
( لو لم تجدها هناك حاول البحث تحت الأريكة ..... حيث قتلنا صرصورا الشهر الماضي ... )
ضحك محمد بسماجة وهو يرفع كفه اليها فضربتها بكفها تغمز له ... ثم قالت بامتعاض
( المسكين والدك .... كان مدير مصرف محترما ذات يوم , انظر اليه الان .... يبحث عن زوجته المعدولة تحت الطاولات و مصارف المياه .... )
قال محمد متنهدا
( انه الحب يا أمينة ........ )
قالها بالفرنسية ... فرفعت امينة زاوية شفتها قائلة
( ها ؟!!! ..... من هو الأمور هذا !! ..... )
قال محمد يائسا وهو يهز رأسه
( إنه طفل صغير يلعب أمام الجامع بعد صلاة يوم الجمعة ..... )
جثا حاتم على ركبتيه امام المائدة وهو يبعد احد كراسيها هاتفا همسا كي لا تجفل ... و كأنه يخاطب عصفورة هاربة منه يخشى عليها من الهرب ...
( كرمة !!! ........... )
تسمر مكانه و هو يجدها جالسة على الأرض تحت المائدة ... رافعة ركبتيها الى صدرها .. و دافنة و جهها بينهما ...
انتفض قلبه آلاف المرات وهو يراقبها بهذا المنظر ... ثم تفتت هذا القلب القاسي الى شظايا جارحة مزقت صدره .... الى أي درجة آلمها وهو ينفذ خطته الغبية ....
زحف على ركبتيه الى أن دخل معها ... ثم همس مجددا بخفوت أكبر
( كوكو يا عنقود العنب ......... ردي علي أرجوكِ.... )
ظلت مكانها دون أن ترفع وجهها ... فانحنت عيناه ألما ... و التوت شفتاه وهو يهمس
( الهذه الدرجة آلمتك ؟!! ........ ليتني أموت اذن .... )
رفعت رأسها بسرعة و هي تهتف
( اخرس ......... )
كان يعلم أنها الكلمة الوحيدة التي ستجعلها ترفع رأسها ... اليه .... و ليتها لم ترفعها ....
فقد رفعت وجها مغرقا بالدموع و عينين متورمتين ....
حينها همس متأوها
( أستحقها ..... لأنني أبكيت هاتين العينين ...... )
هزت رأسها نفيا .... ثم همست بخفوت أكبر
( قلت لك اخرس ..... لا تمزح في هذا الأمر ... )
قال بصوتٍ متحشرج
( لست أمزح ............. )
أغمضت كرمة عينيها و أطرقت برأسها فقال حاتم يترجاها
( لا تخفضي وجهك عني هكذا ؟!! ...... اين كرمتي التي كانت تركض خلفي طوال الفترة الأخيرة , و التي على ما يبدو أنني لا أستحقها ..... )
انسابت دمعتان أخرتان على وجنتيها بصمت و هي تنظر اليه ... ثم همست بضعف
( لا تتركني يا حاتم .... أرجوك ...... لم أقصد أن أفعل ذلك ... )
عقد حاجبيه وهو يقول بحيرة
( ماذا ؟!! ................. )
أطرقت بوجهها مجددا و هي تهمس باختناق
( لا تكرهني ......... لن أتحمل ذلك ..... )
قال حاتم بتوتر
( ماذا فعلتِ مجددا يا كرمة ؟!! ...... لا تجرحي رجولتي مجددا رجاءا... أنا لا زلت أحاول التوازن ... )
مطت شفتيها ببكاء صامت ... و دون كلام رفعت شيئا ما... أبيض اللون أمام عينيه ....
ظل حاتم صامتا ... غير مستوعبا للحظة .... ثم فغر شفتيه ببطىء .... و جرس عنيف يدق برأسه
وهو يرى ذلك المستطيل الأبيض ... و الملون بخطين حمراوين ....
فاتسعت عيناه بذهول و صدمة ...... و حين طال الصمت , همست كرمة من بين دموعها
( لقد نجحت خطتي التي جعلتك تحتقرني ... و الطفل الذي تمنيته العمر كله , جاء في هذه الليلة الكارثية ... )
كان يحاول جاهدا التنفس .... أخذ شهيقا ... زفيرا ..... شهيقا ... زفيرا .... شهيقا ... زف...
هتف فجأة بذهول
( هل أنتِ ........ حامل ؟!! ...... )
أومأت برأسها المطرق دون أن ترفع وجهها اليه .... حينها لم يتمالك نفسه وهو يصرخ محيطا فمه بكفيه
( زوجتي حااااامل يا بشر ..... زوجتي حااااااااامل يا شعب .... كرمة حاااااااامل أخيرا ... )
انتفض كلا من محمد و امينة وهو في المطبخ يعدان الفطور على صوت صراخ حاتم ... فقالت تمط شفتيها
( ألم أخبرك للتو أنه كان رجلا محترما عاقلا ذات يوم !! ....... سيفضحنا في المنطقة .... )
قال محمد بقنوط
( المهم أن يغادر غرفتي .... بعض المساحة من الخصوصية قبل البكاء و العويل و تغيير الحفاضات ... نحن مقبلين على أيامٍ لا يعلم بها الا الله ...... )
كانت كرمة تنظر الى حاتم الذي يصرخ بعينين مجهدتين .... متعبتين ... غير مصدقتين لردة فعله ....
غير قادرة على رعاية هذا الأمل ....
فمنذ أن علمت بحملها فجرا ... و هي تعاني من ارهاق عنيف في المشاعر ...
ما بين فرحة غير مصدقة ... و بين خوف من أن يكره حاتم ذلك اليوم الذي تكون فيه طفلها ... حلمها ...
و بعد أن مكثت تحت طاولة أفكارها طويلا ... أدركت اخيرا أن حاتم لديها أهم .... و هي لم تستخدمه يوما لمجرد أن تكون أما .... ..... بل تريده أن يكون هو والد أطفالها ....
بعد أن توقف حاتم عن الصراخ لاهثا ... نظر اليها بصمت ... فشهقت بارتياع و هي ترى بأم عينيها دمعتين تنحدران من عينيه ....
همست كرمة بهلع
( حاتم !!! ......... )
فأجابها بخفوت مهيب
( لقد جعلتك أما ........... أخيرا .... )
ابتلعت غصة مؤلمة متورمة بحلقها ثم همست و هي تجثو على ركبتيها امامه ... و تحيط وجهه بكفيها
( ليس مهما ...... ليس مهما ....... أنت عندي الأهم ..... )
الا أنه همس باختناق و كأنه لم يسمعها
( لقد جعلتك أم ....... الحمد لله ..... الحمد لله ..... )
و دون كلمة أخرى , جذبها الى أحضانه بقوةٍ عنيفة .... فارتمت على صدره و أخذت تبكي و تبكي ... الى أن استلقى بها ببطىء و هي لا تزال تبكي على صدره .... بينما همس
( أنتِ حامل يا كرمة ........ )
أومأت برأسها و هي تشهق عاليا جدا
( نعم ..... أنا حامل ..... أحمل جنينا في أحشائي ... روحا تدب بين ضلوعي ..... )
رفع يده ليضغط بها أعلى انفه ... بينما حلقه متورم بشدة ... و صوت شهيقها العنيف , كان في اذنيه كأعذب الألحان ....
رفع وجهها المتورم اليه اخيرا .... ينظر الى عينيها بعينيه الحمراوين ثم وضع كفه على بطنها بخفة ... ضاغطا عليها قليلا و همس
( طفلنا ينمو هنا ..... بجسدك الأمومي بالفطرة .... )
أومأت برأسها و هي لا تزال تبكي بعنف .... فقال بخفوت شديد
( و ظننتني سأكرهك لأنه تكون في تلك الليلة ؟!!! ....... )
عادت لتومىء برأسها و هي تنتحب بصوتٍ عالٍ .... فأخذ نفسا مرتجفا , قبل أن يقول بصوتٍ مختنق
( اذن دعيني اقص عليكِ قصة ...... كان هناك رجلا , حياته هادئة .مرتاحة ....
انتقل ذات يومٍ الى عملٍ جديد , و مع أول خطوة خطا بها الى المكان ... ضربت قلبه عاصفة مدوية .... وهو يقابلها للمرة الأولى ..... كانت طوفانا من الطاقة و الجمال .... كانت الحياة ..... جعلته يبتسم مبهورا وهو لا يدرك حتى ما انتابه .... و مع ابتعادها عنه .... كان يقف آخر الطريق مسمرا مكانه وهو ينظر الى موجات شعرها المتراقصة خلفها .... و بقلبه حسرة لم يستطع تفسيرها ......و باتت هاجسه من يومها .... كانت حمله المستحيل ....
لو كتب القصة في كتاب الحكايا ,,.... لكتب أن جنية صغيرة همست له في أذنه تقول ,,,
سيمر عام و في نفس هذا اليوم من العام المقبل ... ستحمل تلك المرأة طفلك بين احشائها ........ )
صمت و قد اختنق صوته بعنف ..... بينما همست كرمة مبهورة و مختنقة مثله
( لم أفكر في الأمر بهذه الصورة !! ...........)
ابتسم وهو ينظر اليها مومئا برأسه ... ثم همس بعدم تصديق
( لقد حدث الحمل في نفس تاريخ اليوم الذي قابلتك به للمرة الأولى !! .......)
عضت كرمة على شفتيها كي تمنع نحيبها العنيف ... ثم همست باختناق
( الا أستحق قبلة اذن على هذا الإنجاز ؟!!! ....... )
ابتلع ريقه بصعوبة ... ثم همس بصوتٍ متحشرج
( تستحقين يا كوكو يا عنقود العنب ... لكن هلا منحتني الفرصة فقط كي ألتقط أنفاسي قبل أن أفقدها مجددا في قبلتك !! .......)
همست كرمة و هي لا تزال تبكي بين أحضانه
( على الأقل سيف طاف البلد شرقا و غربا بحثا عن وعد .... بينما اقتصر بحثك أنت بين الكراسي و تحت الطاولات ...... كم أنا مسكينة و متواضعة المتطلبات في هذه الحياة !! .....)
مط شفتيه يفكر في الأمر من هذه النقطة .... ثم قال بخفوت
( وجهة نظر سليمة ..... اذن هلا دخلنا غرفتنا من فضلك ؟؟ .....)
قال كرمة باختناق
( كنت أود ذلك صدقني .... لكن مفاصل ساقي تحولت الى اسفنج مبتل من شدة الإنفعال الذي ممرت به للتو .... دعنا نبقى هنا قليلا حتى نتعافى مما نمر به هذه اللحظة ...)
أومأ برأسه وهو يمسح عينيه بكرامة رجولية .... و ما أن التقط نفسها قويا حتى التفت عليها فجأة وهو يسحق اسمه الذي خرج من بين شفتيها مذعورا ....
.................................................. .................................................. .....................
جالسة خلف مكتبها مساءا ... مرتدية فستانها الأبيض ذو الزهور الصفراء ... منسدلا على ساقيها ...
بينما التف شعرها الأشقر الطويل في ذيل حصان على أحد كتفيها ...
و النسيم البارد من خلفها يطير خصلات ذلك الشعر الذهبي ... بينما تخط بقلمها كاتبة فوق أوراقها البيضاء

" قالت له مبتسمة : لقد نسيت حذائي على السلم ليلة أمس ....
فنظر اليها مبتسما و قال بخبث : لن تكون هذه هي المرة الأولى يا سيندريلا ..... لقد سبق و ضيعتِ حذائك ووجدته لكِ ....
فأحاطت عنقه بذراعيها و هي تنظر اليه مبتسمة هامسة : و هل ستعيده لي هذه المرة ؟!! ...
أحاط بخصرها هامسا في أذنها : لقد أعدتك كلك الى أحضاني .... فهل يصعب علي اعادة حذائك ؟!! ..."

" و كانت تلك هي نهاية قصة وعد .... بينما نامت صديقتها قريرة العين أخيرا و هي تحقق حلما لم تظن ان يتحقق يوما .... فقد حملت طفلا في نفس تاريخ اليوم الذي قابلت به زوجها للمرة الأولى ... و لم يكن كلاهما يعلم حينها ... أنه قد رأى للتو شريك روحه ..... "
كانت تلك بعض المعلومات المسربة من وعد في اتصال مسائي طويل ....
انتفضت ملك في مكانها و هي تسمع صوت طرقة على الباب ... ثم دخل رائف مرتديا حلة بسيطة ... و شديدة الأناقة في نفس الوقت ... مما خطف انفاسها لشدة جاذبيته ...
فقال مبهورا بشكلها
( ألم تنتهي بعد وردتي ؟!! ........ )
ابتسمت و قد أخذت وقتها في تأمله بينما هو يبادلها النظر و عيناه تلتقطان لها صورا من خيال ...
الى ان قال اخيرا بخفوت
( ما هذا الجمال يا ملك !!! ........حقيقة أنتِ أم خيال ؟!! ... )
اطرقت بوجهها الأحمر مبتسمة بسحر خلاب ... مما جعله يتأوه داخليا بما لا يناسب اتزان سنوات عمره أبدا ... بينما قالت ملك برقة
( و انت أيضا ...... لم أرى رجلا مثلك من قبل .... , يخطف الأنفاس )
ابتسمت عيناه لها ..... بينما تسارعت انفاسه قليلا ...
ثم قال اخيرا مسيطرا على انفعاله .....
( ألن تخبريني بما تكتبين به باستمرار ؟؟ ...... )
أغلقت ملك دفترها و نهضت واقفة لتقترب منه و هي تعلم جيدا ان عيناه تلمعان على الفستان الذي يتطاير حول ساقيها .... و ما ان صلت اليه حتى رفعت وجهها اليه هامسة
( أكتب قصة ..............و قد اسمح لك بقرائتها يوما ما .... )
( افتحي الباب .............. )
رافقت ضربة قوية من قبضته المتصلبة على الباب .. صوته الذي زلزل جنبات الغرفة ...

منذ ما يقرب من الساعة و هي في الحمام الذي فرت اليه ... بجنونٍ زادها سرعة كالغزال المرتعب ما أن حصلت على النتيجة ..... محكمة غلق الباب خلفها خوفا من بطشه ...
وهو من جانبه لم يحاول منعها أو حتى الإمساك بها ... غير واثقا في درجة سيطرته على نفسه في تلك اللحظة ... فقد بدا كالمجرمين و السفاحين فقط من نظرة عينيه الحمراوين , على الرغم من تصلب جسده و قبضتيه العنيفتين المغلقتين بشدة الى جانبيه ... لذلك جزءا منه كان ممتنا لإختفائها من أمامه في تلك اللحظة ..
و من وقتها وهو يدور الغرفة كأسدٍ حبيس هائج الروح و الكيان ... متصلب الجسد و العضلات حد الألم ...
كان يشعر بالعالم يدور من حوله في دوائر مجنونةٍ صاخبة ... ذات صراخٍ عالٍ مؤذي ....
و ما أن بدأت أنفاسه تهدأ قليلا من ثورتها العارمة ... حتى استدار ينظر بنظراتٍ سوداء الى الباب المغلق منذ أكثر من ساعة دون أي صوت ....

حينها اتجه اليه ببطىء و ضربه ضربة قوية .. هادرا بها أن تفتح ... الا ان الصمت لم يكون هو الرد الحكيم المناسب الذي يود سماعه في تلك اللحظة ...
خليط غريب من الغضب و الشعور بالإستفزاز بداخله امتزج ب ....... رعب مفاجىء !! ....
هل جعلها خوفها منه تؤذي نفسها !! .....
ربما لم يكن ليخاف على أي مرأة مثلها.. أمرأة تسعى لمصلحتها الخاصة و بيع نفسها ...
لكن بشرى مختلفة !! .... بشرى تعيش كي تؤذي نفسها ....
لذا لم يفكر مرتين وهو يضرب الباب مرة اخرى بقوةٍ أكبر بدت مخيفة في رجتها .... هادرا بعنف و توتر
( بشرى .... افتحي الباب حالا ...)
أقترب بوجهه من خشب الباب يرهف السمع .. عله يسمع صوت بكائها على الأقل فيرتاح , الا أن الصمت زاد من خوفه ... فضرب الباب صارخا
( افتحي الباب ............. )
ساد الصمت مجددا عدة لحظات ... قبل أن يسمع بالكاد صوتها المتراخي المرتعش من خلف الحاجز بينهما و هي تنتحب هاتفة بضعف
( لن أفتح .......... )
أغمض عينيه للحظة وهو يتنفس بعمق ... مريحا جبهته على السطح الأملس البارد .... و صدره يلهث قليلا بشعورٍ غريب ....
لكنه لم يستغرق أكثر من لحظتين .. قبل أن يرفع وجهه و قال بصوتٍ قصف بقوة
( افتحي الباب أو سأكسره ..... و حينها لن تعجبك ردة فعلي .... )
اقترب أكثر من الباب بوجهه ... فاستطاع سماع صوت نحيبٍ خافت , جعله يغمض عينيه مجددا ... ثم نادى بغضب
( بشرى ....... افتحي الباب ... )
صمتت للحظة قبل ان تهتف باختناق بائس
( لن أفتح لتقتلني .......... )
زم شفتيه بشعورٍ عارم من غضبٍ أسود و خوفٍ مجهول .. فقال بقوةٍ ترج الجسد
( وإن لم تفتحي فسأقتلك أيضا .... لكن بطريقةٍ أكثر ألما .... )
اقترب وجهه من الباب مجددا حين سمع شهقة نحيب خافتة ... ابتلع غصة متحشرجة بحلقه ... ثم هدر قائلا
( الا تمتلكين الشجاعة لتقفين أمامي .... )
هتفت من بين شهقاتها المختنقة بكل وضوح و ايجاز
( لا ........... )
صرخ و قد أعماه الغضب طارقا الباب بعنف
( افتحي الباب يا بشرى ..... و كوني قدر تحمل مسؤولية أفعالك التي لا تنظف أبدا .... )
هنا أصبح صوت نحيبها عاليا كالعويل .. و هي تصرخ
( لن أفتح ........ )
حينها لم يتمالك نفسه وهو يتراجع خطوة للخلف , ثم رفع ساقه ليركل الباب بقدمه بكل قوته ضربة لم يتحملها قفلٍ بسيط غير مصمما للغلق بإحكام أصلا ... فخلع من مكانه و انفتح الباب بقوة ...
أحيانا لا يستطيع السيطرة على الغضب حين يتمكن منه ... و كل من يعرفه يدرك أنه ليس من الحكمة الإقتراب منه في تلك الحالة ... و كان عليها أن تدرك ذلك ...
شهقت بشرى بقوة و تراجعت متسعة العينين و هي تراه يقف لاهثا في اطار الباب ... ضخم للغاية ...
يعتبر أضخم رجل رأته في حياتها ... شبابا و قوة ... و غضبه لا يرحم ...
كلما نظرت اليه شعرت بالرهبة من ذلك النبض المحيط به ... و الذي يختلف كليا عن القوة المتراخية المحيطة بكل من عرفتهم قبله من رجال ...
وقف مكانه ينظر اليها و قبضتاه الى جانبيه مشتدتان حتى ابيضت مفاصل أصابعه ...
و لعدة لحظات لم يستطع التقدم أكثر وهو يراها جالسة أرضا ... ترفع ركبتيها الى صدرها و قد أغرق وجهها بالدموع .. بينما انتفخت عيناها المتسعتان المحمرتان وهي تنظر اليه بهلع ...
كان البؤس يحيط بها بكل أشكاله ... و هي جالسة أرضا متجمعة حول نفسها حتى بدا حجمها كحجم مراهقة صغيرة ... بينما عيناها القططية متسعة و متورمة و مرتعبة !!
تبا لذلك ...... إنها لا تدعي الرعب منه ... أنها فعلا مذعورة ....
لقد كان قاسيا عديم الرحمة معها من قبل .... لكن ما فعله لا يقارن بالقذر الذي كانت متزوجة منه قبله ... و الذي أذاقها من فنون الذل و الألم بحجة المتعة المتبادلة ... بينما المتعة المريضة كانت تخصه وحده ...
أما هي فلم تتمتع سوى بايذاء نفسها ... بل و تتلذذ بذلك .... فلماذا تشعر بالذعر منه الآن ؟!!....
بداخله بركان لا يهدأ و لا يرحم .....
بينما جسده يحاول الرضوخ لأوامر عقله بالسيطرة ... بمنتهى الصعوبة ...
كانت هي أول من تكلم ... هذا ان كان عويلها يسمى كلاما .. فقد انتحبت هاتفة و هي تتراجع ملتصقة بحوض الإستحمام
( لم أكذب عليك ......لا تضربني .. )
ظل واقفا مكانه ينظر اليها بصمت ..نظرة جعلتها تتراجع مجددا دون أن تجد مكانا تتراجع اليه أكثر ... بينما هي تنتحب بصوتٍ خافت ... الى أن قال وليد أخيرا بصوت غريب دون أن يتحرك من مكانه
( كنت أعلم أن عدم ثقتي بكِ حتى الآن له سبب وجيه ..... الخداع يسري بدمك يا بشرى و هذا ما لن تستطيعين التخلص منه أبدا ....)
هتفت بقوة و هي تشهق باكية
( أقسم بالله أنني لم .........)
قاطعها بصوتٍ جمدها ...
( لا تقسمي هنا ..............)
نظرت حولها بعينين متورمتين يائستين .... الا انها كانت تعلم أنه لن يصدق قسمها في كل الأحوال , فنظرت اليه بصوت و الدموع لا تنضب من عينيها .... بينما حالتها الصحية كانت في أسوأ مراحلها ....
فأفخفضت وجهها لتدفنه بين ركبتيها و اهتزت كتفاها بنحيبٍ صامت مختنق ....
التوى فك وليد قليلا وهو يراقبها ... ثم قال أخيرا بلا تعبير... سوى نبرةٍ قاسية جليدية
( تعالي لترتاحي .......)
لكنها لم تتحرك من مكانها ... بل ظلت مطرقة و هي تبكي , الى أن قالت بصوتٍ مختنق
( لا أظن أنك تهتم براحتي .... بل أظنك تتمنى موتي ... )
قال وليد بجفاء جليدي ...
( لن أنكر ذلك .... و الآن تعالي ... )
شهقت شهقة كبيرة باكية بسبب كلامه ... و ظلت تدفن وجهها بين ركبتيها و هي تتشبث بهما بذراعيها , فشعر بالندم للحظة من هول ما نطق به للتو ..
لا ... هو لم يتمنى موتها يوما .... هذا ليس صحيحا ...
زفر بقوةٍ كبيرة مثقلة بالهموم و الحمم البركانية الموجعة ... قبل أن يتجه اليها و في لحظةٍ كان ينحني اليها , ليحملها بين ذراعيه , ثم نهض واقفا بها رغم مقاومتها المرهقة الواهية ... و التي سرعان ما انتهت بأن أحاطت عنقه بذراعيها و هي تدفن وجهها بعنقه باكية بخفوت ...
فخرج بها من الحمام ... الى الغرفة , ثم انحنى ليضعها على السرير , لكنها لم تفك ذراعيها من حول عنقه و كأنها تترجاه ... لكنه رفع يديه ليبعد بهما ذراعيها بفظاظة قليلا ... قبل ان يستقيم و يبتعد عنها ... عائدا الى النافذة من جديد ... ينظر الى البحر الأسود أمامه ...
بينما هي تنظر اليه بحزن و أسى ....
كانت مدمرة نفسيا بكل معنى الكلمة ... فمع صدمتها بخبر الحمل و ذعرها مما قد يفعله بها ... كانت تشعر بالخزي من تصرفه معها منذ قليل , ... كانت تود الموت وهو يذيقها الهوان بتلك الطريقة ...
ليس الآن .... ليس بعد كل ما عاشته معه , يعود ليذيقها ذلا جديدا ... لقد أهانها و حقر منها بأسوأ الطرق ...
و ها هي الآن لا تجرؤ على النطق اعتراضا ...
قال وليد اخيرا بصوتٍ غريب جعلها تنتفض مكانها
( ماذا سنفعل الآن ؟؟ ....... )
سرت رعدة باردة كالجليد على امتداد عمودها الفقري ... و هي تنظر اليه بهلع , ثم همست باختناق متوسل
( لم أخدعك أقسم لك ..... لقد نطقت بالحقيقة , أنا لم أتخيل أن أحمل ... و لم ....... )
صمتت فجأة و هي تطرق برأسها تبتلع ريقها باختناق ..
فعقد وليد حاجبيه وهو يستدير اليها ببطىء ... ناظرا الى ملامحها البائسة قليلا ... ثم قال بصوتٍ خطير خافت .. متصلب
( لماذا توقفتِ ؟ ..... تابعي ..... )
لم ترفع وجهها اليه ... و لم ترد .... فصرخ وليد بقوةٍ وهو يضرب الحائط بقبضته بكل عنف
( تكلمي أو أنتزع الكلام من حلقك الكاذب هذا ..... )
انتفضت مكانها قفزا و هي تطبق جفنيها برعب ... بينما شفتيها ترتجفان بشدة ...
ظل مكانه ينظر اليها وهو على وشكِ قتلها بالفعل ... بينما تمكنت هي بمعجزةٍ ما .. من النطق بصعوبةٍ من بين نحيبها المختنق ...
( حملت مرة واحدة ..... من قبل ... )
تسمر وليد مكانه و عيناه تتسعان بذهول ... بينما ارتجفت شفتاه قليلا , قبل أن يعقد حاجبيه مذهولا ... مصدوما ... و كل ما استطاع الهمس به هو كلمة واحدة
( لا ....... لا تقولي ...... )
ابتلعت بشرى غصة بحلقها و هي تبكي بشدة .. ثم همست باختناق
( كنت صغيرة ....... كنت في الثامنة عشر .... )
شحب وجهه حتى بات رماديا .. ميت الملامح ... وحدها عيناه كانت تلتهب بلهيب غضبٍ أسود حالك مشتعل ...
فقال بصوتٍ ميت لا يعرف الرحمة ..
( ابن حرام !! ...... مثلك .... )
انتفضت مجددا ... لكن هذه المرة رافعة رأسها تنظر اليه بعينين حمراوين تقدحانِ بشرر كرهٍ قديم ... و فغرت شفتيها ببطىء .. بينما عيناه تتابعان شفتيها تتشكلان مرة تلو الأخرى و هي تحاول اخراج اللفظ القذر الذي تريده ...
أخذت شفتيها تحاولان الصراخ بأقذر ما تمتلكه ذاكرتها .. لكن شيئا ما أعاق اللفظ في حلقها ..
تحاول و تحاول ... و عيناها تصرخان بالحقد و الكره له ... و كأن عفريت الكراهية قد تلبسها رغما عنها و حول عينيها الى تلك النظرات المشتعلة بالشر ..
و ما أن يئست من المحاولة ... أقفلت شفتيها ببطىء و هي تتابع النظر اليه ... وطال النظر بينهما جدا الى أن قالت أخيرا بصوتٍ ميت ..
( لم أرتكب الحرام أبدا ....... )
و دون كلمة اخرى أبعدت وجهها عنه و نظرت أمامها بكبرياء .... و رقي !!! ...
على الرغم من جنون الموقف بأسره ... الا أنه ذهل من الرقي الذي تصرفت به ازاء نعته لها .... فجعلت منه كائنا دونيا قذر التصرف ... بينما بدت هي .... ياللعجب أكثر رقيا , حين امتنعت عن مواجهة لفظه بما هو أشد ....
و الأكثر غرابة أن أطرق برأسه خزيا أمامها !!! ......
هل تدرك أن كرهه لها قد ازداد ازاء موقفه الحالي ؟!! ....
لكنه قال بصوت آمر ... يريد الحقيقة الصادمة كلها دفعة واحدة .... على الرغم مما ستفعله به تلك الحقيقة , و كيف ستجعل منه أخرقا مهدر الرجولة هذه المرة
( طفل من كان ؟!! .......... )
لم ترد على الفور .. بل لعقت شفتيها بصمت و عيناها لا تبصران من غلالة الدموع المتجمعة أمام حدقتيها ... الى أن همست أخيرا باختناق
( طفل زوجي الأول .......... )
كان وليد يعض على فكه السفلي بقسوة ... وهو ينظر اليها غير قادرا على السماح ... و ما ان رآها صامتة حتى قال بصعوبةٍ
( لا تخبريني ان لكِ ابن و قد تخليتِ عنه منذ زمن !! ........ لن تصلي الى تلك الحقارة ابدا ...مستحيل .. )
انسابت الدموع المتجمعة من عينيها المتقرحتين على وجنتيها بصمت .. الى ان همست اخيرا بفتور ناظرة الى البعيد
( لقد .... أجهضته ........ )
انعقد حاجبي وليد بذهول .... وهو ينظر اليها , لا يعلم الى متى سيتحمل المزيد من الصدمات و الجرائم منها .. فقال بخفوت أجوف
( بهذه البساطة !! .......... )
ابتلعت ريقها و هي تلعق شفتيها مجددا ... ثم همست بخفوت ...
( تزوجت أول من عرفته .... و كان هذا أكبر انجازل لدي حينها , بعد أن نجحت في اجتياز سنوات مراهقتي و أنا لا أزال شريفة الجسد .... كان هذا في حد ذاته نجاح كبير و أنا أحارب وحدي ... معروف أنني بلا اسم أو عائلة .... لذا أعتبر صيدا سهلا لكل من يعرفني .... و ما أن بدأت أدرك امكانياتي حتى ... تمكنت من ايقاع اول زوج .... و كنت غير مصدقة للسهولة التي تم بها الأمر ... و أنني أخيرا سأكون مسؤولة من زوج و لي بيت محترم ... و لن يدوس أحد لي على طرف .... الا أنني عرفت فيما بعد أن تلك المهارة ما كانت الا منتهى الغباء و السذاجة ... فبعد ستة أشهر بالعدد و اليوم ... كان قد هجرني ... تاركا رسالة من سطرين , لا ازال أحتفظ بها حتى الآن .... و في ذلك الوقت , صدمت بمعرفة أنني حامل .... و أنا وحدي و لا يعلم أحد بأنني كنت متزوجة من الأساس ... لذا ذهبت اليه و افتعلت له الفضائح ... فما كان منه الا أن رضخ مؤقتا ... و اصطحبني الى الطبيب ليتأكد من الحمل .... لكن كل ما أعلمه هو أنني نمت و استيقظت .... و لم أجد الطفل .... كان قد اختفى ... )
صمتت قليلا و شفتاها ترتجفان بشدة ... و هي تعض عليهما بقوة و عنف ... ثم رفعت عينيها المتورمتين اليه و همست باختناق
( هكذا .... بمنتهى البساطة كما ذكرت ...... )
التوى فك وليد بصعوبة ... و ضاقت عيناه ألما ... بينما أطبقت شفتيها و هي تعض عليهما شاردة بعينيها الى البعيد ... ثم همست متابعة دون تركيز
( و كي أمنحك الفرصة حتى تحتقرني أكثر .... أخبرك أنني لم أفعل له شيئا .... بل تقبلت التعويض الذي عرضه .... و شعرت أنه أفضل حل , خاصة أن مستقبل هذا الطفل كان ليصبح مأساويا .... أنا وهو دون أي موارد أو مساعدة ..... لم أشعر وقتها أنني خسرت الكثير بصراحة ... )
نظرت اليه بصمت .... نظرة واحدة جعلتها تدرك كيف ينظر اليها الآن ... و كيف يشعر حيالها ....
و هذا ما آلمها بشدة ... لذا همست بخفوت
( لم أخبرك هذا من قبل كي لا تحتقرني أكثر ...... )
التوت شفتيه في ابتسامة مؤذية .... موجعة و متوجعة .... ثم لم يبلث أن ضحك ضحكة ساخرة مريرة و هو يقول
( و كيف تتخيلين شعوري نحوك الآن ؟!! ....... )
أغمضت عينيها بتعب فانسابت دمعتين أخرتين من تحت جفنيها المغمضين ... الا أن وليد لم يرحمها بل قال بقسوة
( و طالما أن الحمل بالنسبة لكِ صفقة خاسرة .... أي سوء حظٍ جعلك تغيري رأيك و تقرري الحمل مني ؟!! .... )
فتحت عينيها المتحرستين و هتفت بتعبٍ و لوعة
( لم اغير رأيي و لم أخدعك صدقني ..... أقسم لك , لم أتخيل للحظة ان أحمل .... حملي السابق مر عليه أكثر من تسع سنوات .... نسيت خلالها كل شيء عن هذا الأمر .... )
صرخ وليد بعنفٍ وهو يضرب الحائط مجددا بعنف
( اذن كيف حدث الحمل تبا لكِ ؟!!! ..... كيف تملكين القدرة على النظر الى عيني و خداعي ؟!! ... )
صمت قليلا يلهث ... ثم قال بصوتٍ مشدود كالوتر ... جاف و خافت و مصدوم
( اتدرين أنني وثقت بكِ دون أن أعي .... و ثقت بكلمتك لمرةٍ واحدةٍ و أخيرة ...... و ماذا كان نصيبي سوى الخذلان مجددا ... )
اسقط ذراعيه و هو يضرب فخذيه بكفيه يأسا .... ينظر اليها و هي تبكي بصمت ...
ثم قال بصوتٍ باهت ميت
( الآن أخبريني ماذا سنفعل ؟!! ........ )
اخذت تلعق شفتيها كالقطط البائسة ... و عيناها لا تجفان للحظة ثم همست بصوتٍ خافت شاحب
( اتصور ما تشعر به الآن .... طالما أنك لم تقرر ولو للحظةٍ واحدة بأنك ستبقيني زوجتك ... )
ضحك بسخرية قاسية وهو يدور في الغرفة هائجا ... مظلم الملامح ثم قال
( و هل تلومينني ؟!! ....... )
عضت على شفتها السفلى بألم و هي شاردة بعيدا ... ثم همست اخيرا
( لا ...... لا ألومك ..... )
عاد ليضحك بسخريةٍ دون اي مرح وهو يستمر في دورانه
( ها ...... أرحتني بهذا ...... )
ظلت بشرى تنظر اليه قليلا بصمت بعيد .. بعيد جدا ... ثم قالت أخيرا بصوتٍ لا معالم له
( سأجهضه ....... )
توقف الزمن فجأة ... و تسمر وليد مكانه وهو ينظر اليها غير مستوعبا لما نطقت به للتو ... و كانت تبادله النظر بنظراتٍ فارغة كشخص ميت .. الى أن قال أخيرا بخفوت
( ماذا قلتِ للتو ؟!! ...... )
بادلته النظر لعدة لحظات قبل أن تهمس بخفوت
( سأجهضه ..... هذا السبيل الوحيد كي أثبت لك أنني لا أخدعك ..... )
ظل ينظر اليها طويلا بصمت الى أن قال أخيرا
( كي تثبتين لي بأنك لم تخدعينني ... تقتلين طفلك ؟!! ....)
ابتلعت ريقها بصعوبة و هي تنظر اليه بنظراتٍ فارغة قبل أن ترفع يديها في حركةٍ لا تكاد أن تكون ملحوظة من شدة اعيائها ثم همست بفتور تسقطهما على الغطاء
( أي مصير ينتظره ؟!! ..... و أي تربية أستطيع أن أمنحها له ؟!! ..... و ماذا عن نسبي المجهول ؟!! ... كلها ليست ميراثٍ يفخر به فيما بعد .....)
أومأ برأسه استهجانا وهو يقول
( هذا العذر مجددا ... اليس كذلك ؟!! ..... )
ابتلعت ريقها و هي تهمس ناظرة بعيدا عنه ..
( ربما كان بالنسبةٍ لك عذرا تافها ... الا أنك لا تعرف مدى صعوبة الحياة حين يكون المرء مجهول النسب ... مرفوضا من الجميع ....)
صرخ فجأة بقوة
( طفلي ليس مجهول النسب ..... أنا والده ....)
انتفضت تنظر اليه متسعة العينين ... بينما تسمر هو مكانه مصدوما من نفسه ...
ماذا يفعل ؟!!! .... كيف انقلبت الأدوار و بات هو من يقنعها بالحمل الآن ؟!!!!
استدار بعيدا عن مرآها وهو شاحب الوجه .... ماذا يفعل ؟!!! ... ماذا يفعل ؟!!! .... و ماذا فعلت به كلمة الإجهاض ؟!!! ....
لقد ادعى الصلابة وهو يسمع قصتها الحزينة..... و تظاهر بالإحتقار ... لكن و ما أن عادت و نطقت كلمة الإجهاض مقترنة بطفله هذه المرة .. شعر و كأن الأرض تميد به وهو يتخيل نفسه محل الحيوان الأول الذي تزوجت به .... يأمرها بالإجهاض ثم يهرب سريعا , متخلصا من كلِ أثرٍ لها !! ..
حين طال الصمت بينهما ... قالت بشرى اخيرا تخاطب ظهره الصلب بخفوت شديد .. متردد
( ماذا تريد اذن ؟!! .... أخبرني بما تريده و أنا سأنفذه ..... )
ماذا أريد ؟!! .... و هل اعرف ماذا أريد حقا ؟!! .... و حتى إن عرفته , فهل أقدر على السير في طريقه للنهاية ؟!!! ...
عاد الصمت مجددا .... الى ان قال أخيرا بصوتٍ جاف ... قاسٍ لا يرق و لا يلين
( لقد وضعتني في محلٍ لا اعرف معه حلا ...... )
همست بشرى بخفوت بائس
( وضعتك ؟!! ...... تجعلني أبدو كمن غررت بك !! .... )
لربما ضحك في وضعٍ آخر من كلامها الساذج ... الا ان عبارتها زادته غضبا .. منها و من نفسه قبلها ....
فقالت مجددا بفتور متألم ...
( لقد أخذت حذري دوما بطريقةٍ دائمة أكثر أمانا من الأقراص...... ماذا كان بإمكاني أن أفعل افضل من ذلك ؟!! ..... طريقة واحدة عرضت علي من قبل و رفضتها تماما , و هي أن أجعل نفسي عاقرا للأبد .... فهل تلومني على ذلك ؟!! ..... )
ابتلع غصة مؤلمة في حلقه وهو يغمض عينيه بأسى .... الا حدود لما تحتويه جعبتها ذات الصديد المتقرح ؟!! ...
فقال بصوتٍ باهت غريب
( لا داعي لأن أسألك من عرضها عليك ....... )
أطرقت برأسها و هي تقول بخفوت
( نعم ..... لا داعي حقا .......... )
الا أن وليد لم يصمت , بل قال بجفاء مشتد
( رابح ؟!! ........... )
أومأت شيراز برأسها دون صوت ... لكنها تذكرت بأنه لا يراها , لذت همست بخفوت
( نعم ............ )
فقال وليد بعد فترة يتابع تحقيقا قديما كان عليه أن يجريه معها من قبل ...
( من المؤكد أنه عرض عليكِ تعويضا سخيا يوازي تضحيتك ........ )
قالت بشرى بخفوت مقررة أمرا واقعا
( نعم ................)
قال وليد بقوة و نفاذ صبر يستنطقها
( اذن لماذا رفضتِ ؟!! ....... )
رفعت اليه وجها , شاحبا حزينا ... ضربه في مقتل بالعينين الخضراوين الميتتين , قبل أن تهمس بخفوت مستسلم
( كان ليوفر علينا الموقف الذي نعيشه الآن ..... اليس كذلك ؟!! ... )
انعقد حاجبيه قليلا بألم ...... و شعر بشيء يطبق على صدره فلم يجد ردا مناسبا لينطق به ... الا لو صرخ بها ان تخرس عما تنطق به ... و حينها سيعود لفضح تناقض مشاعره العنيف في تلك اللحظة ...
لكن بشرى هي من تابعت الكلام فقالت بخفوت غير واثق
( علمت أنه بهذه الطريقة ينتوى زواجا طويل الأمد .... و كان بيننا اتفاقا ..... لذا رفضت عرضه بإجراء عمليةٍ بسيطة تجعلني عاقرا .... )
شعر وليد أنه على وشك الإختناق , الا أنه تماسك و قال بصوتٍ متحشرج
( هل هذا هو السبب الوحيد لرفضك ؟!! ...... )
ظلت مطرقة الوجه ..... لا تملك الجرأة على رفع نظرها اليه ... ثم همست بعد فترة طويلة
( لا اعلم ... لم يكن هذا منطقيا , صحيح أنني لم أتخيل أن أكون أما يوما ما أطلاقا .... لكن بدا هذا .... انتهاكا لي .... كقطة يقومون باخصائها .... ليس عدلا ..... كان مجرد زواج مؤقت , و لماذا علي أن أفعل ذلك بنفسي !!.... )
أغمض عينيه وهو يشعر بالجدارن تطبق على صدره فجأة .... هدير فظيع اندلع بأعماقه و تعالى ضغطه حتى بدا كالمطارق في أذنيه ...
لم يعلم الى متى ظل واقفا مكانه مسمرا .... مغمض العينين يجد صعوبةٍ في التنفس حتى بصورةٍ طبيعية ...
الى أن سمع صوت حفيف الأغطية الخافت ... مرافقا لصوت تأوهها ففتح عينيه ليجدها تندس مستلقية قليلا على بطنها و هي تغمض عينيها ألما ...
عقد حاجبيه بألم ... ثم اقترب منها ببطىء الى أن وقف بجوار السرير ... لكنها لم تشعر به و هي تهمس بعذاب
( أنا أتألم ...... أحتاج المسكن أرجوك .... أين ذهب الطبيب ؟!! .... )
ابتلع وليد الغصة في حلقه وهو ينظر اليها غير قادرا على اشاحة نظره عنها .. الى أن قال أخيرا بجفاء خافت و كأنه صوت صدى من بعيد ...
( أنسيت أنكِ حامل بهذه السرعة ؟!! ..... لا يمكنك أخذ أي مسكنات ... )
فغرت شفتيها على الوسادة الباردة ... و تأوهت أكثر و هي تبكي بخفوت و نعاس شديد
( وليد أرجوك أنا أتألم .... أفعل شيئا ..... لا تعاقبني الآن ... انتظر صباحا أرجوك ... )
شعر بأنفاسه تتحشرج في صدره ... لدرجة أن رفع يده الى صدره يمسد هذا الألم المقبض ... ثم قال أخيرا بخفوت
( ليس بإمكاني فعل شيء الآن ....... )
أطبقت جفنيها بشدة و بكت بصمت حتى ارتج جسدها كله ... بينما رفع وليد كفيه الى شعره بيأس .... وهو ينظر حوله كوحشِ محتجزٍ في زنزانة ... ثم تحرك الى الهاتف الداخلي و سرعان ما طلب الطبيب أن يأتيه مجددا .... حالا ..... بينما عيناه لا تفارقان المها ...
.................................................. .................................................. ...................
كان يجلس على أحد مقاعد الغرفة مائلا الى الأمام ... مستندا الى ركبتيه بذراعيه وهو ينظر اليها بعينين تحترقان وجعا ... وصوت تأوهات ألمها يمزقه ...
بينما الطبيب يخرج المسكن ليقول
( هذا المسكن خفيف .... لن يضر الحمل , لكن مفعوله بسيط .... لذا يمكنك ان تدلك لها هذا الاحمرار بهذا الدهان ... سيهدىء من الوجع قليلا .... )
انتهى من حقنها بالمسكن , فصرخت الما مما جعل وليد يشيح بوجه شاعرا بنصل المحقن قد غرز في جسده بعنف خنجرٍ حاد ...
حيث ان جسدها كان مقشعرا ... حساسا .. يرتج و كأنها محمومة ... و لم تكن قادرة على تحمل اي الم ضعيف ...
ضاقت عيناه وهو يراها لا تزال نائمة على بطنها بينما شعرها يغطى وجهها تماما ... و يخفي عينيها عنه ...
تكلم الطبيب أخيرا وهو يقول
( الآن سترتاح قليلا .... لكن علينا التكلم في الأهم .... )
انتبه وليد وهو يرفع رأسه اليه قائلا بقلق
( ما هو الأهم ؟!! ......... )
رد عليه الطبيب
( لم يكن من المفترض أن يحدث حمل الآن و في تلك الحالة .... لكن أغلب الوقت تظهر أعراض هذا المرض بحدوث الحمل , لذا ليس في وسعنا فعل شيء الآن سوى توخى الحذر في كل خطوة مقبلة ... سيكون عليها أن تخضع لرعاية قوية هي و جنينها خلال الاشهر المقبلة ... و بالرعاية سيمر الأمر على خير ان شاء الله ... المهم أنها الآن عليها بالراحة , و الا تتعرض للشمس ... )
قال وليد بخفوت متوتر
( اذن علينا ان نعود ...... فالمكان هنا مشمس بدرجةٍ لن تتحملها .. )
قال الطبيب بهدوء
( لن تتحمل الطريق عودة ... لقد ارهقت تماما خلال المجيء ... )
قال وليد بحزم
( سنعود جوا ......... )
رد عليه الطبيب قائلا
(رأيي أن تمنحها يومين فقط على الأقل كي تسترد قوتها قليلا , على الا تخرج من الغرفة الى الشمس ... ثم بعدها تعود حيث تبدا في الخضوع للعلاج المكثف الذي ستتلقاه ... كما أن عليها ازالة وسيلة منع الحمل فور عودتكما .... هذا أيضا مضر بها و بالجنين ..... )
قال وليد بخفوت
( كنت أظن أنها من المستحيل أن تحمل بها ...... )
رد الطبيب قائلا
( لا وسيلة منع حمل مضمونة بنسبة نهائية ... دائما هناك احتمال طرد الجسم لها ... كما أن زوجتك كما علمت منها لم تخضع لأي فحص منذ وقت طويل .... المهم عليكما الإسراع بمتابعة الأمر دون تهاون .... )
نظر وليد الى بشرى بصمت ... و قد كانت لا تزال تتأوه , الا أن صوتها خفت قليلا من شدة التعب ...
حينها نهض الطبيب قائلا
( سأغادر الآن .... و يمكنك الإتصال بي في أي وقت , حاول فقط أن تجعلها تنام قدر المستطاع ... كي لا تشعر بالألم .... )
أومأ وليد بصمت ... دون أن يجد القدرة على الكلام فغادر الطبيب تاركا اياه ينظر اليها بصمت كئيب طويل
كان من المفترض الآن ان تكون في اسعد لحظات حياتها ... فقد كانت سعادتها تبدو كألوان قوس قزح حين بدآ الرحلة ... لا أن تكون منكبة على بطنها و هي تبكي من شدة الألم , بينما هو يفكر في الصدمة التي تلقياها منذ قليل ....
بشرى ستكون أم طفله !!! .... ماذا فعل بنفسه حين استسلم لنزوة ادخالها حياته ... كان عليه أن يدرك أن اللعب بها خطرا ... و عواقبه وخيمة ...
و هل هناك عواقب أفظع من أن تكون أم طفله لها ماضٍ كالذي عاشته بشرى ؟!!! ...
أما الأفظع .... فأنها هي و الجنين قد يتضررا من مرضها ....
تحشرج نفسه عند هذه النقطة فاندفع واقفا وهو غير قادرا على التعامل مع هذا التناقض الذي قد يقضي عليه ... لذا أوصد رأسه من التفكير حاليا وهو يتناول انبوب الدهان ... ثم جلس بجوارها بحرص شديد و بحذر أخذ يخفض الفستان عن ظهرها فتأوهت فجأة بشدة ... مما جعل يده تتسمر مكانها ... لكن حين هدأت قليلا .. تابع انزال الفستان ... حتى بانت له تلك البقعة مجددا و قد بدت أكثر احمرارا و تشققا ...
وضع بعض الدهان على يده ثم بدأ في تدليك ظهرها برفق ...
كان صوت تأوهها يمزقه ... و يجعل أنفاسه كسكين يقطع صدره مع كل تأوه ....
رفع ساقيه وهو يستلقي بجوارها ببطىء متابعا ما يفعل .. بينما عيناه المتألمتان تراقبانها بصمت ... و حين شعر أنه غير قادر على تحمل تأوهاتها أكثر ... فتكلم بخفوت كي يشغلها عن الإحساس بالوجع
( بشرى ..... أنتِ لم تأكلي شيئا منذ الصباح ... و قد طلبت لكِ الطعام هنا في الغرفة ... )
همست ببكاء خافت اعتادت عليه اذنه
( لا أستطيع ..... أنا أتألم بشدة ..... )
انعقد حاجبيه اكثر .. و تابع تدليك ظهرها برفق أكبر .. بينما اقترب منها الى ان احتضن خصرها بذراعه الأخرى المنسلة تحت بطنها ...
تأوهت اكثر الا أنه همس لها بخفوت
( لا بأس ..... الآن سترتاحين , حاولي أغماض عينيكِ ... )
اغمضت عينيها بالفعل لكنها استمرت في البكاء .. مما جعله يمسح يده في منديل ثم تخلل شعرها بأصابعه يمشطه لها برفق كي يساعدها على النوم ... حتى انه أخذ يدعو الله أن تنجح في النوم كي ترتاح من الألم قليلا ..
و ساد الصمت بينهما لفترة طويلة ... حتى ظن انها نامت .... فتنفس الصعداء قليلا ... لكن ظنه قد خاب حين سمع صوتها يهمس فجأة ...
( تلك الليلة .... بعد ان عدت .... لقد بكيت كثيرا ... كثيرا جدا لدرجة الصراخ ... )
اقترب منها قليلا حتى لامست شفتاه شعرها وهو يهمس بقلق
( أي ليلة ؟!!! ........ )
همست بصوت متحشرج مختنق بالكاد يسع
( ليلة اجهضت طفلي ....... )
و دون أن تستطيع أن تمنع نفسها عادت للبكاء من جديد و هي تدفن وجهها في الوسادة هامسة بصوت مختنق
( لم أظن أنني قد أبكي على هذا الأمر مجددا بعد كل تلك السنوات ..... ظننت أنني نسيته .. )
أغمض عينيه وهو يدفن وجهه في شعرها بينما التفت ساقه فوق ساقها و شدد من ضمها الى صدره بكل قوته .. و على الرغم من أنها تأوهت مجددا ... الا أنه همس لها بخفوت متحشرج كصوتها تماما
( نامي ..... أرجوكِ نامي .... )
.................................................. .................................................. ...................
وقفت مكانها و امامها عربة التسوق في القسم الخاص بمستحضرات البشرة و الأغراض النسائية ..
ينتابها ملل كئيب و هي تنظر للمرة العاشرة بين علبة كريم لإزالة الشعر و بين علبة أخرى من الشمع ...
تضاهي بين هذه و تلك في يديها بملل و دون أي هدف ...
بينما كان ذهنها شاردا تماما ... الى أن سمعت صوتا رجوليا متسليا من خلفها يقول بنبرته الرخيمة
( قد يكون الشمع أفضل ... الا أنه مؤلم ... )
شهقت ورد بقوة و هي تنتفض مكانها بذعر .. تعيد العلبتين مكانهما بقوةٍ مما جعل المزيد من عشرات العلب تتساقط أرضا ... فوقفت تنظر اليه بعجز وهو يقف خلفها مبتسما ببساطة و يديه في جيبي بنطاله ...
رفعت يدها الى صدرها اللاهث قليلا , لمدة لحظة واحدة ... ثم لم تلبث شرارات الغضب أن برقت بعينيها كالنمور و هي تهتف ملوحة بأحد العلب
( ماذا تفعل هنا ؟!! ..... كيف تجرؤ على المجيء الى هنا ؟!! .... هل أنت منعدم الحياء تماما ؟!! ... )
ارتفع حاجبي يوسف وهو ينظر مليا الى أرجاء المتجر الكبير .. ثم أعاد نظره اليها وهو يقول بارتياب
( هل يلقون القبض على من يدخل المتاجر العامة ؟!! ...... آخر مرة استعلمت بها , كان الدخول اليه مباحا ... )
لوحت بالعلبة هاتفة بحنق
( قصدت ال ....... )
الا أنها صمتت و هي تلحظ العلبة التي لا تزال بيدها ... فاحمر وجهها بشدة و سارعت تعيدها مكانها , ثم استدارت اليه منتفخة الصدر عالية الذقن .... مشتعلة العينين و هي تصرخ
( قصدت قسم مستحضرات النساء ........... )
عاد لينظر حوله ... يمينا و يسارا وهو يقول متظاهرا بالبحث
( لم أرى أي علامة تشير الى انه قسم نسائي ..... أنظري ها هو معجون أسنان ... و آخر للحلاقة , لذا و بناء عليه أستطيع أن أخبرك بكل قلب شجاع ... )
صمت للحظة و هو ينظر الى عينيها المرهقتين ... ثم فرد ذراعه مشيرا بسبابته قائلا بثقة
( أخرجي من قسمنا ........... )
مطت ورد شفتيها بسماجة و هي تقول
( لست طريفا بالمناسبة ......... )
ثم تركته متعمدة و هي تجر عربتها بعيدا عنه ... لكنه أسرع ليلحق بها وهو يقول متعجبا
( لطالما رأتني النساء طريفا ...... )
قالت ورد و هي تتجاهله عمدا متوجهة الى قسم آخر ...
( هذا يدل على ذوقك المتدني في الإختيار ....... )
كان يلحق بها واضعا كفيه في جيبي بنطاله وهو يقول عابسا مدعيا الجرح
( لاحظي أنك آخر اختياراتي ...... فأنتِ خطيبتي .... )
مطت ورد شفتيها بامتعاض و هي تقول بلهجةٍ باردة
( الازلت مصدقا لتلك الكذبة ؟! .......... )
عقد حاجبيه وهو يقول مستائا
( كيف تقولين عليها كذبة ؟! ..... أمك تعد لحفل الخطبة من الآن .... و بالمناسبة , لا تخضعي لإختيار اللون البرتقالي في فستان الخطبة ... فأنا لا أطيقه .... )
توقفت و استدارت اليه مدعية الخيبة و الذهول هاتفة بنفسٍ مكسورة
( ياللهي !!! .... و أنا التي كنت أمني نفسي بأن اراك في ربطة عنق برتقالية تناسب فستاني ... لقد كسرت بخاطري حقا .... )
ثم لم تلبث أن رمت ملامح البراءة عنها و هي تشتم بخفوت متابعة سيرها بعيدا عنه ... فلحق بها قائلا بخشونة
( لماذا لا تبصقين علي أيضا ؟!!... بما يناسب انطباعك الحالي عني ؟!! .... )
قالت ببرود
( تربيتي لا تسمح لي بذلك ....... )
قال يوسف مستاءا
( أنتِ فعلا قليلة الأدب ......... )
توقفت و هي تنظر اليه بشراراتٍ تكاد أن تحرق المكان من حولهما ثم قالت بثورة ... حاولت جاهدة ان تخفض صوتها معها
( هذه رابع مرة ....... مما يعني أنك أنت من تخطى الوقاحة ووصل الى مرحلة قلة الأدب )
عبس يوسف وهو يقول
( لا تشتمي زوج المستقبل يا فتاة .... ماذا ستقول والدتك عن ذلك لو أخبرتها ؟!! ... )
زمت ورد شفتيها و هي تتخيله فعلا يخبر والدتها بما لا يعجبه من الفاظها ... على الارجح ان والدتها قد تصاب بنوبةٍ قلبية ... خوفا على زيجة المستقبل و التي لن يستطيعا تعويضها أبدا أو إيجاد عريس مثله !!
عريسا مثله !! ....
رغما عنها طالت عيناها ترمقه بصمت ... كان يبدو متفجر الرجولة صباحا ... بقميصه الأبيض و بنطاله الرمادي ... بينما شعره حالك السواد ... تتخلله بعض الشعرات البيضاء ..
لكن الأغلب منه أسود كجناح الغراب ..براق بشدة ...
و مما زاد من رجولته تلك النظارة بسيطة الإطار التي يضعها أحيانا فوق أنفه .. مما تجعل منه شخصا مميزا ببساطة ...
لاحظت فجأة أنها قد أطالت النظر اليه وهي واقفة مكانها ... و ما أن رفعت عينيها الى عينيه ... حتى وجدته ينظر اليها صامتا ... مبتسما بتسلية و تشفي وهو يقف مدركا لتأملها له .. فاغرة الشفتين قليلا بشرود مستاء ..
عندئذ احمر وجهها بشدة ... و انقبضت اصابعها على ذراع العربة و سارعت لتبتعد عنه مرتبكة .. بينما شعر بالقليل من تأنيب الضمير لإحراجها بتلك الصورة ...
لكن شيئا ما بداخله كان يستلذ استفزازها بشدة ... شيئ يجعله حي و يتنفس .... و هذا هو ما كان يحتاجه اليوم خصيصا ,..... بعد زواج وعد .......
سار خلفها متسليا .... رغم عنه تطول عينيه بضعة مرات الى قامتها الهيفاء و هي تسير أمامه مستندة الى العربة ... و على الرغم من ملابسها البسيطة من قميص طويل الكمين ... و بنطالٍ فضفاض ...
الا انه اعترف في قرارة نفسه انها تمتلك قواما متناسقا دون لفت مبهرج للنظر .....
اسرع في خطاه للحظة وهو يوازيها في السير قائلا
( لما لا نبدأ الصباح مجددا بشكلٍ ألطف ؟!! .... صباح الخير وردات ... )
زفرت بصوتٍ مسموعٍ غير آبهٍ لمن التفت اليها , الا أنها نظرت اليه بغضب و هي تقول من بين اسنانها
( توقف عن مناداتي بذلك الأسم .... أشعر و كأنني غطاء منقوش من الزمن البائد .... أو مظلة شاطىء قديمة ...... )
لم يتمالك نفسه من الابتسام عريضا وهو يقول متخيلا
( مظلة برتقالية بورداتٍ حمراء ....... انها الصورة المثالية لك ... )
عادت ورد لتزفر بقوةٍ و هي تتابع سيرها قائلة بغضب
( أنت على ما يبدو تتمتع بفراغ كبير اليوم .... لذا اعذرني ... لا أملك المزيد من الوقت كي أضيعه معك .. )
مدت يدها تلتقط علبة نجوم تلتصق بالحائط ... ثم وضعتها بلا هدف في العربة ... تبعتها ببعض ملصقات الجدار ... فقال يوسف مهتما
( هذا يبدو واضحا ......... لما لا تأخذين صورة الدرفيل , انها تناسبك ..... )
قالت ورد غير متمالكة لنفسها
( لما لا آخذ صورة الدب سميك الإحساس .... فهو يناسبك أكثر و سيذكرني بك .... )
رفع يوسف حاجبيه وهو يقول
( و لماذا تأخذين ما يذكرك بي ؟!! ...... حين نعقد قراننا سأتمكن من دخول غرفتك بأريحية .... )
توقفت و هي تنظر اليه بوجهٍ أحمر بشدة ثم قالت بغضب
( هل تظن نفسط ظريفا الآن !!! ........ )
قال ببساطة وهو يواجهها النظر
( اعتقد ذلك ...... لكن خذي راحتك في ابداء رأيك عني ..... )
تأففت بصوتٍ واضح و هي تستدير مجددا مسرعة الى قسم المخبوزات ... وهو يسير خلفها ... تشعر بوجوده بقوة و مع ذلك تحاول جاهدة السيطرة على نفسها ... فالتقطتت أحد العلب تنظر الى الكتابة الدقيقة عليها ... لدرجة ان قربت عينيها منها عابسة ... فقال يوسف
( خذي نظارتي ...... على الأغلب أنتِ تعانين قصر النظر مثلي ... )
رفعت عينيها اليه وهي تجده يرفع نظارته من عينيه و يناولها لها .... فارتبكت قليلا و هي تشعر بشيء حميمي غريب , و أوشكت على الرفض ... الا ان الدافع بداخلها حثها على رفع يدها , و تناولها منه ..
فوضعتها على عينيها و أعادت القراءة ... فقال يوسف مهتما
( أفضل ؟!! ........ )
ارتبكت اكثر و هي تومىء برأسها دون رد ... ثم التقطتت علبة أخرى .... ثم قالت رغما عنها بقنوط دون أن ترفع عينيها اليه
( كيف عرفت مكاني بأي حال ؟!! ........... )
ابتسم ابتسامة عريضة وهو يقول ببساطة
( مررت ببيتكم صباحا ..... فأخبرتني أمك أنك في المتجر القريب .... انها سيدة لطيفة جدا ... )
ابتسمت ورد بسخرية و هي تقول
( نعم ..... أراهن انها كذلك مع الزوج المستقبلي المغسول بالصابون ..... )
رفع يوسف حاجبيه وهو يقول مهتما
( ألم يكن خطيبك الأول مغسولا بالصابون كذلك ؟!! ........ )
مطت شفتيها بنفاذ صبر و هي تقول
( هذا تعبير لوصف شخص براق ......... )
اتسعت ابتسامته أكثر وهو يقول
( أترينني براقا وردات ؟!! .......... )
ارتبكت و تعثرت فسارع الى امساك مرفقها ... الا انها أبعدت ذراعها سريعا و هي تشعر بالحماقة اللامتناهية ... فقال يوسف بهدوء و جدية
( أعتقد ان خطيبك السابق لم يكن لطيفا معك ......... )
لم تنظر اليه .... بل قالت بعد فترة صمت و هي تتابع تفحص ما هو معروض
( لنقل أنه لم يكن مهتما بي من الأساس .... كان مهتما بسيف أكثر ... )
لم تحاول الشرح .. لكنه فهم بسهولة , فقال بعد فترة بهدوء
( هو أحمق اذن ..... فلقد أضاع من بين يديه شعلة ممتعة من المرح ......)
رفعت وجهها ببطىء دون أن تنظر اليه ... بينما كان هو واقفا خلفها ينظر اليها عاقدا حاجبيه ... شاردا قليلا , فلم ترى نظرته تلك ... و لم يرى نظرتها ...
تابعا سريهما بصمت ... الى أن مرا بشابتين صغرتين تتضاحكان بقوة وهما تنتقيان بعض الحلوى ... فأوقعت أحدهما بعضا منها .... بجوار قدمي يوسف , فانحنى تلقائيا يجمع من الأرض ما تناثر منها من حلوى ... ثم استقام ليفرغها في سلتها التي تحملها على ذراعها ... مبتسما بأناقة و لطف ....
حينها بدت الشابة و التي لم تتعدى سن المراهقة منذ وقت بعيد ... كمن شاهدت نجما سينيمائيا ... فتضاحكت هي و صديقتها خلسة ...
وحدها ورد هي من كانت تراقبهما بامتعاض ... بينما يوسف يقول لهما مبتسما برقة
( حافظي على حلواكِ يا حلوة ...... طاب صباحك .... )
و ما أن استدار عنهما ... حتى شادت ورد احداهما تتنهد بطريقة مسرحية ... بينما انفجرت الأخرى ضاحكة بوله ..
فانتظرت ورد الى أن أصبح بجوارها فقالت ببرود
( هل التقطت للحلوة الصغيرة حلواها ؟!! .........)
توقف مكانه ناظرا اليها بابتسامة عابسة متعجبة ... ثم قال مهتما
( هل تغارين ؟؟ ...... لان هذا ما شعرت به للتو !! .... )
نظرت اليه باستياء و هي تقول بجنون
( من يغار ؟؟ ..... على من ؟؟ .... و هل أعرفك أصلا ؟!! ..... أنت تعيش في مسرحية مسكينة تقوم بها بدور الممثل و المخرج .... )
ابتعدت عنه و هي تهز رأيها متمتمة بغضب
( شفاك الله ..........)
بينما كان ينظر الى ذيل حصانها المهتز مع اهتزاز رأسها مبتسما ابتسامة عريضة ....
كانت ورد قد وصلت الى ماكينة الدفع ... فأخرجت محفظتها بصمت .... الا أن قبضة رجولية أطبقت على يدها و حينها سمعت صوته يقول بخفوت رخيم
( الا ترين بأنك تهينينني بما تفعلين ؟؟!! .............)
ألجمتها الصدمة من ملمس يده على كفيها مما جعلها ترتجف بشدة ... حينها رفع عيناه الى عينيها فتسائلت بجنون إن كان قد شعر برجفتها ازاء لمسته ؟!!! ...
و أثناء اللحظة التي تسمرت بها مجفلة ... كان هو قد دفع ببطاقته ... ثم التقط الأكياس بيد واحدة و التفت ينظر اليها قائلا ببساطة
( ألن تأتين ؟!! ........... )
ثم خرج أمام عينيها الذاهلتين !! ....
انتفضت ورد من مكانها و هي تسرع الخطا خلفه ... الى أن اقتربت منه هاتفة بغضب
( أنت ....... أنت .... انتظر هنا ...... )
وقف يوسف مكانه ثم استدار ينظر اليها و الهواء البارد قليلا يداعب خصلات شعره السوداء الناعمة كما يطير ذيل حصانها ...
فقال بهدوء
( اسمي يوسف ..... من المؤكد انكِ تستطيعين مناداة خطيبك باسمه .... )
هتفت و هي تضرب الأرض بقدمها
( أنت لست خطيبي ...... و انت بالتأكيد لن تدفع لي ثمن المشتروات , ستأخذ ما دفعته حالا .... )
قال يوسف بهدوء
( لن يحدث .... و لو تكلمتِ في الأمر مجددا فسوف أضربك ..... )
تسمرت مكانها للحظة .. و اتسعت عيناها , فابتسم يوسف و قال برقة
( هذا أجمل منظر رأيته منذ وصلت الى هنا ...... إنها صورة للذكرى .... )
تداركت ورد نفسها و هي تزفر بقوة ... بينما قال يوسف متابعا
( تعالي لأقلك الى البيت .... هيا ....... )
هتفت ورد بقوة
( مستحيل ........... سأذهب وحدي )
الا أن يوسف لم يتحرك من مكانه وهو ينظر اليها ... ثم قال أخيرا بتصميم
( اسمعي ..... لم يتسنى لنا الحديث ليلة أمس .... فقد قاطعنا حوالي سبع أفراد خلال عشر دقائق ... )
صمتت ورد و هي تنظر اليه ....
نعم ... ليلة أمس حين أشار اليها بالخروج .. فلحقت به صامتة و شيء بها مجفل مرتبك ... لتجده يقف في الحديقة يقطع أوراق شجرة قريبة منه بشرود ...
حينها شعرت بكآبة غريبة و غير مفهومة ... و كأن منظره قد أحدث بها أثرا غير مرغوبا به ....
فوقفت تنظر اليه عدة لحظات قبل أن يستدير و ينظر اليها بصمت ....
نعم لقد قاطعهما حوالي سبع أو ثمان أشخاص فلم يستطيعا تبادل أي حوار .... الا أنها التقطتت الجملة الأولى منه بوضوح ... حين قال لها دون مقدمات
( تبدين جميلة للغاية ! ....... )
لا تدري كم استمر تحديقها به بعد هذه العبارة التي بدت صادقة مندهشة أكثر منها مجاملة .... لكن الأكيد أنهما لم يستطيعا تبادل كلمة واحدة بعدها ...
أفاقت ورد من شرودها فأبعدت خصلة شعر متطايرة على وجهها البارد ثم قالت بفتور
( ماذا تريد يا يوسف ..... و لماذا أنت هنا الآن ؟!! .... )
ظل ينظر اليها قليلا ... ثم قال ببساطة
( علينا التحدث في وقتٍ ما .... و أنتِ تتهربين حتى الآن , بالإضافة الى ...... )
صمت قليلا وهو ينظر اليها متأملا ... ثم قال بصوته الغريب
( انا أحتاج لرفقة أنثوية بشدة .... أفتقر اليها منذ مجيئي الى هنا .... و أظن بما أن الظروف قد جمعتنا معا , فأنت لن تبخلين علي بمثل هذه الرفقة .... )
صدمت ورد بشدة و هي تنظر اليه مجفلة ... ثم هتفت بقوة
( أنا لن أوفر لكِ رفقة انثوية ..........اسمع , لا حديث بيننا , عد من حيث أتيت و أنا سأتكفل بحل تلك الخطبة أمام أهلي ..... )
قال يوسف بهدوء لا يحمل رنين المرح
( فكرتك عني متدنية جدا ..........)
بادلها النظر قليلا بينما قال بخفوت
( رجاءا يا ورد ...... رافقيني قليلا ... سنتكلم وأعدك ان أعيدك ما ان تطلبي ... )
قالت ورد بصلابة على الرغم من أن جسدها ارتجف قليلا من نبرة صوته الناطقة باسمها ..
( ها أنا أطلب أن تعيدني ....... )
ابتسم ببطىء الى أن شملت ابتسامته وجهه كله قبل أن يقول بهدوء آمر
( حسنا اذن ....... تعالي الى سيارتي ... )
و دون أن ينتظر منها أي رد ... سبقها الى سيارته و فتح حقيبتها الخلفية ليضع بها الأكياس ... ثم نظر الى ورد التي كانت لا تزال واقفة مكانها فقال بصلف
( هيا تعالي ........ )
تحركت مترددة الى السيارة ... ثم فتحت الباب الأمامي و استقرت جالسة بحذر و هي لا تعرف ما هذا الذي تفعله ... بينما جلس يوسف مكانه و تحرك بالسيارة .....
ساد صمت قليل بينهما ... الى أن قرر هو أن يقطعه فقال ببساطة
( أين تحبين ان تتناولي فطورك ؟!! ........ )
ارتفع حاجبيها و ظهر شرر متوهج في عينيها و هي تقول بحدة متخاذلة قليلا
( ألم تسمع شيئا مما قلته لك ؟!! .... لن اكون رفيقة ... ما تسميها " أنثوية " ... )
ضحك بخفوت قبل أن يقول ببساطة
( تجعلين الأمر يبدو دنيئا ..... حسنا لنقل أنني أشتاق الى رفقة نسائية ... بكل احترام ... لكن اشتاق لموعد رقيق و أحاديث مطولة ..... )
قالت ورد بتشنج
( أشك في أن يكون هذا هو ما تحتاجه من صحبتك ال ... نسائية .... )
ارتفع حاجبيه وهو يختلس اليها نظرة براقة .. ثم لم يلبث أن ضحك بخفوت مثير وهو يقول
( حذاري يا ورداتي ... فأنتِ توحين الى معانٍ غير محتشمة ..... )
احمر وجهها بشدة و أبعدت وجهها عنه بسرعة تنظر من نافذتها و هي تلعن غباء لسانها المتسرع ... ماذا سيظن الآن .... او كيف سيتخيلها يائسة و هي تدعوه الى شيء غير محتشم في كلامها ... تبا لذلك ..
ظلت مسمرة في مكانها تشعر بالرغبة في فتح الباب و القفز من السيارة المسرعة ....
بينما كان هو ينظر اليها بين الحين و الآخر بخبث ... يعلم جيدا كيف استطاع احراجها ... و كان هذا يسليه بشدة و سادية محببة .....
قال أخيرا يرحمها من تشنج أعصابها الملحوظ ...
( الى أين تودين الذهاب ؟!! ...... )
نظرت اليه بيأس وهو لا يمل و لا يتعب ... فقالت بفتور زائف , مختلسة النظر اليه بطرف عينيه ..
( أنت تتعامل مع الأمر بشكلٍ جيد ...... أقصد عودة وعد الى سيف !! ... بالله عليك لقد حضرت زفافهما ليلة أمس !! ... و اليوم تريد الخروج و تناول الفطور ؟!! ..... )
ظل صامتا قليلا ... وهو يدور بالسيارة ... ثم قال أخيرا مبددا الصمت الثقيل
( لدي فكرة أفضل ...... )
اتسعت عينا ورد قليلا .... و هي غير متفهمة ما يقصده , لكن خلال دقائق كانا يقفان بالسيارة أمام البحر ...
نافذتيهما مفتوحتين و الهواء يداعب وجهيهما ...
بين يديها كوب ورقي من القهوة ... و على ركبتيها بعض من المخبوزات الساخنة ... بينما كان هو يرتشف قهوته الساخنة بقوة لا تفي بسخونتها متأملا البحر بابتسامة متزنة .. رزينة .... لكن رغما عنها شعرت بنفس الشيء الكئيب يلامس اعماقها ...
فقالت بخفوت مع صوت امواج البحر ..
( هل أحببتها على الإطلاق ؟!! ...... )
استدار ينظر اليها بصمت .... و دون ان تزول الإبتسامة عن وجهه قال بعد فترة طويلة
( نعم ..... يمكنك قول هذا بطريقة ما ...... )
شعرت بحجرٍ يجثم في أعماق معدتها و يثقلها .... فقالت بخفوت
( آسفة لأن خطتنا لم تنجح .......... )
ظل ينظر الي عينيها قليلا ثم قال بهدوء
( أكيد أنكِ آسفة لذلك ......... ألم تصفحي عنها بعد ؟!! .... )
تنهدت ورد و هي تنظر من نافذتها قائلة
( لم ترتكب في حقي شيء كي أسامحها ..... جينات والدها هي من تجعلني ارفضها , لكن في النهاية أنا أحب سيف ... و أريد رؤيته سعيدا ..... كنت أظنها نزوة بحياته و سرعان ما سيدرك خطؤه ... لكن مر الوقت بسرعة و أثبت لنا أنه لا يتنفس الا بكونها بخيرٍ أمامه ..... )
قال يوسف بهدوء بعد فترة صمت
( ماذا فعل بك والدها .... بخلاف الكثير من مشاكل الميراث و غيرها .... )
تنهدت ورد بقوة .... و هي تنظر الى البحر أمامها .. ثم قالت أخيرا بصوتٍ فاتر
( فعل الكثير .... أكثر مما يمكنني أن تناساه بسهولة و يجعلني أتقبل ابنته في غرفة مجاورة لغرفتي ... الأمر فقط صعب .... و أشعر انه ليس عادلا .... )
صمتت قليلا تنظر الى البخار المتصاعد من كوب قهوتها ... ثم قالت بخفوت
( الحقيقة أن سيف كان هو أكثر المتضررين ..... و هذا ما يقتلني و يشعل ناري ... لقد اهدر عبد الحميد العمري رجولته المبكرة في اخطر سنوات شبابه بكل طريقة تخيلها .... خرب بيتنا و أجبر أمي على الزواج من رجل قذر بعد أن تركت أبي خوفا عليه .... و قد رآها سيف في موقف ...!!! ... لا يستطيع الكلام عنه حتى الآن .... و في النهاية تسبب في دخوله الإصلاحية لمدة ثلاث سنوات .... بعد أن قيده و ضربه بسادية و ظلم ....... )
صمت صوتها المختنق ... ثم تنهدت بقوة و هي تعاود النظر الى البحر ... فقال يوسف بهدوء
( و ماذا عنكِ ............ )
نظرت اليه مبتسمة بزيف واضح .. فقالت ببساطة
( تقصد بخلاف خراب بيتنا و زواج أمي من آخر و دخول اخي الإصلاحية ... و سرقة ميراثنا ؟!!! .... لا كنت انا الأهون في الألم .... أقتصر الأمر على هذه ... )
أدارت له وجهها لتريه سماعة أذنها و هي تلامسها برقة ...
توتر وجه يوسف قليلا و شحبت ملامحه وهو يقول بخفوت
( ضربك ؟!! .......... )
لم ترد بل اكتفت بابتسامة لا تحمل روح ... فقال يوسف يسألها بخفوت اكبر
( كم كان عمرك حينها ؟!! ..... كنتِ مجرد طفلة على ما أعتقد .... )
ردت ببساطة و هي ترتشف من قهوتها
( نعم ......... تقريبا .... )
لم يشعر يوسف بأن أصابعه تنقبض بتوتر ... الى أن قال أخيرا بهدوء
( كان يجب أن يسجن ...... لا يحق لرجلٍ أي كان أن يفعل هذا بأي مرأة , و بالأخص طفلة .... )
ضحكت قليلا و هي تنظر اليه قائلة
( اعتقد أنه لو كان فعل ذلك عندكم .... لكان تم تظبيطه ... )
ضحك هو الآخر ثم قال بخفوت
( نعم كان ليتم تظبيطه ليسير معتدلا غير قادرا على النظر الى أي امرأة لفترة طويلة ...... )
صمت للحظة وهو يتأملها ثم قال بهدوء
( لكنك مخطئة في شيء واحد ....... ليس عندنا , فأنا من هنا ..... )
رمشت ورد بعينيها قليلا ... ثم قالت
( لا يبدو عليك ذلك ........ أنت مختلف .... )
ابتسم بطريقة رجولية جعلت منه أكثر جاذبية وهو يقول بعفوية
( مختلف كيف ؟!! ..... ارجو الا تتحفيني بالمزيد من قذائف لسانك , حاولي تجربة اللطف كنوع من التغيير ... )
ابتسمت بصدق هذه المرة و هي تنظر اليه ... ثم قالت أخيرا
( أنت هادىء تماما في حصولك على المرأة التي تريد ... متزن جدا حين يتم رفضك .... يبدو الألم و كأنه لم يعرف طريقا اليك يوما ..... )
اتسعت ابتسامته قليلا اكثر .... و التوت بسخرية محببة لطيفة .. مما جعله اكثر شقاوة على الرغم من سنوات عمره التي تقارب الأربعين ... الى أن قال في النهاية
( أنتِ تبهرينني ..... تابعي رجاءا .... )
عادت لتضحك قليلا ... ثم قالت
( بخلاف أنك لا تستطيع نطق حرف العين ...... و بصراحة كان يجب أن تعرف مسبقا أن أي علاقة بينك و بين وعد سيحكم عليها بالفشل لهذا السبب تحديدا ...... طريقة شجارك معها ستكون مهذلة و غير مهيبة ... )
ضحك عاليا ... فتشنج حلقها و هي تراقب رأسه المتراجع للخلف وهو يضحك بطريقة بدت رخيمة مسرحية على الرغم من أنه لم يتعمد ذلك ....
و ما أن انتهى أخيرا حتى عاد رأسه ينظر اليها باستمتاع واضح ... قبل أن يقول بهدوء غريب
( أنت ممتعة حقا يا وردات ... و رفقتك الفظة مثيرة للإهتمام ... )
مطت شفتيها بامتعاض لم تشعر به حقا ... بينما مد أصابعه فجأة و هو يتلمس خصلة شعر من ذيل حصانها قائلا بتأمل
( شعرك لا يزال مصففا بعد ليلة أمس ...... )
ارتجفت بشدة و هي تشعر بنار ذائبة تسري في أوردتها فجأة ... بينما رأته يضيق عينيه و يقترب منها بوجهه مما جعلها تموت انهيارا بطريقة غير محسوبة ... الا أن الأصابع التي كانت تلامس خصلة من ذيل حصانها ارتفعت لتشد شعرة من قمة رأسها بطريقة خاطفة ... جعلتها تنتفض مكانها و هي تصرخ بقوة ما أن وقعت القهوة على قميصها اثر انتفاضتها ...
( ياللهي انظر ماذا فعلت ؟!! ..... ماذا كنت تفعل بشعري ؟!!! .... )
كان ينظر اليها مذهولا وهو يقول
( لقد نزعت شعرة بيضاء من شعرك ..... هل أحرقتك القهوة ؟!!! .... )
صرخت به بجنون و هي تستدير اليه بشراسة
( ماذا ؟!!!!! .... جذبت شعرة بيضاء ؟!!! .... ايها الأحمق الا تعرف أنها ستنمو متضاعفة العدد الآن بسبب فعلتك تلك .... )
كان يهز رأسه مذهولا وهو ينظر الي قميصها الذي تغرق بلونٍ بني داكن ... بينما هي مهتمة بعدد الشعريات البيضاء برأسها ... الا أنه تمالك نفسه و هتف بقوة
( هل أحرقتكِ القهوة ؟!!! ....... )
زفرت بيأس و هي تنفض قميصها قائلة بقنوط
( لا .... لقد بردت قليلا ...... )
زفر براحةٍ قليلا .... ثم نظر اليها قائلا بخفوت
( أنا آسف وردات .......... لم أقصد أن يحدث ذلك ... )
في الحقيقة كان كيانها منقلبا رأسا على عقب ... متأثرة بقربه بطريقة لا يمكن انكارها و تقرباته منها تبهجها و تجعلها تشعر بأشياء غريبة ...
زمت شفتيها ثم قالت بخفوت
( هلا أعدتني الآن ........... )
ظل ينظر اليها قليلا بصمت ... ثم قال أخيرا بهدوء مبتسم
( أتدركين أنكِ لا تزالين ترتدين نظارتي ؟!! ......... )
اتسعت عيناها فجأة بصدمة ... و رفعت أصابعها تتحسس النظارة فوق أنفها ... فسارعت بخلعها و هي تقول متلعثمة
( أنا .... أملك واحدة بالفعل لذا نسيت أنني ... أنك ..... )
لم تجد الرد المناسب فمدت النظارة اليه بصمت ... بينما قال لها بهدوء وهو يلتقط النظارة من بين أصابعها
( عيناك تشبهان عيني النمور ...... )
عقدت حاجبيها بشدة و ارتبكت ملامحها أكثر .. الا أنها قالت بتوتر
( هل هذا مدح أم سخرية ؟!! ......)
رفع يده الى صدره ليقول متأوها
( اعذري قلة تهذيبي ..... عيناك غاية في الروعة و الجمال سيدتي ... )
شلتها الصدمة الآن ... و بدت في منتهى الغباء و هي تنظر اليه فاغرة شفتيها و هي تعلم بأنها تبدو كذلك ...
أخذت نفسا مرتجفا قبل أن تقول بهدوء
( حسنا .... لقد سخرت مني بما يكفي .... تسببت في انسكاب القهوة على قميصي ... جذبت شعرة بيضاء من رأسي .... ماذا ينقص بعد ؟!!! .... لما لا تقذفني بحجرٍ و تردمني بالرمال بعدها .... )
عاد ليضحك بخفوت ... الا أنها قالت يائسة برجاء مرتجف
( هلا أعدتني الآن .... رجاءا ...... )
قال يوسف بصوتٍ متوتر مثلها
( لم نناقش بعد أمر خطبتنا ........... )
قالت ورد تزفر بيأس
( سبق و قلت لك .......... )
الا انه قاطعها بحزمٍ يقول
( ماذا لديكِ هنا ؟؟!! ..............)
عقدت حاجبيها قليلا و هي تقول بحيرة
( ماذا تقصد ؟!! ...... لم أفهم ؟!! ..........)
رد عليها يوسف مباشرة و دون مقدمات ...
( أنا مسافر خلال أيام ..... تعالي معي ....... )
فغرت شفتيها بذهول غير قادرة على استيعاب ما ينطق به .... فقالت هامسة بجنون
( ماذا ؟!! ........ كيف ؟؟ ........ )
مد يده ليلامس خصلات ذيل حصانها وهو يقول بتأمل
( تعجبني رفقتك جدا يا ورداتي .... حتى بت أبحث عنكِ مؤخرا في العديد من المناسبات .... لذا لست أراه اقتراحا سيئا أبدا ....... )
كانت لا تزال مذهولة .... لا تصدق ما تسمعه , الى أن قالت أخيرا بصوت مهووس
( أي اقتراح هذا ؟!! .......... )
قال مباشرة ناظرا لعينيها
( نعقد قراننا .... و آخذك معي ......)
فغرت شفتيها بذهول حقيقي هذه المرة ..... بينما كانت عيناه صريحتان ... واضحتين .... و على ما يبدو أن ما يعرضه حقيقي و يقصده تماما ....
أوقف سيارته أمام باب البيت قبل أن يدخل .... و الهاتف على أذنه منتظرا الى أن سمع صوتها أخيرا ...
فقال بتلذذ واضح مشبع بالرضا .. و آخر بالغيظ
( اشتقت اليك ..........)
ضحكت وعد بخفوت و هي تقول همسا
( حسنا لقد أصبحت غير منطقيا الآن ..... لقد تركتك منذ دقائق يا سيف , فكف عن العبث كي أتمكن من العودة مبكرا ......)
قال سيف و يده على المقود و صوته يشتعل بجد ... و دون هزل
( و إن يكن .... اشتقت اليكِ و أشعر بالغضب من نفسي لأنني سمحت لكِ بالخروج .... )
سمع زفرتها التي يعرفها جيدا ... تصل بحرارتها عبر الأثير اليه ...ما بين اليأس من التصرف .. و بين انفعالها العاطفي القوي ....
كانت كزهرة تتفتح على يديه هو ...
من يصدق أنها نفس الشابة الباردة الشعور التي تميل الى قسوة الإحساس في معظم أوقاتها ؟!! ...
و كان ما يراه منها الآن يعجبه ... بل يشعله اشتعالا , اكثر من بداية زواجهما تماما ....
قالت وعد أخيرا بخفوت هامس
( و أنا اشتقت اليك ........... جدا ......لما لا تسلم على عمتي سريعا ثم تأتي و تجلس معي في المعرض قليلا ..... )
قال سيف بهدوء أرسل رجفة الى جسدها
( تعلمين أن هذا مستحيل ..... فلن أستطيع أن امنع يدي عنكِ , الا اذا كنتِ تريدين فضيحة علنية .... )
همست وعد بطريقة اذابت قلبه
( آآآآه ..... لكن لما الفضائح و عندي غرفة مغلقة .... ذات أريكة واسعة .... )
عبس سيف وهو يقول بفظاظة
( تلك التي تظاهرتِ بالإغماء عليها ؟!!! ........ )
قالت وعد متلعثمة
( آآآمممم .. ماذا ؟!! ... سيف الخط يتقطع .... لا أسمعك جيدا ... )
قال سيف بخشونة
( هل آتي اليكِ كي تسمعين بوضوح ؟!!! .......)
قالت وعد ببراءة
( الآن تحسن ..... شبكة الإتصال كانت تحوي بعض المشاكل على ما يبدو ..... )
قال سيف بخشونة
( وعد ....... اريد منكِ وعدا .......)
قالت مازحة برقة خجولة
( ألم تكتفي مني بعد سيدي ؟!! .........)
قال سيف بفظاظة
( خفظة ظلك تكاد أن تصيبني بالتيبس .... الآن اسمعيني .... أريدك ان تعديني بالا تتظاهري بالإغماء مجددا ... ابدا ..... مفهوم ؟!! ...)
ظلت صامتة قليلا ثم همست بخفوت
( أحيانا أخاف منك .......... )
شعر بشيء أوجع قلبه ... مما جعله يقول بصدمة خفية
( تخافين مني يا وعد ؟!! ........ )
قالت بخفوت و هي تتلاعب بشيء ما
( أخاف من ردات فعلك أحيانا ....تكون فظة و موجعة .... )
تنهد سيف بقوة وهو ينظر أمامه .. ثم قال بهدوء خافت
( و أنا أرتعب ..... حين تسقطين أمامي , حتى أعجز عن تصديق انكِ تدعين ذلك بمنتهى القسوة .... فلا تفعلي ذلك مجددا .... )
توقفت مكانها و هي تبتسم بخبث رقيق ... ثم قالت بتهذيب و دون جدال
( اعدك .......... )
تنهد سيف مرة أخرى ثم قال بخفوت أجش
( و ردا على سؤالك الأول .... لا أنا لم اكتفي منكِ بعد , و لا أظنني سأكتفي منكِ أبدا .... )
ضحكت وعد بصوت متحشرج مختنق .... و همست و هي ترفع يدها الى فمها ناظرة الى مرآة أمامها
( ليتك كنت تراني الآن ...... وجهي أحمر كالبنجر و ساخن للغاية .... )
تنفس سيف بخشونة وهو يقول مستفسرا بفظاظة
( ساخن للغاية ؟!! ................. )
أجابته برقةٍ و جنون خفي
( يشتعل ......... )
زفر سيف بقوة وهو يقول بخشونة ...
( لوكنتِ أمامي الآن ... لكنت .... )
همست وعد و هي تتلفت حولها خشية
( لماذا توقفت ؟!! ..... هل الرقابة قطعت ما كنت تنوي قوله ؟!! ...... )
قال سيف بجفاء
( المشاهد المحذوفة ستشاهدينها ليلا .... حين نكون وحدنا .... )
ضحكت وعد و هي تسعل من شدة الإرتباك ثم همست
( مفسد أخلاق ....... )
رد عليها بزمجرةٍ خشنة
( مفسدة متعة ....... )
ثم قال بجدية
( اسمعي يا حرمنا المصون .... أريدك أن تفتحي حقيبتك الآن و ليس فيما بعد .... ستجدين بها عدة شطائر ملفوفة .. أعددتها لكِ لأنك طبعا و كما هي العادة لم تتناولي فطورك ..... )
ذهلت وعد و فتحت حقيبتها لتجد اللفة بالفعل ... فقالت مذهولة
( هل أعددت لي الشطائر بنفسك ؟؟؟ ....... لا أصدق ذلك .... )
قال سيف بهدوء
( الم ترينها و أنت تخرجين هاتفك ؟!! ....... )
همست بنبرة تأثر واضحة
( لا ..... كان بجيبي ...... سيف أنا حقا تأثرت , إنها مشوهة جدا .... لكن لا أصدق أنك وقفت لتعدها بنفسك ... )
قال سيف بخفوت
( لقد نقص وزنك للغاية يا وعد ....... و هذا يقتلني .... )
همست وعد برقة تريد أن تخرجه من مزاج القلق ...
( هل لاحظت ذلك ؟!!! ..... كانت الملابس تخفي نقصان وزني ..... )
قال سيف بخشونة
( كلمة واحدة ..... ستعيدين ما نقصتهِ و تزيدين ..... و سترفعين مستوى كرياتك الحمراء بالغصب ... )
ضحكت عاليا هذه المرة .... غير آبهة لمن يسمعها ... ثم قالت بطاعة
( نرفعها سيدي ......... طالما أنك أمرت بذلك ..... )
كان على وشك الإطالة معها في الأحاديث ... لديه الكثير و الكثير مما يريد أن يقوله لها ... يحب السماع اليها و الكلام معها .... ما ان تغيب عن عينيه حتى يشعر بالشوق لها و أنه يريد أن يقص عليها المزيد ..و يحكي معها في أتفه الأمور ... و يتغازلان بحماقة ...
لكن منظر قادم من على بعد جعله يصمت فجأة ليرتفع ضغطه و ينفجر غضبه بقوة ... فقال بصرامة
( سأهاتفك فيما بعد ..... انتهى من عملك سريعا ... سلام ... )
عبست وعد بشدة من تغير نبرة صوته فنظرت الى الهاتف المغلق على الرقة المتبادلة و غزل شهر العسل .... فقالت متذمرة همسا ..
( كنت أعلم أنها حالة غزل طارئة و ستطير لحالها ..... اووووف ... كنت أريد أن أقبله كالأفلام على الأقل ... )
أما سيف فكان الغضب يتفاقم بداخله بعنف وهو يترجل من سيارته ... ليرى تلك السيارة المقبلة و التي وقفت أمام سيارته ...
لينزل منها يوسف .. بينما بقت ورد مكانها تنظر الى سيف بذهول و صدمة ... ثم نزلت أخيرا و هي تحدق الى الغضب المستعر في عينيه و تعلم بأنه سيفتعل فضيحة علنية ...
كان يوسف هو اول من تكلم قائلا بمرح ساخر
( مرحبا صهر .... ماذا تفعل هنا في هذا الوقت صباحا بدلا من التواجد مع عروسك ؟!! ...... )
ظل سيف صامتا عدة لحظات وهو ينظر الى ورد التي كانت تبادله النظر بارتباك واضح .... بينما صدرها كله مغطى ببقعٍ بنية ....
و دون أي تفكير كانت قبضته قد سبقت عقله ... فلكم يوسف بكل قوته لكمة حطت على فكه و ألقته للخلف على مقدمة سيارته ....
صرخت ورد بهلع
( سيف ما هذا الذي فعلته هل جننت ؟!!!! .... )
لكن و قبل أن تتجه الى يوسف ... كان قد نهض ببساطة وهو يمسح قطرة دم نزفت من جرحٍ بزاوية شفتيه ...
مبتسما ... هادئا .... رزينا .... ثم قال ببساطة
( مئة مرة نصحتك ..... حكم عقلك قبل أن تستخدم يدك .... )
و دون المزيد من الكلمات كان قد رد على سيف بلكمة مماثلة لم يتداركها من شدة سرعتها ... مما جعلته يترنح قليلا وهو يتأوه منحنيا الى الأمام دون أن يسقط ...
بينما نفض يوسف قبضته وهو يتابع بهدوء لاهث قليلا
( هدىء من أعصابك صهر .... انت عريس جديد و لا نريد أن نفقدك في نوبة ضغط .... على الأقل أنجب طفلا قبلا .... )
استقام سيف وهو يهجم عليه بقوة صارخا
( أيها الحقير أتظنني لا اعلم قصدك .... انت تستغل أختى لأغراضك الدنئية .... )
تشابكا بالأيدي بقوة و تعالى الغبار من حولهما ... بينما كانت ورد تصرخ بقوة أن يتوقفا ... الى أن أمسكت بهاتفها تتصل الى أن جائها الرد .... فصرخت بكل قوتها
( الحقيني يا أمي ....... أنزلي حالاااااااااااااا )
.................................................. .................................................. .....................
جلس أربعتهم أمام منيرة .... و التي كانت تلهث و هي تسير و هي تلهث و تهمس بصوتٍ غاضب غير مسموع ...
مضى وقت طويل قبل أن تستطيع فك العراك ... ثم اتصلت بوعد تأمرها بالقدوم الى البيت على وجه السرعة ...
و ها هم أربعتهم يجلسون أمامها ...
سيف كان يبدو كالمجنون وهو ممزق القميص ... يميل الى ركبتيه زافرا بعنف ساعد في زيادة تشعث مظهره ...
بينما وعد تجلس مذعورة على كرسي مقارب منه .. تنظر اليه بطرف عينيها .. و كلما حاولت ملامسته كان يقذف يدها بعيدا و يهدر بها
( ابتعدي في هذه اللحظة ...... أنا أحاول أن أتمالك نفسي ...)
بينما يوسف كان يجلس على مقعدٍ مقابل ...واضعا ساقا فوق الاخرى .... مضجعا بظهره الى الخلف وهو يسند ذقنه الى اصبعه باستعلاء واضح لا يناسب شفته المجروحة و جيب قميصه الممزق متهدلا على صدره ....
بينما كانت ورد تقدح شررا بعينيها و هي تهز ساقها بعصبية و جنون جعلها تشبه سيف ... بل تكاد أن تكون نسخة طبق الأصل منه ...
وقفت منيرة أخيرا ... ثم استدارت اليهم , ناظرة الى كلا منهم مطولا .. ثم همست أخيرا بخفوت
( هل أنا ممنوعة من الفرح بأطفالي ؟!! .... حقا أخبروني ... هل هذا قدري ؟!! .... أم أنها مجرد قسوة منكم ؟!! ... )
رفع سيف وجهه يقول بكآبة
( أمي ..... أنا .......... )
الا أنها رفعت يدها لتقول بهدوء خافت لكن حازم ...
( كفى ..... حقا كفى ..... أخبروني فقط لماذا انا ممنوعة من الفرح بأطفالي ؟!! ...... الا يكفي ما مررت به خلال زواجي .... الا يكفي لأحاول ايجاد السعادة بالفرح بأطفالي ؟!!! .... )
صمتت قليلا لتأخذ نفسا عميقا مرتجفا .. ثم قالت متابعة بهمس مختنق
( أنا أعترف أنني أستحق .... انا أعاقب الآن بسبب ما فعلته مع وعد في طفولتها ... لتصرفي الدنيء و تركي لها .... )
امتقع وجه وعد بشدة و شعرت انها على وشك السقوط تحت الكرسي من شدة الإحراج ...
تبا لذلك ... و هي التي خرجت اليوم مرتدية حلة تليق بعروس .. لتمثل دور العروس ....
بينما استقام سيف هادرا
( كفى يا أمي .... لا يليق هذا الكلام ...... )
الا أنها استدارت بقوة و هي تهتف بصوتٍ قوي رغم انكساره و خفوته
( اسكت يا ولد ..... و لا تخبرني بما يليق و ما لا يليق ...... أنا أحرة لأقول ما أريد ......
كنت انتظر زواجك بفروغ الصبر .... أنت وورد .... لتصدمني بطريقة زواجك الأول... وورد التي يتأخر بها عمر الزواج عاما بعد عام ... و أنا أكاد ان أموت قلقا عليها ... الى أن أصدم بفسخ خطبتها ....
الى أن جاءت ليلة امس ... وقفت فجأة و أنا أنظر اليكم .... لأجدك عريسا في أبهى حلة ... وورد مخطوبة لرجل يبهر العين .... و مهرة تحمل الطفل الأول لهذه العائلة ...... حينها شعرت أنه اليوم الأجمل بحياتي كلها .... و أنا لا أريد أي شيء آخر ... و أنني أستطيع مغادرتها راضية سعيدة ...لكن انظر اليكم الآن .... لم تنتظروا حتى ليوم أو يومين .... بل الصباح التالي مباشرة , و كأنكم تستكثرون فرحتي .. )
تنفس سيف بقوة و غضب و هو يهمس بعنف هادر
( امي .... توقفي عن دور الدلال الطفولي هذا ....... )
هتفت منيرة به
( أنت دائما قاس القلب ... متحجر الإحساس فيما يخصني .... حتى أنك توشك على قتل خطيب أختك , و الآن تتهمني بالدلال الطفولي .... بالله عليك يا سيف ضعني بدار للمسنين و ارتاح من همي ... )
نظر الجميع الى سيف نظرات لومٍ صامتة ... متهمة .... فبادلهم النظر باستياء قبل أن يصرخ قائلا
( من لا يتمنى أن أفقأ له عينه يتجنب النظر الي في تلك اللحظة ....... و انا جاد ... )
الا أن منيرة صرخت هي الاخرى ...
( من أين لك الحق كي تبادر بضربه ... و بالتالي تتسبب لنفسك في هذا الإهدار من الكرامة !! ... اتظن نفسك لا تزال فتى متمرد غاضب يحق له التصرف كيفما يشاء ؟!!! .... كنت أظنك تغيرت ... و نضجت ...)
صدرت عن وعد ضحكة استهجان أفلتت من بين شفتيها رغم عنها ... فهي لم ترى منه غير انعدام النضج منذ أن عرفته ...
لكنها ارتعدت حين سمع ضحكتها و نظر اليها نظرة جمدتها مكانها و جعلت وجهها يشحب أكثر ... فصمتت تماما , قولا و تعبيرا ...
بينما نظر سيف الى أمه طويلا ثم قال بصوت مهيب
( هل انتهيتِ الآن أمي ؟!!! .... هل قلتِ كل ما تحضرتِ لقوله ؟!!! ..... اذن اسمعيني أنا ....)
نهض من مكانه فجأة هادرا وهو يشير الى ورد التي انتفضت مذعورة
( انظري الى ابنتك الغالية .... انظري الى شكلها و أنا أفاجأ بها عائدة معه صباحا ..... بعد قضاء الوقت معه في سيارته .....)
رفعت وعد وجهها تنظر اليه بصمت ... و هي تذكر ملاحقته لها ... و أصراره على محاصرتها بسيارته التي كانت منبهرة بها .... تتذكر تلك النزهات وهو يقلها من مكان لآخر .... اذن الم يكن مخطئا يومها ؟!! ...
لكنها لم تخاطر بالكلام و هي تعرف جيدا انها ستكون خطوة لا تتسم بالعقل أو الحكمة و قد تتسبب في قتلها ...
لكن منيرة هي من تولت الرد هاتفة
( لقد جاء الى البيت يسأل عنها بأدب ... في زيارة عادية , و أنا من أخبرته أنها في المتجر القريب و طلبت منه أن يحضرها .... أليس خطيبها ؟!! ....)
صرخ سيف بجنون ..
( أنتم مخدوعين به ..... كلكم ... أنا وحدي من أعرف نواياه .... أنه ....)
أجبر نفسه على الصمت بقوة وهو يحارب ضغطا هائلا يشد على أذنيه من شدة الغضب ... بينما نار الغيرة تحرق أحشاؤه بقسوة ... كيف يتخيلون أنه قد يسمح بدخوله هذا اليوسف الى العائلة ليكون بالقرب من وعد ليل نهار .... سيموت قبل أن يحدث ذلك ....
خاصة بعد أن رآه اليوم مع ورد ... لقد تعمد ذلك ....
لقد أحرقته غيرته فسارع الى ورد كي ينفث بها حقده الأسود ...
الا أن يوسف هو من تكلم ليقول بهدوء
( أنني ماذا يا سيف ؟!! ..... أرجوك تابع .... فأنا مهتم ..... )
نظر اليه سيف من علو بنظراتٍ كانت لترديه قتيلا ... الا أن يوسف وقف ببطىء ليواجهه ... و يصبح على نفس مستواه ... ثم قال بهدوء
( أنت تغار على زوجتك ...... هذا حقك .... لكن ما ليس حقك أن تمنع أختك عن الزواج بسبب هذه الغيرة .... )
استدار اليه سيف بالكامل وهو يضع يديه في خصره ليقول بصوتٍ قد يجمد المكان
( أتخبرني مجددا ... و لمرة واحدة .... رجلا لرجل ... انك بالفعل تريد أختى .... )
ظل يوسف اليه قليلا .. قبل ان يميل بعينيه الى ورد التي أخفضت وجهها بخزي .... حينها عاد لينظر الى سيف قائلا بهدوء
( أنا لن أقول هذا فحسب ..... لقد كنت اليوم أريد رؤيتها لأعرض عليها الإسراع في عقد القران و السفر معي ....... لذا فالإجابة هي .... أنا أريد الزواج من أختك و الإبتعاد بها من هنا ..... )
ارتجفت ورد بشدة و هي تعض اصبعها بتوتر كاد أن يزهق أعصابها .... بينما ساد صمت طويل مشحون ...
فقالت منيرة بقوة
( وعد ......... )
انتفضت وعد مكانها كالمذنبين فرفعت وجهها و هي تقول
( نعم عمتي ......... )
قالت منيرة بكل قوة وصرامة
( هل قررتِ بأي يوم من الأيام ... و لو حتى فكرتِ مجرد تفكير في الزواج من يوسف و قبول عرضه القديم ..... )
عند هذه النقطة هدر سيف بكل قوته كالثور الهائج
( أمي كفى .......... )
الا أن وعد المذعورة من منظره سارعت للقول تهتف
( اطلاقا يا عمتي .... أنا أصلا معرفتي به تكاد أن تكون سطحية ... )
استدار وجه يوسف ينظر اليها بصمت رافعا حاجبيه باندهاش ... فارتبكت و أخفضت وجهها و هي تقول بخفوت مرتبك
( في حدود العمل أقصد .... لا شيء أكثر ..... )
فقال يوسف بانبهار
( أصيلة يا وعد ........ )
الا أن سيف نشب يده في ذراعه وهو يديره اليه صارخا
( لا دخل لك بوعد و خاطبني أنا ...... )
أبعد يوسف يد سيف عن ذراعه وهو يقول بهدوء جليدي
( و أنا أخبرتك بما أريد ..... لأبتعد عن هنا ..... )
قالت منيرة بهدوء متوتر
( اذن لم يبقى سوى رأي الشخص الوحيد المعني بالامر ..... ورد هي من تقرر ... )
ضحك سيف بسخرية قائلا
( اذن هذه طريقة لإخباري بأنني خارج الأمر ... و أن أي قرار مني هو غير مرحبا به .... )
رفعت ورد وجهها اليه ... ثم قالت بخفوت
( قرارك سيسري يا سيف ..... لكن لو أهتممت برأيي فأنا موافقة و أريد السفر .... و يوسف انسان مناسب لي جدا .... أريدك فقط أن تتذكر أن عند زواجك من وعد ... لم تسمع أي قرار سوى قرارك أنت ... فكن منصفا .... )
همست وعد تخاطب نفسها
( حسنا ... الإحراج التالي سأدفن نفسي عند أقرب شجرة .... )
بينما كان سيف ينظر اليهم جميعا بصمت .... ثم جلس مرتميا على أحد الكراسي وهو يقول بسخرية سوداء
( حسنا ..... بما أن الجميع قد اتخذ قراره ... فما حاجتكم لوجودي اذن ..... أنا مغادر ... )
نهض مجددا مندفعا وهو يهدر آمرا
( هيا يا وعد ........... )
نهضت وعد متخاذلة و مرتبكة ... بينما صرخت منيرة بغضب
( وعد لن تذهب لأي مكان .... أخرج أنت ..... )
تسمر سيف مكانه وهو يرفع حاجبيه ليقول مذهولا
( عفوا ..... ماذا ؟!!! ......... )
ضربت منيرة الأرض بقدمها و هي تصرخ
( ما سمعته ....... ... )
و بمنتهى الحزم التفتت الى وعد تقول بصرامة
( وعد أدخلي الى المطبخ و اعدي القهوة لخطيب أخت زوجك من فضلك الى أن أنهي هذه المهذلة .... )
نظرت وعد الى سيف بذهول بينما كانت عيناه مخيفتان ... تهتزان من شدة الغضب البادي بهما ...
فقال بصوتٍ يرتجف من شدة جنونه
( تعالي الى هنا يا وعد ...... الآن ...... )
تحركت وعد نحوه خطوة مرتجفة ... الا ان منيرة أمسكت معصمها بقوة و هي تقول بلهجةٍ أشد صرامة
( الى المطبخ يا وعد رجاءا ..... فقدمي لا تتحملني لآن .... )
أمسكت وعد بذراعها و هي تقول بصوت خافت
( لما لا تجلسين قليلا يا عمتي ...... أنتِ ترتجفين .... )
و ساعدتها بالفعل الى أن جلست ... فقالت منيرة و هي تنظر الى عينيها هامسة بصوت خافت
( لن يمارس تسلطه الآن ...... ابقي هنا يا وعد أرجوك ... )
زمت وعد شفتيها ... الا أنها أومأت براسها بصمت .... ثم استقامت قائلة و هي ترتجف بشدة
( سأذهب لأعد القهوة ...... )
حانت منها التفاتة الى سيف الذي كان ينظر اليها بنظرةٍ تحمل كل اشارات التهديد و الوعيد ... الا أن وعد سارعت بساقين ترتجفان الى المطبخ ... مرحبة بهذا الهرب حاليا ...
بينما تعالت همهمات غاضبة لم تستطع تفسيرها تماما ... و هي تقف في المطبخ رافعة يدها الى صدرها اللاهث ...
الى ان انتفضت فجأة على صوت سيف و هو يزلزل الجدران
( اذن أنا خارج ....... هنيئا لكم بها الليلة..... )
و لم تمر لحظتين حتى سمعت وعد صوت الباب الخارجي يصفق بكل عنف ... هز الجدران ...
تبعه صوت سيارة سيف مصدرة صريرا عاليا منفرا ...
حينها خرجت وعد من المطبخ مهرولة .... لتجد منيرة تقف بجوار يوسف لتقول له بخفوت متوتر
( متى يحين موعد سفرك ؟!! ....... )
قال يوسف بوجوم
( خلال أسبوع على الأكثر ..... لكن لو ساءت الأمور او ظلت كما هي أستطيع تأجيل السفر بصعوبةٍ لمدة أربعة ايام زائدة .....)
رفعت منيرة ذقنها و هي تقول بتصلب
( لا .... لا داعي لتؤجل سفرك ...... حدد موعد عقد القران بما يناسبكما و أنا موافقة ... )
نظر يوسف الى ورد المذهولة ... و رغم عنه تسللت ابتسامة الى شفتيه ... ابتسامة متسلية مرحة لم يستطع كبتها ... ثم قال بهدوء
( اذن ما رأيك بالخميس القادم ,,,,,...... )
أومأت منيرة و هي تقول بحزن
( الخميس مناسب جدا ...... )
هنا تقدمت وعد و هي تقول بخفوت غير مصدقة
( هل غادر سيف ؟!!! ........ و تركني !! ..... )
نظرت اليها منيرة بحزن و هي تهمس
( سيف ...... قال أنه لا مانع أن تبيتي ليلتك هنا اليوم يا وعد .... )
ارتفع حاجبي وعد و هي تدرك بأنها كانت المقصودة حين هدر قائلا
" هنيئا لكم بها الليلة ........ "
.................................................. .................................................. ............
أغلقت دولاب ملابسه ... بعد أن ارتدت احدى سترات مناماته الثقيلة و التي تغطي فخذييها براحة ....
و المناسبة للجو البارد قليلا ...
ثم استدارت تنظر الى الغرفة التي اشتاقت اليها رغما عنها ....
فاتجهت الى المرآة لتمشط شعرها الطويل الذي انساب مبللا على ظهرها مما جعلها براقة و ندية ....
تركت الفرشاة الخاصة به و هي تزفر بقنوط .... تدور حول نفسها لتستند الى طاولة الزينة ...
تتذكر كل ذكرى صغيرة بينهما داخل هذه الجدران .... سواء كانت سعيدة أم مؤلمة .... تظل غالية لديها و عملت على تقاربهما أكثر حتى وصلا الى علاقتهما المتينة اليوم ...
تسمرت مكانها و هي تضحك بسخرية ... هامسة بمرارة
" علاقتنا المتينة ....... "
سمعت فجأة صوت طرقة هادئة على الباب ... و قبل أن تسمح بالدخول كانت منيرة قد فتحت الباب و دخلت بهدوء حاملة كوبا من الكاكاو ... قائلة برفق
( حضرت لكِ كوب من الكاكاو الساخن يا وعد ..... )
احمر وجه وعد بشدة و هي تستقيم واقفة لا تدري أين تخفي ساقيها ....تبا للغباء الذي يجعلها ترتدي السترة فقط حتى الآن ...... انها احدى مساوىء الحياة المشتركة مع سيف ....
و هي تقول بخفوت متوتر
( لم يكن عليكِ أن تتعبي نفسك يا عمتي ....... )
قالت منيرة مبتسمة و هي تضعه برفق على المنضدة الجانبية للسرير
( هذا من دواعي سروري بعد ان ساندتني اليوم ...... )
استدارت تنظر اليها فلاحظت خجل وعد و هي تحاول اخفاء ساقا خلف الأخرى ...
فابتسمت خلسة و قالت مدعية القلق
( أنت ستبردين في وقفتك هذه ..... تعالي و ادخلي تحت الغطاء )
ثم استدارت عنها و هي تزيح جزءا منه ... فسارعت وعد تدخل الى الفراش بالفعل , لتدثرها منيرة بحنان ...
رفعت وعد عينيها الى منيرة التي ظلت منحنية اليها تتأملها مبتسمة ... ثم مدت يدها تملس على جانب شعرها ووجهها قائلة برقة
( أنتِ تزدادين جمالا يوما بعد يوم ....... )
شعرت وعد بدموع خائنة تطرف عينيها و هي تتذوق حنان أمومي لم تعرفه قبلا .... لكنها همست بخفوت
( شكرا عمتي ..... و أنتِ أيضا تزدادين جمالا و تصغرين شكلا كلما كبرتِ عاما ..... )
جلست منيرة على حافة السرير و هي تقول ضاحكة برقة
( و أصبحتِ معسولة اللسان أيضا ..... والله سلمت يدا ابني الحبيب .... )
احمر وجه وعد بشدة و هي تبتسم دون رد مطرقة قليلا .... فهمست منيرة بخفوت بعد فترة
( أنا آسفة جدا يا وعد أنني أقحمتك في هذه المشكلة .... و كنت السبب في ابعادك عن زوجك الليلة ... )
قالت وعد بوجوم خافت
( لا عليكِ يا عمتي .... ربما كان هذا أفضل , فحالة سيف تدل على أنه لو بقينا معا الليلة لتشاجرنا حتما ... )
تنهدت منيرة و هي تهمس
( إنه لا يسيطر على غضبه حين يصل الى مرحلةٍ معينة .... فتتحول الدنيا أمامه الى ساحة حرب كل العنف بها متاح .... انتظر عاما بعد عام أن تهدأ نفسه و ينضج عن تلك الطاقة السلبية التي تتلبسه ... لكن لا فائدة ... و ها هو أوشك الشيب على أن يغزو رأسه و لا يزال كما هو ..... ينفعل قبل أن يفكر ثم يندم بعد أن يؤذي من يحب ..... )
ضحكت وعد قليلا و هي تقول بخفوت
( أتخبرينني عن سيف يا عمتي ؟!! ..... أعرفه حق المعرفة و اختبرت غضبه مرارا .... )
نظرت اليها منيرة بحزن ثم قالت
( ما مر به ليس سهلا ..... و أظن أن شخصيته قد تكونت على هذا المنوال و انتهى الأمر .... لذا لن يتحمله الا من يحبه ..... )
همست وعد بقلب منقبض ... و هي تعلم بأن عمتها لم تقصد هذه المرة أن تتهمها بذنب والدها ... بل كانت تتكلم بعفوية ...
( أعلم يا عمتي ......... في الحقيقة أنه محتمل ..... ليس منفرا تماما ... )
قالت منيرة بحرج
( وعد ..... أعذريني أن تصرفت كأم و فضلت ابنتي ... فوافقت على زواجها من يوسف .... لم أقصد أن أجرحك أبدا .... )
عقدت وعد حاجبيها و هي تقول
( و ما الجرح يا عمتي ؟!! .... لقد أقسمت لكِ أنه لا شيء كان بيني و بين يوسف مطلقا ... )
أمسكت منيرة بركبة وعد تشد عليها و هي تقول بحرارة
( أعرف حبيبتي و أثق بكِ تماما ..... لكن كان المنطق يقول أن نرفض هذا الشخص ادراءا للمشاكل ... كي لا تفسد حياتك .... لكني كأم لم أستطع أن ارفضه ...... ورد أيضا مرت بالكثير و أنا كنت اريد ان أراها سعيدة ولو مرة في حياتها .... )
مدت وعد يدها فوق يد منيرة و شدت عليها قائلة ...
( هذا هراء و لا يتبع أي منطق ..... لماذا ترفضين شخصا مثله ... يوسف رجلا رائعا ... حنونا و راقيا و متزنا جدا .... أي أنه أقدر من يتحمل ورد .... )
أطرقت منيرة برأسها و هي تقول بندم
( لكنني أغضبت ابني ... و أبخست من حقه أمام الجميع ..... )
رفعت وجهها الى وعد تقول
( لم يكن أمامي أي شيء آخر لأفعله ...... لن أسمح بأن يتسلط على أخته ...يجب أن يتربى ... . )
ربتت وعد على كفها و هي تقول
( سيناقش نفسه و يعود ....... صدقيني ..... )
ربتت منيرة على وجنتها و هي تهمس
( هذا ما سأدعو الله به طوال الليل ........ و الا سينفطر قلبي .... )
اخذت نفسا مرتجفا محاولة الا تبكي ... ثم قالت مبتسمة بمرح
( سأتركك الآن مع الكاكاو الخاص بكِ ...... لتنامي و ترتاحي ... )
أومأت وعد بصمت مبتسمة ... و ما أن خرجت منيرة حتى أرجعت رأسها للخلف مستندة الى الوسائد و هي تحدق بسقف الغرفة ...
ثم لم تلبث أن همست
" رائع يا سيف ...... من اليوم الأول و ها قد عدنا لما كنا عليه ... "
أغمضت عينيها متحسرة بتعب ... و قد نال ضغط اليوم منها .... فمدت يدها تطفيء المصباح الجانبي ...
شعرت بأنها تاهت لدقائق أو ربما لساعات .... لا تعلم تحديدا ... كما لم تحدد يوما متى تنام بالضبط ...
الا أن كل ما تعرفه هو استيقاظها على قوة قبلاتٍ نهمة تقتص منها ... و ذراعين كالحديد تعتصرانها عقابا ...
فشهقت من بين القبلات المجنونة ذات النفس الهادر
( سيف !!! ......... )
سمعت همسا أجشا في الظلام يقول
( هشششششش....... )
حاولت تفادي عاطفته المجنونة بالغضب و الإشتياق الا أن كل محاولاتها بائت بالفشل و هي تشعر به يخلع عنها سترة منامته .. فقالت بغضب متزعزع من شدة مشاعره الهوجاء
( ماذا تفعل ؟!! ...... )
همس بزمجرة خشنة في أذنها
( أعاقبك ......... كي لا تجرؤين على تحدي سيدك مجددا .... )
قالت بغضب مهترىء من عمق ضعفها و شوقها
( لا ..... عمتي تقول أنك متسلط و يجب أن تتربى .... )
فهمس لها بصوتٍ أجش وهو يسكت محاولاتها الفاشلة
( اذن ربيني ........... )
سكنت قليلا و هي تغمض عينيها تلتقط بعضا من ترياق حبه ... قبل أن تهمس بصوتٍ متخاذل
( ما الذي أتى بك الآن ؟!! ...... )
مضى وقت طويل قبل أن يهمس بصوتٍ أجش في أذنها
( اتظنين انني أستطيع الإبتعاد عنكِ مجددا ؟!! ...... مجنونة انتِ اذن ..... تعالي الى هنا يا رائحة صابوني المفضل ... أنعشيني )
.................................................. .................................................. ...................
( من المفترض أن تأكل .... لا أن تظل تراقبني بهذا الشكل ..)
همست بعبارتها بخجل .. و هي تطرق بوجهها .. تمضغ ببطىء و تعثر ... بينما ابتسامتها الخفية واضحة للأعمى ...
ترى الا تدرك مبلغ جمالها خلف ضوء تلك الشمعة الصغيرة في الكأس الكريستالي ؟!! .....
في الواقع لن يمل تأملها أبدا ... إن كان هذا هو ما تسأل عنه .... فقال بصوتٍ عميق
( أفعلي شيئا بجمالك اذن كي أتمكن من الأكل يوما .... )
ضحكت رغما عنها بوجهٍ أحمر يشتعل ... ثم همست دون ان تنظر اليه
( ربما كان الذنب ذنبك اليوم ... فأنت من مشطت لي شعري حتى بات يلمع كالذهب .... )
ابتسم حتى تغضنت زوايا عينيه وهو يتأمل وجهها المنخفض على طبقها ... ثم قال أخيرا
( لم أجد القدرة على تركه سريعا .... كان ينساب على ذراعي كوشاح جميل يخطف الأنظار ... )
كان كلامه كله يشعرها بالجنون ....
غزلا هادئا متزنا ... يجعله أقرب الى الحقيقة ... و قابلا للتصديق ..
ربما لو كان مهووسا ككريم ... لما صدقت غزله ... لكن رائف , يتحدث في الغزل بنفس الصدق الذي يتحدث به في كل ما يخصها ...
نفضت ذكرى كريم من رأسها بقوة و هي تبتلع تلك القصة الحزينة .. محاولة تناسي حزنها عليه حاليا و نسيان مشهد موته القريب ..
لذا ابتلعت ريقها و قررت ان تناغش رائف قليلا ... فقالت برقة دون أن ترفع وجهها اليه
( ربما استطعت أن أفعل به شيئا ليكون سهل الإعتناء به ..... سأقصه قليلا ... )
ترك سكينه فجأة وهو ينظر اليها نظرة جعلتها تكاد أن تسعل بطعامها من شدة رهبتها و نفاذها .. الا أنه حين تكلم قال بصوتٍ عميق متزن
( ما هو هذا اللذي ستقصينه ؟!! ....... )
ادعت الثبات .. فرفعت حاجبيها و هي تنظر اليه بعينين متسعتين قائلة ببراءة
( شعري ........ )
ظل ينظر اليها قليلا دون أن تتحرك عضلة بوجهه بينما هي تنتظر ... الى أن قال أخيرا بهدوء خطير
( لن أسمح لكِ بقص شيء يخصني ...... )
رمشت بعينيها قليلا و هي تهمس مستندة بذقنها الى كفها
( و ما هو هذا الذي يخصك ؟!! ....... لقد تكلمت عن شعري .... )
لم يستسلم لمحاولة استفزازه بل قال بهدوء
( كل أصبحتِ تخصينني ... بدئا من أصابع قدميك الصغيرة المستديرة كأصابع الأطفال .... و حتى أطراف شعرك العطرة و التي لامست قبلاتي صباحا ... )
احمر وجهها أكثر ... حتى بدت كوردة الجوري المتفتحة ... فقالت بصوت هامس يتناسب مع الموسيقى الحالمة خلفها ...
( لم أكن أعلم ذلك ....... )
قال رائف بهدوء و جدية
( اذن عليك البدء في المعرفة ... بل و التأكد من ذلك ... ألم أحذرك و أنا أعرض عليكِ الزواج ؟!! ... )
ابتسمت أكثر و تجرأت لترفع عينيها اليه و همست
( نعم حذرتني ...... و أنا قبلت ..... )
قال رائف بنفس الجدية و ان كان مبتسما
( جيد ..... هيا افتحي فمك ...... )
فتحت فمها تلقائيا وهو يطعمها بشوكته ... فهمست بحرج
( هل ستطعمني هنا أيضا ؟!! ....... الناس يراقبوننا .... )
قال ببساطة
( نحن في شهر العسل .... في الواقع بأول يومٍ منه .. لذا تستحقين الدلال .... )
مضغت طعامها ببطىء و هي تنظر الى عينيه الساحرتين في حنانهما ... ثم همست بخفوت و رقة
( و ماذا سيحدث بعد فترة من زواجنا .... لا أظن أنك ستستمر في تدليلي بهذا الشكل ؟!! ... )
قال رائف بهدوء وهو يتناول طعامه
( ان اردت الحق .... قد انشغل عنكِ قليلا ...... )
ارتفع حاجبيها و عضت على شفتها السفلى المكتنزة .... هامسة بوجوم
( حقا ؟!! ............. )
قال رائف مؤكدا ...
( للأسف .... انها سنة الكون ..... أن أشغل بطفلتنا ... أطعمها و أمشط لها شعرها , بينما انت تنامين قليلا ... )
ارتجفت ملك بخدر عميق اوهن مفاصلها ... فقالت بخفوت
( طفلتنا ؟!! ........ )
رفع عينيه اليها .. يقيم ردة فعلها بحذر , ليقول مؤكدا
( نعم طفلتنا ......... )
شعرت من نبرة صوته أنه لا يمازحها ... بل يسألها بطريق غير مباشر عن رغبتها في الحصول على اطفال !! ..
ربما كان مترددا بسبب تجربتها الماضية المؤلمة ... ربما ظنها متراجعة و متوترة ... او حتى رافضة
كخوفها من العلاقة بينهما !! ....
لذا أخذت نفسا عميقا و قالت مبتسمة ابتسامة سرقت قلبه
( لكن الا تظن نفسك متعصبا قليلا ... و أنت تقرر أن تكون فتاة ؟!! .... سيف قرر ان ينجب الذكور فقط ... فمابالكم ؟!! .... هل تفصلون الأطفال خياطة ؟!! .... )
ابتسم ابتسامة عريضة ... لم ترى أجمل منها في حياتها كلها ... لدرجة ان لامس فكه قليلا .. و بدا غير قادرا على الكلام لوهلة ...
و بعد فترة طويلة ... قال بهدوء
( دعينا اذن نتفق .... اما فتاة شقراء تشبهك .... و اما ولد )
قاطعته تقول بحرارة نبعت من قلبها بوضوح
( نسخة منك ...... ...... )
عبس رائف وهو يقول مداعبا
( سيعيش مظلوما طوال عمره .... و الجميع يقارنون بينه و بين جمال أخته الذي يخطف الأنظار .... )
ارتجفت شفتيها اكثر ... حتى عجزت عن الرد لفترة .. فعضت على شفتها السفلى لتوقف ارتجافتها ...
الا تدرك أن تلك الحركة التي تكررها كل حين تقتله شوقا لها .... يعد الدقائق حتى تصبح له من جديد ...
مد يده من فوق المائدة ليمسك بيدها .. و ابهامه يتحسس ظهر كفها الناعم ... ككل ما فيها ناعما ...
الى ان قال أخيرا بهدوء
( ألم أخبرك من قبل أنني كنت قد نسيت طعم السعادة مع الأحياء الى أن قابلتك ....... )
شعرت بقلبها يشفق عليه بشدة ... ترى ماذا قدمت له حتى يشعر بهذا الشعور ؟!!
لقد قلبت حياته رأسا على عقب .... و أعيته بمشاكلها .... و فرقت عائلته من حوله .... و تسببت في تورطه بقضية هو بريء منها .....
و ها هي حتى غير قادرة بمنحه علاقة مكتملة بعد سنوات من الجفاء العاطفي منذ وفاة زوجته ....
ابتلعت ريقها و هي تقول بخفوت
( رائف ........ ماذا سأافعل لو ؟؟ ....... )
لم تستطع النطق من شدة الهلع الذي بان على وجهها فعقد رائف حاجبيه قائلا
( لو ماذا يا وردتي الصغيرة ؟!! ....... )
شدت على يده و هي تقول بخوف واضح
( ماذا لو ...... حكم عليك في القضية ..... )
استمر يمسد ظاهر كفها في يده بقوة ... دون ان تهتز عضلة بملامحه ... الى ان قال أخيرا بهدوء وهو ينظر اليها
( اذن أنا من علي أن أسألك .......... هل ستنتظريني ؟!! ...... )
ابتلعت خوفها مع الغصة المؤلمة بحلقها و هي تهمس بصوتٍ مشتد ...
( و هل تسأل ؟!! ......... )
قال رائف بخفوت جدي وهو يداعب وجنتها بيده الأخرى
( ربما أكون قد ظلمتك معي و أنا مقبلا على قضية مثلها ....... )
أغمضت عينيها و مالت الى يده التي تداعب وجهها ثم قالت بخفوت
( أنت من ظلمتني ؟!! ....... آآآآه يا رائف !! .... )
ارتجفت شفتاه قليلا .. ثم قال بخفوت
( لما لا نتناسى هذا الأمر حاليا ؟!! ......... )
همست بخفوت مرتعش
( أحاول جاهدة ... الا انني لا أستطيع , إنه يسيطر علي ....... )
رغما عنها تساقطت دمعة ماسية ناعمة من تحت جفنها المغمض ... فالتوى حلق رائف وهو يرفع اصبعه ليمسحها برفق .... هامسا باسمها ... ففتحت عينيها تنظر بهما الى عينيه و هي تقول بخفوت دون أي ذرة من الخجل
( أحبك يا رائف ...... )
ضاقت حدقتاه وهو يقول هامسا
( حقا ؟!! ........ و لماذا اذن لا تدعين الذكريات تمر بحزنها بعيدا ؟!! .... )
لم يكن هذا هو الرد الذي تأملت سماعه .... كانت تريد تصريحا بحبه ... بل كانت تتمناه ... بقوة غزله و قوة حنانه .... لكنها تنهدت بقوة و هي تهمس بخفوت
( هذا خارج عن ارادتي ..... هلا منحتني فقط بعض الوقت ..... )
قال رائف بعد فترة صمت طويلة
( أتشعرين ....... بالإشتياق اليه .... من حين لآخر بعد ؟!! .... )
لم تتظاهر بعدم الفهم ... بل فهمته , بل و لمحت التردد الرجولي في صوته ... و القلق بعينيه ...
حينها قالت بخفوت
( تنتابني صورا من طفولتنا ..... أخشى أن أقصها عليك , فتحتقرني .... )
عبس رائف قليلا وهو يقول بخفوت يشد على كفها المرتجف
( أحتقرك ؟!! ...... لماذا ؟!! .... ماذا يمكن لطفلة صغيرة مثلك أن تفعل كي أحتقرها ؟!! ... )
أطرقت بوجهها و هي تتنهد بصمت ... نادمة على أنها فتحت هذا الحوار دون قصد منها ... ففقدت شهيتها ...
الا أن رائف لم يصر على أن يسمع صوتها ... بل اكتفى بالقول بصوتٍ جامد متصلب
( هل كان يتعدى عليك في صغركما ؟!! ....... )
ظلت صامتة قليلا .... قبل أن تقول بخفوت
( هو نفسه كان مجرد طفل ....... صبي على أحسن تقدير ... )
ضيق رائف عينيه قليلا وهو يقول و كأنه كان يقر حقيقة واقعة
( لكنه كان مضطربا ...... )
أومأت برأسها دون أن ترد أو أن تنظر اليه .... سمعته يزفر نفسا خشنا .. قويا ..... و كأنه يحمل حملا ثقيلا
فلعنت غبائها الذي جعلها تفسد هذه الأمسية الرائعة ... لذا رفعت وجهها تنظر اليه و هي تقول بعفوية مفتعلة
( هلا غيرنا الموضوع من فضلك ؟؟ ...... )
رفع وجهه القاتم اليها .. ينظر اليها نظرة جمدتها مكانها , الا أنه قال أخيرا بهدوء
( طبعا ......... لما لا تخبريني بكل ما تحبين ؟!! ..... و أعدك أن أحققه لك ... )
ابتسمت ببطىء و هي تقول بحذر
( حسنا ..... سألتزم بوعدك اذن ...... كنت امازحك بخصوص شعري , فأنا لن أقصه حاليا ,,,)
قال رائف مصححا وهو يرفع ذقنه
( أبدا ..........)
ضحكت برقة و هي تقول معدلة
( حسنا ,,,,, أبدا .... لكن لهذا سبب وجيه حاليا و أتمنى منك أن تتقبله ....)
عاد ليضيق عينيه وهو يقول بحذر
( وهو ............... )
عضت على شفتها قليلا ... ثم رفعت وجهها اليه قائلة
( أتعرف ..... أنا لم أكون حياة أبدا من قبل .... لقد اقتصر دوري في الحياة كلها كبائعة ورد لا غير .... أحادث الورود و أهمس لها .... و مساءا أعيش بين الروايات ....)
قال رائف مبتسما وهو يقرص وجنتها
( و تلك هي الحياة التي تليق بكِ يا سكر ......)
أسبلت جفنيها لتبتسم برقة كادت أن تفتك بالمتبقي من اعصابه ... الى أن قالت برقة
(لكني لم أفعل أي شيء آخر ... و لم أجرب أي عمل مختلف .... و بصراحة لم أهتم مسبقا ... لكن الآن بدأت أشعر أنني أريد الخروج من عالم الأحلام الذي أعيشه ...)
صمتت قليلا ثم رفعت وجهها تنظر الى رائف الذي بدأت ملامحه تشتد بحذر الى أن قالت متابعة بخفوت
( هذا العالم ليس ورديا تماما كما كنت اظن يا رائف ..... اريد الخروج للحياة و الإختلاط الحقيقي بالناس .... أريد العمل ....)
بهتت ملامحه قليلا وهو يردد بهدوء
( العمل ؟!!! ...... و ماذا بإمكانك أن تعملي ؟!! .....)
ارتبكت قليلا و هي تقول بحرج
( أعلم أنني لا أمتلك أي مؤهلات ..... لكن حاليا هناك عرضا واحدا عرض علي و سبق أن أخبرتك به ... أنا حقا أريد خوض التجربة ....)
شعرت بيده تتصلب على كفها بقوةٍ آلمتها ... مما جعلها تقول بقلق و هي تنظر اليه
( أن أكون وجها دعائيا .... هل تتذكر ؟!! .....)
كانت ملامحه ساكنة غير مطمئنة ... الى ان قال أخيرا بهدوء غير مريح
( مرت فترة ..... ما الذي جعلك أنت تتذكرين ؟!! ....)
قالت ملك بخفوت وتوتر
( كنت أمر بفترة العدة ..... لذا لم يكن مناسبا حتى التفكير في الأمر و صاحب العرض عرف بأنني في فترة عدة و أنني لن أستطيع التصوير وقتها لذا انتظرني وأعاد الطلب على وعد مجددا .....)
ساد الصمت قليلا بينما هي تقضم أظافر يدها الحرة تتسائل عن سبب موقفه الصامت الى أن قال أخيرا بصوتٍ قاطع
( لا يا ملك ........)
تسمرت مكانها فجأة و هي تقول بفتور
( مجرد لا !! ...... دون حتى أي مناقشة ؟!!! ....)
قال رائف بهدوء صارم
( لا أحتاج لمناقشة استعراض جمال زوجتي علنا ......)
قالت ملك عابسة بتوتر ...
( أنت تسمي الأمر بمسمى مختلف تماما ..... إنها مجرد تجربة .... )
قال رائف بهدوء
( لا ............. )
اتسعت عيناها قليلا و هي تراقب التصلب على ملامحه ... فهمست لنفسها
( لا أصدق هذا ....... )
قال رائف بمنتهى الهدوء
( صدقي اذن ............... هذا العرض مرفوض تماما , لو حاول صاحبه التواصل معكِ مجددا فأنا من سأتصرف معه حينها ... )
حاولت أن تبعد يدها عن يده الا أنه لم يسمح لها وهو يشدد عليها بقوة ... فقالت بخفوت
( هلا تركت يدي من فضلك ..... )
قال ببساطة وهو ينظر اليها
( لا ......... )
رفعت اليه عينين ثائرتين .... و هي تهمس غير مصدقة
( لا ثانية خلال دقيقة واحدة ..... و في أول يوم من زواجنا , هذا رائع .... )
ظل ينظر اليها قليلا ... ثم لم يلبث أن ضحك بقوة جعلت قلبها يختلج بين أضلعها ... مما جعلها تبتسم تلقائيا ... رغما عنها و رغم عن غضبها ....
فضحكت هي الأخرى و هي تسبل جفنيها قائلة
( حسنا أنت تعرف كيف تثبتني من مجرد نظرة ..... هذا لا يبشر بالخير أبدا ... )
تحولت ضحكته الى ابتسامة حارة ... ثم قال
( بل أنتِ من تقنين فن اغضاب الرجل في ساعة أكله ....... )
مطت شفتيها بخبث و هي تهمس بشقاوة رقيقة
( ألن استطيع أذن أفعل أي شيء أستطيع أقناعك به ؟!! ...... )
عاد ليعبس قائلا
( لا ....... و هذه الثالثة .....و الأخيرة ... . )
زفرت بقوة و هي تقول بخفوت
( حسنا ..... كانت هذه الفكرة الاولى و فشلت قبل حتى أن تبدأ ...... )
أطرقت بوجهها ... لكنه مد اليها المزيد من الطعام الذي لامس شفتيها بمداعبة ... ففتحت فمها له تلقائيا ...
و استمر بهما الصمت و هما يأكلان ... او بمعنى أصح .... هو يأكل و يطعمها معه .....
.................................................. .................................................. ...................
كانت الساعة قد قاربت التاسعة .... و السيارة تنطلق بهما بينما يجلس بجوارها في المقعد الخلفي محتجزا يدها في كفه القوية ... الى أن قطع الصمت أخيرا قائلا
( ملك ....... أنا ممتن جدا بعرضك هذا .... )
التفتت اليه مبتسمة لتقول برقة
( إنه ليس تضحية في الواقع ..... لقد اشتقت جدا للسيد عاطف و اريد رؤيته ... )
ظل ينظر اليها قليلا قبل أن يقول بخفوت مرتبك
( على الرغم من أنه لم يحضر عقد قراننا بالأمس ؟!! ...... )
قالت ملك بصدق تام
( من يذهب الى من يا رائف ؟!! .......صحته لم تعد تحتمل , لكن هذا لن يكون سببا كي لا نشاركه مستجدات حياتنا كما وعدته ...... )
عادت لتنظر من نافذتها ... بينما رفع رائف يدها الى فمه , يقبل راحة يدها بطريقة جعلتها ترتعش بقوة ..
فقد كان كلا منهما يعرف أنه لم يملك الطاقة النفسية على رؤية عقد قران رائف .... بمراسمه ...
و فتاة أخرى غير ابنته هي من تجلس بجواره ....
قال رائف بهدوء
( ستجدين ميساء هناك على الأرجح .......... )
توترت ملك قليلا ... الا أنها قالت بخفوت بعد فترة
( نعم ...... و أنا أقدر عدم قدرتها على المجيء هي أيضا ... فما مررنا به أنا و هي جعل من طريقينا متعاكسين ...... )
كانت تحاول أن تقنع نفسها بذلك .... الا أنها فشلت و كانت تعرف في قرارة نفسها أنه من الصعب جدا أن تقوم بينها و بين ميساء علاقة ودية ... و هذا ما جعلها تذكر قائلة بخفوت
( بالمناسبة يا رائف ..... أنت تتذكر أن جلسة الميراث ستكون مع المحامي خلال أيام ...... )
انتفض مكانه بصورة داخلية غير ملحوظة وهو ينظر اليها ليقول بهدوء
( يمكنني أن أنهي لكِ كل الإجراءات في التنازل عنه .... لا تخافي .... )
رفعت عينيها الى عيني رائف لتقول بهدوء حذر
( أي تنازل ؟!! ....... أنا لن أتنازل عنه ....... )
شعر رائف فجأة بجسده يتصلب وهو ينظر الى وجهها الهادىء الذي ينظر اليه باستغراب ... فقال مستفهما بصوتٍ غريب
( لن تتنازلي ؟!! ...... هل ستستلمين الميراث ؟!! .......... )
رفعت حاجبيها و هي تقول بخفوت ناظرة الى عينيه
( بالطبع ..... ما الذي جعلك تعتقد العكس ؟!! .......... )
قال بصوت جامد خافت
( تعرفين لماذا حق المعرفة .......... )
هزت كتفها و هي تقول بخفوت
( لم يكن هذا ذنبي يا رائف ....... )
رمش بعينيه وهو يشعر بجسده يتشنج بطريقة غير مرغوبٍ بها .... لكنه التزم الهدوء وهو يقول بهدوء متصلب
( ملك .... أنت لن تحتاجي له أبدا .... أنا أملك كل ما سيجعلك مرفهة ...... و نصيبك من الميراث أقل مما سأمنحه لكِ ...... )
قالت ملك بمنتهى الهدوء و هي تنظر اليه
( حتى و إن كان نصيبي مجرد بضع قروش قليلة ..... لن أترك ميراثي من زوجي لأكرم القاضي .... )
ثم التفتت تنظر من نافذتها و هي تغلق باب الحوار ..... بينما كان ينظر اليها بعينين ضيقتين و غضب داخلي مسيطر عليه فلا يصعد الى سطح ملامحه القاتمة ...
لكن قلبه .... فقط قلبه كان يعلم أن خلف ذلك الوجه الهادىء البريء ... تكمن شرارات عنيفة رآها من قبل في عدة مناسبات .... و تلك الشرارات تحمل غضبا ... و ألما ....
أخذ نفسا عميقا قويا وهو يترك يدها ببطىء لينظر من نافذته .... و لم يدري أنها كانت تختلس النظر الى كفها الصغير حيث تركتها كفه !! .....
.................................................. .................................................. ......................
وقفت ملك أمام باب قصر القاضي بتشنج ... و هي تذكر كل ذكرى بائسة طالتها هنا ... في هذا المكان ...
انتفضت فجأة حين شعرت بذراع رائف تحيط بخصرها و تضمها الى جزعه القوي وهو يقول بخفوت
( ربما لم يكن من المناسب أن تأتي الى هنا ..... اليوم .... )
أخذت نفسا مرتجفا كي تهدىء من نفسها ... ثم رفعت اليه وجها مبتسما رغم شحوبه و قالت بهدوء
( بالعكس .... كنت أريد المجيء الى هنا ... و أنا ممتنة لعمي عاطف أنه منحني تلك الفرصة لأحارب المزيد من أشباحي ..... )
فتح الباب فجأة .... فتحته احدى الخادمات الأجنبيات ...فسألها رائف عن خاله , الا أنها أخبرته بنومه مبكرا بعد أن دخلا ...
وقفت ملك مع رائف يدا بيد في منتصف البهو ....
فقال لها بخفوت
( أنغادر ؟!! ........... )
هزت ملك كتفها و هي تهمس بخفوت
( كما تحب ............. )
لكن رائف سأل الخادمة عن السيدة ميساء ... فأخبرته بأنها تجلس مع الضيف في غرفة الجلوس
عقد رائف حاجبيه وهو يقول بخفوت
( أي ضيف ؟!! ........ )
لكن الخادمة لم تجد الوقت كي تجيبه وهو يسمع صوت ميساء تضحك برقة من خلفه يرافقها صوت ذكوري خافت لا مبالي ....
شيئ ما في هذا الصوت جعل برودة تسري عبر ظهره ... فاستدار اليهما ببطىء شديد ...
و كأن الزمن قد توقف بين ثلاثتهم ....
رائف و ميساء التي توقفت مكانها مصدومة من رؤيته .... متزينة بشكل جعل منها شابة في فستان قصير أسود و جوارب تماثله لونا ... و تناقض الأحمر القاتم على شفتيها الفاغرتين
.... و شاب آخر ... لم تعرفه ملك ....
كان شابا أصغر من رائف ... لكنه يكبرها .... و مع ذلك لم تستطع تحديد عمره بالضبط ....
لكن شيئا ما في الأجواء بينهم جعلها تتوتر مما يدور حولها ...
و كانت ميساء هي اول من تكلمت و الصدمة لا تزال ظاهرة على ملامحها
( رائف ؟!! ..... ماذا تفعلان هنا و في هذا الوقت دون موعد !! ........ )
الا أن رائف لم يسمعها ... بل بدا و كأنه لم يراها أصلا وهو يستدير بأكمله قائلا بصوتٍ جعل ملك ترتعد مكانها و هي لا تفهم شيء مما يحدث ....
( أنت ؟!!! ....... ماذا تفعل هنا ؟!! ........ )
ابتسم الشاب ابتسامة قاسية لا تحمل اي اثر للمودة وهو يقول بصوتٍ مزدري
( مر وقت طويل سيد رائف .... علمت من ميسا أنك قد تزوجت .... )
استدار قليلا ينظر الى ملك من رأسها و حتى أخمص قدميها بنظرةٍ وقحة و ان كانت لا تحمل شهوة ... بل غضب .. غضب محفور في ملامحه ...
( هل هذه هي عروسك ؟!! ...... أليست صغيرة قليلا ؟؟ ..... )
الا ان رائف صرخ
( ماذا تفعل هنا ؟!! .......... )
تدخلت ميساء و هي تقول بتوتر
( اهدأ يا رائف ..... أنت تعرف بأن معرفتي بسامر قديمة ....... )
استدار اليها هائجا وهو يقول
( و طالما أنها قديمة .... ماذا يفعل هنا ؟!! ...... )
كانت ملك مذهولة .... لا تفهم شيئا مما يحدث ..... لكن ما لم تتوقعه هو ان يبادل هذا الشاب رائف الكلام بآخر أقسى منه يقطر مرارة و كره حقود
( الآن تتزوج يا سيد رائف ؟!! ...... تتزوج فتاة صغيرة شقراء تعيد اليك الشباب .... بينما لم تترك لي الفتاة الوحيدة التي أحببتها ..... )
اتسعت عينا ملك بذهول بينما هدر رائف قائلا
( لا تنطق باسم رؤى ........ و اخرج من هنا حالا .... )
الا أن هذا الشاب الذي يدعى سامر .. وقف يواجه رائف بعينين تقدرحان ألما جبارا .... وهو يقول من بين أسنانه بصوتٍ بدا كالفحيح
( كيف تشعر الآن ؟!! .... سعيد بحياتك بعد موتها ..... تمضي لياليك مع شقرائك الصغيرة .... )
و دون أن يمنح رائف الفرصة كان قد اتجه الى ملك ليقول بلهجة مهينة
( مبارك لك يا عروس ..... مبارك عليك أبيض الشعر ..... )
أمسك رائف به من قميصه وهو يصرخ
( أبتعد عنها ........ )
بينما اختبئت ملك خلفه و هي تتشبث بظهره ... لكن رائف أخذ يدفعه خارجا بينما سامر ينفض يديه عن قميصه صارخا
( ابتعد عني ....... سأخرج وحدي ....... و أنت انعم بفتاتك الصغيرة .... قبل أن تموت .... أو أن تموت انت .... فالدنيا سلف و دين ... )
خرج من باب القصر , فصفقه رائف بعنف وهو يستند اليه بكفيه ... مطرق الوجه ... يلهث بطريقة لم تراها ملك من قبل !! ....
لحظتين فقط قبل أن يستقيم لينظر الى ميساء نظرة سوداء غريبة ... فتراجعت خطوة و هي تقول
( لا تنظر الي بتلك النظرة ....... لا شيء يجبرني على قطع صلتي بمعارفي القدامى ..... )
ظل ينظر اليها بملامح مطعونة ... جعلت قلب ملك ينفطر عند قدميها الى شظايا جارحة ... ثم قال بصوت غريب ليس كصوته
( لنرحل يا ملك ........ )
.................................................. .................................................. ...................
ساد الصمت التام طريق العودة ... و رائف يجلس بجوارها بينما هو في عالم آخر تماما ... لا يراها من الأساس ... بينما هي كانت تنظر اليه شاعرة ببداية حياتها تنهار بقوةٍ على صخرة أحلامها ..
لم تكن في حاجة للسؤال ... فكل شيء كان واضحا أمامها ... و أي معلومة زائدة ستكون كفيلة بنحر قلبها ...
لذا التزمت الصمت و هي تدعو الله الا تنفجر باكية أمامه ....
و ما ان دخلا البيت ... حتى ابتعد قليلا دون أن ينظر اليها ثم قال بخفوت غريب ... يكاد أن يكون أجوفا ذو صدى
( اذهبي للنوم يا ملك ....... )
و دون أي كلمة .... ابتعد وهو يعرج ليختفي داخل غرفة أخرى مغلقا الباب خلفه ... بينما وقفت ملك مكانها متسمرة مصدومة مما يحدث لها ....
و ما أن استطاعت التنفس ... حتى شهقت باكية بقوة و هي تجري الى غرفتها صافقة الباب خلفها ....
و مضى وقت طويل و هي تقف أمام نافذة غرفتها تراقب الأمطار و التي تماثل أمطار عينيها المنتحبتين على وجنتيها .....

دخل رائف الى غرفتهما بعد فترة طويلة ...... تقريبا كالمغيب الذي لا يملك سيطرة على طريقه ....
ليقف مسحورا من هذه اللوحة التي لن تتوقف أبدا عن احداث الخلل بدقات قلبه ...
حيث كانت تقف على ضوء المصباح الصغير ... ظهرها اليه .... في قميص نومها الرقيق الشفاف و الذي يظهر أكثر مما يحتمل كيانه العاشق ...
بينما شعرها متموج على ظهرها و حتى تعدى خصرها .....
تقدم منها ببطىء وهو يعرج الى أن وصل اليها ... فوقف خلفها مباشرة وهو يمد يده وكأنه يريد ملامسة شعرها ... لكنه عاد و اخفض يده ليمسك بكتفيها فجأة و يديرها اليه ...
و هنا تسمر كلا منهما أمام الآخر ....
كانت ملامح رائف كملامح من خرج للتو من بئر سحيقة ... بينما وجه ملك الأبيض البريء كام مغرقا بالدموع الغزيرة مما جعلها اشبه بالنافذة المبللة من خلفها ....
مضت بينهما عدة لحظات قبل أن يندفع وهو يحيط خصرها بذراعيه و يرفعها من الأرض ...
بينما وجدت شفتاه طريقهما الى شفتيها اللتين انهارتا امام جدران قبلاته القوية
وهو يحيط ظهرها بذراعيه بقوةٍ حتى كادت أن تصبح جسدا ملاصقا لجسده ... وهو يطبعها بكل منحنياتها اليه ...
أنزلها أرضا دون أن يحرر شفتيها ... بينما كانت هي مشدوهة و مستسلمة .....
تجرب عنفوان المشاعر التي لا تجد سيطرة من قلبين ....
يداه تتحركان على ظهرها ارتفاعا و نزولا و كأنه فنان يتلمس تمثاله و ينحته بقوة .... و شفتيه تدمغانها باسمه فعلا ... و اسمها همسا ...
و دون أن تدري كيف سارت الى الفراش أو ربما هو من حملها .... كانت قد استلقت اليه وهو معها هامسا في أذنها بصوتٍ جعل دموعها تنهمر بقوةٍ أكبر
( لا تتركيني يا وردتي ..... )
أغمضت عينيها و هي تتخلل شعره بأصابعها ... تبكي بحب و ألم .... لتسمع صوتها يهمس بين هدير نبضاتها
( أنا لك ........ أنا لك ........ )
فتحت عينيها بصعوبةٍ على ألمٍ حارق شعرت به قبل حتى أن تستيقظ تماما ... فتأوهت و هي تتقلب على جانبها بصعوبة ...
سكنت مكانها و هي تتنفس بضيق الى أن هدأت قليلا ... ثم فتحت عينيها دون أن تحرك عضلة في جسدها , تراقب الوسادة الخالية بجوار وجهها ...
كانت أشعة الشمس الشديدة السخونة .. تتسلل بخجل من شقي الستار المعتم الذي يغطي النافذة بإحكام ...
رفعت يدها ببطىء من تحت الغطاء . .. لتتلمس الوسادة الخالية و التي أنبئتها أنه لم ينم بجوارها من الأساس ...
و على الرغم من أنه قد فترة طويلة منذ آخر فترة ناما بها متجاورين ... الا أن هذه اللحظة تحديدا شعرت بحسرة غريبة و هي تدرك بأنه فضل مكانا آخر للنوم على أن يجاورها !! ...
أغمضت بشرى عينيها للحظة .. ثم فتحتها علها تجد يوما آخر و زمنا آخر ... حيث ينتظرها وليد ضاحكا ... أو ربما يوقظها بنفسه ليجذبها ضاحكا خارج الغرفة ... حيث الشمس و البحر ! ...
لكن هيهات ... كل هذا كان من وحي مخيلتها المثيرة للشفقة ....
كانت تلك هيا الأحلام التي تحضرت لها طويلا قبل أن تأتي معه الى هذا المكان ... حيث لقائهما الأول ..
و لم تكن تظن أن ينهار عالمها الهش من حولها بعد صدمة أمس !! ...
أسعفتها ذاكرتها فجأة بكل ما حدث .... و خبر حملها !!! ....
انقلبت على ظهرها بسرعة لدرجةٍ جعلتها تتأوه قليلا ... ثم استكانت تنظر الى السقف بعينين متسعتين من هول ذكرى الخبر ....
هي .... حامل !! ....
ظلت تنظر الى السقف قليلا مشدوهة ... قبل أن تهمس بخفوت
( بعد كل هذه السنين ؟!!! ...... لماذا الآن ؟!!! ...... )
لم يكن لديها أي تفسير منطقي .. لحملها في هذه الفترة من حياتها أبدا ... و لماذا وليد ؟ّ!! ....
انتقل السؤال الى شفتيها الفاغرتين تلقائيا و هي تهمسه بعدم استيعاب
( لماذا وليد بالذات ؟!!! ....... ..... )
رمشت بعينيها المتسعتين مرة ... ثم مرة ثانية .... قبل ان تهمس بغباء
( أيشرط الحب من أجل حدوث الحمل ؟!! ...... )
ظلت صامتة قليلا .. قبل أن تهمس بصوتٍ واهي لم تسمعه تقريبا
( لكن حملي الأول لم يتكون من حب .... فلماذا وليد الآن ... بعد كل هذه السنوات من انعدام الخصوبة ... )
صمتت قليلا و هي تتابع شريط حياتها مرتسما على السقف ... ثم تابعت همسا
( سنوات تقربني من سن اليأس .... فأسرعت بإستغلالها قدر امكاني كي احصل على حياة نظيفة ... و قد أيقنت بأن جسدي قد تحول مع كثرة الإستخدام الى أرضٍ بور ... لا تنبت و لا تعرف الخضار .... )
ظلت مكانها تنظر الى السقف بنفس النظرة المشدوهة و الشفتين الفاغرتين قليلا ....
الى أن حاولت النهوض ببطىء ... مبعدة ذلك الوهن الغريب عنها ... و ما كادت أن تفعل حتى أدركت بأن أحد ما كان قد خلع فستانها الذي نامت به ليلة أمس !! ... و من غيره !!
استوت جالسة على حافة السرير متشبثة به تدافع ضد الدوار الذي انتابها للحظة الأولى ...
ثم اتجهت عيناها الخضراوين الى فستانها المرمي أرضا في احد زوايا الغرفة باهمال ... و كأن من خلعه كان يشعر بنفاذ الصبر , فرماه على أقصى مسافة ...
تنهدت بخفوت ... قبل أن تسمع طرقة على الباب ...و قبل أن ترد , سمعت الباب يفتح بخفوت و عربة طعام تتقدم فتاة مرتبة ترتدي زي العاملين في الفندق ...
تسمرت الفتاة مكانها ما أن رفعت وجهها و شاهدت بشرى جالسة على حافة السرير ... و لا ترتدي الكثير !!
شهقت رغما عنها و ارتبكت لتعتذر بسرعة
( أنا آسفة ..... أنا لم أعرف أنك مستيقظة سيدتي .... لقد طلب السيد وليد الفطور لكِ و طلب أن تدخله عاملات الطاقم الى الغرفة دون أن نزعجك ...... )
كانت بشرى لا تزال جالسة مكانها تنظر اليها بعينين دائختين قليلا .. دون أن تجفل أو أن تنتفض من شدة تعبها ... و ما أن صمتت الفتاة أخيرا حتى قالت بشرى بخفوت مجهد
( أين هو السيد وليد ؟!! ........... أتعرفين مكانه ؟! ... )
أخفضت الفتاة عينيها أرضا و هي تقول بخفوت
( لا سيدتي ...... لقد تلقيت الطلب فقط ...... )
أومأت بشرى برأسها دون أن ترد .... ثم لم تلبث أن أخفضت وجهها أرضا و كأنه زهرة ذابلة .. قبل أن تقول بإعياء
( ما اسمك ؟؟ ........ )
أجفلت الفتاة قليلا و هي تنظر الى بشرى مرتبكة .. ثم قالت تلقائيا
( هدى .......... )
عادت بشرى لتومىء برأسها بجهد ثم قالت بخفوت
( حسنا هدى .. هلا ساعدتني في الذهاب الى الحمام من فضلك .... أشعر بالغثيان و ساقي لا تساعداني ... )
ظلت الفتاة واقفة مكانها مجفلة للحظة .. قبل أن تتخذ بشرى المبادرة لتهمس بصوتٍ أجش
( بسرعة من فضلك لأنني سأتقيأ حالا ........ )
لم تحتاج الفتاة الى وقت طويل للتفكير .. فتركت العربة و أسرعت مهرولة الى بشرى ... و أمسكت بمرفقها و هي تقول
( هيا أستندي عليً .. سيدتي , أنا أمسكك جيدا ...... )
تشبثت بشرى بكفي الفتاة الممسكتين بمرفقها ... و رفعت وجهها الشاحب و الذي يماثل بياض الشراشف تحتها ... و الشيء الوحيد الملون في وجهها كان عينيها الخضراوين بحمارٍ منهك ....
همست بشرى بصوتٍ لا تزال الصدمة بادية به
( أنا حامل !! .........أنا حامل يا هدى !!.. )
نظرت الفتاة الى عينيها للحظة قبل أن تقول بقوة
( هيا سيدتي ..... حاولي النهوض معي .... سأساعدك ... )
دفعت بشرى نفسها دفعا ... بينما الفتاة تكاد أن تحملها متلقية وزنها كله ... و ما أن استقرت قدميها الحافيتين على الأرض حتى مادت بها قليلا فترنحت .... متشبثة بهدى أكثر ... و التي بدورها تمسكت بها رافضة أن تسقطها و هي تقول
( لا بأس سيدتي .... لا بأس ... أمسكت بك ...... )
تحركت بشرى عدة خطوات و هي ترمي وزنها كله على الفتاة ... و استغرقا وقتا طويلا مضاعفا في الوصول الى الحمام .... و الأرض تبدو من تحتها مطاطية بدرجة عجيبة ... تهدد باسقاطها في أي لحظة ...
و ما أن وصلا الى الحمام أخيرا ... أوصلتها هدى الى المرحاض ... و قالت بسرعة
( هيا .... انزلي على ركبتيك ... فأنتِ لن تستطيعين الوقوف لفترة أطول .... )
نزلت بشرى على ركبتيها بضعف و قد صدمتها برودة الرخام بشدة جعلت أسنانها تصطك ... بينما لم تستطع الإنتظار أكثر وهي تترك ذراعي هدى .. لتميل الى المرحاض متشبثة بحافته قبل أن تفرغ كل ما هو متبقي بمعدتها المتهالكة ....
وقفت بشرى خلفها و هي تحاول أن تجمع لها شعرها الناعم المتطاير الى الخلف ... و قالت بخفوت قلق
( حرارتك مرتفعة جدا سيدتي .... هل أستدعي لكِ الطبيب ؟!!..... لا أظنك بخير أبدا .... )
رفعت بشرى يدها اليها ب " لا " .. دون ان تجد القدرة على الكلام ... بينما انحنت مرة اخرى و هي تتقيأ مجددا ... و ما ان استطاعت التنفس قليلا بعد هذا الإعياء الرهيب ...
رفعت وجهها المنهك الى هدى و قالت بخفوت
( أريدك أنتِ أن تحملي الفطور غدا من فضلك ..... لا اريد أن يراني المزيد من البشر في هذا الوضع ... واحدة تكفي ..... هلا تدبرتِ الأمر؟! .... )
شعرت هدى بإشفاق رهيب عليها و هي تسمع منها تلك الكلمات المتخاذلة .. فقالت بخفوت
( سأحاول سيدتي .... و أرجو ان تكوني أفضل حالا غدا فلا تكوني بحاجةٍ لأحد ..... )
أومأت بشرى برأسها بتعب قبل أن تطرق به فقالت بشرى بخفوت
( هل انتهيتِ ؟!! ..... هل اساعدك كي تنظفي وجهك ؟!! ...... )
هزت بشرى رأسها نفيا .. مما جعل العالم يموج من حولها بسبب تلك الحركة البسيطة .. فثبتت رأسها و هي تسحب نفسا عميقا كي تهدأ الحركة من حولها ... ثم همست أخيرا
( انتظريني لحظة من فضلك ...... لا تذهبي ... )
انحنت هدى و جلست القرفصاء بجوارها و هي تربت على كتفها قائلة بخفوت
( لن أذهب .... خذي وقتك ....... )
.................................................. .................................................. ...................
خرج من البحر ما أن شعر باشعة الشمس تدفىء ماؤه ....
فآخر ما يحتاج اليه في هذه اللحظة هو الدفىء .... فلقد انتظر الفجر بأعجوبة وهو يجلس في كرسيه عند النافذة ناظرا اليها بصمت ...
و ما ان حلت أولى بوادر الفجر حتى انطلق ليرمي نفسه في برودة ماء البحر ... الذي بدا كالثلج و مع هذا لم يهدىء مما يجيش بداخله ولو للحظة ...
عدة ساعات أستغرقها سباحة وهو يضرب الأمواج الخفيفة بذراعيه القويتين دون ان يهدأ أو أن يستريح ... و شعر و كأنه قادرا على السفر سباحة بكل تلك الطاقة الهادرة بداخله كمرجلٍ مشتعل ...
و ما أن بدأ الماء في أخذ حرارته من الشمس .. حتى شعر وليد بخدرٍ في ذراعيه .. فخرج أخيرا , متثاقلا .. محني الكتفين !! ,,,....
وقف مكانه للحظة وهو يراقب البحر من بعيد .... يحدق الى منتهاه ... يلهث بغضبٍ يسيطر على دواخله كلها ... و يجعله راغبا في كسرِ شيء ما ...
انها تحمل طفله الآن !! ......
لماذا يدعي الغضب و يفتعل الجنون الآن ؟!! .... لماذا لم يكلف نفسه عناء الحرص أولا .....
لماذا يدعي الوقوع في الفخ , بينما الفخ ما هو الا هوة حفرها لنفسه بنفسه ... مرحبا بالسقوط بها بدعوى ال ... غضب ....
لقد تزوجها غضبا .... و استمر معها غضبا .... احتملها غضبا .... و هي الآن تحمل طفله بفعل غضبه ....
مدركا بأنه لا يصفع الا نفسه كل مرة ....
لم تعد النزوة نزوة ... فهناك حياة اخرى صغيرة بدأت في التشكل بين احشائها .....
فأين زمام الأمور التي ادعى أنه يحكم امساكها جيدا ؟!! ........
و كأن القدر كان يحميها من فورات الغضب تلك ... فأرفق المرض بحملها , كي أمنها شره ....
فقد كان صدره يتمزق مع كل تأوه من تأوهاتها .... يشعر بالرغبة في تحطيم المكان وهو عاجز حتى عن منحها دواء قد يخفف عنها ...
لقد أرجع هذا الى كونه بشر في النهاية ... ليس ساديا أو مجنونا ...
لكن هذا لتفسير لم يكن منصفا تماما لكل هذا الاختناق الذي عاشه ليلة أمس مع تأوهاتها ... حتى أن صدمة خبر الحمل أخذت تتراجع بداخله بفضل أنينها المضني .....
لكنه يعرف بأنها ما أن تسترد صحتها قليلا حتى يعود لإيذائها من جديد ...
لا يزال بداخله مخلوقا همجيا فوضوي المشاعر , يعاقبها على كونها لم تكن الفتاة التي أحبها ...
رفع ذقنه وهو ينظر الى البحر مجددا بعينيه الكئيبتين ... كم يشتاق اليها !!
تلك الفتاة سليطة اللسان و التي يهاب الجميع شراستها في الدفاع عن نفسها .... كم يشتاق اليها و الى مرحها المتردد بحذر ... و كأنها تخشى هذا المرح ....
هتف فجأة بغضب محدثا نفسه
( تبا لكِ ... لقد اشتقت لها , و بفضلك لن أراها مجددا ...... )
زفر بقوة وهو يغمض عينيه ألما داكنا ... سوداويا ....
تلك التي أحبها , لم يمسها ثلاث رجالٍ قبله !!! ..... و هو غير قادر على التحمل ... من يخدع ؟!! .....
كان ليبقيها معه فقط كي لا تخرج الى المزيد من الخيارات البائسة المذلة .... لكن أن تحمل طفله الآن ؟!!
فهذا غير كل الموازين ... قلبها رأسا على عقب ....
فتح عينيه أخيرا ليلقي نظرة أخرى على الأفق البعيد ... قبل أن يستدير عائدا ... اليها ....
فهي على الأرجح قد استيقظت الآن ......
.................................................. .................................................. ...............
حين وصل الى باب جناحهما في الفندق بآخر الممر ... توقف فجأة وهو يشعر بالبرد يسري في جسده مرسلا رعشة غير محببة الى قلبه ...
فقد كان الباب مواربا ... و ليس مغلقا ...
ظل مسمرا مكانه عدة لحظات قبل ان يتحرك بخطواتٍ بطيئة ... متوجسه وهو يدفع الباب قليلا .. فوجد عربة الإفطار كما هي مكانها في الممر القصير .. لم تمس بعد !!!
حينها تسمر مكانه للحظة من الزمن ... وهو يتخيل أن يكون من أوصل الفطور الى بشرى أحد العاملين ... و ليست عاملة كما طلب !! ... بينما بشرى وحدها في الداخل !!! ....
للحظة تخيل يدٍ رجولية تبعد الغطاء عنها ... و تلامسها بقذارة ...
لم يستمر شلل اطرافه اكثر من تلك اللحظة وهو يندفع داخلا ... يهدر بصوتٍ عنيف
( بشرى !!! .......... )
بنظرةٍ واحدة ... رأى السرير خاليا و مشعث الشراشف ... وبعضها متساقط ارضا !! ...
فانتشر الرعب البارد في جميع أوصاله بينما هجم على الحمام يدفع بابه صارخا باسمها ....
( بشرى ............ )
الا أنه تسمر في مكانه للمرة الثانية وهو يراها ماكثة على الأرض , شبه عارية .. متشبثة بحافة المرحاض ... ووجهها يبدو شديد الإرهاق و الذبول ... تمسك بها فتاة من العاملات ..
نظرت كلتاهما الى وليد الواقف أمامهما بحجمه الضخم وهو يلهث قليلا بينما عيناه كانتا تحملان الكثير من العنف المختلط بالخوف ....
كان هو أول من استوعب منظر بشرى فهتف بقوة
( ماذا تفعلين هنا ؟!!! ...... )
انتفضت هدى مكانها و شحب وجهها و قالت متلعثمة مبررة
( السيدة كانت تعاني غثيانا شديدا .... و كادت أن تسقط أرضا فساعدتها ... )
قال وليد بقوة دون أن ينزع عينيه عن بشرى الجالسة أرضا و ساقيها تحتها ..
( اخرجي ...... الآن ..... )
ارتبكت الفتاة اكثر و سارعت للخروج جريا تتجاوزه هو و غضبه المخيف ....
بينما كانت بشرى تنظر اليه بملامح باهتة .. و شفتين شديدتي الإحمرار ... تلهثان قليلا من فرط التعب ... بينما فقدت عيناها الخوف ... و كأنها لم تعد تأبه لأي شىء في هذه الحياة ....
تقدم منها حتى جثا بجوارها ليمسك بذراعها وهو يهتف بقسوة ...
( كيف تسمحين لأحدِ بأن يراكِ شبه عارية ؟!! ...... الا تملكين ذرة من الحياء ؟!! .... )
كانت تنظر اليه بعينين غائرتين ... قبل أن تقول بصوتٍ أجوف ..
( أنا لم أسمح لأحد بأي شيء ..... ألست أنت من طلبت دخول عاملة الى الجناح ؟!! ....... )
شدد أصابعه على ذراعها النحيل وهو يهتف بغضب
( طلبت أن تُدخل اليكِ الفطور و تنصرف .... لا أن تراكِ عارية !! ..... )
عيناها بعينيه لا تحيد عنهما ..... هادئتين حد التعب ... ذابلتين كزهرتين افتقدتا للندى ...
و استمر حرب النظرات بينهما ... ما بين حربٍ عاصفة بعينيه ... و استسلام هادىء بعينيها ...
فقالت اخيرا بخفوت
( لماذا تفتعل الحجج حي تلحق بي المزيد من الأذى ؟!! ..... لا تفتعل تلك المسرحية و غيرها .... فقط قم بأذيتي مباشرة ..... لماذا تفتعل بالله عليك ؟!! .... أيوفر لك الإفتعال راحة لضميرك ؟!! .... لا تأبه و قم بأذيتي ... أنا لم أعد اهتم حقا ..... )
شعر بالصدمة قليلا من مدى الهدوء الباهت الذي تتحدث به .... فتراجع رأسه قليلا , بينما تابعت بفتور
( تريد التصديق بأنني لست أكثر من سلعةٍ رخيصة لم تعد تمتلك الحياء ..... حسنا هذا صحيح تماما و لا أنكر ...... لذا لا توقعني في فخ طلبك للفطور بينما انت من خلع عني ملابسي !!! ..... )
عقد حاجبيه قليلا و تزايدت صدمته ... بينما قال بصوتٍ أجش خطير
( أتظنين أنني فعلتها قصدا ؟!!! ........ )
ظلت تنظر اليه طويلا بنفس النظرات المتبلدة المجهدة ... الى أن قالت أخيرا بلا حياة ...
( من العدل أن أظن ذلك ..... و مع ذلك لم أصدر نفسا من الإعتراض حتى .... تعريني أمام غريبة , ثم تدخل الى هائجا تريد الإنتقام من أخلاقي الرخيصة ...... أسمع , أنا أرحب بالأذى .... لكن أمقت المسرحيات الأكثر رخصا مني ....... )
كانت قد وصلت الى نهاية ما تريد قوله ... فصمتت متعبة و هي تنظر الى المرحاض بشرود .... بينما هو ظل واقفا مكانه ينظر اليها لاهثا من شدة غيظه من استردادها الهدوء سريعا هذا الصباح ...
أبهذه البساطة استيقظت شجاعة بعد رعب الأمس ؟!! ....
و حين أوشك غيظه على أن يحرق أعاصبه ببطىء مقيت ... انتهى بأن قال من بين أسنانه و عينيه تبرقان بحقد
( أرى أنكِ قد تخطيتِ رعب الأمس بمنتهى السرعة !! ..... كم أنتِ ماهرة في تمثيل الأدوار !!! .. و تدعين كرهك للمسرحيات على الرغم من ذلك !! ..... )
ظلت على هدوءها و هي تنظر اليه بفراغ ثم قالت اخيرا
( لم أتخطى رعبي ..... لكنني متعبة فقط .... ربما لو منحتني بعض الوقت كي أتجاوز هذا الغثيان المريع الذي اشعر به حاليا .... لاستطعت حينها الإرتجاف رعبا من جديد ... مع نوبة بكاء و توسل عاصفة .... أنا حتى لا أشعر بأنني حية الآن ..... )
أعادت عينيها الى المرحاض ... بينما وليد واقفا ورائها يريد الصراخ عاليا ..... يريد أن يشبعها ضربا و ضربا و ضربا .... الى أن يبدد كل غيظه منها ... و ما أن ينتهي حتى ........
يقبل كل جزءٍ منها !! .... انها تبدو ... شهية .... شهية كالخطيئة .... يحاول ان يبعد عينيه عنها فلا يستطيع
بكل شحوبها و تعبها الظاهر .... يظل مظهر الطفلة بها يثير شهية اي رجل ....
و كان هذا هو سبب كل ما نالها منذ وقت طويل ....
وجهها الشاحب كان يتحول ببطىء الى احمرار وردي يشتد سريعا .... شفتيها المنفرجتين , قد زاد تورمهما من زفير مرتجف منبعثٍ منهما ...
و شعرها الناعم ... يتطاير كريش عصفورٍ صغير من حول ذلك الوجه المحمر بعينيه الزائغتين الخضراوين ...
لقد حرم نفسه منها طويلا ... طويلا جدا .... هو نفسه لا يعرف كيف استطاع التحمل !!!...
أحيانا كانت سيطرته تهدد بالإنفجار .... لكنه يعود و يقاوم نفسه بقوةٍ الى ان يحقق مراده بتعليمها الرغبة الحقيقية بين الرجل و زوجته ......
لا يصدق انه كان صابرا ... متفانيا بهذه النقطة , بينما يحاول جاهدا اقناع نفسه بأنها ليست سوى نزوة بحياته !!
اقترب منها ببطىء على أرض الحمام ... و ما ان وصل اليها حتى انحنى ليجلس القرفصاء بجوارها ...
فرفعت وجهها اليه مجددا ببطىء ... و حينها و كأن سلكا كهربيا قد صعقها ... عيناه كانتا داكنتين ... و تنظران اليها بكسلٍ تدرك معناه جيدا ...
ابتلعت ريقها بتوتر ... بينما رفع يده ليتحسس جانب وجهها و صدغها ... نازلا الى عنقها حيث النبض الذي بدا ينفر بقوة عنيفة ...
ساد الصمت بيهما طويلا و هي تحدق اليه مشدوهة ... تتنفس بسرعة , بينما جفنيه شبه مسبلين ...
زفر اخيرا نفسا دافئا وهو يقول بخفوت أجش
( حرارتك مرتفعة جدا ............... )
ابتعلت بشرى ريقها تحت كفه المنفتحة على عنقها و حلقها ... ثم قالت بخفوت مختنق قليلا
( آآآآه ... ربما .... لا أعلم .... ربما كان عرض مصاحبا للحمل .... )
صمت وليد قليلا و هو ينظر اليها بعينيه الغريبتين ... ثم قال أخيرا بصوتٍ خافت
( ليس من الحمل ...... ... )
رفعت نظرها الى شعره المبلل النضر ... كان يلمع بشدة ... بينما صدره ينبض بقوة عنيفة .... لكنها لم تكن خائفة من هذه القوة اليوم .... ترى هل بالفعل سلبها التعب .. الرعب !! ...
قال وليد بصوتٍ أجش أكثر
( تعالي ...... لنخفض درجة حرارتك ..... )
صمت للحظة ثم قال بخفوت
( هل زال غثيانك .... أم تحتاجين الى المكوث أطول ؟..... )
كانت تنظر اليه هي الأخرى بطريقةٍ أكثر غرابة من نظراته ... ثم أجبرت نفسها على هز رأسها نفيا بطىء مرتبك و هي تهمس
( لا ...... لقد .... انتهيت .... )
نهض من مكانه فجأة جعلتها تجفل قليلا .... قبل أن ينحني اليها , ليحملها بين ذراعيه مجددا , فتعلقت بعنقه وهو يتجه الى حوض الاستحمام .. بدلا من الخروج منه ... فدخله بحرص وهو لا يزال يحملها ....
رمشت بعينيها عدة مرات و تشنج جسدها بين ذراعيه ...فقالت بصوت مهتز رافض
( لا أريد هذا ....... أرجوك .... لا أحب أن يحممني أحد .... )
توقف مكانه متسمرا وهو ينظر اليها .... بينما انعقد حاجباها و شعر بنفور جسدها يكاد ان يخترق ذراعيه الحاملتين لها ..... شعر بشيء قميء لاذع الطعم يلوث حنجرته ... بينما صدره ينقبض وهو يقول بصوتٍ غريب متشنج
( أنا زوجك ....... ..... )
ارتجفت شفتيها بينما انخفض جفناها ووجهها لتحمي نفسها من عينيه المتفحصتين لها كالصقر ... ثم قالت بتشنج مماثل
( و إن يكن ......... لا احب ذلك ..... )
توترت أنفاسه أكثر ... بينما كانت لا تزال منخفضة الوجه بعناد و هي متعلقة بعنقه .... و استمر الصمت طويلا الى أن قال أخيرا بصوتٍ قاطع ...
( كم كان عمرك ؟!!! ........... )
ارتفع وجهها مجفل الملامح و هي تنظر اليه بعينين متسعتين .... قبل ان تقول بارتباك خافت
( ماذا تقصد ؟!! ........... )
نظر الي عينيها بقوةٍ وهو يقول بخشونة بينما جسده الضخم يتوتر برغبةٍ في القتل ...
( حين جرحتِ ذلك الرجل الذي سبق و اخبرتني به ...... كم كان عمرك ؟.... )
ارتجفت أكثر ... بل ارتعش كل جزء بها على ذراعيه حتى تبدد الإعياء و باتت كقطة متوترة منتفشة الشعر ...
هل هي شفافة الى تلك الدرجة المريعة ؟!!! ..... لكن كيف استطاع ربط تشنجها بمجرد ملاحظةٍ عابرة أبدتها بتهور ذات ليلة .....
همست مرتجفة بتوتر ...
( ما ..... ما الذي ..... جعلك تتذكر هذا الشخص .... الآن ؟؟ ....... )
عقد حاجبيه بشدة ... فشاهدة بعينيه وهجٍ لشعلة من الغضب .... الا أنها شعلة مختلفة ... تظهره و كأنه يوشك على قتل شخص ما ....
رد عليها وليد بصوتٍ خافت يرتجف من ذبذبات العنف المكتوم
( كم كان عمرك ؟؟ ................ )
رمشت بعينيها بقلق اكثر ... ثم همست بارتجاف
( في الخامسة عشر ..... تقريبا ..... لا أتذكر تماما ..... لقد كان مجرد ..... )
لم يدعها تتابع كلامها ... بل قال بصوتٍ يحمل بطشا خفيا
( كم عامٍ خضعتِ لقذارته ؟؟ ................ )
فغرت شفتيها المرتجفتين ببطىء و هي تنظر اليه بعينين مصدومتين .... انه يبدو كمن ......
كمن يعلم عما يتحدث بالضبط !!!!
همست بصوتٍ غريب
( وليد ......... ماذا ...... كيف ........ )
الا أنه شدد الضغط بذراعه القوية على فخذيها وهو يسألها مجددا من بين أسنانه
( كم عام يا بشرى ؟؟ ................. )
عادت شفتيها لترتجف بينما انحنت عيناها بشعورٍ من الخزي .. قبل ان تقول هامسة مستسلمة
( سنوات عديدة .......... )
استكانت بين ذراعيه و اطرقت بوجهها ... لا تعلم كيف يحاول استنتاج امرٍ لم تقصه عليه ابدا ....
بينما ظل وليد يلهث ببطىء و صدره يضربها مخبرا اياها حالة الهرج المنفعلة بداخله حاليا ....
الى أن قال اخيرا بصوتٍ لم يكن متفاجىء .... لم يكن مصدوما ... بل كان مكبوتا بشكل غريب
( كبرت بين يديه ......... )
أغمضت عينيها بيأس و لعقت شفتيها بشعور من الدونية أمامه ....
كيف عرف ؟!! ...... كيف عرف ؟!! .....
حاولت التذكر جاهدة ما نطقت به تماما أمامه .... لكنها متأكدة بأنها لم تذكر سوى معلومة عابرة عنه ...
زاد وليد من ضمها لصدره بقوةٍ ... ايضا ليست حنانا بقدر ان تكون قوة غاضبة ...
زفرت بشرى نفسا مرتجفا و هي تميل بوجهها لتنام به في جويف عنقه ...
هذا الرجل لا يجيد التعامل مع غضبه ابدا .... و كأن القدر أراد أن يعاقبه , فمنحه الأنسانة التي فجرت كل كوابح هذا الغضب ...
منذ اليوم الأول لزواجهما وهو لا يهدأ و لا يرتاح .... لدرجة أنها تشفق عليه منها ...
لكنها كثيرا ما كانت تختلس النظر اليه بحزنٍ يائس و هي تراه كأسدٍ هائج يدور في دوائر عنيفة مغلقة ....
لا تتذكر أنها أشفقت على أحدٍ من قبل !! ....
استطاعت الهمس بصعوبة بتجويف عنقه
( ماذا تعرف عنه ؟............ )
شعرت بحرارة جسده بينما عضلاته تشتد و تزداد قساوة ... بينما همس من بين شفتيه بشراسة
( ما يكفي لأن أشعر بالرغبة في تمزيقه حيا ... دون ان أقتله .. كي ازيد من عذابه ..... )
رفعت بشرى عينيها الواسعتين اليه ... تنظر الى ملامح وجهه القاتمة العنيفة .... كانت ترتجف شدة و هي تهمس بعدم تصديق
( تقتل من أجلي ؟!! ........ حقا !! ..... )
انخفضت عيناه اليها بصمت كئيب ... قبل أن يقول بصوتٍ منخفض كاره
( أنت زوجتي ........ )
رغم أنه نطقها بضيق و رفض ... و قد شعرت جليا بعدم فخره بتلك النزوة الا انها لم تشعر بالالم هذه المرة ...
على العكس فقد همست مبهوتة
( لم يغرب أحد في القتل من أجلي قبلا ....... )
رفعت يدها ببطىء شديد من خلف عنقه ... لتلامس بها زوايا فمه القاسية برقة ... بينما كانت هي شاردة تماما و هي تهمس
( كيف عرفت عنه ؟!! ........... )
ابتلع شعلة تحرق حلقه .. قبل أن يقول بغضبٍ تحت ملمس أصابعها
( لا يهم ......... المهم انني أعرف ما فعل بكِ .... متى ... و أين )
صمت قليلا وهو يهدر نفسا خشنا محترقا ... قبل أن يهمس في اذنها بصوتٍ أجش
( .... و كيف كان يلامسك ..... )
تغضن أنفها دون ارادة منها و ارتجفت شفتيها خزيا و دونية ... فهمست باختناق
( أنا آسفة ....... آسفة جدا يا وليد .... )
زفر بقوةٍ نفسا أوشك على أن يلفح وجهها بحرارته وهو يهمس مزمجرا
( على ماذا تأسفين ؟!! ...... )
لا تعلم من اين واتتها الإبتسامة الحزينة في تلك اللحظة ... فهمست بخفوت باهت
( أعلم أن أسباب أسفي لك باتت كثيرة ... اكثر مما أستطيع حصرها .... لكن أنا الآن آسفة لما تشعر به في تلك اللحظة تحديدا..... و أنت تمسك بين ذراعيك امرأة تحمل اسمك ... بينما جسدها دهسته الكثير من الأيادي و الأقدام قبلك ..... )
رفعت وجهها اليه و هي تتابع باختناق
( كنت أباهي القول دائما بأنني لم أرتكب أي خطأ .... فلقد تزوجت و لم أقرب الحرام .... لكني أخفيت عنك ذكرى هذا الرجل تحديدا ..... لأنني كنت أعرف بأنك لو عرفت به , فسأرى بعينيك هذه النظرة التي أراها الآن ..... نظرة تقزز ... ازدراء .... أستطيع الشعور بعضلاتك كلها متشنجة لملامستي .... و بنفس الوقت الجزء الشهم منك يريد تعذيبه مشفقا علي ...... )
ابتلع وليد غصة مسننة بحلقة كادت أن تمزق حنجرته وهو يقول بصوتٍ خشن متحشرج ...
غاضب ... غاضب ...
( ذلك الحيوان و ما فعله ..... هو الشيء الوحيد الذي لم يكن لك ذنب به في حياتك كلها .....)
كانت تنظر اليه بذهول ... لا تصدق ما تسمعه منه للمرة الأولى ... و الآن تحديدا .....
لكنها همست باختناق غريب
( هناك شيء آخر ...... لم يكن لي ذنب به ....)
ضيق عينيه وهو ينظر الى عينيها الحمراوين ... و فمها المرتعش و كأنها تبكي داخلها , دون أن تسمح لنفسها بالإنهيار في تلك اللحظة
فغر شفتيه قليلا ... بينما همست هي بنحيب مختنق هامس
( أرجوك انطقها ..... هذا الأمر يقتلني .... )
ظل صامتا قليلا بعينين تحملان عذابا داكنا ... عميقا .. قبل أن يهمس طابعا شفتيه على جبينها بعنف
( ليس لكِ ذنب بخطأ والديك ...... قصدت أذيتك في كثير مما قلته , الا هذا الأمر ... قلته فقط لأزيد من ألمك بقدر ما آلمتني ...... كانت تلك دناءة مني .... )
دون أن تدري وجدت نفسها تفتر شفتيها عن شهقة ارتياح عميقة و هي تغمض عينيها .. و كأنها كانت تحتاج منه هذا الإعتراف ... فرفعت نفسها قليلا لتزيد من تعلقها بعنقه و هي تدفن وجهها بتجويفه الدافىء و هي تهمس
( شكرا ....... شكرا ........ )
أغمض عينيه بقوةٍ بينما كان المكان من حوله يطبق على صدره بعنف يجعله يريد كسر الجدران .. كي يستطيع التنفس فقط ...
مرت عدة لحظات وهما في صمتٍ قاتم غريب .... يحملها بين ذراعيه كطفلةٍ مجهدة .. و هي تدفن وجهها بعنقه و كأنه والدها يهدهدها ... وهو بالفعل كان يتحرك بها قليلا كي يهدئها الى أن قال أخيرا بصوتٍ خشن خافت
( أنتِ تشتعلين حرارة ..... هذا ليس جيدا ... )
و دون أن ينتظر ردها ... أنزلها ببطىء شديد حتى لامست قدميها أرض حوض الإستحمام فشعرت بسقايها تتخاذلان قليلا ... الا أنه لم يكن ليسمح لها بالسقوط فشد على خصرها بذراعه كي يسندها على صدره .. بينما هو ينحني بها قليلا الى ان تمكن من فتح الماء البارد فوقها ... فانتفضت صارخة بقوة وهي تتشبث في ذراعيه بأظافرها ....
( الماء كالثلج يا وليد ......... )
لكنه لم يحررها كي تهرب .. بل شدد الإمساك بها تحت الماء و هي تحاول المقاومة .. بينما قدميها تنزلقان على الأرض الناعمة ...
قال وليد بصوتٍ أجش
( ستسقطين نفسك بهذا الشكل ..... أثبتي مكانك تحت الماء ...)
أخذت تتنفس بشهيقٍ عالي الصوت من فمها المفتوح بإتساع و هي تهتف
( الماء بارد ..... الماء بارد ..... )
تمكن من تحرير احدى ذراعيه من حول خصرها .... ليرفع يده الى شعرها و أخذ يمشطه بأصابعه برفق تحت الماء البارد كي يسمح لرأسها بنيل قدر مناسب من البرودة وهو يقول بخفوت خشن
( أهدئي .......... ها قد اعتدتِ برودتها ...... اهدئي قليلا .... )
كانت ممسكة بمعصميه العضليين بقوةِ و هي تنشب أظافرها بها .... تتنفس بصوتٍ عالٍ ... بينما هو يتابع غسل و جهها و شعرها ... و ما أن انتهى حتى اقترب منها وهو يقول بخفوت أكبر
( ستكونين أفضل الآن .......... )
ابتلعت ريقها المتشنج عدة مرات ...... الى أن قرر عتقها أخيرا ...
فانحنى ليغلق الماء ... و تراجع يخطو خارج حوض الإستحمام قبل أن يسحبها بحرص .... ثم جففها بمنشفة كبيرة و لفها بها ... تاركا شعرها حرا مبللا ... كي يبرد رأسها لفترة أطول ...
ثم حملها مجددا الى السرير ... ليضعها عليه برفق مزيحا الأغطية ...
أوشكت عيناها ان تفيضا بالدموعِ مجددا من تلك المعاملة الحنونة التي نادرا ما تحظى به منه ....
و كم ودت لو تملك زرا لإيقاف الوقت عند هذه اللحظة .... كي تستمتع به وهو يدثرها مجددا ...
و يمد يده ليلامس صدغها بينما حاجباه منعقدان بتركيز ....
قال وليد أخيرا بصوتٍ أجش و يده تنخفض الى عنقها
( هل زال الغثيان تماما ؟........... )
أومأت برأسها و هي تهمس بخفوت ناظرة اليه بتأمل
( نعم .... شكرا لك ......... )
في الواقع كلمة الشكر أثارت به الشعور بالحقارة وهو يتذكر هجومه عليها من أن دخل الى الغرفة ... لكنه كتم شعوره وهو يقول بصوتٍ أجشٍ خافت
( حسنا ....... يجب أن تأكلي الآن ...... )
رمشت بعينيها و هي تقول بصوتٍ خافت
( لست جائعة أبدا ...... في الواقع أشعر بأنني سأتقيأ مجددا لو وضعت أي شيءٍ بفمي .... )
انحنى وليد ليجلس على حافة السرير بجوارها ... غير عابىء بتبلل بنطاله القصير و الذي بلل الفراش تماما ,....
و لاحظت بارتجاف أنه لم يبعد يده بعد .... بل انخفضت أكثر ... هل لازال يتأكد من حرارتها بالفعل ؟!! ...
قال أخيرا بجفاء وهو يقرب صينية الطعام التي تركتها العاملة على المنضدة الجانبية للسرير
( لم أكن أطلب منكِ ...... بل آمرك .... هل نسيتِ أنكِ تحملين طفلا و لم تأكلي شيئا لمدة أربع و عشرين ساعة !! .... )
ارتجفت بشدة و هي تفتح فمها تلقائيا و بمنتهى الطاعة لترتشف من كوب العصير الذي وضعه على شفتيها بحرص ...
لقد نسيت الطفل بالفعل منذ أن دخل الى الجناح ....
على الرغم من كل الغثيان و الدوار ... فقد نسيت كل شيء عن الطفل ...
فتحت فمها مجددا و هي تقضم قضمة صغيرة من شريحة الخبز الجاف التي قربها من فمها ... ثم همست بتردد و هي تمضغها ببطىء
( هل قررت شيئا ؟!! ...... بشأن الطفل !! ...... )
رفع اليها وجها قاتما متصلبا ... و عينان جامدتان جعلتاها تغص فيما تأكله ... الا أنه قال بصوتٍ جاف صارم
( و هل هناك أي قرارات متاحة أمامي ؟!! ....... لقد حدث ما حدث و أنتهى الأمر .... لذا سنحاول جاهدين بأن نبقيه حيا .... )
جلف و كل ما ينطق به هو مجرد قشور صخرية ...
اخفضت بشرى وجهها و هي تهمس بخفوت بعد أن انعدمت شهيتها قبل حتى أن تبدأ
( أعتقد ...... أن الحل الآخر يجب أن يكون محل دراسة , لو كنت تنوي ...... إنهاء هذا الزواج ...)
هدر وليد فجأة بغضب
( انسي تماما جريمة الإجهاض ..... الا يوجد لديك ذرة ضمير ؟!! .....)
رفعت وجهها الشاحب اليه و قالت بفتور
( لكن لو تركتني ....... كيف سأستطيع أن ......)
عاد ليقول بقوةٍ قاصمة ... يقاطعها بشدة
( أنا لن أتخلى عن طفلي أبدا ...... سأمنحه كل الرعاية و سأتكفل به , فلا تحملي هما لهذه النقطة ....)
لم تكن تحمل هم التكفل به !! .... بل تحمل هم ذلك اليوم الذي سيتركها فيه , فتعود الى شقتها الخاوية المعتمة من جديد ... تنفق من مدخراتها بحرص خشية أن تنفذ فتضطر حينها للبحث عن زوج جديد ....
أخفضت وجهها قليلا و هي تقول بتوتر
( و هل فكرت فيما سيحدث لو تركتني اذن ؟!! .... هل ستأخذ الطفل لك ؟!! ..... )
أبعد يده عنها بتشنج ... ناظرا اليها عدة لحظات مرتبكا قبل أن يقول بخشونة
( أنت تفكرين في مراحل متقدمة جدا ..... الا ترين أنكِ تستبقين الأحداث قليلا , بينما أنا لا أزال أحاول جاهدا التخلص من عبء الصدمة !! ....... )
تأفف بقوةٍ كبيرة دون أن يملك أدنى قدر من المراعاة كي يخبىء ضيقه ... بينما ملامحه كانت تظهر صراعه الداخلي بوضوح ...
فازداد ألمها و هي تراقبه بصمت .... نعم إنها تعلم جيدا بأنها عبء عليه ... هذا لا يحمل أي شك ....
تعرف أن يريد التخلص منها اليوم قبل الغد .....
رفعت عينيها اليه مجددا و هي تتأمله ...
ملامحه الفتية العنيفة .... عضلاته القوية .... شعره المبلل .....
قالت أخيرا بشرود
( أين كنت صباحا ؟!! ....... هل نزلت البحر ؟!! .... )
رفع وجهه اليها مقطبا .... عابسا ...
إنها بارعة في تغيير المواضيع كلما وصلا الى حائط سد .... لكنه حاليا رحب بتغيير الموضوع غاية الترحيب
لذا قال باقتضاب
( نعم ........................ )
قالت بشرى بخفوت
( هلا أخذتني للبحر الآن ...... أرجوك .... )
قال وليد رافضا بقوة
( لن تتعرضي للشمس مطلقا و لعدة أشهر قادمة ..... هذه أوامر الطبيب ... )
همست بشرى بتوسل
( أرجوك يا وليد ...... لقد سمعتك تقول بأننا سنرحل غدا أو بعد الغد على الأكثر .... و قد تكون تلك هي الرحلة الأخيرة لنا معا ...... كنت متشوقة لها جدا , و تخيلت كل لحظة بها و كيف سأقضيها ...... ارجوك خذني معك مرة واحدة ...... الآن ....)
ارتعشت عضلة نافرة بوجنته و هو ينظر اليها عابسا ... بعينين تفيضان بالكثير من النوازع ...
و رأت حلقه بعينيها يتحرك بصعوبة و كأنه يحاول أن يبتلع غصة مؤلمة ...
الا أن ظنها كان وهما وهو يرد بجفاء لا يقبل الجدل
( انسي الأمر ....... مرضك ليس هينا , و هذا ما تأكدت منه بنفسي , لذا لا تحاولي المجازفة ..... )
نظرت اليه بشرى بصمت قبل أن تقول بخفوت و أمل
( هل تهتم بي ؟ .... ولو قليلا ؟؟ ..... )
بادلها النظر دون أن تلين ملامحه ... لكن النظرات طالت .... طالت أكثر من أن يدعي عدم الإهتمام ...
فهمست تلقائيا برهبة
( أنت لا تتمنى موتي كما قلت ليلة أمس ...... )
كانت تقر أمرا واقعا و هي تبادله النظر بقوة ... تحاصر عينيه بعينيها الخضراوين بكل اصرار
الا أن وليد تهرب منهما بقوة وهو يقول بخشونة
( هلا توقفتِ عن الثرثرة التافهة !! ...... أقتربي مني لأرى البقعة في ظهرك كيف أصبحت ... )
تنهدت بشرى بيأس وهي تسمح له بأن يسحبها من ذراعيها اليه ... حتى استقامت جالسة , ثم مالت تستند الى كتفه .... بينما شعرت بيد على بشرة ظهرها و هي تخفض المنشفة قليلا ....
كان ينظر الى البقعة الملتهبة بجانب ظهرها و كتفها ... بينما أصابعه تمر عليها برفق ... وهو يميل اكثر محتضنا اياها ... ثم همس بخفوت
( لا تزال ملتهبة ...... هل تؤلمك كليلة أمس ؟؟ ....... )
لم ترد بشرى على الفور .... بل كانت شاردة تماما و هي تشعر فجأة بشماعر غريبة تنتابها فجأة ...
قربه منها جعلها ترتجف أكثر مما اعتادت في الواقع ....
لا القرب المعنوي الذي يجعلها تتشبث به .... و إنما قرب آخر لم تعتد الإحساس به بتلك الصورة الغريبة
القرب الجسدي .....
كانت تشعر بحرارتها ترتفع مجددا تدريجيا ... و قلبها يخفق بسرعة ... بينما تلعق شفتيها بتوتر ...
شيء غريب ينتابها منذ أن علمت بحملها ....
رفعت أصابعها ببطىء لتلامس صدره ... دون أن تصدر صوت ... و كأنها تستكشفه ... و تستكشف نفسها ...
حينها ارتفع هدير أنفاسه بسرعةٍ أكبر وهو يقول بخشونة هامسا
( بشرى !!!! ........... )
أخذ نفسا آخر ,.... بينما كانت شفتيها تلامسان عنقه بطريقةٍ غريبة ... فالتفت وجهها اليها وهو يقول بحدة
( ماذا تفعلين ؟!!! ....... )
رفعت وجهها المحمر و هي تنظ ر اليه بعينين خضراوين براقتين ... قبل أن تبتلع ريقهما هامسة
( اشتقت لك ............. )
أغمض عينيه وهو يزفر بقوةٍ ثم هتف بخشونة وهو يشدد من قبضته فوق خصرها الناعم
( هل عدنا لتلك الطريقة مجددا ؟!!! ..... إنها لن تحل الأمر هذه المرة .... توقفي عن ذلك ... )
هتف بها بقوة و هو يراها لا تزال تلامس صدره ناظرة الى مسار اصبعها بشرود .... و لا يبدو أنها قد سمعت أي كلمة مما نطق للتو ....
هتف بها بقسوة جعلتها ترفع عينيها اليه
( بشرى ............. )
ظلت صامتة قليلا تنظر اليه قبل أن تقول بخفوت
( إنها المرة الأولى التي أشعر بشعور مماثل ...... هل هي هرمونات الحمل ؟!! ..... سمعت مرة أن النساء تنقلبن في بدء الحمل من حالٍ الى نقيضه !! ..... )
كانت تتكلم بهدوء خافت , عاقدة حاجبيها قليلا بتركيز على ما تشعر به و كأنها تقر حقيقة واقعة و تناقشها بهدوء .... بينما هو يستعر نارا أمامها ...
رفعت وجهها اليه مجددا ثم همست بصوت خافت
( أنا أريدك ........ أريدك أن تلامسني ........ )
شتم وليد بقوة وهو يندفع واقفا مبتعدا عنها قبل أن يصيبه الجنون .... بينما هي ماكثة مكانها تتشبث بمنشفتها و شعرها الندى متناثر من حولها مما يجعلها أقرب الى طفلةٍ مجنونة شهية ....
دار حول نفسه بغضب ... ثم توقف ناظرا اليها و يداه في خصره ... يلهث تقريبا ...
ثم هتف بعنف
( ماذا تحاولين أن تفعلي ؟!! .......... أخبرتك أنني أمقت هذا الإسلوب .... )
ظلت تراقبه قليلا بصمت و هي تتنفس بسرعة .... شاردة بحركاته و كل تشنجاته ... قبل ان تغمض عينيها و تسقط للخلف على الوسائد .... هامسة بخفوت
( ربما كنت مخطئة فيما أشعر به ....... لا اريدك أن تحتقرني أكثر لو عاد الى البرود ...... أنت الوحيد القادر على اكتشافه بسهولة ...... )
لم تكن قد فتحت عينيها حين سمعت هديرا خشنا ... و ثانية واحدة مرت قبل أن يهتز السرير بجانبها حتى كاد أن يوقعها و هو يندفع اليها ....
يدس ذراعيه من تحتها حتى رفعها قليلا .... لمرمى شفتيه اللتين التقطتا شفتيها كاتمتين شهقة الذهول الوحيدة التي خرجت من بينهما ....
لحظة واحدة ... لم يقاوم أكثر من لحظة قبل أن يهاجمها بهذا الهجوم العنيف المحموم
ارتجفت بشدة عدة لحظات و ذراعيها متراخيتين بجوارها كدمية مسلوبة الإرادة ...
لكن شوقا غريبا اندفع بداخلها تدريجيا و هي ترفع ذراعيها خلف عنقه ... تتحسس شعره بلطف , لا يليق بعنفه في التهام طفولتها الظاهرية ....
همس ساحقا شفتيها المتأوهتين
( أرغب بكِ بشدة ....... ياللهي أشتقت اليك و الى جمالك و صغر حجمك ..... )
مد يده خلف عنقه لينتزع أحدى كفيها المتعلقتين به هناك ... ثم أخذها عنوة الى فمه ليقبل كل اصبعٍ منها ... بل يلتهمها حرفيا ....
حانت منها انعقادة حاجبين و هي تلمح أظافرها القصيرة للغاية و الغير منمقة ... بل منعدمة الوجود ... فبدت يدها متورمة المفاصل تفتقر الى الأناقة تماما .... و تسائلت أين ذهبت الأظافر الملونة الطويلة التي كانت تحرص ملك على أن تقلمها لها و تطليها بطلاء لامع ...
لكن لم يكن لديها المزيد من الوقت لتتسائل أكثر و هي تغرق و تغرق ببطىء في موجات عاطفته العنيفة و التي أختلفت كليا عن تلك المرات التي أجتمعا بها من قبل ...
فالآن هو أكثر عاطفا و إحتياجا ... يشبه احتياجها ....
كانت تسمع صوته و كأنه هو المحموم لا هي .... يهمس بخشونة في اذنها
( جميلة ..... جميلة ..... زوجة طفلة ..... أستطيع تحطيمك بقبضةٍ واحدة .... )
الآن كان عليها أن تتشنج و تشعر بالنفور الذي كانت تشعر به مع رابح لكنها كانت تداريه
لكن في تلك اللحظة , لم تشعر بالنفور .... بل هو نفور أقرب للخجل و الرغبة في الخوض به الى أن يتحول من نفورٍ الى شيء آخر أكثر روعة ...
رأته يلقي بمنشفتها بعيدا بقوة ذراعه ... فرمشت بعينيها عدة مرات قبل أن تسمع زمجرته الخشنة و بعدها ... تاهت معه في عالمٍ لم تعرفه من قبل ...
على الرغم من تحرش سنوات ... و ثلاث زيجات .... كانت تلك المرة مع وليد شيئا لم تعشه و آفاقا لم تحلم أبدا بالإحساس بها ....
بعد وقت طويل من العنف العاطفي المتبادل صرخت ألما ......
( ظهري .......... ظهري ....... )
تسمر مكانه وهو يبتعد عنها قليلا مصعوقا لاهثا.... لقد نسي ألمها تماما .... لقد كان ....!!!!!
ارتفع حاجبيه من صدمة الساعة الماضية المحمومة ...
لكنه أفاق على نشيجها مجددا ... فضمها اليه وهو يقول بخفوت
( استديري .... سأدلكه لكِ ...... )
شهقت بشرى و هي تهتف
( بل أريد مسكنا ...... أرجوك ....... )
عقد وليد وهو يسألها مصدوما
( منذ متى كنتِ تتألمين بالله عليكِ ؟!!! ..... لماذا لم تخبريني ؟! ... كنت لأتوقف .... )
قالت بشرى بإختناق و هي تدفن وجهها في الوسادة
( لم أريد أن تتوقف ولو سأموت ..... أرجوك أعطني مسكنا الآن , لم أعد أحتمل ...... )
كان مأخوذا بما شعرت به بشرى بين ذراعيه ..... كانت و كأنها امرأة أخرى .....
أمرأة حاملة بطفله ... مرغوبة و ترغبه !! .....
لقد نجح الجنين في بطنها بكل فورة الهرمونات التي أشعلها ... بما فشل هو بتحقيقه منذ بداية زواجهما .....
لقد شعرت بالرغبة في العلاقة الزوجية من نفسها ... و دون التفكير بأي مصالح مترتبة عليها !!! ....
انتفض فجأة من شروده على صوت هتافها مجددا
( أريد المسكن يا وليد أرجوك ........ ظهري يحرقني بشدة )
تحشرج صوت وليد و انعقد حاجباه بعجز وهو يقول بصوتٍ مكتوم
( أنت حامل يا بشرى ...... حتى المسكن الخفيف , فقد أوصى الطبيب بعدم الإكثار منه .... )
صرخت غضبا و هي تضرب الوسادة بقبضتيها المضموتين
( تبا للطبيب ....... أعطني إياه حالا ..... )
زفر وليد نفسا متألما وهو ينظر اليها عاجزا قبل أن يقول بخشونةِ متحشرجة زائفة
( يجب أن تتحملي المسؤولية يا بشرى ..... هناك حياة تخلق داخل رحمك .... )
كزت على أسنانها و هي تعض على الوسادة بقوةِ بينما تطبق جفنيها بشدة ... فتأوه وليد دون صوت ...
كان دفىء جسدها الصغير لا يزال منطبعا على جسده الصلب الجائع ... فكيف يسلم الآن بأن يراها في الساعة التالية تتأوه ألما دون أن تكون مستلقية تسترخي بكسل عاطفي محبب !! ...
مد يده جانبا ليتناول أنبوب الدهان .. ثم مال عليها و عاد ليدلك لها التقرح الذي بدا متورما الآن برفق شديد جعلها تشهق منتفضة بغضب و ألم معا
( لا ..... لا يا وليد , ابتعد عني .... أريد شيئا يذهب الألم .... أبعد هذا السائل اللزج عني .... )
الا أنه لم يسمع أوامرها الصارخة ... بل مال عليها أكثر حتى لامست شفتيه كتفها المرمري الأبيض .. و بقت هناك ....
أخذ يقبل كتفها برقةِ مرة بعدة مرة و يده تدلك لها التقرح في كتفها ببطىء... بينما هي تعض على شفتها بألمٍ طاحن .. و لكنها في نفس الوقت لا تريد التخلي عن ملمس شفتيه على بشرتها ...
و الذي كان مسكنا لروحها ... فداوى قليلا الم جسدها و طغى عليه ....
همست بشرى بخفوت متألم
( وليد ..... لا تتركني أرجوك .......ليس بعد الآن ..... ماذا سأفعل بدونك ؟!!..... .. )
أغمض وليد عينيه باختناق معذب .... بينما شفتاه لا تبارحان كتفها ... خوفا من عودة الألم .......
.................................................. .................................................. ......................
أمسكت كرمة بالهاتف و هي تقول بكل حماس ناظرة الى نفسها في المرآة من كل جانب
( اسمعيني جيدا يا وعد ... أريد عدة قمصان للحمل .... تظهر قصة صدري و لا تخفي بطني ..... بشريط حريري معقود تحت الصدر .... و أريد منه كل الألوان ... )
سمعت فجأة صوتا رجوليا يقول من خلفها بهدوء
( الوصف الأمثل على ما تطلبين هو حلة الرقص ......... )
انتفضت كرمة وهي تستدير بسرعة لتجد حاتم واقفا عند باب الغرفة و ذراعه مرتاحة على قبضة الباب بتكاسل ... بينما عيناه تلمعان ببريقٍ متوهج ... ثم استقام ليدخل بهدوء قبل أن يجلس على المقعد مستندا بذقنه الى اصبعه يتأملها بحرية ....
عقدت كرمة حاجبيها و هددته بعينيها أن يتوقف ثم تابعت كلام مع وعد متذمرة
( نعم يا وعد أنا معك .... كان مجرد تدخل غير مرغوب به من السيد زوجي .... لديك مقاساتي , اليس كذلك ؟!! .... لا لا ... انتظري .... زيدي من عرض الصدر ثلاثة سانتيمترات ....بل أربعة أفضل فنحن الآن لا نزال في البداية و الأمور تتدهور سريعا ... . )
كان حاتم يرمق ما تتكلم عنه تماما , عيناه تبرقان ببريقٍ اكثر عبثا ... ثم قال مبتسما بخفوت بطيء
( راااائع ......... )
احمر وجهها و هي توليه ظهرها عن قصد .... بينما قالت لوعد
( سأهاتفك فيما بعد , فهناك تدخل سافر على الخط .... و لن يرحل الآن , أنا أعلم ذلك ...... )
أغلقت الخط مع وعد قبل أن تستدير ناظرة الى حاتم وبغضب و يديها في خصرها
( الا يحق لي بعض الخصوصية قليلا دون أن تدخل و تتحرش بي لفظيا كما تفعل دائما و تحرجني أمام الجميع ؟!! ...... )
رفع حاتم يديه باستسلام وهو يقول ببراءة مندهشا
( كل ما قلته هو كلمة " رائع " ..... فأين التحرش الذي ستلحظه صديقتك ؟!! .... )
زفرت كرمة بغيظ و هي تقول بنفاذ صبر
( أنت تعلم جيدا ما كنت تتحدث عنه ........... )
ارتفع حاجبيه ببراءة اكبر و هو يقول
( ما هو ؟!! ............ )
زمت كرمة شفتيها و هي تقول
( أنت غريب الأطوار هذه الأيام ......... لكن أنا لن أسمح لك بأن توترني , فهذا غير صحي للجنين ... )
حاولت الخروج من الغرفة , الا أنه سبقها بسرعةٍ مندفعا من مكانه ليسد عليها طريق الخروج و يحاصرها كلما حاولت أن تتجاوزه ... فتوقفت مكانها لتنهره بقوة
( توقف عن هذا يا حاتم ..... أنت ترهقني ..... )
أغلق حاتم الباب من خلفه بدفعة من قدمه ... و ظل يقترب منها و عيناه تشبهان عيني فهدٍ أسود ...
رفعت كرمة اصبعها محذرة امام فمها ....
( حاتم .... احترم نفسك , محمد و أمينة في الخارج ...... )
لكنه استمر يقترب منها و بعينيه نفس النظرة قبل أن يقول ببراءته المعهودة
( ماذا ؟!! ..... أنا لم أفعل شيئا بعد ...... )
عقدت كرمة حاجبيها بشدة و هي تقول حازمة ...
( أها .... تماما كتحرشاتك اللفظية البريئة ..... )
كان قد اقترب منها فهربت بسرعة و هي تهتف
( حاتم ,..... لا يجب أن أجري , أنا حامل ....... )
لكنه كان قد أمسك بخصرها من الخلف ليضم ظهرها الى صدره بقوةٍ بينما أخذت تتلوى هاتفة
( انت تعتصر الطفل ...... فك ذراعيك عن عنقه .... )
استدار بها الى أن وقفت أمام المرآة وهو خلفها يتحسس بطنها برفق ..... ثم همس في اذنها بهيام
( أصبحتِ ثقيلة الحركة كالبطة ........ )
مالت على صدره قليلا و هي تهمس
( انا حامل !! ..... يجب أن أحترس ...... )
قبل عنقها برقةٍ أثارت رعشة بركبتيها وهو يهمس لها
( يمكنك ان تمارسي الرياضة حتى لو أردتِ .... الحمل ليس مرضا .... )
عقدت كرمة حاجبيها قليلا و هي تتأمل نفسها قبل أن تقول بتركيز
( أممممم أفضل الإحتراس .... لكن شكرا على النصيحة ..... )
حاولت أن تتخلص من ذراعيه الا أنه لم يسمح لها ... بل شدد عليها قليلا وهو يقول بخفوت
( لم تكن نصيحة ..... بل أمر , من الغد ستخرجين للمشي معي قليلا كل صباح .... )
كورت شفتيها و هي تتأمل نفسها قبل أن تقول بقنوط
( حاتم ..... لا اريد المجازفة , هذا الحمل حدث بالصدفة و لا أظنه سيتكرر مرة أخرى ..... )
عقد حاتم حاجبيه وهو يقول بصرامةٍ
( هاااي .... أنت تهينين رجولتي بهذا الكلام , طبعا سيتكرر .... لما لا نبدأ من الآن .... )
ازدادت جرأة لمساته .. فابتسمت كرمة و هي تطرق بوجهها الأحمر .... بينما قالت معترضة
( يجب أن نخرج الآن .......... )
ازدادت قبلاته على عنقها وهو يهمس
( لا ...... لا يجب .........أريد أن أكلمك بموضوع هام ... .. )
ضحكت كرمة بارتباك قبل أن تقول
( أعتقد أنه لدي فكرة جيدة عن فحوى الموضوع ....... )
ضحك هو الآخر وهو يهمس بأذنها
( لا مانع من التكرار اذن ....... فنحن لم نناقشه منذ فترة , .....هل تبعديني عنكِ قصدا أم أنني أتوهم فقط من شدة شوقي اليكِ )
عضت على شفتها و هي تقول بخفوت و تردد
( حاتم .. أنا في بداية الحمل , لذا يجب أن نتجنب هذا التقارب قليلا الى أن يستقر الجنين في موضوعه .... )
عقد حاتم حاجبيه وهو يرفع وجهه عن عنقها ليقول بخفوت
( الى أين سيرحل المسكين ؟!! .... سيستقر يا كرمة ..... لا تكوني بهذا الرعب , هل نصحتك الطبيبة بذلك ؟؟! ..... )
مطت شفتيها قليلا ... فرفع حاتم حاجبيه وهو يقول بهدوء
( حسنا ..... من الواضح جدا أنكِ قد سألتِها و أثبتت لكِ مدى حماقتك .... و مع هذا تكابرين .... )
مطت كرمة شفتيها و هي تهمس
( أفهمني يا حاتم .... انا أفضل الراحة بكل شيء , حتى أنني أفكر في أخذ أجازة في بداية الحمل .... )
عبس حاتم بشدة وهو يقول بجدية
( انسي الأمر ..... لن أسمح لكِ بأن تختفي في بياتٍ شتوى كالدببة .... أو أن تتكاثرين ذاتيا كالخلية على نفسها .... أنت ستمارسين حياتك بشكلٍ طبيعي تماما ..... و تنبذى عنكِ هذا الخوف المرضي ... )
رفعت كرمة وجهها لتنظر اليه في المرآة ثم قالت بجدية
( قد اكرهك لو أصاب هذا الحمل مكروها لا سمح الله ....... )
بهت الهزل عن عينيه و نظر الى عينيها قليلا قبل أن يقول بخفوت
( هكذا يا كرمة ؟!! ......... )
عضت على شفتها مجددا و هي تغمض عينيها هامسة تضم ذراعيه على بطنها
( لا ..... لن أكرهك أبدا , لكن دعني أمشي على نصائح الأمهات و الجدات ..... )
فتحت عينيها و هي تقول عابسة مازحة
( طبعا أنت تتسائل بداخلك و من أين لي أن أعرف أمهات و جدات ؟!! ...... حسنا امينة تقوم بالدور بشكلٍ ممتاز .... )
ارتعشت عضلة بفكه وهو يزيد من ضمه اليها ليهمس لها برقة
( يمكن أن أكون أمك لو أردتِ ...... لكن أشك أن أصلح كجدتك ... )
ضحكت كرمة بقوة و هي تميل بوجهها المحمر بينما هو يبتسم لضحكتها هامسا
( اذن أمينة هي من تبعدك عني ؟!! ....... سيكون حسابها معي عسيرا ... )
فتحت كرمة عينيها و هي تقول بتحذير
( إياك و أن تحادثها في هذا الأمر .... إنها مواضيع خاصة جدا .... )
اتسعت عينا حاتم وهو يقول بدهشة
( بينما يحق لكما هذا ؟!! ........ )
قالت كرمة تقنعه بالحكمة
( نحن نتحدث لهدف سامي .... بينما أنت تتحدث به لغرض التحرش .... )
ضحك وهو يمد يداه حولها ليفتح أزرار فستانها الأمامية و هو يقول لها ببساطة
( لعلمك أنا يحق لي كافة أنواع التحرش ........ )
أغمضت كرمة عينيها بحب و يدها على بطنها بينما مشاعرها تغني أغنية تلهيها عن هذا الخوف البائس على طفلها ....
و ما كادت أن تذوب معه حتى سمعت رنين هاتفها في يدها فانتفضت شاهقة و هي تستقيم , بينما لم يتركها حاتم بل شتم قائلا
( اغلقي الهاتف بدلا من أن ألقي به من النافذة ........ )
قالت كرمة بجدية
( سأرد ..... لحظة واحدة فقط , قد يكون الأمر هاما ..... )
شتم حاتم همسا مجددا ... بينما تركها ليجلس على نفس المقعد وهو يراقبها بنفاذ صبر ... بينما ردت كرمة على الهاتف و هي تنظر اليه معتذرة
( نعم ...... اهلا .. مرحبا من معي ؟؟ ........ )
لحظة مرت قبل أن ترتبك ملامحها قليلا ... و حاتم يراقبها بدقة ...
نظرت كرمة الى الباب المغلق و فكرت في الهرب الا انها لم تلبث أن اخذت نفسا قويا ثم قالت بهدوء مسلمة أمرها لله
( نعم .... مرحبا علياء كيف حالك ....... )
و كما ظنت تماما , فقد تلبدت ملامح حاتم و فغر شفتيه قليلا في اشارةٍ غير محمودة ... و ما ان هم بالنهوض و قد رأت نية المغادة الصامتة في عينه ... حتى سارعت اليه ركضا ... ثم جلست فوقه بالمعنى الحرفي للكلمة .... فقد ارتمت جالسة على ركبتيه وهي تثبته بوزنها .. داهسة بقدميها على الارض كي لا ينهض ... بينما هو يهمس بقسوة
( ابتعدي يا كرمة ....... )
لكنها تجاهلته و هي ترد بهدوء
( أنا بألف خير يا علياء .... )
ثم ابعدت الهاتف عن أذنها لتضغط على مكبر الصوت ووضعته بينهما على الرغم من مقاومة حاتم و ملامحه الفظة ...
قالت علياء بصوتها الرقيق المتردد
( أنا أردت أن أكلمك منذ فترة طويلة سيدة كرمة ..... فمنذ ما فعلتهِ معي أنتِ و زوجك الكريم ... لم تتسنى لي الفرصة كي أشكركما ..... )
قالت كرمة بهدوء
( لا داعي للشكر يا علياء .... أي انسان يمتلك ضمير كان ليساعد انسان يحتاج للمساعدة و انا أيضا مقصرة بحقك في السؤال عنك منذ أن بدأت أمينة في الذهاب اليكِ لمساعدتك .... )
صمتت للحظة ثم رفعت عينيها الى عيني حاتم الغير معبرتين عن شيء معين لكنهما كانتا قاسيتين قليلا ...
فتابعت بهدوء و هي تنظر الى عينيه بثقة ...
( لكن أنت من المؤكد تعرفين ظروفي و أن هذه الأمور قد تكون جارحة لزوجي و أنا لا أريد ان أسبب له أي ألم ...... )
للحظات تبادلت النظر مع حاتم , دون ان يظهر عليه أي تغيير , الا أنها تكاد أن تقسم بوجودِ حنان مندفع من بين تلك القساوة ...
قالت علياء بسرعة
( نعم أدرك ذلك ...... و لن أسبب لكِ و لحياتك أي ضرر مجددا .... أنا فقط أحب ان أطمئن عليكِ من الآن و الآخر ..... )
ابتسمت كرمة قليلا ثم قالت
( المهم أخبريني عن حملك ..... هل كل الأمور بخيرٍ الآن ؟؟ ...... )
قالت علياء بلهفة
( أنا بخير و الطفل أيضا .... و انا أدعو لكِ في كل لحظة يا سيدة كرمة أن يرزقك بالذرية الصالحة , سمعت أن دعاء المراة الحامل مستجابا ..... )
أبتسمت كرمة و هي تمسك بيد حاتم لتضعها على بطنها برفق ... و يدها تعلو كفه .... ثم عادت لتنظر الى عينيه هامسة
( كل شيء بأمر الله يا علياء ...... )
لم يستطح حاتم الا أن يبتسم للنظرة في عينيها ... ولو حاول وصفها بمجلداتٍ فلن ينجح أبدا ....
كانت نظرة عشقٍ ممتزجةٍ بالإمتنان لأمومةٍ مرتقبة ....
قالت كرمة أخيرا
( صدقيني يا علياء ..... أحب أن أسمع عنكِ كل خيرٍ دائما .... )
قالت علياء بخجل
( و أنا أيضا يا سيدة كرمة ..... هلا شكرتِ زوجك بالنيابة عني عما فعله معي ؟؟ .... )
ابتسمت كرمة لحاتم و هي تقول بتأكيد
( سيصله شكرك يا علياء .... لا تشغلي بالك و اهتمي بنفسك و طفلك .... )
أغلقت هاتفها ثم نظرت الى عيني حاتم مجددا .. فقال بخفوت
( لماذا لم تخبريها بحملك ؟؟ ........ )
اتسعت عينا كرمة و هي تقول بدهشة
( هل تمزح ؟!! ...... لن أخبر أحدا حتى الشهر الرابع .... بل الخامس .... أو حتى السادس ... الى أن أكون مضطرة للإعتراف بما لا يقبل الشك ..... انت و أمينة و محمد ووعد فقط من ستعلمون حاليا ... )
ابتسم حاتم رغما عنه وهو يرجع رأسه للخلف ملاعبا خصلة من شعرها المموج ثم قال بهدوء
( لماذا تتعمدين الإخفاء ؟!! ..... ظننتك ستنشرين الخبر في اذاعات الأخبار كلها ..... )
اتسعت عيناها بخوف حقيقي و هي تضغط يده الى بطنها قائلة بجدية
( لا ... هذه الأمور تظل طي الكتمان حتى آخر لحظة ممكنة ..... )
نظرت الى بطنها للحظةٍ ثم نظرت الى حاتم تقول بلهجة صادقة
( أنا خائفة عليه جدا يا حاتم .... و أحبه .. جدا ... جدا .. جدا ..... )
مد يده الى مؤخرة شعرها ليسحب وجهها الي وجهه بقوة حتى داعب أنفها بأنفه و هو يهمس لها بصوتٍ أجش مزمجر
( و أنا أحبك .... جدا ... جدا ... جدا .... يا أجمل معجزةٍ قدرت لي .... )
ابتسمت بحنان و هي تلامس وجنتها بأنفه كي تستنشق عطره ... لكنها فتحت عينيها فجأة لتقول بصدمة
( هل شعرت بذلك ؟!! ....... )
عقد حاجبيه وهو يرفع وجهه عنها ليقول بقلق
( ماذا ؟!!! ........ )
قالت كرمة برهبة
( لقد تحرك الطفل !!! .......... )
ارتسمت البلادة على وجه حاتم وهو يقول بصبر
( أنتِ في الشهر الأول يا كرمة ........ )
هتفت بلهفة و هي تتحسس بطنها
( لكني شعرت به يتحرك ...... )
قال حاتم ببساطة وهو يربت على شعرها
( انها على الأغلب غازات ....... )
عقدت حاجبيها و هي تقول
( و هل سأخطىء بين الغازات و حركة الجنين ؟!! ...... )
مد يديه ليتابع فتح أزرار فستانها وهو يقول بنفاذ صبر
( كرمة لدينا بضعة دقائق قبل أن يهجم علينا جيش التتار ... فهل سنضيعها ما بين شكر علياء و المحاضرة العلمية في شرح الفرق بين حركة الغازات و حركة الجنين .... )
ابتسمت كرمة رغما عنها ... ثم همست و هي تحيط عنقه بذراعيها
( حسنا ..... لكن لو آذيت الطفل سأقتلك حبيبي .... )
همس لها بصوتٍ أجش
( سأحاول ..... اثبتي يا أم الأطفال ..... )
همست كرمة حالمة و هي تستسلم لقبلاته
( أم الأطفال !!!! .... ما أجمل هذا اللقب !! ...... يا رب ستة أطفال يا رب .... )
سمعا فجأة طرقا على الباب جعلهما ينتفضا معا ... ومحمد يقول
( كمرة ... كمرة كمرة .... كمرة .... كمرة كمرة ... كمرة ....كمرة كمرة ....كمرة )
بينما كانت كرمة وحاتم يتبادلان النظر بيأس الى أن قالت كرمة بصوتٍ خافت
( لن يتوقف ..... أنه عادة يغنيها الى أن أفتح الباب .... إنه لحن كامل حتى النهاية و قد يعاد مرتين .... )
دفعها حاتم وهو يقول من بين أسنانه
( اذهبي يا كمرة .... اذهبي .... لم أعد أريد شيئا ...... خذيه بيدك و ابتعدا عن ناظري ..... )
ربتت على وجنته و هي تكور شفتيها كأنها تراضي طفلا ... ثم نهضت بسرعة الا أنه أمسك بيدها ليقول بخشونة
( أغلقي زرار فستانك ......... )
احمر وجهها و هي تعيد ترتيب ملابسها بسرعة ... قبل تسرع للباب الا أن حاتم , ناداها قائلا بجدية
( كمرة ....الليلة .... لا اعتذارات .... )
ابتسمت له كرمة برقة و خجل و هي تقول مازحة
( الليلة يا عمدة ......... )
برقت عيناه و هو يراها تشع فرحة و بهجة كثمرة ناضجة ... ثم قال بخفوت مشتعل
( يا روح العمدة ......... )
ضحكت كرمة و هي تفتح الباب ... فوجدت محمد كان لا يزال يلحن اسمها دون ملل .... و ما أن رآها حتى قال ببساطة
( الغذاء جاهز يا روح العمدة ........ )
شهقت كرمة و هي تدفعه أمامها مبعثرة شعره هاتفة
( ابتعد عن أبيك هذه الساعة ..... فهو مستعد لضرب أمينة نفسها دون اعتبارٍ للسن )
على مائدة العشاء كان ثلاثتهم ينظرون اليها بحواجب مرفوعة ما بين ريبة و توجس ...
و كان حاتم هو أول من تكلم ..... فقال بقلق
( كرمة ...... هل أنتِ بخير ؟؟ ....... )
لكنها كانت جالسة امام الطعام ووجهها مائل للشمال الشرقي ... فاغرة الشفتين و عيناها زائتين ....
قال محمد وهو ينظر اليها مضيقا عينيه و هو يتفحصها
( إنها تشبه بطوط في المجلة حين يكون لون وجهه أخضرا لأنه مصابا بالغثيان !!! .... )
بينما نظرت اليها أمينة عاقدة حاجبيها و هي تقول
( كنتِ مثل العفريت منذ دقائق !! .... و ما أن دخلتِ الغرفةِ معه حتى تحولتِ الى كتكوت تم رشه بمبيدٍ حشري ..... أخبرتك و نصحتك , فلم تمتثلي لنصيحتي .... )
رمقها حاتم شزرا بطرف عينيه .. الا أن وجود محمد منعه من الإسترسال في الكلام كما يرغب تماما ....
نهض محمد من مكانه و تناول منشفة المطبخ الصغيرة وأخذ يلوح بها امام وجه كرمة وهو يقول ..
( خذي نفسا عميقا يا كمرة ....... )
حاولت أخذ عدة أنفاس الا أنها لم تريحها ... بل شعرت بالدوار أكثر .. فمد محمد يده يمسك بشعر كرمة وهو يقول
( هيا أخفضي رأسك الى بين ركبتيك عدة مرات ...... )
انحنت الى ركبتيها مرة و أثنتين بإعياء و محمد يدفعها ... فهتف حاتم بقوة
( ستزهق روحها بيدك يا ولد اتركها .... لقد أصبحت كفك أكبر من رأسها .... )
نظر اليه محمد عابسا وهو يقول
( ألم تكن رياضيا يوما ما ؟!! .... و تعرف تلك الإجراءات ؟!! ..... صحيح أن هذا كان من أيام العصر الحجري , لكن من المؤكد أنك تتذكر شيئا ...... )
استطال حاتم و ضربه على رأسه وهو يقول
( احترم نفسك ....... أو اقلب داخلك خارجك كالجورب .... )
تأهوت كرمة بصوتٍ واهي .... لكنه كان كفيلا كي يثير انتباه حاتم
فعقد حاجبيه بشدة وهو يلتقط معصمها و يربت عليه بقوةٍ قائلا
( كرمة ...... هل تعانين من الغثيان ؟!! .... هل تريدين التقيؤ ؟!! .... )
هزت رأسها نفيا و هي تقول بخفوت
( لا ..... لا ..... لكن أحتاج الي شيء ما ..... بشدة ....... )
عبس حاتم وهو يقول بسرعة
( ما هو حبيبتي ؟!! ..... أخبريني بما تحتاجين و أنا سأحضره لكِ ..... )
الا أن كرمة أزاحت الكرسي و نهضت واقفة و هي تقول بقوة
( أنا أعرف ما أحتاج ........ )
ثم انطلقت مهرولة .... نهض حاتم وهو يقول
( سأذهب اليها .... اكملا طعامكما ......... )
الا أن أمينة نهضت تسبقه و هي تقول
( بل أكمل أنت طعامك ..... صدقني , لا زوجة تحب أن يراها زوجها في هذا الموقف .... أترى تلك القماشة المهترئة التي أمسح بها الأرض هناك ؟!! .... هكذا يكون شكل المرأة بعد أن تتقيأ .... )
ثم ابتعدت لتتبع كرمة ... بينما جرى محمد خلفها وهو يقول
( سأذهب لأشاهد ......... )
بقى حاتم مكانه وهويرتشف من كوب ماء بامتعاض ... ثم قال بضيق مخاطبا نفسه
( اذهب لتشاهد ..... يبدو أن لقاء الرجل بزوجته هذه الأيام أشد زحاما من سوق الثلاثاء وقت الظهيرة .... و أشك حتى في أن يسمحو لي بوضع يدٍ عليها .... )
لكن لم تكد أن تمر دقيقة حتى سمع أمينة تصرخ
( يا حاتم ..... الحق زوجتك المجنونة ...... )
انتفض حاتم من مكانه مندفعا الي غرفتهما .... و القلق يبعثر خطواته , بل كان مرتعبا ...
ثم اتجه الى الحمام , مصدر الصوت ... فتسمر مكانه وهو يرى محمد متشبثا بخصر كرمة ... ممسكا معصمها لأعلى ... حيث تمسك ب ..... صابونة ....
بينما هتفت أمينة ما أن رأت حاتم ...
( انظر المعدولة زوجتك ... أختيار الهناء و السعد .... تريد أن تأكل الصابونة !!! ..... )
ارتفع حاجبي حاتم بذهول بينما كانت كرمة تصارع محمد و هي تهتف
( أتركني يا محمد .... سأعض عليها فقط , لن أبتلعها , فأنا لن أؤذي طفلي أبدا ..... )
بينما ازداد تشبث محمد بها وهو يهتف بقوة
( حسنا .... حسنا .... هذه حالة هيستيرية , فقط خذي نفس أو أصفعك ...... )
هز حاتم رأسه يأسا .... ثم اقترب منهما و قال لمحمد
( اتركها يا محمد .... أنا سأتولى الأمر من هنا ...... )
نظر اليه محمد بشك و قال
( هل أنت متأكد ؟!! ........ لا نريد أن تنجب لنا طفلا مخبولا يتجشأ فقاقيع هواء ..... )
قال حاتم يطمئنه
( لا تخف ..... إنها لا تعاني حالة , هيستيرية .... إنها فقط تتوحم ...... )
تركها محمد بالتدريج وهو يحاصرها بشك ... مستعدا لأن يهجم عليها بأي لحظة .... و ما أن تركها حتى التقطها حاتم محيطا خصرها بذراعيه و يده تدلك لها معصمها بنعومة ...
اما يده الأخرى فكانت تتحرك على ظهرها برفق صعودا و نزولا .... ثم قال أخيرا بمنتهى الهدوء
( كرمة ...... تعقلي , أتفقنا ؟! ...... )
هتفت بيأس و إعياء
( أنا لست مجنونة ..... أنا فقط أشعر بشهية غير مسيطر عليها لتذوقها .... أريد أن أعض عليها فقط .... )
قال حاتم بهدوء
( أتعدين الا تبتلعيها ؟؟ .......... )
رفعت وجها متعبا متوسلا اليه و قالت بصدق
( أعدك يا حاتم ....... )
رد عليها برقة
( حسنا اذن ......... )
ثم التقط الصابونة من يدها و قربها من شفتيها وهو يهمس لها مبتسما بدلال
( هيا عضي عليها بأسنانك فقط ...... )
فتحت كرمة فمها و عضت على الصابونة برفق و تمهل و بينما هي تفعل ذلك تأوهت مستمتعة .. مغمضة عينيها براحة غريبة ...
ابتسم حاتم ابتسامة أعمق و اكثر دلالا وهو يداعب ظهرها بحنان ... بينما كان محمد يراقبها عاقدا حاجبيه بذهول .. ثم همس بانبهار
( غريب الأطوار !!........ )
خرجت أمينة من الحمام و هي تضرب كفا على كف .... قائلة بإمتعاض
( خيبة الناس السبت و الأحد ... و خيبة زوجتك لن ترد على أحد !!! ...... حسرتي على الطفل الموكوس )
استمرت كرمة في الغض على الصابونة المعطرة بنهم .. الى أن حاول حاتم شدها من بين أسنانها وهو يقول بخفوت
( يكفي هذا كي لا ينساب الصابون الى حلقك ...... افتحي فمك ... هيا .....)
الا أن كرمة استمرت في العض عليها .... وهو يشد من ناحيته متابعا بحزم
( كرمة .... اخلي سبيل الصابونة هيا .... كرمة .... )
عادت أمينة و هي تقول
( انزعها بالقوة و أنا سأعصر نصف ليمونة بفمها .......... )
و بالفعل نزع الصابونة بينما أمسك بذقنها بالقوة و هي تهتف
( لا احب الليمون ..... لا احب الليمون ..... )
الا أنه تقبض ذقنها فاتحا فمها غصبا بينما عصرت أمينة النصف ليمونة بها و هي تقول
( بالشفاء حبيبتي .... عقلا قبل جسدا ...... )
أخذت كرمة تتشنج و ملامحها تتعقد مع عصارة الليمون ... فقال حاتم ضاحكا
( حسنا ..... عودا الى ثكناتكما الآن و أنا سأتولى زوجتي ..... رجاءا .... )
خرجا من الغرفة , بينما مالت كرمة الى الحوض و فتحت الماء لتغسل لسانها مرة بعد مرة ...
بينما مال اليها حاتم ليقبل مقدمة شعرها هامسا برفق
( هل أخبرتك من قبل بأنني آسف ؟!! ......... )
رفعت كرمة وجهها الشاحب اليه و هي تجففه بالمنشفة ... ثم همست بإعياء
( على ماذا تعتذر ؟!! ......... )
مد يده ليحتضن وجنتها هامسا
( على أشهرٍ أبعدتك بها عني قسرا .... بينما أنت هشة و تحتاجين لكل دلال العالم , فالدلال لم يخلق الا لكِ )
رمشت كرمة بعينيها و هي تهمس مبتسمة برقة
( بالنسبة لي ..... لم أسلم للحظة بأنني قد أفشل و أدعك تفلت من قبضتي , أما بالنسبة لك ..... فأنت الخاسر الوحيد حيث ضيعت أشهرا ثمينة لنا معا ..... )
عقد حاجبيه و هو يلتقط انتقامها الأنثوي ... فقال صارما
( من الأفضل لكِ أن ترتاحي الآن قليلا ....... فأنا أنوي لحاق ما فاتني سريعا .... )
بنفس الليلة ....
كان يدور الغرفة وهو يتأفف من طول انتظارها .... مضت أكثر من ساعةٍ و هي في الحمام ...
و كلما طرق الباب طمأنته بأنها بخير .....
لكن الآن عيل صبره و لا قدرة له على الإحتمال أكثر ..... فتوجه الى الحمام و فتح الباب عنوة ...
الا أنه لم يلبث أن تنهد وهو يستند بكتفه الى اطار الباب قائلا
( راهنت نفسي بأنك تفعلين ذلك ....... )
انتفضت كرمة من أمام المرآة .... حيث كانت واقفة بجانبها , مكورة المنشفة الكبيرة على بطنها ... تحت قميص نومها الأرجواني القصير بلون العنب ....
و كأنها طفلة تمثل دور الحمل و ترى كيف يكون شكلها بالبطن المنتفخة ....
لكن الغريب في الأمر أنه حين اقتحم خلوتها لم يجدها ممستاءة من البطن المتكورة .... بل كانت ابتسامتها واسعة و عيناها تريان نفسها في المرآة كأكثر النساء جمالا ....
انحنت كرمة بسرعة لترمي المنشفة بعيدا و هي تهتف بغضب
( كيف تدخل الى هنا بلا استئذان ؟!!.... الا يوجد لي أي مساحة من الخصوصية هنا ؟!! .... )
ابتسم حاتم ابتسامة مفترسة وهو يقترب منها بسرعةٍ ليحملها بحركةٍ واحدة بين ذراعيه و كأنما تطير في الهواء فشهقت بقوةٍ .... بينما نظر اليها مبتسما وهو يقول بصوتٍ مبحوح
( لا ..... لا يوجد ......... )
حين استيقظت للمرة الثانية ... أدركت على التو انه قد تبخر مجددا ....
فحين فتحت عينيها ... كان شعاع المغيب هو المتسلل من بين الستائر الداكنة ....
انتفضت جالسة في السرير ... تنظر حولها متمنية أن يكون بالجناح .... لكن من الواضح أنه لم يكن كذلك ...
فقد كان الصمت يحيط بها .... بجوٍ من الرهبة ... و الحميمية المتخلفة من ساعةِ حبٍ وحيدة ....
تراجعت بشرى الى مستندة الى ظهر السرير و هي تتنهد بحزن ... ثم لم تلبث أن همست مخاطبة الفراغ من حولها
( لماذا تركتني يا وليد ؟!! .... لقد رجوتك ...... )
كانت عيناها تتحركان من حولها تراقب جمال الجناح المظلم جزئيا الا من الاشعة الحمراء المتسللة من بين الستائر
كم نامت ؟!!! .... منذ الصباح و حتى الغروب !!!
ألهذه الدرجة كانت متعبة ؟!!! .... أم انها ببساطة لجأت للراحة مرحبة بعد الضياع المجنون الذي عاشته مع وليد ....
رفعت بشرى يديها لتتلاعب بخصلة من شعرها شاردة وهي تهمس
( هل شعر بنفس ما شعرت أنا به ؟!! ........ أم أنه كان يتظاهر كما كنت أتظاهر أنا من قبل !! ... )
أرجعت راسها للخلف تحدق بالسقف و هي تزفر بقوة .... ثم لم تلبث أن همست بخفوت
( لو تركتني سأموت .... فهذا ليس عدلا ..... ليس عدلا أن أجرب حياتك ثم تجبرني على العودة لحياتي بعدها ...... ليس عدلا ..... )
أسبلت جفنيها و هي تخفض نظرها الى بطنها .... ففغرت شفتيها قليلا و هي تهمس بغباء
( أنا أحمل طفلا !!!! ..... أي كارثة تلك !! .... )
رفعت يدها لتتلمس بطنها برفق ....
كانت نفس البطن التي إعتادتها ... لم يزدد حجمها .... لكنها تشعر في هذه اللحظة بالفرق مهولا ...
انها تكاد أن تشعر به يتحرك بداخلها ....
رفعت بشرى عينيها لأعلى و هي عاقدة حاجبيها ... ثم همست بحيرة
( ترى بأي شهرٍ من الحمل أنا ؟!!! ....... لقد نسيت كل مواعيدي الشهرية الهامة ...... )
ازاحت الغطاء جانبا و نهضت ببطىء ... للوهلة الأولى شعرت بالدوار ... الا أنها تماسكت و ثبتت قدميها لتغمض عينيها عدة لحظات ... و ما ان شعرت بالدنيا تهدأ من حولها حتى فتحت عينيها ببطىء و اتجهت الى المرآة المعتمة ...
نظرت الى نفسها و هالها شكل المرأة التي تراها !! ...
في الواقع ليس إنصافا أن تقلب بإمرأة ... فقد كان شكلها يوحي على افضل الأحوال بأنها فتاة مشردة بلا مأوى ...
جسدها النحيف ... محمرا للغاية .. و شعرها مشعث حول وجهها كهالة عسلية اللون ... شفتاها متورمتان و مكدومتان
بينما عيناها خضراوان عميقتان للغاية ....
عضت بشرى على شفتها ,تتذكر تلك الساعة المجنونة .. و احمر وجهها و هي تتسائل بعدم تصديق ,
" كيف وصلت الى مثل هذا العمر ... و لم تعرف يوما مشاعر مشابهة ؟!!! ... "
استدارت قليلا و هي تقف لتنظر الى منظرها الجانبي علها ترى أي بروز ظاهر ببطنها ....
لكن بطنها كانت تقريبا مسطحة ... فرفعت يدها لتتحسسها مجددا , عاقدة حاجبيها بتركيز ....
و استمر وقوفها عدة لحظات قبل أن تقول بخفوت .. محادثة صورة بطنها في المرآة
( مرحبا ...... كيف حالك ؟!! ....... )
صمتت قليلا و هي تشعر بالغباء الرهيب ... فزمت شفتيها , الا أنها قاومت احساسها بالحرج .. و عاودت التمليس على بطنها بحركةٍ دائرية ثم قالت بخفوت
( أنا أمك ..... على الأرجح أنك تدرك ذلك الآن ...... )
ابتلعت بشرى ريقها قليلا , ثم لم تلبث أن ضحكت ضحكة قصيرة متوترة
( يبدو أننا سنلتصق معا لفترةٍ طويلة قادمة ...... فوالدك يبدو متمسكا بك .... أما أنا فلم أتوقع قدومك بصراحة , و معرفتي بك كانت صدمة ..... )
صمتت قليلا و ضحكتها تتلاشى من وجهها و تتركه باهتا و هي تقول بخفوت
( آنا آسفة لأنني لست مثال الأم التي قد تفخر بها ..... لم يكن هذا بيدي , لكن انظر الى الجانب المشرق ... فأنت لم ترث الخزي مني حرفيا .... حسنا ربما معنويا ... لكنك واقعا ابن حلال ..... )
عادت لتصمت قليلا ... ثم تابعت متأوهة بصوتٍ أكثر خفوتا
( آآآه .. ابن حلال .... لو تعلم كم كان هذا اللقب عزيزا في طفولتي ... الحلم مستحيل المنال ... لم أتطلع يوما الى فستان أو دمية .... إنما كنت أتمنى هذا اللقب بشدة .... فأولاد الحلال كانو من الدرجة الأولى و لهم معاملة مختلفة عنا .... كان هذا اللقب هو الشارة الذهبية التي تجعلك أفضل حالا في ذلك المكان القميء ... أما نحن .... فكنا الدرجة المتندية من الأطفال .... )
أخذت بشرى نفسا مرتجفا ... ثم قالت بعبوس
( قد تلومني حين تصبح شابا .... و تتهرب مني ... تخجل من قربي ... تتنكر لوجودي بحياتك ... و تكتفي بوالدك الرائع و الذي يفخر به أي طفل .... لكنك حين تنضج اكثر , ستعرف بأنك رغم كل شيء ... ابن حلال ..... لك اسم ثلاثي كامل ... تضعه في عين أي شخص يحاول أن ينتقص من قدرك .... لديك والد و عائلة ..... حينها قد تكون ممتنا لإحتفاظي بك .... )
ظلت صامتة طويلا ... تتنفس بسرعة , قبل أن ترفع وجهها و تتابع بانفعال مبتسم
( أنا سأحتفظ بك ........ نعم , سنحاول أن ننجو معا ..... و لو تركني والدك , لن أتركك أنا له ... سأتمسك بحقي فيك , الى أن تنضج و تختار الذهاب الى والدك بنفسك ..... )
حين أنهت آخر حروف كلماتها ... كان وجهها قد تحول الى شمسٍ مشرقة الإبتسام ..... لم تلبث أن تطورت لضحكة براقة و هي تخفض وجهها بتصميم رائع ... تدس شعرها خلف أذنها بأصابع مرتجفة .. بينما يدها الأخرى تلامس بطنها و تربت عليها برقة ...
قالت أخيرا متنهدة بقوة
( حسنا .... بما أن والدك قد هرب مجددا .... ليس علينا الآن سوى انتظاره , فربما تمالك نفسه سريعا هذه المرة ..... )
ضحكت بخفة و هي تقول
( أنا أشفق عليه حقا ..... أتعلم ذلك .... يهرب و يعود .... يهرب و يعود .... أتعلم لماذا ؟!! ... لأنه ابن أصول , ضميره لا يسمح له بتركي ..... )
تنهدت بيأس و هي تهمس
( لكن الى متى سيقوى ضميره على مقاومة ما هو محتم ؟!! ..... شهر .... شهرين .... عام ..... عامين من الولادة ؟!!! ... )
أخفضت وجهها ثم قالت بقنوط
( لما لا نؤجل التفكير في هذا الأمر مؤقتا .... و نركز على الإهتمام بمظهرنا , فقد يعود كثورة جنون معتادة سريعا ..... )
لكن الساعات مرت و لم يعد وليد ... كان الليل قد أرخى ستاره الأسود في الخارج .. و بقت بشرى جالسة بأحد المقعدين بجوار النافذة الضخم بعرض الحائط ....
عيناها جامدتان ... و ملامحها باهتة ....
ترتدي فستانا ملونا جميلا ... بدرجات البرتقالي و الأحمر .... و شعرها عملت على تصفيفه حتى بات يلمع و ينسدل حتى كتفيها بفوضوية رقيقة مهذبة ...
كان كل زفيرٍ منها يبدو كتنهيدة غاضبة .... و أصابعها تربت على ذراع المقعد بلحنٍ رتيب ....
كانت تظنه سيعود سريعا بعد الوقت المميز الذي قضياه سويا ....
حسنا ....من المؤكد أنه حاليا في حاليا يمر بإحدى نوباته الغاضبة ... و ربما يكون قد رمى نفسه في البحر مجددا .... هي مقدرة ذلك تماما ....
لكن كل هذا العدد من الساعات !!! ...... إنها تستحق معاملة أفضل من ذلك ....
لا ان يفرغ بها رغبته و يرميها وحيدة بهذا الشكل البائس !!!
كانت ساقها قد بدأت تهتز بعصبية ... و أنفاسها تتسارع .... بينما عيناها تضيقان بألمٍ ناري أخضر ....
و بعد مرور عدة دقائق إضافية من الصمت المخيف الذي يطبق على صدرها ....
نهضت فجأة قافزة من مكانها و هي تقول بهياج
( حسنا هذا يكفي ....... ليس من حقه أن يحضرني هنا كأداة للمتعة ثم يرميني كمنديلٍ قذر .... )
و دون أي لحظة تردد أخرى .... خرجت من الغرفة مندفعة و عيناها تقدحان شررا ...
نزلت الى البهو و هي تنظر يمينا و يسارا بحثا عنه , .. المكان يعج بالبشر من مختلف الجنسيات .. لهم أشكال مختلفة .... بعضهم يتحدث بلغاتٍ لم تفقه منها شيئا ... و البعض الآخر من أبناء البلد ..
لكل منهم من يرافقه .. يستمتع معه ... يرى ابتسامته ....
بينما كانت هي تنظر الى الجميع بشعور غريب من الوحدة و الوجوم ....
تابعت سيرها على غير هدى ....
فخرجت عبر البوابة الداخلية الى حدائق الفندق فداهمها برد الليل .. مطيرا شعرها الفوضوي ...
كتفت ذراعيها لتدلكهما قليلا و هي تبحث عنه بعينيها دون جدوى ....
ثم رفعت عينيها الى امتداد نظرها ... حيث البحر الأسود من بعيد يبدو كفجوة مخيفة في هذا الوقت ..
توقفت لحظة و هي تشعر بخوف مفاجىء
" ماذا لو كان في البحر حتى هذا الوقت ؟!! ..... ماذا لو كان الظلام و إنحسار الأمواج قد سحباه الى نقطةٍ ابعد مما ظنها !!! .... "
تشنجت بشرى من شدة الرعب الذي شعرت به في تلك اللحظة ....
فرفعت يدها الى فمها المرتجف و هي تهمس
( وليد !! ........... )
لو أصابه مكروه , فستكون هي السبب .... هي التي جعلته يتصرف بجنون في الآونة الأخيرة بسبب صدماته المتوالية عنها
تحولت همستها فجاة الى هتاف مرتعب
( وليد !! ......... )
ثم انطلقت تجري في الممر الصخري الأنيق بين الحدائق و الموصل الى البحر ......
ستموت .... ستموت لو أصابه مكروه .... ستموت من بعده .....
في لحظة واحدة اكتشفت انها تستطيع تركه بنفسها و عن طيب خاطر ... على أن يكون بخير ..... فقط يكون بخير .... و هذا هو ما لم تشعر به يوما تجاه أي رجل ....
كانت لا تزال تجري و فستانها يطير من حول ساقيها اللتين اطلقتهما للريح ...
الى أن لمحته فجأة !!! .......
استغرق ادراكها لحظتين كاملتين و هي تبطىء من جريها ... كي تستوعب أخيرا بأنها تراه بالفعل ....
توقفت أخيرا و هي تلهث بعنف ...
تتأكد من أنه كان واقفا بالفعل في نهاية الممر الصخري .... ممسكا بحاجزه الخشبي ... احدى ساقيه مرفوعة على الدرجة العليا من عدة درجات سلمٍ قصير ....
يتحدث بطلاقةِ .... وهو مبتسم بانشراح ....
و امامه كانت هناك فتاة شابة ... تستمع اليه و هي تستند بظهرها الى الحاجز الخشبي .....
كانت تلك الفتاة ترتدي الزي الرسمي للمدراء في الفندق حيث الشعار الصغير مثبت على صدر هذا الزي ... طاقما كلاسيكيا اسود اللون تظهر تنورته القصيرة نوعا ... ساقيها الطويلتين ...
شعرها البني الطويل كان يتطاير حول وجهها و هي تعود و ترجعه خلف اذنها بعفويةٍ ... مبتسمة و هي تومىء لوليد ببساطة ..... بينما كان هو يتحدث معها كالأبله .......
لا تعلم بشرى كم مكثت مكانها بالتحديد ....
كانت كمن تحول الى تمثالٍ فاقد للحياة ..... و هي واقفة مكانها بعيدا عنهما ... تشبك أصابع يديها بينما شعرها يغطي وجهها تماما .... تلهث بعنفٍ أوجع صدرها ....
كانت تظنه ميتا بسببها في تلك اللحظة !!! ........
كانت تظنه تائها يفكر بحياتهما معا !!!! ......
كانت تظنه يفكر في ذلك الوقت الغريب الذي قضياه معا صباحا بكل جنون مشاعره .....
الا انه أخلف كل ظنونها ... وها هو يقف بكل هيبة شبابه النابض بالقوة أمام شابة أنيقة ... تكاد ان تطيرها أنفاسه لو نفخ بها قليلا ... تستمع اليه و كأنه الرجل الوحيد على سطح الأرض ...
لم تعلم بشرى أن قدميها قد بدأتها في التحرك نحوهما تلقائيا ببطىء و عيناها لا تتزحزحان عنهما ....
بدت المسافة القصيرة التي تفصلها عنهما و كأنها طريق سفر طويل لا ينتهي ... الى أن اقتربت منهما في النهاية فبات من المستحيل الا يلحظها ...
رفع وليد رأسه و قد صدمه وجودها المفاجىء .... و هي تقف أمامه بفستانها الملون المجنون و المتطاير من حول ساقيها ... تماما كشعرها المتطاير كشعر الأطفال ....
عقد حاجبيه فجأة و تلبدت ملامحه وهو يقول بصوت غريب
( بشرى !!! ............ )
لم ترد عليه و هي تبادله النظر بصمت ......
بينما نظرت اليها الفتاة الشابة باستفسار دون أن تفقد ابتسامتها ....
قال وليد مجددا بصوتٍ متشدد وهو يخفض ساقه
( ماذا تفعلين هنا ؟!! ...... هل أنتِ متعبة ؟!! ...... )
رفعت بشرى ذقنها و هي تشعر ببوادر الخطر من جنونٍ بدأ في السيطرة عليها .... ثم قالت رافعةٍ احد حاجبيها
( خرجت أبحث عنك .......... )
ظل وليد ينظر اليها عدة لحظات قبل ان يقول بصوتٍ لا يحمل أي تعبير
( لماذا ؟!! ........... )
تلك الكلمة المختصرة أشعلت غضبها بجنون اكبر .... فقالت بلهجة حادة
( لماذا تظن ؟!! ...... سئمت البقاء وحيدة ...... )
تنحنحت الفتاة الشابة و هي تقول بحرج
( مرحبا ....... أنا جيهان , مديرة بالعلاقات العامة هنا ..... )
قاطعتها بشرى و هي تقيمها بنظرة احتقار شملت الفتاة من رأسها حتى حذائها الأنيق
( أنا زوجته .............. )
ارتفع حاجبي الفتاة بدهشة و هي تنظر الى وليد قائلة
( هل تزوجت يا وليد ؟!! ...... متى كان هذا ؟!! ....... )
قبل أن يستطيع الرد قالت بشرى بلهجة مهينة و هي تضع يديها في خصرها بينما الشرر بعينيها الخضراوين يكاد أن يحرق قلاعا ...
( لم أكن أعلم أن عليه أخذ الإذن أولا!! .........لكن و بما أن في غاية البؤس كي تعرفي الجواب , فنحن هنا بشهر العسل ..... هل هناك مانع ؟!! ....)
هتف وليد بصرامة مخيفة
( بشرى ................. )
أخرج من جيب بنطاله بطاقة دخول الغرفة و مدها اليها وهو يقول بلهجةٍ خافتة منذرة بالشر .. و عيناه ترلان لها علامات التهديد
( خذي هذه و اصعدي للجناح ........ ... و لا تخرجي منه ... )
الا أن الوقت كان قد فات على التعقل و هي تهتف بجنون
( لماذا ؟!!! ...... ربما لتتمكن من أخذ المزيد من وقتك في الضحك مع الأستاذة !!..... )
صرخ بها بقوة
( بشرى توقفي عن ذلك ........... )
بينما قالت جيهان بصوت جليدي
( إنها لطيفة يا وليد ...... تشبه دمية من راقصات إحدى الجزر كنت أمتلكها قديما .... )
صرخت بشرى و هي تقول منحنية لتخلع احدى حذائيها
( تلك الدمية ستعلمك معنى الرقص ...... )
ارتاع وليد وهو يدرك نيتها في اللحظة الأخيرة , فهجم عليها و هو يلتقط حذائها من يدها قبل أن يمسك بكتفيها يهزها صارخا
( احترمي نفسك ....... هل جننتِ ؟!! ....... )
نظرت اليه بجنون و هي تنفض شعرها بعيدا عن وجهها صارخة
( طبعا جننت من الساعات الطويلة التي تركتني بها وحيدة و أنا حامل .... أتقيأ وأصاب بالغثيان بينما أنت هنا تضاحك مع تلك الغريبة الأطوار ....... )
لم تتحرك جيهان من استنادها للحاجز ... بينما تقيم بشرى ببطى , قبل أن تقول بهدوء
( حامل !! ........ بهذه السرعة !! ..... ربما هذا هو السبب في حالتك العصبية , لما لا تصعدي الى غرفتك و تحاولين الراحة قليلا .... فأنتِ تهينين نفسك و زوجك ..... )
استدارت اليها بشرى بجنون و هي تصرخ تنوي الهجوم عليها
( و ما دخلك أنتِ ؟!! ,........ ما دخلك يا متجمدة الوجه ... ايتها الشبيهة بالبيضة الفاسدة ؟!! ......... )
الا أن وليد اعتقل خصرها بذراعه بقوةٍ قبل أن تلمس جيهان و تقريبا رفعها من على الأرض و دفعها الى الجهة المقابلة هادرا بعنف جعل جيهان نفسها تنتفض
( أخرسي .... اخرسي يا بشرى .... )
الا أنها نفضت ذراعه و هي تحاول تجاوزه مجددا و هي تصرخ
( لن أخرس ....... بل سأريها الإهانة بحق ...... تلك العلقة الطفيلية القميئة .... )
قالت جيهان بصوتٍ متجمد
( هل أنتِ مخمورة ؟!! ....... هذا ضار بالطفل !! ...... )
كانت بشرى تلهث من شدة الغضب و الجنون و قد فقدت السيطرة على أي منطق تتحلى به فباتت تتصرف بهيستيرية و هي تصرخ بصوتٍ بح من شدة جنونه
( أنا أستطيع تمييز مثيلاتك جيدا ..... أيعجبك زوجي ؟!! ..... أيعجبك ؟!!! ..... و ربما سيعجبك أكثر لو علمت أنه خرج من فراشي مباشرة قبل أن يأتي اليكِ ...... )
رفعت جيهان يدها الى فمها مصدومة .... بينما ذهل وليد مما انتابها ... و قبل ان تستطيع النطق مجددا , كان قد رفع يده و صفعها على وجنتها بسرعةٍ لم تستطع تداركها ....
عم صمت مخيف حولهم .. بينما تراجعت بشرى للخلف خطوة و هي تنظر اليه لاهثة بصمت .....
فصرخ وليد بقوة
( هل افقتِ الآن ؟!! ......... )
لم ترد عليه بشرى , بينما أمسكت جيهان بذراعه و هي تقول بخفوت
( اهدأ يا وليد ..... من الواضح انها ليست في حالتها الطبيعية .......... )
مد وليد يده ببطاقة الجناح صارخا
( خذيها و اصعدي الى الجناح و إياك أن تخرجي منه مجددا ...... الآن .... )
استمر الصمت لحظة واحدة و بشرى تنقل عينيها بينهما قبل أن تنتزع البطاقة منه بيد .... و حذائها باليد الأخرى ... ثم انطلقت تجري مبتعدة , غير آبهة حتى بارتداءه ....
وقف وليد مكانه يتابع جريها كجنية مهووسة حمراء مبتعدة .... و صدره يغلي و يبرد في آنٍ واحد ... بينما عفاريت الغضب كلها تتقافز من حوله مطبقة على رئتيه ...
تبا لقد هرب منها ... من احساسه بها , و من السعادة البدائية بداخله تجاهها .... و لم يتخيل أن تخرج كالمجنونة بحثا عنه ......
همست جيهان بتوتر
( هل ستكون بخير ؟!!! ....... الن تلحق بها ؟!! ....... )
ظل وليد صامتا قليلا , قبل أن يقول بجفاء خافت
( لا ........... فلتتمالك نفسها اولا .... )
قالت جيهان بخفوت
( ألحق بها ......... من الواضح أنها تعاني من صدمةٍ ما ...... لم أعرفك قاسيا لهذا الحد .... )
زفر بقوة وهو يلا يزال ينظر الى الطريق المظلم الذي اختفت به بشرى .... بينما تابعت بخفوت
( آسفة لأنني قمت بإستفزازها ........ كنت أدافع عن نفسي , لكن أدركت بعد فوات الأوان أنها تمر بحالة هيستيرية ....... )
أطرق وليد برأسه وهو يغمض عينيه .... بينما وضع يديه في خصره , و كأنه يدعم حجمه الضخم و قد بدا متعبا ..... متعبا جدا ... فقالت جيهان بسرعة
( وليد ...... هل أنت بخير ؟!! .... )
ظل صامتا قليلا , قبل أن يقول بخفوت دون أن يرفع وجهه أو يفتح عينيه ...
( أشعر بالعالم يدور قليلا ........ )
قالت جيهان بقلق و هي تتمسك بذراعه ...
( لما لا تجلس قليلا ........ تعال ..... )
ساعدته الى ان استند الى الحاجز الخشبي مكانها ..... بينما نظر جانبا الى البحر المظلم البعيد ...
ظلت واقفة بجواره و يدها على كتفه ... ثم قالت بخفوت
( وليد ..... هل أنت بخير ؟!! ......)
لم يرد على الفور ... بل استمر نظره الى البحر الاسود من بعيد طويلا قبل ان يقول بخفوت
( آخر مرة كنت بها هنا ....... لم يكن لدي اي عمل اقوم به , ... كانت مجرد عطلة ..... كنت اشعر بالملل و قررت المجيء الى هنا دون اي هدف ....)
عقدت جيهان حاجبيها و هي تهمس
( و ما المشكلة بذلك ؟؟ ................)
قال وليد بصوتِ متباعد ودون ان يرفع عينيه عن الفراغ الداكن الممتد أمامه
( ليتني لم آتي ............ ليتني لم آتي ..........)
همست جيهان دون ان تفهم
( كل شيء مقدر ....... تخطىء إن ظننت بأنك مخير .....)
ظل صامتا عدة لحظات قبل ان ينهض من مكانه قائلا بخفوت
( أنا يجب أن أذهب ........ )
أومأت برأسها بصمت , الا أنه قال بصوتٍ متخاذل
( جيهان ....... أنا آسف لما حدث للتو ......)
هزت رأسها و هي تقول بخفوت
( لا عليك .............. انسى الأمر ....)
ابتسم لها وليد ابتسامة مهتزة .... قبل ان يستدير مبتعدا .....
" انسى الأمر ...... "
كم هي عبارة سهلة موجزة , لمن لا يعيش عذابه الداخلي حاليا .......
لم يشعر يوما بنفسه عاجزا مقيدا بتلك الصورة من قبل ......
سار متجها الى جناحه دون أن تباطىء وهو يسرع الخطا ...... قلبه يسبقه بتوتر , يخشى ان تتصرف بجنونٍ أو أن تؤذي نفسها .....

لكن .... خلال عدة دقائق بعد أن تأكد له بأن الجناح كان خاليا !!!! .... و أنها ليست موجودة به ....
تحول القلق عنده الى طوفان من الهلع وهو يعود أدراجه مندفعا ...
ليتجه الى الإستعلامات و وجهه يبدو مخيفا ... و خائفا ....
استند بكفيه الى المنضدة الرخامية الطويلة و هو يسأل موظف الإستعلامات بعنف
( هل تعرف أين ذهبت زوجتي ؟!! ....... )
ارتبك الرجل وهو يشير باصبعه تلقائيا الى اتجاه ما ... وهو يقول
( لقد سألتني للتو عن مكان صالة الرقص .... و اتجهت اليها ..... )
بدا وليد متسمرا مكانه عدة لحظات و كأنه لم يسمع ما نطق به الموظف للتو ... ثم لم تلبث ملامحه أن بدأت تتلبد بالغيوم الرمادية وهو يقول بصوتٍ هادر الغضب رغم خفوته
( و أخبرتها عن مكانها !!!!! ........ )
ارتبك الرجل اكثر وهو يقول بعدم فهم
( وظفيتي أن أجيب أي نزيل ... ثم ليس من العسير معرفة طريقها ...... أنا آسف سيد وليد لكن ...... )
نطق الموظف آخر كلماته مخاطبا ظهر وليد الذي اندفع مبتعدا وهو يكاد ان يخرق الأرض الرخامية بقدميه
لم يكن يرى أمامه حاليا سوى نفس عفاريت الغضب المتربصة به ... و ما أن دفع البابين الخشبين الأنيقين .. حتى اندفع داخلا الى صالةٍ معتمة ... تكاد ان تكون مظلمة تماما الا من أضواء متناثرة ذهبية و فضية ... تبرق و تدور من حوله ...
كان البحث عنها في الظلام مستحيلا .... لكنه لم يحتاج للبحث ...
فما أن دخل حتى سمع صوتها جليا ....
تسمر مكانه و اتجهت عيناه مباشرة حيث منصة الرقص في منتصف القاعة و هي البقعة المضيئة الوحيدة ...
كانت بشرى تقف هناك و معها مكبر الصوت و هي تغني ببطىء شديد ... و تتمايل بنفس البطىء رافعة ذراعيها لأعلى ... و ذقنها مرفوع لدرجة أن تراجع راسها لخلف فبان خط عنقها واضحا كعنق بجعة بيضاء و هي تحاول أن يصل صوتها الى مكبر الصوت بين كفيها المرتفعين لأعلى كراقصةٍ محترفة متمايلة على النغم البطىء ....
لم يشعر وليد بنفسه وهو يسير اليها متسارعا و عيناه متسعتان .. بينما يسمع همسات الإعجاب بتلك الفتاة التي سمع بأذنه أنها قريبة الشبه بمارلين منورو ... و آخر يهمس بأنها فجة الجاذبية ...
بينما الأخير يقول " انظر الى جسدها المتمايل .... لو كانت فقط ترتدي فستانا يليق بالرقصة !! "
كل هذه العبارات المسمومة جعلته يندفع و عيناه تلتهبانِ بنارٍ سوداء ...
و ما أن خطا الى مساحة الرقص التي تقف عليها ... حتى مد يده ليمسك بذراعها بقوةٍ يخفضها فانتفضت تنظر اليه مصدومة !!...
طال بهما الصمت وهو يحدقان ببعضهما و كأن الصخب من حولهما قد اختفى فجأة ....
هل تعلم أنه عينيها تلمعان كالجواهر الخضراء ؟!! .... ايمكن للجواهر أن تغضب ؟!! ... تتألم ؟!!
فيشتعل خضارها ليشعرك بأنها على وشكِ التحطم الي شظايا ... و تجرحك , لتنزف ألما فوق جمالها .!!...
و كان هو أول من وجد صوته فهمس و هو يحفر أصابعه بلحم ذراعها الأبيض
( تعالي معي بهدوء .... و لا داعي لإفتعال الفضائح ..... )
رفعت ذقنها قليلا و هي ترتجف بشدة .. بينما لم تفقد عيناها اشتعالهما ... الى أن همست بشراسةٍ و هي تحاول جذب ذراعها من يده
( لن أذهب ...... ابتعد عني و عد الى فسوقك ..... )
اتسعت عيناه بذهول وهو يهمس بجنون
( هل أنتِ مخمورةٍ فعلا ؟!!! ...... تعالي معي قبل أن أفقد المتبقي من أعصابي .... )
مدت وجهها و هي تهمس بوحشية
( لن أذهب .......... )
و كأنها أشعلت فتيل غضبه ... فتراجع وهو يجذبها خلفه بقوةٍ , لكنها أخذت تصرخ و هي تضرب ظهره بقبضتها
( لن أذهب ...... لن أذهب ...... )
لكنه كان قد وصل الى حافة سيطرته , فاستدار اليها وهو يرمقها بنظرةٍ مرعبة جعلتها تجفل قليلا ... قبل أن ينحني ليضع ذراعه تحت ركبتيها و يرفعها بين ذراعيه بحركةٍ واحدة بينما لم تجد الفرصة حتى كي تصاب بالذهول ...
و اندفع خارجا بها وسط تصفيق بعض المتواجدين ...
هتفت بشرى و هي تتلوى من بين ذراعيه
( أنزلني ....... أنزلني و الا قسما بالله فسوف أصرخ الى أن .... )
لكن وليد قاطعها بلهجةٍ تجمد الدم بالعروق و هو ينظر الى عينيها
( أقسم بالله لو نطقتِ بحرفٍ ما ان نعبر باب هذه الصالة فسوف أضربك أمام الجميع ..... )
ارتجفت بشرى بين ذراعيه و هي تحدق بعينيه الغاضبتين لتعي أنه صادق بكلِ كلمةٍ نطق بها ...
و دون كلمة أخرى كان يتجه بها الى المصعد ... صعودا الى جناحهما .....

في اللحظة التي دخلا بها الى الجناح ...
لم يحتاج وليد لأكثر من خطوةٍ واحدة .... قبل أن ينزلها على قدميها , ثم يدفعها عنه باحتقار ...
وهو يستدير ليغلق الباب من خلفه ....
ترنحت بشرى قليلا و هي توازن نفسها بصعوبةٍ كي لا تسقط اثر دفعته ....
بينما ابتعلت ريقها بصعوبةٍ و قد تبخرت شجاعتها في لحظةٍ واحدة وهو يستدير اليها ما أن أغلق الباب ...
متقدما اليها ببطىء وملامح وجهه لا تمزح .... بل هي ملامح قاتمة , الى درجة السواد ...
بينما عيناه !!....
ارتجفت بشدة و هي تتابع تراجعها ... وهو يتقدم اليها دون توقف ...
رفعت بشرى يدها الى بطنها و كأنها تحميها ثم قالت بصوتٍ خافت مرتعش
( أنا حامل .......... لا تتهور و تندم فيما بعد ..... )
كانت قد وصلت في تراجعها حتى حافة السرير ... فتوقفت وهي تراه يصل اليها ...
و دون كلمةٍ واحدة كان قد مد قبضتيه وأمسك بمقدمة الفستان ليمزقه على إمتداد طوله !! ...
أتسعت عينا بشرى بصدمة مذهولة و هي تقف امامه بفستانها المتراخي على جانبي جسدها ... بينما همست مرتعدة
( وليد .... ما اللذي .... )
الا انه لم يسمح لها بالمزيد من الكلام وهو ينحني بطوله الفارع ليحيط خصرها و ظهرها بذراعيه القويتين قبل أن يضمها الى صدره بقوةٍ و شفتاه تكتمان شهقتها الثانية بينما ارتفعت قدماها عن الأرض ..
و لعدة لحظات بقت ساكنة متسعة العينين من هول هجومه العاطفي المباغت و الذي لم تتوقعه .. بينما ضلوعها تكاد أن تتحطم على صدره ....
لكنها لم تلبث أن أغمضت عينيها بضياع و هي تحيط عنقه بذراعيها بتردد ... متذوقة تلك المشاعر الجديدة على مهل و حذر ...
مضت عدة لحظات لم يقدم بها سوى على الإرتواء من شهد قبلاتها .... لكنها حاولت ابعاد وجهها عنه بضعف و هي تهمس مرتجفة ...
( وليد ....... وليد ....... )
لكنه كان يلتقط اسمه بشفتيه في كل مرةٍ تهمس به .... و كانت هي تحاول جاهدة تفادي جنونه كي تتكلم , خاصة و هي تراه يتحرك بها الى السرير ...
و حين همست باسمه مجددا ... رماها على السرير و انضم اليها , الا انها حاولت دفعه قائلة بتوتر
( وليد .... أنتظر ..... )
لكنه عاد ليضمها الى صدره وهو يهمس مزمجرا من بين قبلاته اليائسة
( منذ أن تركتك ... و أنا لا أفكر سوى بشيء واحد ..... وهو العودة اليكِ مجددا ...... )
تسمرت مكانها تماما و هي تشعر بالصدمة مما نطق به للتو .. فهمست بغباء
( ها ؟!!! ............... )
و كانت هذا الإستفسار الواهي هو آخر ما استطاعت النطق به حاليا ... فأغمضت عينيها .... و استسلمت ..
.................................................. .................................................. .....................
كان نومه قلقا متوترا ... مليئا بالأحلام المزعجة ...
كلها تدور حول موضوعٍ واحد ....
أنها في مئزق وهو يجري ليحاول إنقاذها .... صارخا باسمها .....
هذه المرة كانت تغرق في الظلام .... و الأمواج السوداء تغمرها و لا يظهر منها سوى ذراعيها المرتفعتين بيأس ... و صوتها ينادي عليه بيأس
" وليد ...... وليد ..... لا تتركني ..... "
أما هو فكان يسبح بكل قوته كالمجنون ... صدره يتنفس بسرعةٍ و جسده مبللا بالعرق على الرغم من الأمواج المحيطة به ...
و الألم ينتشر بصدره و ذراعيه .... لكنه لم يأبه , فكل همه كان الوصول اليها قبل فوات الأوان ....
و صوته يصرخ باسمها هو الآخر
" بشرى ...... بشرى ...... ابقي رأسك عاليا .... "
كاد أن يموت هلعا و الألم بداخله يزداد ... و يزداد .... الى أن تمكن أخيرا من القبض على ذراعيها المرتفعتين فوق سطح الامواج المتلاطمة ... فصرخ عاليا
" أمسكت بكِ ...... أمسكت بكِ ..... "
و ما أن رفعها بكل قوته كي يعلو وجهها فوق الأمواج ... حتى صدمه منظر وجهها الذي كان مشوها بتقرحٍ أحمر اللون شديد التقشر و كأن بشرتها تتساقط أمامه ...
بينما هي تهمس مبتسمة
" ألم أخبرك بألا تتركني ............... "
صرخ فجأة بذعرٍ وهو يفتح عينيه بهلع
( بشرى !!!! ........... )
أستغرق عدة لحظات ليدرك انه نائما في السرير الواسع بجناح الفندق ... و الضوء الذهبي الشاحب مضاء بجانبه ..... بينما كان صدره مبللا بالعرق وهو يلهث بألم جسدي ....
التفت براسه بسرعةٍ وهو يمد ذراعه بحثا عنها ... الا ان مكانها كان خاليا .... فانتفض جالسا في السرير وهو يجيل عينيه بحثا عنها ....
و لم يحتاج الى الكثير من الوقت وهو يراها جاثية في أحد أركان الجناح بعيدا .... ترتدي إسدال الصلاة ...
منحنية للأمام قليلا و هي تغطي و جهها بكفيها بينما كتفاها يهتزان بضعف ...
فلم يدري إن كانت تدعو أم تبكي !! ......
نهض من مكانه ببطىء .... و ارتدى بنطاله القطني الخفيف و عيناه المصدومتين لا تتزحزحان عنها في جلستها الصامتة ....
ثم اقترب منها بقدمين حافيتين دون أن يصدر صوتا ... و ما أن اقترب منها حتى استطاع أن يسمع صوت نشيجها الهامس المختنق
( أنا آسفة ...... أنا آسفة ......... )
لم يكن دعاءا بالمعنى المعروف ... لكن بدا و كأنها لا تعرف غيره , بينما كانت تنتحب دون صوت تقريبا ...
ظل وليد واقفا مكانه طويلا وهو ينظر اليها بشعور غريب يعتمل بصدره ....
كانت هناك غصة مؤلمة بحلقه ... جعلته متورما جافا ....
و استمر الصمت به طويلا قبل أن يفتح شفتيه ليقول بخفوت شديد
( إتجاه القبلة خاطىء ........... )
انتفضت بشرى من مكانها و هي تستدير رافعة وجهها اليه , بعينين متورمتين متسعتين ....
بينما كان هو حجمه بالنسبة لها كمخلوقٍ بدائي ضخم للغاية .. يشرف عليها من علو .....
همست بعد فترة طويلة
( لم اكن أعرف ..... أين اتجاهها , لكن فضلت الا أضيع صلاة الفجر .... )
ظل صامتا لعدة لحظات قبل أن يقول بخفوت
( سأحضر نفسي , ثم نصلي معا .......... )
أومأت برأسها دون صوت ... بينما استدار هو بعيدا عنها , و كل ما يحيط بها يؤلمه ......

بعد أن انتهيا من الصلاة ... مكث وليد أمامها مطرق الرأس ... محني الكتفين , فهمست بشرى بخفوت من خلفه
( لمن تدعو ؟!! ........ )
ظل صامتا قليلا قبل أن يقول بخفوت أجش دون أن يرفع وجهه او يستدير اليها
( للطفل ........ )
انتفضت بشرى مكانها و هي تنظر اليه بعينيها الحمراوين , ثم همست بخفوت
( حقا يا وليد ؟!! ..... ظننتك تتمنى الا يكتمل الحمل , فلا تتحمل ذنب اجهاضه بقرارٍ منك .... )
قال وليد بنفس الصوت الأجش
( ارتكبنا سلسلة من النزوات , ... فكيف أنكر عليه حقه في الحصول على حياة ؟!! ....)
أطرقت بشرى برأسها و هي تهمس باختناق
( لا أعلم ماذا أصابني حين رأيتك واقفا معها ...... شعرت بروحٍ شريرة تحتلني و تتصرف بجسدي رغم ارادتي ..... )
لم يرد وليد و لم يتحرك من مكانه .... لفترة طويلة , ثم استدار اليها أخيرا ببطىء , فرفعت وجهها اليه برجاء , حينها لم يستطع مقاومة نفسه وهو يشدها اليه ليفك حجاب الإسدال عن شعرها الذي انسدل على وجهها ...
ثم خلعه عنها بالكامل ....
و كم بدت كأجمل طفلةٍ رآها بحياته و هي تجلس أمامه و ساقيها تحتها بينما شعرها الذي لا يزال نديا قليلا يتناثر حول وجهها مما يجعلها كثمرة خوخ شهية للأكل ....
بينما كانت ترتدي تحته إحدى القمصان الحريرية المغرية و القصيرة للغاية ...
رمقها وليد صامتا وهو يرفع عينيه اليها ... كما ارتفع حاجبه بارتياب .....
عضت على شفتها بخجل و هي تهمس من بين دموعها
( لم أحضر معي غير هذا النوع ...... كنت أنوى أن أغريك ..... )
لم يشعر بالغضب كما اعتاد مؤخرا ... بل كان هناك جوا صافيا , خافت الاصوات يحيط بهما كهالة تمنع طاقات الغضب من التولد ...
فقال بخفوت أجش
( لقد نجحتِ في مسعاكِ على ما يبدو .......... )
احمر وجهها رغم عنها ... و كان الخجل شعورا نادرا قد نسيته منذ قديم الأزل .... فهمست باختناق
( أتفهم كونك غاضبا لما ..... لما حدث بيننا ...... على الرغم من صدمة خبر الحمل ....... )
ظل وليد صامتا قليلا قبل أن يقول بصوتٍ أكثر خفوتا
( لست غاضبا لهذا ......... لقد احتجته , و بشدة ..... )
رفعت اليه وجهها مصدومة قبل أن تهمس بارتباك
( حقا ؟!!.............)
قال وليد بصوتٍ جاف
( و ماذا عنكِ يا بشرى ؟!! ........ )
ارتبكت أكثر و هي تتلاعب بأصابعها بجنون , ثم همست
( أنت شخص غريب جدا .... تدرك جيدا متى أشعر بالرغبة في ذلك , و متى أتظاهر ...... كيف بإمكانك قراءة جسدي بهذا الوضوح ؟!! ....... )
قال وليد بصوتٍ جامد ... خافت
( ربما استطاع من قبلي أيضا نفس الشىء ..... الا انهم اختاروا الا يهتموا ...... )
شعرت بخزيٍ بائس .... و كأنها عامل يحمل سيرةٍ ذاتية غير مشرفة بها الكثير من النقاط السوداء , يقف امام ربِ عملٍ شديد العظمة ...
أطرقت بوجهها و هي تهمس بإختناق
( انا ..... أنا أيضا احتجت ما حدث بيننا بشدة , بطريقةٍ تختلف عن ....... لا أعلم كيف أشرح لك .... )
قال وليد بخفوت
( أنا اعلم ........... )
عادت لترفع عينيها اليه بأمل ثم همست مجددا
( حقا ؟!! ..............)
أومأ برأسه دون أن يرد ...... قبل ان يقول بصوتٍ أجش
( و مع ذلك أوشكت على قتلك ليلة أمس ........ )
أغمضت عيناها بشدة و هي تزيد من سرعة فرك أصابعها حتى بدت يدها و كأنها تتحرك دون إرادة منها ...
قال أخيرا بصوتٍ أجش صارم
( تعالي الى هنا و اعتذري ....... )
رفعت اليه وجهها مذهولة , و هي تنظر الى وجهه الغاضب ... بينما عيناه لم تكونا كذلك ....
و لم تنتظر لأكثر من لحظةٍ واحدة قبل أن تنهض على ركبتيها لترتمي على صدره وهي تتعلق بعنقه بشدة .. هاتفة همسا
( أنا آسفة ....... أنا آسفة ......... )
مط شفتيه بامتعاض وهو يقول مستاءا, يستند الى الأرض بكفه كي لا تسقطه من قوة إنفعالها
( حقا أنت آسفة ......... أقسم يا بشرى أنني لو وجدتك مجددا بأحد هذه الاماكن , أو لو تصرفتِ تصرفٍ مشبوه مجددا فسوف ..... )
هتفت بقوة و هي تبكي في عنقه
( لا تتركني يا وليد ..... أرجوك لا تتركني ..... فقط أرحني و أعطني جوابا .... هل ستتركني في النهاية ؟!! ...... )
أغمض عينيه متنهدا ... وهو يتقبل وزنها على صدره و كأنها ضمادة تريح الألم الذي تتسبب به ... من ذلك الجرح النازف دون أن يهدأ ....
رفع يده ببطىء وهو يضم مؤخرة رأسها بقوةٍ متخللا خصلات شعرها بأصابعه ... بينما شفتاه تتجولان على وجهها دون هدى ...
فقال بخفوت ملامسا بشرتها
( بشرى ........ )
الا أنها هتفت متوسلة
( أرجوك أجبني ...... ليس عدلا أن تتركني هكذا دون جوابٍ قاطع ..... )
ظل صامتا قليلا , يبتلع غصة مؤلمة بحلقه قبل أن يقول بخفوت
( أتريدين نزول البحر ؟!! ........ )
رفعت وجهها المبلل عن عنقه .. و هي تهمس بضياع ناظرة الى عينيه بعينيها المتورمتين
( ها ؟!! .............. )
نظر اليها بصمت قبل أن يقول بخفوت
( قال الطبيب أن ماء البحر قد يكون مفيدا للتهيج الموجود بظهرك .... الا أن المشكلة تكمن في التعرض للشمس .... )
صمت قليلا وهو ينظر الى ملامحها المتعقدة و المتورمة من البكاء بينما تحاول الفهم ...
فقال متابعا بهدوء
( لذا لو تمكنتِ من تحضير نفسك خلال خمس دقائق .... يكون لدينا ساعة لنزول البحر .... )
فغرت شفتيها و هي تقول بغباء
( حقا ؟!!! ............ )
عقد حاجبيه وهو يقول باستياء
( لقد بدأت أسأم من كلمة حقا تلك ............ )

لكنه كان يخاطب الهواء ... فقد قفزت واقفة و هي تجري الى الدولاب , تبعثر الأشياء القليلة التي أحضرتها معها و تقلب بها ... فتراجع وليد وهو يستند بكفيه الى الأرض قائلا
( هكذا بسرعة ؟!! ......... كنت تبكين على عنقي منذ لحظةٍ واحدة !! .... )
لم يبد عليها أنها قد سمعته أصلا ... اما هو فصمت وهو يراقب انحنائها و هي ترتدي ذلك القميص الحريري القصير .... بساقيها القصيرتين الذهبيتين ....
و ما أن تستقيم حتى يظهر له التقرح الرهيب في ظهرها ... و الذي لم يقلل ذرة من جمالها , بينما ينهل من صحتها .... فالدوار و الحرارة المرتفعة أصبحا يرافقانها باستمرار ...
و الألم بكتفها يزداد قوةٍ لدرجة انها تتأوه و هي نائمة دون أن تدري ..و تمد يدها لتحك بها ظهرها بقوة ...
أسبل جفنيه عنها قليلا وهو يغوص أكثر .....
" بشرى ..... بحرٍ من الرمال المتحركةِ خطت اليه قدماه .... و لا يملك حق الخروج .... "
رفع عينيه اليها وهو يقول بهدوء بطيء
( لا داعي لأن أخبرك أنكِ ستنزلين البحر بملابسك كاملة ...... )
كانت قد استدارت و هي تلهث حاملة بين ذراعيها كومة من قميص و بنطال و ملابس داخلية و هي تقول
( لم يكن هناك داعٍ لتلك المداخلة .... لماذا أسعى لإغرائك خارج الجناح , بينما انت داخله لا تقصر ...... )
ضيق عينيه وهو يراها تجري الى الحمام و توصد الباب خلفها .... بينما كان هو ماكثا مكانه يفكر بغمٍ
" كنت افكر في اغرائك لرجالٍ آخرين ........ "
أغمض عينيه وهو يشتم بقوة , محاولا نسيان صورتها ليلة أمس و هي تتمايل أمام الجميع , على الرغم من أن فستانها كان محتشما و تمايلها يكاد أن يكون بطيئا جدا ...
الا أنها كانت تدرك جيدا أي ثورة فتنة تثيرها أينما حلت .... و أي أنظارٍ تجذب تحديدا .....
لتعود و تبكي في صلاتها الحديثة !!! ..... فهل هناك أدنى أملا بها ؟!!! ......
عقد حاجبيه فجأة وهو يسمع صوت تقيؤها عاليا .... آتيا من خلف الباب المغلق .....
فنهض مسرعا الى الحمام و طرق على بابه مناديا بقلق
( بشرى .......هل أنتِ بخير ؟!! ... افتحي الباب .... )
الا انها هتفت بسرعة
( أنا بخير ..... أنا بخير .... لحظات و سأكون جاهزة ..... )
ساد صمت قصير , قبل أن يسمع صوت تقيؤ عالٍ مجددا .....
ضرب الباب بقوةٍ وهو يقول
( افتحي الباب يا بشرى ..... تبا , هل سأكسر قفله كل يوم و يعاد اصلاحه ! ..... )
استمر الصمت قليلا .. قبل أن يسمع صوت مياهِ جارية ... و مرت عدة لحظات قبل أن تفتح الباب و تقف أمامه .. ببنطال يتعدى الركبتين ... و وشاح على هيئة قميص يتدلى حتى حافة البنطال تقريبا في نسيجٍ صيفي نام ينتهي باهدابٍ رقيقة ...
أما وجهها المرفوع اليه .... فكان شاحبا جدا لدرجة الموت ... و شفتيها زرقاوين ....
ضئيلة جدا .... باهتة جدا ... و جميلة جدا ....
قالت بشرى بحماس
( أنا جاهزة .............)
عقد وليد حاجبيه بشدة وهو يقول بتردد
( هل أنتِ متأكدة ؟!! ...... ربما من الأفضل أن ...... )
مدت يديها لتمسك بيده قائلة برجاء خافت
( أرجوك ...... قد تكون الرحلة الأخيرة لنا معا .....)
كانت تريد تأكيد منه بأنه لن يتركها .... و كان يعلم أنها تستدرجه في الكلام , الا أنه لم يستطع منحها ما تريد ...
لم يملك ما تريده ..... على الأقل الآن .... في أصعب الفترات بينهما ....
لذا قال بخفوت
( حسنا ...... سأبدل ملابسي بلحظةٍ و نخرج ..... )
لاحظ الألم الخفي في عينيها الخضراوين ... الا أنها أخفته سريعا و هي تستدير عنه مفتعلة البهجة
( سأمش شعري ......... )
ثم ابتعدت بسرعة عن عينيه الكئيبتين اللتين تلاحقانها .... وهو يراها تلتقط فرشاة تضرب بها شعرها المتطاير بقوةٍ ..... بينما نسيت أن ملامحها الحزينة ظاهرة له في المرآة .....
مستلقية على فراشها الواسع ... مستندة الى مرفقها و هي تنظر اليه .....
بصحوهٍ جميل ... و بنومهِ أكثر جمالا .....
هل يدرك أن بإمكانها تأمه طويلا دون أن تمل أو تتعب !! ......
كانت الدموع تنساب من عينيها بصمت دون أن تتحرك عضلة من ملامحها ..... بينما عيناها ترسمان ملامح وجهه المجهدة ... و كأن الخطوط على جانبي عينيه قد زاد عددها ... فزادت من جاذبيته و زادت من ألمها ...
انسابت دمعة ثقيلة على وجنتها ببطىء ... حتى وصلت الى ذقنها ... فتبعتها اخرى على نفس المسار مما زاد تلك الماسة حجما , قبل ان تتثاقل و تسقط على وجنته مباشرة ....
في البداية لاحظت انعقاد حاجبيه قليلا و كأنه شعر بها , فمدت يده برفق تزيل تلك القطرة عن وجنته ....
حينها رمش بعينيه قبل أن يفتحهما ببطىء ....
للحظات لم ينظر اليها قبل أن يواجها بعينيه أخيرا ....
التقت أعينهما طويلا فانتظرت أن يكلمها .. ان يبتسم لها .... يطمئنها بحضنه الدافىء ...
الا أن الابتسام في تلك اللحظة شيئا مفقودا بالنسبة لشفتيه ......
كانت كأجمل شيء يراه في الصباح ... و هي تعلوه مستندة الى ذراعها ... كتفيها البيضاوين ينافسان المرمر جمالا من فوق الغطاء الناعم ...
و شعرها .... آهٍ من سلاسله الذهبية التي انسكبت على احدى كتفيها حتى انتهى مرتاحا على معدتها .....
لكن عيناها ..... عيناها ..... تنظران اليه و كأنها تشعر بالغربة ......
مد يده ببطىءٍ ليرفعها و يتلمس وجنتها ... حيث لاحق دموعها كأعمى لا يبصر بعينيه و انما يحتاج لأصابعه , كي تنقل اليه أن صغيرته ..... تبكي !! ....
و في لحظةٍ واحدة انتفض جالسا بجوارها ... وهويحتضن وجنتها كلها بكفه قائلا بصوتٍ حنون , مرتبك ,,,,
( أتبكين يا صغيرة ؟!! ........ )
لم ترد ملك .... ربما لأنها لم تملك جوابا .....
كيف تكذبه وهو يلامس وجنتها و يتلقف دموعها ؟!!! ..... و كيف تعترف له بانها تبكي فيحاصرها بحنانه الى ان يعرف السبب ؟!! .....
حين طال صمتها , قال رائف بصوتٍ غريب , يقر حقيقةٍ .... لا سؤالا
( لقد آلمتك !! ............... )
أخذت ملك نفسا مرتجفا قبل أن تهمس بخفوت .... مبتسمة ابتسامة حزينة مريرة
( لم أكن عذراء لتؤلمني ............. )
ظل ينظر اليها غير مصدقا لما فعله ليلة أمس ..... و كأنه كان شخصا آخر , غير ذلك الذي وعد نفسه بالإنتظار ......
كيف سمح لنفسه أن يقطع مساحة هذا الإنتظار دون التفكير مليا إن كانت مستعدة بعد أم لا ؟!! .....
قال لها بصوتٍ خافت يدين به نفسه باستغراب
( بلى آلمتك ..... و الدليل أنكِ تردين لي الالم بما قلتِه للتو !! ....... )
ابتلعت ملك ريقها بصعوبة و هي تهمس بخفوت بينما دمعتان أخرتان تنسابان على وجنتيها هاربتين الى أصابعه الحنونة ...
( هل آلمك تذكيرك بأنني لست عذراء ؟!! ....... أنا آسفة ..... )
مد يده الاخرى منتفضا وهو يحتضن بها الخد الآخر ... ليحاصر وجهها تماما يرفعه اليه وهو يقول بلهجةٍ خافتة صارمة ... غير مصدقة بعد
( توقفي ........ توقفي ........ لا تستخدمي هذا الأسلوب في ايلام نفسك عن عمد , .... أصرخي بي ....... أصرخي بي إن كنت قد تجاوزت قدرتك على التحمل , اضربي صدري كما شئتِ .... لكن لا تبقين صامتة متباعدة بهذا الشكل ..... )
دمعتان انسابتا مجددا .... و كأن مخزونها من الدموع لم ينضب أبدا .... و لن يفعل ....
لكنها لم تكن تبكي ...... وجهها كان بريئا .... جميلا كما عهده .... هادئا جدا و هذا هو ما أرعبه عليها ...
أوشك أن يضرب نفسه على تسرعه ليلة أمس ..... آه فقط لو تعرف !! .....
تأوه رائف وهو يتلفق دمعتين تليان سابقتيهما ..... بأصابعه التي تحتضن وجهها , .... ثم دون كلمة أخرى مد ذراعيه خلف ظهرها وهو يشدها اليه بقوة .... يحتضنها بين ضلوعه و شفتيه تهمسان باسمها فوق شفتيها بكل قوةٍ .... يعتصرهما بقبلةٍ لم تعرف بأمانها و حنانها من قبل رغم قوتها ..... مما جعل الدموع تنساب بسرعة أكبر قليلا من عينيها .... ثم قال بقوتٍ قوي متشددا رغم خفوته.... ينفث وهج الإمتلاك و القلق ..... وهو يقبل كل جزءٍ بوجهها بسرعةٍ و لهفة ....
( لو تدركين رغبتي في صهرك بين ضلوعي ليلة امس !!.... لو تعرفين فقط مدى حاجتي لوشم اسمك على قلبي .... لما بكيتِ الآن ..... لكن أنا الملام في عدم انتظار قدرتك على التعافي ..... )
رفعت ملك يدها لتلامس بها صدره المرتفع بسرعة و قلق ... حيث تحسست قلبه المتعب برفق ... و كانت هي ترتجف بكل قوةٍ ..... لكن ذراعاه القويتين من حولها منحتاها شعورا بانها في بيتها .... حيث تنتمي .....
فقالت بصوت مرتبك ... خافتا جدا ...
( أنا مستعدة لمنحك حياتي بكل سعادة .....و عن طيب خاطر ... لا فقط أن تتلاشى بي .... أنت زوجي و أبي و أخي و حبيبي ...... لم أشعر يوما بمعنى تلك الكلمات التي نطقت بها وعد ذات يوم الى ان أصبحت زوجتك ..... احتلني كما تشاء .... عسا أن تنسى وطنا آخر ..... )
عقد حاجبيه وهو يقول بتعجب
( أحتلك ؟!! ....... هل هذا ما شعرتِ به من ليلة أمس ؟!! ....... )
قالت ملك بصوتٍ مختنق قليلا
( شعرت بك تريد الهرب ......... )
رفع وجهه الشاحب عنها وهو يقول بقوة
( الهرب من ماذا يا صغيرة ؟!!! ............. )
كانت ملامحها لا تزال هادئة ناعمة .... لكن مع سؤاله الأخير أخفضت وجهها بعيدا عنه و هي تغمض عينيها , لكنه حاصره بقوة ... و رفعه الى عينيه مجددا وهو يقول
( لا ..... لا ... لن تهربي أنتِ مني الآن ,...... واجهيني بما تظنين أنني أريد الهرب منه فلجأت اليك ليلة أمس ....... )
رفعت ملك جفنيها اليه و شفتيها ترتجفان ... تهددان بفقدان تلك السيطرة المثيرة للإعجاب التي تفرضها على نفسها رغم ألمها ... ثم قالت بخفوت محاولة أن تتكلم برقة هادئة قدر استطاعتها
( رائف ....... هلا ضممتني اليك فقط ؟!! .... أرجوك .... ليس هذا وقت استجواب , أنا أريد النوم على صدرك ...... )
ظل ينظر اليها طويلا بعينين تتوهجان بمشاعرٍ متناقضةٍ عنيفة ...
ما بين الشعور بالذنب و القلق عليها... و الإمتلاك ... و الرغبة في تذوق رحيق تلك الزهرة الندية من جديد ...
لكن الشعور الأكبر في تلك اللحظة .... كان الخوف ....
الخوف من أن يكون قد تهور معها , دون اعتبارٍ لفرق السن بينهما أو ما مرت به من فواجع ....
فتتقوقع داخل نفسها تدريجيا .... و الله يعلم بأي قرارٍ ستخرج به من تلك القوقعة ....
ازداد انعقاد حاجبيه وهو يقول بشدة ...
( ملك ..... اسمعيني فقط , ليلة أمس ..... لم تكن الأفضل لكِ كما اردتها ..... خاصة بعد ما تعرضتِ له بقصر القاضي .... لذا علينا أن نتكلم ..... )
هزت رأسها نفيا و هي ترفع يدها الى فمه قائلة بتوسل
( ليس الآن ...... أرجوك ليس الآن ....... هلا ضممتني الى صدرك و أشعرتني أنني الوحيدة في قلبك .... أرجوك .... )
تحشرج حلقه و يبتلع شيئا مقلقا لاذع الطعم ... قبل أن يقول بتوتر
( و هل لديكِ شك بأنكِ الوحيدة بقلبي ؟!! ............ )
تنهدت بقوةٍ و بصوتٍ عالٍ جعله يعبس بشدة و هي تدير وجهها بعيدا .... قبل أن تترجاه مجددا
( فقط ضمني الى صدرك ..... أنا ..... خائفة ..... )
رمش بعينيه من كلمتها الأخيرة .. فكأنما ضربته بمقتل , ....
حينها ضمها أكثر الى صدره وهو يتراجع حتى استلقى على ظهره يسحبها معه فوق أضلعه ... بينما اصابعه كانت تمشط شعرها برفق .... و ذراعه الأخرى تحيطها و كأنه يخشى أن تهرب .....
استمر الصمت قليلا و كل منهما يلتحف بالآخر و بقلبه ألما مختلفا .... بينما أعينهما شاردة متباعدة ...
لكن للجسد رأي آخر .... فكأنما هما جسد واحد من الإندماج و النعومة ... و كأنهما خلقا لبعضهما ...
قال رائف بصوتٍ شديد الخفوت وهو يداعب رأسها ...
( لا أريد أن أسمع كلمة الخوف تلك منكِ مجددا ....... إياكِ .... )
افترت شفتيها عن ابتسامة حزينة ... دون ان ترفع وجهها اليه ... ثم قالت همسا
( طلباتك أوامر أيها الغريب ............. )
عقد حاجبيه بألم وهو يقول بتشدد
( بدأت أبغض ذلك اللقب .... أبغض كل ما قد يبعدك عني ..... )
قالت ملك بخفوت
( لا شيء سيبعدني عنك سوى الموت ........ )
رفع يده عن خصرها ليسكت بها شفتيها بقوة .... كي لا تنطق تلك الكلمة مجددا بينما تغضنت ملامحه بألمٍ جعل عيناه تغمضان طويلا ... و لم يعرف بأن عينيها ارتفعتا بعذابٍ لتراقبا المه بصمت ....
ابتلعت تلك الغصة بحلقها قبل أن تهمس بخفوت
( هلا قبلتني من فضلك ......... )
فتح عينيه بدهشة وهو يراقب وجهها المرتفع اليه على صدره ..... و برقت عيناه بشدة و أمل وهو يهمس بخفوتٍ اجش
( طبعا .......بأي وقتٍ يا صغيرة .... )
ثم رفع نفسه عنها الى ان استلقت على الوسادة بجواره ... و ماله فوقها ....
ظل ينظر اليها طويلا وهو يبعد خصلاتِ شعرها الطويل عن ملامحها .... ثم انحنى اليها ليقبلها برفقٍ هذه المرة ..... و طالت القبلة .... طالت ... طالت .....
الى أن رفع وجهه أخيرا ... يراقب ملامحها الساكنة بجمال القبلة التي تشاركاها للتو ... فقال بخفوت
( هل أنتِ بخيرٍ الآن ؟!! ......... )
أومأت برأسها دون أن تجيب .... فقال رائف بصوتٍ أكثر خفوتا
( اذن هلا سمحتِ لي بأن أكفر عن ذنبي بحقك ليلة أمس ....... )
فتحت عينيها تنظر اليه بصمت ...
كيف تشرح له بأن ليلة أمس كان يمكن ان تكون أجمل لحظاتٍ عاشتها بحياتها كلها ... لولا ادراكها جيدا بأن رائف حينها لم يكن معها تماما .... بل كان يهرب من الماضي الذي فاجأة من اللا مكان أمس ....
شعرت بألمٍ في حلقها ... الا أنها أومأت برأسها و هي تهمس
( نعم ....... أرجوك ......... )
ابتسم لها أجمل ابتسامة رأتها على بشرٍ من قبل ..... بينما انخفض وجهه اليها و هو يزيح عنها الغطاء برفقٍ يلائم طهارة روحها ....

بعد فترة طويلة ...
كانت تجلس معه على مائدة الفطور الذي أعدته هي هذه المرة .....
كان الصمت يلازم كل منهما .... الصمت المحمل بالخجل و روعة المشاعر بينهما .... بينما هناك زوايا مظلمة بداخل قلبيهما جعلت الشرود رفيقهما الثالث ....
قال رائف بخفوت مبتسما
( سلمت يداكِ ...... الطعام رائع ...... )
رفعت وجهها المتورد اليه و كأنما أجفلها فجأة .... فقالت بارتباك مبتسمة
( انه مجرد فطور ....... لا يعتبر طهوا ....... )
مد يده الى ذقنها , فابتسمت بتوتر أكثر .... و حين طالت مراقبته لها و كأنه ينتظر منها أن تتكلم ...
قالت أخيرا كي تغير الموضوع المنتظر
( متى سنسافر ؟!! ........... )
لم يجفل لتهربها من نظراته ..... بل أزاح يده ببطىء وهو يقول
( لقد تواصلت مع شركةٍ سياحية ... و سنسافر خلال خمسة أيام على الأكثر ..... هل يعجبك ذلك ؟؟ .... )
أومأت برأسها بسرعة و هي تقول بخفوت
( جدا .... ظننت بأننا سننتظر طويلا ........ )
قال رائف بهدوء ( هل تريدين السفر بسرعة ؟!! .......... )
أومأت ملك برأسها دون أن تجيب .... فقال بهدوء مترقب
( قد أعتقد في ذلك لهفة منكِ في البدء بشهر العسل يا صغيرة .... لا مجرد السفر و السياحة .... )
ابتسمت و هي تقول بخفوت خجول مطرقة بوجهها
( أنت تعلم بأنني كذلك ........... )
ظل يراقبها صامتا ... ثم قال أخيرا بحذر
( ملك ....... أنا آسف لما عرضتك له بالأمس بقصر القاضي ...... لقد كان .... )
رفعت وجهها تقول بسرعة و حدة
( خمسة أيام ..... تجعل الوقت محدودا جدا بالنسبة الى ما أريد انجازه ..... لذا قد أنشغل خلالهم قليلا .. )
تنهد رائف وهو يقول بجدية
( ملك ....... اسمعيني ........ )
الا أنها كانت مصممة على تغيير الموضوع فقالت بحزم
( نحتاج للذهاب الى طبيبك كي نطمئن على سلامة قدمك و حالة الساق ... وأريد الذهاب الى وعد أيضا..... لا أعلم كيف سأعتذر لها عن عرض التصوير في مجموعتها الجديدة ... )
ثم تظاهرت بالمزاح و هي تقول عاقدة حاجبيها
( هذا لأن زوجي عنيدا ... غيورا ...... )
لم يبتسم رائف بل قال بهدوء
( لما تتجنبين الحديث معي ؟؟ .......... )
رمشت ملك بعينيها و هي تنهض من مكانها ... حاملة الأطباق الى المغسلة قائلة ...
( و علي أيضا الذهاب الى الأستاذة صبا .... كنت أريد منها عدة استشارات قبل استلام الميراث ... )
كانت توليه ظهرها ... الا أنها توترت قليلا حين سمعت تزحزح كرسيه وهو ينهض واقفا ... ليقول بجفاء
( هل أنتِ مصرة على موضوع استلام الميراث ؟!! ....... )
لم تستدير ملك اليه ....بل وقفت تنظف الأطباق و هي تقول بهدوء شديد
( أخبرتك أنني كذلك ..... لماذا لست مقتنعا ؟!! ..... )
ساد صمت مشحون ... قبل أن يقول رائف من خلفها
( ملك .... أنا على استعدادٍ على أن أمنحك قيمة ميراثك كاملا ... و أزيد لو طلبتِ , لكن تتنازلين عن هذا الميراث ..... )
وقفت مكانها دون حراكٍ لفترة ... قبل أن تستدير اليه ثم قالت بفتور
( هل تريد دفع ميراثي من جيبك الخاص ؟!! ....... لماذا ؟؟ .... )
قال بخشونة وهو يقف أمامها
( لأنني زوجك ............. )
استندت بكفيها الى الحوض من خلفها و هي تراقبه بصمت .. ثم قالت
( و هذا ميراثي من زوجي المتوفي ...... لا أرى علاقة بين الشيئين !! ...... )
أخذ نفسا عميقا قبل أن يقول بصرامة
( حاولت التلميح الى قصدي لكن دون جدوى .... لذا إن كنتِ تريدين سماعها صريحة , فليكن ذلك .... هذا الميراث ليس من حقك ... و لا من حقه لو كان لا يزال على قيد الحياة ..... و أنا لا أريد لزوجتي أن تأخذ شيئا لا يخصها ....... )
ساد صمت رهيب بينهما بعد أن القى توضيحه القاسي ....
بينما كانت هي لا تزال على وقفتها تنظر اليه صامتة دون أي تعبير ... الى أن قالت أخيرا بصوتٍ هادىء غريب
( أنت من تقول هذا ؟؟!! ... ... غريب أن تظنني محتالة في جريمةٍ شاركت فيها بدورٍ ليس هينا !! .... )
لمعت عينا رائف بذهولٍ زاد من انعقاد حاجبيه .... وهو يرى أمامه فتاة أخرى غير تلك العاشقة الصغيرة ...
التي تهيم به و لا تخجل من البوح بحبها له في كل لحظة ..
أما من تقف أمامه الآن فهي باردة العينين ... و صوتها ذو نغمةٍ قاسية .... بينما تحدق بعينيه دون أن تطرف لها عين ....
قال رائف أخيرا بخفوت متصلب ..
( أي جريمة تلك التي شاركت بها يا ملك ؟!! ........... آن الأوان لتفصحي عن كل ما يقلقك حيال هذا الغريب الذي احتل حياتك .... بعيدا عن اعترافات الحب الوردية التي أطريتني بها دون أي تردد ....)
" اعترافات حبٍ وردية أطرته بها دون أي تردد !!! .... "
أيعلم فقط كم آلمها بهذه العبارة التي سفهت من حبها !! .... و كأنها مجرد مراهقة أسمعته أكثر مما يطلب في الحقيقة .....
لكنها رفضت أن يظهر هذا الألم العنيف على ملامحها ... فرفعت ذقنها تقول نفس عبارته الجارحة
( أتريد سماعها صريحة ؟!! .... فليكن اذن ..... زوجي الذي توفي و الذي ترى أن ميراثي منه ليس من حقي ... ما هو الا صنيعة أيديكم ..... دمية بشرية اشتريتموها و دمغتوها باسم القاضي .... و صنعتم منه عبدا للمعجزة التي هيأتموها له ......أليست تلك جريمة أقرب الى جرائم شراء الأطفال ؟!! ... على ان هذا الصبي اشتريتموه من نفسه .... منحتوه صك الملكية الحصرية على أن يبيع روحه لكم ... . )
هتف رائف فجأة بقسوة
( لا تتكلمي بصيغة الجمع ............. )
الا أنها ردت بصوتٍ أكثر حدة
( و أنت كنت فردا مشاركا في تلك الجريمة ...... لا تنكر ذلك ..... )
اتسعت عيناه بصدمة بينما كانت هي حادة لكنها كانت على الرغم من ذلك تتحدث بكل موضوعية و هي مقتنعة تماما .....
الا أنها تابعت بقوة
( أتعلم ماذا ..... استطعت فهم دوافع أكرم القاضي ... و استطعت فهم دوافع زوجته .... لكن أنت .... لماذا سكت عمرا بأكمله عن جريمةٍ لا أخلاقية ؟!! ..... و الآن تلومني لأنني أريد أخذ ميراث ليس من حقي ؟!! ........ )
بهتت ملامح رائف ... الا أنه لم يحيد بعينيه عن عينيها .... ثم قال أخيرا بخفوت
( تابعي .......... انا أسمعك جيدا .... )
أخذت نفسا مرتجفا قبل أن تقول بشدة
( أنت ساهمت بقدر كبير في هذه الجريمة .... جعلت منه أخيك الأصغر ... أحببته و جعلت من صك البيع أكثر جمالا و حنانا بطبعك الخاص ..... حسنا بما أن هذا كان دورك في حياته , اذن كنت متأكدا بأنه كان يريد منحي حياته كلها لو أمكنه ذلك ... لا مجرد ميراث مادي ..... )
رفع رائف ذقنه وهو يقول بخفوت
( بدليل أنه رفض التنازل عن هويته المزيفة لأجلك .... و تزوجك إدعاءا فقط .... بل و قتل طفله بدمٍ بارد حفاظا على تلك الهوية .... لقد ساوى بين قيمتك و قيمة مجرد اسمٍ على ورق ... فعقد تلك الصفقة مع أكرم كي يتخلص من الجنين في سبيل الحفاظ عليك و على اسمه معا ..... فأي حياة تلك التي كان سيمنحها لك و أنت رخيصة الثمن بهذا الشكل ؟!! ..... )
شحب وجهها بشدة و هي تنظر اليه غير مصدقة ... ثم قالت بخفوت غامض
( أنا رخيصة الثمن يا رائف ؟!! ........ )
رد عليها بقسوة
( تعرفين أنها وجهة نظره .... و ليست وجهة نظري أنا ..... )
الا أنها لم تسمعه .... لم تسمع سوى ما تريد سماعه ... و ما هيأه لها دخول الماضي بينهما ليلة أمس . فقالت بخفوت شارد و هي تنظر بعيدا
( بالطبع أنا رخيصة الثمن بنظرك ..... لقد حذرتني منه مرارا قبل أن أتزوجه , حتى وصلت الى درجة التهديد ومع هذا لم أمتثل لك .... بل سلمت له نفسي بمنتهى السذاجة و البساطة على طبقٍ من ذهب .... )
هتف رائف بقوة
( اذا كنت تنوين الهذيان بتلك الخرافات كي تدعمين وجهة نظرك فمن الأفضل أن تغلقي هذا الجدل العقيم ....... )
الا أن ملك احتدت فجأة و هي تهتف بقوة
( أنا لا أشبه زوجتك الغالية ... ابنة خالك ... و حبيبتك الوحيدة ... التي أحبت رجلا غيرك و هي في مثل سني , و مع ذلك كانت من الاحترام و التربية بحيث نفذت رغبة والدها و تزوجتك ...رافضة الشاب الذي تحب .. )
صرخ رائف فجأة بقوةٍ مجلجلة
( اخرسي .......... )
صدمت ملك من صرخته التى رجت الجو من حولها ... بينما هدر قائلا وهو يرفع سبابته اليها بتحذير
( اياكِ ...... اياك و الكلام عن رؤى مجددا ..... )
ساد صمت طويل و هما يحدقان ببعضهما .... بينما كانت هي تتنفس بسرعة و ارتجاف قليلا من غضبه الظاهر و الذي رأته من قبل مراتٍ قليلة ... لكنه لم يكن موجها لها .... بل دفاعا عنها ...
أما الآن فقد انقلبت الأدوار ....
الا أنها قالت بهدوء على الرغم من سحابة الدموع التي اعتلت حدقتيها ... رافضة أن تسمح لها بالتساقط ..
( أنت انسان ترفض المواجهة يا رائف ..... قد تضحي بحياتك من أجل من تحب , ...
الا أنك ترفض المواجهة ... لم تواجه خالك حين رفضتك ابنته... لم تواجه زوجتك في حبها لغيرك ....بقيت معها العاشق الحنون المتفاني حتى آخر يوم بعمرها دون أن تلتفت الى جرحك أنت ....
لم تواجه اختك بتصرفاتها التي تقصد بها ايذائك بقصد أو بدون ....
و لم تواجه جريمة كبرت و نمت أمام ناظريك من أجل أختك ... ظنا منك بأنك تمنحها الإبن الذي فقدته .... أما هي فلم تكن محتاجة الى ابن يعوضها عن ابنها أبدا ... بل كانت تحتاج الى رجل ..... )
قال رائف بصوتٍ غريب مذبذب مصدوم ... و عيناه تعلمانها بمنتهى الوضوح أنها قد ضربته في مقتلٍ ..
( اصمتي يا ملك ..... لا حاجة لكِ بالمزيد ....كنت اعلم أن الأمر لن يظل بورديته المثالية ... و قد حذرتك بهذا حين اعترفتِ بحبك المتسرع لي .... . )