📌 روايات متفرقة

رواية عندما تنحني الجبال الفصل الاول 1 بقلم بلومي

رواية عندما تنحني الجبال الفصل الاول 1 بقلم بلومي

رواية عندما تنحني الجبال الفصل الاول 1 هى رواية من اجمل الروايات الرومانسية السعودية رواية عندما تنحني الجبال الفصل الاول 1 صدر لاول مرة على موقع التواصل الاجتماعى فيسبوك رواية عندما تنحني الجبال الفصل الاول 1 حقق تفاعل كبير على الفيسبوك لذلك سنعرض لكم رواية عندما تنحني الجبال الفصل الاول 1

رواية عندما تنحني الجبال بقلم بلومي

رواية عندما تنحني الجبال الفصل الاول 1

جنازة

رفعت نانسي رأسها من فوق ركبتيها .. وتأملت بعينين خاليتين من التعبير قطرات المطر الخفيفة التي أخذت تهطل برفق بينما هي جالسة على الدرج الخلفي للمنزل الكبير الذي ولدت فيه وعاشت ما يقرب العشرين عاما .. في حين كان الصوت العذب للشيخ المنبعث من داخل المنزل وهو يتلو آيات قرآنية يتردد عبر المكبرات الصوتية .. ترى .. هل السماء تبكي عوضا عنها ؟ .. فقد جفت مآقيها وانعدمت قدرتها على البكاء .. واحتارت في أمرها .. هل تعتبر هذا قوة منها وصلابة في وضعها الصعب ؟ .. أم تلوم نفسها وتعتبرها خيانة لذكرى أبيها الذي مات منذ يومين بأزمة قلبية مفاجئة ؟
( نانسي )
لم تمنح حنان التي تعمل لدى العائلة منذ سنوات أي جواب .. إلا أن الأخيرة كانت تدرك تماما بأن مخدومتها تستمع إليها جيدا .. تمتمت :- المقرئ يتساءل إن كان بإمكانه الانصراف .. فهو يتلو القرآن منذ ساعات وصالة الاستقبال فارغة
كبتت نانسي وخزة الألم في صدرها .. توفي والدها .. ولم يحضر أي إنسان إلى جنازته .. أي من أصدقاءه أو شركاءه ..أو من الأشخاص الذين أمضو حياتهم يتزلفون إليه طلبا لرضاه .. أي من موظفيه أو جيرانه .. لقد اكتشفوا جميعا بعد وفاته أنهم قد نسوا كل ما قدمه لهم في حياته من تضحيات وعطايا .. هو الآن مجرم في نظر الجميع لا يستحق حتى مجرد قراءة الفاتحة على قبره .. نهضت قائلة بحزم :- فليستمر في القراءة حتى أطلب منه أنا التوقف
دخلت إلى البيت بخطوات حازمة .. لقد بكت كثيرا منذ سقط والدها ميتا .. بكت حتى لم يعد لديها ما يكفي من الطاقة لمزيد من البكاء .. وبعدها أدركت بأن البكاء لن ينفعها .. ولن ينفع الشخصين الآخرين اللذين بقيا تحت عهدتها .. صعدت بخطوات رشيقة إلى الطابق العلوي .. لتصادف إحدى الخادمات جالسة في الزاوية تبكي بمرارة
فصرخت فيها بعنف :- لا أريد بكاءا في هذا البيت .. هل تسمعين ؟
استدارت لتجد عددا من الخدم ينظرون إليها فصاحت :- إن رأيت أحدا منكم يبكي فسأطرده من هذا البيت في الحال
لم تحتمل نظرات الشفقة التي ارتسمت في أعينهم .. مما دفعها لأن تدخل إلى غرفتها وتصفق الباب خلفها بعنف وتتساءل .. ترى هل يعلمون ؟
هل يعلمون بأنهم سيغادرون هذا المنزل قريبا في جميع الأحوال ؟ بل أنها هي وعائلتها سيغادرون بلا رجعة ؟
سيغادرون البيت الذي عاشوا فيه لسنوات مستمتعين برفاهيته .. البيت الذي بناه والدها لأجل أمها عندما تزوجها منذ واحد وعشرين سنة ..
بدون وعي منها التقطت إحدى زجاجات العطر الثمينة المرصوفة على منضدة الزينة .. وألقتها على الجدار بكل ما تملك من قوة غير مبالية بتحطمها .. وبالشظايا الصغيرة التي تناثرت في جميع انحاء الغرفة .. نظرت إلى نفسها في المرأة لاهثة .. وذهلت امام الفتاة التي وجدت نفسها تنظر إلى صورتها .. بشرتها التي كانت دائما ذهبية متوردة .. كانت شاحبة وصفراء .. وعيناها بلونهما الحشيشي الأخضر .. والتان كانتا دائما مشرقتين ومليئتين بالحياة .. كانتا ذابلتين وقد احاطت بهما الهالات السوداء .. أغمضت عينيها بقوة .. لن ينفعها الحزن الآن .. ولن يساعدها الألم على متابعة حياتها .. لقد تعلمت الآن بأن الصديق الحقيقي هو من يبقى وقت الأزمات .. وقد اكتشفت الآن بأنها لم تمتلك يوما أصدقاء .. الكل كان يتزلف إليها ويتقرب منها ومن عائلتها طمعا في مصالح مادية أو اجتماعية .. أدركت الآن بأنها لا يمكن أن تثق بأحد ... لأنه لا وجود للقلب الصادق الوفي .. عليها ان تعتمد على نفسها فقط .
خرجت من غرفتها .. ودخلت إلى الغرفة المجاورة .. وما إن وقعت عيناها على المشهد الماثل أمامها حتى اختفت صلابتها .. وظهر التأثر في عينيها
كانت أمها .. المرأة الحسناء التي بالكاد تجاوزت الأربعين بقليل .. تجلس على سريرها الكبير .. بينما دفنت فتاة في الخامسة عشرة رأسها بين أحضانها .. تبكي بمرارة
رفعت أمها عينيها إليها .. فلاحظت نانسي ذبول وجهها الجميل .. والخصلات البيضاء التي تخللت شعرها الفاتح اللون والتي لم تكن موجودة سابقا .. مدت يدها إليها فاندفعت نانسي تعانق أمها بدورها بقوة .. أمضت ثواني وهي تستمد الحنان من صدرها الدافئ .. قبل أن تعتدل قائلة :- اطمئني يا أماه .. سيكون ككل شيء على ما يرام
لقد كان أمها صغيرة جدا عندما وقعت في حب سلمان راشد .. الشاب الطموح الوسيم صاحب الطموح الكبير.. والذي نجح خلال فترة قصيرة بأن يحقق ثروة طائلة .. وأن يمنح حبيبته الحسناء سلسلة العائلة العريقة .. الحياة المرفهة التي تستحقها .. وأن يمنح طفلتيه كل ما لم يستطع الحصول عليه في طفولته .. لقد كان أبا مثاليا .. وزوجا مثاليا .. كان يقول لنانسي باستمرار أن كل هذه الأموال لا تساوي شيئا إذا لم يتمتع الإنسان بالكرامة والكبرياء .. وأنها مهما حدث يجب ألا تفرط بكبريائها .. وكان أن اتهم سلمان راشد منذ أسابيع بتورطه بأعمال غير قانونية .. وبأن أمواله كلها كانت نتيجة مشاريع ممنوعة .. ففضل أن يلقى حتفه بأزمة قلبية على حياة المذلة والسجن
نظرت إلى وجه أمها الحزين .. كانت تبدو أكبر من عمرها بسبب الحزن والمرض الذي لم يتركها منذ اكتشفت حقيقة زوجها الحبيب ..وقعت عينا نانسي على صورة صغيرة لأبيها إلى جانب السرير .. كان وسيما وبشوشا .. لم تكن الابتسامة تغادر وجهه .. تذكرت ملامحه عندما اقتحمت الشرطة المنزل .. و واجهه الضابط بالتهم الموجهة إليه .. شحب وجهه .. واختفت ابتسامته .. وأثناء التحقيق .. قضى نحبه في السجن قبل حتى يحدد موعد المحاكمة
تمتمت الأم :- توقفي عن البكاء يا لينا .. علينا أن نتحدث
رفعت لينا وجهها الصغير المغطى بالدموع.. وقد تهدل شعرها الفضي حول وجهها .. فكرت نانسي بأنها صغيرة جدا على هذا العذاب .. هتفت الأم :- أنتما ناضجتان الآن وليس من حقي أن أخفي عنكما أي شيء .. لقد كان والدكما رجلا رائعا ...أبا صالحا .. وقد أحببناه بقوة وأحبنا بجنون .. وبذل كل جهده لإسعادنا .. ولكن لا وجود للإنسان المثالي والكامل .. لقد ارتكب سلمان العديد من الأخطاء في حياته .. وقبل وفاته صارحني بأن كل الاتهامات التي وجهت ضده كانت صحيحة
أغمضت نانسي عينيها بقوة بينما سدت لينا أذنيها بكفيها وهي تصيح :- توقفي يا أمي .. أرجوك
ولكنها لم تتوقف بل اكملت بقوة :- من حقكما أن تعلما هذا .. وأن تعرفا بأن والدكما قد سلك طريقا خاطئا ليمنحنا حياة مرفهة .. ولكن الحقيقة هي أنني كنت أتمنى لو أننا عشنا في غرفة حقيرة .. ولقينا من الفقر ويلاته على أن يحدث ما حدث .. أريدكما أن تفهما هذا وألا تنسياه على الإطلاق .. إن لقمة بالحلال هي أفضل من كل أموال الدنيا بالحرام
عادت لينا تبكي مجددا .. فأخذت الأم نفسا عميقا وهي تقول :- بالرغم من كل ما فعله .. أريد منكما أن تستمرا في حبه .. وفي تذكر أنه كان أروع أب في الكون .. وأنه ما كان أبدا ليسبب لكما الأذى .. لقد فعل ما فعله ظنا منه بأنه يوفر لكما السعادة .. ولكنني متأكدة بأنه لو عرف بما سيحصل للعن نفسه ألف مرة قبل أن يقوم به
صمتت لثواني قبل أن تقول :- كما تعلمان .. جميع ممتلكات والدكما قد صودرت .. حتى هذا البيت لم يعد لنا .. وعلينا ان نغادره خلال فترة محددة .. لذا .. أريد أن يكون لديكما فكرة عما ينتظرنا في المرحلة القادمة .. وهي لن تكون سهلة على الإطلاق .. سنضطر خلالها للتخلي عن كل ما اعتدنا عليه من رفاهية .. علينا ان نتوقع الأسوأ
تمتمت نانسي :- لا تقلقي يا اماه .. لن نخذلك
ارتفعت طرقات مهذبة على الباب .. وصوت حنان يقول :- آنسة نانسي .. السيد ماهر في الأسفل يطلب مقابلتك
اعتدلت نانسي قائلة :- استأذنك يا امي .. سأقابل ماهر
تمتمت أمها :- بلغيه تحياتي .. وشكري على زيارته
ألقت نانسي نظرة عابرة على نفسها في المرآة .. ومررت أصابعها بسرعة بين خصلات شعرها الذهبي الناعم .. ثم مطت شفتيها بضيق .. لكم تبدو بائسة
بينما هي تنزل الدرج .. تمكنت من رؤية ماهر .. صديقها وزميل دراستها يقف في الصالة .. يتأمل اللوحة الجدارية الكبيرة التي دفع والدها مبلغا كبيرا للحصول عليها
ماهر هو الصديق الحقيقي الذي بقي لها .. والذي لم يتركها منذ علم بقصة والدها .. منذ عرفته أول مرة في سنتها الجامعية الاولى .. أدركت معدنه الثمين وصدقه ونبل أخلاقه .. عندما رآها تنزل .. استدار إليها وتناول كفها الرقيقة وشد عليها برفق قائلا :- كيف حالك يا نانسي ؟
تمتمت :- بخير .. شكرا لك
دعته للدخول إلى إحدى القاعات الخالية .. فلاحظت محاولاته الجاهدة لتحاشي التقاء عينيهما خشية أن ترى الإشفاق في عينيه .. إن كان هناك من يفهمها حقا فهو ماهر
سألها :- كيف حال السيدة مريم ؟
:- أمي بخير .. ما زالت تحت تأثير الصدمة .. ولكنها بخير .. وتشكرك على لطفك
ساد صمت طويل بينهما دون ان يجد أحدهما ما يقال .. نظر ماهر حوله متأملا الصالة الفاخرة الأثاث .. ومعالم الثراء الموزعة في جميع زواياها .. لابد أنه هو الآخر يعرف .. فالبلد كله يعرف بأن أملاك سلمان راشد اللص الكبير قد صودرت جميعها .. تمتمت فجأة :- سأعود للمواظبة على الدوام في الكلية
اتسعت عيناه بدون تصديق .. لقد امتنعت عن الذهاب إلى الجامعة منذ ألقي القبض على والدها .. وتمزيق الصحف لسيرته شر تمزيق .. قال بقلق :- هل أنت متأكدة ؟
قالت بجفاف :- ما من داعي لبقائي في البيت .. هل تنتظر مني أن أعتزل الناس إلى الأبد ؟ لقد حان الوقت لأن أتابع حياتي .
بدا التفكير العميق في عينيه البنيتين قبل أن يقول :- أنصحك بأن تعيدي النظر في قرارك هذا يا نانسي
عقدت حاجبيها :- ماذا تعني ؟
قال بهدوء :- أرى أنه من الأفضل أن تنتظري لبعض الوقت قبل العودة إلى الجامعة .. حتى ينسى الناس قصة والدك على الأقل
شعرت بغصة ألم تخنقها .. لطالما كان ماهر صريحا .. صريحا بشكل مؤلم أحيانا .. ولكن ربما هذا ما يدفعها للثقة به .. إنه لا يعرف الزيف أو الكذب .. يقول فورا ما يفكر به دون اهتمام لآراء الآخرين
أوضح كلامه قائلا :- يجب أن تعرفي حقيقة الوضع الآن في الكلية يا نانسي .. لا سيرة للطلاب أو الأساتذة إلا قصة والدك .. إن موجة من الجنون تجتاحهم .. لا تنسي بأن أعداءك كثر في الكلية
نعم .. هي تعرف هذا جيدا .. لطالما كانت نانسي سلمان راشد الاسم الأكثر شهرة في الكلية .. لقد كانت الطالبة الأكثر شعبية بشخصيتها القوية وغرورها الذي يميزها .. لطالما كانت علاقتها بزملائها علاقة تفوق واستعلاء .. لم لا ؟ .. لقد كانت دائما الأفضل .. الأجمل .. الأكثر أناقة ..الأكثر تفوقا في الدراسة .. كما كانت علاقتها بالأساتذة وثيقة بسبب علمهم بأهمية والدها .. الكل كان حريصا على رضاها .. طبعا .. ليس كلهم
تمتمت بحنق :- هل تعني بأنني يجب أن أهرب وأختبئ عن الناس كالفأر الجبان ؟ أقسم على أن هذا ما يرغبون جميعا بحصوله .. ولكن لا .. لست أنا من تهرب من واقعها .. سأعود إلى الكلية كما كنت وأفضل .. لأثبت للجميع بأنني مهما حدث فسأظل نانسي راشد .. ولن أسمح لأي منهم بأن يتجرأ علي بكلمة
تنهد ماهر وهو يقول :- أعرف بأنني لن أستطيع تغيير رأيك يا نانسي .. ولكن تأكدي بأنني سأقف دائما إلى جانبك
تمتمت :- أعرف هذا يا ماهر .. وأشكرك على اهتمامك بي
صافحته بقوة عندما نهض ليغادر .. التقت عيناهما وهو يقول :- هل أراك في الغد إذن ؟
ابتسمت قائلة :- في مكاننا المعتاد
منحها ابتسامة تقدير لشجاعتها قبل أن يغادر المنزل .. بينما ألقت هي نفسها على المقعد وهي تزفر بقوة
هي تعلم جيدا بأن ما ينتظرها في الغد ليس سهلا .. ليس سهلا بالمرة
ولكنها لن تكون نانسي راشد لو لم تثبت للجميع بأنها ليست بحاجة لدعم والدها كي تنتصب شامخة في وجه الصعاب
المنبوذة

أخذت نانسي نفسا عميقا قبل ان تغادر سيارة الاجرة .. تقف أمام بوابة الحرم الجامعي الكبير .. كانت متوترة للغاية ..إلا انها لملمت شتات نفسها .. وتأكدت من أناقة تنورتها وقميصها الأسودين .. لن يحدث شيء.. لن يحدث شيء .. بقيت تردد هذه العبارة بينما هي تعبر الطريق متجهة نحو مبنى الكلية .. لقد تمسكت بقوتها منذ بدأت مصيبة العائلة ولن تضعف الآن
سارت بخطوات حازمة بين الطلاب الذين امتلأت بهم الساحة .. وهي تكرر داخلها .. لن يحدث شيء
سرعان ما بدأت الانظار تتجه نحوها .. أخذ الجميع يبتعدون عن طريقها .. بدأت الهمهمات والضحكات الساخرة الخافتة .. أمسكت اعصابها وهي تضم قبضتيها بقوة .. تمكنت من سماع اسمها يتردد .. بل واسم والدها أيضا .. ثم شعرت بأحدهم يبصق على الأرض ما إن مرت إلى جواره .. تمكنت بصعوبة من الاحتفاظ بهدوء ملامحها .. رأت مجموعة من زميلاتها يقفن في الزاوية .. فاتجهت نحوهن وعلى شفتيها شبح ابتسامة :- صباح الخير
كان الرد الذي تلقته نظرات استنكار .. ثم ابتعادهن عنها دون أن يخاطبنها بكلمة .. شعرت وكأنها قد صفعت على وجهها .. هؤلاء الفتيات كن يركضن حولها كالذباب فيما مضى .. كل منهن كانت تسعى خلف رضاها .. كانت مثلهن الأعلى .. ووسيلتهن للوصول إلى دعم الأساتذة .. وعميد الكلية الذي كان يوليها اهتماما خاصا بسبب علاقته بوالدها
توجهت فورا إلى كافيتريا الكلية .. حيث وجدت ماهر ينتظرها على إحدى الموائد في الزاوية إلى جوار النافذة .. حيث اعتاد انتظارها باستمرار .. ما إن جلست إلى جواره حتى نهض أحد الشبان من مقعده قائلا بعنف :- أليس هناك من يتولى تنظيف المكان من القذارة ؟
ثم اندفع خارجا من المكان .. نظر ماهر بقلق إلى نانسي .. وإلى وجهها المحتقن وقال :- هل أنت بخير ؟ هل تفضلين أن نغادر المكان؟
قالت باقتضاب :- كلا .. فليغادر من لا يعجبه وجودي .. أنا لا أهتم
أمسك بيدها قائلا :- نانسي .. فلتعودي إلى البيت .. ولتنتظري حتى تهدأ النفوس .. أنت لا تعرفين ما المشكلة
أعطاها جريدة الصباح .. ولكنها لم تأخذها .. بل اكتفت بالنظر إلى الصفحة الاولى حيث كانت صورة والدها تتصدرها .. قالت بهدوء :- لن أهرب يا ماهر .. هذا أمر علي مواجهته
نظرت إلى ساعتها ثم نهضت قائلة :- ستبدأ محاضرتي بعد قليل
قال :- لا محاضرات لدي .. سأنتظرك هنا .. وإن شئت أرافقك
ابتسمت له رافضة .. ثم تركته متجهة إلى المدرج حيث سيلقى المحاضرة أكثر أساتذة الكلية كرها لها .. إن لم يكن الوحيد .. دخلت إلى القاعة حيث كان الطلاب يثرثرون في انتظار الأستاذ .. إلا أن صمتا رهيبا أطبق على المكان عندما دخلت .. الكل كان يحدق بها .. بين غاضب ومتهم ..ومستنكر .. استجمعت شجاعتها وسارت نحو الصف الأيمن من المقاعد وجلست على المقعد الأخير .. وجلست .. وخلال ثوان كان جميع الطلاب قد انفضوا من حولها تاركين الصف الذي تجلس فيه خاليا.. بينما تجمعوا كلهم في الصفوف الباقية .. ضمت يديها إلى بعضهما .. وحدقت بهما بإصرار .. لن أبكي .. ولن أخرج من القاعة .. كانت تحتاج إلى كل شجاعتها كي لا تهرب تاركة المكان
صباح الخير
دوى صوت الدكتور الحازم والقوي وهو يدخل المدرج .. رفعت عينيها بضيق .. ليتها هربت قبل أن يراها الدكتور محمود فاضل بهذا الوضع .. كان الدكتور محمود أصغر دكتور في الكلية وقد تمكن بجهده وذكاءه من الحصول على درجة الدكتوراه قبل أن يتجاوز الثلاثين .. كانت له شعبية كبيرة بالرغم من ندرة تواجده في الكلية .. إذ أنه موجود فقط لإلقاء محاضراته .. ثم يختفي بعدها بلا أثر .. المعلومات المتداولة عنه بين الطلاب لم تكن كثيرة .. فغير كونه رجل ذكي ذو شخصية قوية وطاغية .. كانوا يرددون شائعات عن إدارته لأعمال عائلته الناجحة .. والتي تفسر أناقة ملبسه وكبرياءه الظاهرين .. نظرت إليه فالتقت عيناها بعينيه العسليتين الشبيهتين بعيني الصقر .. حاولت جهدها أن تتظاهر بالقوة والكبرياء .. وألا تمنحه فرصة السخرية والشماتة من وضعها .. إلا أنه قال بصوت صارم :- ما الذي يحدث في هذه القاعة ؟ لماذا يتجمع الطلاب في مكان واحد ؟ فليتوزع الجميع على كل المقاعد حالا
تبادل الطلاب النظرات بتوتر .. قبل أن يضرب سطح المكتب بقبضة يده صائحا :- حالا وبدون نقاش
بدأ الطلاب يتزحزحون من أماكنهم على مضض .. بينما شعرت نانسي بأظافرها تكاد تدمي راحتيها .. رافضة رفع رأسها .. نانسي تعرف بالضبط ما وراء موقف أستاذها الإيجابي .. لقد كان يهدف إلى إذلالها وإشعارها بأنها تدين له بعد الشجار العنيف الذي دار بينهما قبل أشهر قليلة .. والذي كان سببه هو عدم خضوع هذا الأستاذ لسلطتها .. ورفضه لمنحها أي امتياز عن غيرها من الطلاب .. بل كان يتعمد أحيانا جلدها بكلماته السليطة أمام الجميع بقصد إحراجها والتقليل من شأنها .. وعندما فعلت كما تفعل عادة مع كل أستاذ عنيد .. وعرضت عليه المال والمركز .. كان رده عنيفا .. سيلا من الاتهامات والإهانات القاسية .. تذكر بأنه قال لها ببرود :- أنت طفلة مدللة وفاسدة يا آنسة نانسي .. ولدت وفي فمك ملعقة نم الذهب .. واعتدت على خضوع الجميع لنزواتك .. ولكن هذا لن يستمر .. سيأتي يوم لن تجدي فيه يدا تمتد لك .. بل ستجدين من سيصفعك بقوة ويعيد تربيتك من جديد
كان هذا كثير بالنسبة إلى نانسي .. فانفجرت به تتوعده بأنه لن يبقى أستاذا في هذه الكلية .. بل هو لن يجد مكانا يأويه لأنها ستظل خلفه حتى ترميه في الشارع .. انتهى الشجار بأن طلب هو من أحد الموظفين إخراجها من مكتبه .. ومنذ ذلك الحين .. لم يتبادلا كلمة واحدة .. ولكنها ظلت تحضر محاضراته بتحدي لتثبت له بأن كلماته لم تؤثر بها أبدا .. والآن .. دافع عنها أمام جميع الطلاب وكأنه يقول لها صراحة بأنها لم تعد تساوي شيئا .. وأن كل ما تستحقه الآن هو شفقته
حاولت طوال المحاضرة ألا تنظر إليه كيلا تلتقي نظراتهما .. ولكنها رغما عنها كانت تسترق النظر إليه .. كان يلقي محاضرته بأسلوبه الأنيق والذكي والشيق .. وقد احتلت الفتيات جميع المقاعد الأمامية طمعا في لفت انتباهه .. لم لا ؟ .. لقد كان الدكتور محمود يمتلك كل مواصفات فارس أحلام أي فتاة .. قامة طويلة .. كتفين عريضتين لجسد قوي متناسق ..تكسوه دائما حلة أنيقة داكنة لتمنحه صورة الأستاذ القدير ..
شعر داكن كثيف .. وملامح وسيمة قوية .. وعينين بلون الجوز قادرتين على خلب لب أي طالبة .. حتى هي .. لم تكن تنكر الجاذبية التي يتمتع بها .. رغم اختلافها عن الأخريات .. فنانسي راشد لا يمكن أن تخضع لجاذبية رجل .. فهي تعرف مسبقا بأنها لن تجد أبدا رجلا كفئا بما يكفي ليستحقها ..
انتهت المحاضرة .. وخرج الدكتور دون أن يلقي عليها أي نظرة .. بقيت مكانها تنتظر الجميع حتى خرجوا .. ثم لملمت شتات كبريائها وخرجت لتلاقي ماهر في الكافيتريا ..
منذ تعارفهما الأول في السنة الأولى .. ربط الجميع اسمها باسم ماهر .. وسرت حولهما الكثير من الأقاويل بسبب تلازمهما المستمر طوال السنوات الماضية .. كان ماهر وسيما .. يتمتع بقدر وافر من الجاذبية .. بشعره العسلي الأجعد وعينيه البنيتين الدافئتين .. كان هناك خشونة في بعض ملامحه ولكن بدون شذوذ .. مما منحه مظهرا رجوليا جذابا .. ومع هذا .. ما كانت نانسي تكن له إلا مودة الأخوة والصداقة .. ورفضت اتهامات وتلميحات الكثير من زميلاتها عن مشاعره الخفية نحوها .. ماهر كان دائما الأخ الذي لم تحظى به
كان هناك الكثير من الشبان الذين حاولوا كسب رضاها ونيل إعجابها ..وقد ارتمى الكثير من زملائها أمامها مصرحين بإعجابهم بها .. ولكنها كانت دائما تصدهم بسخرية قاسية .. مع الوقت .. وعندما أدرك الجميع بأن غرورها وكبريائها سيصدان أي شاب يقترب .. كانوا يكتفون بمراقبتها من بعيد بأعين الإعجاب والرغبة أحيانا وهي تخطو بقامتها النحيلة والرشيقة عبر ممرات الكلية .. بجمالها الغريب ذي الجاذبية الخطرة .. المتمثل ببشرة ذهبية تناقضت بشدة مع لون عينيها الصارخ الخضرة .. وملامحها الناعمة المتناسقة ..وشفتيها الممتلئتين .. وشعر ذهبي ناعم يتراقص دائما حول كتفيها بإشراق وحيوية
رفع ماهر عينيه نحوها ونهض مستقبلا إياها قائلا بقلق :- كيف كانت المحاضرة ؟
تمتمت وهي تلقي بنفسها على نقعدها :- سيئة للغاية .. كيف يمكن ألا تكون كذلك مع محمود فاضل ؟
قال مترددا :- ولكنني سمعت بأنه كان إيجابيا معك
عبست قائلة :- هذا رائع .. هل وصلت الأخبار إليك بهذه السرعة .؟ ذلك المغرور .. الحشرة المتسلقة اجتماعيا .. لقد هدف إلى إذلالي وإهانتي بتصرفه
قال ماهر :- الدكتور محمود ليس سيئا إلى هذا الحد يا نانسي
قالت بغيظ :- أعرف تماما بأن علاقة وثيقة تربطكما .. ولكن لا تتوقع مني أن أشكره .. أنا وحدي من يعرف الهدف الرئيسي من تصرفه الظاهر النبالة .. الرجل يكرهني .. وقصده كان كسب نقطة ضدي
غمغم :- لم يبدو عليه أنه يكرهك كما تظنين يا نانسي .. أعتقد بأنه ناضج كفاية حتى ينسى شجاركما
حدقت به للحظات قبل أن تقول :- هل تحدثت معه عني ؟
قال بضيق :- ليس بالفعل .. كل ما في الأمر أنني قابلته صباحا في مكتبه .. وخلال حديثنا سألني عنك بشكل عابر .. إن كنت بخير في الظروف ا لحالية
سألته متجهمة :- وكيف أجبته ؟
:- بأنك كنت دائما قوية وقادرة على الوقوف في وجه الصعاب .. هل ظننت بأنني سأتكلم عن ظروفك حقا من وراء ظهرك ؟
هكذا إذن .. لقد كان قلقا .. يرغب بسماع أخبار عن يأسها وتعاستها .. قالت بجفاف :- لا .. أعرف بأنك لن تفعلها
نهضت قائلة :- سأعود إلى البيت .. إن بقيت في هذا المكان أكثر سأقتل أحدا
ثم أردفت ساخرة :- ألن تجن المدينة من الفرح إن فعلت ؟ فضيحتان خلال فترة قصيرة .. سيجد الناس الكثير ليثرثروا حوله
نهض بدوره وهو يقول بانزعاج :- هذا نوع سخيف من المزاح يا نانسي .. سأوصلك بسيارتي
:- لا تتعب نفسك
بعد تخليها القسري عن سيارتها وسائقها الخاص المكلف دائما بأخذها أينما شاءت .. لم يكن من السهل على نانسي السماح لأحد بإيصالها .. حتى ماهر .. أكملت قائلة :- سأسير إلى البيت .. أشعر برغبة في المشي
:- سأسير معك قليلا ثم أودعك
ظلا صامتين حتى خرجا من مبنى الكلية .. متجاهلين النظرات التي لاحقتهما خلال سيرهما .. وعندما استدارت لتودعه .. لاحظت شابا يقترب منهما .. يحيط به اثنين من رفاقه وفتاة رقيعة تتأبط ذراعه .. إنها تعرف هذا الشاب .. بل يعرفه جميع طلاب الكلية .. بسمعته السيئة .. وسيرته الممتلئة بالمشاكل الأخلاقية .. نفشت نفسها بكبرياء وقد أدركت بأنه يستهدفها .. وقبل أن تكمل تساؤلها عما يريده منها كان قد وصل إليها .. استدار ماهر نحوه متحفزا :- ما الذي تريده يا جابر ؟
لوى جابر فمه ساخرا وهو يقول :- لا تتوتر يا زميلي العزيز .. إنما أردت إلقاء التحية على ابنة الحسب والنسب
امتعض ماهر من مناداته له بالزميل :- ارحل من هنا وإلا ندمت
نظر جابر إلى نانسي التي كانت ترمقه بازدراء وقال متهكما :- الرحيل هو ما كان ينتظره الجميع من ابنة القصور المحترمة .. أن تختفي عن وجه الأرض بمجرد أن يوجه نحوها أحدنا كلاما .. ألا تجد الجرأة على رفع رأسها في وجه أي كان .. ولكنها أتت إلى هنا بكل صفاقة .. دون خجل مما فعله والدها .. أليست هي ابنة ذلك اللص الذي مات كالجرذ الحقير في السجن ؟
انتفض جسد نانسي بعنف عندما ذكر عبارته .. وغلى الدم في عروقها .. أمسك ماهر يدها بقوة محاولا تهدئتها .. بينما أكمل جابر :- ما الذي جئت تفعلينه هنا ؟ هه .. هل جئت تستجدين الأخرين طلبا للمال ؟ كي تأكلي .. أم لتحافظي على مظهرك الأرستقراطي ؟
ضيق عينيه .. واقترب منها وهو يرمقها بنظراته الصفيقة من راسها حتى أخمص قدميها وهو يقول بوقاحة :- أعرف طريقة سهلة وممتعة للغاية لكسب المال يا حلوتي .. حيث أن ...
وقبل أن يتم عبارته .. سقطت كفها على وجهه بصفعة عنيفة جعلته ينتفض بقوة .. ويرفع يده تلقائيا إلى وجهه الذي ارتسمت أصابع نانسي عليه .. وخلال لحظات احتقن وجهه وهجم محاولا الوصول إليها لولا أن اعترضه ماهر بجسده .. بينما كانت نانسي تقول بصرامة :- أنت هو الشخص الذي يحتاج إلى المال يا جابر ..اسمك جابر صحيح ؟.. جابر ونيس .. ومن لا يعرف الطالب الذي كاد يكمل عشر سنوات في الكلية دون أن يتخرج ؟ .. ولم يفعل إن كان يكسب رزقه من الإتجار بالممنوعات .. والنصب على الطلاب السذج .. أو التحرش بالفتيات .. أخبرني يا جابر .. أصحيح ما سمعته بأن والدك قد طردك من المنزل ؟ لأنه قد أبى أن يعترف بك ابنا حتى لا تجلب له العار ؟
أبعد جابر ماهر عنه .. وأصلح ثيابه وهو ينظر إليها بطريقة أخافتها حقا .. قال ضاغطا على حروف كلماته :- ستندمين كثيرا يا عزيزتي .. ستدفعين ثمن هذه الصفعة غاليا .. وأؤكد لك بأنني سأستمتع كثيرا وأنا أقبضه منك
مسح جسدها مجددا بنظراته القذرة .. قبل أن يرحل مع رفاقه .. وقفت نانسي للحظات تحاول طرد ذلك الشعور الذي جعل جسدها يقشعر .. هتف بها ماهر بقلق :- نانسي .. هل أنت بخير ؟
تمتمت :- أنا بخير .. أراك غدا يا ماهر
استدارت مبتعدة قبل أن يرى دموعها .. أو يراها أحد الجماهير التي اجتمعت لتشاهد الموقف .. فلم تر الشخص الذي وقف في طريقها .. والذي اصطدمت به بعنف سقطت على إثره كتبها على الأرض ..
انحنت تجمعها وهي تهتف بصوت مرتجف :- عفوا
وعندما اعتدلت .. رفعت عينيها لتر آخر شخص تمنت أن تراه في لحظة كهذه .. لقد كان محمود فاضل .. والأسوأ .. أن نظرته الحادة استقرت على الدمعة الوحيدة التي فرت رغما عنها من عينها
بدون أي كلمة إضافية .. انسحبت نانسي مسرعة .. قبل أن تتعرض لمزيد من الإهانات في هذا اليوم الصعب
الضحية

سارت نانسي لاول مرة على قدميها نحو منزلها .. لحسن حظها ان الطريق لم يكن طويلا .. ولكن لدهشتها .. فالطريق الذي تسير فيه للمرة الاولى خلب لبها بجماله وهدوئه .. إذ انها وما إن ابتعدت عن الطرقات الرئيسية .. دخلت في الشوارع الجانبية التي اصطفت على جانبيها المنازل الأنيقة والفخمة .. المحاطة بالحدائق الغناء .. أذهلها هدوء المكان الشديد .. إذ بدا وكأن لا أثر للحياة فيه .. فكرت للحظة بأن انفجار قنبلة وسط هذه المنازل لن يهز شعرة من سكانها .. خاصة لو كانوا على شاكلتها .. فهي ما اهتمت يوما بما يحدث حولها .. وبما يدور خارج منزلها الكبير .. منزلها الذي لن يعود كذلك قريبا
عندما وصلت أخيرا .. كانت متعبة للغاية .. وقد لاحظت عليها حنان هذا وهي تقول :- هل أسخن لك الغداء ؟
تمتمت نانسي بإرهاق :- لا يا حنان .. كل ما أريده هو أن أنام
كانت معتادة على مناداة حنان لها باسمها .. فحنان لم تكن أبدا مجرد خادمة عادية .. لقد ترعرعت في هذا المنزل إلى جانب نانسي عندما كانت والدتها تعمل فيه قبل وفاتها .. غادرت حنان عندما تزوجت لعامين .. ثم عادت بعد طلاقها لتعمل من جديد في المكان الذي لم تعرف غيره منزلا .. عندما دخلت نانسي إلى غرفتها .. وجدت لينا تجلس على حافة سريرها ممسكة بصورة والدهما .. كان وجهها البريء شاحبا .. وقد اختفى اللون الوردي الذي قلما فارق وجنتيها في الماضي .. وعيناها الزرقاوان كانتا حزينتين للغاية .. سألتها بهدوء :- كيف كان يومك في الجامعة ؟
كذبت نانسي قائلة :- لقد كان جيدا للغاية
جلست إلى جانبها وتناولت منها الصورة .. وأخذت تتأملها بدورها صامتة حتى سألتها لينا :- نانسي ... أمازلت تحبينه ؟
سألتها نانسي بحذر :- أتعنين أبي ؟
قرأت الإجابة في عينيها فقالت بهدوء :- طبعا ما زلت أحبه .. فهو بالرغم من جميع أخطاءه كان أبا رائعا ومثاليا .. ولم يقصر بحقنا قط
كتمت داخلها صوت هتف بحدة :- ألم يخطئ بحقكما عندما حطم حياتكما بما فعله ؟
رسمت ابتسامة على شفتيها وهي تقول :- هل تذكرين المرات التي كان يجلسك فيها على ركبتيه ويهزك كالطفلة قائلا بأنه لن يسمح لك أبدا بأن تكبري ؟ .. لقد كنت ابنته المدللة
تمتمت لينا قائلة :- لماذا أجد نفسي غير قادرة على مسامحته ؟
أحاطتها نانسي بذراعها بحنان وهي تقول :- ستسامحينه يا نانسي .. أنت تحتاجين فقط لبعض الوقت
صمتت لينا للحظات قبل أن تقول :- لا أستطيع العودة إلى المدرسة
وقبل أن تقول نانسي أي شيء انفجرت لينا قائلة بعنف :- لا أستطيع ان أواجه الناس أو زميلاتي في المدرسة .. أو معلماتي اللاتي كن يميزنني عن غيري بسبب أبي .. أنا لست بقوتك وشجاعتك يا نانسي .. أريد أن أبقى في البيت حتى ينسى الناس من هو سلمان راشد
أخذت تبكي بحرقة .. فما كان من نانسي إلا أن تمتمت :- ليس عليك أن تعودي إلى المدرسة حتى تشعري بأنك مستعدة لهذا
ثم نهضت قائلة :- أين أمي ؟
:- إنها في غرفتها .. تعاني من الصداع كالعادة .. وتنتظرك حتى تتحدث إليك
عندما دخلت نانسي إلى غرفة أمها .. وجدتها تعيد سماعة الهاتف إلى مكانها وعلى وجهها خيبة أمل كبيرة .. سألتها :- ألم تعثري على خالي بعد ؟
هزت رأسها نافية :- لا .. أنه لا يرد على هاتفه المحمول .. أو على هاتف منزله في مارسيليا
جلست نانسي إلى جوارها على الأريكة التي توسطت الغرفة .. خالها فوزي هو القريب الوحيد الذي بقي لهم .. فوالدها يتيم بلا أخوة .. وجداها لوالدتها متوفيان منذ سنوات .. سألتها نانسي بقلق :- كيف تشعرين اليوم ؟
ابتسمت أمها بشحوب وهي تقول :- أفضل بكثير
ولكن نانسي كانت تعرف بأن أمها تكذب .. فمنذ وفاة والدها ووالدتها تذبل كما لو أنها لم تعد تجد سببا لتعيش لأجله
تمتمت :- أخبرتني لينا بأنك أردت رؤيتي
اعتدلت أمها وهي تقول بجدية :- هذا صحيح .. يجب أن نتحدث عن تركنا لهذا البيت يا نانسي .. يجب أن نجد مكانا آخر يأوينا في أقرب وقت
سألتها نانسي بحذر :- وهل لديك أي اقتراحات ؟
:- أنت تذكرين منزل الشاطئ الذي يمتلكه خالك .. لقد ذهبنا إليه عدة مرات برفقته .. أظن من الأفضل أن ننتقل إلى هناك لفترة من الزمن .. حتى ينسى الناس قصة والدك على الأقل .. قبل أن نعود من جديد ونختلط بالمجتمع كغيرنا من الناس
اتسعت عينا نانسي وهي تقول :- هل تريدين منا أن نهرب يا أمي ؟
بدا الألم على وجه أمها وهي تقول :- نعم يا نانسي .. نحن غير قادرين على مواجهة غضب الناس ونبذهم لنا .. فكري بلينا .. إنها صغيرة جدا على أن تساء معاملتها بسبب ما فعله والدها
نهضت نانسي وهي تقول بحزم :- لا .. أنا أرفض أن أهرب بهذه الطريقة .. على الناس أن يتقبلونا كما نحن .. بل وأن يحترمونا أيضا
أمسكت بيد أمها وهي تقول برجاء :- أرجوك يا أمي .. لا أريد أن نبدأ حياتنا الجديدة بالهرب كالجبناء .. امنحيني فرصة واحدة فقط .. سنبحث عن شقة صغيرة في أي حي بسيط .. وسأجد وظيفة ما .. لا بد أن يكون هناك من هو بحاجة إلى توظيف طالبة اقتصاد في السنة الثالثة
بدا الاعتراض على وجه امها ولكنها منعتها وهي تسرع في القول :- لا تعترضي يا أمي .. أعدك بأن الأمور ستتحسن
قالت الأم :- أنا من عليه البحث عن وظيفة .. يجب ألا تهملي دروسك قبل أن ...
قاطعتها نانسي بحزم :- لن تتعارض الوظيفة مع الدراسة .. أعرف الكثير ممن يعملون ويدرسون في الوقت نفسه .. وأنت غير قادرة على التفكير بالعمل حتى تتحسن صحتك
ترقرقت الدموع في عيني أمها الجميلتين .. وعرفت نانسي بانها تتذكر زوجها الراحل .. وتلومه على كل ما يحصل وإن أبت أن تظهر مشاعرها لبناتها ..
عندما خرجت من الغرفة .. وجدت نانسي حنان في انتظارها تقف في الممر .. فاقتربت تسألها :- هل من خطب يا حنان؟
قالت حنان :- نانسي .. أنا أعرف كل شيء عن ظروفكم الحالية .. وأعرف بانكن مضطرات لترك هذا البيت في وقت قريب
أحست نانسي بطعنة ألم لسماع الحقيقة .. ولكنها أخفت مشاعرها منتظرة ما ستقوله حنان التي أكملت :- أريد البقاء معكن ..أن أرحل معكن إلى أي مكان تقصدونه
استوعبت نانسي بسرعة ما تقوله حنان .. ثم أسرعت تقول :- كنت اتمنى هذا يا حنان .. أنت تعرفين بأنك فرد من العائلة .. ولكننا لن نعود بقادرين على دفع راتبك كالسابق
قالت حنان بهدوء :- أنت تعرفين جيدا يا نانسي بان راتبي لم يكن يوما سبب بقائي هنا .. فأنا لم أعرف غير هذا المكان منزلا .. وغيركم عائلة بعد وفاة أمي .. وبعد طلاقي .. أصبحتم فعلا آخر من تبقى لي .. لا مكان آخر أقصده إن رحلت من هنا .. كما انني لا أريد راتبا .. أريد الإقامة معكن .. والمساهمة في تحمل مسؤولياتكن الجديدة .. سأستمر في العمل .. في الطهي والتنظيف .. وإن اضطررت فسأعمل كي أساهم في مصاريف البيت
منعت نانسي نفسها من البكاء تأثرا بصعوبة وهي تقول بخفوت :- لست مضطرة لتقديم التضحيات للبقاء معنا يا حنان .. يكفي انك الانسان الوحيد الذي احبنا بصدق واعتبرنا عائلته
أشرقت عينا حنان وهي تقول :- هل هذا يعني أنني أستطيع الرحيل معكن ؟
أومأت نانسي برأسها .. فما كان من حنان إلا أن عانقتها بقوة .. مسحت نانسي دمعتها الفارة .. على الأقل .. هناك شخص على وجه الارض تستطيع الثقة به

:- وظيفة ؟؟؟؟
نطق ماهر بالكلمة باستنكار وهو ينظر إلى نانسي التي ردت بضيق :- نعم .. وظيفة .. أين الغريب في هذا ؟
قال ماهر صريحا كعادته :- في الواقع لم أتخيلك يوما كفتاة عاملة .. بل ..
لم يستطع إكمال عبارته .. ففعلت هي بلهجة حادة :- طفلة مدللة تحصل على كل ما ترغب دون جهد
هز كتفيه قائلا :- لم أقصد الإهانة .. بل قصدت بأن هذا ما تستحقينه .. على كل حال.. أنا لا أعرف حقا أين يمكن أن أبحث لك عن وظيفة مناسبة لك
قالت باهتمام :- ماذا عن شركة الاتصالات التي تعمل أنت فيها ؟ أما من مكان شاغر ؟
قال مفكرا :- لا أعرف .. سأستفسر عن هذا .. وإن شئت سأسـأل بعض معارفي عن أي وظيفة متاحة
قالت بامتنان :- سأكون شاكرة لك لمساعدتك لي
سألها باهتمام:- هل وجدت سكنا مناسبا ؟
هزت رأسها نافية :- أنا أبحث منذ أسبوعين دون جدوى .. لا أجد مكانا مناسبا لذوق أمي
لم تستطع إخباره بأن المشكلة تكمن في الإيجارات المرتفعة والتي لا تناسب وضعهم الجديد
قال بجدية :- هل تريدين أي مساعدة ؟
أسرعت تقول :- لا .. أنا أتدبر الأمر جيدا
لم تكن تريده أن يعرف التفاصيل الدقيقة لظروفهم الصعبة .. نهضت قائلة :- علي العودة إلى البيت قبل حلول الظلام
نهض بدوره قائلا :- وأنا لدي موعد بعد نصف ساعة
قالت مداعبة :- أهو موعد غرامي ؟
منحها ابتسامة باهتة وهو يقول :- لم أسقط إلى ذلك الدرك بعد
غادرا مبنى الكلية .. ثم انفصلا عند بوابة الجامعة كالعادة .. كانت نانسي تواظب على الدوام منذ 3 أسابيع .. دون أن تلاحظ أي تغيير في ردة فعل الطلاب .. ما زالت الأنظار تتجه إليها أينما سارت .. وما زالت التعليقات تلاحقها باستمرار .. والكل يتحاشاها ويرفض الاحتكاك بها .. لقد نسوا تلك الأيام التي كانوا يسعون فيها راكضين خلف رضاها
سارت كالعادة مشيا إلى البيت .. فقد أدركت بأنها يحب أت تنسى رفاهية التنقل بسيارات الاجرة اقتصادا في المصروف
كان الظلام قد بدأ يهبط عندما شعرت بأن هناك من يمشي قريبا منها .. وسرعان ما أدركت بأنه كان يتبعها .. أسرعت في المشي وقد انتابها إحساس كبير بالخوف والتوتر عندما سمعت صوت الخطوات يتسارع هو الآخر .. فكرت بعصبية .. إنها تتوهم .. لا أحد يطاردها .. مجرد شخص يسير إلى جوارها وسيتجاوزها حالا.. هي ليست خائفة .. إن تجرأ احد ما على مهاجمتها فستغرز أظافرها في عينيه .. شهقت عندما ظهر شبح ما امامها من أحد الشوارع الجانبية .. واعترض طريقها متعمدا .. توقفت مرغمة .. فتوقفت الخطوات التي كانت تلاحقها بدورها .. قالت بتوتر :- من أنت ؟ وماذا تريد ؟
سمعت ضحكة شريرة أثارت الرجفة في جسدها .. ثم صوت مألوف يقول :- إن الإجابة على سؤال ماذا أريد يا فتاتي .. يطول شرحه
تراجعت خطوة إلى الوراء وهي تهتف بتوتر :- من انت ؟
تمكنت من خلال ضوء النهار الذي بدأ يتلاشى من تبين ملامحه عندما اقترب .. لقد كان جابر
استدارت لتجد الشاب الثاني الذي كان معه ذلك النهار الذي صفعته فيه على مرأى من جميع الطلاب .. أدركت من البريق في عينيهما بانهما ينويان بها شرا .. تراجعت بعيدا عنهما وهي تقول :- ما الذي تريدانه مني ؟
قال جابر وهو يقترب منها :- دين قديم لي عليك يا عزيزتي .. أود استرداده الآن
كانت خائفة .. حقا خائفة .. حاولت إخفاء خوفها بالتظاهر بالشجاعة وهي تقول :- لا ديون لك علي يا جابر .. لقد أخطأت بحقي فرددتها لك .. نحن متساويان
قال بغضب :- لا يا ابنة القصور المدللة .. لسنا متساويان
استدارت محاولة أن تركض بعيدا .. إلا انه لحق بها .. أمسك بخصرها بقوة بين ذراعيه فصرخت بذعر .. ولكنه قال شامتا :- لن يسمعك أحد .. انا أراقبك منذ أيام .. و يا لحظي السعيد ..إن الطريق الذي تسلكينه عادة يكاد يكون مهجورا .. وحتى إن لم يكن فسكانه من الأثرياء أمثالك الذين لا يهتمون إن حدثت كارثة إلى جوار منازلهم الفخمة
قاومته بشراسة وهي تقول :- إياك أن تتجرأ على لمسي أيها القذر الوسخ .. إني أحذرك من مغبة ما تفعله
ضحك عاليا وهو يقول ساخرا :- من سيحاسبني يا أميرتي .. لقد انهارت مملكتك ولن تجدي من يسمع شكواك .. بل ستجدين الكل يشكرني على تلقين صاحبة السمو درسا في التواضع .. أعيدي علي ما قلته .. أنا أخطأت بحقك فرددتها لي .. وكيف فعلت هذا بالضبط ؟
لم تفكر قبل أن تصرخ به كالمجنونة :- صفعتك على وجهك .. وقد كان هذه أكثر بكثير مما تستحق إذ لوثت يدي بملمس وجهك العفن
اشعلت كلماتها غضبه الوحشي وهو يقول بحقد :- تعنين هكذا
هوى بيده على وجهها بصفعة قوية دفعتها لتسقط على الأرض بعنف وقد سالت الدماء من شفتيها .. رفعت عينيها إليه وقد اعترتها رجفة خوف حقيقية عندما أطل عليها قائلا :- هناك أمران لطالما رغبت بفعلهما طوال السنوات الثلاث الماضية
صرخت بألم عندما شعرت بقدمه تغوص بمعدتها .. فتلوت حول نفسها محاولة درأ نفسها من ضرباته .. ولكنه لم يسمح لها بالابتعاد .. جذبها من شعرها وصفعها مجددا بكل ما يحمله نحوها من حقد .. دارت الدنيا حولها وتشوشت رؤيتها .. فكرت وهي تذرف دموع الذل والألم بانه ليس الوحيد الذي يكن لها كل هذه الكراهية .. ربما جميع من تعرف .. لم يتوقف جابر لحظة واحدة عن إفراغ غضبه في جسدها الضعيف الذي فقد كل قدرته على المقاومة .. أخذ يصرخ بها دون أن يتوقف عن ضربها :- منذ ثلاث سنوات .. دخلت إلى الكلية .. ونظرت إلى الجميع وكأنهم حشرات .. ليس لهم الحق في استنشاق نفس الهواء الذي تستنشقينه .. الكل كان يعرف من أنت وابنة من .. أحدهم لم يجرؤ يوما على مواجهة غرورك وبطشك .. كل من يقف في طريقك تكون نهايته إما الطرد من الجامعة .. أو النبذ من جميع الطلاب .. الكل كلن يسعى خلف رضاك .. خلف ابتسامة منك .. والآن .. أنت لا شيء على الإطلاق ..والدك الذي كنت تحتمين وراءه مات حقيرا في سجن قذر .. نعم .. لقد كان لصا وضيعا كسب ثروته من أموال الناس .. أما آن الوقت لتعرفي قيمتك الحقيقية ؟ .. إنه لشرف عظيم أن أقوم أنا بهذه المهمة .. أن أجعلك تدركين أي حثالة أصبحت
سالت دموعها بغزارة .. لم تتخيل يوما أنها ستتعرض لهذا النوع من الذل والإهانة .. ما آلمها أكثر هو أن كل ما كان يقوله كان صحيحا .. ألهذا استحقت حقد زملاءها جميعا ؟ .. أ لأنها كانت دائما تعاملهم وكأنهم خلقوا أقل مرتبة منها ؟ ..
ولكنها لم تقصد هذا .. لقد عاشت دائما بهذه الطريقة دون أن يوجه لها أحدهم انتقادا .. إنها لا تستحق كل هذه المذلة ..
انكمشت وهي تهمس :- لم أقصد هذا .. أقسم بأنني لم أقصد هذا
لم يسمعها جابر .. فقد خاطبه زميله متوترا :- أسرع يا جابر .. ماذا إن رآنا أحد ؟
قال بخشونة :- لم يبدأ الجزء الممتع بعد يا جميل
اقترب منها مجددا وهو يسحبها إليه ويقول :- أما الشيء الثاني الذي لطالما رغبت بفعله .. هو هذا
مزق قميصها بحركة حادة .. إلا أنها لم تستطع أن تقم بأي حركة مقاومة .. فقد أصيب جسدها بما يشبه الشلل .. وبدأ وعيها يتسرب منها ببطء دون أن تتوقف دموعها للحظة وهي تشعر بأنفاسه الكريهة تلفح وجهها وهو يقول :- لو تعلمين ما الذي كان رؤيتك تفعله بي وأنت تسيرين بهذا الجسد الجميل بين أروقة الكلية .. لقد رغبت بك منذ رأيتك أول مرة .. ووعدت نفسي بأنك ستكونين لي ..ههه .. هل تعلمين بما كان الطلاب يلقبونك ؟.. بالفتاة المحرمة .. كان هذا اللقب ما يزيد رغبتي بك .. ويسعدني أن أنتزعه منك ما أن ....
لم تكن تعي ما يقوله .. كانت تسمع صوته بعيدا وهي تعجز حتى عن رؤيته من خلال عينيها اللتين أغشتهما الدموع .. ولكنها سمعت صديقه يصرخ بشيء ما .. ثم توالت الأصوات المختلفة .. ضجيج وصراخ .. لم تع إلا بأن الهدوء قد عم المكان فجأة .. وساد الصمت من حولها
كان الجو باردا للغاية .. فأخذت ترتعش بضعف وخوف .. وعندما أحست بيدين تمسكان بها .. شهقت بذعر ووجدت القوة لتصرخ :- اتركني .. لا تلمسني
سمعت صوتا غريبا يقول لها بدفء :- اهدئي .. ستكونين بخير
النبرة المهدئة في صوته فعلت فعلها .. إلا أنها همست بصوت مرتعش :- لا تؤذني .. أرجوك لا تؤذني
ضمتها ذراعان إلى صدر قوي جعل الدفء يسري في أوصالها المتجمدة .. سمعت الصوت يقول من جديد :- لا تخافي .. لن أسمح لأحد بأن يؤذيك بعد الآن .. أعدك بأنك ستكونين بأمان
كان آخر ما تذكرته قبل أن تغيب تماما عن الوعي .. هو أنها حقا أحست بالأمان
الهروب

فتحت نانسي عينيها وهي تشهق بعنف.. أسرعت امها إليها وهي تصيح بلهفة :- كيف تشعرين الىن يا حبيبتي ؟
خاطبت لينا :- اذهبي وأحضري الطبيب
للحظات .. وقبل ان تستوعب ما حولها .. تمنت لو أنها قد استيقظت لتوها من كابوس مريع .. إلا أ، الألم الشديد الذي شعرت به في كل جزء من جسدها جعلها تدرك بأن ما حدث لم يكن حلما .. لقد كان واقعا .. واقعا مرا ...دخل طبيب شاب ذو بسرة سمراء وعوينات دقيقة .. ابتسم وهو يخاطبها قائلا :- كيف حال مريضتنا الحسناء ؟
نظرت حولها إلى الغرفة البيضاء التي تشغلها .. وعرفت بأنها ترقد في أحد المستشفيات الباهظة التكاليف من رفاهية الغرفة الواسعة .. حاولت أن تنهض .. إلا أن ألما شديدا منعها .. قام الطبيب بفحصها وهو يقول :- ما من داع للقلق .. سينتهي الألم مع مرور الوقت .. والرضوض ستختفي دون أن تترك أثرا
رضوض ؟؟ تحسست وجهها بقلق بينما سألته والدتها :- متى تستطيع ابنتي مغادرة المستشفى ؟
:- من الأفضل أن تبقى تحت الملاحظة هذه الليلة .. لن تخسرن أي شيء وقد دفعت تكاليف إقامتها في الغرفة مسبقا
قالت الأم :- هل أستطيع البقاء معها الليلة ؟
صاحت نانسي بتوتر :- من الذي دفع التكاليف ؟
كانت تعرف مسبقا بأن أمها لا تمتلك ما يكفي من السيولة لتغطية تكاليف مكان باهظ كهذا .. تنحنح الطبيب قائلا :- سأعود بعد فترة لأطمئن عليك يا آنسة
غادر الغرفة فرفعت نانسي يدها بصعوبة لتمسك بيد أمها وهي تسألها بإصرار :- من أين لك بالمال يا أمي ؟ هل بعت شيئا من مجوهراتك مجددا ؟
ردت أمها بحيرة :- لا يا نانسي .. لقد اتصلوا بي يخبرونني بوجودك هنا .. فهرعت أنا ولينا إلى المستشفى كالمجانين .. لم أفكر بالتكاليف حتى نقلوك إلى غرفة خاصة فأخبروني بأنها قد دفعت من قبل شخص غريب لم يترك اسما
اقتربت منها أمها وربتت على شعرها بحنان وهي تقول :- لقد كدت أموت عندما رأيتك ممددة على السرير .. شاحبة للغاية والكدمات تغطيك .. انتابني إحساس بأنني كدت أفقدك لولا أن لطف الله وبعث من ينقذك .. ما الذي حدث يا نانسي ؟ أخبريني
نظرت نانسي إلى لينا التي كانت تقف جانبا وهي تكبت دموعها ومشاعرها .. فسالت دموعها وهي تتذكر المذلة التي شعرت بها أثناء تعرضها لاعتداء جابر الوحشي عليها .. سألت بخفوت :- من الذي أحضرني إلى هنا ؟ هل قابلته ؟
:- لا .. لقد أخبرني الممرضة بأن رجلا أحضرك إلى هنا وشرح بأن اثنين قد هاجماك .. وأصر على أن يراك الطبيب ثم غادر دون أن يذكر اسمه
ثم سألتها بقلق :- أيمكن أن يكون أحد الشابين الذين هاجماك ؟
هزت نانسي رأسها قائلة :- لا .. لقد كانا اثنين من الحاقدين .. هاجماني عارفين من أكون
سالت دموعها وهي تقول :- لقد أرادا إذلالي بأبشع طريقة يا أمي .. لولا وصول الرجل الذي أنقذني .. لا أعرف ما كلن ليحصل
أخذت تبكي بحرقة لم تعرفها إلا يوم وفاة والدها .. مما دفع لينا للبكاء بدورها وهي تضمها .. أما أمها فقد مسحت دموعها وهي تقول :- لقد سألنا الطبيب إن كنا نرغب في إبلاغ السلطات بالحادث .. وتقديم أي شكوى .. ما رأيك يا نانسي؟
تمتمت نانسي :- لا يا أمي .. لا نريد المزيد من الفضائح .. على كل حال أنا لم أعرف أي من الشابين
كذبت على أمها حتى تنهي قلقها وتفكيرها بالأمر .. تمتمت أمها بألم :- آه لو تعرف يا سلمان ما يحدث لبناتك بسببك
همست نانسي :- أمي .. أما زلت تودين الانتقال إلى منزل الشاطئ ؟؟؟
عندها .. سالت دموع أمها بغزارة .. إذ أدركت بأن ابنتها القوية قد اقتنعت أخيرا بضرورة الهرب
الهرب بعيدا
حياة جديدة
انتهت نانسي من توضيب ملابسها داخل الدولاب الخشبي القديم واستدارت نحو لينا التي جلست على سريرها تحاول توضيب أغراضها هي الأخرى دون نجاح فابتسمت قائلة :- دعيني أساعدك يا لينا
قالت لينا وهي تحاول طوي أحد قمصانها وهي التي لم تضطر يوما للقيام بأي عمل منزلي :- لا .. أستطيع القيام بهذا وحدي
نظرت إليها نانسي بحنان وهي تنهض .. إلا أنها سرعان ما تأوهت عندما عاد الألم في بعض عضلات جسدها والذي لم يختفي بعد رغم مرور أسبوع على الحادث
تأملت الغرفة الصغيرة التي تضمها هي وأختها .. كانت متواضعة للغاية .. مكونة من سريرين صغيرين .. منضدة زينة صغيرة .. ودولاب خشبي .. لقد انتقلت مع عائلتها إلى هنا منذ يومين فقط ..إلى منزل الشاطئ الخاص بخالها .. والواقع في منطقة امتلأت بالمنازل المتشابهة المرصوفة على الشاطئ الرملي .. والتي تقع على بعد كيلو مترين من مدينة ساحلية صغيرة تعتبر أحد معالم السياحة في فصل الصيف ..
أما في هذا الوقت من السنة .. حيث انتصف فصل الشتاء وانخفضت درجة الحرارة عن الحد المحتمل بكثير .. فقد كانت المنطقة خالية تماما .. المنازل المجاورة كانت مهجورة وكأن الأشباح قد احتلتها .. اعتماد العائلة في التدفئة كان معتمدا على المدفأة الكهربائية التي بالكاد كان تبث شيئا من الدفء حولها رغم صغر مساحة المكان
الشقة كانت مكونة من غرفتي نوم احتلت الأم الرئيسية منهما .. وغرفة جلوس بسيطة مكونة من أريكتين قديمتين ومنضدة صغيرة للطعام .. حنان كانت تحتل هذه الغرفة أثناء الليل رغم إصرار السيدة مريم على أن تشاركها غرفتها المكونة هي الأخرى من سريرين ..
دخلت نانسي إلى المطبخ المتواضع حيث وجدت حنان تقوم بعملية تنظيف دقيقة.. ضحكت قائلة :- على مهلك يا حنان .. ستتعبين نفسك بهذا الشكل
مسحت حنان العرق عن جبينها .. ثم تابعت التنظيف قائلة :- لم يستعمل أحد هذا المكان منذ فترة طويلة .. أقل ما يمكننا فعله هو تنظيف المطبخ جيدا كي نتمكن من الطبخ فيه
هزت نانسي كتفيها يائسة من إقناع حنان بالتروي .. فهي تعرف هوسها الشبه مرضي بالنظافة .. خرجت من المطبخ إلى غرفة الجلوس حيث اقتربت من النافذة .. وتاملت المشهد الساحر للبحر الهائج الأمواج .. ومن بعيد كانت الجبال مكسوة تماما بالثلوج .. تساءلت إن كانت ستبقى هنا حتى حلول الصيف .. وإن كانت سترى هذا المشهد مكسوا بالخضرة
استدارت بحدة عندما سمعت صوت تأوه أمها .. التي كانت تقف عند باب غرفتها ممسكة برأسها :-أمي .. هل انت بخير ؟
ردت عليها أمها وهي تبتسم بشحوب :- أنا بخير .. إنه ذلك الصداع مجددا .. ربما بسبب تغير المكان ... سأدخل لأنام قليلا عله يهدأ قليلا
لم يبد على نانسي الاقتناع بتظاهر امها بالعافية وهي ترى شحوب وجهها .. سألتها أمها قبل أن تدخل إلى غرفتها :- متى ستذهبين إلى المدينة ؟
:- صباح الغد .. سأشترى ما ينقصنا من مستلزمات البيت .. ثم أبدأ بالبحث عن وظيفة
قالت أمها بقلق :- لن تجدي وظيفة لائقة في مكان كهذا .. نحن لسنا في حاجة إلى عملك الآن يا نانسي
قالت نانسي بعناد :- سنحتاج إليه عاجلا ام آجلا .. ومن الأفضل لي أن أعتاد على العمل
وبالفعل .. مع بزوغ شمس الصباح التالي .. قطعت نانسي المسافة التي تفصلها عن المدينة سيرا على الأقدام .. كان الطريق طويلا للغاية .. مما جعلها تصاب بالإرهاق الشديد .. وبالعرق يتسرب منها رغم درجة الحرارة المنخفضة .. كانت قد ارتدت ملابس أنيقة إنما دافئة كي تعطي انطباعا جيدا لدى الناس .. وعندما وصلت .. كانت على وشك الإغماء من فرط التعب ..
المدينة كانت في أوج نشاطها رغم الوقت المبكر .. فالمتاجر الصغيرة كانت قد فتحت أبوابها وكانها كانت تعمل طوال الليل ... ولكن نانسي كانت تعرف بان السكان هنا يتركون اعمالهم ويعودون إلى بيوتهم فور غياب الشمس .. ثم ينهضون عند الفجر لمزاولة اعمالهم من جديد
كانت المدينة جميلة ببيوتها الصغيرة ذات السقوف المصنوعة من القرميد الاحمر .. والحدائق التي تعرت أشجارها .. وخلت تماما من العشاق الذين اعتادوا ارتيادها .. كان هناك الكثير من المطاعم والمنتزهات التي تمتلئ بالسياح صيفا .. انتشرت متاجر بسيطة للثياب والادوات المنزلية .. والتحف والهدايا .. كان اول انطباع لديها هو انها احبت المكان .. وتمنت لو لم يكن منزل الشاطئ بعيدا إلى هذا الحد .. لاستمتعت امها كثيرا في قضاء الوقت بين جوانب هذه المدينة المرحبة
في نهاية اليوم .. عادت نانسي إلى البيت قبل حلول الظلام دون ان تحصل على مرادها .. وكذلك في الأيام الثلاثة التي تبعتها .. كانت تشتكي من الامر لوالدتها بينما هم يتناولون طعام العشاء في إحدى الامسيات .. هتفت :- ما إن أدخل إلى أي مكان طالبة وظيفة حتى ينظر الجميع إلي وكأنني أحمل مرضا معديا
قال امها بحيرة :- أيكون السبب هو انك لم تحصلي على شهادتك الجامعية بعد أم افتقارك إلى الخبرة ؟
دخلت حنان وهي تضع إبريق الشاي على المائدة قائلة :- المياه تتسرب من أسفل مغسلة المطبخ .. هناك مشكلة ولكنني لا أستطيع معالجتها فلا خبرة لي بالسباكة
جلست معهن حيث اعتادت على مشاركتهن الطعام كفرد من العائلة منذ انتقالهن .. ردت نانسي على سؤال امها :- كيف يكون السبب عدم حصولي على الشهادة إن كانت الوظائف التي وجدتها أساسا لا تحتاج إلى شهادة جامعية ؟
سألتها امها بحذر :- ما هي الوظائف التي وجدتها بالضبط ؟
هتفت نانسي وهي تعد على أصابعها :- بائعة في متجر للملابس .. عاملة في مشغل للخياطة .. موظفة في مكتب عقاري ..
ساد صمت طويل في الغرفة .. فقد كان الكل يفكر بصعوبة تخيل نانسي تقوم بأحد هذه الأعمال .. قالت أمها بصوت مبحوح :- ربما لا تمتلكين الخبرة اللازمة لوظائف كهذه .. فأنت لم تعملي يوما
قالت نانسي بإصرار :- أسنطيع ان أتعلم .. عدم خبرتي لن يكون عائقا
تمتمت حنان بخفوت وكأنها تكلم نفسها :- بالتأكيد ليست هذه هي أسباب رفضهم لتوظيفك
التفتت نانسي إليها بحدة وهي تقول :- ماذا تعنين ؟
قالت حنان وهي تهز كتفيها :- طبعا لن يقبل أي كان توظيف شابة تبدو وكأنها قد خرجت من إحدى مجلات الأزياء
عبست نانسي محاولة استيعاب كلمات حنان التي أوضحت :- عندما تذهبين إلى القرية بأناقتك المعهودة .. فإن أي شخص يستطيع بمجرد النظر إليك حتى من بعيد .. أن يدرك بأنك ابنة نعمة .. فتاة ثرية كان أكثر ما فعلته في حياتها صعوبة هو تقطيع شريحة اللحم بالشوكة والسكين
ابتلعت نانسي الإهانة .. وفكرت قائلة :- كيف لم أفكر بهذا من قبل ؟
صباح اليوم التالي شهد تغييرا جذريا في مظهر نانسي .. فقد تخلت عن ملابسها الأنيقة الباهظة الثمن .. وعن تسريحة شعرها التي تجعلها تبدو وكأنها خارجة من عند المزين .. وارتدت سروالا ضيقا من الجينز الباهت اللون .. وكنكزة بيضاء برقبة عالية .. ارتدت فوقها معطفا عاديا أخضر اللون .. ورفعت شعرها على شكل ذيل حصان .. وتخلت عن زينة وجهها تماما .. ابتسمت حنان وهي تخرج برفقتها قائلة :- هكذا أفضل .. لقد بذلت كل جهدك .. إلا أنك لن تستطيعي أبدا أن تمحي الرقي من ملامحك .. أو نظرة الكبرياء عن عينيك
قالت نانسي بخشونة :- هذا كل ما لدي
هذا الصباح رافقتها حنان كي تحضر أغراضا للبيت .. وفي الطريق قالت نانسي :- حنان .. أطلب منك الاهتمام بوالدتي .. فهي لا تبدو لي بخير
وافقتها حنان قائلة :- دائما متعبة وتعاني من الصداع .. لا تقلقي يا نانسي .. تعلمين بأنني سأهتم بها كما لو كانت أمي
ذلك المساء .. عادت نانسي إلى البيت مسرورة .. دخلت وهي تصيح :- فليسجل التاريخ أن نانسي راشد قد حصلت على أول وظائفها
صاحت لينا بلهفة :- حقا .. وماهي ؟
تنحنحت وهي تنظر إلى الوجوه المترقبة قائلة بحرج :- هل تعدن بألا تضحكن ؟
ثم قالت :- عاملة في مخبز للحلوى
انفجرت لينا وحنان ضاحكتين بينما اشتعلت هي غضبا قائلة :- لقد وعدتن بألا تضحكن .. بما أنني تعبت كثيرا في البحث عن وظيفة .. فقد قبلت بأول عمل أتيح لي
قالت أمها بضيق :- لقد سبق وـخبرتك يا نانسي .. لسنا بحاجة إلى عملك في الوقت الحالي .. لست مضطرة لشغل أعمال كهذه
عادت نانسي تقول بعناد :- لقد سبق وأخبرتك يا أمي بأن هذه اللحظة ستأتي عاجلا أم آجلا .. ولتكن آجلا كي أعتاد على مشقة العمل
تنهدت أمها قائلة باستسلام :- احكي لنا عن عملك الجديد إذن
جلست إلى جوار أمها وهي تقول :- إنه مخبز صغير تديره امرأة مسنة .. تقوم بصنع الخبز والكعك والفطائر وبعض أصناف الحلوى .. وتحتاج إلى فتيات شابات للعمل لديها
سألتها أمها بحدة :- أنت لا تعرفين شيئا عن الخبز .. ما الذي ستفعلينه هناك ؟
قالت نانسي بعناد :- سأتعلم
في تلك الليلة .. عندما خلد الجميع إلى النوم .. تسللت حنان إلى غرفة نانسي بينما كانت على وشك الاستغراق في النوم .. سألتها بقلق :- ما الأمر يا حنان ؟
اقتربت حنان قائلة :- نانسي .. أرغب بمرافقتك صباح الغد إلى القرية للبحث عن عمل أنا الأخرى .. أنا فرد من العائلة الآن .. ولا يمكن أن أبقى مكتوفة اليدين وأنا أراك تركضين بحثا عن عمل
قالت نانسي بهدوء :- أشكرك على نبل أخلاقك يا حنان .. ولكنني أحتاج إليك هنا .. فأمي متعبة .. ولينا صغيرة .. وانا لا أثق إلا بك في العناية بهما في غيابي
كان كلامها مقنعا .. فلم تستطع حنان الاعتراض ..
في صباح اليوم التالي بدأت نانسي عملها في المخبز .. لم يكن بالعمل السهل .. ولكنه كان ممتعا أن تتعرف إلى نوع جديد من الحياة .. صاحبة العمل كانت امرأة في الخمسينات .. ممتلئة الجسم وعصبية المزاج .. كانت تقضي الوقت في الصراخ على الفتيات كي يقمن بعمل متقن .. أما الفتيات فقد كن 3 غير نانسي .. قرويات متفاوتات في العمر .. وكان من الواضح أن صاحبة العمل .. كانت تفضل تشغيل الصغيرات في السن ليسهل عليها التحكم فيهن .. في ذلك الصباح .. كانت الحصة الأكبر من الصراخ والتوبيخ من نصيب نانسي .. التي لم تكن تعرف أي شيء عن العمل .. ولكن سرعان ما بدأت تتعلم .. وقد كساها الطحين من رأسها حتى أخمص قدميها
في نهاية اليوم .. خرجت منهكة ومصدومة من الفرق الشديد في درجة الحرارة بين داخل المخبز وخارجه ... لفت عنقها بالشال السميك .. وغطت رأسها بالقلنسوة الصوفية الحمراء .. وضمت معطفها إليها .. واستقلت الحافلة التي تتوقف في طريقها عند المنعطف المؤدي إلى منزل الشاطئ ..حيث أكملت طريقها سيرا على الأقدام
عندما دخلت إلى البيت كانت مرهقة تماما .. إلا أن الحماس أنساها التعب .. وأخذت تحكي لأمها أحداث يومها الأول في العمل محاولة إقناعها بحسن اختيارها للوظيفة .. ثم قامت تحضر العشاء مع حنان حيث أحضرت معها بعض الخبز الطازج من المخبز
وما أن أنهت عشاءها حتى جرت قدميها جرا نحو السرير .. وغابت في نوم عميق
هكذا كان حالها طوال الأيام الأولى .. بدأت تحب عملها .. وتستمتع بالتحول الغريب لمكونات بسيطة إلى مخبوزات شهية الطعم والرائحة .. بل أنها أخذت تجرب صنع بعض أنواع الفطائر في البيت تحت عيني حنان المذهولتين .. كان الوقت الذي تقضيه مع عائلتها ينقص باستمرار .. حتى أنها في كثير من الأحيان كانت تذهب إلى فراشها مباشرة دون انتظار للعشاء
ذات مساء لاحظت بينما هي تسير نحو البيت سيارة فضية حديثة الطراز متوقفة أمام أحد المنازل المجاورة .. أثار الأمر فضولها لعدم إمكانية وجود مجنون آخر يفكر بالإقامة في مكان كهذا في الشتاء .. وعندما دخلت إلى البيت كانت حنان تعد العشاء .. والدتها كانت تطرز قطعة من القماش بينما جلست لينا على الأرض إلى جوار المدفأة تمارس هوايتها في الرسم
ألقت التحية ثم اتجهت نحو المطبخ .. كانت حنان تقطع الخضار عندما رفعت رأسها قائلة ببشاشة :- مساء الخير يا نانسي .. هل أحضرت معك الخبز ؟
قالت نانسي :- بالطبع .. أخبريني يا نانسي .. هل هناك ساكن جديد في المنطقة ؟.. لقد رأيت سيارة فضية تقف قريبا من هنا
أشرق وجه حنان وهي تقول :- آه .. ألم تعرفي بعد ؟ السيارة ...
لم تكمل عبارتها عندما سمعتا صوت لينا تناديهما .. ركضتا بسرعة لتجدا الألم ممسكة برأسها بألم شديد وتغمض عينيها بقوة .. أسرعت نانسي تصيح بذعر :- أمي .. ما الذي حدث ؟
تمتمت أمها بصعوبة قائلة :- لا تهتمي .. ليس بالأمر المهم
صاحت نانسي بحدة :- كيف تقولين هذا ؟ أنت تتألمين كثيرا ويجب أن يراك الطبيب
هتفت أمها بإعياء :- لقد خف الألم قليلا .. سآخذ دواءا للصداع وأخلد إلى النوم باكرا .. وفي الصباح سأكون بخير
ساعدتها حنان على دخول غرفتها .. بينما كان القلق يعصف بنانسي .. وعندما لاحظت الخوف الظاهر على لينا قالت تطمئنها :- لا تخافي يا لينا .. أمنا ستكون بخير
سألتها لينا باضطراب :- لماذا لا نأخذها إلى الطبيب ؟
:- إن لم تتحسن .. سنأخذها إلى الطبيب
خرجت حنان وهي تقول :- لقد نامت
جلست نانسي على الأريكة قائلة بقلق :- إن وضعها يقلقني .. كيف سأذهب إلى العمل وأتركها بهذه الحالة .. ماذا إن حدث لها شيء في غيابي ؟
قالت حنان بشقة :- لا تقلقي يا نانسي .. إنشاء الله لن يصيبها مكروه .. سأتصل بهاتفك المحمول عند حدوث أي طارئ وإن اضطررت .. فبإمكان جارنا أن يساعدنا
نظرت إليها نانسي قائلة بحذر :- جارنا ؟
:- إنه صاحب السيارة الفضية التي سألتني عنها .. وهو يقيم على بعد منزلين منذ أيام
صاحت نانسي وقد فارت الدماء في عروقها :- لماذا لن يخبرني أحدكم بأن هناك من سكن إلى جوارنا ؟ هل أنا آخر من يعلم أي شيء في هذا المكان ؟
قالت حنان :- نحن لا نراك يا نانسي .. فأنت تعودين كل مساء مرهقة تماما .. فتنامين فورا
نهضت نانسي وأخذت تجول في الغرفة وهي تقول بعصبية :- ماذا إن كان هذا الجار سيئا ؟
أسرعت لينا تقول :- إنه شخص لطيف يا نانسي .. يلقي التحية علينا كل صباح ويسألنا غن احتجنا أي شيء
أكملت حنان :- لقد أصلح مغسلة المطبخ .. وأوقف تسرب المياه .. إنه شخص طيب ويمكن الاعتماد عليه
كان الارهاق قد أخذ نانسي بقوة إذ بدأت بدورها تحس بالصداع .. تمتمت :- سنتحدث في هذا الشأن فيما بعد .. أنا بحاجة إلى نوم عميق
سألتها حنان بقلق :- ألن تشاركينا العشاء ؟
هزت رأسها قائلة :- لست جائعة .. تأكدي فقط بأن لينا قد أكلت جيدا .. تصبحون على خير
وما أن وضعت رأسها فوق وسادتها .. حتى تلاشت مخاوفها .. وغابت في نوم عميق
جاري الغامض
بالكاد كانت نانسي قادرة على الوقوف أثناء عجنها العجين .. بينما كانت صاحبة المخبز تصرخ بها بين الحين كلما ضبطتها مغمضة لعينيها وكأنها تسترق لحظات من الراحة خلال نهار العمل المتعب .. رفعت ذراعها لتمسح العرق الغزير عن جبينها بكم قميصها .. ثم عادت تكمل عملها .. غادرت في نهاية النهار متشوقة للعودة إلى البيت والتمدد في فراشها الدافئ .. داخل الباص .. استسلمت لإرهاقها الشديد .. وأغمضت عينيها في غفوة قصيرة .. انتهت عندما نبهها السائق إلى وصولها إلى وجهتها اليومية
ترجلت من الباص .. وسارت نحو البيت وهي تشعر وكأنها تسبح شبه واعية .. شعرت بأن الطريق يزداد طولا وأنها لن تصل أبدا إلى البيت .. وعندما وصلت أخيرا .. ترنحت وهي تتشبث ببوابة المنزل .. وخلال لحظات كانت قد تهاوت على الأرض فاقدة للوعي .. وللإحساس بما حولها تماما

عندما فتحت نانسي عينيها أحست بالبرد الشديد .. وبجسدها يرتعش بقوة رغم البطانيات التي غطتها من عنقها حتى أخمص قدميها .. الألم كان شديدا في حلقها حتى كانت تجد صعوبة في بلع ريقها .. سمعت صوت أمها تقول :- افتحي فمك يا عزيزتي
رفعتها ذراع دافئة كي تتمكن من فتح فمها وتلقي الدواء المر .. ثم همست بضعف :- ما الذي حدث ؟
قالت أمها بحنان :- لقد أصبت بالأنفلونزا يا حبيبتي .. وسرعان ما ستشفين .. لقد وصف لك الطبيب بعض الأدوية ونصح ببقائك في الفراش دافئة حتى تتحسني
تمتمت :- وماذا عن العمل ؟
صاحت أمها بغضب :- ألا تفكرين إلا بالعمل ؟ فكري بنفسك .. لقد قال الطبيب بأن سبب مرضك هو إرهاقك لنفسك وانتقالك المتكرر من جو شديد الحرارة إلى آخر شديد البرودة دون أن تدفئي نفسك جيدا .. أنت حتى لا تأكلين كما يجب من فرط الإرهاق
كانت هذه هي المرة الأولى التي ترى فيها أمها في هذه الحالة من الغضب .. بعد دقائق أحضرت حنان لها شرابا دافئا وساعدتها على احتسائه وهي تقول فور مغادرة أمها :- الحمد لله أن جارنا كان موجودا
تمتمت نانسي :- جارنا ؟
:- جارنا الجديد .. لقد أخبرتك عنه من قبل .. لقد وجدك فاقدة الوعي في الخارج فأدخلك وأحضر لك الطبيب ثم ذهب لإحضار الأدوية بنفسه .. إنه شاب ممتاز للغاية
شعرت نانسي بالغيظ للطريقة المحرجة التي قابلها فيها الجار الجديد لأول مرة .. سألتها :- ما الذي يفعله هذا الجار في مكان نائي كهذه ؟.. هل هو من سكان المدينة ؟
:- لا .. لقد جاء في إجازة .. وسيبقى لأسابيع قادمة .. وقد استأجر أحد البيوت المجاورة لقضاء وقت هادئ ومنعزل عن الناس .. إنه شاب وسيم للغاية وأعزب
غمزت بعينها لنانسي التي قالت ساخرة :- أي أنه سيشكل زوجا جيدا لك بعد السنوات التي قضيتها مع نبيل
عبست حنان قائلة :- لا يمكنك أبدا مقارنته بنبيل .. كما أنه لن ينظر إلي أنا على الإطلاق .. بل إلى فتاة توازيه رقة ورقيا .. مثلك أنت ..
لهجتها جعلت نانسي تقول بإعياء :- توقفي عن مدحه أمامي .. عندما أفكر بالزواج أو الإيقاع برجل ما .. سأطلب منك النصيحة .. أما الآن .. فكل ما أريده هو أن أنام
استغرق شفاء نانسي بضعة أيام .. وكان اول ما فعلته فور شفائها هو أن ذهبت إلى المدينة لتتابع عملها رغم اعتراض والدتها .. وهناك .. كانت المفاجأة في انتظارها عندما وجدت فتاة اخرى تعمل مكانها .. صرحت صاحبة العمل بأنها لن تنتظرها حتى تتكرم وتعاود العمل عندما يطيب لها ذلك .. دفعت لها ما يحق لها من المال وأدارت لها ظهرها .. وعندما أرادت الخروج لحقت بها إحدى الفتيات قائلة :- لم ترغب السيدة بطردك .. إلا أن رجلا جاء ومنحها مبلغا كبيرا من المال مقابل أن توظف غيرك
عقدت نانسي حاجبيها قائلة :- من يكون هذا الرجل ؟
:- لا أعرفه .. قد يكون من طرف الفتاة الأخرى
عادت نانسي إلى البيت غاضبة .. ألقت المال على المائدة وهي تصيح :- أي فوضى هذه ؟ ما ان أغيب عن العمل لأيام بسبب المرض حتى يوظفون غيري
قالت أمها بهدوء :- في جميع الأحوال .. لم تكن هذه الوظيفة مناسبة لك
صاحت نانسي قائلة بغضب :- وماهي الوظيفة المناسبة في مدينة صغيرة كهذه ؟ هل عرضت علي وظيفة رئيس مجلس إدارة إحدى الشركات ورفضت ؟
قالت أمها بعناد :- لا بد أن تجدي وظيفة أفضل
جلست نانسي وهي تلتقط أنفاسها محاولة استعادة هدوئها فأكملت أمها :- على الأقل وظيفة أقل إرهاقا .. هذه المرة فقدت وعيك أمام البيت .. ماذا لو كنت قد سقطت في مكان بعيد دون أن يشعر بك أحد ؟.. لو لم يفكر جارنا بالمرور بنا مساءا للاطمئنان علينا حيث وجدك على الأرض لبقيت مكانك حتى يكتشفك أحد .. يجب أن تذهبي إليه وتشكريه فقد تعب كثيرا بسببك
شعرت نانسي بالضيق لفكرة أنها تدين لأحد بشيء ما .. تمتمت :- سأذهب لأشكره ما إن أتأكد من وجوده
أسرعت لينا تقول وهي تطل برأسها من النافذة :- سيارته موجودة
كتمت نانسي غيظها وهي تخرج للقاء الجار الغامض الذي أنقذ حياتها كما تحب أمها أن تقول .. سارت الأمتار الفاصلة بين بيتهم وبيته ..ومرت إلى جانب السيارة الفارهة والجديدة ..ثم قرعت جرس الباب عدة مرات دون أن تتلقى أي رد..
لم تعد فورا إلى البيت .. بل سارت عبر طريق جانبي نحو الشاطئ .. حيث اعتادت أن تهرب إليه كلما أحست بالانزعاج .. وقفت فوق الرمال الرطبة تنظر إلى البحر الهائج بسبب الهواء العاصف .. وضمت معطها إليها لتقي نفسها من برودة الجو وهي تفكر بما عليها فعله صباح الغد من بحث عن عمل جديد .. كانت الشمس قد أتمت الرابعة مساءا .. والشمس كانت تسير نحو مخدعها ببطء .. أجفلت عندما سمعت صوتا رجوليا يقول بهدوء :- الجو بارد للغاية هنا
استدارت بسرعة .. فاتسعت عيناها بشدة وهي تنظر إلى محدثها الذي أكمل :- وقد يؤذيك هذا نسبة إلى شفائك القريب من مرضك
عقد لسانها .. ولم تعرف ما تقول .. وبصعوبة خرج اسمه من بين شفتيها بصوت مختنق :- دكتور محمود
كان الدكتور محمود فاضل يقف أمامها كما عرفته دائما .. بثقة وكبرياء وحزم .. إلا أنه لم يكن يرتدي بذلته الثمينة الداكنة هذه المرة .. بل سروالا أسود وقميصا رماديا أسفل كنزة داكنة صوفية .. ثم معطف أسود طويل من الصوف الثقيل الغالي الثمن .. وقد أحاط عنقه بوشاح صوفي رمادي اللون .. حتى الآن .. لم يتخلى عن هيبته التي لطالما تمتع بها بالرغم من كونه أصغر أستاذ في الكلية
كانت تطل من عينيه نظرة متفحصة .. شملت كل جزء من ملامحها المصدومة ..وجسدها الذي أخذ يرتعش تحت المعطف السميك الذي ترتديه .. قال بهدوء :- كيف تشعرين الآن ؟
لم تستطع التفكير بسؤاله .. إذ سألته مذهولة :- أنت هو الجار الجديد
رد عليها دون أن يبتسم :- تبدين كمن تلقى لتوه خبر احتضاره .. أتزعجك رؤيتي إلى هذا الحد ؟
هزت كتفيها متظاهرة باللا مبالاة وهي تقول :- لماذا قد تزعجني رؤيتك ؟ المشاكل التي كانت بيننا لم تعد
مهمة بعد تركي للجامعة .. وأنت فعليا لم تعد أستاذي
عقد حاجبيه بشدة وهو يكرر :- تركت الجامعة .. أي قول سخيف هذا ؟.. ما هو تبريرك لقرارك الطفولي هذا ؟
قالت بغيظ :- لست مضطرة لتقديم أي تبريرات لك .. أو لأي شخص آخر
لم يرد عليها .. بل ضيق عينيه وهو ينظر إليها بإمعان وكأنه يحاول قراءة أفكارها .. بينما كان الغضب والانفعال يملآن نفسها بسبب معاملته لها وكأنها ماتزال طالبة لديه .. تساءلت عن سبب وجوده هنا .. من بين جميع الناس .. يتواجد هو هنا في هذا المكان .. دون غيره من الأماكن .. ترجمت أفكارها على شكل سؤال :- لم ينتهي الفصل الدراسي بعد يا دكتور محمود .. فما الذي تفعله هنا في هذا المكان بالذات
لوى فمه وهو يقول ساخرا :- من المؤكد بأنني لم آت إلى هنا لاحقا بك
تورد وجهها وقد أدركت بأنه قد قرأ أفكارها .. ولماذا قد يلحق بها شخص يكرهها كما تكرهه ؟ .. كما أن اكتشافه لمكان وجودها من المستحيلات إذ لا أحد على الإطلاق يعرف بهذا المكان .. حتى ماهر .. بل هي لم تتحدث إلى ماهر إطلاقا بعد حادث الاعتداء الذي تعرضت له بل سافرت على الفور حتى تنسى كل ما يذكرها بما حدث
قال بهدوء :- أنا في إجازة .. فالأساتذة بشر أيضا كما تعلمين .. ويحتاجون إلى فترة يبتعدون فيها عن أجواء العمل .. وعندما جئت إلى هذا المكان الذي سمعت بهدوئه وخلوته في هذا الوقت من السنة .. لم أتوقع أن أصادفك هنا .. هاربة من أعين الناس حتى قابلت والدتك .. وعرفت منها من تكون
صاحت بحدة :- أنا لست هاربة
قال بقسوة :- لماذا تختبئين هنا كالفئران بعيدا عن الناس إذن .. بل بعيدا عن أقرب أصدقائك
صاحت بعنف :- لا أصدقاء لدي .. ليس هناك من يستحق بقائي لأجله
:- وماذا عن ماهر ؟ على ما أظن تركت قلبه محطما ورحلت دون أن تخبريه حتى بمكان وجودك
حاولت السيطرة على انفعالاتها وهي تقول :- ماهر سيقدر بأنني فعلت هذا مكرهة
قال ببرود :- فعلته مكرهة ؟ .. أم اكتشفت بأنه ليس من النوع المفضل لديك .. وأنك ربما ستحتاجين إلى رجل أكثر ثراءا ليلملم نفسك المكسورة وكرامتك المبعثرة ؟
قالت بغضب :- ماهر مجرد صديق .. لطالما كان صديقا وفيا فحسب لا أكثر
قال ساخرا :- لا أعتقد بأنك كنت بالنسبة إليه مجرد صديقة .. الكل يعرف منذ البداية بأن ماهر مغرم بك حتى أذنيه .. وأنك تتلاعبين به لاستخدامه لأغراضك الخاصة
أحست بالغضب يكاد يعميها .. ولكنها تماسكت قائلة ببرود :- ليس من حقك أن تناقش حياتي الخاصة .. سواء كان ما تقوله صحيحا أم لا فهو ليس من شأنك .. وأنا لست مضطرة لقضاء مزيد من الوقت معك .. فلدي الكثير لأقوم به
تمتم بهدوء :- كالبحث عن عمل جديد مثلا
كانت تهم بالرحيل إلا أنها توقفت فجأة وهي تنظر إليه بريبة .. كيف عرف بتركها لعملها .. فهي لم تخبر أمها إلا منذ دقائق .. اتسعت عيناها وهي تقول :- أنت هو الرجل الذي تسبب بطردي
لم يظهر أي تعبير على وجهه الجامد .. وكأنه يعترف بفعلته .. لم تستطع كبت غضبها وهي تصيح :- بأي حق تفعل هذا ؟..كيف تجرؤ على التدخل في حياتي وتسيير أموري ضد رغبتي ؟
قال بصرامة :- بحق امك التي توسلت إلي بان أفعل ..أمك الإنسانة الرقيقة التي لن تحتمل ان تتعرضي لأي نكسة جديدة امامها .. لم تكوني واعية عندما أخذت تبكي محطمة وهي تراك على فراش المرض .. أم أن أمك لا تمثل لا أي قيمة هي الأخرى ؟..
قالت بغضب وقد برقت عيناها بشدة :- إياك ان تتجرأ وتتحدث عن علاقتي بأمي بهذه الطريقة مجددا .. وإلا فأنا أقسم على أنك ستندم
قال متهكما :- ما الذي ستفعلينه ؟ سترمينني في الشارع .. أم تسلطي المجتمع ضدي ؟
ابتلعت سخريته عندما ذكرها بتهديدها القديم والسخيف له .. سارت محاولة تجاوزه لتعود إلى بيتها .. إلا أنه أمسك ذراعها بحركة حادة جعلتها تشهق مجفلة .. رأته يعقد حاجبيه وهو ينظر إلى آثار كدمة أسفل خدها .. تمتم بقلق :- هذه الكدمة ....
لم يكمل .. بل مد أصابعه يتحسس مكانها فوق بشرتها الناعمة التي ارتعشت تحت ملمس انامله الرقيق .. صدمها الاهتمام الكبير الذي أطل من عينيه .. وصدمها هذا الاحساس الذي انتابها وجعل صوتها يرتعش وهي تقول كاذبة :- لقد اصطدمت بالباب
وقبل أن تتلقى أي تعليق .. كانت قد انسحبت هاربة ..
هاربة من ذكرى هذه الكدمة التي أصابتها تلك الليلة المشؤومة .. ومن نظرة عينيه التي تثير داخلها مزيجا غريبا من الغضب والحيرة .. والاضطراب والخوف
ابتعد!!

عمل نانسي الجديد كان أقرب إلى مزاجها .. فقد وجدت وظيفة كبائعة في متجر للثياب .. كان متجرا بسيطا متخصصا في بيع الملابس الشبابية البسيطة .. والرخيصة الثمن .. والمختلفة تماما عن النوع الذي اعتادت نانسي شراءه .. ولكنها لم تعد قادرة على شراء ما تحبه الآن ..
تعمل نانسي في المتجر منذ 3 أيام .. وأدركت منذ اللحظة الأولى بأن صاحب المتجر من النوع السيء الخلق .. فهو عصبي المزاج .. دائم الصراخ .. ولا يتردد في إطلاق الشتائم عند الحاجة .. أجبرت نانسي نفسها على الصبر .. وتجاهلت تذمره من عجزها عن إقناع الزبائن القلائل بالشراء .. ورددت لنفسها بأن هذا هو العالم الحقيقي .. كما تستطيع أي موظفة أخرى احتمال رئيسها السمج .. ستفعل هي
عادت في نهاية اليوم وهي تشعر باكتئاب كبير .. ربما لأن عملها الجديد يذكرها بوضعها القديم .. كلما دخلت زبونة متعالية .. وعاملتها بازدراء .. لقد كانت ذات يوم من ذلك النوع الذي يهوى التصرف وكأن العالم ملك لها .. لكم تحتقر نفسها الآن عندما تدرك أي إنسانة سطحية ومتعالية كانت .. هل كان عليها تلقي الصدمة تلو الأخرى حتى تعرف ماهي الحياة الحقيقية
عندما دخلت إلى البيت سمعت فورا صدى ضحكات أمها ولينا .. فأدركت بأن الدكتور محمود موجود هنا .. لقد أصبح ضيفا دائما في بيتهم المتواضع .. وقد تمكن من كسب ثقة وإعجاب أمها وأختها على الفور
كان هذا يشعرها بالغضب والحنق .. الدكتور محمود هو آخر إنسان أرادت أن يتقرب إلى عائلتها ويعرف دقائق ظروف حياتها .. لقد سبق وهددته على الملأ .. وهاهي تعيش حياة حقيرة .. ويا للذل .. إنه جارها الذي يعرف كل ما حاولت إخفاءه عن جميع الناس.. يعرف حقيقة صعوبة حياتها الحالية ..
هي متأكدة بأن تقربه المستمر من عائلتها ما هو إلا محاولة منه لإذلالها .. وكأنه يقول لها بأنها الآن بالنسبة إليه مجرد فتاة مسكينة جار عليها الزمان ..وقسى عليها القدر .. تمنت لو تستطيع الدخول إلى غرفتها دون أن يراها .. ولكنها مضطرة لمواجهته كما في كل مساء يزور فيه بيتهم الجديد المتواضع
أخذت نفسا عميقا .. ودخلت وهي تقول بهدوء :- مساء الخير
استدار الجميع نحوها .. شعرت بأن ضحكته قد اختفت وهو ينظر إليها متفحصا .. أستاذها القدير البارد الأعصاب دائما .. كان يرتدي سروالا من الجينز وكنزة زرقاء داكنة .. بدا أصغر سنا بملابسه البسيطة .. دون أن يفقد ذرة من هيبته . تساءلت عما يمكن أن يهز رباطة جأش أستاذها القدير البارد الأعصاب دائما ..قالت أمها ببشاشة :- تعالي وألقي التحية على الدكتور محمود يا نانسي .. لماذا لم تخبرينا بأنه أستاذك في الجامعة ؟
قالت بهدوء وهي تجلس في أبعد مكان عنه في الغرفة :- لم أجد ضرورة لهذا بما أنني تركت الجامعة .. وهو لم يعد أستاذي بعد الآن
اختفت ابتسامة أمها كما في كل مرة تأتي فيها نانسي على ذكر تركها للجامعة .. سألها الدكتور محمود بهدوء :- كيف هو عملك الجديد ؟
قالت ببرود :- جيد جدا .. لست مضطرا لدفع المال مجددا كي تتسبب بطردي منه
صاحت أمها بغضب :- نانسي .. اعتذري للسيد محمود .. إن ما فعله كان بطلب مني .. وليس من تلقاء نفسه
قال بهدوء مبطن بالسخرية :- اتركيها يا سيدتي .. يسعدني أن أجد بأنها ما زالت تمتلك روحا قتالية بعد كل ما تعرضت له
هي وحدها التي فهمت المغزى الخفي لكلامه .. إذ كان يقصد بأنها ما زالت تمتلك الجرأة على رفع صوتها في وجهه أو وجه أي كان بعد الخزي الذي تعرضت له .. ألن تكون شماتته بها كبيرة في حال عرف باعتداء جابر عليها بالضرب ؟ ..
هتفت لينا بسرور :- نانسي .. الدكتور محمود يظن بأن مستقبلا باهرا ينتظرني في الرسم
تمتمت بجفاف :- بالتأكيد يا عزيزتي .. بالإذن
انسحبت إلى غرفتها وقد منعت نفسها بصعوبة من صفق الباب ورائها بقوة .. تدرك نانسي تماما ما يفعله ذلك الرجل .. إنه يصبح جزءا من عائلتها شيئا فشيئا
أصبح لا يمر يوم دون أن يقضي جزء منه برفقة لينا أو أمها .. أمها تجد فيه الابن الذي لم تنجبه مع أن فارق السن بينهما بالكاد تجاوز العشر سنوات
ولينا تجد فيه الأخ الأكبر .. أو البديل عن والد تركها مبكرا في وقت تحتاج فيه بشدة إلى الإحساس بحماية رجل
إنه يسحب البساط من تحت قدميها تدريجيا .. ويحل محلها بين عائلتها بينما تتلاشى أهميتها مع وجوده
سمعت طرقات على الباب .. ففتحته لتجد حنان تقول ببشاشة :- هل أحضر لك بعض الحلوى ؟؟ لقد أحضر الدكتور محمود معه حلوى شهية جدا بالجبن
:- لا شكرا
هذه المرة .. صفقت نانسي الباب بكل قوتها .. لقد طفح الكيل
\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\ \\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\ \\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\

يا آنسة .. لقد وصلنا إلى وجهتك .. ألن تنزلي
صحت نانسي من شرودها على صوت سائق الحافلة .. وتنبهت بأنها قد وصلت فعلا إلى وجهتها .. ترجلت من الحافلة وسارت بخطوات بطيئة عبر الطريق المؤدي إلى منزل الشاطئ .. دخلت لتجد المكان هادئا مما أصابها بالقلق .. أين الجميع ؟ .. دخلت إلى المطبخ لتجد حنان منهمكة في الطبخ فسألتها :- أين أمي ولينا ؟
:- خرجتا تتمشيان قليلا
التفتت إليها حنان قائلة بحيرة :- ما الذي عاد بك باكرا هذا النهار
ردت نانسي باقتضاب :- لقد تركت العمل
:- ماذا ؟ ولكن لماذا ؟ ظننت بأنه قد أعجبك
ردت نانسي بجفاف :- لقد كنت مخطئة
لم تستطع إخبار حنان بأنها قد تركت العمل بعد أن طفح بها الكيل وفقدت قدرتها على احتمال غطرسة صاحب المتجر بذيء اللسان .. وأنها أمطرته في النهاية بسيل من الإهانات المتتالية التي تركته ذاهلا وكأنه لم يعتد أن تصرخ به امرأة .. ثم أهرقت إبريق الماء الذي يعلو مكتبه دائما فوق رأسه .. ثم رحلت بلا أي كلمة حتى عن مستحقاتها
لم يكن هناك شك في أن العمل مع رجل من ذلك النوع كان مزعجا للغاية .. ولكنها في الحقيقة خيبت أمل نفسها عندما فقدت أعصابها وتقمصت مجددا تلك الروح القديمة النارية ..
أي فتاة أخرى كانت تحملت في سبيل لقمة عيشها وصبرت على اضطهاد الرجل العجوز العنيد
كانت نانسي تعرف بأن الأعمال التي تقوم فيها في هذه القرية الصغيرة لا قيمة لها .. فهم ينفقون الآن من الأموال المتبقية لدى والدتها من بيع بعض مجوهراتها القديمة الموروثة عن عائلتها .. ولكنها لا تستطيع البقاء بدون عمل .. فعاجلا أم آجلا .. تلك النقود ستنتهي .. وسيحتاجون إلى مصدر جديد للدخل .. وكي تجده يجب أن تكتسب شيئا من التواضع وإلا فإنها أبدا لن تصمد في أي وظيفة
تنهدت وهي تسأل حنان محاولة نسيان الواقع :- ما هو عشاءنا هذا المساء؟
:- طعامك المفضل
شمرت نانسي عن ساعديها وأخذت تحاول مساعدة حنان في تقطيع الخضار أمام ضحكاتها :- لا بأي بك .. أنت تتقدمين
مسحت نانسي دموعها وهي تتابع تقطيع البصل قائلة :- متى تسنى لك النزول إلى القرية وإحضار كل هذه الأغراض ؟
:- لقد أحضر السيد محمود كل هذه الأغراض صباح اليوم .. وقد ..
لم تكمل كلامها عندما فوجئت بنانسي تلقي السكين من يدها وقد جرحت إصبعها وسال الدم ليلطخ أرض المطبخ .. استدارت نانسي وهي تقول بغضب :- ولماذا يحضر هو الأغراض ؟ لماذا لم يتصل بي أحد ويخبرني باحتياجات البيت لأحضرها معي ؟
قالت حنان بتوتر :- لقد أحضرها من تلقاء نفسه .. لم يطلب منه ..
بترت عبارتها مجددا عندما نزعت نانسي رداء المطبخ .. واندفعت كالعاصفة خارجة من البيت .. وسرعان ما كانت أمام باب بيته فقرعت الجرس بحدة تكاد لا تطيق صبرا للانفجار بغيظها في وجهه
عندما فتح الباب .. تلاشت كل عزيمتها عندما رأته واقفا بهيئته الصارخة الجاذبية .. كان يرتدي سروالا أسود وقميصا أبيض أظهر اكتمال بنيته العضلية .. ظهرت الدهشة في عينيه البندقيتين وهويقول :- أي مفاجأة هذه ؟ الآنسة نانسي شخصيا تشرفني بزيارة .. تفضلي بالدخول
تراجعت إلى الخلف برفض صامت للدخول .. قطعا هي لن تدخل منزل رجل غريب .. قالت بعصبية:- لم آت لأدخل .. بل لأقول بضع كلمات وأذهب
عقد حاجبيه متأملا حالتها العصبية .. ثم قال بهدوء :- هل أنت خائفة مني ؟
نعم .. هي خائفة منه .. ولم تعرف سببا لخوفها هذا .. أهو تأثير ذلك الحاذث عليها ؟ أم أن الشجار القديم الذي حصل بينهما هو ما يمنعها من الثقة به ؟ أم أنها تخشى أن تكتسحها سلطته وقوته فيخضعها كما أخضع والدتها وأختها ؟
قالت بحدة :- أنا لست خائفة منك
قال :- ستدخلين إذن وتخبرينني بمقصدك لأن الجو بارد وأنا أكاد أتجمد بردا
احمر وجهها عندما لاحظت بشرته الظاهرة من خلف أزرار قميصه المفتوحة .. وصدقت بأنه لا يرتدي ما يقيه البرد الشديد .. حتى هي لم كانت ترتعش بردا وقد نسيت معطفها في غمرة انفعالها وغضبها
أفسح لها الطريق فدخلت بتوتر .. نظرت حولها إلى المكان المشابه لتصميم بيت خالها .. إلا أنه كان أكثر ترتيبا وقد بدت الصيانة المستمرة واضحة في طلاء الجدران الجديد .. والأثاث الحديث .. والجو الدافئ الصادر عن مدفئة حديثة الطراز جعلتها تشفق على الآلة المسكينة التي أكل عليها الدهر وشرب والتي يعتمدون عليها هم في التدفئة
في صدر غرفة الجلوس كان هناك مكتب صغير تكومت عليه الكتب والأوراق فخمنت بأنها قد قاطعت عملا له .. قالت بتوتر :- آسفة لمقاطعتك عن عملك
قال من ورائها :- هيا نانسي .. لا تتظاهري بالتهذيب .. أنت تتحرقين شوقا لقول ما لديك والرحيل
استدارت إليه لتراه يغلق باب البيت ويلتفت نحوها بابتسامة تسلية .. شعرت بالغيظ لاستمتاعه بارتباكها .. فقالت مرة واحدة :- أريدك أن تبتعد عن عائلتي
لم يعلق .. ولكن ملامحه جمدت وهو ينتظر منها توضيحا .. فقالت بحدة :- لا أريدك أن تتقرب من أمي وأختي .. فهما ليستا بحاجة إليك
قال بهدوء وهو يبتعد عن الباب :- هلا أوضحت لي سبب رفضك لتقربي إليهما
تراجعت وهي تقول بتوتر :- إنهما تتعلقان بك أكثر وأكثر وتعتمدان عليك .. دون أن تدركا بأن سبب اهتمامك هو الشفقة .. لا أنا ولا عائلتي بحاجة إلى شفقتك
قال ببرود :- وعلى أي أساس افترضت بأنني أشعر بالشفقة عليهما ؟
صاحت ملوحة بيديها :- تتقرب إليهما .. وتشعرهما بأنك جزء من العائلة .. تشتري لهن أشياءا .. ليس هناك ما يدفعك للقيام بكل هذا إلا الشفقة .. نحن لا نحتاج إلى أي شيء منك يا دكتور محمود .. ربما من الأفضل أن تعود من حيث أتيت لأن وجودك غير مرغوب به بالمرة
قالت كلماتها العنيفة .. ثم أمسكت خصرها بكلتي يديها في انتظار رده .. اقترب منها قائلا بصرامة :- أنت مخطئة يا نانسي .. فأنا عندما أغادر هذا المكان فإنني سأغادره بملء إرادتي .. وليس لأن مدللة مثلك ترفض التأقلم مع حياتها الجديدة ترفض وجودي ... أما بالنسبة لوالدتك ولينا .. فما أشعر به اتجاههما هو كل المودة ولا يهمني إن لم تصدقي هذا .. أمك إنسانة رقيقة وطيبة .. وليس من الغريب أن تكسب احترامي.. ولينا طفلة مثيرة للاهتمام وذكية .. أشعر بأنها كأختي بالضبط .. وإن كنت قد قدمت بعض الخدمات لهما فهذا بدافع إحساسي بأنني أحد أفراد العائلة .. أما عن الشفقة .. فأؤكد لك بأنني أشعر بها اتجاه شخص واحد فقط .. وهو أنت
انتفضت نانسي عندما ازداد اقترابه وهو يقول بحدة :- أشعر بالشفقة عليك لأنك ترفضين الحياة في أرض الواقع .. ما زلت تشعرين بأنك ابنة القصور المدللة التي تأمر وتطاع .. تريدين أن تمارسي سلطتك على عائلتك بعد أن رفض الناس من حولك الاستمرار في تمثيل دور العبيد لك
صاحت بعنف :- أنا لا أفعل هذا
قال بقسوة :- بل تفعلين .. وعندما شعرت بأن هناك من دخل حياتهما .. وأن علاقتهما بالعالم الخارجي لم تعد مقتصرة عليك .. جئت تدعين سوء نيتي وتحاولين إبعادي عنهما
صاحت بغضب يائس :- أنا أحميهما فحسب
قال :- مم تحمينهما بالضبط ؟ أنت بعدم ثقتك بالناس تخشين على عائلتك بأن تتعرض للخيانة وسوء المعاملة من الآخرين كما حصل معك أنت بالضبط .. ولكنك تنسين أو تتجاهلين حقيقة أنهما مختلفان عنك .. وأنهما تمتلكان ما يكفي من الرقة والانسانية لتكسبا ثقة الناس وصداقتهم .. بعكسك أنت التي كنت تعاملين الناس من حولهم وكأنهم قد خلقو لخدمتك .. فكان أن ثاروا عليك ورفضوك بعد سقوط الدرع الذي كان يحميك
منعت بصعوبة دموع الإهانة من تجاوز عينيها وهي تقول محاولة إخفاء ألمها :- أنا لا أنكر بأنني كنا كذلك .. ولكنني لم أقصد أن أسبب الألم لغيري
قال ساخرا :- بالتأكيد لم تقصدي هذا لأنك لم تفكري يوما إلا بنفسك .. حتى الآن وأنت تنتقلين من عمل وضيع إلى آخر تدعين بأنك تفعلين هذا لمساعدة عائلتك .. بينما الحقيقة هي أنك تفعلينه لأجل نفسك .. لتثبتي بأنك قادرة على تحمل المسؤولية .. وعلى الحياة كباقي البسر بدون ملعقة من الذهب في فمك
ما الذي دفعها لمواجهته .. لقد كانت تعرف مسبقا بأنها لن تقدر على هزيمته.. وأن لقائها به سينتهي بكارثة .. إنه الشخص الوحيد الذي لم تستطع يوما السيطرة عليه .. دائما كانت له شخصيته القوية وكبرياءه وكرهه لها ..
قال فجأة :- أهذه دماء ؟
نظرت إلى يدها وقد نسيت الجرح الذي تعرضت له أثناء تقطيع البصل .. لم تستطع قول كلمة خشية أن يظهر صوتها مشاعر الألم التي تكاد تخنقها .. اقترب ليمسك بيدها .. وينظر إلى الجرح الغائر قائلا بغضب :- أيتها الحمقاء .. كيف تتركين جرحا كهذا بدون عناية ؟
سحبها برفق وأجلسها على الأريكة قائلا :- انتظري هنا
دخل إلى المطبخ بينما تساءلت هي عما يبقيها هنا .. وكأن إهاناته لها قد جمدت عقلها كما جسدها .. عاد حاملا قطعة قماش نظيفة وزجاجة مطهر .. وجلس إلى جانبها وأخذ ينسح الدماء التي لطخت يدها بلطف .. أجفلت عندما أثارت لمسته ألما بسيطا فقال بصوت دافئ :- اهدئي .. يجب أن يتم تنظيف الجرح كي لا يتلوث
أربكها هذا التناقض في معاملته لها .. فتارة يهاجمها ويسترسل في إهانتها .. وتارة يعاملها برقة وحنان لم تصادف مثلهما من قبل .. كان قريبا منها للغاية مما أتاح لها فرصة تأمله جيدا دون أن يشعر إذ انهمك في لف يدها باللاصق الطبي .. كانت تقاطيع وجهه متناسقة ووسيمة .. عيناه الداكنتان كانتا واسعتان برموش سوداء كثيفة .. تطل منهما نظرة عميقة وغامضة تصعب إدراك الشخص الحقيقي خلفهما
فمه الحازم عادة أثناء إلقاءه للمحاضرات كان يبدو الأن أكثر جملا وقد انفرجت شفتاه الممتلئتان عن شبه ابتسامة وهو يحاول إلهائها عن الألم بكلمات لطيفة
ما الذي حدث لها ؟.. فكرت مذعورة بانها لم تنظر يوما إلى أب رجل بهذه الطريقة .. بالتأكيد الدكتور محمود كان شديد الوسامة .. وأي امرأة تقترب منه بهذا الشكل لابد أن تفقد صوابها بسبب الجاذبية الخطرة التي ينطق بها جسده القوي ..
تركزت عيناها على عنقه الذي كشفت عنه فتحة قميصه .. شعرت برغبة غريبة بأن تلمس تفاحة آدم التي توسطتها ..
هذه الرغبة المفاجئة جعلت وجهها يحمر .. فسحبت يدها من بين يديه وهي تقول بصوت أجش :- هذا يكفي
نظر إليها بدهشة وهي تنهض مبتعدة وتقول بعصبية :- أشكرك على اهتمامك .. وهو لن يمنعني من أن أؤكد لك بأنني ما زلت رافضة لتواجدك قريبا من عائلتي ..مهما كان تفسيرك لأسبابي
نهض بدوره قائلا بسخرية :- يؤسفني أن أقول بأنني لن أمتثل لأوامرك يا آنسة نانسي ... وأنني سأنتهز كل فرصة تقربني من عائلتك مهما كان كرهك لهذا شديدا
التقت عيناهما طويلا قبل أن تنسحب غاضبة .. كالعادة عندما يتواجدان معا تذوب شخصيتها تماما ما إن يتكلم .. صممت بغضب على ألا تسمح لهذا بأن يتكرر .. لن تسمح له بالسيطرة عليها .. عادت إلى البيت لتجد أمها في انتظارها .. ما إن رأتها حتى قالت بتوتر :- أين كنت ؟.. أصحيح أنك ذهبت لتتشاجري مع الدكتور محمود ؟
قالت نانسي وهي تنظر إلى حنان بغضب :- نعم
هزت أمها رأسها بيأس وهي تقول :- ولكن لماذا يا نانسي ؟ ..إنه لم يسئ إلينا لتهاجميه بهذه الطريقة .. لم تكوني يوما قليلة التهذيب في معاملة أي أحد .. فما المشكلة مع الدكتور محمود ؟
صاحت نانسي بحدة :- إنه لا يعجبني إطلاقا .. أكره تواجده الدائم في هذا البيت ومنحه كل هذه الثقة بدون حذر .. أنا أعرفه من قبل وأكثر من يستطيع الحكم عليه
ردت أمها :- هل السبب هو شجاركما في الكلية ؟ لقد أخبرني به الدكتور محمود .. وعرفت بأنك أنت من أخطأ بحقه .. وأنت من عليه التنازل لإصلاح ما أفسدته ..
كيف ستقنع أمها بأن الأمر يتجاوز شجارها الساذج معه ؟ قالت بحرارة :- إنه زير نساء معروف .. الكل في الكلية يتحدث عن علاقاته المتعددة .. وعدم أهليته للثقة
قالت أمها بريبة :- هل أنت واثقة مما تقولين ؟
لم تكن نانسي واثقة حقا مما تقول .. فهي لم تره من قبل برفقة أي امرأة .. كما لم يقترن اسمه يوما بأي اسم في الكلية .. الشائعات كانت تطول حياته خارج الجامعة .. حيث لا يعرف أحدهم الكثير عن حياته الخاصة .. ولكن من البديهي أن يكون لرجل بجاذبيته ووسامته ومكانته الاجتماعية جيشا من النساء يلاحقه أينما ذهب
قالت بثقة :- بالتأكيد
إلا أن أمها قالت بحدة :- هذا لا يشفع لك تصرفك المعيب معه .. فهو لم يكن إلا طيبا معنا
:- ولكن يا أمي ...
أطلقت أمها آهة وهي تمسك بعنقها .. وتمسدها محاولة تخفيف الألم الشديد .. مما جعل نانسي ترتعش قلقا وتنسى ما كانت تود قوله
أسرعت تسند أمها وتساعدها على الجلوس .. بينما فتحت تلك عينيها وهي تقول :- عديني بأنك ستحسنين التصرف معه
أطبقت نانسي شفتيها بقوة وقد عاد إليها عنادها القديم .. ثم قالت :- لا أعدك إلا بأنني سأحاول
ثم اندفعت إلى غرفتها .. وأقفلت الباب ورائها بإحكام
تعليقات