📌 روايات متفرقة

رواية وحدها شجرة الرمان الفصل الثاني 2 بقلم سنان انطون

رواية وحدها شجرة الرمان الفصل الثاني 2 بقلم سنان انطون

رواية وحدها شجرة الرمان الفصل الثاني 2 هى رواية من اجمل الروايات الرومانسية السعودية رواية وحدها شجرة الرمان الفصل الثاني 2 صدر لاول مرة على موقع التواصل الاجتماعى فيسبوك رواية وحدها شجرة الرمان الفصل الثاني 2 حقق تفاعل كبير على الفيسبوك لذلك سنعرض لكم رواية وحدها شجرة الرمان الفصل الثاني 2

رواية وحدها شجرة الرمان الفصل الثاني 2

كي لا تقسو قلوب الأحياء. سألته عن الفرق بيننا وبين السنّة في الغسل، فقال إن الفروق بسيطة جدّاً في بعض التفاصيل الصغيرة وذُكر الأئمة وكتابة دعاء الجوشن، لكنّها ليست كبيرة. قال لي حتّى أهل الكتاب يمكن أن يغسلوا المسلم إن لم يكن هناك من
يغسله من المسلمين. لكنّ أهم شيء هو النيّة، وقال بعدها «الأعمال بالنيات» . لكن المماثلة مهمة، فالرجل يغسل الرجل والمرأة تغسل المرأة. سألته وإن لم يكن هناك رجل، فقال يمكن للزوج أن يغسل زوجته والمحارم كذلك. ويمكن للأم أن تغسل ابنها. سألته: وماذا إذا لم يكن هناك لا كافور ولا سدر، فقال
يمكن أن يغسل الميت بالماء وحده، بعد أن كتبتُ ما قاله، سألته: وإذا لم يكن هناك ماء، فهزّ رأسه وابتسم قائلاً: (هاي اشجابها ببالك؟ » ثم قال: «التيمّم . سألته عن سبب ذلك ، فقال إنّ أصل الحياة هو الماء والتراب وعند عدم وجود الماء للوضوء أو الغسل يمكن استخدام التراب الطاهر . أراني يومها كيف نقوم
بالتيمّم. ضم كفيه وقال إنّه يجب ضرب التراب بباطن اليدين نفضهما. ضرب الهواء وكأنه يضرب التراب بدا وكأنه يقوم بالتمثيل الصامت وكنتُ على وشك أن أضحك، لكنّني منعت نفسي. ثم مسح جبهته من منبت الشعر إلى أعلى الأنف بيده اليمنى. وضع كفيه المضمومتين إلى جانب بعضهما البعض ومسح
الجبين والحاجبين وأعلى الأنف . ثم مسح ظاهر الكف اليمنى بباطن الكف اليسرى من أعلى المفصل بقليل وإلى أطراف الأصابع ومسح ظاهر الإبهام. ثم مسح ظاهر الكف اليسرى بباطن اليمنى. سألته هل اضطر مرّة إلى أن في المغيسل، فأجاب يمم
بالنفي وقال إنّ في المغيسل ثلاثة خزّانات ماء على السطح يضخ إليها الماء من مضخة تحسّباً لانقطاعه في حالات الطوارئ كانت الغالبية العظمى من الأجساد التي رأيت أبي يغسلها سليمة وغير مشوقة باستثناء شاب دهسته سيارة مسرعة وهو يعبر الشارع فجئ بجثته. جاؤوا به ملفوفاً بالنايلون الملطخ بالدماء ،
قال أبي لحمّودي أن يضع القفازات على يديه وكذلك فعل هو قبل أن يحملا جثة الرجل إلى الدكّة، اقشعر جلدي حين أبصرتُ الجسد الذي بدا كأن قطيع ذئاب هجم عليه وسلخ الكثير من جلده ونهش لحمه. كان أبي قد قال لي مرّة إنّه مادام هناك جزء فيه
قلب، فلا بد من الغسل والتكفين. خيّل لي أنّ الرجل سيشعر بالألم إذا لمس أحد جسده حتى وهو ميت. اكتفى أبي بدلق الماءودون أن يدلّك أو يغسل بالكافور أو السدر ، لكن الدم ظل يسيل بين الحين والآخر بالرغم من كل الماء الذي دلق عليه لثلاث
فرات . استخدم أبي يومها كميات كبيرة من القطن كي يوقف النزف وحتى بعد التكفين برزت بقعة من الدم في الجانب الأيمن، لكن أبي طمأن أهله قائلاً إنّ ذلك لا ينقض صحة التكفين
أيقظني من النوم شيخ هرم بشعر ولحية طويلة اشتعلا شيباً وقال لي بصوت بدا كأنه قادم من بعيد: «اقم يا جواد واكتب الأسماء كلها!» استغربت انه يعرف اسمي . نظرتُ إلى عينيه الغائرتين وكانتا بلون سماوي غريب. كان وجهه يزدحم بالتجاعيد
كأن عمره مئات السنين.
سألته : «من أنت وأسماءمن؟»
فابتسم أجابني بسؤال: ألم تعرفني بعد؟
هاتٍ ورقة وقلماً واكتب الأسماء كلّها يا جواد وإياك أن تنس اسماً! إنها أسماء الذين سأقطف ارواحهم
غداً وأترك لك أجسادهم كي تطوّرها.، قمتُ
من سريري وجئتُ بدفتر وقلم وركعث على الأرض أمامه وقلتُ له: أنا مستعد. أغمض عينيه وأخذ يقرأ مئات الأسماء المختلفة فكتبت كلّ واحد منها. لا أذكر كم بقينا على هذه الحال، لكنّه فتح عينيه بعد أن قرأ آخر اسم وأخذ نفساً عميقاً ثم قال بصوت
خفيض: «سأعود غداً. ، ثم اختفى. عندما نظرتُ إلى الدفتر الذي كان بين يديّ لم أر سوى جملة واحدة كنت قد كتبتها مثات المرّات على كل ورقة : كل نَفس ذائقة الموت.
بالرغم من شعوري بشيء من الملل في نهاية الصيف الأوّل إلا أنني لم أقل شيئاً عن ذلك لوالدي. أخبرتُ اموري الذي قال لي إنّني يجب ألاّ أظلّ طفلاً ابحث عن المتعة في كل شيء وخصوصاً في عمل كهذا.
وخوما هذا لعب؟ »
قال لي إنّني لم أكن من النضج بمكان بعد كي أفهم أهمية ما يقوم به أبي وأهميّة أن نساعده
كنتُ قد تعوّدتُ على رؤية الموتى عن كثب، لكنّني لم أكن قد لمست جسد اى منهم طوال الصيف الأول، في بداية الصيف التالي عدت ثانية إلى المغيسل لأساعد أبي واضطررت بعد شهر لأن آخذ دوراً أكثر فعالية حين مرض حمودي ولم يتمكن من العمل لأسبوعين كاملين في شهر تموز . مرت تلك الأيام ببطء
وأحياناً بدون أي غسل. زاد الحرّ الجهنميّ من رتابة أيقاعها ومن زخّات العرق الذي كان يتصبب من جبيني. لم تفلح المبرّدة في الغرفة التي كنّا نجلس فيها في محاربة الحر. ما زلتُ أذكر برودة وملمس ذلك الجسد الذي ساعدث أبي في غسله وتكفينه تلك الظهيرة. كان لكهل في العقد السادس من

عمره. كانت بشرته مليئة بالتجاعيد وقد اصفرّت بشكل غريب. فاحت منه رائحة نتنة وادركت يومها حكمة استخدام السدر والكافور. ذكّرني منظره بالسمك الذي كانت أمي تضعه على الطاولة في المطبخ قبل أن تنظفه استعداداً لطبخه، كان الفضول
وجلد السمكة الغريب يدفعاني للمسها فأشعر بمزيج من الدهشة والتقزّز. كنت أمضي وقتاً طويلاً أنظر إليها وهي مستلقية على جانبها، رأسها يشبه رأس الإنسان بفمها المفتوح وبشفاهها الغليظة
كأنها تصرخ وتطالب بالعودة إلى الماء ، العين، هي الأخرى، كانت دائماً مفتوحة - تبحلق في أعيننا نحن الذين كنّا على وشك أن
نفترسها. أمّا عين الميت فمغلقة وكذلك فمه، سُبات لن يستيقظ منه ابدا
لاحظ أبي يومها ارتباكى وتسرّعي فى دلق الماء كأنني أريد أن انهي العملية بسرعة،
فاضطرّ لأن يقول لي مرتين على كيفك
إبني! يواش يواش.. و عندما انتهينا أسرعتُ بالخروج إلى الشارع كي أستنشق الهواء النقي وساورتني الشكوك حول العمل بهذه المهنة لسنين طويلة مثل أبي. كيف لي أن أستحمل كل ما يلقيه الموت؟
دخل إلى الصف واثق الخطى يحمل حقيبة جلدية أخرج منها رزمة من دفاتر الرسم وكيساً مليئاً بأقلام الرصاص وضعهما على الطاولة. توجّه إلى السبورة وكتب بخط جميل وبحروف كبيرة : الفن» ثم كتب اسمه بحروف أصغر تحتها: الرائد إسماعيل. لم
يبوح شعره الأسود المجعد ولحيته الكثيفة بأنه ما زال في العشرينيات من عمره. أضفى قميصه الأخضر الفاتح شيئاً من النضارة على وجهه الأسمر. أما بنطلونه الأسود فكان بلون حذائه . أدار وجهه وابتسم لأن أغلب الطلاب كانوا في أجواء الفرصة ولم
يلاحظ الكثير منهم دخوله، صفّق لكي يسترعي انتباههم وقال: «يالله يا شباب! أرجوكم. كل واحد يرجع لمكانه حتّى نبدي . اسمي رائد .
وأشار إلى السبورة التي كان يقف أمامها.
كان موضوعا الرياضة والفن مهملين وكثيراً ما كنّا نمضي الوقت المخصص لهما، وخصوصاً درس (الفنيّة) ، ونحن نلعب كرة القدم في ساحة المدرسة أو نحاول أن نخرج ونتسكع في الجوار. لكن في بعض السنين كان يتم تنسيب مدرّسين لتدريسنا
كان التعامل مع درس الرياضة أسهل لأن كل ما يحتاجه المدرّس هو بضع كرات وتمارين أو مباراة، لكن درس الفنية، كان أداء
بعض الشيء خصوصاً لعدم وجود مرسم أو ورشة ولأن المدرسة لم تكن توفّر المواد اللازمة للمدرسين، فقد كان التركيز ينصب على المواد والجديّة) . وهكذا كان الكثير من المدرسين، لإن سروا، يقتلون الوقت بالدردشة معنا أو كانوا يطلبون منّا أن نعمل على واجباتنا للدروس الأخرى بينما يقرأون الجريدة أو
ينظرون عبر الشباك ويطلبون منّا أن نسكت حين يعلو اللغط. كنتُ مولعاً بالرسم وأخذتُ أمارسه بكثرة في ذلك الصيف الذي عملت فيه مع أبي. كانت ساعات انتظار الموت الذي لم أكن أحبه طويلة ومملة. ولم تعد قراءة الصحف والثرثرة مع حمّودي تكفي. كان الرسم ملاذا ومهربا من الاختناق الذي كنتُ أشعر به ليس بسبب الموت فحسب، بل بسبب ملل المراهقة الذي
كنا نحاول محاربته بمشاهدة التلفزيون ولعب كرة القدم. أدخلني الرسم إلى عوالم جديدة فعكفتُ، بعد أن انتهت أسئلتي وملاحظاتي عن الغسل، والتي ملأث بها أكثر من دفتر، على رسم وجه متعدّدة في المغيسل وكذلك في البيت وهو ابي من زوايا
يشاهد التلفزيون. لم يزعجه ذلك وكان أحياناً يمازحني قائلاً: «مو كافي؟ شنو آني صدّام حسين؟
كانت صور صدّام تملأ كل زاوية
في البلد تلك السنين. كانت تقاطيع وجه أبي تستهويني كثيراً. التجاعيد التي تمتد على الجبين كشروخ والحاجبان الرماديان الكثيفان، ثم الأنف الكبير، الذي كانت تبرز من فتحتيه بعض الشعيرات البيضاء على عكس شاربه المشذب الذي كان أقل شيباً من شعر رأسه في تلك الأيام، ثم الخدّان المليثان.)
رسمت حمّودي كثيراً أيضاً. شعره القصير المنفوش وعيناه الواسعتان ورمشاه الجميلان. أعجب بصورته حتى أنّه طلب أن يأخذ الورقة منّي ليحتفظ بها. فعرضتُ عليه أن أرسم وجهه على ورقة أكبر في اليوم التالي ووافق بفرح. كان أبي وحمودي الوحيدَيْن من النماذج الحية التي يمكنني أن أرسمها. ملأث الدفتر
بتخطيطات كثيرة للدلّة والظلال التي تحوم حولها في ساعات مختلفة، رسمت صنبور الماء الذي كان يغتسل منه أبي وحاولتُ أن أظهر قطرة الماء وكأنها على وشك السقوط من فم الصنبور، لكنّني لم أنجح كثيرا. رسمت وجه الإمام علي الذي كانت صورته معلّقة في الغرفة. كنتُ أتدرّب أيضاً على رسم الوجوه التي تحفل
بها صور الجرائد غضب أبي ذات مرّة حين اكتشف بأنني كنت أخطط وجه وجسد ميت كان قد غسله في ذلك الصباح. نهرني عيب إبني، الاموات إلهم حرمة ! إرسم ابوك، إرسم حمودي شكد ما تريد، بس عوف الأموات بحالهم !* ارتبكث فكذبتُ وقلتُ له إنني
ارسم وجه قريب الميت الذي جاء معه، وليس الميّت نفسه . فأخذ الدفتر منّي وأشار إلى الرسم وقال: الا تجذب! هيّاتة نايم على الدجة!»
ثم نزع الورقة من الدفتر ومزّقها. فاعتذرت منه ولم أكرّرها . شعرتُ بمزيج من الخجل والمهانة وخرجت إلى الحديقة الصغيرة وجلست بالقرب من شجرة الرمان أداوي جراحي. فتحتُ صفحة جديدة ورسمت تخطيطاً للشجرة وللرمّانات التي كانت تحملها

كان الأستاذ رائد قد قال لنا ذات مرة إنّ الحياة هي موضوع الفن الأزلي وإنّ العالم، وكل ما فيه، ينادي: ارسموني. لم يقل إنّ الموت والأموات كانا خارج حدود الفن. كان يجب أن أسأل أبي ما الضير في أن أرسم الموتى؟ هل كان ذلك سيغيّر شيئاً أم أنه سيقلق نومهم الأبدي؟
بالإضافة إلى حماس الأستاذ رائد وجديته في التعامل مع موضوع الفن، فإن ما ميزه عن أغلب أساتذتنا هو طريقة تعامله معنا وكأننا أصدقاء. فلم يكن يستخف برأينا أو يقلل من أهميته عندما كنا نختلف معه حول أي شيء. مشى بين صفوف الرحلات يوزع دفاتر الرسم والأقلام، والرؤوس تحملق به غير مصدّقة طريقة تعامله معنا. طلب من بين يحبون الرسم أن يرفعوا أيديهم، فرفعت يدي عالياً كي .
يراني. نظرتُ فوجدت أن الكثيرين قد رفعوا أيديهم أيضاً حولي ابتسم الأستاذ وقال: «رائع! ثم أضاف: «بيكاسو، واحد من أعظم الفنانين في القرن العشرين، يقول: كل طفل هو فنان، المشكلة هي كيف يبقى الفنان طفلاً عندما يكبر؟» قال أحد
الطلاب في الخلف: بس احنه مو أطفال أستاذ تعالت
الضحكات. ضحك هو أيضاً ثم
قال:إنتو شباب، مو أطفال، بس أرجوكم كل واحد يريد
يحجي يرفع إيده بالأول خاطر متصير هوسة .
قال إنّ الفكرة هي أنّ الفن يسمح للطفل الذي يظل محبوساً في داخل الإنسان البالغ أن يخرج ويلعب ويحتفل بالدنيا وبجمالها. كانت الطريقة التي يتحدّث بها عن الفن وعن أي جميلة ومليئة بالصور حتّى وإن لم نفهم بعض الكلمات موضوع
هي الغريبة التي استخدمها. كان كلامه مثل لوحة يؤطرها صوته الملوّن بالشعر . أعطانا محاضرة قصيرة مرتجلة عن الفن وتاريخه مازلت أذكرها بوضوح.
سحرتني كلماته حين قال إن أجدادنا كانوا ينقشون على جدران الكهوف رموزاً وصوراً عن عالمهم وحياتهم بحلوها ومرها. فالفن هو مرآة للحياة والإنسان يرى نفسه وعالمه فيها . كوابيسه وأحلامه وخياله وحقيقته وحتّى أوهامه كلها تنصهر فيه قاطعه هادي، الذي كان المشاغب الرسمي في الصف،
قائلاً: يعني ميخالف - أجيب مراية الدرس الجاي بمكان الرسم؟،
ضحكنا جميعاً. فوجئنا بأنّ الأستاذ لم يغضب. ابتسم وسأل هادي عن اسمه وذكّره بأنّه طلب منّا أن نرفع أيدينا قبل أن نتكلّم.
ثم قال له
إنّه إذا صبغ المرآة بالألوان وكأنّها لوحة، فسيقبلها!
واصل حديثه عن الفن بشغف فقال إنّه مرتبط بالخلود لأن الخلود هاجس أساسي عند الإنسان لأنه زائل ولذلك يريد أن يترك أثراً في هذا العالم قبل الموت، فالفن هو تحتي الموت والزمن واحتفال بالحياة، قال إنّ أجدادنا في وادي الرافدين هم أول من
طرح كل هذا الأسئلة في أساطيرهم وفي ملحمة كلكامش، وإن العراق كان أوّل وأكبر ورشة فنية في العالم. فبالإضافة إلى اختراع الكتابة وبناء أولى المدن والمعابد، فإن أوّل الأعمال الفنيّة والمنحوتات والتماثيل ظهرت في العراق القديم في عهد السومريين وهي الآن تملأ متاحف العالم وقد يكون الكثير منها ما
يزال مدفوناً تحت الأرض. قال إنّنا جميعاً ورثة هذا الكنز الحضاري الهائل. سألنا إن كنا نعرف جميعاً نصب الحرية في ساحة التحرير، فاجاب معظمنا
( نعم أستاذ. ) قال الرائع ، التي كان يكثر من استخدامها . ثم سألنا
إن كنا نعرف اسم الفنّان الذي أنجزه، لكننا لم نعرف. قال:احفظوا اسم هذا الرجل: جواد سليم، ردّد البعض : جواد سليم،
وكان اسمه شعار أو هتاف. نظر البعض الآخر إليّ
وضحكوا للتطابق في الاسم. فضحك الأستاذ
وقال: (لا مو هذا الجواد اللي بالصف.) قال إنّ جواد سليم من أهم فناني العراق وحتّى العالم العربي في العصر الحديث وأعماله في الرسم
والنحت تصهر الماضي والحاضر، والشرق والغرب، وتستلهم كل أساطير العراق القديمة وحتى الشعبيّة. فرحتُ بأنّ اسمي يطابق
الإسم الأول لأعظم فنّاني العراق وبدأت من يومها أحلم بأن أنتج أشياء جميلة في المستقبل تعلّق في المتاحف أو تزين الساحات العاقة مثل جواد سليم. سأله أحد الطلاب: «أستاذ، شنو يعنياتستلهم؟ فأجاب: «يعني تشوف إلهام بفد شي أو تاخذ فكرة
مِنَه. مثلاً آني أكون كاعد أقرا قصّة أو أسمع اغنيّة تعجبني كُلش وتؤثر بيه فارسم لوحة مستلهمة منها .. صفّق الأستاذ مرة أخرى
بعد هذه الإجابة وقال: «يالله، نبدي إذاً. كانت الدفاتر كبيرة وذات ورق خاص للرسم له رائحة مميّزة
وكان غلافها أخضر فاتحاً كتب عليه بالانكليزية "Drawing Pad
وكان هناك مربع خاص لكتابة الإسم فكتبت اسمي بجانب : جواد كاظم Name. وأنتابني شعور غريب وجميل وأنا أخط الحروف كأنّ اسمي اكتسب بريقاً أو أهميّة لم يكن يمتلكها منه
اخرج تفّاحة من حقيبته ووضعها هي والحقيبة على الطاولة وطلب منّا أن نرسمهما وأعطانا ربع ساعة لنكمل. كان الصف صغيراً ويمكن للجميع أن يرى الطاولة. خيّم الصمت ولم نسمع
سوى احتكاك رؤوس الأقلام بسطح الورق وصوت رحلة تهتز يبالغ صاحبها في محو ما رسمه للتو. بدأ الأستاذ يمر على الطلاب ليراقب ما يرسمه كل واحد ويعطي ملاحظاته. بدأتُ أخطط كعادتي وكنت قريباً من الطاولة في الصف الثالث. أمّا الذين كانوا في الصف الأخير فكانوا يضطرّون للوقوف بين حين
وآخر. حين وصل الأستاذ إلى رحلتي وقف ينظر ولم يقل شيئاً النصف دقيقة. كنتُ قد أكملت رسم الطاولة والحقيبة والتقاحة وبدأتُ أظل بعض الزوايا والتفاصيل , الصغيرة، خصوصاً أنّ أشعة
الشمس كانت تدخل في تلك الساعة من الشباك الذي كان بجانب الطاولة فحجبت الحقيبة شيئاً منها تاركة التفاحة في الظل. توقع
أن ينتقدني , لكنّه قال: عفية جواد ... رائع. رائع .. فرحت برضاه ومديحه الي. واصل مروره على الطلاب وذكّر الصف
بصوت عال بانقضاء عشر دقائق. وبعد خمس دقائق طلب منّا جميعاً أن نتوقف ونضع الأقلام على الرحلة، ثم طلب منّا جميعاً
أن نقف وأن نمر على كل الرحلات ونشاهد ما رسمه البقيّة ولكن بدون إحداث ضوضاء. ازداد اللغو وبدأ البعض يمثّل دور الناقد ويشير بأصابعه ويعلّق تعليقات سخيفة. شاهدتُ تخطيطاً واحداً ينافسني من حيث الجودة، أما البقية انت عادة وضعيفة وبعضها
لم يكتمل. بعد عشر دقائق أخرى طلب منّا الأستاذ أن نعود إلى رحلاتنا. سألنا إن كنّا لاحظنا شيئاً. رفع هادي المشاغب يده،
فقال الأستاذ: «نعم هادي ، اتفضً. . فقال هادي: (محد يعرف يرسم. ضحك البعض لكن الغالبية احتجوا على هذا النقد الهدّام بصوت عالٍ. أسكت الأستاذ الصف بالتصفيق وصرخ: «خلص! ووبخ هادي قائلاً: «كل شي إله وكته بس ما أسمح بعدم الاحترام
والتهريج." ثم قال لنا إنّ كل واحد رسم المنظر من مكانه ومن زاوية مختلفة يبدو فيها المنظر الواحد مختلفاً بعض الشيء. لذلك فالمنظار مهم جداً في الرسم وطلب منّا أن ننتبه إلى النسبة بين
الأشياء في أحجامها. وألاّ نرسم، مثلاً، الحقيبة صغيرة جداً بينما التفاحة كبيرة جدّاً بالمقارنة. قال إنّه سيرينا . رسم شاهده احسن وجاء نحوي وأخذ دفتري وعاد ووقف في وسط الصف أمام اللوحة ورفع الدفتر وقال: «لاحظوا رسم زميلكم جواد، اعتناء
بالتناسب بحجم كل شي ودقّة بالتفاصيل. رائع يا جواد . " غمرني الفرح ونظر الجميع إليّ وهو يعيد الدفتر إليّ. قال إنّه سيحدّثنا في الأسبوع القادم عن الضوء والظل والعلاقة بينهما . وكان الواجب هو أن نرسم جهاز التلفزيون الذي عندنا في البيت .
بعد نهاية الدرس ذهبتُ إلى الأستاذ لأشكره على الدفتر . فقال لي: «أهلاً وسهلاً. » وسألني إن كنت درست الرسم، فقلت له لا ولكنها هواية وعندي دفاتر كثيرة مليئة بالرسوم. قال: «إيدك قويّة وعندك موهبة. فرحتُ وشكرته. أصبح درس الأستاذ رائد درسي المفضل تلك السنة والساعة التي أنتظرها طوال الأسبوع بفارغ الصبر. كان يختار أفضل رسم
او رسمين في كل صف ويستخدمهما لتوضيح نقاط القوة والضعف، وكانت حصة الأسد لي. وبالرغم من عدالته واعتناءه
بالكل وتشجيعه لهم إلاّ أنني أحسست أنّه كان يعاملني معاملة خاصة ويمتدحني كثيراً ممّا أثار غيرة البعض. كان صالح يعيرني بمعاملة الأستاذ الخاصة وقال لي ذات مرة أمام بعض الطلاب في
الساحة: ( هذا رائد فَرِخُجي يريد ينيـ..! )
غضبتُ وقلت له :( إنّه غبي ويغار منّي)،
لكنّه قال: ( لعد ليش دائماً يحجي وياك بعد الصف؟ ) وظل يردّد : جواد فرخ، جواد فرخ، جواد فرخ .
فاستشط غضباً واشتبكنا بالأيادي قبل أن يفرّقنا زملاؤنا ويباعدوا بيننا. زاعلته وصمّمت على ألاّ أكلّمه أبداً وقلت لأصدقائي إن عليهم أن يختاروا صداقتي أو صداقته. كان يقول بصوت عال أحياناً قبل بدء درس الفنية ودون أن ينظر إليّ: إجه نيّا..ك، إجه نيا..ك لاحظ الأستاذ رائد حزني ذلك اليوم وسألني عن السبب لكنّني ترددت في أن أخبره بالأمر . أخبرت أموري بالموضوع فقال لي :( إن هادي يغار منّي ويجب أن أتجاهله )، لكنّه بعد أن سمع الجمل التي كان يردّدها هادي وعدني بأن يأتي إلى المدرسة ويشتكي لدى المدير . بعد يومين جاء فرّاش المدير، أبو محمد،
الذي كانت سيجارته لا تفارق فمه أبداً، إلى الصف وقال لأستاذ اللغة العربية الذي كان يشرح لنا نائب الفاعل، إن المدير يريد جواد كاظم وهادي صالح في غرفته حالاً، عندما وصلنا إلى غرفة المدير كان أموري يجلس على الكنبة أمام المدير . عنّف المدير هادي، الذي كان لديه سجل حافل من المشاكل مع الطلاب والأساتذة، وقال له إنّ حبله قصير جدّاً وعلى وشك أن ينقطع وإنّ
هذا آخر إنذار وسيُفَصّل من المدرسة إذا سمع المدير أنه تنفّس بكلمة واحدة نابية، ثم أمره بأن يعود إلى الصف. نصحني المدير بأن أتحاشى هادي وأتجاهله . شكره أموري على تفهمه الموقف ثم رافقني إلى باب الصف. فرحتُ لانه أوفى بوعده وجاء إلى
المدرسة بالرغم من انشغاله بدراسة الطب. ارعب هادي بعدها ولم يفتح فمه أو يشاكسني أبداً.
نظم الأستاذ رائد بعض النشاطات الفنية على مستوى الصف والمدرسة فكان علينا أن نتعاون في مجموعات لتصميم نشرات جداريّة فيها نصوص أدبيّة ورسومات. كما نظم معرضاً عنوان "إيداع تضمّن أفضل الرسوم للسنة كلها واختار رسمين من رسومي، واحد مستوحى من قصيدة «انشودة المطر ، للسياب، والثاني ليد أبي والمسبحة بين أصابعه، تم تعليق الرسوم المختارة
على جدار بالقرب من غرفة المدير وكتبتُ أسماء الطلب وصفوفهم وشعبهم تحت اللوحات. استمر المعرض شهرا كاملا وفرحت كثيراً عندما رأيتُ اسمي بحروف كبيرة ورسومي معروضة والطلاب وبعض الأساتذة يقفون أمامها ولمدة شهر كامل. سألني ، الأستاذ بعد أحد الدروس ,: شتريد تصير من تكبر؟
فقلت له بدون تردّد: «جواد سليم . فضحك وطبطب على ظهري قائلاً: "يعني فنّان. إي ليش لا؟ ممكن تدرس بالأكاديمية، بس
لازم تستمر بالرسم ومتبطل. فقلت له: طبعاً أستاذ."
في نهاية السنة طلب منّي أن أذهب إلى غرفة المدرسين بعد الصف وأن أجلب حقيبتي معي فاستغربتُ الجزء الأخير . أن أجلس على الكرسي أمام المكتب وجلس هو خلفه، كرّر على ما كان قد قاله لي طوال السنة عن موهبتي وعن عيني المتميّزة. قال إنّي أحسن طالب في كل صفوفه في المدرسة قال لى
كلها، حتى أولئك الذين هم أكبر منّي بكثير ، ثم أضاف إنّ الموهبة مهمّة لكنها لا تكفي لوحدها ويجب أن أقوّيها بالتمرين المستمر والممارسة وبالدراسة في المستقبل إن سنحت الفرصة. فتح الجارور وأخرج دفترين من نفس نوع الدفاتر التي أعطانا إيّاها في
بداية السنة ثم اخرج من حقيبته الجلدية كيس ، نايلون وضعه المكتب وقال لي أن أخرج ما بداخله. كانت هناك علبة ألوان مائية متوسطة الحجم مع فرشاتين بداخلها وطقم ألوان باستيل. أفرحتني
المفاجأة وشعرت بالخجل ولم أعرف ماذا أقول غير «شكراً بصوت خافت . قال إنّها هديّة لتشجعني على تطوير قابلياتي وأسلوبي. شكرته ثانية وقلت له إنّ درسه كان درسي المفضل وإنّي تعلمت الكثير منه. قال لي: لاتستاهل أكثر جواد . " ثم أضاف: "ما راح تكون جواد سليم، بس ممكن تكون فنان عراقي رائع بيوم من الأيام. نظر إلى ساعته وقال إنّه يجب أن يذهب إلى صف آخر . تصافحنا بحرارة ووضعت هديتي الثمينة في حقيبتي. شكرته ثانية وتوادعنا
بعد نهاية الدرس الأخير قبل العطلة الصيفية، انتظرتُ خروج معظم الطلاب، خصوصاً هادي قبل أن أعطي الأستاذ رائد لوحة لابروفيل، لوجهه كنت قد عملتُ على مسودات منها لأسابيع في البيت إلى أن توصلت إلى أفضل نتيجة ممكنة. وكتبتُ على ظهر
الورقة : إلى أحسن أستاذ، من تلميذك جواد كاظم. فرح كثيراً وهو ينظر إليها وقال إنّه سيؤطرها ويعتز بها. صافحني بحرارة ثم طبطب على ظهري وذكّرني بأن أظل أرسم وبأنه يتطلع إلى ما أرسمه في الصيف
في الصيف ملأت الدفترين بالرسوم بعد أن تدرّبتُ كثيراً على الرسم بالألوان المائية على أوراق عاديّة. أعجبني الرسم بالباستيل أيضاً لكنّني ركّزت على تقوية يدي بالفرشاة . وجدتني أستعجل نهاية العطلة لأول مرة كي أطلع الأستاذ رائد على رسومي الجديدة، في أول يوم من الدوام لم أجد اسم الأستاذ رائد في أي
مكان عندما نظرتُ إلى قوائم الصفوف وأسماء الأساتذة والطلبة في الجدول المعلّق على الجدار قرب الإدارة، وجدتُ علامة بدلا من اسمه بعد مادة الفنية. افترس الحزن قلبي. سألتُ الفرّاش عنه فقال إنّه استدعي إلى الخدمة العسكرية وإنّهم سيعيّنون أستاذا
جديداً. عندما حان موعد درس الفنية يوم الخميس، دخل معاون المدير إلى الصف وقال: «ماكو فنيّة، إطلعوا للساحة. . سألته عن الأستاذ الجديد، فقال: «ماكو أستاذ جديد.)
استعلمتُ عن السبب، فقال: ما ندري إبني. ، أصبح درس الفنيّة فراغاً يستمتع به الطلاب باللعب والجري. أما بالنسبة لي فكان فراغاً يصعب سده بأي شيء. لم أدرس الفن بعدها مع أي أستاذ ولم أتعلّم شيئاً
بصورة رسمية حتى دخلتُ الأكاديمية بعد خمس سنوات . بعد شهر من بداية تلك السنة الدراسية بدأت الحرب مع إيران. كنتُ دائماً أتساءل عن مصير الأستاذ رائد وأنا أشاهد صور المعارك الضارية على شاشة التلفزيون. استفسرتُ من بعض الأساتذة لكن
لا أحد كان قد سمع عنه شيئاً أو عرف ما حل به.
أوّل مرة رأيتها فيها كانت ترتدي السواد.
كنتُ قد تأخرتُ على محاضرة تاريخ الفن ذلك الصباح لأنني نمت ربع ساعة إضافية بعد أن رن المنبّه أوّل مرّة. كان الأستاذ صارماً في , عدم السماح لمن يتأخر اكثر من عشر دقائق بالدخول . كان الطلاب يسمّونه الإنكليزي، لأنه كان دقيقاً في مواعيده ولانه كان يلفظ بعض المصطلحات بالإنكليزية بإتقان وبدقّة مبالغ بها.
فتحتُ باب القاعة بهدوء وأنا ألهث. قلتُ لنفسي لربما يسامحني، لكنّه هزّ سبابته وأشار إلى ساعة يده ثم إلى أن أغلق الباب. أغلقتُه وذهبت إلى الكشك خارج الأكاديمية واشتريت جريدة الجمهورية وقرأت عناوين الصفحة الأولى في طريقي إلى الكافيتريا. لا جديد
غير البيانات العسكرية والانتصارات المستمرة. طويتها ووضعتها مع كتبي . ذهبتُ إلى الكافيتريا لأني لم أتناول الفطور في البيت. اشتريت سندويشة جبنة بيضاء وكوب شاي . لم أجد مقاعد فارغة
في الكافيتريا وكان الجو دافئاً فخرجت ووجدت مصطبة خالية بالقرب من بناية قسم المسرح بالقرب منها مجموعة من طلبة المسرح يرتدون ملابس سوداء ويجلسون تحت نخلة. جلستُ
ألتهم السندويشة وأنا افرا وبدات كعادتي بالصفحة الرياضية. كان فريقي المفضل، الزوراء، قد فقد إثنين من نجومه للمنتخب الوطني الذي بدأ يستعد لدورة آسيا ولذلك أخذ أداؤه يتدهور وخسر مباراة
اليوم السابق التي خاضها أمام نادي النجف، الذي يحتل قعر القائمة، على أرض الأخير. انتقلتُ إلى الصفحة الثقافية وكانت هناك قصيدة باهتة عن الحرب وتحتها حوار مع ناقد تشكيلي ومقالة
طويلة عن تاتر كتاب أمريكا اللاتينية بألف ليلة وليلة وبالتراث العربي. سمعتُ أحدهم يصفق. كان أحد أساتذة قسم المسرح وهو مخرج تجريبي بشعر أشيب منفوش يرتدي نظارات شمسية
وبنطلون جينز مع قميص أبيض يطلب من الطلاب المتجمعين تحت النخلة أن ينتبهوا إليه. عدتُ إلى المقال الذي بدأ يتحدّث عنه بورخيس وقصة له عن ابن . رشد لكنّني لم أستطع التركيز . صوت الأستاذ ثانية يشرح لطلابه التمرين الذي سيقومون به . طلب
أن يقوم ثلاثة منهم بالجلوس على الأرض وبأن يتخيلوا أنفسهم في قارب يغرق وأن يمثلوا ذلك الموقف بحرية ولكن بدون كلمات
وطلب من الآخرين أن يراقبوهم. سأله أحد الطلاب عن نوع القارب، فقال الأستاذ: «اللي يعجبك، المهم يغرك .. فضحكوا أثار التمرين فضولي فقمتُ من مكاني وجلستُ على مصطبة أقرب كي أراقبهم بوضوح وأتبين تعابير الوجوه لكنّني تركتُ مسافة كي لا
يكون تطلي مزعجاً. نادى الأستاذ على ثلاثة طلاب بأسمائهم كي يكونوا أول من يؤدي وكانت ريم واحدة منهم. تربّعت على الأرض واحتضنت ركبتيها بذراعيها ونظرت باتجاه الأستاذ بانتظار إشارته . كانت ترتدي بنطلوناً هفهاناً أسود وقميصا قطنيّاً أسود
مفتوحة وباردان طويلة كانت قد طوتها طيتين أو ثلاث فكشفت عن معصميها. كان شعرها الفاحم الطويل معقوجاً خلف رأسها. كنتُ
قد لمحتُ وجهها من قبل في الكافيتريا وفي أروقة الأكاديمية، لكنها بدت لي كائناً شعرياً ذلك الصباح، خصوصاً عندما بدأت تمثّل غرقها. كانت هناك طالبة أخرى جلست خلفها وكان الثالث طالباً فارع الطول بدا وهو يحاول الجلوس في المؤخرة وكأنه . جمل
يبرك، لكن عيناي تسمّرتا على ريم. أشار الأستاذ لهم بأن . يبدأوا بدأت ريم تنظر إلى الأسفل بين قدميها ثم إلى الأرض حولها، ثم وقفت وركعت على ركبتيها وبدا هلع حقيقي على وجهها تظاهرت بأنها كانت تحمل الماء الذي تسلل إلى القارب براحتيها
وتدلقه خارج القارب. تسارعت وتيرة هذه الحركة لحوالي دقيقتين ثم توقفت ونظرت حولها ودارت حول نفسها ثم ركعت ثانية قبل أن تتشبث بشراع القارب اللامرئي وتنظر حولها بهلع متزايد.
رأسها يرتفع شيئاً فشيئاً وأخذت تنظر إلى الأعلى. شكرهم الأستاذ وطلب من مجموعة ثانية أن تعيد الكرّة. عادت هي إلى الوراء وعدتُ أنا إلى بورخيس.
بعد التمرين رأيتها في الكافيتيريا لوحدها تقف في الطابور وكانت قد غيّرت ملابسها وارتدت تنورة رمادية وقميصاً أبيض فاقتربت منها وقلت لها
- جنت أريد أخلصج من الغرك بس ما أعرف أعوم.
التفتت وقطبت حاجبيها وسألتني بجديّة: العفو. شنو؟" ما وضحت لها: التمرين، اليوم الصبح. الغرق. جنتُ كاعد وشفتج تغركين فضحكت واستدركت: «ها. أي. شكراً على شهامتك. بس شنو الفائدة إذا متعرف تسبح؟
- النيّة مو مهمّة؟
ابتسمت وقالت طبعاً، إنّما الأعمال بالنيّات .
بادرتُ إلى تعريفي باسمها ريم... مسرح . )
فقلت: اتشرّفنا، جواد... تشكيليّة . ) كانت عيناها واسعتين وبسوادٍ ليليّ يغوي بالسهر فيهما، تنظران بثقة حين تتكلم وكانت تتكلم بشيء البطء. الرمشان كانا كثيفين والحاجبان مشذبان بعناية، وكانت
قد وضعت حمرة خفيفة وكحلاً، جاء دورها في الطابور الذي كان، للأسف، قصيراً، فاشترت قطعة بسكويت وقدح شاي بالحليب. عرضت أن تشتري لي شيئاً لتشكرني على نيّتي الصافية، كما قالت، فشكرتها واعتذرتُ لأنه كان عندي محاضرة بعد دقائق . لاحظتُ الخاتم الذهبي في يدها اليسرى وهي تعطي
البائع النقود، فشعرتُ بوخزة في قلبي. يا لخيبتي! متزوّجة إذاً. وكل هذا الجمال من حصة رجل آخر ينتظرها أو تنتظره في نهاية اليوم ! دعتني بلطف أحسسته حقيقياً لأن أنضم إليها وصديقتها التي
كانت تنتظرها على إحدى الطاولات في زاوية الكافيتريا. لكنّني شكرتها وقلت لها إنّي سأتأخر على المحاضرة وكنت قد غبت عن واحدة في الصباح. قالت: خيرها بغيرها لعد. توادعنا واتجهتُ
نحو باب الكافيتيريا وقبل أن أخرج التفت، نظرتُ نحو الطاولة التي جلست إليها فرأيتها تنظر نحوي أيضاً وتبادلنا ابتسامة، داريت خيبة أملي بفكرة أن نكون زميلين أو صديقين. ما المشكلة في
ذلك؟ يمكن أن أرض نفسي على الإعجاب بجمال إمرأة دون أن تكون هناك علاقة، أو حتى الأمل في علاقة من أي نوع سوى الصداقة، وجدتني أغنّي مع ناظم الغزالي: (يَام العيون السود ما أجوزّن أنا. . وأنا أتجه نحو المحاضرة كأنني أفنّد، بلا وعي، ما
اقنعت نفسي به للتو!
رأيتها مرة أخرى بعد ذلك بأسبوع على الرصيف أمام
الأكاديمية وهي تركب سيارة زرقاء جميلة يسوقها رجل - بالتأكيد زوجها- يرتدي نظارات شمسية. لم أتبين من ملامحه سوى شاربه الأسود، ثم اختفت كلياً ولم أرها طوال العام الدراسي. ذات يوم المحتُ صديقتها التي كانت برفقتها في الكافتريا يوم تعارفنا فقررتُ
أن أستفسر منها عن سر اختفاء ريم. فقالت إنّها تركت الدراسة الأسباب شخصية " ورفضت أن تضيف أية تفاصيل أخرى عندما
سألتها عن طبيعة الأسباب وادّعت بأنها لا تعرف بالضبط. خمّنتُ أنّها ربما تكون مريضة، سألت آخرين في قسم المسرح فاخبروني
إنّ الإشاعات تقول إنّ زوجها منعها من مواصلة الدراسة . شعرتُ بالحزن عليها وتذكرت جديّتها أثناء ذلك التمرين ورشاقة حركاتها. بدا لي أنها كانت فعلاً تعشق ما تدرسه وليست الذين ألقى بهم من الدهر في الأكاديميّة وأجبروا على دراسة الفن لأن درجاتهم في امتحانات الإعدادية أو المنافسة لم تؤهلهم للحصول على اختيارات أخرى كانوا قد وضعوها على قائمتهم وكانوا يفضلونها
على ان الاكادميه لن توفر لهم المال الكافي
تذكرت أبي وهو يهزّ رأسه حينما تأكد في جديتي وضع أكاديمية الفنون الجميلة بأقسامها المختلفة على رأس قائمة اختياراتي بالرغم من أن معدّل الدرجات الذي حصلت عليه كان 87.8 % وكان سيضمن لي قبولاً في عدد من أقسام الهندسة في الجامعة المستنصرية وفي جامعات المحافظات أو في اختصاصات أخرى كالحقوق والآداب والعلوم لو اني وضعتها على رأس اختيارات
سألني يومها بشيء من الاستهزاء :
شيطلع يعني بعد متخلّص؟ مدرس رسم فأجته
يمكن مدرّس فنيّة . شكو بيهه؟ ليش التدريس عيب؟ بس أكو وظائف أخرى ممكن الواحد يتعيّن بيهه.
ناولني قائمة الاختيارات واجاب بالجملة التي كان يردّدها الواحد لازم يداري حُبُرْتَه إيني!
ثم أضاف بعد صمت ثقل :
إذا ما تريد تشتغل ويايه، على الأقلّ إدرسلك شي ينفع
الناس وينفعك! شي بيه خير. أحزنني الموقف يومها مع أنّه لم يفاجئني أبداً فقد كان هذا هو رأيه الذي لم يتغيّر قط بالفن، إن كان يمكن أن يسمّى رأياً،
ولم أكن أتوقع أن يغيّره. لكنّني ربما كنتُ أفرط في تفاؤلي بتوقع شيء من الاحترام لأنني لم أعد طفلاً أو مراهقاً. لكنّه لم يغفر لي أبداً خروجي عن المسار وتفضيلي الفن على مهنة ورثها هو عن
أجداده وكان يرى أنها أكثر منفعة للبشر من الفن. طويتُ الورقة دون أن أقول شيئاً. حاولت أمي، التي كانت تجلس على الطرف الآخر من الكنبة، أن تلطف الموقف كعادتها قائلة : جواد بيه كل الخير، موفق يُمّه وشايف كل خير. رمقها أبي بنظرة صاحبها صمت خادع، ثم عاد إلى استكان الشاي الذي كان يحتسيه. تركتهما يشربان الشاي ويشاهدان التلفزيون وصعدتُ إلى غرفتي أحلم بالأكاديمية وبالآفاق التي ستفتحها لي. تذكّرتُ الأستاذ رائد وتشجيعه لي في تلك السنة الاستثنائية . ترى أين هو الآن؟ حي يرزق أم مدفون في مقبرة ما؟
يقول فيثاغورس إنّ هناك موسيقى في الحجر. كانت هذه أوّل جملة ابتدأ بها الأستاذ عصام الجنابي محاضرته الأولى عن تاريخ النحت والتي مازلتُ أذكر تفاصيلها بوضوح. ثم أضاف إنّ غوته سرق هذه الفكرة واستخدمها في مقولة له عن المعمار وكيف
أنّ المعمار موسيقى مجمّدة، اجتذبني منذ أول يوم بشعريّته في الحديث عن الفن وعن الحياة بشكل عام. كان بارعاً في انتقاء المقولات التي تبلور مواضيع محاضراته أو توضح الأفكار التي كان يشرحها لنا كاستشهاده بمقولة لبيكاسو عن أنّ «الفن هو الكذبة
التي تصوّر لنا الحقيقة، . وكان يستخدم الصور والشرائح التي يعرضها في الصف والتي كانت تعطي محاضراته بعداً آخر وتميزّها عن أساليب التدريس الجافّة والمملّة للآخرين. كان يومها على وشك أن يدخل عقده الخامس وكان قد عاد من إيطاليا قبل عدّة سنوات بعد أن أكمل دراساته العليا فيها. كان
فنّاناً معروفاً تخطت شهرته الحدود إلى البلاد العربيّة وحظيت لوحاته التجريدية بتقدير النقاد وله معارض فردية ومشتركة عديدة. كما كان يكتب بعض المقالات النقدية في المجلات والجرائد بين
حين وآخر عن الفن وتاريخه. ما زلت أذكر بريق عينيه السوداوين حين كان يردّد واحدة من تلك المقولات ويكتبها على السبورة. كان مظهره يطابق الصورة التقليدية للفنانين البوهيميين بشعره الأسود المجتد الأطول من بين كل الأساتذة وحتى الطلاب، ويشاربه الكة ولحيته الطويلة التي كان يلعب بنهاياتها التي غزاها الشيب كانت القاعة شبه معتمة بعد أن طلب من الطلاب أن يساعدوه في إسدال الستائر كي نرى الصور والشرائح التي كان سيعرضها بوضوح . كان هناك أكثر من ثلاثين طالباً وطالبة امتلأت بهم المدرجات. كنتُ أجلس في الخلف وأخرجتُ دفتري مستعدّاً لأخذ الملاحظات، قال الأستاذ إنّ المحاضرة ستكون
مقدمة للسنة بأكملها وإنّه سيأخذنا في رحلة بانوراميه سريعة التاريخ النحت. كان كالموسوعة يتحدّث بدون النظر إلى ورقة. ذكرني بالأستاذ رائد لوهلة لانه أيضاً استهل محاضرته بالكلام عن الفن، وخصوصاً النحت، وعلاقته بالخلود. لم تكن المنحوتات الأولى منفصلة ومستقلّة بل كانت جزءاً من جدران المعابد والهياكل. ثم أخذنا في جولة في النحت في الحضارات المختلفة
والعصور القديمة مرورا بالكلاسيكية الإغريقية- الرومانية ثم عصر النهضة وتوقف عند مايكل آنجيلو وتمثاله دايفد. ثم تحدث عن عصر الباروك حيث اصبح للأشكال أهمية جديدة وديناميكية. انتقل بعدها إلى رودان. حدّثنا أيضاً عن بيكاسو وكيف غيّر فن النحت
في بداية القرن العشرين عندما قام، لأوّل مرّة، بجمع أشياء ومواد مختلفة في منحوتة واحدة، وكانت تلك لحظة راديكاليّة في تاريخ النحت مثلما كان الكولاج منعطفاً في الرسم كنت مشدوداً إلى كلامه ومعجباً بالصور والأعمال الرائعة . ولم ندرك أنّ الوقت قد انتهى . إلاّ بعد أن بدأ بعض الطلاب الذين كانوا ينتظرون خروجنا ليدخلوا إلى محاضرتهم يطلون برؤوسهم من الباب ثم يعودون ليغلقوه عندما يروننا في الداخل. كان يجمع أوراقه ويضعها في حقيبته عندما اقتربتُ وسألته عن جياكوميتي. كان قد عرض صوراً لعمل من أعماله بعنوان «رجل يمشي أثناء
المحاضرة لفت انتباهي وأثار إعجابي. ابتسم وهو يضع حزام حقيبته حول كتفه وقال لي: اليش عجبك؟ شنو اللي عجبك بيه؟ ارتبكتُ قليلاً لأنني لم أكن أفكر كثيراً بالأسباب التي تدعوني لأن أحب عملا فنيّاً. كان الجمال يضربني في الصميم بتلقائية. ترددت ثم قلتُ له: (ما أدري بالضبط، بس حسيت الإنسان اللي نته
معزول وحزين. ، ابتسم ولمعت عيناه وقال لي: «عَفية عفيّة. هواية نقاد يكولون إنّه أعماله تعبّر عن الرؤية الوجودية لحياة خاوية ، قال الجملة الأخيرة بالفصحى بنبرة مختلفة، ثم قال لي: «ذكّرني باسمك.. فقلت له: وجواد، قال لي: «جواد. طبعاً حبيته لجياكوميتي. شلون ما تحبّه؟) واصلنا حديثنا عن جياكوميتي
والنحت التجريدي ونحن نخرج من القاعة حتّى وصلنا إلى مكتبه فدعاني للدخول. كانت الأوراق والكتب والقصاصات تتكدّس على مكتبه وكانت الرفوف المتخمة بالكتب تملأ الحيطان. وضع حقيبته على المكتب ثم جاء ليرفع أكوام الأوراق والجرائد من
الكرسي كي أجلس عليه. وضع الأكوام على الأرض وطلب مني أن أجلس. نظرت إلى عناوين الكتب. كان معظمها بالعربية
مرّة وقال: "هذا هو صاحبك جياكوميتي بالاستوديو مالته .) سألني عن خلفيتي وعن اهتماماتي واستمع بصدق ، إلى كل ما قلته . قال لي إنّه من خلفيّة فقيرة لا علاقة لها بالفن وإنّ والده كان عاملاً بسيطاً في معمل ورق وكان يريده أن يكون مهندساً لا فنّاناً. سألته
إن كان قد التقى جياكوميتي في إيطاليا، فقال لي كلا لأنه مات 1966 عام وكان يعيش في سويسرا أساساً. قام من كرسيه وجاء إلى وسط المكتب ونظر إلى الرفوف باحثاً عن شيء ما وبعد أن جالت عيناه لنصف دقيقة مد يده وسحب أحد الكتب من الرفوف
العلوية. كان كتاباً من الحجم الكبير وعلى غلافه اسم جياكوميتي بحروف كبيرة. نفض التراب عنه وأعطاني إيّاه قائلاً إنّ كل أعمال جياكوميتي فيه ويمكنّني أن أستعيره على شرط أن أعتني بنظافته . فرحتُ كثيراً وقلتُ له إنني سأدرسه. نظر إلى ساعته وقال لي إنّ
محاضرته التالية ستبدا بعد دقائق فاعتذرتُ منه وصافحته بحرارة وشكرته و ودعته انطلقتُ من مكتبه إلى المكتبة لأستعين بقاموس يساعدني على فهم النصوص المرفقة بالصور والشروح التي كانت
بالإنكليزية. جلست أتصفح الكتاب بشغف وأقرأ عن حياة جياكوميتي ومحطاتها المختلفة. كنت أنظر إلى صوره العائلية كأنه أصبح أحد أقربائي بعدما فتنتني أعماله وأردت أن أعرف الأسرار التي تكمن فيها. عرفت إنه ولد عام 1901 في سويسرا ومات عام 1971 وبأنه عاصر الحربين العالميتين ولعل هذا يفسر الحزن الذي يكتنف . درس في باريس مع بورديل الذي كان قد عمل مع أعماله رودان وتاتر بالتكعيبية والسوريالية وادرج اسمه مع نجومها لكن عمله كان من الاختلاف والتميز بحيث يصعب وضعه في خانة واحدة . كان هناك صفحة في الكتاب جمعت فيها مقولاته وظلّت
واحدة منها عالقة في , ذاكرتي قال فيها : إن ما يريد أن ينحته هو ليس الإنسان، بل الظل الذي يتركه خلفه
كانت تماثيله نحيفة بشكل غريب كأنها خيوط أو مومياءات نحيفة تم نبشها وإخراجها من القبور. كان الجسد دائماً عارياً وبأقل ما يمكن من التفاصيل. كما أنّ بعض الأعمال كانت ليد دون جسد تلقح لوحدها. بدا الي الإنسان في عالم جياكوميتي وحيدا وحزيناً، بلا معالم واضحة، يأتي من المجهول ويمضي لوحده
في أول أسبوع من سنتي الدراسة الرابعة رأيتها تجلس
الوحدها على مصطبة قرب بناية قسم المسرح وكانت ترتدي ملابس سوداء وتضع نظارات شمسية.
اقتربت منها وألقيتُ عليها التحتية،
أجابت بلطف لكنّها اعتذرت لأنها لا تعرفني أو تذكرني.
ذكرتها بإسمي وبنكتتي السمجة عن محاولة انقاذها من الغرق في التمرين حديثنا في الكافيتيريا،
فتذكرت واعتذرت وعن القصير
قائلة إنّ ذلك كان قبل أكثر . سألتها عن السواد الذي
من سنتين كانت ترتديه،
فقالت إن زوجها توفّي قبل شهرين. عزّيتها بمصابها
فشكرتني وابتسمت. قالت إنّه كان ضابطاً استشهد في الجبهة . ذكرتُ لها أن أخي شهيد أيضاً. لم أشأ أن أثقل عليها فلم أسألها عن سرّ غيبتها، لكنّني سألتها ان كانت قد عادت إلى مقاعد الدراسة، فأومأت بالإيجاب وبابتسامة .

فاجأتُها ذات صباح بسؤال كان يدور بذهني لكنّني تردّدت كثيراً في طرحه
- جنتي تحبّيه هواية؟
استغربتُ بأنها لم تدرك أنّني أقصد زوجها المرحوم.
أدارت وجهها ونظرت إلى بعينيها الساحرتين وكنا نجلس جنباً إلى جنب تحت النخلة التي كانت تحبّها، ثم نظرت إلى الأمام
دون أن تقول شيئاً. فخفتُ أن أكون قد خدشت مشاعرها أو أيقظتُ جراحها التي لم تندمل بعد
كنتُ حريصاً بعد ذلك اليوم ألا أسألها عن أى شيء له علاقة بزواجها وألا أفتح الموضوع البته ، بعد شهرين كنا نجلس في كافيتريا المعهد البريطاني القريبة من الأكاديميّة. سألتني ريم عن علاقتي بأبي فذكرتُ لها صداماتي معه وخيبة أمله فيّ لأنني قررت
الا أواصل النهج بالعمل معه وإصراري على دراسة الفن الذي يعتبره إضاعة للوقت. فقالت إنّ أباها لم يهتم يوماً بما كانت تفعله أو تريد فعله أو دراسته
ليته أصرّ على أن أدرس شيئاً ما أو رفض أن أقدّم على
الأكاديميّة. كنت سأفسر ذلك علامة على اهتمامه أو حبّه. لكنّه كان دائماً مشغولاً بتجارته وقلّما كنت أراه أو أجلس معه. ولم ينافس تجارته وأمواله أحد غير زوجته التي أضافها إلى صفقاته الرابحة بعد وفاة أمي و التي حوّلت حياتي إلى جحيم عندما انتقلت
للعيش معنا وحاربتني بشتى الوسائل. وكان خلاصي الوحيد هو الزواج. لم أحب زوجي وظننتُ أن العيش معه سيولد حباً من نوع آخر. كنتُ قد أحببت شاباً يسكن في شارعنا عندما كنتُ في الثانوية لكنّني أدركت فيما بعد أنها لم تكن علاقة جديّة أو عميقة.
كلام مراهقين على الهاتف وهمس في الليل ولقاءات متباعدة كلما سنحت الفرصة. وبهتت العلاقة عندما انتقلت عائلته إلى منطقة السيدية البعيدة ولم تكن لديه سيارة. قلّت المحادثات الليلية وانطفأ كل شيء . في العطلة الصيفية التي سبقت دخولي الأكاديميّة
رايته مرتين أو ثلاث في الأعراس. كان قد درس الهندسة (سيطرة ونظم) ثم أصبح ضابطاً في الحرس الجمهوري برتبة ملازم أول وحصل على نوطي
شجاعة. كان قد رآني ذات مرة أخرج من المدرسة وعرض أن يوصلني لكنني شكرته ورفضتُ بأدب. واعترف لي فيما بعد بأنها لم تكن صدفة أبداً، بل محاولة منه للتقرّب وجسّ النبض. وبالرغم لم أكن أؤمن بالزواج التقليدي، إلاّ أنّ هدفي الوحيد كان التحرّر من زوجة أبي وقرّرت انه لا مفر من أن
أساوم. كان أياد وسيماً ومؤدباً أثناء الزيارات الأولى ومرحلة الخطوبة أثناء إجازاته الدورية كل ثلاثة أسابيع. وكان في غاية الرقة والتفهَم ووعدني بأن أكمل دراستي وأكون مستقلّة. أعجبني نضجه، خصوصاً حين فاتحته برغبتي في الا أنجب إلا بعد إكمال الدراسة فوافق وقال لي إنّه يريد أن يكون في بغداد لا في الجبهة عندما يولد أولاده كي يربّيهم بنفسه ويبدو بأنّ الحرب ستستمر السنتين أو ثلاث. قررت أنّ الزواج هو أفضل خيار خيارات كلها سيئة بما ان العيش وحيدة مستحيل مادياً واجتماعياً.
لم يبال أبي كثيراً وكل ما قاله لي إنّه إنسان ناجح ومستقرّ مادياً وسيضمن مستقبلي. شعرتُ بأنّه يتحدث عن صفقة رابحة من صفقات الجملة التي كان بارعاً في إبرامها. أما زوجة أبي فلم تبذل جهداً كي تخفي فرحها للتخلّص مني. كان فندق الزفاف في
الشيراتون وشهر العسل أسبوعاً واحداً في بحيرة الحبانية، عاد بعده هو إلى الجبهة، وأنا إلى عش الزوجية الصغير الذي اشتراه في زيونة، قرب بناية دار الأزياء. كان راتبه ممتازاً إلا أنّه كان قد ورث أموالاً من أبيه الذي كان قد توفي قبل سنتين في حادث
سيارة. بدأت المشاكل منذ ثاني إجازة حين اكتشفت أنّ أيّاد اللطيف الباسم كان مثل جبل يخفي في باطنه بركاناً من السهل أن
يصب حممه على كل ما ومن حوله، ولم يكن من السهل التنبؤ بما قد يقلق البركان . الانفجار الأول كان بسبب إخفاقي في أن أرتقي بطبخي إلى ما يليق بذائقته . لم أكن ماهرة جدّاً في الطبخ لكنني حاولت بجدّ واستعنت بخالتي ونسخت وصفات جدّتي الشهيرة بيدي لكي أنال رضاه. قال لي إن قصعة الجيش أفضل
بكثير من طبخي. اعتذرتُ منه ووعدته بأن أتحسّن بالممارسة . كنتُ قد حذرته أثناء الخطوبة من أنني لا أتقن الطبخ لكنه قال لي يومها إنه متعوّد على أكل الجيش وإنّنا سنطبخ سوية. لكن كلام الخطوبة المعسول كان كلاماً مثل كلام الأحزاب قبل الوصول إلى سده الحكم كان يعتذر مني بعد أن يضربني ويمطرني بالقبل، خصوصاً على يدي، ويشتري لي هدايا ويعدني بأنّه لن يرفع يده وبأنها آخر مرة، لكن كل مرّة كانت آخر مرّة. كلفتني إحدى نوبات غضبه
كسراً في ذراعي. كان الألم شديداً فأخذني إلى مستشفى الطوارئ في الليل وقال لهم إنّني زللتُ وسقطتُ . من على الدرج. ظللت صامتة ودموعي تنهمر . شعرتُ بأنّ الطبيب المناوب كان يشكّك
في رواية زوجي، لكنه اكتفى بنظرات شكاكة. فكرتُ بأن أصرخ بأنه ضربني، لكن من سيصدّق أنّ الضابط الشجاع، الذي قلده الرئيس القائد، ثلاثة أنواط شجاعة يمكن أن يؤذي زوجته. قرّرت أن أعود إلى بيت أبي بعد تلك الحادثة. الح هو واعتذر لكنّني كنت مصمّمة على أن أعود إلى بيت أبي. جاء أياد بعد يومين
لزيارتي وإقناعي بالعودة. كان قد تحدّث مع أبي وأقنعه بأنه كان سوء تفاهم بسيط
حاولتُ أن أبحث عن حزن ما عند موته لكنّي لم أفلح.
شعرتُ بالذنب لأنني شعرت براحة، وكانت دموعي في العزاء حارّة وصادقة لأنني كنتُ أبكي نفسي والسنين التي ماتت من عمري. ازور امه أحياناً لأطمئن عليها، فهي طيّبة وكانت تعرف قسوته وتقدّر معاناتي. مازالت صورته وهو يتقلد نوط الشجاعة من القائد العام للقوات المسلحة، صدام حسين، مؤطرة وموضوعة فوق التلفزيون في بيتهم. وكلّما رأيتها تذكّرت وحشيته.
مسحت ريم دمعة خانت صلابتها وهي تسرد لي كل هذا
1

كنتُ أتسكع في الإنترنت كما تعوّدتُ أن أفعل مؤخراً
للهروب من عالمي إلى عوالم أخرى فعثرت على موقع لمظفّر النوّاب وتسجيلات لقصائده بصوته العذب. أعادني بيت من إحداها: «شكّد رازقي ونينْتَه؟، إلى صباحاتي مع ريم قبل أكثر من عشر سنوات. والرازقي الذي كانت تجئ به من حديقتهم وتعطيني إيّاه. وعاد عطره الذي كان يتسلل إلى كل خلية في جسدي، مثل
صوتها الذي كان نديّاً وفؤاحاً وهي تقول: (هاي إلك!
كنتُ قد مررت بعلاقتين قبل ريم، لكن علاقتي بها كانت الأكثر اكتمالاً ونضجاً من كل النواحي. كانت علاقتها العنيفة مع زوجها وما عانته قد جرحها، لكنّ كل هذا جعلها أيضاً أكثر ثقة وعمقا من بقيه النساء . كانت حذرة في السماح للآخرين بدخول
عالمها ولم تكن تسمح للكثيرين بعبور تلك الحدود اللامرئية التي رسمتها لتدافع بها عن حيز ها الخاص. وكان حذرها يزداد بالذات مع الرجال، خصوصاً وأنّ الكثيرين منهم كانوا يظنّون بأنها ستكون فريسة أسهل من غيرها. كانت حذرة معي في بداية صداقتنا وأشعرتني أكثر من مرّة بأني أحاول حرق المراحل وانني يجب أن أتميّل. تعلّمتُ فيما بعد أن أصبر وأتسلّل إلى قلبها رويداً رويداً بدلاً من أن أحاول اقتحامه بطيش. وكانت خفة الدم والروح سلاحي الرئيسي في
الوصول إليها. اقتنعتُ بأنني سأظل أراقبها وأشتهيها وأدور في مدارها إلى أن نلتحم، تحوّلت الصداقة بمرور الوقت إلى شيء آخر، أكثر حميميّة. وبالرغم من أنّنا لم نتحدث عمّا كنّا نشعر به بالتحديد إلاّ أنّ التقاء النظرات الصامتة للحظات كان يكشف الكثير
ممّا يفوق التسميات. كما أنني كنتُ أشعر عندما كنّا نمشي أو نجلس لوحدنا كما لو أنّ الهواء بيننا يتبلل بنّا. كنتُ أَكْثر من رسمها وأهديها معظم تلك الرسومات والتخطيطات. كانت تشكرني بخجل
وتقول لي : «شنو، ماكو أحد غيري ترسمه؟ ماكو غير موضوع كنت
أقول لها: ( لا، ماكو غيرِج؟)
قلتُ لها ذات مرّة إنّني أحب أن أنحتها ذات يوم.
والثمن؟
ببلاش هديه ...... بس يعني، علمود يكون
النحت دقيق. وأشرت لها بيدي أنّها يجب أن تكون عارية
ضحكت ضحكة طويلة وقالت: لا بالله؟ هذي قديمة. جرّبها على وحدة غيري. لو تطلع نخلة براسك ما أرضى!
مع الأسف، لو كلتي: لمَن تطلع نخلة براسك، جان على
الأقل حاولت أزرع نخلة براسي.
اذا جان أسلوبنك تجريدي مثل ما تدّعي، شلّك بالـ "موديل"؟
- إلهام يا زميلة،
- ماشاء الله على الزمالة!
بعدها بثلاثة أشهر دعتني، بدون مقدّمات، إلى تناول الغداء في بيتها.
فسألتها عمّن سيكون هناك فقالت: «ليش؟ خايف؟
ضحكتُ وقلت لها: لا، بس ممنوع السؤال؟»
قالت: زوجة أبويه مسافرة للموصل وبابا بالشغل.
تريد تعزم أحد؟، فضحكت
وقلت لها: «لا، يكفي آني وإنتي
لم تكن المرة الأولى التي أكون فيها معها في سيارتها
لوحدنا. كنّا أحياناً نلتقي لمشاهدة عروض مسرحيّة ثم كانت توصلني إلى البيت. لكنّها كانت المرة الأولى التي أذهب فيها إلى بيتها أو إلى أي مكان أعرف باننا سنكون فيه لوحدنا . كان البيت جميلاً وكبيراً في منطقة الجادرية ، أدخلتني من باب المطبخ ثم تبعتها داخل ممر يؤدي إلى غرفة الضيوف. طلبت مني أن آخذ راحتي ريثما تسخّن هي الطعام.
سألتها إن كانت تحتاج مساعدتي،
فقالت: «لا، إنت ضيفي. "
وسألتني إن كنت أرغب بشيء أشربه، فأجبتها بالنفي. ابتسمت أتمعن وتركتني في أثاث الغرفة الباذخ والسجاد الإيراني النفيس. فكّرت وأنا أنتظرها
بأنّ هذه فرصتي الذهبيّة، لكنّني تذكرت أيضاً ما كانت قد قالته عن الصبر والثقة، هل هي مجرّد صدفة أن تدعوني إلى بيتها في اليوم الذي تكون فيه زوجة أبيها خارج المدينة؟ عادت بعد عشر دقائق تحمل شرشفاً تحت إبطها والصحون بين يديها وفوقها الشوك والملاعق والفوط. وضعتها في زاوية الطاولة، ثم فرشت الشرشف الأبيض على الطاولة ورتبته
الصحون أمام كرسيين من الكراسي الثمانية، أحدهما على رأس الطاولة والآخر الذي كان بجانبه، بحيث نحتل زاوية من زوايا الطاولة الكبيرة، لم أكن متعوّداً على كل هذه التحضيرات من أجل وجبة، تبعتها إلى المطبخ فقالت ضاحكة
- وين جاي؟
- ميصير. لازم أساعد. شويه
وضعت الرز الأصفر الذي كانت قد سكّبته في صحن كبير وطلبت منّي أن أحمله. كان مخلوطاً باللوز والزبيب وقطع الدجاج وتفوح منه رائحة الزعفران. اخذتُ الصحن ووضعته على الطاولة. عندما عدتُ إلى المطبخ أشارت إلى صحن سلطة كبير
أخرجته من الثلاجة
وقالت: ( هذا هم عفية )..
تبعتني وهي تحمل صينية عليها زجاجتا بيبسي وقدحان وبعض الخبز وجلسنا لنأكل. كنتُ أحب أن أراقبها وهي تفعل أي شيء مهما كان عابراً أو
عاديّاً. لأن العابر والعادي معها كان مختلفاً تلوّنه بلمساتها وتبلّله بوجودها. وكنت أحبّ أن أراقبها تأكل. كانت تحب الأكل وتستمتع به، لكنّها كانت تمضغ لقمتها بهدوء. أعجبني الأكل كثيراً فسألتُها عمّن يجب أن يمتدح لذلك
فقالت إنّها الخادمة التي تأتي ثلاث مرّات في الأسبوع وهي طباخة ماهرة. سألتها عن معاركها مع زوجة أبيها فقالت إنّ السلام مستتب وإنّ أباها حور البيت قليلاً بعد وفاة زوجها وعودتها للسكن معهما وبنى غرفة
إضافية بحيث أصبح الطابق العلوي كله لها. هناك غرفة جلوس بجانب غرفتها تستخدمها كمكتب وفيها تلفزيون وحمّام. وبذلك فهي تنزل إلى الطابق الأرضي للأكل فقط وقلّما تضطر
للتعامل مع زوجة أبيها. قالت إنّها ستريني ما سمّته لجناحها الخاص، بعد الغداء وابتسمت بخجل. ففسرت ذلك على أنه إشارة إيجابية تشجّعني على أن أخطو الخطوة التالية نحوها، بعد أن انتهينا من الأكل شكرتها وحملنا الصحون إلى المطبخ، قالت الي إنّني يمكن أن أغسل يدي في الحمام الذي في الطابق العلوي
صعدنا الدرج الذي كان من المرمر إلى باب خشبي فتحته هي وأقفلته وراءنا. كان أوّل باب على اليسار هو للحمّام. فتحت بابه وأشارت لي بالدخول. وقالت إنّها ستجئ بمنشفة جديدة. كان الحمام أكبر من غرفة نومي. حيطانه وأرضه من الكاشي الأزرق
الفاتح غطته سجادّات صغيرة بلون أزرق غامق. وكان فيه حوض للاستحمام استلقى خلف ستارة شفافة. المغسلة سماويّة اللون بيضوية الشكل. فتحت صنبور الماء ووازنت بين الماء الحار و البارد . التقطتُ الصابونة الصفراء وصوبنتُ يدي وفمي. أعجبتني
رائحتها التي كنت أشمّ ما يشبهها من بشرة ريم حين تقترب مني . وغسلتُ فمي ويديّ ثم أغلقت الصنبور. جاءت تحمل منشفة بيضاء ومدّت يدها نحوي قائلة: اتفضل. أمسكتُ المنشفة بيدي اليسرى لكنّني وضعت يدي اليمنى على يدها اليسرى. لم تسحب يدها. قلتُ لها: «أريد أ آغسّلّج إيديج . . فضحكت متفاجئة
وقالت: «شنو؟ ليش؟» سحبتُها إلى المغسلة برفق وفتحتُ الماء من جديد. وضعت المنشفة الجديدة فوق المنشفة التي كانت على المحجّل الذي كان إلى يمين المغسلة. أمسكتُ يديها ووضعتهما تحت الماء وبلتُهما. لم تقل شيئاً. ثم أخذتُ الصابونة وفركتها
بيدي وصوبنتُ يدها اليمنى بعناية: ظاهرها وباطنها، ثم وضعت كل إصبع بين إبهامي وسبابتي وصوبنته. كرّرتُ ذلك مع يدها اليسرى، ثم بللتهما بالماء وأغلقت الصنبور. كانت تنظر إلي وتبتسم طوال الوقت. أخذتُ المنشفة وفتحتها وأمسكت بيديها الأجففهما، بعد أن أعدتُ المنشفة أمسكتُ بيديها ونظرت إلى عينيها . ابتسمت وقالت بصوت خافت: اشكرا.. شعرتُ بأنّ
جسدها كان مستعدّاً لاستقبالي. سحبتها نحوي وتقربتُ وجهي إلى وجهها، لكنّها ابتعدت. شعرت بخيبة أمل للحظة، لكنّها أعادت الي الأمل عندما قالت: (خلّيني أغسل حلكي أوّل. وضحكت وأضافت: "ما غسلتليّاه. روح انتظرني هسه اجي). وقفتُ خارج باب الحمّام أراقبها وهي تغسل فمها، نظرتُ إلي في المرآة
ابتسمت. جفّفته بالمنشفة ثم أعادتها إلى مكانها. فتحت الدولاب الذي كان فوق المغسلة وأخرجت قلم حمرة لونت به شفتيها باللون الوردي الذي كانت تحبه. أعادت أحمر الشفاه إلى الدولاب وأغلقته ثم جاءت إلى باب الحمّام وأغلقته وراءها واتكأت على الحائط بجانبه على بعد خطوتين منّي. اقتربتُ منها ووقفت أمامها. تبادلنا نظرة تأوّه عبرها البؤبؤان. ملتُ نحوها وأنا
أنظر إلي شفتيها. أغلقت عينيها، فطبعتُ قبلة خفيفة على شفتيها وأردفتها بأخرى، ثم قبّلتُ زاوية فمها اليمنى وزحف فمي نحو خدها الأيمن يطبع قبلات خفيفة ثم عرّج نحو رقبتها وأنا أضع يدي حول خصرها. تأوّهت ومالت برأسها قليلاً. أحسستُ بيديها
علي ظهري. قبلتُ رقبتها واستنشقت عطرها الياسميني الذي ظله يدرخني لأشهر. طوّقنتُ رقبتها بقبلاتي ثم تسلّق فمي رقبتها قبلة قبلة نحو حنكها. أسرتُ شفتها العليا بين شفتيّ قبل أن أنتقل إلى
تعليقات