📌 روايات متفرقة

رواية عندما تنحني الجبال الفصل الثاني 2 بقلم بلومي

رواية عندما تنحني الجبال الفصل الثاني 2 بقلم بلومي

رواية عندما تنحني الجبال الفصل الثاني 2 هى رواية من اجمل الروايات الرومانسية السعودية رواية عندما تنحني الجبال الفصل الثاني 2 صدر لاول مرة على موقع التواصل الاجتماعى فيسبوك رواية عندما تنحني الجبال الفصل الثاني 2 حقق تفاعل كبير على الفيسبوك لذلك سنعرض لكم رواية عندما تنحني الجبال الفصل الثاني 2

رواية عندما تنحني الجبال بقلم بلومي

رواية عندما تنحني الجبال الفصل الثاني 2

بين الحياة والموت
فكرت نانسي بأنها لن تعود صباح الغد إلى وظيفتها الجديدة التي استلمتها اليوم كموظفة استقبال في عيادة طبيب أسنان
.. العيادة كانت صغيرة و عفنة الرائحة .. وغير مناسبة إطلاقا كعيادة طبيب .. أما الطبيب نفسه فقد كان رجلا سمينا أصلع الرأس صاحب نظرات وقحة كادت تقتلها غيظا
خرج آخر مريض في تمام الساعة السابعة .. فاستعدت للمغادرة عندما خرج الطبيب من الغرفة الداخلية ورآها ترتدي معطفها .. فقال لها :- أتذهبين بهذه السرعة ؟
قالت باقتضاب :- يجب أن أعود إلى البيت قبل أن يتأخر الوقت أكثر
منحها ابتسامة صفراء وهو يقول :- أرجو أن يكون عملك هنا قد راقك
كان بإمكانها الخروج بصمت دون اخباره بعدم عودتها ثانية .. ولكنها لم تستطع مقاومة إغراء رؤية ابتسامته السمجة تختفي .. قالت بهدوء :- للأسف .. اكتشفت بأنني لا أحبذ التأخر كثيرا في المساء .. أنا متأكدة بأنك ستجد موظفة أكثر ملاءمة للعمل هنا
كما توقعت .. اختفت ابتسامته وهو يقول بحدة :- ما الذي يعنيه هذا ؟ هل كنت تتسلين إذن بقضاء يومك هنا
:- أنا لم أتسلى .. لقد بذلت جهدي في القيام بكل ماهو مترتب علي .. ولم يناسبني العمل بكل بساطة
:- حسنا .. لم تقومي بكل شيء تماما
وقف أمامها مانعا إياها من الوصول إلى الباب وقد علت عينيه الخبيثتين نظرة أثارت الخوف في نفسها .. ولكنها لم تظهر خوفها وهي تقول من بين أسنانها :- ابتعد عن طريقي وإلا صرخت وجمعت كل سكان المنطقة
أمسكها فجأة وجذبها إليه وهو يقول :- لم لا تحاولين ؟
قبل أن تطلق نانسي صرختها تركها فجأة واندفع جسده بعيدا حتى اصطدم بالجدار .. رمشت بعينيها عدة مرات غير مصدقة لوجود محمود الذي أمسك بتلابيب ثياب الرجل .. ولكمه بعنف حتى أدمى فمه وأنفه
استدار نحوها وقد ظهر الشر في عينيه الغاضبتين .. وأمسك يذارعها قائلا بغضب :- تحركي أمامي
لم تقاومه عندما دفعها إلى خارج المكان .. ثم أدخلها إلى سيارته بينما هي ذاهلة تماما مما حدث .. وفور أن تحركت السيارة صرخ بها :- أيتها الحمقاء المجنونة .. لم لا تتوقفين عن زج نفسك في المشاكل ؟
قالت متوترة :- لم أجد وظيفة أخرى .. كما أنني لم أعرف أي رجل خسيس هو الطبيب
:- طبعا لأنك لم تتعبي نفسك بالسؤال عنه قبل تورطك في العمل لديه .. لكنت عرفت بسهولة أي سمعة وسخة لهذا الرجل في المنطقة
قالت باضطراب :- هل .. هل تعرفه ؟
ضرب المقود بقبضته بقوة وهو يقول :- طبعا لا أعرفه .. ولكنني سألت عنه فور أن أخبرتني والدتك عنه .. لقد قدرت وحدي بأنك لن تتحلي بالذكاء الكافي لتفعلي هذا بنفسك
تمتمت :- أهذا ما جاء بك إلى العيادة ؟
كاد يفقد أعصابه وهو يقول :- ما الذي تتوقعينه ؟. أنا أتصل بهاتفك المحمول منذ ساعات دون فائدة فجئت بنفسي.. ما الذي كان ليحصل لو أنني تأخرت قليلا
قالت بعصبية :- كنت تمكنت من الدفاع عن نفسي بدون مساعدتك
كانت ممتنة حقا لوصوله المفاجئ .. فهي لم تعرف من قبل هذا الإحساس بالحماية من قبل رجل منذ وفاة والدها .. ولكنها أبت أن تسمح له بالتعالي عليها أكثر
أوقف السيارة إلى جانب الطريق .. والتفت نحوها قائلا من بين أسنانه :- لا تختبري صبري يا نانسي .. قد تمتلكين لسانا لاذعا وطويلا .. ونظرة قادرة على تجميد بركان .. ولكنك لا تمتلكين القوة على رد هجوم رجل مصمم
أخفضت عينيها رافضة تلقي نظراته القاسية .. انه محق .. أليس كذلك ؟ لم تستطع سابقا رد هجوم جابر.. وما كانت لتتمكن من صد الطبيب المقرف .. تمتمت مرغمة :- أنا آسفة
زفر بقوة محاولا استعادة هدوءه ثم قال :- لماذا تصرين على القيام بهذه الأعمال القذرة يا نانسي ؟ أنت تعرفين بأنها لا تقدم ولا تؤخر .. ما الذي تحاولين إثباته ؟
قالت بعناد :- لا يحق لك سؤالي وكأنك ولي أمري .. أنا مسؤولة عن تصرفاتي ولن آخذ إذنك حتى أمتهن أي مهنة
قال بصرامة :- بل يحق لي بعد أن أنقذتك من موقف تحسدين عليه .. ما الذي تأملينه من استمرارك في التنقل من عمل إلى آخر ؟..
لم تمنحه جوابا .. فأصر قائلا :- انظري إلي يا نانسي وأخبريني .. من تحاولين معاقبته بأفعالك هذه
قالت فجأة بانفعال :- أنا لا أعاقب أحدا .. أنا أعاقب نفسي فحسب
عقد حاجبيه وانتظر توضيحها وقد ظهر عليه التوتر .. فأكملت :- لطالما كنت أنا الفتاة الثرية المدللة كما تقول .. لقد تصرفت بشكل سيء طوال حياتي وأخطأت في حق الكثير من الناس .. وأنا أشعر بأن أقل ما علي فعله هو أن أكافح وأعيش حياتي مثلهم لأكفر عن أخطائي
ساد صمت طويل قبل أن يقول بهدوء :- أنت لا تستحقين حتى أن تعيشي مثلهم ما دمت تعتقدين بأن هذا عقاب
نظر غليها مكملا :- إن أردت التكفير عن أخطاءك .. فذلك لن يكون بتحميل نفسك فوق طاقتها
أمسك يدها مما جعلها تنتقض مجفلة .. قال :- هاتان اليدان غير قادرتين على القيام بعمل خشن .. انظري إليهما .. إنهما ناعمتان .. وطريتان .. اعتادتا على العزف على البيانو .. ارتداء الخواتم الثمينة .. من الظلم ان ترهقيهما بأعمال لم تخلق لهما
أفلت يدها قائلا :- ما عليك فعله هو الإحساس مثل باقي الناس .. لأنك لن تستفيدي شيئا إن عشت حياتهم واحتفظت بروحك القديمة .. روح الفتاة الثرية والمتكبرة والتي لا تهتم إلا بنفسها
قطع كلامه عندما ارتفع رنين هاتفه المحمول .. فرد عليه وأخذ يتحدث بجدية إلى الطرف الآخر .. كانت هي تفكر بكلامه .. إنه محق .. أليس كذلك ؟ ولكنه مخطئ في ظنه بأنها لا تهتم لأحد .. بل هي تهتم بأمها .. ولينا .. وحنان التي ترعرعت معها .. لن تسمح لكلامه المدمر أن يذيب كبريائها
كانت تستمع إليه وهو يتحدث عبر الهاتف ويعطي بعض التعليمات بصوت حازم وقوي ذكرها بصوته في المحاضرات التي كانت تحضرها له .. تساءلت وهي تشعر برنين السلطة في صوته عما يفعله خارج أسوار الجامعة .. أنهى مكالمته .. وبدون أي كلمة .. أكمل طريقه موصلا إياها .. عندما وصلا .. ترجل معها من السيارة فقالت له بخفوت :- شكرا لك لأنك ساعدتني في العيادة .. وعلى توصيلك لي
قال بهدوء :- إن كان هذا الشكر الغير متوقع محاولة منك لصرفي فهي لن تنجح .. وعدت والدتك بالمرور والاطمئنان عليها .
أطبقت فمها الرقيق بغضب وهي تتجه نحو الباب .. وقبل أن تلمس الجرس .. سمعت صرخة أمها .. تلتها صرخة لينا المذعورة .. انتفضت نانسي وهي تحاول إدخال المفتاح في القفل بيد مرتعشة ..حتى تناوله منها الدكتور محمود وفتح الباب بيد ثابتة .. اندفعت إلى الداخل لتجد والدتها مكومة على الأرض فاقدة الوعي .. ولينا وحنان تجثوان حولها بجزع .. أسرع محمود يحملها ويمددها على الأريكة .. بينما أوضحت حنان ما حصل باضطراب :- لقد أصابتها نوبة صداع قوية للغاية .. ثم سقطت مغشيا عليها
أخذت نانسي تربت على وجنة امها وهي تخاطبها بصوت مرتعش :- أمي .. ردي علي أرجوك
شعرت بيد محمود تمسك كتفها بقوة وهو يقول :- نانسي .. خذي مفتاح السيارة واسبقينا إلى هناك .. حنان .. أحضري بطانية لنبقي السيدة دافئة
أخذت نانسي المفاتيح .. أسرعت تمتثل لأوامره دون نقاش .. فقد أدركت بأن محمود هو الشخص الوحيد الذي يمكنهن الاعتماد عليه في ظرف كهذا وقد أصبن جميعا بالذهول والذعر ..
في المستوصف الصغير للمدينة .. كان رأي الطبيب هو نقل السيدة فورا إلى أقرب محافظة رئيسية حيث المستشفيات أكثر استعدادا لمثل حالتها .. القلق على وجهه وهو يفحص والدتها جعل نانسي تكاد تجن من الخوف على والدتها .. التي كانت خلال ساعات ترقد داخل أحد أهم المستشفيات في البلاد وقد تم نقلها بواسطة سيارة إسعاف رافقتها نانسي أثناء الرحلة .. بينما لحق بها محمود بسيارته .. آمرا حنان بالبقاء مع لينا وتوضيب أغراضهن استعدادا للحاق بهم فور وصول من يأخذهم
أخذت نانسي تسير في غرفة الانتظار دون توقف .. بينما يقف محمود مستندا إلى الجدار وقد عقد ساعديه أمام صدره دون أن يتفوه بحرف واحد
خرج إليهما الطبيب فأسرعت إليه نانسي تسأله بقلق :- ما الأمر يا دكتور ؟
كان عابس الوجه مما جعل قلبها يخفق بعنف قلقا .. :- نتيجة الصور واضحة .. السيدة مصابة بنزيف حاد ومفاجئ في المخ
كادت تفقد الوعي لو لم يمسك بها محمود بشدة ويخاطب الطبيب :- هل أنت متأكد يا دكتور ؟
:- للأسف .. لو أن الأمر قد استدرك باكرا لكان من الممكن تداركه .. وعلاج المشكلة قبل أن ينفجر الشريان ويتم النزيف. وتدخل في الغيبوبة .. لقد أخبرتني بأن والدتك كانت تعاني من الصداع .. أليس كذلك ؟
أجاب محمود عنها فقد كانت ذاهلة تماما:- هذا صحيح ..
:- كان يجب أن تلجأ فورا إلى الطبيب و....
بالكاد تمكنت نانسي من فهم كلمات الطبيب .. هل هو خطأها .. هل كان عليها أن تصر على أمها في زيارة الطبيب منذ أول نوبة صداع ؟ .. قالت بصوت خافت :- هل ستموت ؟
ارتبك الطبيب وقال :- حالتها متقدمة للغاية .. أي تدخل جراحي لن يكون مضمون النتائج
قال محمود بحزم :- أي شيء أفضل بكثير من مشاهدتها تعاني دون أي تدخل .. متى يمكن إجراء العملية ؟
:- فور وصول جراح الأعصاب ..
أجلسها محمود على أحد المقاعد .. وتابع حديثه مع الطبيب في الوقت الذي سالت فيه دموعها غزيرة .. عاد محمود يجلس إلى جوارها قائلا :- سوف تبقى أمك هنا في المستشفى تحت إشراف الأطباء .. الطبيب سيصل غادا وستتم العملية في الصباح الذي يليه .. في هذه الأثناء .. لقد استأجرت لكن شقة صغيرة في حي قريب من المستشفى ..ستمكثن فيها خلال الفترة القادمة
تمتمت بين دموعها :- ما كان عليك إزعاج نفسك .. نستطيع تدبر أمرنا
قال بهدوء :- لست في حالة تؤهلك لتحمل المسؤولية كاملة يا نانسي .. اسمحي لي بالوقوف إلى جانبك هذه المرة مهما كان الأمر كريها بالنسبة إليك
راقبته ينهض مبتعدا ليجيب عن إحدى مكالماته الهاتفية .. كيف تمكن من إيجاد شقة لهن بهذه السرعة ؟ .. قدرت بأنه يمتلك الكثير من النفوذ والسلطة ليحصل على ما يريد في وقت قصير ..
كانت تعلم بأنه هو من تكفل بمصاريف المستشفى .. أثار هذا حفيظتها .. ولكنها لا تملك إلا أن تقبل عطائه في وقت لن يحتمل منها أي تكبر أو كبرياء .. فحياة أمها على المحك
أمها الحبيبة الرقيقة .. التي لم تذنب في حياتها إلا في حب رجل لا يستحقها .. رجل مات تاركا إياها لتلملم بقايا عاره .. وكان الحمل ثقيلا على كيانها الضعيف .. حتى فتك بها ..
وصلت حنان مع لينا .. ولم تتساءل نانسي عن طريقة وصولهما .. فقط عانقت أختها الصغرى التي عرفت من النظر إلى وجه نانسي مدى صعوبة الوضع .. فأجهشت بالبكاء حتى قبل أن تعرف التفاصيل .. وعندما رأت محمود .. أسرعت إليه ترمي نفسها في صدره وتبكي هاتفة :- دكتور محمود .. هل ستكون أمي بخير ؟ .. هل ستموت ؟
ربت على شعرها الأشقر بحنان قائلا :- أمك ستكون بخير يا لينا
رفع رأسه إلى نانسي الشاحبة الوجه وقال :- نانسي .. سآخذكن لترتحن قليلا في الشقة
ردت نانسي :- لن أتحرك من هنا
أسرعت حنان تقول :- اذهبي يا نانسي .. أنا سأبقى برفقة السيدة مريم .. وإن طرأ أي جديد سأتصل بك على الفور
استسلمت في النهاية لتعب أعصابها و جسدها .. واستجابت لإلحاحهما .. وجدت نفسها بعد فترة تدخل إلى شقة صغيرة برفقة لينا ومحمود .. لينا كانت تبكي بحرارة .. فجلس محمود إلى جانبها فوق الأريكة محاولا تهدئتها .. بينما دخلت نانسي إلى غرفة النوم المحتوية على سريرين صغيرين .. وأغلقت الباب ورائها .. نظرت إلى نفسها في المرآة .. إلى وجهها الشاحب .. وتساءلت :- ما الذي علي فعله ؟ .. كيف سأتدبر تكاليف العملية وأنا لا أملك قرشا
الحقائب المحشوة بأغراضها كانت على الأرض إلى جوار السرير .. لم تتساءل عن كيفية وصولها .. انحنت لتخرج من إحداها صورة والدها .. ونظرت إليها طويلا .. سالت دموعها بغزارة .. ما كانت لتحقد عليه لو اقتصرت نتائج أفعاله على تشردهم واحتقار الناس لهم .. ولكن أن تمتد إلى صحة والدتها .. لماذا هي بالذات ؟ لماذا ؟
قذفت الصورة بكل قوتها على المرآة الكبيرة فكسرتها .. فتح محمود الباب ليجدها تلقي بالأشياء من حولها في كل مكان وكأنها تفرغ غضبها الكامن داخلها
أمسك بها من الخلف فقاومته بشراسة .. ولكنه ضمها إلى صدره بقوة وقد كبل حركتها بذراعيه وهو يقول :- إهدئي يا نانسي .. غضبك هذا لن ينفع أحدا
انهارت مقاومتها وهي تبكي بمرارة قائلة :- لماذا هي ؟ إنها لا تستحق أن تموت
أدارها إليه وهو يقول بحزم :- أمك لن تموت يا نانسي ..
أخذت تبكي على صدره فقادها برفق إلى السرير قائلا :- تمددي وخذي قسطا من الراحة .. وغدا سوف نتكلم في الموضوع
عجبت من نفسها كيف أطاعته وتمددت .. وتركته يغطيها بإحكام .. أطفأ النور وغادر الغرفة .. فلم يطل بها الوقت حتى استسلمت لإرهاقها وغابت في نوم عميق
حصار
خرجت نانسي من غرفة أمها غير قادرة على التقاط أنفاسها .. لا تستطيع تأمل وجهها الشاحب والنائم بسلام أكثر وهي تتساءل إن كانت ستصحو يوما أم لا
سمعت صوت محمود يقول بهدوء :- صباح الخير
استدارت إليه وهي ترد باضطراب :- صباح النور
لم تستطع النظر في عينيه مباشرة .. فما حدث بالأمس جعلها اليوم في قمة الحرج .. ما الذي أصابها كي تتصرف أمامه بذلك الشكل المجنون ؟
سألها :- أين لينا ؟
:- أرسلتها إلى الشقة مع حنان .. لقد كانت مرهقة ولم تتوقف لحظة عن البكاء
أومأ برأسه وهو يقول :- أيمكن أن نتحدث في الخارج لبضع دقائق .؟
ألقت نظرة على باب الغرفة حيث ترقد أمها .. ثم سارت معه .. وجدته يقودها إلى خارج المشفى .. إلى الحديقة الغناء المحيطة بها .. شعرت بالبرد الشديد فندمت لعدم إحضارها لمعطفها .. نظرت إليه قائلة :- ما الذي رغبت بمحادثتي به ؟
:- عن والدتك بالطبع .. وعن العملية التي ستقوم بها صباح الغد .. يجب أن تعرفي بأنني سأتكفل بجميع المصاريف حتى خروج أمك من المستشفى معافاة
احمر وجهها حرجا وهي تقول :- لست مضطرا لهذا .. كنت لأستطيع تدبر أمري وحدي
عقد ساعديه أمام صدره قائلا :- حقا يا نانسي ؟ وكيف كنت لتفعلي هذا ؟ لقد سبق وأوضحت لي والدتك حالتكم الصعبة .. وأنت لا تملكين ما يكفي لتكاليف ليلة في هذا المكان .. فكيف بعملية باهظة كالتي تحتاج إليها أمك ؟
برقت عيناها الخضراوان بغضب وهي تقول من بين أسنانها :- تبدو مستمتعا للغاية بسرد الوقائع علي .. هل يمنحك التسلط على الآخرين والسيطرة على حياتهم متعة مرضية ؟
اقترب منها .. ونظر إلى عينيها قائلا بهدوء :- لو كنت مكانك يا نانسي لتأدبت وأنا أخاطب الرجل الذي يمسك بمصير والدتك بيده .. كما أنني لا أنتظر إذنك .. فأنا لن أقف مكتوف اليدين وأنا أرى والدتك تموت فقط بسبب كبريائك السخيفة
قالت بحدة :- ما الذي أردت قوله لي إذن مادام رأيي لا يمثل أي قيمة لك ؟
:- يجب أن نتحدث بوضعك أنت وعائلتك بعد خروج والدتك من المستشفى .. ستكون بحاجة إلى عناية خاصة .. كما أن لينا لا يمكن أن تحتمل الحياة القاسية التي كنتن تعشنها في ذلك المكان القذر البارد على الشاطئ ..
هزت رأسها قائلة بتوتر :- ما الذي تقترحه إذن ؟
قال بهدوء :- ستنتقلون للعيش في منزلي .. ستجد أمك العناية اللازمة .. ولينا ستحظى بالحماية ..
قالت بعنف : هذا لن يحدث أبدا .. سبق وأخبرتك بأننا لا نحتاج إلى إحسانك .. يكفيني ما سأدين لك بسبب مصاريف العملية .. وأنا أؤكد بأنني سأرد لك كل قرش ستدفعه .. ولكنني أرفض بأن أكون مدينة لك بالمزيد
:- المرأة لا تكون مدينة لزوجها عندما ينفق عليها ويراعي عائلتها
ساد الصمت طويلا .. لم يتخلله سوى صدى صيحات طفل ضاحك قادم من بعيد.. وهدير الحمامات الشاهدة على الموقف من فوق الأشجار العارية .. نانسي كانت تحدق به جامدة .. وكأنها تعجز عن فهم ما يقوله .. ولكنها قالت في النهاية بصوت أجش :- أنا لن أتزوج بك
قال بهدوء كمن يخاطب طفلا صغيرا .:-. ستفعلين يا نانسي .. أنت لا تملكين خيارا آخر .. وبسبب معرفتي برجاحة عقلك ..فأنت ستدركين وحدك مدى الفائدة التي ستعود عليك من هذا الزواج
حاولت إخفاء ذهولها من طلبه العجيب .. وتمالكت أعصابها أمام لهجته الواثقة المستفزة .. تمتمت :- أنا لا أصدق بأنك حقا تطلب الزواج مني ؟
قال ببرود :- أنا لا أطلب يا نانسي .. أنا أعرض عليك حلا لمشكلتك .. حلا مناسبا يرضي جميع الأطراف
قالت محاولة التظاهر بالهدوء :- لقد عرفت أنا مكسبي من زواج مماثل .. أنت ستدفع نفقات علاج والدتي .. وترعى شؤوننا بعد ذلك كأي رب أسرة صالح .. ولكن لماذا قد ترغب أنت بالزواج من فتاة تكرهها ؟
قال بهدوء :- أكره غرورك .. وأحتقر طباعك .. ولكنني قطعا لا أكرهك .. سأتزوجك لأجل الأسباب المعتادة التي تدفع أي رجل للزواج .. تكوين أسرة .. وإنجاب أطفال .. أنا لم أعد شابا في مقتبل العمر .. وقد حان الوقت لأفكر بهذه الأمور
هزت رأسها غير قادرة على التفكير .. الزواج من الدكتور محمود كان آخر ما فكرت يوما بالقيام به .. سألته بارتباك :- ولكن لماذا أنا بالذات ؟ تستطيع الزواج بأي فتاة تناسبك أكثر .. لا تكون مكبلة بعائلة ومذللة بعار والد ميت
قال بصرامة :- أقدر لك لو توقفت عن الحديث عن نفسك بهذه الطريقة .. اختياري قد وقع عليك لأسباب كثيرة فكرت بها جيدا في الآونة الأخيرة .. فأنت جميلة .. أنيقة .. تجيدين التصرف بشكل جيد أمام الناس مما يناسب مكانتي الاجتماعية ..كما أنك فتاة قوية ومكافحة .. وهذه المواصفات هي ما أحب أن يمتلكها أبنائي مستقبلا
شعرت بالحنق لطريقة كلامه وكأنه يشتري فرس استيلاد مناسبة .. ولكنها شهقت فجأة عندما اقترب منها ونظر إليها بطرقة جعلت جسدها ينتفض ذعرا وهو يقول بصوت عميق :- لقد اخترتك يا نانسي لأنني أريدك بالتأكيد .. يعجبني غلافك الخارجي الجميل .. ومن الطبيعي أن أرغب بك .. وليس من وسيلة لحصولي عليك إلا الزواج .. إلا إن كان لديك اقتراح آخر
تراجعت وهي ترتعش وقد أخافتها كلماته ونظراته الغير مألوفة .. عرفت يقينا بأن هذا هو السبب الرئيسي الذي يدفع الدكتور محمود للزواج منها .. فالفتيات الجميلات الأنيقات المناسبات للإنجاب موجودات بكثرة
كانت هذه المرة الأولى التي تلمح فيها الرغبة الخالصة في نظراته .. عادة كان ينظر إليها بصرامته المعهودة وازدراءه كلما أحب أن يشعرها يصغرها وتفاهتها .. لم تعرف لماذا أخافتها معرفتها بمشاعره .. فهذه لم تكن المرة الأولى التي تلتهمها فيها نظرات رجل ..
اما هذه المرة .. فقد تغلغلت نظراته التي شملت جسدها الضئيل المغطى بالملابس الدافئة إلى أعماقها .. وجعلتها ترتعش رفضا ونفورا .. تمتمت بصعوبة :- لماذا تظن بأنني قد أرغب في الزواج منك .. أنت تعرف تماما بأنك لا تعجبني حتى
قال ساخرا :- لا تقولي لي بأنك كنت تنتظرين زواج حب لأنني لن أصدقك .. فتاة مثلك لن تتزوج إلا برجل يناسب مستواها الاجتماعي – السابق طبعا – رجل ثري يستطيع أن يعيد إليك مجدك الذي ضاع .. فأنا متأكد تماما بأنك ما كنت يوما لتتزوجي بماهر
قالت بتوتر :- طبعا لن أتزوج ماهر .. فهو ..
أرادت أن تقول بأنه مجرد صديق إلا أن محمود قاطعها قائلا :- طبعا لأنه لن يستطيع منحك الحياة المرفهة التي تنشدينها .. كما أنك فعلا لست مخيرة الآن .. فبرقبتك عائلة في انتظار عنايتك بها .. أم أنك ستضحين بصحة والدتك .. ومستقبل لينا فقط لأنني لا أروق لك
احمر وجهها بغضب وقد حاصرها بالواقع المر وقالت :- لا أصدق بأنك تستعمل عائلتي للضغط علي
قال ببرود :- أنا لا أضغط عليك يا نانسي .. لديك ساعات قليلة للتفكير في الموضوع .. وأنا أنتظر ردك هذا المساء
استدار مبتعدا تاركا إياها وحدها .. ترتعش من البرودة الشديدة التي أحست بها فجأة .. جلست على المقعد الخشبي القريب .. وحاولت التفكير بالحديث الذي دار بينهما قبل لحظات .. لا تستطيع فعلا أن تصدق بأن الدكتور محمود قد عرض عليها الزواج به لتتخلص من مشاكلها .. أيظنها مادية إلى هذا الحد ؟
إنه يعرف بأنها لا تملك خيارا آخر .. خاصة وأنه سيتكفل بمصاريف العلاج مهما كان ردها .. هي حقا لا تعرف شخصا آخر ليساعدها في حل مشاكلها .. حتى ماهر أعز أصدقائها لن يتمكن من مد يد المساعدة لها .. فوالده توفي منذ سنوات .. وهو المسؤول عن أمه وأختيه .. ومصدر دخلهم الذي تركه والده بالكاد يغطي احتياجاتهم .. حتى أن ماهر يعمل بدوام جزئي كي يغطي مصاريفه الشخصية .. ماذا عليها أن تفعل إذن .. هل ترفض عرض محمود وتشاهد أمها ولينا تعانيان مجددا من الحياة البائسة .. هل تحرمهما من الفرصة الأخيرة لحياة كريمة في ظل حماية رجل كمحمود
هو يخيفها نعم .. ولكنه كان دائما شخصا جديرا بالثقة مع والدتها ولينا .. وبغض النظر عما يثيره بها من شعرور بعدم الارتياح ..بالخوف من نظراته وطريقة كلامه معها .. من الرعشة التي تصيبها كلما لمسها .. فعرضه مغري للغاية
أخفت وجهها بين يديها المرتعشتين .. ثم نهضت عائدة إلى المستشفى .. يجب أن تتخذ قرارها بأسرع وقت ممكن .. فليس لديها الوقت لتضيعه كباقي الفتيات .. فهي لم تكن يوما مثل أي فتاة

بعد ساعات قالت مخاطبة حنان .. هل أنت متأكدة من الرقم ؟
ردت عليها حنان :- بالطبع .. لقد أعطاني رقم الهاتف هذا كي أتصل به في حال حدث أي طارئ
حسمت نانسي أمرها وطلبت الرقم بأصابع مرتعشة .. رفعت هاتفها إلى أذنها وانتظرت للحظات حتى أتاها صوته الحازم :- نانسي
لم تستغرب معرفته لها .. فهو يحتفظ برقم هاتفها وكأنه كان في انتظار اتصالها .. أخذت نفسا عميقا وهي تقول :- لقد اتخذت قراري يا دكتور محمود .. وأظننا بحاجة للتحدث في التفاصيل
ساد الصمت للحظات قبل أن يقول :- سأصل إلى المستشفى خلال دقائق
أنهى المكالمة فزفرت نانسي بقوة .. والتفتت نحو حنان قائلة :- لا أدري إن كان قراري صحيحا أم خاطئا يا حنان .. أخشى أن أكون قد ارتكبت خطأ كبيرا
أسرعت حنان تقول بحماس :- الدكتور محمود رجل رائع .. إنه وسيم ومثقف ومهذب .. أي فتاة تتمنى الزواج به .. أنا متأكدة بأنه سيحميك ويهتم بك جيدا
تمتمت نانسي متوترة ك- ولكنني خائفة يا حنان .. هناك شيء في الدكتور محمود يخيفني .. إنه إحساس غريب بأنه يخفي شيئا .. أنا فعليا لا أعرف أي شيء عنه
لم تكن حنان تمتلك ردا على مخاوف نانسي فالتزمت بالصمت
بعد نصف ساعة .. خرجت من الزيارة القصيرة التي سمح بها الطبيب لغرفة أمها وهي تشعر بالاختناق .. ألقت نفسها على أول مقعد تراه غير قادرة على محاربة الأفكار السوداوية التي لا تنفك تهاجمها .. رأت محمود يجلس برفقة لينا في الواوية يتحدث غليها برفق وهو يعرض عليها كتاب ما ... بينما ظهرت البهجة على لينا .. لانت ملامح نانسي .. على الأقل استطاع الترويح عن لينا قليلا .. شعر بوجودها فرفع إليها عينيه ملقيا عليها نظرة طويلة لم تفهمها .. اعتذر من لينا واقترب منها قائلا :- كيف هي والدتك ؟
قالت متوترة :- على حالها كما تعلم
نظرت إلى لينا قائلة :- تبدو لينا سعيدة
ابتسم قائلا :- أحضرت لها كتابا عن أشهر رسامي عصر النهضة
غمغمت :- أشكرك لأنك لطيف معها
نظر حوله قبل أن يقول بنفاذ صبر :- أين ترغبين بأن نتحدث ؟
أدهشها توتره .. فقالت :- سأدعوك إلى فنجان قهوة في الكافيتيريا
هز رأسه موافقا .. وسار معها إلى الكافيتريا الواقعة في الطابق الأول من المشفى .. جلست أمامه تنتظر أن تجد كلمة تبدأ فيها الحديث .. كانت دون وعي منها تفرك يديها فوق الطاولة الصغيرة مفصحة عن توترها .. غير شاعرة بنظراته تلاحقها وتلاحظ أدق تفاصيل اضطرابها .. أجفلت عندما أمسك بيدها قائلا بهدوء :- ما من داعي لكل هذا التوتر يا نانسي.. الأمر أسهل مما تتخيلين
سحبت يدها بسرعة قائلة :- أشك بهذا
قال بهدوء :- لم أتوقع أن أحصل على ردك سريعا بهذا الشكل
قالت بجفاف :- لقد كنت مقنعا للغاية .. فلم تأجيل المحتوم
هز رأسه موافقا قبل أن يقول :- حسنا .. ما الذي أردت الاستفسار عنه
قالت بحزم :- أريد أن أعرف ما ينتظر عائلتي بالضبط
قال بجدية :- ما إن تتماثل أمك للشفاء حتى تنتقل هي ولينا للعيش في منزلي .. وحنان أيضا ستجد هناك عملا بأجر محترم .. أمك ستكون بمثابة والدة لي .. وسيدة للبيت إن شاءت .. لينا سوف يتوفر لها الأمان اللازم وسوف تعود لمتابعة الدراسة في اي مكان تطلبه .. وستكون أختا صغرى لي ولن ينقصها أو ينقص أي أحد من عائلتك شيئا ماديا أو معنويا
عجزت عن التعليق أمام سخاءه .. فتمتمت :- أريد أن أعرف المزيد عنك .. فأنا أجهل عنك الكثير
قال بهدوء :- تعرفين اسمي كاملا وعملي في الكلية يا نانسي .. غير هذا فقد ورثت أعمالا مختلفة عن والدي الذي توفي مع والدتي في حادث قبل سنوات طويلة .. تولى عمي العناية بي بعدها رغم بلوغي الثامنة عشرة .. فقد ساعدني على اكمال دراستي في حين استلم هو جميع مصالح أبي حتى أصبحت قادرا على تحمل مسؤوليتها بنفسي .. هل تريدين معرفة المزيد ؟
قالت بجفاف :- أريد أن أعرف إلى متى سيستمر زواجنا
برقت عيناه بغضب .. مال رأسه نحوها وهو يقول ببرود :- عندما أتزوج .. فأنا أتوقع أن يدوم هذا الزواج .. أنا لا أتسلى يا نانسي
احمر وجهها بحرج وهي تنظر بعيدا عنه .. إلا أنه مد يده عبر الطاولة وأمسك بذقنها ليجبرها على النظر إليه قائلا :- انظري إلي جيدا يا نانسي عندما أكلمك .. فأنا أيضا لدي شروط عليك معرفتها .. بعد زواجنا ستعودين فورا لمتابعة دراستك من حيث توقفت
حاولت أن تتحداه بنظرتها العنيدة .. ولكن القوة في عينيه اكتسحتها وتركتها عاجزة عن قول أي شيء عندما قال بقسوة :- كما أنني أتوقع منك تلبية كل رغباتي يا نانسي ..أتفهمين ؟
تركزت نظراته على شفتيها مما جعلها ترتعش وتبتعد عن أصابعه القاسية .. اعتدل في جلسته قائلا بجفاف :-
سآخذ أوراقك الشخصية كي يتم الزواج في بداية الأسبوع القادم .. غدا صباحا سوف تجرى العملية للسيدة مريم .. وأريد أن تختفي جميع مخاوفها فور صحوتها من التخدير ومعرفتها بزواجنا
استأذن منها وغادر بعد أن ألقى ثمن القهوة على الطاولة أمامها .. شعرت بالغضب الشديد من غطرسته وتعاليه عليها .. ثم أكدت لنفسها بأن محمود فاضل لا يهمها .. ما يهمها هو شفاء والدتها .. وتوفير الأمان للينا
وهي مستعدة لدفع أي ثمن لتحقيق هذا .. إلا أنها لم تستطع منع رجفة الخوف التي اجتاحتها وهي تتخيل الثمن الذي ستضطر لدفعه
لن تملكني
صباح اليوم التالي ادخلت السيدة مريم إلى غرفة العمليات .. لم تتوقف نانسي عن السير في الخارج ذهابا وإيابا بقلق وتوتر .. بينما كان وجه لينا شاحبا وهي تطلق نشيجا بين لحظة وأخرى .. حتى فقدت نانسي اعصابها قاستدارت نحوها وهي تصيح بانفعال :- توقفي عن البكاء يا لينا
إلا ان قولها هذا جعل لينا تزداد بكاءا .. فابتعدت نانسي محاولة ألا تتصرف بتهور ..
وقفت بعيدا تحاول استجماع قوتها الضائعة .. وتركت دموعها تسيل في غياب الشهود .. شعرت بحاجة كبيرة لوجود محمود .. فقد اعتادت على ان يكون هو الجدار الذي يستندون إليه في هذه المحنة .. يا إلهي .. هاهي تبدأ بالتفكير كالخطيبة المشتاقة لوجود خطيبها
سمعت صوتا مألوفا يصيح بدهشة :- نانسي !!
استدارت نحو ماهر الذي قطع المسافات إليها فمسحت دموعها وهي تقول بارتياح لرؤيته :- ماهر .. ما الذي تفعله هنا ؟
:- أجرت خالتي عملية مرارة منذ يومين .. وقد قدمت لزيارتها ..
نظر إليها بعتاب قائلا :- لقد اختفيت فجأة يا نانسي دون أن تتركي أثرا .. لقد قلقت عليك حتى كدت أفقد عقلي
تمتمت :- أنا آسفة يا ماهر .. كنت مضطرة للرحيل فجأة
قال بقلق :- لا بأس .. أنا متأكد بأنك امتلكت الأسباب الكافية للرحيل .. ولكن .. ماالذي تفعلينه هنا ؟ هل أنت بخير ؟
قالت بشحوب :- إنها أمي يا ماهر .. تجري عملية خطرة في هذه اللحظة قد لا تنجو منها
ذعر وهو يمسك يدها بقوة :- يا إلهي .. لماذا لم تخبريني بهذا كي أقف إلى جانبك في محنتك ؟
أتاهما صوت صارم يقول :- صباح الخير
استدارت نانسي لتجد محمود وقد كسا وجهه الوجوم وهو يحدق بأيديهما المتشابكة .. فأفلتت يدها بسرعة بينما قال ماهر :- صباح الخير يا دكتور محمود .. إنها صدفة جميلة أن نلتقي
رد محمود بجفاف :- بالفعل
ثم نظر إلى نانسي قائلا :- كيف هي أمك الآن يا نانسي ؟ هل من أخبار ؟
قالت متوترة :- لا أخبار حتى الآن
قال :- لم أستطع الحضور قبل الآن .. لقد شغلني طارئ ما
عقد ماهر حاجبيه وهو يراقب ما يحدث .. ثم قال بحذر :- أرى أن الدكتور محمود على علم بكل شيء .. لم أعلم بأنكما تتقابلان
قال محمود بهدوء :- من الواضح بأنك لم تخبري ماهر بعد بزواجنا القريب يا نانسي
بدت الصدمة على ماهر وكأنه قد تلقى لتوه صفعة قاسية .. بينما أغمضت نانسي عينيها بقوة .. لم ترد إخباره بهذه الطريقة
قال محمود :- سأذهب لأطمئن على لينا .. بالإذن
ابتعد تاركا إياهما كل منهما يحدق في الآخر .. لاحظت نانسي ذلك التعبير الذاهل والمستنكر في عيني ماهر البنيتين .. قال بعدم تصديق :- لا أصدق حقا بأنك ستتزوجين به
قالت بعصبية :- ولم لا تصدق يا ماهر .. هل في الزواج ما يعيب .. أم أن اعتراضك يشمل الدكتور محمود نفسه ؟ .. ألم يكن يوما صديقك ؟
قال بحدة :- لقد كنت تكرهينه يا نانسي .. بل ما كنت تطيقين سماع اسمه .. هل تدعين بأن مشاعرك قد تغيرت فجأة وأنك قد وقعت في حبه رأسا على عقب
قالت بتوتر :- بالطبع لا .. إنه فقط .
..قاطعها وكأنه لم يسمع ما تقول :- أم أنك بعت نفسك له في مقابل أن يعيد إليك مجدك القديم ؟
صاحت بغضب :- ماهر
إلا أنه تابع بلهجته القاسية .. وصراحته المعهودة :- أليست هذه هي الحقيقة ؟ لم أفكر أبدا كم كان الدكتور محمود محقا عندما صارحته بقلقي نحو غيابك المفاجئ .. لقد قال حرفيا بأنك آخر فتاة تستوجب القلق عليها .. وأنك كالقطة عندما تقعين .. فإنك تقعين على قوائمك دون أذى .. وأنك على الأرجح تبحثين عن زوج ثري يغرقك بأمواله وينتشلك من وضعك الحرج .. لا أصدق بأنني قد دافعت عنك ذلك اليوم واثقا بأنك من الكبرياء بحيث ترفضين بيع نفسك لرجل .. ولكنني كنت مخطئا .. فها قد فعلتها وبعت نفسك ولمن .. للدكتور محمود .. لا أظن بأنني قد عرفتك يوما يا نانسي .. الصديقة التي احترمتها كثيرا لم تكن بهذه السطحية والمادية .. لم تكن تقبل بأن ترخص نفسها بهذا الشكل حتى لو ماتت جوعا
صرخت بألم :- اخرس .. لا أريد أن أسمع شيئا
سدت أذنيها بقوة وأشاحت بوجهها بعيدا عنه .. وعندما عادت تنظر إليه كان قد اختفى .. عادت إلى حيث وقف محمود يحيط بلينا بين ذراعيه .. ويتركها تبكي على صدره .. رفع عينيه إلى نانسي دون أن يقول حرفا .. ولكن الوميض القاسي في عينيه جعلها تستشيط غضبا ..
شعرت فجأة بالحقد الشديد اتجاهه لأنه تسبب بفقدانها أعز أصدقائها .. هي الآن حقا لا تملك معينا سواه .. لقد حاصرها تماما هذه المرة .. كما أنها كرهته بشدة لاعتقاده بأنه قد اشتراها .. ماهر لا يكذب أبدا .. وما قاله يجب أن يكون قد حدث فعلا .. اتخذت قرارا حاسما داخلها .. ستتزوج الدكتور محمود .. ولكنها أبدا لن تكون إحدى مقتنياته
عرين الأسد
توفيت السيدة مريم بعد مرور ساعات على بدء العملية .. أخذت نانسي تتذكر ما حدث بينما هي تقف أمام نافذة الشقة التي استأجرها لهن محمود .. والتي تقيم فيها مؤقتا برفقة لينا وحنان منذ 4 أسابيع
لقد كانت صدمتها عنيفة عندما أعلن الطبيب النبأ بأسف .. أمسكها محمود بقوة كي لا يختل توازنها وقد شحب وجهه .. ثم شدها إليه هي ولينا لتبكيا على صدره
تنهدت وهي تتأمل المدينة من النافذة .. محمود كان يتصل بها كل يوم ليسأل عنها وعن لينا . ويزورهن باستمرار .. ولم يفتح موضوع الزواج إلا الأسبوع الماضي .. لقد كان حازما وهو يتحدث عن أن الوقت قد حان لتركهن هذه الشقة وانتقالهن إلى منزله في العاصمة .. وأنهما يجب أن يعقدا قرانهما على الفور كي يتم تنفيذ مخططه .. ذلك اليوم حرضها وازع شيطاني على أن تأخذ شقيقتها وتختفي عن الأنظار هربا من قبضته و زواجها المرتقب منه .. ولكن الجزء العقلاني منها حدثها عن سهولة إيجاده لها ..وسألها بصراحة عما ستفعله وحدها في هذا العالم الواسع مع مراهقة صغيرة بحاجة إلى الاهتمام والحماية .. أما عن الجزء المتكبر والفخور فيها .. فقد ذكرها بأنها تدين للدكتور محمود بالكثير .. وأنها لن لن تهرب أبدا من وعد قطعته .. أو دين ترتب عليها ..
وهكذا .. مر عليها صباح اليوم التالي .. وأخذها إلى المحكمة لعقد قرانهما برفقة شاهدين من معارفه .. خمنت بأنهما يعملان لديه من لهجة الاحترام الطاغية على حديثهما معه
أعادها إلى الشقة دون أن يخاطبها بكلمة ... بل هو لم ينظر إليها حتى ترجلت من السيارة فقال لها قبل أن تخرج :- سأعود إلى العاصمة هذا المساء .. وسأعود لأخذكن قريبا إلى بيتكن الجديد
أومأت نانسي برأسها .. وراقبته وهو يبتعد ببساطة وكأنه لم يودع عروسه لتوه بعد نصف ساعة من زواجهما
لقد أصبحت زوجة محمود فاضل .. فركت نانسي ذراعيها وهي تفكر متوترة بأنه بالكاد كلمها خلال الأيام الماضية .. لم تختلف طريقة كلامه معها على الإطلاق بعد زواجهما .. ولكن ما الذي كانت تنتظره ؟
هذا الزواج المشؤوم ليس إلا صفقة بشعة ضمنت فيها الحصول على الأمان لأختها .. كما ضمن هو زوجة يرغبها
لن تنتظر منه عرضا للمشاعر لأن الدكتور محمود ليس من النوع المنافق .. لن يظهر لها مشاعر لا يحس بها مما يريحها .. فهو لن ينتظر منها في المقابل أن تتظاهر بحبه أو بالإعجاب به
طرقت لينا الباب وهي تقول :- نانسي .. لقد اتصل محمود منذ لحظات .. وقد طلب مني إخبارك بأنه علينا توضيب أغراضنا لأننا سنترك هذه الشقة صباح الغد
التفتت نانسي غليها بحدة قائلة :- إلى أين ؟
هزت لينا كتفيها قائلة :- لم يخبرني .. وأنا لم أجد داع لسؤاله .. فأنا أثق به كثيرا
لم يكن هذا حال نانسي التي اتجهت فورا نحو هاتفها .. وحاولت الاتصال بهاتفه دون فائدة .. وكأنه كان متوقعا لمحاولتها التحدث معه والجدال حول كل شيء فأقفل هاتفه تماما
شعرت بالغضب لمعاملته لها وكأنها بدون إرادة أو حقوق .. إن ظن بأن حياتهما معا ستسير على هذا الشكل فهو مخطئ تماما .. سألتها حنان بقلق :- هل أبدأ بحزم الأمتعة ؟
صاحت بحنق :- بالتأكيد .. وهل نجرؤ على مخالفة الأوامر
أخفت حنان ابتسامتها بصعوبة وهي تبدأ عملها .. صباح اليوم التالي .. وفي تمام الساعة التاسعة صباحا .. فتحت حنان الباب على إثر قرع الجرس لتجد شابا نحيلا يرتدي زيا رسميا .. قالت بحدة :- نعم .. هل من خدمة ؟
تنحنح قائلا :- أنا مأمون .. أعمل لدى السيد محمود وقد أرسلني إلى هنا لاصطحابكن إلى العاصمة ..
بدا الشك على وجه حنان وهي ترمقه بنظراتها الفاحصة .. بينما قالت نانسي بتوتر وقد أصبحت خلفها :- ماذا تعني بأنه قد أرسلك ؟ ألن يأتي بنفسه ؟
قال بحرج :- أعتقد بأنك هي السيدة نانسي .. احترامي لك سيدتي .. الدكتور محمود لم يستطع الحضور بنفسه بسبب انشغاله بأمور طارئة .. وقد أمرني بأن أوصلكن إلى منزله في العاصمة .. وسيقابلكن هناك
اقتربت منه وقد أعماها الغيظ عن التفكير :- هل تعلم بأن رئيسك لا يطاق ؟
ابتسم مسرورا وهو يقول :- بل أنا أظنه لطيفا يا سيدتي .. اعذريني للسؤال .. ولكن إن كان حقا لا يطاق فما الذي دفعك للزواج منه ؟
تجهمت وهي تنظر إلى وجهه الباسم ببرود .. قبل أن تقول بجفاف :- أخبرني يا مأمون .. هل تعمل حقا لدى الدكتور محمود ؟
قال بحيرة :- نعم .. أنا سائق لديه منذ سنتين
:- وتعرف بأنني زوجته الآن .. أي أنني من الآن فصاعدا سأكون ربة عملك
:- نعم
صاحت به عندها بحدة :- فلتفكر بكلامك إذن قبل أن تنطق به
استدارت إلى حنان قائلة :- أرشديه إلى الحقائب كي يحملها
ابتعدت أمام نظرات مأمون المذهولة .. بينما قالت حنان لجذل :- ها هي نانسي القديمة تعود من جديد .. اطمئن .. هي ليست بهذا السوء .. إنها حادة الطباع فحسب
طال الطريق لساعات قليلة قبل أن يصلا إلى العاصمة .. لاحظت نانسي التي جلست في المقعد الخلفي إلى جوار لينا .. بينما جلست حنان إلى جوار السائق .. بأن الأخير لم يدخل إلى قلب المدينة .. بل سار في منطقة الضواحي الريفية التي انتشرت فيها المنازل الضخمة .. التي تناثرت متباعدة على أرضها الخضراء .. سألت بتوتر :- إلى أين نحن ذاهبون ؟
قال بهدوء :- لا تقلقي يا سيدتي .. كدنا نصل
توقفت السيارة أخيرا أمام بوابة كبيرة توسطت سورا ضخما يحيط بمساحة كبيرة .. أعطى إشارة إلى الحارس الذي أسرع يفتح البوابة وهو يلقي التحية بحرارة .. مع نظرات فضولية تركزت نحو النافذة الخلفية .. دخل مأمون بالسيارة إلى طريق مرصوف بالأحجار .. وقد ارتصت على جانبيه شجيرات صغيرة مقلمة بعناية .. ذهلت نانسي وهي تتأمل المساحات الواسعة المحيطة بالسيارة .. كان المكان أشبه بالجنة وقد تزاحمت فيها الأشجار التي تعرت أغصانها من الأوراق .. توقفت السيارة أخيرا أمام المنزل الضخم المكون من 3 أدوار .. لا .. لم يكن منزلا .. بل قصرا منيفا .. من الواضح أن صاحبه قد أنفق عليه ببذخ كبير إذ كان الترف ينطق من كل زاوية فيه .. من كل قطعة حجر ثمينة بنيت بها .. ترجلت نانسي من السيارة دون أن تفيق من ذهولها .. لم تدرك أبدا بأن محمود بهذا الثراء .. لقد كان الطلاب يتناقلون الشائعات عنه منذ سنوات .. كانوا يختلقون القصص والحكايا حول ثرائه الكبير .. أو فقره المدقع .. وقد ذكر لها ماهر شيئا عن ثراءه في المستشفى .. ولكنها قطعا لم تتوقعه بهذا الثراء
وهي التي كانت تعامله في الكلية بازدراء ... بل وتغريه بالمال كي يمنحها دعمه .. بينما لا يحتاج هو حتى إلى عمله في الجامعة .. بل ربما يعتبره هواية كحب لينا للرسم مثلا
وجدت عند الباب الرئيسي الكبير سيدة حسناء في أواسط الأربعينات .. كانت تقف في استقبالها أعلى الدرجات القليلة التي فصلت نانسي عن الباب
كانت أنيقة جدا حيث ارتدت طقما أزرقا لائم قوامها المتناسق المناسب لعمرها .. ورفعت شعرها الأشقر المصبوغ فوق رأسها بوقار .. وإلى جوارها برزت فتاة شابة تكبر نانسي بسنوات قليلة .. كانت تملك سحرا خاصا بشعرها الأسود الناعم الطويل .. وبشرتها الوردية المتألقة .. وعينيها العسليتين وملامحها الناعمة .. كانت ترتدي فستانا ورديا جميلا .. وتضع قرطين ماسيين خطف بريقهما الأنظار
رغم جمالها الشديد .. فقد أطلت من عينيها نظرة باردة وهي تنظر إلى نانسي مما أثار داخلها رجفة خوف كبيرة .. هذه الفتاة التي تقابلها للمرة الأولى .. تكرهها
قدمت المرأة الأكبر سنا نفسها بهدوء قائلة :- أهلا وسهلا بك في منزلك الجديد يا نانسي .. أنا هي زوجة عم محمود .. وهو يناديني بالعمة منار .. يمكنك مناداتي بذلك أنت أيضا .. آسفة لأن محمود ليس موجودا لاستقبالك بنفسه .. ولكنه سيعود في وقت قريب
صافحتها نانسي بحذر .. زوجة عمه .. وما الذي تفعله زوجة عم محمود هنا ؟..
أشارت المرأة نحو الفتاة الشابة قائلة :- هذه ابنتي ريم .. أرجو أن تتفقا خلال فترة تواجدك هنا
نانسي كانت على وعي بكل ما يحدث حولها .. بدءا من تلميح السيدة منار بأن وجودها هنا لن يدوم طويلا .. وانتهاءا بعدم مصافحة ريم لها .. أو نطقها بأي كلمة ترحيب .. كان هذا كافيا لتدرك بأن هاتين المرأتين تصنفان ضمن أعدائها
قالت العمة :- تفضلي يا عزيزتي .. هذه الشابة الجميلة هي شقيقتك الصغرى على ما أعتقد .
. دخلت نانسي ورائها بتردد شاعرة بأنها تقتحم عرينا للأسود .. وأن أحدها سينقض عليها بين لحظة وأخرى
قادتهما إلى غرفة كبيرة ذات أثاث أنيق ومريح .. بينما اختفت حنان عن أنظارهما .. شعرت نانسي بالقلق وكأنها مقبلة على معركة .. ولكنها لن تسمح لهاتين المرأتين بأن تضعفا عزيمتها .. جلست على الأريكة الوثيرة واضعة إحدى ساقيها فوق الأخرى بأناقة وهي تسوي ثوبها الأسود البسيط .. تمنت لو ارتدت شيئا أكثر أناقة حتى تزيد ثقتها بنفسها .. قالت العمة وهي تجلس قريبا منها بهدوء :- اعذرينا يا عزيزتي لأننا لم نقم بالاستعدادات اللازمة لاستقبالك .. فقد فاجأنا محمود مساء الأمس بخبر زواجه من نانسي سلمان راشد
كبتت نانسي رجفة غضب عندما فهمت تعمد المرأة لذكر اسمها كاملا لتخبرها بأنها تعرف من تكون .. وابنة من هي .. أكملت السيدة منار قائلة :- في الواقع .. لقد تفاجأنا جميعا بزواج محمود .. إذ لم يتخيل أحد بأنه بعد عزوبيته الطويلة سيتزوج بهذه الطريقة .. بدون احتفال أو فرح .. حتى أنه لم يخبر عمه الذي يعتبره كوالد له .. ولكن ذوقه رفيع ولا ألومه على عجلته .. فأنت جميلة جدا
تكلمت ريم أخيرا ببرود :- لطالما كان لمحمود ذوقا رفيعا فيما يتعلق بالنساء .. بالتأكيد عندما يقرر الزواج أخيرا .. فهو لن يتزوج بامرأة قبيحة
إن كانت الأم حريصة على ألا تخطئ بكلمة .. فمن الواضح بأن ابنتها لم تكن كذلك .. استقبلت نانسي نظرات ا لازدراء المطلة من عينيها بهدوء وقالت مخاطبة السيدة منار :- أشكرك على الإطراء .. ولكن سبب زواجنا بهذه الطريقة هو وفاة والدتي الذي لم يمض عليه أكثر من شهر
قالت العمة بهدوء ك- وبالتأكيد بسبب وفاة أبيك أيضا .. لا أعتقد بأنه قد مر وقت طويل على وفاته ... أليس كذلك يا ريم ؟
قالت ريم ببرودها الذي لم يفارقها :- منذ 3 أشهر تقريبا .. هذا ما ذكرته الصحف
نهضت نانسي قبل أن تنهال على الفتاة المتعجرفة بالضرب وقالت :- إذا أذنتما لي فأنا أرغب بإفراغ حقائبي والراحة قليلا بعد سفري الطويل ..
نهضت السيدة منار قائلة :- ستفرغها لك إحدى الخادمات .. سترشدك نجوى وهي مدبرة المنزل إلى غرفتك .. وستلبي على الفور جميع رغباتك .. ربما بعد أن تأخذي قسطا من الراحة قد تحبين أن آخذك في جولة حول الحديقة وفي أرجاء المنزل
تمتمت نانسي بتهذيب :- شكرا للطفك
اصطحبتها نجوى .. وهي امرأة ممتلئة الجسم إلى الطابق الثاني .. حيث قادتها إلى غرفة فسيحة .. تأملتها نانسي بصمت .. لقد كانت غرفة أحلام أي عروس شابة .. بأثاثها الثمين المصنوع من الخشب الثقيل .. والسجادة الوثيرة التي غطت الأرضية اللامعة .. الستائر الرقيقة التي تهادت أمام النوافذ العريضة التي سمحت للشمس بغمر الغرفة بوفرة .. رأت حنان ترتب أغراضها داخل الخزانة الكبيرة .. فلاحظت الملابس الرجالية المرتبة داخلها .. وزجاجات العطر الغالية الثمن التي توزعت على منضدة الزينة .. وفي صدر الغرفة كان هناك باب مفتوحا ظهر من خلفه حمام مترف .. ارتعش جسدها توترا وهي تفكر بهذه الليلة التي ستشارك فيها زوجها غرفته لأول مرة
قالت نجوى :- هل أوصل الآنسة الصغيرة إلى غرفتها ؟
نظرت لينا إلى نانسي بتردد .. وكأنها تخشى أن تضيع إن افترقت عن أختها .. فأشارت لها نانسي بأن تلحق بالمرأة ..وفور أن أصبحت وحيدة في الغرفة مع حنان .. جلست على طرف السرير الكبير الذي غطاه مفرش أنيق مطرز
استدارت حنان نحوها قائلة :- لقد رتبت جميع أغراضك يا نانسي .. هل أنت بخير ؟
أطلقت السؤال عندما لاحظت شجوب وجه نانسي وتوترها .. أجابت نانسي قائلة :- لا أدري .. أنا خائفة يا حنان .. لم أتوقع بأنني سأنتقل للإقامة في قصر منيف يبدو إلى جانبه منزل والدي الكبير وكأنه عش عصافير .. أو للعيش برفقة أشخاص يكرهونني .. لم يخبرني محمود أبدا بأنه يقيم مع عائلة عمه ..
قالت حنان متفهمة :- لا أظنه قد وجد الوقت المناسب مع كل الأحداث التي طرأت .. أنا أيضا لم أرتح لتلك المرأة وابنتها المغرورة .. من الواضح أنهما ليستا سعيدتين بزواج محمود بك
ثم قالت بخبث :- ولكن ليس عليك التفكير بهما الآن .. بل بهذه الليلة .. وما ينتظرك يا عزيزتي
احمر وجه نانسي وهي تقول :- حنان .. اخرسي واذهبي لتفقد لينا .. أرغب بأن أرتاح قليلا
أطلقت حنان ضحكة عالية وهي تقول :- أمرك يا آنستي
انصرفت حنان تاركة نانسي وحدها .. فتكورت فوق السرير وهي تحاول السيطرة على اضطرابها .. بين ليلة وضحاها .. تغيرت حياتها بشكل كامل .. وأصبحت زوجة لرجل ثري غريب عنها .. لا تعرف عنه أي شيء .. وربما يتوقع منها الليلة أن تكون زوجته فعليا
لا إراديا سالت دمعة ساخنة على خدها .. وأخذت تلوم والدها على ما يحصل معها .. لو لم يفعل ما فعله .. لما أتيحت الفرصة لأي انسان لاستغلال ظروفها كما فعل محمود ويشتريها ..
تذكرت كلمات ماهر في المستشفى.. فانتابها غضب كبير من نفسها .. ومن محمود .. ومن والدها
وأقسمت بأنها لن تسمح لمحمود أبدا بأن يفرح بانتصاره .. ثم وبدون ان تشعر .. راحت في نوم عميق
زوجي الغامض
فتحت نانسي عينيها بخمول .. ثم توترت مرة واحدة عندما احست بانها لم تعد وحيدة في الغرفة .. انتفضت جالسة وهي تنظر إلى محمود الذي كان جالسا على الأريكة يراقبها .. اضطربت وهي تلاحظ نظراته الثاقبة .. فامتدت يدها لا إراديا لتتأكد من إحكام إغلاق أزرارها .. التقطت عيناه على الفور حركنها هذه .. ولكن تعابير وجهه بقيت هادئة وهو يقول :- أرجو أن تكوني أفضل حالا الآن
مررت يدها عبر شعرها الفوضوي محاولة ترتيبه قائلة باضطراب :- ما كان عليك تركي نائمة كل هذا الوقت
:- كان التعب واضحا عليك .. فلم أشأ إزعاجك
اعتدلت في جلستها بارتباك .. إنها المرة الأولى التي يراها فيها مستيقظة من النوم .. فاقدة لكل دفاعاتها وعاجزة عن الكلام .. قال بهدوء :- آسف لأنني لم أكن موجودا لاستقبالك .. فقد اضطررت للذهاب إلى الجامعة لأمر طارئ .. عرفت بأنك قد قابلت العمة منار .. وريم
قالت ساخرة :- قابلتهما بالتأكيد .. ولأكن صادقة معك .. لم يبدو عليهما السرور للقائي
عقد حاجبيه وكأن طريقة كلامها لم تعجبه .. فقال :- لقد كانتا متفاجئتين .. فلم يعلم أحد بزواجنا قبل الأمس
قالت بحيرة :- ولماذا أخفيت زواجنا عن عائلتك ؟ ألم تخبرني بأن عمك هو بمثابة والدك ؟
قال باقتضاب :- هو كذلك .. ولكن زواجي أمر يخصني وحدي .. وأنا لست بحاجة كي آخذ إذنا من أي أحد لأتزوج
حاولت أن تستوعب الأمر فلم تستطع .. ففكرت بأن محمود قد خمن بأن عائلته لن توافق على زواجه منها هي .. ففضل مفاجئتهم .. طرحت أخيرا السؤال الذي أقلقها كثيرا :- لماذا لم تخبرني بأنك تعيش مع عائلة عمك ؟
قال ببرود :- أنا لا أعيش مع عمي .. بل عمي هو من يعيش معي
ثم فسر قائلا :- لقد بنى والدي هذا المنزل قبل وفاته بسنوات .. لقد كان منزل أحلام والدتي .. وقد بنياه معا .. اختارا كل حجر بني به .. وعندما توفيا .. ما كان من الممكن لمراهق في الثامنة عشرة بأن يعيش وحده في مكان كهذا .. فانتقل عمي مع عائلته للإقامة معي .. وحتى الآن .. هم عائلتي الوحيدة .. وهو سيبقى دائما بمثابة الأب لي
ساد صمت ثقيل لاحظت نانسي خلاله شيء من القسوة يسكن داخل عيني محمود .. هل سيأتي ذلك اليوم الذي يكشف فيه محمود عن غموضه لها
قال فجأة :- هل قابلت جدتي ؟ .. والدة أمي ؟
قالت بدهشة :- جدتك ؟
قال باستهزاء :- أتصور بأن زوجة عمي لم تحاول حتى الإشارة إليها .. أحيانا ينسى سكان البيت وجودها بسبب اعتزالها عن الجميع في غرفتها .. سأعرفك إليها بعد الغداء .. هيا بنا .. الجميع في انتظارنا لنأكل معا
قالت باضطراب :- سأبدل ملابسي أولا ثم أوافيك
نهض قائلا :- سأسبقك إذن إلى الأسفل .. لا تتأخري
تركها مغادرا الغرفة .. فزفرت بقوة وهي تشعر بأعصابها المشدودة ترتخي .. إن وجوده معها في مكان واحد يسبب لها اضطرابا كبيرا .. ويختل توازنها ..فلا تكون أبدا نانسي .. بل شخص آخر .. وكأنه يسلب بسلطته بقايا كيانها القديم ويصنع منها شخصا آخر لا تحبه .. لم تعجبها أفكارها هذه .. وقررت بأنها إن كانت ستسايره .. فإنها أبدا لن تكون طوع بنانه
قامت لتبدل ملابسها حريصة على أن تكون في أبهى طلة .. على الأقل ليختفي الضعف المفاجئ الذي لم تعرف قبلا بوجوده .. ارتدت فستانا بسيطا انما أنيق يجمع بين اللون الأسود والرمادي .. فلم يحن بعد وقت التخلي عن اللون الأسود .. وضعت بعض الزينة الخفيفة على وجهها .. وصففت شعرها ثم نزلت
كان الكل في انتظارها .. حتى لينا التي فوجئت بها نانسي تتحدث بانهماك مع شاب صغير لم يتجاوز الثامنة عشرة .. قدم نفسه على أنه فراس .. شقيق ريم الأصغر .. كان يشبه ريم كثيرا باستثناء قامته الكطويلة والنحيلة .. قام رجل مسن يحييها ببشاشة .. فأدركت بأنه عم محمود .. قال لها :- يمكنك مناداتي بالعم طلال
ابتسمت بدبلوماسية وهي تقول :- سأفعل بالتأكيد
كان السيد طلال رجلا بشوشا ومرحا .. استمر طوال فترة تناولهم الغداء حول المائدة الطوية في غرفة الطعام في توجيه الكلام إليها .. ورواية المواقف الطريفة التي حدثت معه .. حتى أنه أضحك نانسي أكثر من مرة .. بالرغم من هذا .. كان هناك بريق أخافها في عينيه عندما كان ينظر إليها متفحصا في غفلة منها .. لم تفهمه جيدا أو تدرك معناه .. ثم قررت بأنها تتوهم بالتأكيد .. فالسيد طلال كان الشخص الوحيد المرحب بها في هذا المكان .. بعكس زوجته المتحفظة بغرور .. وابنته التي لم تتوقف عن تزجيه نظرات الحقد إليها
قال محمود بعد الغداء :- أستأذنكم جميعا .. سأخذ نانسي لأعرفها إلى جدتي
اصطحبها إلى الطابق الثالث فقالت :- ظننت بأنني سأقابلها أثناء الغداء
قال بهدوء :- أخبرتك بأنها لا تخرج أبدا من جناحها
لم تسأله عن السبب وهو ما عرفته بنفسها فور أن فتح لها أحد الأبواب ودعاها إلى الدخول .. لترى امرأة مسنة ااغاية تجلس على فراشها .. بينما تقوم ممرضة خاصة بمساعدتها في الأكل .. بنظرة واحدة .. عرفت نانسي بأن هذه المرأة عمياء
شعرت الجدة بهما فقالت بحنان :- أهو أنت يا محمود ؟ ادخل يا حبيبي
قال :- لست وحيدا يا جدتي
رفعت المرأة حاجبيها الأبيضين وهي تقول :- أهي هنا معك ؟ اقتربي يا عزيزتي .. واجلسي إلى جانبي ... لا يمكن أن تتخيلي سعادتي بزواج محمود أخيرا .. لقد حان الوقت ليستقر ويكون عائلته الخاصة
جلست نانسي على مقعد قريب من السرير وهي تتأمل وجه المرأة الذي كسته التجاعيد .. وشعرها الفضي الناعم الذي تربطه خلف رأسها .. وأطلت من عينيها الباهتتين نظرة حنون .. قالت :- اسمك نانسي .. إنه اسم غريب
وضحت نانسي بحرج :- لقد اختارته لي أمي .. فقد ولدت أمها في مدينة نانسي الفرنسية .. ولم تتوقف طوال حياتها عن الحديث عن طفولتها هناك .. فأطلقت أمي علي الإسم إكراما لوالدتها التي لم يكن قد مضى على وفاتها أشهر عندما ولدت
ابتسمت الجدة قائلة :- لقد حدثني عنك محمود كثيرا .. ووصفك لي بشكل جعلني واثقة بأنك بارعة الجمال
تمتمت نانسي :- لست جميلة إلى هذا الحد
لطالما كانت نانسي واثقة من جمالها المميز .. ولكنها الآن بعد كل مصابها .. لم تعد واثقة بأنها تحلت يوما بأي جمال داخلي
:- أنت طالبة لدى محمود .. كم هذا مثير للخيال .. أن يقع حفيدي في حب تلميذته .. كيف وقعتما في الحب .. هل تستطيعين إخباري ؟
احر وجهها وهي تلاحظ محمود الذي انتظر إجابتها دون أن يحاول إنقاذها .. فقالت بارتباك :- حسنا .. لقد بدأ الأمر بشجار
بدت الدهشة على وجه الجدة وهي تردد :- شجار !
قالت نانسي بحرج :- كنت أنا تلميذة مغرورة .. وكان هو أسيتاذا متعجرفا .. وكان من الطبيعي أن نتشاجر
ابتسمت الجدة برقة :- فهمت الآن .. لقد حدث الشيء نفسه مع والدي محمود .. ابنتي كانت طبيبة ماهرة وواثقة من نفسها .. وعادل والد محمود كان مريضا شقيا إذ كسر ساقه ذات مرة ودخل المشفى .. كانت ابنتي وفاء تعود بعد كل مراجعة له غاضبة وحانقة على المريض المدلل الذي لا يكف عن الانتقاد .. وبعد فترة .. دخلت إلى البيت بلا إنذار سعيدة ومشرقة وهي تخبرني بأن مريضها المشاكس قد خطبها
كرت سحابة حزن على وجه الجدة وهي تقول :- لقد كانت مليئة بالحيوية .. وعادل كان رجل أعمال عنيد .. أظن بأن محمود قد أخذ عن أبيه صلابته .. ومن أمه رقته وحنانه
ضحك محمود قائلا :- أحذرك بأن جدتي إن بدأت في تعداد مميزاتي .. فهي لن تتوقف قبل ساعات
ضحكت جدته قائلة :- لست بحاجة لأن أفعل .. من الواضح بأن نانسي تعرف جميع مزاياك ما دامت قد وقعت في حبك .. ألي كذلك يا عزيزتي ؟
ساد صمت طويل التقت خلاله عيناها بعيني محمود الذي نهض قائلا :- سأتركك قليلا مع نانسي يا جدتي .. هناك ما أرغب بمحادثة عمي به
غادر الغرفة تاركا نانسي في اضطراب تحاول جاهدة تهدئة دقات قلبها .. قالت الجدة بهدوء :- أعتقد بأنك قد قابلت منار زوجة عم محمود وابنتها ريم
:- نعم
قالت الجدة :- لا تهتمي في حال استقبلتاك ببرود .. فهما لم تتصورا أبدا أن محمود قد يتزوج بغير ريم
هكذا إذن .. نظرات ريم الحاقدة لم تكن بدون سبب .. لقد كانت مغرمة بالرجل الذي تزوج بها
قالت الجدة :- وماذا عن طلال ؟ كيف استقبلك ؟
:- لقد كان بشوشا ومرحبا
:- متأكدة بأنه قد انزعج كثيرا لأن محمود لم يخبره بزواجه .. فقد اعتاد بعد وفاة والدي محمود على أن يحاول إدارة حياة محمود بنفسه .. وعندما كبر محمود شجعه على أن يسلك طريق الدراسة والتعليم حتى يستمر هو في السيطرة على حياته وعلى أعمال أبيه على هواه .. ولكن محمود لم يكن ابن أبيه بدون فائدة .. لقد أصر على استلام جميع أعمال وأملاك والده حتى مع انشغاله بالتحصيل العلمي .. ثم عمله بالجامعة .. تمكن من فرض شخصيته سواء في العمل أو في هذا المنزل الذي ظنت السيدة منار بأنها سيدته حقا .. إنها صفعة قاسية أن يحضر محمود من تستلم هذه المكانة بعد والدته
قالت نانسي بقلق وقد وجدت في الجدة الطيبة صدرا واسعا تستطيع الثقة به :- في الواقع أنا لم أهيء نفسي لوضع كهذا .. فمحمود لم يتحدث كثيرا عن عائلته
:- لابد أنه لم يجد الوقت المناسب ليفعل .. لقد أخبرني بوفاة والديك .. وأقدر شعورك بالغربة والخوف من الفترة القادمة .. محمود سيوفر لك الأمان ويحميك .. أما عن عمه .. فمحمود يقدره ويحبه كوالده بالضبط .. لطالما كانت عائلة عمه عائلته .. أما الآن .. فلديه أنت
صمتت للحظات ثم قالت :- ما الذي أعجبك بولدي ؟ أعني ما الذي دفعك لحبه ؟
أجفلت نانسي لهذا السؤال .. بماذا تجيب ؟ لا يمكنها إخبارها بأنها لا تطيقه .. وأن شيئا لا يعجبها به .. ولمنها عادت وفكرت بأن هذا غير صحيح .. فقد سبق وكسب محمود احترامها بحزمه ووقوفه إلى جوار عائلتها .. تمتمت :- هناك الكثير مما فيه يحيرني ويثير الاضطراب في نفسي .. ربما هذا التناقض في شخصيته .. أحيانا هو قاسي وصارم .. وأحبانا يكون حنونا ومهتما
بدا على الجدة أنها تنتظر من نانسي أن تسترسل في الكلام فأكملت :- ربما وقاره وكبرياءه هما ما يجذبني غليه .. ربما لأنه الشخص الوحيد الذي لا أستطيع الاعتداد بنفسي أمامه
سهمت وقد نسيت وجود المرأة أمامها وهي تقول مفكرة :- إنه لطيف مع أختي .. وكان عطوفا مع والدتي .. كان نبلا منه أن يمنح أشخاصا لا يهمونه بعضا من وقته ويشعرهم بأنه واحد منهم
قالت الجدة بحنان :- كيف لا يهمونه إذا كنت أنت منهم ؟
ابتسمت نانسي بضعف دون أن تجيب .. فسألتها الجدة فجأة :- هل هو وسيم ؟
دهشت نانسي وسألت :- ماذا ؟
أوضحت الجدة بهدوء :- لقد فقدت بصري منذ عشر سنوات ... لا يمكنك تصور اشتياقي إلى رؤيته .. هل تسمحين لي برؤيته من خلال عينيك ؟
شعرت نانسي بالأسف على هذه السيدة العاجزة عن رؤية أحب الناس إليها .. تمتمت :- إنه وسيم
أسندت المرأة رأسها إلى الخلف وقالت :- صفيه لي .. أرجوك
تمتمت نانسي :- إنه طويل جدا .. يتجاوز طوله الثمانين سنتيمترا .. شعره قاحم السواد .. كثيف ومتماوج .. لون بشرت قمحي جذاب لوحته الشمس .. عيناه بلون السكر المحروق .. يطل منهما تعبير متسلط .. وكأن الكون يدور من حوله ولأجله فقط
ضحكت الجدة قائلة بحنان:- إنهما عينا والده .. كانت وفاء تقول دائما بأن عينيه هما سر نجاحه في عمله .. إذ يستطيع بهما السيطرة على ما يريد .. والحصول على ما يريد
ابتسمت نانسي بارتباك بينما قالت الجدة :- أكملي أرجوك .. صفي لي ملامحه
أكملت نانسي :- أنفه مستقيم بزاوية حادة .. فمه واسع بشفتين تميلان إلى الامتلاء .. ذقنه بارزة بعض الشيء .. تمنح ملامحه قوة تضاهي قوة شخصيته
احمر وجه نانسي وهي تسرد هذه التفاصيل .. متى تأملت وجهه عن قرب لتعرف دقائقه بهذا الشكل ؟
قالت الجدة برقة :- تحبينه .. أليس كذلك ؟
قبل أن تفكر حتى بجواب .. لاحظت محمود الواقف عند الباب المفتوح وقد علت عينيه نظرة غريبة .. خفق قلبها بقوة .. منذ متى وهو يقف هنا ؟ هل سمع شيئا مما قالته عنه ؟
قالت الجدة وقد أحست بوجوده :- محمود .. هل أنت هنا ؟
قال بهدوء :- نعم يا جدتي .. جئت آخذ زوجتي لأنك بحاجة إلى الراحة
قالت برقة :- زوجتك رائعة يا محمود .. أتمنى أن تنجبا لي الأحفاد بسرعة
انحنى يقبل جبينها ثم يدها قائلا :- سيحدث هذا قريبا يا حبيبتي
اعتذرت نانسي من الجدة .. وسارت معه خارجا .. قال بهدوء :- أعتقد بأنني قد جئت في وقت مناسب لأمنعك من تدمير جدتي عندما تجيبين على سؤالها .. أليس كذلك ؟
قالت بجفاف :- بل أنقذتني أنا لأنني كنت على وشك الكذب عليها
قال مستغربا :- وهل كنت ستكذبين ؟
هزت كتفيها :- لقد أحببت جدتك كثيرا .. ولن أستفيد شيئا من ذكر الحقيقة لها سوى بجعلها تتألم
قال متهكما :- هذا جيد .. لديك قلب يهتم بالآخرين .. انت تتطورين
كبتت غيظها وهي تقول :- ما الذي أردته مني ؟
:- أن أطوف بك المكان قبل أن أغادر إلى عملي .. كي تعرفي أين تتحركين بالضبط أثناء تجوالك فيه ..
أشار لها حوله إلى الطابق الثالث قائلا .. هذا الطابق مخصص لإقامة المستخدمين .. اختارت جدتي الإقامة فيه لتبتعد عن الضوضاء .. ولأنها لا تغادر غرفتها أبدا .. بل هي بالكاد تغادر سريرها بسبب التهاب المفاصل .. ولكنني أزورها باستمرار وأخصص لها ممرضة للاهتمام بها .. كما يزورها الطبيب بشكل دوري للاطمئنان عليها
تابع تجواله بها عبر الطابق الثاني حيث غرف النوم .. وصالة فسيحة للجلوس .. ثم إلى الطابق الأرضي الذي احتوى على غرف الاستقبال والطعام .. والمكتبة .. كانت تستمع إليه وهي تتأمل الجدران العالية المزينة باللوحات الجميلة .. والأثاث الثمين الملائم للديكورات الحديثة الطراز ... ما زالت غير قادرة على تقبل ثراء محمود الشديد .. بدلا من أن يريحها هذا ويسعدها أشعرها بالخوف من المستقبل الذي ينتظرها مع رجل بسطوته قامت هي بإهانته أكثر من مرة
أخذها في النهاية إلى غرفة مكتبه التي احتلت مكتبة كبيرة جدارا كاملا ضمت أكبر مجموعة كتب رأتها في حياتها .. ثم مكتب ضخم مصنوع من الخشب الثقيل مرتب بعناية علاه جهاز كومبيوتر حديث الطراز .. وسجادة بألوان مشرقة غطت جزءا كبيرا من الأرضية الرخامية .. قال بهدوء :- هنا أقضي معظم أوقاتي
تحسست الكتب بأناملها وهي تقول بذهول :- هل قرأت كل هذه الكتب ؟
ابتسم قائلا :- لقد جمعت أمي جزءا كبيرا من هذه الكتب .. فقد كانت مولعة بالقراءة .. وأنا من بعدها اقتنيت مجموعة كبيرة
نظر إلى الكتب ذات الأطر الأنيقة وقال :- ولكن إجابتي عن سؤالك هي النفي .. لم أقرأها كلها .. فهناك كتب لا توافق ذوقي
أدركت بأنه يقصد ما يعود إلى غيره من سكان المنزل .. تأملت قسما ضم روايات رومانسية نسائية الطراز .. وكتب عن الجمال والموضة .. من الواضح أن هذه الكتب تخص ريم
قال :- يمكنك استعمال هذه الغرفة أثناء دراستك
لاحظ تغير ملامحها بسبب التوتر فقال :- أنت تذكرين اتفاقنا يا نانسي .. أريدك أن تعودي إلى الجامعة منذ صباح الغد .. ومأمون سيكون تحت أمرك .. سيكون عمله الاهتمام بتنقلاتك .. إلا في حال كنت أنا موجودا فسأوصلك بنفسي
لم ترد عليه .. فأدارها إليه قائلا بحزم :- لا أريد ترددا .. لن يجرؤ أحد على التعرض لك بالكلية .. أعدك
ابتلعت ريقها باضطراب .. كيف عرف بما يخيفها .. ثم تذكرت بأنه كان شاهدا على اضطهاد الطلاب لها أكثر من مرة .. قالت بعصبية :- أنا لست قلقة .. فليجرؤ أحدهم على الاقتراب مني وسيناله ما لا يعجبه
ابتسم وهو يقول مداعبا :- يا إلهي .. لقد بعثت الخوف في نفسي .. هذا ما أريده منك .. أن تعودي إلى الكلية محملة بقوتك القديمة .. التي لا يجرؤ أحد على مواجهتها
لم تبتسم .. فقد كان القلق يعصف في كل خلاياها من العودة إلى ذلك المكان بعد هجوم جابر لها .. ومن لقاءه مجددا وإن كان قد حكى لأحد عما فعله بها ..
عندما شاهدت جميع أنحاء المنزل أخذها في جولة في الحديقة قائلا :- في الربيع يصبح هذا المكان رائعا
تمتمت وهي تنظر إلى الجمال المحيط بها :- أستطيع تخيل هذا
استدار نحوها قائلا :- سأذهب الآن يا نانسي .. كنت أرغب بالبقاء معك في أول يوم لك هنا .. ولكن العمل يناديني
تمتمت :- هل ستتأخر ؟
ها هي تستجوبه كأي زوجة تقليدية تفتقد زوجها .. الناقص هو أن ترتمي عليه وترجوه ألا يذهب .. نظر إلى وجهها متفحصا وهو يقول :- في الواقع نعم .. سأتأخر قليلا
اقترب منها وربت على وجنتها قائلا :- تذكري بأن هذا هو بيتك الآن
أومأت برأسها دون أن تقول شيئا .. ظنت بأنه سيضيف شيئا إلا أنه قال أخيرا :- أراك لاحقا
راقبته يبتعد .. ويستقل سيارته .. فتنهدت وهي تعود إلى داخل المنزل .. كانت في طريقها إلى غرفة لينا عندما أتاها صوت ريم قادما من خلف أحد الأبواب .. كادت تتابع طريقها لو لم تسمع اسمها فتوقفت .. وسمعت ريم تبكي وهي تقول :- ما الذي أعجبه بها ؟ .. ليست أكثر جمالا مني .. إنها ابنة لص حقير وستحرجه أينما ذهب
توتر جسد نانسي بغضب .. سمعت صوت منار تقول :- لا تقلقي يا حبيبتي .. لن تمر فترة طويلة حتى يمل منها .. ويرميها في الشارع كما فعل مع غيرها
لم تستطع نانسي أن تسمع المزيد .. وإلا كانت ستقتحم الغرفة وتنهال على الإثنتين ضربا .. دخلت إلى غرفة لينا لتجدها جالسة على طرف السرير ساهمة .. جلست إلى جانبها وهي تقول برقة :- ما الأمر ؟.. تبدين وكأن المكان لا يعجبك .. إنه أكبر وأجمل من منزلنا القديم
قالت لينا بخفوت :- بالتأكيد ؟ ولكن ما الفائدة إذا كان سكانه لا يحبوننا
عقدت نانسي حاجبيها قائلة :- لماذا تقولين هذا ؟
قالت لينا بغضب :- تلك المتعجرفة ريم .. إنها تعاملني وكأنني أحد الخدم
قالت نانسي بهدوء :- لا تهتمي لأمرها يا لينا .. كما أن فراس يبدو لطيفا معك
أشرق وجهه لينا وهي تقول :- بالفعل .. فراس طيب جدا ويحب الموسيقى والرسم .. لقد تحدثنا كثيرا .. إنه معجب بمحمود كثيرا ويحترمه .. وقد قال عنك بأنك جميلة جدا
ابتسمت نانسي بخبث قائلة :- فقط أنا ؟
احمر وجه لينا دون أن تجيب فضحكت نانسي برقة .. ثم قالت بجدية :- اسمعيني جيدا يا لينا .. من المؤكد بأن المرحبين بنا في هذا المنزل قلائل .. ولكننا لن نستسلم لريم ولأمها .. لا تنسي بأن محمود معنا .. وهو لن يسمح لأي أحد بأن يزعجنا
لم تكن متأكدة حقا مما تقول .. ولكن الراحة التي ارتسمت على وجه لينا استحقت تلك الكذبة .. قالت لينا فجأة :- هل تحبينه يا نانسي ؟
أجفلت نانسي وهي تقول :- ماذا ؟
:- أنا أعرف لماذا تزوجت بمحمود .. لقد سمعتك تتحدثين مع حنان
وعندما لم تجبها نانسي قالت :- أنا لست صغيرة يا نانسي .. أنا أعرف بأنك لن تتمكني من العيش معه إن كنت تكرهينه
قالت نانسي بهدوء :- أنا لا أكرهه
تمتمت لينا :- محمود شخص رائع .. أنا أحبه كثيرا .. وأتمنى أن تحبيه أنت أيضا
ربتت نانسي على شعر أختها الناعم وقالت :- لا تشغلي رأسك بهذه الأمور .. أنا سأكون بخير
ذلك المساء لم يحضر محمود وقت العشاء .. وحول المائدة .. انتقلت عينا نانسي عبر الوجوه الضاحكة وهي تشعر بالأسى الشديد لغيابه .. فشعورها بالغربة وسط أشخاص لا تثق بهم كان قويا .. تركزت نظرات ريم عليها وقد أطل منها الحقد .. فتذكرت نانسي الحديث الذي سمعته سابقا .. هل سيمل منها محمود حقا ويرميها في الشارع ؟ .. هل سبق وفعل هذا مع غيرها من النساء ؟
تذكرت الشائعات الغامضة التي سمعتها دائما عنه في الكلية .. من الواضح أنها لم تكن قادمة من فراغ .. وأن محمود فعلا كان له العديد من الصديقات قبل الزواج .. وربما ما زال
فاجأها الغضب الذي اعتراها .. لماذا تزوج منها إذن إن كان يعبث هنا وهناك ؟ لقد كان واضحا عندما قال بأن الوقت قد حان ليستقر وينجب الأطفال .. أهذا هو السبب الذي دفعه لربط نفسه بها ؟ أم لتكون ستارا لمغامراته المتعددة ؟
لا .. لا يبدو على محمود أنه من هذا النوع .. كان دائما وقورا ومتزنا .. ولطالما عاملها بتحفظ دون أن يقلل من احترامها يوما ..
خطرت على بالها فكرة أخرى أذهلتها .. هل يعود السبب إلى أنه قد عرف بأنها ليست من النوع المستهتر .. فقرر بأن الوسيلة الوحيدة للحصول عليها هي الزواج ؟
لم تستطع البقاء أكثر برفقة الآخرين بعد انتهاء العشاء .. فاعتذرت وغادرت غرفة الجلوس .. وبينما هي تصعد الدرج متجهة إلى غرفتها .. لحقت بها ريم لتقول وهي تقف أسفل الدرج :- لا تبدين بخير
ردت نانسي وهي تنظر إليها :- أنا متعبة فقط .. سأخلد إلى النوم
قالت ريم بهدوء :- لا أظنك تعانين من التعب .. ربما من القلق
نزلت نانسي حتى واجهت ريم قائلة ببرود :- ولماذا علي أن أكون قلقة ؟
هزت ريم كتفيها قائلة بلؤم :- ربما تتسائلين عن مكان محمود .. وعن موعد عودته
:- محمود في عمله .. لقد سبق وأخبرني بأنه سيتأخر
ضحكت ريم باستهزاء قائلة :- أ مازال محمود يستعمل هذه الخدعة ؟
عقدت نانسي حاجبيها دون أن تعلق فأكملت ريم :- عليك أن تكوني حذرة يا نانسي .. فمحمود ولد وحوله جيش من النساء .. وليس من السهل أن يتخلى عن كل هذا لمجرد أنه قد تزوج
ردت نانسي بصلابة :- أنا أثق بزوجي ثقة عمياء
أطلقت ريم ضحكة صغيرة وهي تقول ساخرة :- لا تنسي بأنه يعمل مع والدي .. ووالدي ماكان ليتركه ويعود باكرا تاركا محمود وحده غارقا في العمل
اقتربت من نانسي قائلة :- هل تعرفين بأن لمحمود شقة في المدينة .. شقة فاخرة مجهزة بجميع وسائل الراحة .. لقد اعتاد أن يقضي فيها الكثير من لياليه .. فهو قطعا لن يحضر صديقاته إلى هنا .. وأنا واثقة بأنه لم يخبرك بها ولن يفعل .. كي تبقى شقة العزوبية جاهزة دائما لأي موعد طارئ
بالرغم من توتر جسد نانسي وتأثير كلمات ريم السامة عليها .. قالت بمرح :- أنت محقة .. فهو لم يخبرني بها
منحتها ابتسامة لعوب وهي تقول :- لقد أخذني إليها ... أين تتوقعين بأننا قد قضينا الوقت بعد زواجنا وقبل حضوري إلى هنا ؟
اقتربت لتنظر إلى عينيها العسليتين الغاضبتين وقالت :- أما عن صديقاته اللاتي تتحدثين عنهن .. فأنا واثقة بأن العديد منهن تمنين الزواج به .. بل ربما انتظرنه طيلة حياتهن .. وهذا لا يهمني إطلاقا .. لأنه عندما قرر الزواج أخيرا .. اختارني أنا
منحتها ابتسامة حلوة وهي تقول :- تصبحين على خير يا ريم
صعدت إلى غرفتها .. ومنعت نفسها بصعوبة من صفق الباب بقوة .. تمتمت بغضب :- الحقيرة
ثم نظرت إلى صورة صغيرة له على منضدة الزينة وقالت بغل :- أيها المزيف الحقير
بدلت ملابسها وارتدت منامة حريرية بيضاء .. ثم دست نفسها في السرير وهي تتساءل .. هل كانت ريم تكذب عليها .. أم أن محمود يمتلك مثل تلك الشقة في قلب المدينة ؟
تقلبت في الفراش وهي تفكر كالمحمومة .. هل سيشاركها محمود هذه الليلة فعلا ؟ .. هل سيشاركها السرير ويحاول أخذ حقوقه منها ؟
التدفئة المركزية كانت تعمل بأقصى طاقاتها .. ولكنها كانت تعرف بأن الحرارة التي كانت تجتاحها نابعة من أعماقها هي .. كان مجرد التفكير في محمود يلمسها تثير جنونها .. كيف ستسمح له بهذا بينما تأخذها الأفكار حوله في كل مكان .. أخذت تقسم بأغلظ الأيمان بأنه لو حاول لمسها فسينال منها ما يستحق .. ستقاومه وتركله .. تترك الغرفة إن اضطرت مهما كان وضعها سيكون مذلا أمام ريم ..
أخفت وجهها في الوسادة بإرهاق .. لقد أخبرها صراحة بأنه يريدها .. وهو ليس بالرجل الذي يقبل بسهولة ألا يحصل على عروسه بعد أسبوع من زواجهما .. تذكرت نظراته في كل مرة كان يوضح لها نواياه ... فارتجفت ..
إن حصوله عليها في ظروف زواجهما الاستثنائية سوف يشعرها بمزيد من الذل والهوان .. ويؤكد لها على بيعها لنفسها له .. بالضبط كما قال ماهر ..
لم تدر كم مر من الوقت وهي تتقلب عاجزة عن النوم .. حتى شعرت بوصوله
أدرات ظهرها متظاهرة بالنوم في لحظة دخوله إلى الغرفة .. كانت حركاته هادئة وصامتة وهو يتجول في الغرفة .. سمعته يفتح الخزانة .. ثم سمعت حفيف ثيابه وهو يبدلها .. شعرت بالعرق يبلل جسدها ووجهها من فرط التوتر والترقب .. شعرت به يزيح البطانية الثقيلة والدافئة ففاجأها التيار البارد الذي تسرب إلى جسدها الدافئ .. استقر إلى جانبها بصمت .. فأحست بدفئه رغم المسافة الفاصلة بينهما.. واستنشقت عبير عطره الرجولي الزكي .. لم يلمسها .. أو حتى يحاول الاقتراب منها .. وخلال دقائق .. سمعت صوت انتظام أنفاسه .. لقد استغرق في النوم
رغم استرخاء أعصابها أخيرا .. إلا أن مزيجا من السخط والحيرة اجتاحا فكرها .. الحيرة من تصرفه .. والسخط من حرمانه لها من فرصة رفضه ومقاومته .. ما الذي يهدف إليه بالضبط ؟ .. هل أدرك فجأة بأنه لا يريدها حقا كما كان يظن ؟ .. أم أنه يهدف إلى إثارة أعصابها وإهانتها برفضه هو لها ؟
مهما كانت أسبابه .. فقد جنب نفسه الكثير من المشاكل .. وعندما نامت أخيرا .. كانت قد استغرقت وقتا طويلا لتفعل مانعة نفسها بصعوبة من إلقاء أي نظرة عابرة نحو الرجل الذي تزوجها
لا .. بل الرجل الذي اشتراها
هل أغار ؟؟
هتفت حنان باستنكار :- لم يحدث شيء !
قالت حنان وهي تمشط شعرها بعصبية :- لقد أخبرتك بأنه قد وصل متأخرا ونام دون أن يوجه لي أي كلمة .. لقد كان يظنني نائمة في الواقع
فكرت حنان قليلا ثم قالت بحزم :- هذا يدل على نبل أخلاقه
نظرت إليها نانسي باستنكار فأوضحت حنان :- لابد أنه يقدر عدم تجاوزك بعد لوفاة والدتك .. ويترك لك المجال لتتأقلمي مع وضعك الجديد كزوجته
تجهمت نانسي .. قطعا هي لم تفكر بهذه الطريقة .. هل كان هذا هو هدف محمود ؟ ألا يجبرها على شيء ليست مستعدة له بعد ؟ .. لم تعرف هل تقدر فيه فعله هذا أم تحقد عليه لأنه يثبت لها من جديد بأنه أفضل منها .. ولكن الحقيقة هي أن صورته داخلها قد تغيرت قليلا .. ما الذي توقعته ؟ الدكتور محمود أستاذ جامعة قدير .. وليس رجل غابة متوحش .. تنهدت وهي تقول :- من الأفضل أن أذهب إلى الجامعة قبل أن أتأخر
ارتدت ملابس داكنة اللون بالطبع شديدة الأناقة .. مع زينة خفيفة على وجهها لم تنقص شيئا من جمالها ورقي مظهرها ..
إن كانت ستعود إلى الجامعة .. فستتسلح بأقوى أسلحتها .. الأناقة
أوصلها مأمون إلى بوابة الجامعة .. وهناك سألها :- متى أعود لاصطحابك يا سيدة نانسي
نظرت إلى ساعتها قائلة :- في الساعة الثانية والنصف
ترجلت من السيارة بساقين مرتعشتين .. وبصعوبة استطاعت اختراق الجامعة وهي تعتنق روحها القديمة .. المشبعة بالثقة والكبرياء .. أدهشها رد الفعل الذي وجدته إذ أسرعت زميلاتها نحوها مرحبات بها ببشاشة .. بعبارات العتاب للغياب الطويل .. ثم أطلقت إحداهن تعليقا خبيثا عن الدكتور محمود .. هكذا إذن .. لقد أدركن بأنها الآن أصبحت زوجة أستاذهن .. بل هي زوجة رجل مهم في المجتمع .. مما يعني أن إغضابها ليس من مصلحتهن .. لدهشتها لم تكن نانسي سعيدة لهذا .. فهي لا ترغب بأن يعود مجدها القديم القائم على المصالح والذي أثبت هشاشته من خلال تجربتها .. لم ترغب بمودة تختفي عند حدوث أي مشكلة معها .. إلا أن هذا يبقى أفضل بكثير من عدائهم واضطهادهم لها
تساءلت عن مصدر معرفتهم بخبر زواجها .. وعندما انتهت محاضرتها الأولى .. خرجت لتجد ماهر في انتظارها.. نظرت إليه ببرود وهو يتجه نحوها قائلا :- صباح الخير يا نانسي .. تسعدني عودتك
تمتمت بهدوء :- أشكرك
قال بخفوت :- أعتذر عما بدر مني في المستشفى يا نانسي .. لم يكن من حقي مخاطبتك أو الحكم عليك بهذه الطريقة .. لقد عرفت بوفاة والدتك .. والدكتور محمود هو أفضل من يهتم بك ويحميك وقد خلت حياتك من أي معين
رفعت عينيها إليه قائلة :- هل أنت من أخبر الطلاب بزواجي من الدكتور محمود ؟
:- كان لابد أن أمهد لعودتك .. وقد توقعتها .. الآن لن يجرؤ أحد على الاقتراب منك أو الخطأ في حقك
ثم قال وقد ظهر القلق في عينيه :- هل تسامحينني يا نانسي ؟
ابتسمت قائلة :- أنت صديقي الوحيد يا ماهر .. لو لم تأت إلي لأتيت أنا إليك
تبادلا بعض الأحاديث قبل أن يفترقا ليلتقيا بعد المحاضرة الثانية
لم تر نانسي محمود في الكلية ذلك النهار .. بل هي لم تره على الإطلاق ذلك الصباح إذ استيقظت لتجد جانبه من السرير فارغا مما أشعرها بالراحة والإسترخاء
أوصلها ماهر إلى حيث يقف مأمون بالسيارة في انتظارها وهو يقول :- ان احتجت لأي مساعدة فلا تترددي في سؤالي .. وسأحضر لك كل ما تحتاجينه من أوراق ومحاضرات فاتتك
:- أشكرك يا ماهر
ترددت قبل أم تطرح عليه السؤال الذي كان يقلقها منذ الصباح .. وعندما طرحته قال بدهشة :- جابر ؟ ما الذي ذكرك به الآن ؟ لقد طرد من الكلية منذ فترة طويلة .. ربما بسبب إحدى فضائحه الأخلاقية
هدأت أعصاب نانسي التي أمضت يومها تتلفت يمينا ويسارا خوفا من مصادفته في الكلية .. عندما وصلت إلى البيت .. بدلت ملابسها ثم تفقدت لينا التي كانت ترسم في غرفتها .. قضت معها بعض الوقت .. ثم قررت النزول إلى المطبخ والبحث عما تأكله وقد شعرت بالجوع الشديد بسبب وصولها متأخرة عن موعد تقديم الغداء ..
توقفت جميع العاملات عن العمل على إثر دخولها إلى المطبخ .. ونظرن إليها بدهشة .. أسرعت نجوى نحوها وهي تقول بارتباك :- سنعد لك الغداء فورا يا سيدتي
قالت نانسي بهدوء :- أخبريني أين أجد كل شيء وسأخدم نفسي بنفسي
موقفها كان مفاجئا حتى لحنان التي أبت إلا أن تساعدها في وضع الطعام داخل المايكروويف وتسخينه .. ورغم اعتراضها لم تقبل نجوى أبدا إلا أن تقدم لها الطعام في غرفة المائدة وبطريقة لائقة
وعندما بدأت بالأكل سألت نجوى :- هل يأكل السيد محمود كثيرا خارج المنزل ؟
أجابت نجوى :- نادرا ما يتناول غداءه هنا .. ولكنه غالبا ما يعود وقت العشاء
أنهت نانسي طعامها بهدوء .. ثم سألت فور انتهائها :- هل الجدة مستيقظة ؟
:- لا أعتقد يا سيدتي .. فهي تنام دائما في هذا الوقت
تساءلت نانسي عما تفعله .. فقررت الدخول إلى مكتب محمود والبحث عما تقرأه .. دخلت لتجد ريم هناك تجلس على إحدى الأرائك الجلدية باسترخاء وتتصفح إحدى المجلات .. اعتذرت نانسي قائلة :- أنا آسفة .. لم أعرف بوجود أحد هنا
أجابت ريم ببرود :- كما ترين .. أنا هنا ولا أحب أن يقاطعني أحد أثناء مطالعتي
كبتت نانسي غضبها وهي تقول :- في هذه الحالة عليك إيجاد مكان آخر لمطالعتك .. فأنا بحاجة إلى كتاب
نهضت ريم بغضب .. ولكن قبل أن تنطق بـأي كلمة .. ارتفع صوت محمود يقول :- مرحبا أيتها الفتاتين
استدارتا نحوه فاقترب من نانسي قائلا :- كيف حالك يا حبييبتي ؟
وكي يفاجئها .. انحنى ليطبع على وجنتها قبلة سريعة جعلت قلبها يخفق بقوة .. ولكنها فاجأته بدورها وهي تقول برقة شديدة :- بخير يا حبيبي .. لقد اشتقت إليك كثيرا
ارتفع حاجباه بدهشة بينما استرقت نانسي النظر نحو ريم الساخطة .. والتي قالت بحنق :- بالإذن
ما إن خرجت حتى ابتعدت نانسي عنه وهي تقول بجفاف :- أهلا دكتور .. لم أتوقع عودتك باكرا
قال ساخرا :- كما لم اتوقع عند عودتي عرضا غراميا أمام ابنة عمي .. ما هو هدفك بالضبط ؟
قالت ببرود :- ربما انا لا أحب أن يدرك أي من سكان المنزل حقيقة زواجنا المخزي .. وريم تنتظر كالصقر الجائع أقل لمحة عن ذلك .. لا تحاول التظاهر بأنك لم تعرف بان ابنة عمك مغرمة بك
قال ببرود مماثل :- اتركي ريم في حالها .. وأنصحك أن تهتمي بأمورك الخاصة في هذا المنزل .. وبدلا من إجهاد نفسك في مشاكسة الآخرين .. تذكري كيف وصلت إلى هنا
قبل أن تتمكن من منع نفسها هتفت بغل :- أنا أكرهك
وضح حقيبة اوراقه على المكتب وهو يقول :- وهل ظننتني متيم في هواك ؟
استدار نحوها يسألها فجأة :- كيف كان نهارك في الجامعة .؟
هزت كتفيها قائلة :- جيد
نظر إلى وجهها متفحصا وكأنه كان في انتظار جواب أكثر إسهابا .. سألها :- هل قابلت ماهر؟
:- طبعا قابلته .. هل نسيت بأنه صديقي ؟
تجهم وجهه دون أن يعلق .. قال مغيرا الموضوع :- جهزي نفسك هذه الليلة .. فنحن مدعوان للعشاء
قالت بدهشة :- نحن ؟
:- نعم .. أحد شركائي وأعز أصدقائي عرف بزواجنا ودعانا للعشاء احتفالا به .. يجب أن تتوقعي الكثير من هذه الدعوات .. فأنا لدي الكثير من المعارف
لاحظ ترددها فسألها :- هل من مشكلة يا نانسي ؟
لم ترغب حقا بقول ما يشغل بالها .. ولكنها تجاوزت كرامتها وقالت بانزعاج :- ليس لدي ما أرتديه
دهش وكأن هذا كان آخر ما توقعه منها .. وقال :- عرفت بأنك قد أحضرت معك الكثير من الحقائب الممتلئة بالملابس
قالت بحدة :- أنت لا تفهم .. ملابس السهرة لدي قديمة وقد لبستها أكثر من مرة .. كما أنها لا تناسب امرأة متزوجة
نظر إليها طويلا ... قبل أن يبتسم لدهشتها بحنان قائلا :- علي إذن أن أعتذر منك يا زوجتي العزيزة .. لم تحصلي على زفاف لائق كغيرك من العرائس .. أو حتى على جهاز مناسب .. كان علي التفكير بهذا مسبقا .. أنا آسف
فغرت فمها ذاهلة عندما قال :- يمكنك أخذ مأمون والذهاب إلى السوق وشراء كل احتياجاتك .. واحتياجات لينا أيضا .. ما يهمني هو أن تكوني جاهزة في تمام الساعة الثامنة لنلحق بموعدنا .. هل يناسبك هذا ؟
أفاقت من دهشتها .. ورفعت رأسها قائلة بشموخ :- لا بأس
ضحك وهو يقترب منها .. وينظر إليها برقة قائلا :- أنت طفلة صغيرة يا نانسي .. مهما حاولت التظاهر بالقوة والنضوج .. فأنا أستطيع بسهولة رؤية تلك الطفلة المختبئة هنا
أشار إلى صدرها .. قبل أن يداعب أنفها بخفة ويتركها مغادرا المكتب .. عقدت ساعديها أمام صدرها محاولة إبعاد تأثير لمسته العابرة وهي تفكر بعناد .. إن كان يظن بأنه قد اشتراني .. فهو لن يدفع ثمنا بخسا لي .. من واجبه أن يوفر لي كل ما أرغب به .. أليس كذلك ؟
في تمام الساعة الثامنة .. كانت نانسي تضع لمسات الزينة الأخيرة أمام المرآة .. وبطرف عينها كانت تراقب محمود وهو يحكم وضع ربطة عنقه .. ملاحظة وسامته وجاذبيته الصارخة في الملابس الرسمية .. حتى الآن لم تستطع التأقلم مع إقامتها في غرفة واحدة معه .. كانت تشعر بالتوتر في كل مرة ينفردان فيها .. نهضت قائلة :- أنا جاهزة
نظر مطولا إلى ثوبها الأسود الجميل .. الذي غطى بطوله كاحليها .. وناسب جسدها بشكل تام .. كان عاري الكتفين وقد زين صدره دبوس على شكر نمر ماسي صغير بعينين من الزمرد كان من بقايا مجوهرات والدتها
تأمل شعرها الذي رفعته بشكل بديع أظهر عظام وجنتيها الجميلة وعنقها الناعم الرشيق .. فابتسم قائلا :- مدهشة
توترت تحت أنظاره المتأملة .. راقبته وهو يرتدي سترته قائلا :- ولكن هناك شيء ناقص
عبست قائلة :- ماذا ؟ ما هو ؟
استدارت تنظر إلى المرآة بقلق .. لقد تبرجت بإتقان فظهر لون عينيها الأخضر الفيروزي .. وفمها بدا أكثر جمالا وامتلاءا بعد أن طلته بلون وردي فاتح .. راقبته يقترب منها بهدوء ويخرج شيئا من جيبه .. حبست أنفاسها عندما فتحها لترى محبس الزواج الذهبي مرفقا بخاتم ماسي يخطف الأنظار ببريقه .. تمتمت باضطراب :- ما هذا ؟
قال بهدوء :- زوجة فاضل محمود لن تتجول امام الناس بلا خاتم زواج يليق بها
عقد لسانها .. ولم تستطع النطق بكلمة وهي تتأمل الخاتم الجميل .. أمسك يدها .. وأحاط بنصرها الأيسر بالخاتمين دون أن يتوقف عن النظر إليها ..ثم رفع يدها إلى شفتيه ليطبع قبلة طويلة على بشرتها الناعمة مما جعل رجفة خفيفة تسري في أوصالها .. قال بعمق :- لقد سبق وقلت بأن هذه الأصابع الناعمة قد خلقت لأجل ارتداء الخواتم الثمينة
تسارعت أنفاسها وقد أحست بشيء كالشلل يلفها عندما قربها منه بنعومة هامسا في أذنها .. أنت تشبهين هذا النمر النائم على صدرك يا نانسي .. بعينيه الخضراوين .. واستعداده للقفز بعيدا عند أول لمسة
وكأنها كانت في انتظار كلمته لتصحو من غيبوبتها وتهتف بذعر :- لقد تأخرنا
انسلت من بين يديه وتناولت حقيبة يدها قائلة :- ألن نذهب ؟
ظهر شيء من الفوضى في عينيه وهو يقول :- بلى .. سنذهب .. هيا بنا
ارتدت معطفها وهي تحاول تهدئة نبضات قلبها العنيفة .. يا إلهي ساعدني .. ثم غادرا معا
التقت في المطعم الفاخر بشريك محمود وزوجته .. كان رجلا متوسط العمر .. وزوجته كانت ثلاثينية حسناء .. بدا من حرارة استقبالهم لمحمود شدة إعجابهم به .. وبعد أن عرفها إليهما وبالعكس قالت الزوجة إيناس :- أخيرا تزوجت يا محمود .. لم أظن أبدا بأن هذا اليوم سيأتي قط
قال محمود باسما وهو ينظر إلى نانسي :- لابد ان يتخذ الرجل القرار الحاسم عندما يجد الشخص المناسب
تورد وجه نانسي وهي تتحاشى النظر إليه بينما قالت لها إيناس :- عندما نلتقي ينشغل عصام ومحمود دائما في أحاديث العمل .. فأشعر بالملل الشديد .. الآن لا امانع ان يتحدثا في العمل طوال الأمسية .. فقد حصلت على صديقة جديدة
منحتها نانسي ابتسامة صادقة وقد أعجبت بها .. بينما قال زوجها مفكرا :- أنت من عائلة راشد .. بالتأكيد لا يمت إليكم سلمان راشد بأي صلة صحيح ؟.. إنه ذلك الرجل الذي اتهم بالقيام بأعمال غير مشروعة .. والذي مات في السجن .. لقد عرفته شخصيا قبل أن يتم اتهامه .. لقد كان شخصا جيدا .. ما زلت غير مصدق للاتهامات التي وجهت إليه .. هل تعرفينه ؟
شحب وجه نانسي في الوقت الذي قال فيه محمود باهتمام :- لقد أخبرني عمي بأنك قد طرحت عليه موضوع الأرض هذا الصباح .....
تمكن محمود من تغيير الحديث بمهارة حيث التفت الرجل لحديثه باهتمام .. بينما مالت زوجته نحوها قائلة :- لم أتخيل يوما ان أرى محمود متزوجا .. لقد بدا لفترة طويلة عازفا عن الزواج .. وقد كرس نفسه لعمله في شركاته وفي الجامعة .. أما عن زواجكما دون ضجة فهذا لم يدهشني .. لطالما كان محمود كارها للمظاهر الزائفة
ابتسمت نانسي قائلة :- يبدو أنك تعرفينه جيدا
قالت إيناس بمرح :- لقد كنت زميلته في الجامعة .. محمود كان شابا مجتهدا في دراسته .. وذا شخصية لامعة بين زملاءه .. ولا أخفي عنك مدى شعبيته بين الفتيات .. فقد كن يحمن حوله كالنحل حول وعاء العسل .. أي منهن لم تكن مميزة بالنسبة إليه
تساءلت نانسي إن كانت هذه المرأة أيضا إحدى المعجبات القديمات به .. وكأنها قد قرأت أفكارها قالت :- لو لم أكن مغرمة بعصام ابن خالتي منذ الطفولة لأغرمت بمحمود كأي فتاة طبيعية أخرى .. فهو يمتلك جميع المقومات التي تجعله مرغوبا .. ولكنني دائما أحببت عصام 00 تزوجنا بعد تخرجي مباشرة .. ولدينا الآن 3 أطفال بارعي الجمال
كانت سهرة لطيفة للغاية .. فقد قضت نانسي وقتا ممتعا بصحبة الزوجين المرحين .. بل واكتشفت بأن زوجها البارد قادر أيضا على أن يكون مرحا بدوره عندما يرغب .. كادت الأمسية أن تكون كاملة لو لم تقترب فتاة سمراء من طاولتهما وهي تقول بسعادة :- محمود .. يا لها من صدفة سعيدة .. مضى وقت طويل منذ لقائنا آخر مرة
وقف محمود لتحية الفتاة التي أسرعت ترمي نفسها عليه معانقة إياه فقال بهدوء وهو يبعدها عنه بلطف :- مرحبا هديل ..
التفتت هديل إلى الآخرين قائلة بمرح :- عذرا أيها السادة .. محمود صديق قديم ... لا يظهر إلا لماما .. فكان علي استغلال رؤيته لتبادل بعض الحديث معه
عادت تعاتبه قائلة :- أين أنت يا رجل ؟ منذ تلك الحفلة التي أقامها والد نسرين لن نرك في أي مناسبة .. اسمع .. أرغب بأن أراك في ...
قاطعتها نانسي قائلة ببرود :- ألن تعرفني بصديقتك يا محمود
انتبهت الفتاة في تلك اللحظة إلى رفيقة محمود التي شملتها بنظرات ازدراء شديدة .. فتنحنح محمود وهو يقول :- أقدم لك زوجتي يا هديل .. نانسي .. هديل صديقة قديمة
الصدمة العنيفة بدت جلية على وجه الفتاة وهي تنقل نظرها عبر الوجوه وكأنها تنتظر من يضحك في وجهها معلقا بأنه محمود يمزح .. بينما بدا القلق على وجه إيناس .. وانزعاج في وجه محمود الذي لم يخف ضيقه من هذا اللقاء غير المتوقع
تمتمت هديل قائلة :- أنا آسفة .. لم أعرف
قالت نانسي بفتور :- بالتأكيد لم تعرفي .. لقد تزوجنا حديثا جدا
استدارت الفتاة نحو محمود قائلة :- هل عرفت نسرين بذلك ؟
قال بهدوء :- سيعرف الجميع عاجلا أم آجلا .. تفضلي وشاركينا السهرة
قالت ببرود :- أشكرك .. أنا مضطرة للذهاب .. سعدت بلقائكم
منحت نانسي نظرة قاسية وكأنها تستثنيها من كلامها .. ثم ابتعدت
قضت نانسي بقية السهرة صامتة بالرغم من محاولة إيناس الترويح عنها ..وعندما ذهبتا إلى استراحة السيدات وجدت إيناس الفرصة لتقول لها :- كل الرجال لديهم قصص ومغامرات قبل الزواج .. أنا واثقة بأن هذه الفتاة كغيرها لم تعد تعني شيئا لمحمود
قالت نانسي بهدوء :- بالتأكيد
لم تتفوه بحرف طيلة الطريق إلى البيت .. وعندما دخلت إلى غرفة النوم كان أول ما فعلته هو انتزاع خاتمي الزواج من إصبعها ورميهما فوق منضدة الزينة .. دخل محمود خلفها وهو يقول :- أفهم من هذه التصرفات الطفولية بأنك غاضبة
استدارت إليه وهي تقول بانفعال :- غاضبة .. هذه هي أقل كلمة قد تصف مشاعري في هذه اللحظة .. أعرف بأنك لا تهتم بمشاعري مثقال ذرة .. ولكن إياك أن تهزأ بكرامتي في العلن يا دكتور محمود .. إياك أن تظهرني أمام الناس بمظهر الزوجة المخدوعة الحمقاء وأنت تتباهى بتاريخك العظيم مع النساء
قال بغضب :- الفتاة لم تكن تعرف بزواجنا يا نانسي
صاحت :- وأنت لم ترغب بإيذاء مشاعرها ففتحت لها ذراعيك
ضيق عينيه وهو يقول :- هل أفهم من هذا بأنك تغارين ؟
احمر وجهها من هذه الحقيقة التي لم تخطر على بالها .. ولكنها قالت بعصبية :- أنا لا أغار عليك .. بل على كرامتي وكبريائي .. ومظهري أمام الناس .. كيف سيكون رد فعلك لو تركت أنا زميلا لي يحتضنني أمام معارفك
قال بخشونة مفاجئة :- كنت قتلتك
أجفلت لعنفه المفاجئ والبريق الوحشي الذي أطل من عينيه وهو ينظر إليها بطريقة جعلتها تخاف حقا .. تمتمت بتوتر :- هاقد فهمت وجهة نظري
قال ببرود :- الزوجة الحقيقية هي التي تبذل جهدها لتمنع زوجها من النظر إلى غيرها بدلا من الانفجار غضبا كلما اقتربت منه امرأة
راقبته متوترة وهو يبدأ بتبديل ملابسه فقال :- ما الذي تفعله ؟
قال وهو يحل أزرار قميصه :- كما ترين .. أبدل ملابسي
توقف فجأة وهو يلاحظ وجهها المحتقن فقال :- ما الأمر ؟ هل تكرهين أن أفعل هذا أمامك ؟
قالت بصوت مختنق :- نعم
نظر إليها من رأسها حتى أخمص قدميها بطريقة جعلتها ترتعش .. ثم قال :- هل نسيت بأنك زوجتي يا نانسي ؟ وأن ما يحق لي هو أكثر بكثير من تغيير ملابسي أمامك
شعرت بالذعر وهي تراه يقترب منها .. تراجعت وهي تقول بقلق :- ما الذي تفعله ؟ إياك والاقتراب مني
ولكنه استمر في الاقتراب فتراجعت حتى التصقت بزجاج النافذة الكبيرة وهي تصيح بذعر :- إياك أن تلمسني .. أحذرك بأنني سأصرخ عاليا .. سأركلك .. سأضربك
أغمضت عينيها بقوة عندما مد يده نحوها .. ثم فتحتهما بدهشة وهي تدرك بأنه لم يلمسها .. بل مد يده إلى النافذة خلفها يحكن إغلاقها قائلا ببرود :- الجو بارد في الخارج .. تأكدي في المرة القادمة من إحكام إغلاقها
تراجع وهو يحمل ملابسه ويدخل إلى الحمام مغلقا الباب خلفه .. فزفرت بقوة وهي تحاول استعادة هدوئها .. إنه يعبث بها وبأعصابها .. ولكنها تعرف بأنه عندما يقرر بأن الوقت قد حان لامتلاكها فإن أي من اعتراضاتها لن تجدي .. وهذا اليوم لن يكون بعيدا .. لقد قرأت هذا في عينيه بوضوح .. بدلت ملابسها بسرعة ودست نفسها في السرير .. سمعته يخرج من الحمام ويستقر إلى جانبها .. ساد صمت طويل في الغرفة المظلمة إلا من ضوء الأباجورة المجاورة لطرفه من السرير ..
قال فجأة بينما هي تدير ظهرها له :- لم أقصد جرح مشاعرك يا نانسي .. لم يكن بيني وبين هديل أي علاقة في أي وقت مضى .. لطالما كانت مجرد صديقة لا أكثر
أرادت أن تتجاهله .. ولكنها قالت دون أن تنظر إليه بجفاف :- من الواضح أنها لم تعتبرك صديقا على الإطلاق
:- هذا شأنها هي .. إن آخر ما قد أرغب بفعله هو إهانتك أمام الآخرين
استدارت نحوه مترددة .. فاستطاعت رؤية بريق عينيه القاتمتين .. بينما غطت الظلال معالم وجهه تمتمت :- أشكرك لأنك وقفت إلى جانبي عندما تحدث السيد عصام عن أبي
قال بحنان فاجأها :- أنت زوجتي يا نانسي ... وقد وعدتك يوما بأنني سأحميك
فكرت بأنها لا تتذكر هذا الوعد .. إلا ان حنانه جعلها تشعر بالضعف فجأة وبالرغبة بالبكاء .. منذ متى لم تشعر نانسي بالحماية ؟ أحست بان هذا الشعور بعيد جدا عنها .. فتمتمت بصوت اجش :- تصبح على خير
وادارت له ظهرها كي لا يتمكن من رؤية دموعها .. فأطفأ هو نور الأباجورة .. وساد الظلام في المكان .. فراحت نانسي في النوم بعد فترة قصيرة
بعد حلم مريع .. استيقظت نانسي مذعورة عندما سمعت صوت محمود ينادي باسمها .. لاحظت بأن وجهها مغطى بالدموع .. وأن شهقاتها تتلاحق بسرعة وكأنها تبكي قال محمود وهو يمسح الدموع عن وجهها :- اهدئي يا نانسي .. إنه مجرد كابوس
تمتمت بكلمات غير مترابطة :- لقد رأيت أبي .. ورأيت أمي أيضا .. ولينا كان تغرق
ضمها إليه بقوة وهو يقول بصوت حنون :- لم يحدث شيء .. ولن يحدث لك أي مكروه
ارتعدت وهي تشعر بذراعيه القويتين تحيطان بها .. وبصدره الصلب يحتويها .. استنشقت عبيره الرجولي الذي كان له أكبر التأثير على أعصابها .. بينما هو يهدهد لها كالأطفال هامسا :- لن أسمح لأحد بأن يؤذيك يا نانسي .. أنت ستكونين بأمان .. أعدك
انتابها شعور غريب وهي تستمع إلى هذه الكلمات وإلى نبرة صوته .. ثمة شيء مألوف لم تستطع تمييزه .. ولكنها سرعان ما نسيت كل شيء وهي تغفو على صدره
وماذا بعد ؟
رفعت نانسي عينيها عن كتابها لتبتسم في وجه لينا التي دخلت عليها وهي تقول بلهفة :- نانسي .. لقد دعاني فراس لحضور حفلة موسيقية يقيمها المعهد الذي يدرس فيه مساء اليوم.. هل أستطيع الذهاب ؟
نظرت نانسي إلى فراس الذي وقف عند الباب بحرج ثم ابتسمت قائلة :- بالتأكيد
أطلقت لينا صيحة سعادة وهي تعانقها بامتنان ثم تستدير نحو فراس قائلة :- سأبدل ملابسي وأوافيك
ركضت خارجة بينما اعتدلت نانسي التي كانت تجلس مسترخية على أريكة جلدية احتلت موقعا تحت نافذة غرفة المكتب .. قال لها فراس :- شكرا لسماحك للينا بمرافقتي
قالت بلطف :- بل شكرا لك لأنك تعاملها بلطف
نظر إلى كتابها قائلا :- انت تدرسين الاقتصاد كابن عمي محمود .. لقد رغبت دائما بأن أكون مثله .. ولكن هوايتي الموسيقية قد غلبتني
قالت :- أنا متأكدة بأنك ستصبح موسيقيا بارعا
صمت لثواني قبل أن يقول :- على عكس والدتي وريم أنا سعيد لزواج محمود بك .. ما كان ليسعد مع ريم
قالت بحذر :- لماذا تعتقد هذا ؟
قال وهو يهز كتفيه :- لقد كانا صديقين دائما .. وقد خرجا معا مرارا .. ولكنه لم يشعر نحوها يوما بما يتجاوز الأخوة .. كما أنه وريم غير متلائمين .. ريم لا تناسبه أبدا
تمتمت :- أنت تحب محمود كثيرا
قال بصدق :- لطالما كان قدوتي الأولى
بعد دقائق نزلت لينا بعد أن تأنقت .. ورافقت فراس إلى الخارج .. فخلعت نانسي حذائيها ورفعت قدميها فوق الأريكة وعادت تحاول متابعة الدراسة
استغرقت في القراءة حتى أنها لم تشعر بمحمود وهو يدخل إلى الغرفة ويقف متأملا إياها لتوان قبل أن يتنحنح كاشفا عن وجوده .. فارتبكت عندما رأته وحاولت الاعتدال فقال مسرعا :- ابقي كما أنت
اقترب وهو ينظر إلى كتابها قائلا :- أنت تدرسين .. هذا جيد .. إن أردت أي مساعدة في الدراسة أخبريني
قالت بقلق :- إن رغبت باستعمال المكتب .. يمكنني أن أخرج
قال :- لا تقلقي .. لدي بعض المحاضرات لأجل الغد أرغب بمراجعتها .. ولن يزعجني وجودك
جلس خلف المكتب .. وأخرج حاسوبه المحمول من حقيبته الجلدية .. وأخذ يعمل بصمت .. وجدت نانسي نفسها تنسى كتابها وترمقه بطرف عينها .. هي لم تره منذ يومين .. كان يستيقظ مبكرا قبل نهوضها .. ثم يعود متأخرا بعد أن تنام .. وقبل هذا .. كان دائما يعاملها بلطف حيادي .. يشبه لطفه مع لينا أو أقل .. ولكنه كاف ليدفعها لافتقاده خلال الأيام التي لم تره فيها
رف رأسه إليها سائلا :- هل من شيء يزعجك ؟
احمر وجهها وهي تقول :- لا شيء
اعتدل قائلا :- كيف لا شيء .. لقد كنت تنظرين إلي بتركيز وكأنك ترغبين بالحديث معي
كانت مضطرة لاختلاق شيء ما .. فقالت :- كنت أتساءل كيف استطعت دراسة كل هذه الكتب الضخمة والوصول إلى المراتب العالية بينما أعجز أنا عن فك طلاسم كتاب واحد
ضحك قائلا :- هل تجدين أي صعوبة في الدراسة ؟ كل ما عليك فعله هو أن تحبي ما تدرسينه
قالت :- لم أستطع يوما أن أحب الاقتصاد أو أن أستوعبه
:- لماذا تدرسينه إذن ؟
هزت كتفيها :- لم يكن لدي طموحا مختلفا .. ولا هواية مميزة كحب لينا للرسم
ابتسم وهو ينهض ليتجه نحوها .. جلس إلى جانبها على الأريكة الكبيرة فاعتدلت باضطراب .. تناول كتابها من بين يديها قائلا :- لكل إنسان هواية أو ميول معينة .. فكري جيدا .. لابد من وجود عمل تحبين القيام به
فمرت قليلا ثم قالت بتردد :- ألن تضحك ؟
ابتسم فجأة لسؤالها الطفولي فقالت بسخط :- لن أخبرك إذن
لم تدرك نانسي إلى أي حد كانت تبدو طفولية بالتنورة الزرقاء القصيرة والقميص الأبيض المقلم .. وشعرها المعقود على شكل ذيلي حصان خلف عنقها .. أطلت نظرة رقيقة من عينيه وهو يداعب شعرها قائلا :- لن أضحك .. أعدك
رغبت بإبعاد يده عنها ولكنها خشيت ان يدرك الاضطراب الذي تسببه لها لمسته .. تمتمت :- أحب الطبخ
رفع حاجبيه دون أن يعلق .. فأوضحت :- عندما عملت لفترة في المخبز .. انبهرت بشدة وأنا اجد موادا بسيطة تتحول بشكل سحري إلى انواع مختلفة من الخبز والفطائر .. شعرت بالفضول لمعرفة ما تفعله حنان لتحضر لنا الأطعمة الشهية التي كنا نأكلها .. فبدأت أساعدها .. كنت أستمتع فعلا بهذا
قال مبتسما ..:- ما الذي يمنعك من استمرار المحاولة .. انا متأكدة بان الطباخة لن تمانع اقتحامك للمطبخ ..أحب أن أتذوق شيئا من صنعك .. حتى لو مت بعدها تسمما
تأوه عندما ضربت ذراعه بقبضتها .. ثم ضحكا معا .. قالت بحرج :- الأشياء الاخرى التي أحبها ليست مهمة .. اعني بانها تافهة نوعا ما .. أحب كل ما يتعلق بالملابس والزينة والرياضة .. باختصار أحب كل ما يجذب فتاة أفسدها الدلال
رسمت ابتسامة إحباط على شفتيها .. فقال بهدوء :- ليس من المعيب ان تهتمي كغيرك من الفتيات بهذه الامور .. كما أنك لست فتاة أفسدها الدلال
نظرت إليه مصدومة فقال باسما :- أنت مغرورة .. ومتعجرفة .. ولكن لو كنت مدللة حقا لما تمكنت من الصمود في وجه الظروف السيئة التي واجهتك
أمسك يدها الرقيقة .. ونظر إلى عينيها قائلا :- أنت قوية يا نانسي .. ويجب أن تبقي قوية
التقت عيناهما طويلا قبل أن تتورد وجنتاها وهي تقول :- أشكرك يا دكتور محمود
قال بحزم :- توقفي عن مناداتي بالدكتور
بدا عليها الارتباك فأمسك ذقنها بين سبابته وإبهامه .. وأجبرها على النظر إليه وهو يقول :- هيا .. أسمعيني اسمي مجردا
تمتمت بحرج :- محمود
:- مرة أخرى
قالت بحيرة :- محمود
لمحت بريقا غريبا في عينيه وهو يقول :- إياك أن تناديني بهذه الطريقة بالجامعة وإلا فقد هيبتي أمام التلاميذ
اقترب منها فجأة وهو يقول بصوت أجش :- وقبلتك أمام الجميع بلا تردد
ارتعدت وهي تشعر بأنفاسه قريبة منها وهمست :- محمود
:- عفوا
اعتدل محمود على الفور وابتعد عنها بسرعة عندما دخلت ريم إلى الغرفة .. وعبست وهي تنظر إليهما قائلة بجفاف :- لم أدرك بأنك لست وحيدا يا محمود .. لقد كان أبي يبحث عنك
نهض قائلا بهدوء وكأن اللحظة الرقيقة التي مرت بينهما لم تكن :- هل وصل ؟ سأوافيه حالا
خرج ليترك الفتاتين وحدهما .. وضعت نانسي إحدى ساقيها فوق الأخرى وهي تقول بكسل :- ما الأمر يا ريم ؟ لا تقولي بأنك قد صدمت .. فأنت تعرفين بأن ما يحدث بيني وبين محمود أكثر بكثير من هذا
لرت ريم فمها قائلة بمكر :- لم أصدم يا نانسي .. بل تذكرت المرات التي ضبطت فيها أنا ومحمود في وضع كهذا
شعرت نانسي بطعنة أليمة في صدرها .. وبذلت جهدا خرافيا كي تخفي تأثير كلمات ريم المسمومة عليها .. قالت ببرود :- لقد سبق وعرفت بأنك كنت مولعه بزوجي يا ريم .. ما من داعي لتلميحاتك الرخيصة هذه
نهضت واتجهت نحو الباب .. وقبل أن تخرج استدارت نحو ريم قائلة :- تذكري دائما يا ريم بأنني المرأة التي تزوجها محمود .. وأن ماضيه بما يحتويه من مغامرات لا يهمني بما أنه قد انتهى
وبينما هي تغادر سمعت ريم تقول من ورائها بخبث :- المهم أن تتأكدي بأنه قد انتهى
أقفلت نانسي الباب ورائها بهدوء شديد .. بينما كانت النار تتأجج داخلها كالبركان الثائر .. إنها تكذب .. تكذب .. لا يمكن أن يكون محمود على علاقة بها .. إنه ليس موجودا طوال اليوم .. وعندما يتقابلان تكون هي موجودة دائما .. ولكن ريم أيضا تكون غائبة طوال النهار .. هل يتقابلان خارجا ؟ .. هل يلتقيان في تلك الشقة التي تحدثت عنها ريم ؟
ما الذي حدث لها ؟ لماذا تشعر بغضب شديد وبنيران تستعر في صدرها .؟ هل تغار ؟ .. لا .. هي لا تغار .. كما أن ريم تكذب بالتأكيد .. إنها تحاول إغضاب نانسي لا أكثر
في البهو وجدت السيدة منار توبخ إحدى الخادمات بعنف وقسوة .. وقفت لتعرف الحكاية وقد أشفقت على الفتاة المسكينة التي أجهشت في البكاء وهي تقف وسط شظايا ما كان يوما إناءا أثريا
كانت السيدة منار تقول :- هل تدركين ما فعلته بالضبط ؟ .. لقد حطمت تحفة فنية عمرها يعود إلى العديد من السنوات.. لن تبقي في هذا المنزل لحظة واحدة .. اجمعي أغراضك وارحلي من هنا
أخذت الفتاة تتوسل إليها .. بينما المرأة مصرة على موقفها .. اقتربت نانسي وهي تقول بهدوء :- لا أجد أي داعي لإجراء قاسي كهذا يا سيدة منار
عبست منار قائلة :- ليس هناك داعي أكبر مما فعلته هذه المهملة
:- ما زلت أجد بأن الفتاة لا تستحق الطرد بسبب خطأ بسيط قد يحدث مع أي منا
قالت منار بخشونة :- كان عليها أن تكون أكثر حذرا أثناء التنظيف .. لقد اتخذت القرار ولا رجعة فيه
ألقت نانسي نظرة سريعة على الفتاة المنهارة .. ثم قالت بحزم :- الأمر لم ينته يا عمتي .. الفتاة لن تخرج من هذا المنزل .. بل هي لن تعاقب على ما فعلته دون قصد منها
صاحت منار بغضب :- ومن الذي قرر هذا
قالت نانسي :- أنا
ساد صمت طويل نظرت خلاله كل منهما نحو الأخرى بتحدي وغضب .. استدارت نانسي نحو محمود الذي أقبل مع عمه على إثر الضجة .. قال السيد طلال :- ما الذي يحدث هنا ؟
قالت منار بغضب :- لقد حطمت هذه المهملة تحفة غالية الثمن .. ونانسي ترفض معاقبتها
عقد محمود حاجبيه ونظر إلى نانسي التي قالت بصرامة :- لم تقصد تحطيمها .. خطأ كهذا لا يستحق أن تطرد لأجله .. مهما كانت التحفة غالية الثمن .. فهي لا تستحق أن يقطع رزق إنسان لأجلها
استمر محمود في صمته وهو يستمع إليها .. فقالت :- كل إنسان معرض إلى الخطأ .. وهذه الفتاة عملت هنا منذ سنوات كما علمت .. أي أنها فعليا أصبحت جزء من العائلة .. وقد عملت لفترة طويلة على خدمة سكان هذا البيت وراحتهم .. وليس من العدل أن تلقى في الشارع بسبب خطأ بسيط .. إن حدث هذا فلن يشعر أي موظف في هذا المنزل بالأمان بعد الآن .. وبالتالي لن يكون مخلصا
قال محمود بهدوء :- هل تؤمنين بهذا حقا ؟
قالت بحزم :- بالتأكيد
نظر إلى عمه وزوجته قائلا :- مادامت نانسي ترى هذا فليحدث ما تريد .. إنها سيدة هذا المنزل على أي حال .. من حقها وضع القوانين كما تشاء
بدت منار وكأنها قد تلقت صفعة قوية على وجهها .. بينما أظلمت عينا عمه .. شعرت نانسي بالامتنان لمحمود لوقوفه إلى جانبها .. بل كانت أكثر ذهولا من الآخرين .. أسرعت الخادمة الشابة تشكرها بحرارة .. فأوقفتها نانسي قائلة بحزم :- عودي إلى عملك
خلال وجبة العشاء .. ساد صمت ثقيل بين الجالسين .. كانت صدمة كبيرة للسيدة منار أن يعلن محمود وبوضوح سحب البساط من تحت قدميها .. وتقديمه لنانسي على انها سيدة المنزل الجديدة .. لم تتح الفرصة لنانسي لأن تشكره كما يجب إذ استأذن ليدخل إلى مكتبه وبقي فيه لساعات .. بينما دخلت هي إلى المطبخ كعادتها بحثا عن حنان .. صديقتها الوحيدة في هذا المنزل .. ففوجئت بالترحيب الكبير من العاملات هذه المرة .. أعدت لها نجوى شرابا ساخنا احتسته نانسي وهي تجلس على طاولة كبيرة توسطت المطبخ .. جلست نجوى أمامها بعد أن استأذنت .. وأخذت تشكرها لما فعلته وتحكي لها عن السيدة منار وتصرفاتها المتعجرفة مع الخدم .. قالت :- ليس هناك من يحسن معاملتنا سوى السيد الصغير .. فراس .. أما أخته ريم فهي تتصرف منذ سنوات على أنها سيدة المنزل المستقبلية
سألتها نانسي بتردد :- ومحمود ؟
: - من النادر أن يحتك السيد محمود بالخدم .. إنه يتعامل بهدوء ووقار مع الجميع .. حتى مع أفراد عائلته
قالت حنان التي كانت تساعد في تجفيف الأطباق :- السيدة نانسي كانت دائما مخدومة مثالية .. كانت مخيفة في بعض الأحيان .. ولكنها لم تظلم أبدا أي أحد
ضحكت نانسي قائلة :- مخيفة ! .. هذه الكلمة لا تصف حقا ما كنت عليه
ابتسمت حنان قائلة :- أفضل استخدامها كي لا أغضب مخدومتي
نهضت نانسي قائلة :- سعدت للجلوس معكن
أسرعت نجوى تقول :- هل تحتاجين إلى أي شيء يا سيدة نانسي ؟
قالت بدهشة :- لا .. أشكرك
خرجت من المطبخ وهي تدرك بأنها قد احتوت كل خدم البيت إلى جانبها
قضت بعضا من الوقت إلى جانب الجدة ثم صادفت محمود وهي نازلة .. سألها مبتسما :- كيف حال دتي ؟
ابتسمت بدورها قائلة :- بخير 00 وترغب برؤيتك
قال وقد بدا عليه الإرهاق :- سأحدثها قليلا ثم أذهب إلى النوم .. ماذا عنك ؟
قالت بارتباك :- سأنتظر لينا .. فهي لم تعد بعد
استأذنته ونزلت إلى الطابق السفلي .. جلست في غرفة الجلوس إلى جوار النافذة تراقب الظلام الشديد .. لقد تأخرت لينا .. غفت دون أن تشعر .. لتصحو على صوت لينا تقول :- نانسي .. لقد عدت
فتحت نانسي عينيها .. ثم قالت عابسة :- لقد تأخرتما كثيرا
قال فراس الواقف إلى جوار لينا :- أنا أعتذر يا نانسي .. لقد دعوت لينا إلى العشاء
اعتذر وصعد إلى غرفته .. بينما أخذت لينا تحكي لها عن اليوم الرائع الذي قضته مع فراس .. ونانسي كانت تستمع إليها وعلى شفتيها ابتسامة باهتة .. كانت تود لو تحذر أختها من صداقتها لفراس .. إن فراس فتى طيب ومن الواضح أنه لا يشبه أخته في شيء .. ولمنه يبقى أحد أفراد هذه العائلة المريبة التي تكرهها وتتحين الفرص للنيل منها .. ولكن بريق السعادة الظاهر في عيني لينا منعها .. مر وقت طويل منذ وجدت نانسي أختها بهذه السعادة
أدركت بأن الوقت متأخر عندما نظرت إلى ساعتها .. فأوصلت لينا إلى غرفتها .. ثن فتحت باب غرفتها وتسللت بهدوء إلى الداخل .. كانت الغرفة مظلمة إلا من نور الأباجورة الصغيرة إلى جانب محمود الذي بدا واضحا استغراقه في النوم .. بدلت ملابسها بهدوء .. ثم تسللت إلى الفراش .. تقلبت كثيرا دون أن تتمكن من النوم وهي تتذكر كلام ريم .. هل كانت تكذب حقا عندما تحدثت عن علاقتهما ؟ .. لا .. لو كان محمود يحب ريم لتزوجها هي .. كما أنها لم تلحظ على محمود أي إشارة في وجود ريم تدل على وجود مشاعر بينهما .. ولكن ماذا عن الشقة المزعومة ؟ هل هي موجودة أم من نسج خيال ريم ؟ تذكرت هديل والصدمة على وجهها عندما عرفت بزواجه .. من الواضح أنها كانت تتوقع بطريقة ما أن يختارها هي .. أو تلك المدعوة نسرين .. لقد سألته إن عرفت نسرين بزواجه أم لا .. وهذا يعني بأن نسرين هذه كانت تعني له شيئا ..
زفرت بقوة وهي تتقلب فوق السرير .. الحيرة والغضب داخلها يفاجئانها .. عليها أن تعترف بأن ثمة غيرة تشتعل داخلها .. تذكرت الحديث الذي دار بينها وبين محمود في المكتب .. لقد كان رقيقا .. وحنونا .. ومتفهما .. لم يحدث أن تبادلا الحديث بهذا الشكل الودي من قبل .. وعندما كاد يقبلها شعرت بالخوف الكبير .. والفضول الشديد اتجاه تلك القبلة التي لم تحصل عليها .. لا تستطيع أن تتجاهل مشاعرها التي اجتاحتها وهو يميل نحوها .. لقد رغبت في تلك القبلة .. خافت منها .. ولكنها رغبت بها .. عللت لنفسها بانفعال أن اثنين لن يتجادلا حول جاذبية محمود .. وأنها إن مالت إليه فإن أحدا لن يلومها ..
عادت تتقلب وهي تفكر بأن محمود يشاركها السرير منذ أسابيع .. ولكنه لم يحاول يوما أن يلمسها .. بقدر ما سبب لها هذا من الراحة .. بقدر ما أزعجها .. أن ينام هو قرير العين إلى جانبها بينما تقضي هب الليل كله متوترة ومتحفزة تصارع وحدها تلك المشاعر المتضاربة داخلها .. انتابها قلق مفاجئ حول انجذابه نحوها .. ثم ذكرت نفسها بأنه قد تزوجها لهذا السبب بالذات ..
أدركت بأنها لن تتمكن من النوم حتى تطفئ نور الأباجورة الأصفر المستفز .. عل النعاس يعرف طريقه غليها ويسكت وساوسها وأفكارها .. اعتدلت .. وألقت نظرة على محمود الذي كان ينام على جانبه الأيمن حيث كان ظهره مواجها لها .. مدت يدها من فوقه محاولة الوصول إلى المصباح فلم تصل .. مدت جسدها بحذر بحيث لا تلمسه .. ومدت يدها .. إلا أنها وقبل أن تصل إلى المصباح شعرت بذراعه تلتف حول خصرها .. فصرخت بذعر عندما سحبها لتجد نفسها خلال لحظة ممددة على ظهرها وهو فوقها مكبلا حركتها
خفق قلبها وهي تجد عينيه اللامعتين تحدقان فيها عبر الضوء الخافت .. وأنفاسه الحارة تلفح وجهها المتورد اللاهث ... همست بصوت مرتعش :- محمود .. أنا ..
وقبل أن تكمل عبارتها .. أطبق شفتيه على شفتيها بقبلة طويلة .. متسلطة متملكة .. ارتعد جسدها بعنف عندما شعرت بملمس شفتيه القاسيتين .. وبقبلته تزداد حرارة وتملكا .. تمكنت بصعوبة من انتزاع نفسها من بين أحضانه وهي تهتف :- محمود .. أرجوك
أفلتت منه .. وقفزت من فوق السرير .. فالتصقت بالجدار وهي ترتجف بقوة وعنف .. اعتدل جالسا وهو يقول بانزعاج :- إلى متى يا نانسي ؟
منعت بصعوبة دمعة خوف من الفرار من عينيها .. بينما وقف وهو يقول بحزم :- لقد تركت لك كل الوقت اللازم لتتأقلمي مع وضعك الجديد يا نانسي .. لقد مضت فترة طويلة على وفاة والدتك .. وإن ام تتجاوزي بعد حزنك عليها فأنت في مشكلة
عندما لاحظته يقترب منها .. انكمشت على نفسها وهي تقول متلعثمة :- ليس الآن .. أرجوك .. لست جاهزة
عندما اقترب أكثر ركعت على الأرض مغمضة عينيها وهي تحيط جسدها بذراعيها صارخة بذعر :- أرجوك
سمعته يزفر بقوة وهو يقول بانزعاج :- اعتدلي يا نانسي .. أنا لن أهاجمك
رفعت رأسها إليه فوجدت انزعاجا حقيقيا في عينيه .. قال ببرود :- سأمنحك فرصة أخرى يا نانسي .. ولكن لا تتوقعي مني الكثير من الصبر
عاد إلى السرير من جديد دون أن يلقي نحوها نظرة أخرى .. فما كان منها إلا أن ارتدت روبها بيد مرتعشة .. وخرجت جريا من الغرفة
في غرفة المكتب .. حاولت أن تجد كتابا تقرأه فلم تستطع .. فجسدها لم يتوقف بعد عن الارتعاش ... لقد كانت تتساءل منذ دقائق فقط عن شعورها في حال قبلها .. ألا يقول المثل احذر مما تتمناه ؟
تذكرت قبلته .. ولمساته المتملكة .. الخوف الذي أصابها كان بسبب المشاعر الغريبة والمتضاربة التي انتابتها عندما قبلها .. لم تتخيل أبدا بأنها ستتأثر إلى هذا الحد .. لقد أصاب جسدها ما يشبه الشلل والضعف الشديد بحيث كادت تعجز عن مقاومته ... لا .. لن تعود إلى الغرفة .. ليس قبل أن ينام .. حتى أنها لا تثق به وهو نائم .. بل لا تثق بنفسها إن لمسها مجددا .. وبينما كانت تتخبط بين أفكارها .. راحت في نوم عميق
أكرهك
عندما استيقظت نانسي من النوم وجدت نفسها في سريرها .. تساءلت وهي تتثاءب عن كيفية وصولها إلى هنا .. لم تجد محمود إلى جوارها فأدركت بأنه قد غادر مبكرا .. تذكرت ما حدث ليلة الأمس وخمنت بأن محمود هو من حملها صباحا إلى هنا .. فهي لا تذكر أبدا عودتها إلى الغرفة .. بل هي ما كانت لتعود بإرادتها أبدا .. ارتعشت وهي تتذكر قبلته .. من الواضح أن الوقت الذي منحها إياه قد انتهى .. وأنه يريد أن يتمم آخر شروط اتفاقهما .
طرقت حنان الباب ودخلت قائلة ببشاشة :- صباح الخير
نهضت نانسي من السرير قائلة :- صباح الخير يا حنان
كانت قد اعتادت قضاء بعض الوقت مع حنان كل صباح قبل ذهابها إلى الجامعة .. فعليا .. حنان كانت صديقتها الوحيدة .. بينما هي تمشط شعرها بعد أن غسلت وجهها .. حكت لها باختصار ما حدث ليلة الامس .. فقالت حنان :- هذا متوقع يا نانسي .. لقد مضى على زواجكما أسابيع .. قالت نانسي متوترة :- لقد نجوت بنفسي هذه المرة .. أما في المرة القادمة فلن أعرف ما أفعله
قالت حنان بحدة :- ما عليك فعله ! .. هل نسيت بأنك زوجته ؟ إن طالب بك يا عزيزتي فهذا من حقه
عبست نانسي بينما أكملت حنان :- إن لم تمنحي زوجك ما يريد فسيضطر للبحث عمن ترضي رغباته في مكان آخر
وضعت نانسي بعض اللون الوردي على وجنتيها بعصبية .. إن لم يكن يفعل هذا منذ الآن
قالت باقتضاب :- سأذهب إلى الجامعة .. هلا أخرجت لي الكنزة الزرقاء ؟
في الطريق إلى الجامعة قال لها مأمون :- لقد طلب مني السيد محمود ألا آتي لاصطحابك يا سيدتي .. قال بأنه سيوصلك بنفسه اليوم
نضى اليوم بسرعة .. لم تر خلاله ماهر إلا أثناء المحاضرة التي كان محمود سيلقيها .. جلس إلى جانبها على المقعد الأخير الذي اعتادا الجلوس عليه وهو يقول :- أنا آسف لتأخري
منحته ابتسامة سريعة .. سرعان ما اختفت عندما دخل محمود إلى القاعة ملقيا التحية .. بحث عنها بعينيه حتى وجدها ..
عقد حاجبيه وهو ينظر إلى ماهر .. بدأ بإلقاء المحاضرة بأسلوبه المعتاد السلس والحازم .. كانت لديه طريقة خاصة في جذب الطلاب إلى ما يقوله .. وبث الحماس داخلهم .. لاحظت بانتباه الفتيات اللاتي احتللن الصف الأول ويراقبنه بانبهار .. لوهلة انتابها شعور بالفخر لأن هذا الرجل هو زوجها .. لم ينظر إليها أبدا خلال المحاضرة .. وعندما انتهى الوقت .. خرج جزء من الطلاب وتجمع جزء آخر حوله يطرح عليه الأسئلة .. بينما تسللت هي إلى الخارج برفقة ماهر .. وفي الخارج خاطبتها إحدى زميلاتها قائلة :- كيف هي الأحوال مع الدكتور محمود يا نانسي ؟ لا تبدوان لي كعروسين في شهر العسل
قالت نانسي بهدوء :- هل توقعت أن نتبادل الغول في العلن ؟
هزت الفتاة كتفيها قائلة :- على كل حال .. فلتعلمي بأن هناك العشرات من الحاقدات عليك لاختطافك أكثر عزاب الكلية جاذبية
ابتسمت نانسي قائلة بلؤم :- أنا لا أستحق ما هو أقل .. كما أنني لم أختطفه .. محمود هو من اختطفني
نجحت في أداء دورها ببراعة .. فهي لن تسمح لأي كان بأن يفكر بأنها لم تعد نانسي القديمة .. القوية المقاتلة والمتباهية لمجرد أنها قد تزوجت محمود
سألها ماهر :- هل ستصعدين إلى الكافيتريا
:- ليس اليوم يا ماهر .. سأوافي الدكتور محمود فهو ينتظرني في مكتبه لنذهب معا
صعدت الدرج بخفة نحو مكتب محمود .. كانت تعرف أين يقع بالضبط فقد سبق ودخلته مرة من قبل .. عندما وقع شجارها الأول مع محمود .. طرقت الباب بهدوء حتى سمعت صوته يأذن لها بالدخول .. لم تجده وحيدا .. بل كانت معه الآنسة ديمة .. إحدى الأستاذات في الكلية .. نظرت الآنسة ديمة إليها من خلال نظاراتها الأنيقة تتفحصها بفضول .. بينما قال مححمود :- ادخلي يا نانسي .. أنت تعرفين بالتأكيد الآنسة ديمة .. هذه زوجتي نانسي
كانت الآنسة ديمة متوسطة الجمال طويلة القامة بجسد نحيل .. ترتدي ملابس أنيقة وعملية .. تذكرت نانسي الاشاعات التي كان الجميع في الكلية يتناقلونها عن وجود علاقة بينهما .. وأن الأستاذة التي لا تصغره بكثير كانت تجد فيه العريس المناسب .. ابتسمت نانسي وهي تقول :- أهلا يا آنسة ديمة .. عفوا فأنا لم أعرف بأن محمود ليس وحيدا
نظرت إليه قائلة بدلال :- ما الأمر يا دكتور محمود ؟ ألم يكن من المقرر أن تقلني إلى البيت ؟
رفع حاجبيه بطريقة دلت على تعجبه وقال بهدوء :- طبعا سأفعل
نهضت ديمة قائلة بحرج :- أستأذن .. سنكمل حديثنا فيما بعد يا دكتور محمود
راقبتها نانسي وهي تخرج .. قطعا لن تفكر بعد الآن بالنظر إلى زوجها .. نظرت إلى محمود فرأته عابسا يقول :- أنت لن تتغيري أبدا
تناول معطفه الطويل وارتداه فوق بذلته الرمادية الأنيقة قائلا بجفاف :- تفضلي أمامي
أقفل باب المكتب .. وسار معها خارجا من الكلية .. شعرت نانسي بأنظار الجميع تتجه نحوهما .. فأدركت بأنها الآن تنتمي إلى محمود .. وأن تقدير الجميع لها يعود لهذا السبب .. 'لمها هذا بشدة .. هي تحت حماية محمود الآن .. ولم تعرف لماذا تسبب لها هذه الحقيقة الغضب ..
طوال الطريق إلى البيت لم يتحدثا بكلمة .. فأدركت بأنه ما يزال غاضبا لما حدث ليلة الأمس .. هل مان يتوقع منها أن تفتح لها ذراعيه وتستقبله بالأحضان ؟ .. انتظر منها أن تترجل من السيارة عندما وصلا .. فقالت مترددة :- ألن تنزل ؟
قال باقتضاب :- لا .. لدي عمل
وعندما لاحظ ظلال الاحباط على وجهها خفت حدة صوته وهو يقول :- لن أتأخر .. سأعود بعد ساعتين
ترجلت وراقبته يبتعد وهي تتساءل إن كان سيأتي ذلم اليوم الذي يصبحان فيه زوجين طبيعيين .. في داخلها .. رغبت بهذا كثيرا .. ولكنها لسبب ما شعرت بأن أمنيتها هذه بعيدة المنال
غيرت ملابسها .. ثم نزلت إلى المطبخ لتبحث عما تأكله .. سألت عن لينا فعلمت بأنها قد خرجت مع فراس مما أغضبها بشدة .. وقررت بأن حديثا طويلا ينتظر لينا .. لينا يجب أن تعود إلى المدرسة
صعدت إلى جدة محمود حيث كانت الممرضة تقرأ لها الجريدة .. عرضت مبتسمة أن تقوم هي بهذه المهمة .. وما إن جلست مكان الممرضة حتى سألتها الجدة :- أصدقيني القول يا نانسي.. هل أنت ومحمود سعيدين ؟
قالت كاذبة :- طبعا يا جدتي .. لا يمكن أن نكون أكثر سعادة
قالت الجدة بقلق :- ثمة شيء غير طبيعي في علاقتكما .. ربا كوني عمياء يجعلني أكثر حساسية للصوت .. لم يبد لي محمود طبيعيا هذا الصباح .. وأنت أيضا لست كعادتك
تمتمت نانسي :- لا شيء غير قابل للإصلاح .. صدقيني يا جدتي .. ما من داعي للقلق
قرأت لها قليلا .. ثم انسحبت من الغرفة عندما حان موعد قيلولة الجدة .. فكرت بأن تنام بدورها قليلا .. ولكنها لم ترغب بأن يأت محمود ويجدها نائمة .. نزلت إلى غرفة الجلوس .. فوجدت ريم هناك تتحدث هاتفيا إلى إحدى صديقاتها .. فجلست نانسي على إحدى الأرائك واضعة إحدى ساقيها فوق الأخرى .. ما من عمل تقوم به سوى مشاكسة ريم .. إنها تحب هذا
أنهت ريم مكالمتها .. وأخذت تنظر إلى نانسي مليا .. سألتها نانسي :- أين العمة منار ؟
:- ليست في البيت .. أي مكان هو أفضل من التواجد معك
قالت نانسي بحلاوة :- حقا .. ولماذا أجدك هنا ؟
اعتدلت ريم محاولة كبت غضبها .. ثم قالت :- هل تعرفين مع من كنت أتحدث ؟
هزت نانسي كتفيها قائلة :- ولماذا قد أهتم ؟
تجاهلت ريم كلامها وقالت :- لقد كنت أتكلم مع نسرين .. هل يعني لك الاسم شيئا ؟
لم ترد نانسي .. ولكن التوتر والحذر نبها جميع حواسها .. قالت ريم بخبث :- إنها خطيبة محمود
شعرت نانسي وكأنها قد تلقت صفعة على وجهها وهي تنزل ساقها قائلة باضطراب :- تعنين خطيبته السابقة
ابتسمت ريم متهكمة وهي تقول :- بل هي ما زالت خطيبته كما يعلم الجميع .. لقد كان من المقرر أن يتزوجا قريبا .. إلا أن محمود اختفى فجأة عن الأضواء .. وتوقف عن الاتصال بنسرين .. ولم تسمع عنه أي شيء إلا خبر زواجه المفاجئ .. وممن ؟
رمقتها بازدراء شديد وهي تقول :- من أين التقطك محمود ؟ .. هل وجدك عند بوابة السجن .. تبكين أباك الذي مات ذليلا في أحد جحوره بعد فضيحته ؟
تمتمت نانسي :- أيتها الأفعى
أطلقت ريم ضحكة عالية ساخرة وهي تقول :- هل تحاولين الهرب من الحقيقة يا نانسي ؟ لقد تزوجك محمود إما شفقة عليك .. وإما لأنه لم يستطع الحصول عليك بطريقة أخرى .. ولكن أتعلمين ؟
بدت في عينيها نظرة حقد شديد وهي تقول :- ربما اختارك لأنك أرخص من غيرك .. والرخيصة دائما ما تكون مرغوبة من الرجال .. ولكن ليس لفترة طويلة .. ماهي إلا شهر أو اثنين حتى يما منك .. ويرميك في الشارع .. ثم يبحث بعدها عن المرأة الملائمة له .. والتي تستحق أن تحمل أطفاله .. واسمه إلى الأبد
نهضت نانسي ببطء .. ثم فالت بهدوء مخيف :- منذ متى ؟
رددت ريم بحذر :- متى ماذا ؟
:- منذ متى وأنت تركضين خلف محمود وتتوسلين إليه أن يتزوج بك دون فائدة ؟ ربما منذ طفولتك انتابتك تلك الأحلام والطموحات بأن تصبحي زوجته .. وأن تسودي هذا البيت أنت وأمك .. كم من المؤسف ألا تتحقق أحلامك .. وأن تراقبي محمود وهو يتزوج بأخرى
اقتربت منها وهي تقول بقسوة :- يجب أن تدركي يا ريم بأنني أنا زوجة محمود .. سواء كان هذا مؤقتا أم لا .. فأنا زوجته الآن .. وسيدة هذا المنزل .. وحين تتحدثين إلي بهذه الطريقة مجددا .. قد تكون النتيجة رميك أنت وعائلتك خارج هذا البيت
امتقع وجه ريم .. ولم تجد ما ترد به على نانسي التي شعرت فجأة بمن يراقبها .. استدارت لتجد محمود واقفا عند الباب وفي عينيه نظرة غضب شديدة .. تجاهلته وهي تقول لريم باستعلاء :- عن إذنك
غادرت الغرفة بوقار مرورا من أمامه .. وما إن اختفت عن أنظار ريم حتى صعدت جريا إلى غرفتها علما منها بأنه سيلحق بها .. أغلقت الباب خلفها . ثم جلست أمام منضدة الزينة تتظاهر بتمشيط شعرها بيد مرتعشة .. محاولة التظاهر بالهدوء .
دخل إلى الغرفة وصفق الباب خلفه بقوة .. فقالت بلا مبالاة :- لقد عدت باكرا اليوم
قال ببرود :- أشكر الله على عودتي باكرا لأكتشف الطريقة التي تعاملين بها عائلتي يا نانسي
نهضت لتواجهه وهي تقول بحدة :- أنت لم تكن موجودا في بداية الحديث ..
صاح بغضب :- مهما كان دافعك فلا شيء على الاطلاق يمنحك الحق في إهانة عائلتي ومعاملتهم كأنهم أشخاص من الدرجة الثانية
كانت هذه هي المرة الاولى التي تجد فيها محمود غاضبا بهذا الشكل .. لقد احتقن وجهه واطلت نظرة مخيفة من عينيه .. أكمل صائحا :- لقد ظننت بأنك ربما تغيرت بعد كل ما حدث لك .. ولكن لا .. ما ولت كما أنت الفتاة المتعجرفة والمغرورة .. الأنانية التي لا تحب إلا نفسها
أخذ نفسا عميقا وهو يقول بصرامة :- إياك أن تنسي حقيقة وضعك يا نانسي قبل أن تتعالي على الآخرين .. تذكري فقط كيف وصلت إلى هذا المنزل ؟ .. وأنك لو لم أتزوج بك .. لربما كانت نهايتك كوالدك .. فتاة مثلك قد تفعل المستحيل حتى تحافظ على مستوى معيشتها .. قد تسرق كما فعل والدك .. وقد تبيع نفسها كما فعلت أنت
قبل ان تفكر .. سقطت يدها على وجهه بصفعة دوى صوتها عاليا .. وقبل أن تفيق من ذهولها لفعلتها .. كان قد هوى على وجهها بصفعة عنيفة جعلتها تصرخ بألم وتتراجع إلى الخلف متعثرة فوق منضدة الزينة مما سبب سقوط بعض الأغراض على الأرض .. جذبها من شعرها ليقربها منه وهو يقول بلهجة مخيفة :- إياك أن تفعليها مجددا يا نانسي .. وتذكري بأنني لن أكون أبدا أحد العبيد الذين كانو يسعون تحت قدميك طلبا لرضاك .. وإن فعلتها مجددا .. فأنا أعدك بأن ردي لن يكون سهلا أبدا .. بل لن تتخيلي حتى في أسوأ كوابيسك كيف سيكون
دفعها بعيدا عنه وخرج صافقا الباب خلفها .. أطلقت صرخة ألم وغضب وهي تستدير لتمسك بصورته وتقذف بها على الأرض بكل قوتها .. وتنهال عليها بحذائها .. ولم تتوقف حتى أصبح زجاجها فتاتا
ومع هذا لم تستطع أن تهدأ.. كانت دموعها تسيل بغزارة وهي تتحسس موضع صفعته الذي كان ما يزال مخدرا.. الوغد .. الحقير .. لم يسبق لها أن صفعت من قبل أي أحد من قبل .. بأي حق يسمح لنفسه بإهانتها وجرح كبريائها .. بصفعها لأجل .. لأجل ريم
أخذت تتحرك في الغرفة كالنمر الحبيس .. شعرت بأن أنفاسها تضيق داخل الجدران التي بدت لها وكأنها تميل لتطبق على أنفاسها .. يجب أن تخرج من هذا المكان وإلا فإنها ستموت اختناقا
تناولت حقيبة يدها وخرجت لا ترى أمامها .. لمحت محمود يتحدث هاتفيا من خلال الباب المفتوح لغرفة المكتب .. فتجاهلته وتابعت طريقها .. خرجت لتجد مأمون يمسح السيارة .. فدخلت إلى المقعد الخلفي دون أن توجه له أي كلمة .. فأسرع بارتباك يحتل مكانه خلف المقود قائلا :- إلى أين يا سيدتي ؟
قالت باقتضاب :- انطلق ولا تسأل
انطلق بالسيارة صامتا .. فأرخت رأسها على المقعد وهي ما تزال تخفي وجهها بكفها حتى لا يرى مأمون أثر الصفعة على خدها .. أوقفته في منتصف المدينة .. نزلت وصفقت الباب خلفها دون أن ترد على مأمون الذي هتف :- متى أعود لأخذك يا سيدتي ؟
سارت دون توقف وهي تحاول إخماد النار المشتعلة داخلها .. كانت تشد قبضتيها بقوة وكأنها في أي لحظة ستنهال على أو عابر إلى جوارها ضربا .. كانت ما تزال تشعر بالإهانة والغضب .. بل هو أكبر بكثير من الغضب .. شيء دفعها للتفكير بطرق خيالية للانتقام من محمود .. ولكن كيف ؟ كيف ؟
توقفت فجأة عند متجر للأدوات المنزلية .. شردت لحظات وهي تتأمل الواجهة ثم دخلت وهي تقول للبائع :- أريد هذه الدزينة من الأكواب الزجاجية
منحها ابتسامة عريضة وهو يقول :- يسعدني أن أعرض عليك ما لدي يا سيدتي .. توجد ألوان مختلفة وأنواع ..
بتر عبارته عندما لا حظ الشر المطلق في عينيها وأسرع يلبي رغبتها
خلال دقيقة كانت قد اشترت الأكواب وخرجت من المتجر.. سارت قليلا حتى وجدت زقاقا ضيقا لا يعبره الكثير من الناس .. أخرجت الأكواب وبدأت ترميها الواحدة تلو الأخرى نحو أحد الجدران لتراقبها وهي تتحطم متخيلة أن الجدار هو رأس محمود .. شعرت بوجود من يراقبها فاستدارت لترى امرأة بدينة مسنة .. وشاب صغير على بعد خطوات ينظران إليها بدهشة .. صاحت بخشونة وهي تلوح بالكوب الأخير :- ما الأمر ؟ أهذه أول مرة تريان فيها مجنونة ؟
ابتعدا بذعر عن مرمى الكوب .. وعندما حطمته بدوره زفرت بقوة .. الآن هي أحسن حالا
وجدت نفسها بعد دقائق من مواصلة السير في وسط السوق.. ضاعت بعد ذلك وسط الزحام ..والناس الساعين بين المتاجر .. أخذت تتأمل الواجهات بتمعن .. لو كانت في مزاج مختلف لأفرغت كل مافي حقيبتها من أموال ولكنها الآن تفكر في أمر مختلف .. كيف ستستمر في العيش مع محمود بهذه الطريقة ؟ .. شجارات وصدامات .. وفي النهاية يصفعها لأجل ريم .. الحقير .. حتى والدها لم يرفع يده عليها يوما .. فكيف جرؤ هو ؟ أي نعم لقد سبق وتلقت علقة ساخنة من جابر .. ولكن لا مجال للمقارنة .. فمحمود زوجها .. من حقها عليه أن يحميها من سموم ريم .. لو أنه استمع إلى ما قالته لقدر سبب تصرفها .. ولكنه حتى لم يسألها عما دفعها لقول ما قالته .. وكأنه قد تحين الفرصة لإهانتها وتذكيرها بوضعها .. بأنه قد اشتراها .. لقد تأكدت الآن بأن ماهر لم يكن يكذب .. فهي بالنسبة لمحمود زوجة اشتراها في موسم التخفيضات .. ولا أحد يعرف متى سيمل منها .. ويرميها كما قالت ريم بالضبط
جلست في إحدى المقاهي المطلة على الشارع .. واحتست بشرود فنجان القهوة الذي طلبته .. دفاعه المحموم عن ريم يؤكد شكوكها .. فقد جمعت بينهما علاقة فيما مضى قد سبق وأكدها فراس .. أما ما تأكدت منه الآن هو أن هناك شيء ما زال مشتعلا بينهما .. أغضبها هذا بشدة .. وانتابها شعور بان محمود يجب أن يكون لها وحدها .. ثم عادت تشتم نفسها .. هي لم تعد تريده .. بل هي لم ترده يوما .. فلم كل هذا الغضب .. على كل حال .. إذا ظن محمود بأنه بصفعته سيوقفها عن إثارة جنون ريم فإنه مخطئ .. ارتفع رنين هاتفها المحمول فنظرت بغل نحو اسم زوجها .. ثم أقفلت الهاتف بلا تردد .. كان الوقت قد تأخر .. والظلام بدأ يخيم على المدينة .. لابد أنه يتساءل بجنون عن مكانها .. ليس اهتماما وقلقا بقدر ما هو غيرة على إحدى ممتلكاته التي دفع فيها ثمنا باهظا .. هي لن تعود إلى البيت حتى تكون جاهزة لرؤية وجهه دون أن تقتلع عينيه .. يجب أن تحافظ على هدوئها وألا تسمح لسكان ذلك المنزل المجانين بإثارة غضبها .. لن تنجح العصبية في منحها الانتصار الذي تنشده .. بل المكر .. مكر النساء .. ابتسمت بخبث وهي تفكر بالطرق المختلفة التي تستطيع فيها إثارة جنون محمود .. ثم دفعت ثمن فنجان القهوة .. ونهضت تكمل جولتها
بعد فترة طويلة كانت نانسي قد بدأت تشعر بالتعب ..وعندما بدأت السماء تزخ بهدوء قررت بأن الوقت قد حان لتعود إلى المنزل .. وقفت على الرصيف تراقب السيارات بتردد .. إن أخذ سيارة أجرة إلى تلك المنطقة البعيدة لمخاطرة كبيرة .. وهي تعترف بأنها منذ هجوم جابر عليها أصبحت أكثر خوفا وحذرا .. بينما هي مستغرقة في التفكير لم تشعر بالصبي الذي اقترب منها بحذر .. وإذ به يختطف حقيبة يدها الصغيرة ويندفع راكضا .. صحت من صدمتها سريعا واندفعت تركض خلفه وهي تصيح بذعر :- لص .. أمسكوا اللص
لكن الفتى كان أسرع منها بكثير .. بينما أعاقها حذائها ذو الكعب العالي .. عبر الفتى الشارع فجأة فلحقت به دون تفكير .. وإذ بأصوات السيارات تصرخ منبهة .. وعندما توقفت أخيرا كانت إحدى السيارات تحاول جاهدة تفاديها .. لينتهي الأمر بها تصطدم بحافة السيارة وتسقط على الأرض متدحرجة فوق الإسفلت بقسوة .. فتحت عينيها بصعوبة لتجد عشرات الرؤوس تطل عليها بقلق وذعر .. صاح شاب بدا من شحوب وجهه أنه سائق السيارة :- هل أنت بخير يا آنسة ؟
نهضت بصعوبة وهي تشعر بالألم في كل جزء من جسدها .. وقفت تحاول الحفاظ على توازنها فسألها الشاب :- هل أنت بخير ؟ هل أوصلك إلى المستشفى : هل أتصل بعائلتك ؟
كان واضحا بأن خوفه كان من توريطها له في المشاكل أكثر م سلامتها .. فقالت بعصبية :- أنا بخير تماما
لاحظت بانزعاج الوحل الذي لطخ ثيابها .. تنورتها التي تمزقت بخط طولي من الأسفل حتى منتصف فخذها .. يا إلهي .. إنها تبدو مريعة .. ابتعدت عن الزحام والاعين الفضولية وهي تعرج بسبب تحطم أحد كعبي حذائها وكأن المصائب لا تأتي إلا دفعة واحدة .. ازدادت الأمطار حدة لتغرقها تماما من رأسها حتى أخمص قدميها .. وقفت على الرصيف .. ولفت نفسها بذراعيها وهي ترتعش من البرد وقد نسيت معطفها في غمرة غضبها وعجلتها .. كيف ستعود إلى البيت ؟ .. ليتها لم تصرف مأمون دون أن تطلب منه العودة
وقفت إلى جانب الرصيف في مكان لا تصله سيول الأمطار ووقفت خافضة رأسها تفكر بحل دون فائدة .. كان الناس يعبرون إلى جانبها دون أن يمتنعوا عن النظر إليها .. الغريب أنها بالرغم من بؤس حالتها .. فقد كانت تبدو جذابة وجميلة بشكل غريب .. بشعرها المبلل الذي التصق بعنقها وجبينها .. وملابسها التي التصقت بجسدها .. كانت أنظار الناس تختلف من شخص إلى آخر .. بعضهم كان ينظر إليها بشفقة .. والبعض الآخر ازدراءا ظنا منهم أنها إحدى الفتيات اللاتي ينتظرن من يتودد إليهن .. وآخرون كانوا يتأملونها بوقاحة علهم يحصلون على دعوة منها
سرعان ما خلت الشوارع في هذا الجو الماطر .. ووجدت نفسها وحيدة .. شعرت بالخوف والتعب .. والألم يصرخ من كل جزء منها .. استندت إلى الجدار بإرهاق سامحة للدموع بأن تسيل من عينيها بغزارة
.. لم يكن أمامها حل سوى الاتصال بمحمود .. مهما كان الأمر مذل لها .. فقد كانت تفضل الموت بردا على الاتصال به .. وبما أنها قد فقدت هاتفها المحمول مع حقيبتها .. فعليها الاتصال به من أي هاتف قريب ..
.. وما إن خطت خطوتين حتى توقفت سيارة إلى جانب الطريق مصدرة ضجيجا عاليا .. تعرفت إلى السيارة فور نظرها إليها بطرف عينها .. وإلى صاحبها الذي ترجل منها وهو يصفق الباب خلفه بعنف .. بالرغم من دموع السعادة التي سالت من عينيها إلا أنها تظاهرت بأنها لا تراه وقد لاحت ذكرى صفعته أمام عينيها .. تابعت سيرها .. شهقت عندما أمسكت يده بذراعها وجذبتها لتستدير نحوه بقسوة .. صاح بغضب :- أنا أبحث عنك منذ ساعات أيتها الغبية بينما تتسكعين هنا كال....
توقف عن الكلام عندما لاحظ دموعها التي ملأت وجهها اشاحب .. وملابسها التي اتسخت .. عقد حاجبيه قائلا بانزعاج :- ما الذي حدث لك ؟
دون أن تجيبه ترنحت وكادت تسقط لو لم يمسك بها بين ذراعيه .. خلع معطفه وأحاطها به وقادها إلى السيارة حيث أجلسها في المقعد الأمامي.. ودار حول السيارة ليجلس خلف المقود .. ما إن انطلقت السيارة حتى أخرج هاتفه المحمول وسمعته يتحدث إلى شخص ما ويقول :- لقد وجدتها .. أوقفوا البحث
هل كان يبحث عنها طوال هذ الوقت ؟.. كان الإرهاق واضحا على وجهه إن كانت قد سببت له القلق فهي ليست آسفة .. أنهى المكالمة ونظر إليها صائحا بغضب :- أنت فتاة عديمة المسؤولية .. لقد خصصت لك سيارة وسائق فقط لأجل تنقلاتك .. كدت أفصل مأمون اليوم عندما أخبرني ببساطة بأنك صرفته دون أن تحددي له موعدا للعودة .. هل تعلمين بأنني ما إن بدأ الوقت يتأخر حتى بحثت عنك في المستشفيات ومخافر الشرطة .. وأرسلت من يبحث عنك في كل مكان وأنا أتصور مكروها قد أصابك .. لقد جن جنوني وأنا أجوب الشوارع بحثا عنك وأنا أعرف بألا مكان تلجئين إليه
كانت أعصابها مرهقة إلى حد دفعها للصراخ بانفعال :- توقف .. أتوسل إليك أن تتوقف .. لست قادرة على سماع المزيد من التوبيخ والإهانات
خفت حدة صوته وهو يقول :- لماذا لم تعودي إلى البيت ؟ .. لماذا ظللت تجوبين الشوارع حتى هذا الوقت المتأخر دون أن تتعبي نفسك بالإجابة عن اتصالاتي ؟
سالت دموعها وهي تقول بصوت مرتجف :- لم أستطع .. لقد سرقت حقيبة يدي .. وفقدت معها هاتفي وكل ما أحمل من مال
لم يكن الوقت مناسبا لتخبره بأنها تعمدت تجاهل اتصالاته معظم الوقت
صمت للحظات ثم قال :- كان بإمكانك أخذ سيارة أجرة وتأجيل الدفع حتى وصولك إلى البيت
خرج صوتها أقرب إلى النشيج وهي تقول :- لقد حاولت .. ولكنني خفت .. خفت من سلك ذلك الطريق البعيد والمهجور في سيارة غريبة
صمت للحظات وقد بدا في عينيه تعاطف غريب .. تمتم :- لماذا لم تحاولي الاتصال بي ؟
تركت دموعها تسيل مجددا فقال بحدة :- تبا لك يا نانسي .. بالطبع كرامتك وكبريائك المجروح منعاك من الاتصال بي .. كنت تفضلين الموت هناك على قارعة الطريق من البرد والجوع والتعب على أن تتنازلي وتتصلي بي
أرخت رأسها على النافذة غير قادرة على الرد .. فقال وقد خفت حدة صوته :- لقد قلقت عليك كثيرا .. ولينا أيضا قلقة .. فأنت لم يسبق أن تأخرت بهذا الشكل .. لقد أخبرتها بأنك تزورين إحدى صديقاتك .. ولكنني أشك بأنها قد صدقتني
أغمضت عينيها .. كيف لم تفكر بلينا ؟ لابد أنها جزعة الآن .. وتتذكر المرة الوحيدة التي تأخرت فيها عندما هاجمها جابر .. لم تعد قادرة على التركيز قفد كانت مرهقة للغاية .. واهتزاز السيارة ساهم في جعلها تغرق في نوم مضطرب
فتحت ينيها جزعة عندما فتح الباب المجاور لها .. فقالت باضطراب :- ماذا حدث ؟
أطلقت صيحة قصيرة عندما انحنى محمود ليحملها واضعا إحدى يديه تحت ركبتيها والأخرى خلف ظهرها .. صرخت باحتجاج وضعف طالبة منه أن ينزلها .. فتجاهلها وهو يدخل إلى البيت .. ليرى حنان في انتظارهما قائلة بقلق :- ما خطب السيدة نانسي ؟
قال :- متعبة قليلا .. أتبعيني إلى الغرفة
صعد بها الدرج بينما استسلمت نانسي لحمله لها .. بل أسندت رأسها على صدره باسترخاء وقد شعرت بأنها بين ذراعيه محمية تماما .. بينما لحقت بهما حنان راكضة .. عندما دخل محمود إلى الغرفة قال بحزم :- جهزي لها الحمام وبعض الملابس الدافئة
أسرعت حنان تنفذ أمره بينما أوقف هو نانسي في منتصف الغرفة فانزلق معطفه من فوق كتفيها على الأرض .. تماسكت بصعوبة مانعة نفسها من السقوط من فرط التعب .. فوجئت به يمد يديه نحو قميصها يحل أزراره بسرعة .. فقاومت يديه وهي تصيح بذعر :- ماذا تفعل ؟
قال عابسا :- أنزع عنك هذه الملابس المبللة حتى لا تصابي بالمرض
استمرت في إبعاد يديه قائلة :- سأنزعها بنفسي
أنت بالكاد تستطيعين رفع يديك
سرعان ما سحب القميص بعيدا عنها فأسرعت تخفي جسدها بذراعيها بسرعة ودموعها تسيل من عينيها بحرج .. أخذت ترتعش من الخوف والبرد إلا أن نظراته إليها لم تكن على الاطلاق نظرة رجل إلى امرأة .. صاح بانزعاج وهو يرى الكدمات والجروح التي توزعت على ظهرها وكتفيها :- ما هذا ؟
أخذ يتحسس الكدمات فتأوهت بألم .. قال بقلق :- كيف أصبت بهذه الكدمات ؟
نظر إلى تنورتها الممزقة والتي لم يلاحظها حتى الآن ..:- ما الذي حدث لك بالضبط ؟
قالت بضعف :- لقد صدمتني سيارة وأنا ألحق باللص الذي سرق حقيبتي
هتف من بين أنفاسه :- رباه
أمسك كتفيها وهو يقول بعنف :- لقد كدت تقتلين نفسك يا نانسي .. هل تدركين هذا ؟
أخذ يهزها بقوة مما جعلها تصرخ بألم .. وتفقد قدرتها على الوقوف .. أمسك بها بقوة وضمها إلى صدره الصلب ليمنعها من الوقوع .. خرجت حنان في تلك اللحظة وهي تقول بارتباك :- الحمام جاهز يا سيدي
حملها بين يديه وأدخلها إلى الحمام فأسرعت حنان تقول :- لا تتعب نفسك يا دكتور محمود .. سأساعدها أنا
تردد للحظات قبل أن ينزلها أرضا ويتركها لحنان مغادرا المكان تماما .. بعد الحمام ساعدتها حنان على ارتداء ملابسها وهي تقول :- لو لم أتدخل .. لأصر الدكتور محمود على مساعدتك بنفسه في الحمام .. ترين هنا بأنك تدينين إلي بالكثير يا عزيزتي
كانت نانسي أكثر إرهاقا من أن ترد على مداعبة حنان التي أكملت :- لقد كان الدكتور محمود قلقا عليك .. لم يترك أحدا إلا وسأله إن علم بوجهتك .. لقد بدا كالوحش الكاسر وهو يتخيل مكروها أصابك
ساعدتها بحذر على التمدد على السرير .. فدخل محمود في هذه اللحظة وهو يقول :- يمكنك الانصراف الآن يا حنان
أمسكت نانسي بيدها متوسلة لها بعينيها أن تبقى .. ولكن حنان ربتت عليها مطمئنة .. ثم خرجت .. اقترب منها محمود قائلا بوجوم :- كيف تشعرين الآن ؟
تمتمت بإرهاق :- بخير .. ما دمت بعيدا عني
لم يعلق على كلامها .. ولكنه قال باقتضاب :- لقد أحضرت مطهرا لجروحك
جلس إلى جانبها على طرف السرير وأزاح الغطاء عنها متجاهلا احتجاجها الضعيف .. رفع قميص نومها ليكشف عن فخذها الأيمن حيث وقع بصره على الجرح الكبير السطحي إنما مخيف الشكل .. وقال بانزعاج :- أنت محظوظة لعدم إصابتك بكسور خطيرة
حاولت أن تنزل القميص فمنعها .. ثم راقبته وهو يبلل قطعة قطن بالسائل .. ثم يمررها على الجرح فأغمضت عينيها متألمة وهي تقول :- أنت عنيد .. أليس كذلك ؟ تحصل على ما تريد بسهولة
قال بهدوء :- كما ترين
كانت قد بدأت تتحدث دون وعي وقد استولى عليها الإرهاق :- أكره عنادك .. أكره عجرفتك .. اكره إهاناتك المستمرة لي
قال بصبر :- أنا لا أحب أن أهينك يا نانسي .. أنت من يضطرني بتصرفاتك الرعناء
أدارها لتتمدد على جانبها .. وكشف عن الجروح التي سبق ورآها في كتفيها وذراعيها .. وأخذ يطهر الجروح بينما كانت تقول بمرارة :- أنت شرير .. أنت لا تختلف عنهم .. أنت مثلهم بالضبط
سالت دموعها بينما سألها بتوتر :- من تقصدين ؟
لم تسمعه .. بل أكملت :- هم أرادو أذيتي .. أرادو إهانتي وإذلالي .. وأنت أيضا
تحت ملمس يديه الرقيقتين بدأت تشعر بالراحة والاسترخاء .. فأغمضت عينيها باستسلام لسلطان النوم ... إلا أنه أدارها إليه وهو يقول متوترا :- من هم يا نانسي ؟
قالت بنعاس :- لماذا تجلس معي هنا ؟ اذهب إلى صديقاتك .. هن يناسبنك أكثر مني .. على الأقل أنت تكن لهن بعض الاحترام والتقدير ..ولا تكرههن كما تكرهني
تنهد قائلا :- أنا لا أكرهك يا نانسي
:- اذهب إلى ريم .. بل إلى نسرين .. أليست خطيبتك ؟
ردد عاقدا حاجبيه :- نسرين
فتحت عينيها .. ونظرت ناعسة إلى وجهه الغامض .. ثم رفعت يدها تتحسس ذقنه الخشنة وهي تهمس :- أنت وسيم جدا
لمست أناملها شفتيه .. ثم انزلقت إلى عنقه قبل أن تسقط إلى جوارها وقد غرقت تماما في النوم .. زفر بقوة وهو يصارع المشاعر المتضاربة داخله .. دثرها جيدا بالبطانية الناعمة .. ثم أزاح خصلة من الشعر عن جبينها وهو يتمتم :- أنت أيضا جميلة يا نانسي
أصر محمود على أن تلازم نانسي السرير حتى تشفى تماما من جراحها .. مانعت في البداية .. ولكنها أذعنت عندما فكرت ببشاعة ذهابها إلى الجامعة بوجه مكدوم .. واستسلمت تماما إلى رعاية حنان التي أصدر لها محمود أوامر صارمة بالعناية بها .. في اليوم التالي للحادث .. فاجئها محمود بهاتف جديد أعطاها إياه قائلا :- يجب ألا يفرقك هذا الهاتف حتى أجدك أينما كنت
كانت تقدر أسباب قلقه الشديد .. فقد عرفت من حنان كيف جن جنونه عندما غابت لساعات طويلة خارج البيت دون ان يعرف طريقا لها .. ولكن ما إن خفت كدماتها حتى أصرت على العودة للمواظبة على الدوام في الكلية رغم اعتراضات محمود الشديدة ..
منذ شجارهما وهي بالكاد تتبادل معه الحديث .. عندما يطرح عليها سؤالا تجيبه بقرف بأقل كلمات ممكنة .. وفي الليل تسبقه إلى السرير متظاهرة بالنوم .. وعندما كان يلحق بها كان ينام بدوره فور وضع رأسه على الوسادة دون أن يلقي عليها نظرة
هي لم تسامحه على الإطلاق على صفعه لها .. حتى لو كان معذورا بعد صفعها له أولا .. إلا أن أي شيء لا يمنحه العذر لتوجيه تلك الكلمات القاسية التي قالها ذلك اليوم
لقد أظهر لها بوضوح مقدار ازدراءه لها .. وتفضيله لريم عنها .. بحق الله إنه حتى لم يسألها عن سبب شجارها مع ريم .. بعرفها .. لقد استحق تلك الصفعة .. وكانت لتكررها مجددا لو عاد بها الزمن
لن تسمح لأحد .. أي أحد بالحديث عن والدها بسوء .. بالذات محمود الذي يظن بأنه قد اشتراها ..
كانت قد نوت من قبل على الانتقام منه ومعاقبته على معاملته السيئة لها .. ولتفعل هذا .. كان عليها أن تكتشف نقطة ضعف لديه تساعدها في مهمتها .. وقد اكتشفت بأن نقطة ضعفه تلك كانت جسدها
لقد سبق ودخل عليها فجاة اثناء ارتدائها ملابسها .. لاحظت إجفاله .. وفقدانه لتماسكه وهو ينظر عبر أزرار قميصها المحلولة .. ومتابعته لها بعينيه وهي تترك الغرفة إلى الحمام دون ان تنطق بحرف
لقد وجدت سلاحها .. ستفقد عقله و وقاره الذين لطالما ميزاه .. ستنتقم منه أشد انتقام .. في الأيام التي تلت كانت تتعمد ارتداء الملابس المثيرة .. أسلوبها كان يعتمد على الملابس ذات الحشمة الخادعة .. التي تظهر بما تستره كل ما تخفيه .. كان ينظر إليها واجما كلما تبخترت امامه .. فتلاحظ هي انقباض أصابعه وكأنه يمنع نفسه بصعوبة على ضربها علة استفزازها له .. بينما كانت هي تتجاهله راسمة على وجهها علامات البراءة التامة .. وكأنها لا تفهم سبب غضب زوجها العزيز
رغم سعادتها بإزعاجها له .. فقد كانت تعرف بأنها ستدفع الثمن على ما تفعله قريبا .. محمود ليس من النوع الذي قد يسكت على مشاكسة زوجته له .. لقد حولت الأمر بينهما إلى حرب بتجاهلها له واستفزازها العلني له
كانت تفكر بهذا كله وهي تقف أمام خزانة ملابسها في محاولة لاختيار ما ترتديه .. فاختارت كنزة صوفية ناعمة .. وتنورة قصيرة حمراء اللون .. ارتدت تحتها جوارب سوداء سميكة أظهرت طول وجمال ساقيها .. أكملت مظهرها بحذاء عالي الرقبة وتسريحة شعر طفولية .. ثم تناولت حقيبة ظهر صغيرة وخرجت
عندما رآها ماهر في الجامعة أطلق صفيرا طويلا وهو يقول حائرا :- تبدين رائعة
قالت بحدة :- أنا دائما رائعة
:- بالتأكيد .. ولكنك ما عدت ترتدين ملابسك بهذه الطريقة منذ فترة طويلة .. ألا يغضب مظهرك الدكتور محمود ؟
قالت بانزعاج :- لا علاقة بمحمود بما أرتديه .. أنا ألبس بهذه الطريقة من قبل زواجه بي .. ولن أغير طريقتي لأجل أي أحد كان
هز كتفيه قائلا :- كما تشائين .. هل تشربين كوبا من الشاي قبل بدء المحاضرة ؟
ابتسمت قائلة :- بالتأكيد .. أرغب بأكل شيء أيضا فأنا لم أتناول إفطارا اليوم
في الكافيتريا .. جلسا في مكانهما المعتاد .. وطلبا بعض الشطائر .. وأخذا يتناولانها وهما يتبادلان الحديث والضحك . توقفت عن الأكل عندما دخل محمود برفقة أستاذين آخرين .. عندما رآها .. عقد حلجبيه وقد أطل من عينيه غضب شديد .. ثم تابع طريقه ليجلس مع زميليه حول طاولة مخصصة للأساتذة .. قال ماهر بقلق :- نانسي .. أنا أشعر بأن الدكتور محمود لا يحب تواجدنا معا .. أرى هذا في نظراته كلما رآنا معا
قالت بحزم :- لا تهتم .. علاقتنا ليست من شأنه
إلا أن ماهر قال بحدة :- لا أريد أن أكون سببا للمشاكل بينكما يا نانسي
قالت بانزعاج :- هلا توقفت عن الولولة كالنساء .. أخبرتك بألا تهتم .. أي مشاكل قد تحدث بيني وبين محمود لن تكون بسببك
راقبت محمود وهو يغادر معتذرا ليلحق بمحاضرته .. المحاضرة التي سيكون عليها حضورها مع ماهر بعد دقائق
ألقى المحاضرة بهدوء وجفاف على غير عادته .. استطاعت هي أن تلاحظ الغضب المبطن داخل صوته .. وعندما أنهى المحاضرة .. اجتمع الطلاب حوله كالعادة .. وعندما أرادت الخروج من القاعة برفقة ماهر .. فاجأها صوته يقول بصرامة :- نانسي .. أرجو أن تنتظريني في مكتبي
استدارت نحوه بحدة لتجده قد عاد يجيب عن أسئلة الطلاب الكثيفة .. فقال ماهر مترددا :- إذن .. لن نراك قبل الغد
قالت بحدة :- بل ما زلنا على موعدنا
صعدت إلى مكتب محمود .. وألقت نفسها على الأريكة الجلدية الصغيرة وهي تزفر بقوة .. ما الذي يريده منها ؟ .. كانت تعرف بأن شجارا جديدا في انتظارها .. لقد نجحت بكسر برود محمود اتجاهها والذي استمر لأيام منذ شجارهما الأخير ..
والآن .. هي خائفة من نتيجة تصرفاتها .. من الواضح أن صبر محمود قد بلغ نهايته
اعتدلت عندما دخل إلى المكتب .. ألقى أوراقه على المكتب .. واستدار نحوها قائلا بصرامة :- قفي
وقفت بحيرة .. فنظر إليها من رأسها وحتى أخمص قدميها ببرود شديد وهو يقول :- ما هذا الذي ترتدينه ؟
قالت ببساطة :- هذه ملابس
لمعت عيناه بغضب وهو يقول :- أعرف بأنها ملابس .. منذ متى ترتدين ملابس تظهر جسدك كاملا يا نانسي ؟ انظري إلى نفسك جيدا .. أهذا مظهر طالبة جامعة محترمة ؟ تبدين وكأنك لا ترتدين شيئا
قالت بعناد :- إن ملابسي محتشمة يا دكتور محمود ولا تظهر سنتيمترا من جسدي .. كما أنني كنت دائما أرتدي ملابسي بهذه الطريقة
قال بعنف :- كان هذا قبل أن أتزوج بك .. أنا أرفض أن يراك الناس بهذا المظهر السخيف .. هيا بنا .. سنعود إلى البيت
قالت رافعة رأسها بتحدي :- أنا لن أعود معك
ساد صمت ثقيل تخلله التوتر بكثافة شديدة قبل أن يقول محمود ببرود :- ماذا قلت ؟
قالت بعصبية :- لقد قلت بأنني لن أعود معك إلى البيت .. لدي موعد مع أصدقائي .. سنحضر المسرحية التي تقيمها فرقة الكلية مساء هذا اليوم في قاعة المؤتمرات
قال ببرود :- وأصدقاءك هؤلاء هم ماهر بالطبع
هزت كتفيها بلا مبالاة وهو تقول :- طبعا ماهر من ضمنهم
أمسك ذراعها بقوة وهو يقول بلهجة مخيفة :- هل تتحدينني يا نانسي ؟ تجوبين الكلية مع حبيبك القديم .. وترتدين ملابس مبتذلة ناسية أن زوجك أستاذ في هذه الكلية .. هل تحاولين السخرية مني ؟ أنت لن تذهبي إلى المسرحية .. بل ستعودين معي إلى البيت .. ومن الآن فصاعدا .. لا أريد أن أراك مع ذلك الفتى ماهر .. أتفهمينني ؟
صاحت بحدة :- بالطبع لا أفهم
نظرت إلى عينيه وهو تقول :- ما لا تعرفه يا دكتور محمود هو أنك لا تمتلكني .. ولن تجعل مني أبدا أحد مقتنياتك .. أنا حرة في تصرفاتي .. أصاحب من أريد .. وأعود إلى البيت متى أريد .. لم يكن ضمن اتفاقية زواجنا أن أغير من نمط حياتي لأجلك
كانت تعرف بأنها تلعب بالنار .. قال ببرود مخيف :- إن لم تفعلي ما آمرك به يا نانسي فستندمين
قالت بتحدي :- أنا لست خائفة منك
سحبت ذراعها من بين أصابعه .. ودلكت مكانها وهي تقول بجفاف :- لقد أخبرت مأمون أين ومتى يجدني
غادرت المكان مسرعة قبل أن تسمح له بإضافة أي كلمة قد تثنيها عن قرارها .. قابلت ماهر عند باب الكلية برفقة بعض زملاءهما .. وانطلقوا معا
في تمام الساعة الثامنة مساءا .. خرجت نانسي مع زملاءها وهم يضحكون تحت تأثير المشهد الختامي من المسرحية .. همست إحدى زميلاتها في أذنها قائلة :- تريدين الصدق .. لم أتوقع أن يسمح لك الدكتور محمود بالحضور .. فالأساتذة يكرهون هذا النوع من ال مسرحيات لاعتقادهم بأنه نوع من الفن السطحي والمبتذل ..
قالت نانسي بهدوء ك- محمود يقدر اختلاف الأذواق بين أفراد جيله وأفراد جيلنا
تمتمت صديقتها بحسد :- تبدين سعيدة بزواجك يا نانسي .. لابد أن تكون سعيدة من تتزوج برجل كالدكتور محمود
منحتها نانسي ابتسامة باردة وهي تفكر بأن المظاهر خادعة .. إن علمت أي من زميلاتها بما تعانيه في حياتها مع محمود فإنها لن تصدق .. بدأت الأمطار تهطل فجأة بغزارة مما جعل الفتيات تصرخن بذعر .. والفتيان يضحكون بسرور .. ضحكت نانسي التي أغرقها المطر قائلة :- من حسن حظي بأن السائق قد وصل .. أراكم غدا يا رفاق
أطلت نظرات الحسد والغيرة من أعين زميلاتها .. بينما لوح لها ماهر مودعا .. ركبت السيارة مسرعة ممتنة للدفء الشديد داخلها .. إلا أنها عندما وصلت إلى البيت كانت ترتجف من البرد .. فكان أول ما خطر ببالها هو أخذ حمام ساخن تدفئ به عظامها ..
وبالفعل .. أمضت وقتا طويلا داخل الحمام تقف تحت سيول المياه الساخنة بامتنان .. حتى أحست باسترخاء كل خلية في جسدها .. أجبرت نفسها على الخروج أخيرا .. وأحاطت جسدها بمنشفة كبيرة وخرجت بعد أن جففت شعرها بقوة .. بالرغم من دفء الغرفة .. فقد بدت لها باردة بعد حرارة الحمام .. جلست أمام منضدة الزينة تمشط شعرها الرطب .. وتنظر إلى وجهها المتورد بفعل أبخرة الحمام .. استغرقت ثواني كي تتبين بأنها ليست وحيدة في الغرفة .. وأن شبحا يقف مستندا إلى الجدار إلى جانب باب الحمام بحيث لم تلمحه عند خروجها .. أطلقت شهقة ذعر وهي تستدير نحو محمود الذي عقد ساعديه أمام صدره الذي ظهر عبر قميصه المفتوح .. وأطلت من عينيه نظرة أخافتها .. تشبثت بالمنشفة وهي تقول باضطراب :- محمود .. لم أدرك أنك هنا .. متى عدت ؟
قال بهدوء :- منذ دقائق .. لا تبدين مسرورة برؤيتي .. هل كنت تفضلين رفقة ماهر عوضا عني ؟
نهضت واقفة وهي تقول متوترة ك- لم أتوقع عودتك الآن .. هذا كل شيء
كانت نظراته تمسح جسدها ببطء ما جعل خوفها واضطرابها يزدادان .. سارت بخطوات سريعة نحو الحمام.. فوقف في طريقها قائلا :- إلى أين تذهبين ؟
قالت بتوتر :- سأرتدي ملابسي في الحمام
:- أفضلك هكذا
احمر وجهها بشدة وهي تقول متظاهرة بالنزق :- محمود .. ابتعد عن طريقي
لوى فمه وهو يقول متهكما :- أظنك ستقولين لي الآن بأنك لست إحدى مقتنياتي .. وأن أتركك وشأنك
صاحت بعصبية مخفية خوفها الشديد :- بالتأكيد
حاولت تجاوزه .. ولكنه أمسك بذراعها بشدة .. وجذبها نحوه مما جعلها تطلق شهقة عنيفة عندما وجدت نفسها ملتصقة بصدره القوي .. كان وجهه قريبا للغاية من وجهها عندما قال بصوت جمد الدماء في عروقها :- دعيني أصحح لك معلوماتك يا عزيزتي .. أنت ملكي .. منذ وقعت على وثيقة زواجنا التي تثبت بأنك زوجتي .. ونعم .. إن شئت فأنت إحدى مقتنياتي
صاحت بغضب :- لن أكون كذلك ولا في أحلامك
قال بصوت أجش :- أنت زوجتي يا نانسي .. وقد تركتك خلال الأيام السابقة لأنني رجل يعرف كيف يتسلى .. كيف يجعل طعامه أكثر شهية كلما تأخر في أكله .. كنت ألعب معك لعبة القط والفأر مستمتع بكل مرة تظنين فيها بأنك قد نجوت من قبضتي .. أما الآن .. فقد مل القط .. وحان الوقت ليستمتع بفريسته
قاومته بشراسة وهي تصيح :- إياك أن تقترب مني يا محمود فاضل .. وإلا فإنني سأصرخ عاليا وأتسبب لك بفضيحة
شهقت بقوة عندما دار حول نفسه فجأة ساحبا إياها معه ليلصقها بالجدار ويحاصرها بجسده مثبتا إحدى يديها إلى الجدار .. بينما تشبثت يدها الثانية بمنشفتها خوفا من سقوطها .. قرب وجهه منها حتى أحست بأنفاسه تلفحها وهو يقول:- اصرخي يا نانسي .. لن يجرؤ أي فرد في هذا البيت على دخول هذه الغرفة ما دمنا فيها معا
شعره بأنفاسه الحارة تحوم حول وجهها .. وبيده الكبيرة الدافئة تتحسس عنقها الرقيق بلطف .. انحنى يطبع قبلة ناعمة على بشرتها .. فارتعدت وهي تغمض عينيها مقاومة المشاعر الغريبة التي أخذت تعتريها .. عاد يقبل عنقها .. إلا أن قبلاته كانت تزداد حرارة .. وهي تصعد ببطء نحو وجنتها .. همست لاهثة :- توقف .. أرجوك
كان جسدها يرتعش في كل مرة تلمس فيها شفتاه بشرتها .. أخذ قلبها يخفق بجنون عندما أمسك ذقنها ورفعها لتنظر إليه ترقرقت الدموع في عينيها وهي تهمس :- أرجوك
ولكن عينيه كانتا تنظران إلى شفتيها المنفرجتين رتوق شديد .. ارتعشت شفتاه باضطراب .. إنه يريدها .. بل هو يرغب بها إلى حد الجنون .. وما كان ليتركها لتفلت من بين يديه هذه المرة
بدون إنذار .. قطع المسافة الصغيرة الفاصلة بينهما .. وتناول شفتيها بقبلة عنيفة جعلت جسدها ينتفض بقوة .. ترك يدها ليتمكن من احتضانها جيدا بين ذراعيه فتشبثت به بقوة مصدومة من ذلك الكم الهائل من المشاعر الذي اجتاح جسدها .. مشاعر غريبة وجديدة من التوق والحاجة واللهفة .. لم تعرفها من قبل .. لقد أشعل محمود نارا داخلها .. وشوقا إلى هذا الرجل الذي ضمها إليه بقوة كادت تسحقها وهو يمطرها بقبلاته المحمومة .. توقفت للحظات عن مقاومته ووجدت نفسها تبادله تلك القبلات .. وتتقبل يديه اللتين أخذتا تلمسان جسدها من فوق المنشفة الرطبة في اكتشاف مثير لمعالمه الأنثوية .. همس في أذنها لاهثا :- أنت لي يا نانسي .. لي وحدي
ارتعدت وقد أصابها خوف كبير .. دوت همساته في أذنها .. بينما تذكرت فجأة ريم .. وهديل .. ونسرين .. وغيرهن من النساء اللاتي ينتظرن أن يمل منها محمود بعد أن يأخذ منها ما يريد .. وبعدها .. سيبعدها عنه .. ويبحث عن أخرى تمنحه المزيد من الإثارة
لا .. هي لا تريده أن يبعدها .. بل لا تريده أن يكون لغيرها ..
أبعدته عنها وهي تصيح بين دموعها :- توقف .. توقف
تراجعت حتى التصقت بالجدار .. وأخذ جسدها يرتعش بقوة وهي تنظر إلى مظهره المشوش والمتوتر .. لقد كان يبدو مثيرا بشعره الذي تشعث بفوضوية .. وقميصه المفتوح الأزرار .. وذلك الوميض الجائع إليها في عينيه .. صاحت بحرقة :- إياك أن تلمسني .. أنا أكرهك .. أكرهك
زمجر صائحا :- أنت لا تكرهينني يا نانسي .. بل ترغبينني كما أرغبك
انكمشت عندما سحبها نحوه مجددا بوحشية وهو يقول بخشونة :- كبرياءك هذا لم يقف حائلا أمامي يا نانسي .. أنا أريدك .. وأريدك الآن
صرخت بذعر عندما حملها بين ذراعيه واتجه بها نحو السرير ليرميها فوقه بقسوة .. قبل أن حتى أن تفكر بالهرب .. كان قد كبل حركتها بجسده الضخم .. وأسكت صراخها بقبلة وحشية .. فأدركت مذعورة بأن أي صراخ منها لن يأت بنتيجة .. لقد قرر القط بأن الوقت قد حان ليستمتع بفريسته
وما على الفريسة إلا أن تبكي بصمت مستسلمة لمصيرها
حب أم كراهية
دخلت نانسي إلى الحمام بسرعة وهي تقفل الباب خلفها بإحكام بيدين مرتعشتين .. واستندت إليه وهي ترتجف بقوة .. سمعت طرقات قوية عليه وصوت محمود يصيح :- نانسي .. افتحي الباب
صرخت بذعر :- لا .. لا .. اذهب من هنا .. اتركني .. أنا لا أريد أن أراك
تفجرت دموعها بغزارة .. بينما عاد صوته يقول بنبرة أهدأ إنما أكثر توترا :- نانسي .. أرجوك افتحي الباب
صاحت وهي تبكي :- ارحل .. ارحل .. أنا أكرهك .. أكرهك
جثت على الأرض وهي تبكي بحرقة .. دون أن يتوقف جسدها عن الارتعاش .. توقف فجأة عن الاصرار عليها .. ولم تعد تسمع صوته .. لم تدر كم بقيت على هذه الحالة .. ولكنها في النهاية وجدت نفسها تغفو جالسة على أرض الحمام .. ولم تشعر إلا بصوت حنان يوقظها وهي تطرق الباب قائلة بقلق :- نانسي .. هل أنت بخير ؟
هتفت بلهفة :- حنان
نهضت .. ووضعت عليها روب حمام مان معلقا وراء الباب .. فتحته فذعرت حنان من مظهرها المشوش .. وعينيها المنتفختين من البكاء :- يا إلهي نانسي .. ما الذي حدث ؟
ألقت نانسي بنفسها بين ذراعي حنان وهي تبكي بحرقة .. حنان هي الوحيدة التي تستطيع نانسي أن تبوح لها بآلامها ومشاكلها
بعد قليل كانت نانسي قد اخذت حماما وتركت حنان تمشط شعرها بينما هما جالستان على السرير .. لم تستطع نانسي منع دموعها من الانسياب وهي تكرر :- انا أكرهه .. أكرهه .. وسأكرهه إلى الأبد
منعت حنان نفسها من الابتسام بصعوبة وهي تقول :- اهدئي يا عزيزتي .. لو ان كل امرأة كرهت زوجها لهذا السبب لما بقي حب بين زوجين على وجه الأرض
صاحت نانسي وهي ترتعش :- ولكنه مختلف .. إنه قاسي ومتوحش .. أنا واثقة بان أبي لم يكن يعامل امي بهذه الطريقة
تنهدت حنان قائلة :- ما حدث كان متوقعا يا نانسي .. لقد تمنعت كثيرا .. ويصعب على الرجل أن يعيش كل هذه الفترة تحت سقف واحد مع زوجته دون أن يلمسها .. لقد كان نبلا منه أن ترك لك بعض الوقت كي تتخطي ازماتك .. ولكن الأمر قد زاد عن حده .. إن لكل رجل احتياجاته .. وإن لم يجدها عند زوجته فسيبحث عنها خارجا
هتفت نانسي بخشونة :- هل أنت في صفه أم في صفي ؟
ابتسمت حنان قائلة :- طبعا في صفك .. ولكن كل امرأة ينتابها هذا الشعور في البداية .. خاصة وهي لم تتعود بعد على زوجها .. تشعر بالصدمة والكراهية نحوه .. ثم يتحول إحساسها إلى المودة والألفة فلا تستطيع العيش من دونه
قالت نانسي ساخرة :- إن كان الأمر كذلك فلماذا طلبت الطلاق من زوجك ؟
صمتت حنان للحظات وكأن السؤال قد آلمها .. ثم قالت بهدوء :- هل تظنين بأنني قد طلبت الطلاق من نبيل لأنني كنت أكرهه ؟ العكس هو الصحيح يا نانسي .. لقد تركته لأنني أحببته بجنون
بدت الدهشة على وجه نانسي فأكملت حنان :- لقد كان حبي الاول والأكبر .. هو أيضا أحبني منذ الطفولة .. سنوات زواجنا الاولى كانت كالجنة ..كادت حياتنا تكون كاملة لولا ان نبيل كانت له عادة سيئة .. وهي إقامة العلاقات الغرامية العابرة .. لقد كان يفعل هذا قبل زواجنا .. واستمر بعده .. يعلم الله أنني حاولت تغييره .. وأنه حاول بدوره ان يتغير .. ولكن رفقاء السوء وقفوا حائلا دون هذا ..وهو لم يستطع التخلي عن أصدقائه فكان الثمن ان تركته
سالت دمعة ساخنة من عين حنان فهتفت نانسي بتعاطف :- أنا آسفة يا حنان .. لو كنت أعرف لما سألتك
لم تتخيل أبدا أن يحمل القلب الطيب لحنان كل هذا الألم .. حنان التي أفنت عمرها في خدمة عائلة نانسي دون أن تجلب معها مشاكلها الشخصية .. قالت نانسي :- إن كنت تحبينه إلى هذا الحد فلماذا تركته ؟
مسحت حنان الدمعة الفارة وهي تقول :- لأنني أحبه تركته .. ما كنت أستطيع العيش معه وانا اعرف بأن الكثيرات تشاركنني به .. لو أنني لم احبه كل هذا الحب .. لربما تمكنت من البقاء معه .. ولكن لا تقلقي .. مضت سنوات طويلة على هذه القصة .. ولم تعد تؤثر بي كالسابق
ربتت على كتف نانسي قائلة :- أرجوك يا نانسي أن تمنحي الدكتور محمود فرصة .. أنا واثقة تماما بانه يحبك .. أتمنى أن تتمكنا من العيش بسعادة دون مشاكل
ومض بريق عنيف في عيني نانسي وهي تتذكر الليلة السابقة .. ثم صاحت بحدة :- لا .. لن أسمح له بلمسي مجددا حتى لو كانت حياتي على المحك
تنهدت حنان قائلة :- لا فائدة .. لن تتعلمي أبدا .. هل أحضر لك الافطار إلى هنا .. أم تتناولينه في الأسفل مع العائلة ؟
تمتمت :- سأتناوله هنا .. لست جاهزة بعد لمواجهة أي احد
خرجت حنان فتمددت نانسي على السرير تبكي بمرارة .. كانت تعرف بان اليوم الذي سينفذ فيه صبر محمود قادم لا محالة .. ولكنها لم تتخيل أبدا ان يكون الأمر بهذه الطريقة .. لقد كان قاسيا معها .. عنيفا .. ربما لانها لم تتوقف عن مقاومته لحظة واحدة .. كانت كالقطة الشرسة وهي تدفعه عنها .. هل كان عليها ان تكون أكثر خضوعا ؟ أكثر تعاونا ؟ ولكنها ما كانت لتمنحه نفسها بهذه البساطة .. إن كبريائها يمنعها من ان تقدم له نفسها وكأنها حقا كما قال .. أحد ممتلكاته .. ولكن ماذا كانت النتيجة ؟ ما شعرت به الليلة السابقة كان الإذلال والإهانة .. وعندما تركها اخيرا هربت إلى الحمام كارهة أن ترى وجهه بعد الآن .. تمنت أن تفتح باب الحمام لتجده قد اختفى .. وهذا بالضبط ما حصل .. فكما عرفت من حنان .. غادر محمود في وقت مبكر للغاية .. هي لا تعرف وقت عودته ولكنها ترفض ان تراه .. تتمنى ان تموت قبل ان يلمسها مجددا .. طرق الباب ودخلت لينا التي قالت وهي تنظر إلى وجهها الباكي :- ما الامر يا نانسي ؟ لماذا تبكين ؟ .. هل تشاجرت مع محمود ؟
كذبت قائلة :- لا تقلقي يا عزيزتي .. لقد تذكرت امي فحسب
عانقتها لينا بقوة وهي تقول :- أتعلمين ؟ لقد أرسلت صباح اليوم رسالة جديدة لخالي في فرنسا
تمتمت نانسي :- أما زلت تأملين بان نجده .؟
قالت لينا :- انا متأكدة بانه مسافر إلى مكان ما .. يجب أن يعرف بما حصل .. فهو منذ الآن عائلتنا الوحيدة
تمتمت نانسي ك- انت محقة .. كيف تسير امورك هذه الأيام ؟
مطت لينا شفتيها قائلة :- أشعر بملل كبير .. امارس الرسم .. استمع إلى الموسيقى .. كل يوم أقوم بنفس النشاطات ولا اعرف كيف أضيع وقتي
قالت نانسي بهدوء :- ألا تفكرين بالعودة إلى المدرسة ؟
صاحت لينا بحدة :- لا
عبست نانسي وفتحت فمها لتناقشها .. إلا ان لينا نهضت وهي تقول بعناد :- لا أريد مناقشة الموضوع الآن ..
تركت الغرفة قبل ان تنطق نانس يحرف واحد .. شعرت بالغضب الشديد وكأن مشاكل لينا هي ما ينقصها الآن .. يجب ان تتحدثا في الموضوع ذات يوم .. لا يمكن أن تستمر لينا على هذه الحالة
لم يأت محمود ذلك المساء .. تجرأت ونزلت لتناول العشاء خشية أن يشك أحد أفراد المنزل بشيء . تناولت العشاء صامتة فحدثها السيد طلال قائلا :- أرجو ألا يزعجك غياب محمود هذه الليلة .. لديه عمل كثير يتطلب منه البقاء في المدينة
توقفت عن الاكل .. إذن .. محمود لن يأت الليلة .. وعمه يظن بانها تعرف هذا .. قالت بهدوء ك- لقد أخبرني بالأمر .. وانا أعذره
أشعرها غياب محمود بالراحة .. بالرغم من هذا كانت تشعر بتحفز تام اثناء تمددها فوق سريرها في محاولة منها للنوم ...ماذا إن عاد ؟ ماذا لو أراد الحصول عليها مجددا ؟ تقلبن فوق السرير بتوتر .. كانت مع كل حركة تصدر تنتفض وتنهض ظنا منها انه محمود .. ولكنه لم يأت .. لا هذه الليلة .. ولا الليلتين التاليتين .. وبدأت هي تشعر بالقلق .. خاصة عندما امسكتها ريم فجأة في صباح أحد الأيام وهي تقول ساخرة :- ما الأمر ؟ هل بدأ محمود يمل منك ويشرد بعيدا ؟ لم اتوقع أن يحدث هذا بهذه السرعة .. ألا تتساءلين عما يفعله وحده في المدينة .. في تلك الشقة الواسعة والخالية ؟
ردت نانسي بهدوء :- طبعا لا أتساءل .. فهو يكلمني يوميا عدة مرات .. ونقضي الليل بطوله ونحن نتحدث عبر الهاتف .. فهو لا يستطيع ان ينام دون ان يسمع صوتي
رفعت ريم رأسها قائلة :- هل تظنين بانك تخدعينني ؟ لقد سمعتكما تتشاجران قبل يومين ..
ضحكت نانسي بدلال وه يتقول :- هل ظننت باننا كنا نتشاجر ؟ كنت لأخبرك بما كنا حقا نفعله لولا خوفي على حيائك .. فانت فتاة غير متزوجة .. وأخشى عليك من الصدمة .. إنما أخبريني .. هل تمضين جل وقتك خلف باب غرفتنا تحاولين معرفة ما يدور بيننا ؟ لم لا تجدين لنفسك عملا أفضل ..كالبحث عن عريس مناسب قبل ان يفوتك القطار ؟
تركتها واقفة وانسحبت إلى غرفتها .. كانت غاضبة وقلقة .. ماذا لو كانت ريم محقة ..وأن محمود يسلي نفسه مع امراة اخرى أكثر تعاونا ... احمر وجهها وهي تجوب الغرفة بعصبية .. ما الذي اصابها ؟ هبل تشعر بالغيرة ؟ هل تفتقد إلى محمود ؟ بالتأكيد ثمة رفض قاطع داخلها من فكرة تواجده مع امراة اخرى .. فما الذي يعنيه هذا ؟
رمت نفسها على الأريكة بإرهاق ..إنها لا تعرف حقيقة مشاعرها اتجاه محمود .. أهي تكرهه ؟ .. ام تفتقده ؟ تمتمت بمرارة :- آه لو أعرف حقيقة مشاعري
تلك الليلة .. نامت وهي تحارب صراعا داخلها .. وأسئلة كثيرة لا اجوبة لها .. شعرت بلمسة دافئة على كتفها .. فتحت عينيها بنعاس لتنتفض بعدها وهي ترى محمود يجلس غلى جانبها .. يكسو وجهه شحوب غريب .. وفي عينيه تعبير آسر لم تفهمه .. بدا كئيبا وهو يحاول تهدئتها .. قالت وهي تتراجع مبتعدة عنه :- ابتعد عني .. لا تلمسني
قال متوترا :- اهدئي يا نانسي .. انا لن أؤذيك
سالت دموعها وهي ترى يديه تمتدان إليها :- أرجوك ابتعد عني
امسكها وسحبها إليه فقاومته بضعف في البداية عندما ضمها إلى صدره بقوة .. وسرعان ما استسلمت لعناقه وهي تجهش بالبكاء بين طيات قميصه .. ربت على ظهرها بحنان وهو يقول :- انا آسف يا نانسي .. لم أرد أن أسبب لك الأذى .. لم أرغب بهذا أبدا
رفع وجهها المغطى بالدموع إليه .. وقال بصوت أجش :- لن أؤذيك مجددا يا نانسي .. أعدك
عاد يضمها إليه بقوة .. فاستكانت بين ذراعيه شاعرة بحنان غريب يلفها .. بالأمان والراحة .. أي تناقض هذا .. فتارة تراه وحشا كاسرا تخاف منه حتى الموت .. وتارة تشعر بانه ملجأها الوحيد .. وأن احدا لن يصل إليها بين ذراعيه وتحت حمايته .. تمتمت بين خصلات شعرها الذهبية :- لم أستطع مواجهتك بعد ما حدث .. كان علي ان اغيب لفترة كي أحاسب نفسي .. ولكنني لم استطع ان اغيب اكثر .. لا أستطيع الابتعاد عنك يا نانسي
مددها على السرير .. وتمدد إلى جوارها دون أن يتركها أو يتوقف عن ترديد عبارات مهدئة في أذنها كان عليها أكبر تأثير .. إذ استرخت حواسها .. وهدأت نفسها
ووجدت نفسها تغرق بين ذراعيه في نوم عميق
منقذي أنت
شحب وجه لينا وهي تقول :- لقد سبق وأخبرتك بانني لست جاهزة بعد
قالت نانسي بحدة :- انا أظنك قد أصبحت جاهزة تماما للعودة إلى المدرسة .. لقد مرت فترة طويلة منذ وفاة والدنا .. لم يعد احد يذكر اسمه .. أنامتأكدة بانك لن تواجهي المشاكل خاصة في المدرسة الجديدة التي اخترتها لك
وقفت لينا وهي تهتف بعنف :- انت لا تفهمين .. لن ينسى احد على الإطلاق اسم سلمان راشد .. سيظل الجميع يعايرنا ..
قاطعتها نانسي وهي تقف بحزم :- لقد اتخذت القرار يا لينا .. ستبدأين بالذهاب إلى المدرسة منذ الصباح .. لن أسمح لك بالتسكع اكثر وقضاء الوقت بلا فعل أي شيء سوى مصاحبة فراس .. لقد حان الوقت للنظر في أفعالك
اتسعت عينا لينا الزرقاوان فبدا الذعر فيهما وهي تجد نفسها عالقة بلا مخرج .. دوى صوت محمود الهادئ يقول :- ما الذي يحدث هنا ؟ أصواتكما تملأ البيت
كان يبدو قد عاد لتوه من عمله وقد ظهر الإرهاق جليا عليه وهو يضع حقيبة أوراقه فوق المكتب فأسرعت لينا نحوه وهي تقول شاكية :- تريدني نانسي ان اعود إلى المدرسة
شعرت نانسي بالغيظ من تصرف لينا التي نسيت بأن نانسي هي المسؤولة عنها .. وهاهي تشتكيها إلى محمود وكأنه والدهما البديل
منذ تلك الليلة التي عاد فيها محمود معتذرا من نانسي بعد غيابه لأيام عن البيت .. عندما نامت بين ذراعيه باكية كالبلهاء .. وهما يتعاملان مع بعضهما بأسلوب التجاهل التام ..
يتحدثان أمام الآخرين بشكل طبيعي .. ووحدهما كالغرباء تماما .. كما كانا يتصرفان سابقا .. تتظاهر هي بالنوم .. وينام هو دون ان يوجه لها أي كلمة لينهض صباحا ويغادر قبل استيقاظها .. مع فرق بسيط وهو انها لم تعد تستفزه كالسابق .. وكأنها باتت تخشى أن تثير غضبه مجددا وقد عرفت ما الذي يعنيه غضب محمود
سمعته يقول للينا بهدوء :- وأين المشكلة ؟ نانسي تفكر بمصلحتك ليس إلا
ارتد وجه لينا إلى الوراء وهي تقول مصدومة :- ماذا ؟ . ولكن .. أنا ...
أحاط كتفيها بذراعه وهو يقول بلطف :- ليس هناك داعي لقلقك يا لينا .. لقد سبق وأخبرتك بأنني سأمحي كل من يوجه نحوك كلمة مزعجة واحدة .. المدرسة الجديدة ممتازة وقد تحدثت بنفسي إلى ...
أكمل إقناعه السحري للينا وهو يقودها إلى الأريكة الجلدية بينما توجهت نانسي نحو نافذة غرفة المكتب المطلة على الحديقة وأخذت تنظر عبرها إلى الشمس الغاربة بكآبة
تكره الاعتراف بهذا .. ولكن لمحمود تأثير كبير على لينا .. إنه الوحيد القادر على إقناعها بالأمر .. لقد أصبحت شقيقتها تعتمد عليه تماما في كل شيء
سمعت لينا تقول باضطراب :- ولكن ماذا لو .. ماذا ..
صمتت وهي تعض على شفتها السفلى فربت على شعرها الناعم وهو يقول :- أعرف بالضبط ما يخيفك .. الحادث الذي تعرضت له نانسي لا يمكن ان يتكرر معك .. حياة نانسي فيها الكثير من التعقيدات .. وبالتالي لديها الكثير من الاعداء في الجامعة .. أما أنت فلا أظن احدا بقادر على أذيتك أو حتى كرهك
التفتت نانسي نحوهما مصدومة وكأنها قد تلقت صفعة قوية .. لم يشعر أحدهما بشحوب وجهها وارتعاشها وهي تحدق بهما .. بل لم يشعرا بها وهي تترك المكتب وتجري كالمجنونة بين أروقة البيت حتى وصلت إلى المطبخ .. دخلت وهي تقول لاهثة :- أين حنان ؟
تبادلت الطاهية نظرات الحيرة مع نجوى التي قالت :- لقد كانت تنفض الغبار في غرفة الجلوس
أسرعت نانس إلى هناك لتجد حنان منهمكة فعلا في مسح الغبار عن الأسطح الزجاجية .. ولكنها توقفت فور أن لمحت نانسي .. قالت بقلق :- ما الامر يا نانسي ؟ هل انت بخير ؟
حاولت نانسي تهدئة أنفاسها المبهورة ثم قالت :- حنان .. أنت كنت موجودة في كل مرة انفرد فيها محمود مع والدتي ولينا في منزل الشاطئ .. صحيح ؟
قالت حنان بحيرة :- صحيح
قالت نانسي باضطراب :- هل سبق واخبرته أمي عن الحادث الذي تعرضت له .. ذلك الاعتداء أثناء عودتي من الجامعة ؟
قالت حنان :- لا يا نانسي .. والدتك رحمها الله كانت تعرف مدى حساسيتك من الموضوع .. وكانت تعرف بأنك ما كنت ترتاحين للدكتور محمود في ذلك الوقت .. وما كانت لتخبره بسر كهذا
أغمضت نانسي عينيها وهي تقول :- ماذا عن لينا ؟
:- لقد كرهت لينا دائما الاستماع إلى القصة .. فكيف بالتحدث عنها ؟ هل نسيت بانها كانت ترى الكوابيس بسببها ؟
انهارت نانسي جالسة على المقعد وكل عضلة في جسدها ترتعش وهي تقول :- كيف عرف محمود به إذن ؟ كيف عرف بحادث لم يعرف به سوى أربع أشخاص ؟
أمسكت حنان بكتفها قائلة :- نانسي .. أين المشكلة في معرفة الدكتور محمود بالقصة ؟ إنه زوجك الىن .. ومن حقه أن يعرف دقائق حياتك
لكم تكن نانسي تستمع إلى ما تقوله حنان .. بل كان عقلها يفكر كالمجنون .. ولم يهدا عن التفكير لحظة واحدة حتى أثناء تناولها العشاء مع العائلة .. الكل كان يتحدث وكأن شيئا لا يشغله لإلا هي .. كانت تتناول طعامها بصمت وهي ترمق زوجها بنظرات مختلسة وهو يتحدث إلى عمه .. تأملت وجهه الرجولي الوسيم .. نظراته القوية .. كتفيه العريضتين .. يديه الخشنتين وهو يلوح بهما أثناء حديثه فارتجفت عندما تذكرت ملمسهما عليها .. ما الذي يخفيه عنها محمود يا ترى ؟ متى ستفك غموضه وتعرف ما يفكر به عقله المعقد ؟ .. أحس بنظراتها فالتفت إليها متعجبا .. فعادت تغوص في طبقها الذي أنهته دون ان تحس بطعمه ..وبعد العشاء .. اعتذرت على الفور وصعدت إلى غرفتها متعللة بالصداع ..
وعندما أغلقت الباب على نفسها .. بدلت ملابسها .. وأحكمت إغلاق روبها فوق بيجامتها الحريرية .. وانتظرت وهي جالسة باستقامة فوق الأريكة الصغيرة .. تحدق امامها بجمود .. حتى دخل محمود ليفاجئ برؤيتها صاحية على غير العادة .. أقفل الباب وراءه بهدوء قائلا :- ظننتك مصابة بالصداع
وقفت وهي تقول بتوتر :- لقد كنت كذلك
:- لماذا لم تخلدي إلى النوم إذن
خلع حذائيه .. ثم بدأ يحل أزرار قميصه عندما تتبعت ما يقوم به وهي تقول :- لقد كنت في انتظارك
التفت نحوها .. ولاحظ وجهها الشاحب وعينيها القلقتين .. قال بقلق :- ما الأمر ؟ .. هل من مشكلة ؟ هل هي لينا مجدا ؟
أغمضت عينيها بقوة للحظات ثم فتحتهما قائلة :- كيف عرفت ؟
رمش بعينه مستغربا وهو يقول :- عرفت بماذا ؟
قالت بعصبية :- تعرف بالضبط ما أقصده .. لقد سمعتك تتحدث إلى لينا .. كيف عرفت بأمر الحادث الذي تعرضت له قبل أشهر ؟ أعرف بأن أمي لم تخبرك .. هل هي لينا ؟
صمت للحظات طويلة وهو ينظر إليها دون تعبير على وجهه قبل أن يقول بهدوء :- لا .. لينا لم تخبرني
ازداد وجهها شحوبا .. وتسارعت نبضات قلبها وهي تقول :- كيف عرفت إذن ؟ من أخبرك بالأمر ؟
استدار نحوها و واجهها تماما وهو يقول :- كيف تظنينني عرفت يا نانسي ؟
ارتدت إلى الخلف ..واتسعت عيناها وقد هبط الإدراك عليها مرة واحدة .. وعرفت ما كان قلبها يعرفه منذ البداية .. قالت بصوت مختنق :- لقد كنت أنت .. أنت من أنقذني ذلك اليوم من بين براثن جابر ورفيقه .. صحيح ؟
صمت للحظات ثم قال :- هذا صحيح ..
أحاطت نفسها بذراعيها وهي تقول باضطراب :- ولكن كيف ... كيف كنت هناك في الوقت المناسب ؟ أنت من بين جميع الناس .. كيف ؟
توتر فمه وهو يقول :- لقد صارحني ماهر قبل الحادث بأيام بقلقه من تهديد جابر الذي لم يطلق يوما تهديدا لم يعنه حقا .. نهار الحادث كنت قد أمسكت ذلة على أحد رفاق جابر المقربين .. وابتززته بها مقابل إخباري بنوايا جابر .. فعرفت بأنه كان من المفترض به أن يعترض طريقك في تلك اللحظة ..
عنما وصلت .. كان الوقت قد تأخر على منعه من إلحاق أي ضرر بك .. فكرت بأنني لو كنت قد تأخرت قليلا بعد ...
ظهر غضب عنيف في عينيه وهو يتذكر مظهرها .. ملقاة على الأرض .. مضرجة بالدماء وممزقة الثياب .. وذلك الحقير يهم باغتصابها .. ارتجفت نانسي وقد انتابتها نفس الذكرى .. إلا أنها كانت تفكر بشيء مختلف تماما .. تمتمت بصعوبة :- وبالطبع .. كنت انت من حملني إلى المستشفى ودفع جميع تكاليف العلاج .. ورفض ذكر اسمه كي لا أعرف من يكون
قال بقلق :- علاقتنا كانت حساسة في تلك الفترة يا نانسي .. معرفتك بالحقيقة كانت لتؤذيك أكثر مما قد تساعدك
بدت وكأنها لم تسمعه وهي تكمل :- ثم قمت بطرد جابر من الجامعة عقابا له على فعلته
أشتدت قبضتاه غضبا وهو يقول :- لولا خوفي من معرفة الناس بما حدث لتسببت بدخوله السجن لفترة طويلة للغاية
أغمضت عينيها وهي تقول بصوت بدأ يفقد تماسكه :- وهذا كله لم يكن كافيا لتتخلص من إحساسك بالذنب لأنك لم تستطع إنقاذي تماما .. فلحقتني وعائلتي إلى منزل الشاطئ .. صحيح ؟ وجودك هناك لم يكن صدفة على الإطلاق
ساد صمت ثقيل بينهما .. نظر خلاله محمود إلى نانسي وكأنه يتمنى أن يتوقف هذا الحديث عند هذا الحد .. ولكن مرأى حالتها المضطربة جعلته يدرك بأنها لن تهدأ حتى تعرف الحقيقة .. اعترف قائلا :- لا .. لم يكن وجودي هناك صدفة على الإطلاق .. لقد وضعت من يراقبكن بعد الحادث مباشرة خوفا من عودة جابر ومحاولته أذيتك مجددا .. عرفت من خلاله بأنكن قد غادرتن المدينة وتوجهتن إلى منزل الشاطئ العائد إلى خالك
همست :- لماذا فعلت هذا ؟ لماذا لحقت بنا إلى هناك ؟
مرر يده عبر شعره الكثيف وهو يقول بانفعال :- لماذا تظنينني فعلت هذا يا نانسي ؟ لقد كاد الرجل يغتصبك بحق الله .. ولو أنني لم أتأخر في الحضور لما أذاك بذلك الشكل .. لقد كنت ضعيفة للغاية رغم تظاهرك بالقوة .. ما كنت بقادرة على مواجهة الواقع أنت أو عائلتك دون مساعدة .. كان علي اللحاق بك لأتأكد بأنكن بخير
اغرورقت عيناها بالدموع وهي تحس بطعنة قوية من الألم في صدرها .. تراجعت وهي تقول بمرارة :- نعم .. هذا صحيح .. وكم كانت صدمة قوية أن تمرض أمي وتموت .. وتجد أنت الفتاتين اليتيمتين قد أصبحتا بلا حماية هل حملت نفسك مسؤولية مرض أمي أيضا يا محمود ؟ هل فكرت بأن الزواج بي كان الطريقة المثلى لإسكات ضميرك المتعب .. الوسيلة الوحيدة لمنحي أنا وأختي المسكينة سقفا يأوينا ؟ .. أظن بأن اعمالك الخيرية قد تخطت الحدود هذه المرة يا محمود .. إذ تخلين عن حريتك بسببها
قطع المسافة بينهما فورا وقد أغضبه تهكمها .. أمسك بكتفيها يهزها بقوة قائلا :- لا تتحدثي بهذه الطريقة يا نانسي .. أنا لم أتزوجك شفقة أو رأفة بك .. أنت تعرفين جيدا لماذا تزوجتك
ابتعدت عنه وهي تنظر إليه قائلة بمرارة :- نعم .. أعرف جيدا بأنها كانت الطريقة الوحيدة التي تجعلني أقبل المال اللازم لعلاج والدتي .. كما أنني حسنة الشكل لحسن حظك مما يجعلني زوجة مرغوبة منك .. مع أنني متأكدة بانك كنت لتتزوجني حتى لو كنت قبيحة أو بدينة
قال بحدة :- نانسي
أمسكت أذنيها وهي تهز رأسها قائلة بألم :- أرجوك يا محمود .. لا أريد أن أسمع المزيد .. أرجوك
تركت الغرفة مسرعة .. نزلت إلى المطبخ لتجد حنان جالسة برفقة نجوى تحتسي معها كوبا من الشاي .. نهضتا فور أن رأتاها عند الباب .. وجهها مغطى بالدموع .. وشهقاتها تتوالى بشكل طفولي .. أسرعت نجوى تصب لها كوبا من الشاي
بينما وقفت حنان وهي تقول بقلق :- يا إلهي .. ما الذي حدث يا عزيزتي ؟
ضمتها بسرعة بين ذراعيها وهي تقول بين شهقاتها :- لقد كان هو يا حنان .. لقد كان هو
أجلستها حنان برفق بينما وضعت نجوى كوب الشاي الساخن أمامها وغادرت المطبخ تاركة للفتاتين حرية الحديث .. قالت نانسي مرتعشة :- لقد كان محمود .. هو من أنقذني ذلك المساء .. هو من حملني إلى المستشفى ودفع التكاليف .. لقد كان محمود
قالت حنان وهي تمسك بيدها ..:- اهدئي يا نانسي .. لطالما أردت معرفة الشخص الذي أنقذك وقد عرفته الآن .. يجب أن يكون هذا خبرا جيدا
هزت نانسي رأسها قائلة :- أنت لا تفهمين خقيقة الأمر يا حنان.. عندما استيقظت في المستشفى .. كان أول ما خطر على بالي هو أن أعرف اسم الشخص الذي أنقذني من مصير أبشع من الموت .. لفترة طويلة لم أفكر إلا بذلك الشخص الغامض .. تمنيت دائما أن أجده في يوم من الأيام لأتمكن من رد جميله .. كنت مستعدة لمنحه حياتي مكافئة له على ما فعله .. وفي النهاية .. أكتشف بأن منقذي هو الرجل الذي تزوجته
تمتمت حنان :- نانسي
هتفت حنان :- انت لا تفهمين مأزقي الحال يا حنان .. مشكلتي الكبرى هي انني اكتشفت لتوي بأنني أحب محمود .. أحبه بجنون
قالت حنان ببهجة :- هذا رائع يا نانسي .. لقد ظننت دائما بأنك تكرهينه
وقفت نانسي وأخذت تتحرك في المطبخ بلا توقف وهي تتكلم كمن يخاطب نفسه :- نعم .. لقد ظننت نفسي أكرهه .. إلا أن الحقيقة هي أنني قد أكون وقعت في حبه منذ البداية دون أن أدري .. لقد بدأ بكسب احترامي بازدرائه لي وطرده لي من مكتبه رافضا رشوتي .. ثم الطريقة التي أشعرني فيها دائما بالعجز أمامه .. الطريقة التي أذاب فيها كبريائي كلما تواجهنا .. محمود هو الشخص الوحيد الذي أجدني عاجزة عن التبجح أمامه والاعتداد بنفسي
ثم الطريقة التي عامل فيها أمي قبل وفاتها .. لقد جعلها تحس بالراحة والأمان لوجوده إلى جانبنا وقد حرمنا أبي من هذا الإحساس .. لقد كان للينا الناصح الأمين والأخ الأكبر والوالد البديل عن جدارة .. لقد وقف إلى جانبنا عند مرض أمي ولم يتردد لحظة واحدة قبل أن يتكفل هو بكل شيء .. لقد احتواني بكرمه وصبره وحنانه .. ومعرفتي بأنه هو من أنقذني حطمني تماما
وقفت حنان قائلة بقلق :- هذا جيد يا نانسي .. أنت تحبين زوجك ..
هتفت نانسي بمرارة :- لا .. ليس جيدا على الإطلاق عندما أعرف بأنه قد تزوجني شفقة علي و إسكاتا لضميره .. ليس جيدا عندما أجهل عنه كل شيء ولا أتوقف عن التفكير بما يخفيه عني بعد
فكرت بألم .. عندما أفكر بريم وهديل ونسرين وغيرهن من النساء اللاتي تجهل حقيقة مكانتهن في حياة محمود
أسرعت حنان تقول بلهفة :- لا يا نانسي .. محمود يحبك .. وأنا متأكدة من هذا .. وأنت أيضا تحبينه فلا تعذبي نفسك بدون داعي حقيقي
هزت نانسي رأسها قائلة :- لا .. أنا لا أحب محمود .. سأظل أردد هذه العبارة حتى تتحول إلى حقيقة .. لن أحبه حقيقة حتى أتأكد بأنه لي .. لي وحدي بقلبه وجسده ومشاعره
وقفت حنان وهي تنظر إلى نانسي الحزينة بيأس من تغيير رأيها .. تمتمت نانسي :- آسفة لأنني أزعجتك يا حنان .. انسي كل ما قلته لك .. أنا سأنساه أيضا ولن أفكر به مجددا
عندما عادت إلى غرفة النوم .. كانت تأمل بأن تجد محمود نائما كي تتجنب مواجهته .. ولكنه اعتدل فزق السرير فور دخولها وقد علا وجهه الوسيم القلق وهو يقول :- هل أنت بخير ؟
حاولت ألا تنظر إلى صدره العاري القوي العضلات وهي تقول بفتور :- طبعا بخير .. ولك لا أكون كذلك ؟
دارت حول السرير .. ودست نفسها في جانبها منه وهي تمنح محمود ظهرها .. فقال بتوتر :- يجب أن نتحدث يا نانسي .. لقد عرفت بأن معرفتك بهذا ستزعجك .. لهذا فقط أخفيته عنك
تمتمت دون أن تنظر إليه :- ولماذا تزعجني .. كان علي أن أعرف كي أشكرك على إنقاذك لي.. وعلى ما فعلته وتفعله لأجلي ولعائلتي .. سأتذكر هذا دائما عندما تعايرني بأنك قد اشتريتني .. لن أجرؤ عندها على فتح فمي بكلمة
صاح بحدة :- نانسي
أمسك بكتفها وأدارها إليه بقوة .. فرأى وجهها المغطى بالدموع .. وفمها المطبق بقوة وكأنها تمنع نفسها من البكاء .. عرف بأنها قد تنهار عند أقل ضغط منه .. فاكتفى بأن قال بإصرار :- أنا لم أتزوجك شفقة عليك يا نانسي
نظرت إلى عينيه الداكنتين لفترة طويلة وهي تتمنى أن تعرف حقا ما يختبئ خلفهما .. ثم أشاحت ببصرها هامسة :- تصبح على خير
تركها هذه المرة تبتعد عنه دون اعتراض .. للحظات لم تشعر بأي حركة منه وكأنه ينظر إلى ظهرها متأملا .. ثم وأخيرا .. أطفأ نور الأباجورة المجاورة للسرير .. وخلد إلى النوم
تعليقات