رواية وحدها شجرة الرمان الفصل الثالث 3 بقلم سنان انطون
رواية وحدها شجرة الرمان الفصل الثالث 3 هى رواية من اجمل الروايات الرومانسية السعودية رواية وحدها شجرة الرمان الفصل الثالث 3 صدر لاول مرة على موقع التواصل الاجتماعى فيسبوك رواية وحدها شجرة الرمان الفصل الثالث 3 حقق تفاعل كبير على الفيسبوك لذلك سنعرض لكم رواية وحدها شجرة الرمان الفصل الثالث 3
رواية وحدها شجرة الرمان الفصل الثالث 3
( تنويه 18+ )
السفلى. فتحتُ فمها وبدأنا نتلاسن. قرّبت فخذيها منّي وأحسّت بانتصابي. وضعتُ يدي اليمنى على نهدها ثم حاولت أن افتح أزرار قميصها فأمسكت بيدي وأنزلتها. أبعدتني برفق دون أن تقول شيئاً، ثم مشت نحو باب كان في نهاية الممر فتبعتها. كانت غرفة نومها واسعة ومفروشة بسجّادة إيرانية جميلة وجدرانها مطليّة
بالأبيض. في الجانب الأيمن منها سرير متوسط الحجم أغطيته بيضاء وعلى الحائط فوقه صورة فوتوغرافية كبيرة بالأبيض والأسود مؤطرة بإطار معدني لطاولة عليها كتاب مغلق وبجنبه قدح قهوة فارغ في مقهى يبدو أنّه في مدينة أوربيّة. في الجانب الأيسر كان
هناك مرآة كبيرة وأمامها طاولة وكرسي وبجانبها خزانة ثياب من الخشب الصاج. وقفت عند السرير واستدارت نحوي. كانت ترتدي قميصاً أبيض بأزرار وتنّورة رماديّة تصل إلى ركبتها مع حذاء أسود. اقتربتُ منها وقبلتها بثقة أكبر هذه المرة. طوّقتني بذراعيها. بدأت أنك أزرار قميصها الأبيض فبدت حمّالة صدرها
البيضاء تخبّئ نهديها الممتلئين. أزحتُ القميص كي أقبّل كتفها الأيسر ثم قتلت أعلى ذراعها وأحسست بشفتيها اعلى رقبتي فسرت حرارة في عظامي. عدتُ إلى كتفها وأزحت شريط حمّالة الصدر وقبلته ثانية ثم نزلتُ بلساني نحو سفح نهدها الأيسر وشممتُ عطرها عند ملتقى النهدين. خلعتُ عنها قميصها وألقيت به على السرير. عانقتها وقبلتُ رقبتها ثانية وحاولتُ أن أحل حمّالة صدرها لكنّني فشلت. ضحكت وفتحتها هي وألقتها على الأرض وبدأت تفك أزرار قميصي وأنا أقبّل نهديها الكمثريين والثم حلمتيها المستنفرتين. نزعته عنّي فسقط على الأرض. خلعت حذاءها ففعلتُ ذات الشيء ودفعته جانباً وانحنيت لأخلع جوربت
بسرعة، فوجدت فمي قريباً من سرّتها فقبلتها. تدغدغت ضحكت وغطتها بيديها. قشّرنا بعضنا البعض قطعة قطعة حتى بقي سروالها الداخلي الأسود الذي أنزلته أنا ثم أمسكت هي به من الجانبين وأنزلته إلى قدميها. كانت عانتها حليقة. أمّا أنا فكنت ما
أزال بسروالي الأبيض، فنزعته وكنت منتصباً . لم يبق إلا السلسلة الذهبية التي تحمل اسمها والتي كانت ترتديها حول عنقها. استلقت على سريرها بالعرض. انحنيت وقبلت ركبتيها ثم تسلّقتُ فخذها الأيسر بشفتي إلى وركها ثم بطنها وسرتها مرّة أخرى لتدغدغ، فتتدغدغت وضحكت ووضعت يدها على رأسي تداعب شعري أصبحتُ فوقها. أخذتُ حلمتها اليسرى بين شفتيّ ومصصتها ودار لساني حولها عدّة مرّات ثم انتقلتُ إلى الحلمة اليمنى وكرّرتُ دوران لساني. كانت تتأوّه وتتمرّج تحتي . صعدت إلى رقبتها ثم إلى فمها من جديد. بادرت هي إلى تقبيلي هذه المرة، عضضتُ شفتها السفلى برفق وجاس فمّي داخل فمها. ثم
هبطتُ بفمي نحو نهديها وحلمتيها، ثم سرّتها وقبّلتُ ما تحتها. كانت قد فتحت فخذيها بعض الشيء، حوطتهما بذراعيّ وطبعث قبلات رقيقة على باطنيهما الناعمين فازدادت تاوهاتها قوة . تبّلتُ ما بينهما. كان طعمها كطعم البحر. ظللتُ أحرث بلساني وهي
تتموّج إلى ان فاض جسدها برجات واهات انتهت بصرخة مكتومة خمد كل شيء بعدها لدقيقة ظل فيها رأسي متكئاً على فخذها . سحبتني من يدي حتى أصبحتُ فوقها . عانقتني وقبّلتها قبل أن تطوّق ظهري بساقيها. دخلتُ فيها وأنا أنظر في عينيها الواسعتين.
ظلّ جسدي يدخل جسدها بإيقاع تسارع حتّى أحسستُ أنّني سأفيض فانسحبت وامطرت خارجه وأنا أصهل كحصان بريّ أسقطني منهكاً بجانبها. خيّم صمت لذيذ بيننا ولم نقل شيئاً عمّا حدث كأنّه شيء عادي .
أعجبتني ثقتها بنفسها والطريقة التي وقفت بها ووضعت يديها على خصرها وقالت:
يلله تريد تنحتني هسّه؟
وضعتُ يدي على راسي وقلت لها بس ما طلعت النخلة بعد .
ميخالف، نمشيلكياها؟
فوضعتُ يدي على خدها أكاد أسمع صوتها الآن وهي تغنّي لي كما كانت تحب:
وجواد جواد مسيبي/ إنئ بيت أهل الهوى/ عَجَب انتُ ما تنْسبي/ والا احلفك بموسى النبي محمّد جواد مُسَيّبي/يُمّه لزمتني الخوفة/ أخاف احجي من الطوفة/ تجي أمّك ونشوفك/ فايتُ على
قنبر علي/ محمّد جواد مُسَيَّبي. "
لو كانت هنا في بغداد لما تمكّنتُ من رؤيتها أصلاً، فهي في الخندق المعادي وبغداد التي كانت سجناً كبيراً يمكن التجول داخله بحرية، صارت الآن سجوناً متلاصقة تحرسها المليشيات، سجان يحضن سجّاناً وبأسوار كونكريتية عالية .
. كنتُ أشاهدا التلفزيون لوحدي وأقلب القنوات لكنّها كان جميعاً بلا صوت أو صورة، البياض يغطي كل شيء. البياض الصامت. ضربث التلفزيون بيدي عدة مرّات بلا جدوي. ظللتُ أقلب القنوات بحثاً عمّا قد يداوي أرقي ويسليني، فوجدتُ قناة واحدة تعمل ظهر فيها خمسة من الملثمين يقفون حول رجل يركع
على الأرض يرتدي بدلة برتقالية وعلى رأسه كيس أسود . كان أربعة منهم يمسكون بأسلحتهم وكان زعيمهم يقرأ حكم الإعدام على الأسير الراكع، توقّف الزعيم عن القراءة ونظر إليّ وقال (من الأفضل لك أن تغيّر القناة سيرعبك ما ستراه لانك لست رجلاً.. عاد إلى الورقة وبعد أن أنهى كلمته طواها ووضعها في جيبه ثم ناوله أحد الملثمين الذين كانوا يقفون خلفه سيفاً رفع الزعيم الكيس الأسود عن رأس الرجل الراكع الذي بدأ ينتحب كطفل وأمسك بشعره الأشقر . أمال رأسه إلى اليسار ورفع سيفه وهوى به عليه، فقطعه بضربة واحدة وهو يتمتم: الله أكبر، الله أكبر ." شعرتُ بالتقزز وأطفاتُ التلفزيون لكن الدم بدأ يسيل
من الشاشة ويكسو كل شيء بالأحمر.
↚
صعقتُ أمس وأنا أكشف وجه أحد الذين غسلتهم. كان
شديد الشبه بصديق عزيز لي مات قبل سنين. نفس الوجه المستطيل والخدود البارزة والانف الطويل. أما البشرة فكانت بلون القهوة وهو لون العينين. العينان مسبلتان طبعاً في محجرين بعض الشيء وفوقهما حاجبان كثيفان كانا على وشك أن يصافحا بعضهما البعض. لكنني رأيته ميتاً بين يدي مرة من قبل،
قلت في سرّي، والاسم المكتوب على الورقة كان : محسن. كانت العلامة الفارقة التي اكتسبها شبيه صديقي هذا ثقباً في وسط الجبين من جرّاء رصاصة كانت بمثابة النقطة التي أنهت سطور حياته، قال أحد الرجال الذين أحضروه إنّه صاحب محل قتل في
عملية سطو . قلت في سرّي: حمداً لله، ليس قتلاً طائفياً. لكن هل يهم الميّت كيف ولماذا يموت؟ سرقة، طمع، كره، طائفية؟ نحن، الذين لم يصلنا الدور، نظل نقلّب أمور الموت بينما الميت يموت ولا يابه . سألتهم إن كانوا من أهل السماوة فلعلّه يكون أحد أقرباء باسم؟ لكنهم قالوا إنهم من العمارة. سألني أحدهم :
وخير انشالله؟ فاجبته: ماكوشي، بس المرحوم يشبه واحد جان صديق عزيز من السماوة، وَكلت يجوز كرايبة.. فأجاب بالكليشة
المعتادة: ايخلق من الشبه أربعين . " أصبح باسم قريباً منّي , أيام الخدمة العسكريّة. بغياب الواسطة
التي يمكن أن تبقي المرء قريباً من أهله، كان مصير الجندي في سنين الخدمة العسكرية كرمية النرد. ورمتني يد العبث أو الصدفة، بعد شهرين من التدريب القاسي، في جنوب العراق. تم تكليفي بالالتحاق بوحدة عسكرية صغيرة في السماوة. بعيدا عن بغداد
وعن كل شيء عرفته في حياتي. كلفتُ بالالتحاق ببطارية صواريخ مضادة للطائرات مركزها، المؤقت، معمل اسمنت السماوة. كانت الوحدة على بعد 270 كيلومتراً جنوب بغداد، في منتصف الطريق
إلى البصرة. تستغرق الرحلة إليها حوالي ثلاث ساعات . أضحيتُ بعيداً عن كل شيء وكان هذا البعد، على عكس ما توقعت ، إيجابيًا. إلى ريم كنتُ أشتاق طبعاً ولم يكن هناك أية وسيلة للاتّصال بها. لم تكن حياة الجيش سهلة، لكن الآمر كان إنساناً طيّباً ومتساهلاً ولم تكن لدينا واجبات كثيرة. كان معمل الأسمنت قد نهب بُعيد حرب 1991 . بعد إجازتي الأولى عدتُ إلى الوحدة محمّلاً بالكتب لكي أسلي نفسي واشتريت ورق تخطيط. كان عندي راديو صغير استمع فيه إلى الأخبار والأغاني في الليل. كان هناك جهاز تلفزيون في الوحدة وكان يمكننا أن نشاهد برامج بغداد والتلفزيون الكويتي أحياناً لكن الإرسال كان ضعيفاً وكنت أفضل
الراديو. لم افتقد الكثير من بغداد لأنني أحببتُ الهدوء والطبيعة الحانية. امضيت وقت فراغي بالقراءة والتخطيط والتأمل. ومن يومها أطلق عليّ باسم صفة المثقف وبدا ينادوني استاذ جواد
أعتدتُ اكتشاف جمال النجوم في الليل. لم أكن أدرك من قبل أن السماء تحتشد بهذا العدد الهائل منها. كنتُ أحب النظر إليها في الليل حين كنا ننام على السطح في الصيف أيام الطفولة، لكن هذا ما يحدث لنا نحن أبناء المدن حين نبتعد عن بريق المدن المزيف.
فوجدتني أرعى النجوم كل ليلة. هناك تعرّفتُ عليه. لم أعرف ذلك في البداية لكنه أصبح نجمتي التي أضاءت لي ليل المكان. كان من أبناء السماوة وكان أحياناً يستأذن الآمر، الملازم أحمد، بالنزول إلى مدينته مساء
الخميس والعودة مساء الجمعة، وكان الآمر يوافق، خصوصاً أن باسم كان يجلب بعض الحاجيات التي كنا نحتاجها في الوحدة أحياناً من سكائر وشاي وسكر، وأن تموين الجيش لم يكن منتظمّاً مثل قبل. كان والده، الحاج محمد السوداني، ميسور الحال ويمتلك محلات تجارية في سوق السماوة وكان باسم قد درس
التاريخ في جامعة البصرة. وكان صاحب نكتة ومليئاً بالفضول ويحب الحياة والآخرين. تجلجل ضحكته في كل مكان. كان يشاكسني كثيراً ويسخر مني على أساس أنني ابن المدينة الكبيرة الذي لا يعرف الصحراء ولا يعرف من بلده غير العاصمة. دعاني أكثر من مرة في الأسابيع الأولى أرافقه ضيفاً ، لكنّني كنتُ أشكره وأعتذر. كرّر الدعوة أكثر من مرة وتأكدتُ من صدقه ومن أنها لم تكن مجرد مجاملة فوافقتُ، خصوصاً أنه وعدني بأن يعرّفني على السماوة وبأن نزور مدينة الوركاء الأثرية التي كانت قريبة منها. كان باسم مولعاً بتاريخ المنطقة وبطبيعتها وفخوراً بها. هو الذي دلّني على بحيره ساره. حين أخذني إليها بسيارته في أول شهر من الخدمة. كنتُ قد قرأتُ
اسمها في دروس الجغرافيا، لكن دون أن أعرف التفاصيل المثيرة والغريبة التي أخبرني عنها باسم والتي جعلتها من الأماكن المحببة إلى نفسي. ظننتُ أنّنا اتهنا لأول وهلة فلم أبصر الأزرق ولم أصدّق أن بحيرة بهذا الحجم يمكن أن تزهر في خضم هذه
الصحراء. لم أر شيئاً في الأفق، لكنه قال لي إنّه من الصعب رؤيتها عن بعد لأنها ترتفع خمسة أمتار عن كل ماحولها وإنّها محاطة بجدار كلسي طبيعي. ولم يكن هناك نهر يغذيها بل كان مصدر مياهها باطن الأرض وكانت تغذي الفرات عبر نهر العطشان الذي يصرف مياهها. قال لي باسم إنّها العين التي تفجّرت منها
المياه حين غمر الأرض الطوفان في عهد نوح ثم تراجعت المياه وما بقي منها آنذاك إلا ساوة. سألته يومها ممازحاً إن كان قد قرأ هذا في كتب التاريخ في جامعة البصرة. فقال إنّه التاريخ الشعبي وإنّني أغار لأنّ بغداد بلا بحيرات. أجبته يكفي بغداد دجلة. قال
إنّها البحيرة الوحيدة في العالم التي تتغذى كلياً على المياه الجوفية، وأضاف إنّها مذكورة في معجم البلدان للحموي وأنّ تاريخها يعود لعصر ما قبل الإسلام حيث كانت هناك مدينة إسمها أليس كانت معسكراً للفرس ودارت فيها رحى معركة بين القبائل العربية والفرس أيام الفتوحات. كما أنها مذكورة في وثائق العثمانيين وكانت أيامها قرية تقع على نهر العطشان قبل أن يغيّر
مجراه بعد فيضان كبير عام 1700! قلتُ في سرّي: حتى الأنهار تغيّر مجراها وحياتها ورأيت أنني نهر يحاول، ربما عبثاً، ألا يصبّ حيث تريد له الخارطة أن يصب.
خرج عن الطريق المعبّد باتجاه اليمين وساق على طريق مغطى بالحصى والرمل لخمس دقائق ثم أوقف السيارة وقال وهو يفتح بابها: اتعال يا مثقّف حته تشكرني لأني عرفتك على ساوة. خرجتُ ودرتُ حول السيارة ومشيتُ بجانبه، كانت الشمس على وشك السقوط في الأفق ، وقد اتّشحت بالبرتقالي
كعادتها أحياناً. بدأتُ ألحظ أن السماء قرب الافق أصبحت أكثر زرقة. بدأ الطريق الذي كنا عليه يعلو ولاح سطح البحيرة الهاديء. وقف باسم عند الحافة ووقفتُ بجانبه. عمرك شفت هيج شي: كان جمال البحيرة خلاباً ووقع زرقتها بلسماً للروح التي ، تعطش تحت قسوة الصحراء التي كانت تحيط بنا ليل نهار.
كان جرفها غريباً تغطيه تكلّسات تشبه نبات القرنابيط وتجاويف تحفرها الأملاح التي تملأ ماء البحيرة تكوّن ما يشبه سياجاً يحيط بها من كل مكان بفعل الأمواج. سألته عن الأسماك في البحيرة فقال إنّ هناك نوعاً واحداً فقط لكنه لا يؤكل. تقرنصنا ومددتُ
يدي لألمس ماء البحيرة وكان بارداً جداً . مثل هذا الماء البارد ومثل جسد هذا الرجل الذي يشبه باسم كأنه توأم. شعرتُ بالذنب فهاأنذا أغسل جسد رجل ميت وأفكاري تسرح في تجاويف ذاكرتي. هل كان أبي يفعل ذلك أيضاً أم أنه كان يركز على طقوس عمله طوال الوقت؟ هل هذا ممكن؟ هاأنذا أقوم بالطقوس
بطريقة شبه ميكانيكيّة كنّا نهرب إلى البحيرة كلما سنحت الفرصة ونجلس على ساحلها وندردش. لمحتُ ذات مرة ونحن نتجول بسيارته هياكل بناء بالقرب من البحيرة فسألته عنها. قال إنّها أطلال سياحيّة.
↚
كانت وزارة السياحة قد شيدت في أواخر الثمانينيات عدداً من الشقق السياحية ومطعماً كمحاولة لتشجيع السياحة إلى البحيرة وأصبح الموقع قبلة لسفرات، عائلية وطلابية، لكن المكان نهب 1991 واندثر بعد حرب . طلبتُ منه أن يأخذني هناك . كان المنظر حزيناً. لم يبق سوى الهياكل الكونكريتية للشقق التي كانت
قد بنيت على ارتفاع كأنها معلقة، ربما لكي يمكن النظر إلى البحيرة من داخلها. بدت كأنها هياكل عظمية لحيوانات خرافية جاثمة عند أقدام البحيرة.
كانت الطائرات الأمريكية تحوم في السماء وبالقرب من
وحدتنا طوال الوقت وكنّا نسمع عن قصف مواضع مقاومات الطائرات بعد فرض منطقة الحظر الجوي في جنوب وشمال العراق منذعام والتي كان يفترض أن تمنع من 1996 النظام قمع المواطنين لكن الطائرات الأمريكية كانت تقتل الأبرياء وحتى الرعيان أحياناً. لا أدري هل كان ذلك غباة أم أنّ الطيارين كانوا
يستخدمون العراقيين كأهداف للتمرين واللهو؟ شدّد آمرنا على ألا نأبه للطائرات وألا نحاول استفزاز العدو وألا يقفل الجنود في البطارية على الصاروخ ويعطوا للطيار ذريعة لمهاجمتهم وأن نظل دائماً في وضع دفاعي وأن نرد فقط إن هوجمنا. وهكذا مرت
كانت ذراعه اليسرى ملوية إلى الخلف بشكل غريب وبدا أنها مكسورة. ركعتُ عنده وأمسكت به من كتفيه وقلبته إلى اليسار. بدا ثقيلاً ولم يبد أي رد فعل. كانت عيناه القهوائيتان مفتوحتين تنظران إلى الأعلى. وكان الدم يسيل من أنفه ومن زاوية فمه ويغطي شاربه. ناديته ثم وضعتُ أذني على صدره لأصغي لكنّني
لم اسمع سوى أنفاسي وصراخ الآخرين. رفعت رأسي وأمسكتُ بيده ووضعت إبهام يدي اليمنى على رسغه الأيمن بحثاً عن باطن نبض، لكن دون جدوى. أسبلتُ جفنيه. تبّلت جبينه وعانقته ولا أذكر كم بقيتُ بجانبه أبكي. كان باسم واحداً من ستة جنود قضوا في ذلك اليوم. في المساء رافقتُ جثمانه في سيارة عسكرية من الوحدة وكان الآمر قد كلّفني بأن أبلّغ أهله رسمياً. لم يقل أبوه الذي كنت قد قابلته قبلها مرتين، شيئاً سوى الا حول ولا قوة إلاّ بالله، إلا أنه سألني : وخوما تعذب؟» فأجبته بالنفي مع أني لم أكن متأكدّاً من ذلك
كان بين لحظة الانفجار وعثوري عليه ست أو سبع دقائق لا أكثر . لا أحد يعرف الألم الجسدي الذي ربما كان قد كابده فيها. طلبت الإذن من الآمر بالنزول إلى السماوة لحضور اليوم الأول من مجلس العزاء ووافق
لم يتم إصلاح أو إعادة بناء البناية الجنوبية. تم تكويم الركاموكله في تلة صغيرة وظلت هي وما تبقى من هيكلها طللاً يذكرني باسم كل صباح. شعرر ية مضاعفة بعد موته لم أكن قريباً من أي من الجنود الآخرين، ولم أذهب إلى البحيرة بعد موته إلاّ مرة واحدة قبل تسريحي بأسبوع . اردت أن أودع ذكراه هناك .
وضعتُ قليلاً من القطن في الثقب الذي خلفته الرصاصة على جبهته وفي منخريه، بعد أن كنتُ قد وضعتُ الكثير منه بين فخذيه وفي مخرجه بدأتُ استعد لتكفينه.
في شتاء 2003 بدا أنّ الحرب قادمة لا محالة، مرة أخرى سألتُ أمي ابي عمّا سنفعله: «شنسوي حجّي؟ نظلّ ببغداد؟" فأجابها: (أي لعد وين نروح؟ إذا الله يريد ياخذ أمانته ياخذهه هنا. هاي مو أوّل حرب، بس إنشالله آخر وحدة. كافي عاد سألتني أنا أيضاً أكثر من مرّة وكانني أعرف الجواب : «شلون جودي؟ شراح نسوي ؟ فكنتُ أقول لها: نُكُعُد وننتظر، لكنّنا كنّا نستقبل الحروب كمّن يستضيف زائرا يعرفه تمام المعرفة فيهمئ له كل ما يمكن لتكون إقامته خفيفة ، في الأسابيع الأخيرة قبل بداية الحرب اشترينا الكثير من الشموع وكميات إضافية . من المعلّبات تحسباً لما سيحدث. وذهبت أمّى إلى النجف لأنها
أرادت أن تزور قبر أموري مرّة أخيرة قبل الموت.
تذكّرتُ كيف استعددنا لحرب 1991 وغلّفنا شباك الحمّام بالورق وبالشريط اللاصق من الخارج والداخل، كما نصحونا على التلفزيون، على أساس أن ذلك سيحمينا من هجوم كيمياوي . وتركنا ما يكفي من قناني الماء البلاستيكية داخل الحمّام لعدة
ساعات . كانت تساعدني في وضع الشريط اللاصق عندما سألتها عمّا سنفعله إذا اضطر أحدنا لأن يذهب إلى الحمّام ونحن الثلاثة فيه. فضربتني على كتفي وأغلقت عينيها متقززة من الفكرة وقالت: «شنو هاللعبان النفس هذا جودي؟ كافي!) بعد أسابيع من
القصف استيقظنا ذات صباح لنجد السماء سوداء. كان دخان آبار الكويت المحترقة يغطي السماء. سقط مطر أسود بعدها بلل كل شيء بالسخام كأنّه كان ينبئنا بما سيأتي. كان أبي يصلّي كعادته في غرفة الضيوف الصغيرة المجاورة الغرفة المعيشة ولم يكن يصلي في غرفة النوم. كان عمر الحرب عشرة أيام وكنت في صراعي المزمن مع الأرق وسمعتُ وقع أقدام
أبي بعد دقيقتين من صوت الأذان وهو ينزل الدرج من الطابق العلوي ليصلّي الفجر. سمعتُ بعدها خرير الماء في الحمام وهو يتوضًا وبعد دقائق بدأ قصف شديد ودوّى صوت انفجار هائل هز البيت وكاد يقتلعهه بعدها عم السكون لدقيقتين وأعقبه أزيز الطائرات ومزيد من القصف لكن في أماكن بعيدة. استيقظت أمي
ونادته لكنه لم يجب. صحت بصوت عال: «نزّل يصلي يُمه." ظننتُ أنه مازال يصلّي ولهذا لم يجب. لكنّني لم أسمع أي صوت حتى بعد ربع ساعه أخرى صدى ( الله أكبر ) يتردد صداها المآذن كما جرت العادة أثناء القصف قمتُ من سريري وتنزل الدرج إلى الطابق الأرضي. كان باب غرفة الضيوف ينسل إليه قليل من ضوء الشمعة الخافت مواربا في الممر. وقفتُ خارج الغرفة وتبينته راكعاً وجبينه على التربة
يقبلها، كان يحب ان يصلّي في الظلمة. حين سألته أمي مرة عن
ذلك قال لها إنّ نور الله في كل مكان. كنتُ عطشاناً فذهبتُ إلى المطبخ وشربتُ ، قليلاً من الماء من الحنفية بعد أن ملأث راحة يدي كما كان يحلو لي. مرّة أخرى الممر ووقفتُ ثانية عدتُ إلى عند باب غرفة الضيوف. كان ما يزال راكعاً. لم أسمعه يتمتم باي كلمه
كان يكره أن يقطع أحد صلاته، وكان يعلّي من صوته وهو يصلّي إذا ما نادته أمي كي يعطيها إشارة بأن تبتعد وتنتظر أن يتم صلاته. ناديته بصوت خافت، فلم أسمع أي شيء . دخلتُ إلى الغرفة وخطوت خطوتين وناديته ثانية: «يابه، امي ظل بالهه عليك. . لكنّه لم يتحرّك. أيعقل أن يكون قد نام في ذلك الوضع
وهو يصلّي؟ اقتربتُ أكثر ووضعتُ يدي برفق على ظهره وسألته بخير، فلم يتحرّك. استدرتُ وعدتُ وأشعلتُ ضوء الغرفة من الزر الذي كان على الجدار بجانب الباب، فلم يشتعل. فتذكّرتُ أنّ الكهرباء كانت مقطوعة. ذهبتُ إلى الممر وأخذتُ الشمعة التي كانت على صحن على حافة إحدى الدرجات . ذهب؟
وركعتُ بجانبه. وضعتُ الصحن والشمعة على الطاولة. وضعتُ يديّ على كتفيه منادياً : لايابه، شبيك يابه؟» حاولتُ إنهاضه فبدا كتلة هامدة. ثم مال جسده نحو اليسار واستقر على جانبه الأيسر. كانت عيناه مغمضتين. أسرعتُ إلى المطبخ وجئت بقنينة ماء من الثلاجة ورششتُ بعض الماء على وجهه علّه يستيقظ، لكن بلا جدوى. وضعتُ أذني على موضع قلبه فلم أسمع أي شيء. سمعتُ خطوات أمي تنزل الدرج مسرعة وصاحت بصوت
عال: وين الحجّي؟ ثم وقفتُ مشدوهة بباب الغرفة وبيدها شمعه حين رأتني جاثياً بجانبه، أناديه وهو في تلك السجدة الأزلية
↚
الأخيرة أو كجنين في رحم أمه، لكن مستلقياً على الجانب الأيسر من جسده. سقطت الشمعة من يدها وبدأت تلطم وتصرخ
(يبوووو) " كانت قد عرفت انه لن يستيقظ أبداً وأنّ قلبه الواهن تعب من رحلته الطويلة ومن كل هذا القصف، كما قال تقرير الطبيب
العدلي فيما بعد. ركعت هي الأخرى بالقرب منّا تولول وهي
تأخذ وجهه بين كفيها وتناديه وكأنه يسمعها. ثم أخذت تقبّل جبينه ثم يديه وتقول: لا تروح حجي. لا تخلّيني لوحدي. لا تروح الله يخليك، حجي. سوده عليّه.
داهمني شعور حزين بانني لم أعرف أبي حقاً. لماذا كنتُ
أكذب حين كان يسألني البعض عن مهنته فاقول صاحب محل
فقط؟ هل كنتُ أشعر بالعار أو الخجل؟ ظلّت أني تردد بعد وفاته
إنّ الله يحبه وإنّه أخذه وهو قريب منه يصلّي له. كان قد حج إلى مكة قبل ، ثلاث سنوات كي يضمن أنه سيكون مع أموري في الجنّة وكان يريد أن يدفن إلى جانبه في النجف كما كان يردّد. قال لي حين أعلمته بقراري في المضي في طريق الفن وعدم رغبتي في أن أرث مهنته: "منو يغسّلني لعد؟ الحت أمي بأن أكون أنا الذي يغسل جثمان أبي. كانت تظن أنها ستكون
المصالحة التي كان يجب أن تتم معه وهو على قيد الحياة: ترتاح روحه إذا غسّلته إنت إبني. فدوه لعينك. الله يخليك . كيف كان يمكن أن أقول لها إنّني لست متأكداً من وجود شيء إسمه الروح أصلاً. كان عندي شعور خفي بالذنب أيضاً وبأننّي خيبتُ آماله بهجري مهنة الأجداد وفشلي في مسعاي. رفضتُ بشكل قاطع وقلت لها إنني لا أستطيع. غسله حمّودي الذي كان بمثابة ابن
ثالث له والذي أجهش حين أخبرته بوفاته في صباح اليوم التالي .
بعد اصدار شهادة الوفاة من الطب العدلي أخذناه إلى
المغيسل. كانت بغداد حزينة وشوارعها مقفرة . كانت المفاتيح مع
حمّودي. فتحنا الباب الرئيسي ودخلنا ووضعنا جثمانه . على الدكة
سوية، لكنّني قلت له إنّني سأنتظر في الخارج وطلبت منه أن
يناديني حين يحتاجني. استغرب حمّودي وسألني : متريد تظلّ؟
فهززت رأسي بالنفي وقلت له: (ما أكدر . "
كان المغيسل معتماً كقبر كبير ما عدا بصيص من النور كان
يدخل من الشباك الصغير. خرجتُ إلى الحديقة الصغيرة الخلفية
وتقرفصتُ أمام شجرة الرمان التي كان أبي يحبها كثيراً والتي
شربت مياه الموت لعقود. وها هي الآن تستعد لشرب الماء
المنساب من جسده هو عبر المجرى الذي يمتد من الحفيرة التي
تحيط بالدكّة، غريبان كنّا ولم أدرك هذا حتى الآن. كانت أزهار
الرّمان ذات الحمرة القانية قد بدأت تتفت. . في صغري كنت آكل
ثمار هذه الشجرة حين يقطفها أبي ويعود بها إلي بيتنا بنهم. لكنّني
توقفت عن ذلك بعد أن أدركت بأنها تشرب من مياه الموت
سمعتُ صوت الماء يدلق في الداخل وبعد ثوان بدت طلائعه في
الساقية التي تصب عند جذع الشجرة.
كان الأمريكان قد احتلّوا النجف كما سمعتُ على الراديو
الليلة الماضية ، فكّرتُ بمصاعب الطريق والمخاطر التي سنلاقيها ،
ناداني حمّودي بعد أكثر من أربعين دقيقة، فدخلتُ إلى المغيسل.
فاحت رائحة الكافور الذي كان ينثره على الكفن الذي كان قد
غطى جسد أبي بأكمله ولم يبق إلا الوجه. طلب منّي حمّودي أن
نحمله إلى التابوت الذي كان قد هيّاه ووضعه على الأرض على
مبعدة ثلاثة أمتار ففعلت. بعدها ذهب حمّودي إلى أحد الدواليب
وجاء منه بواحدة من الأكفان التي يُكْتَبُ عليها دعاء الجوشن
الصغير والكبير ووضعه على صدر أبي تحت حنكه. ثم خرج إلى
الحديقة الخلفية وسمعتُ صوت أغصان تُكسّر، عاد بغصن من
شجرة الرمان كسره إلى قطعتين ووضعهما بجانب الذراعين داخل
التابوت. تذكرتُ كيف كنت قد سألتُ أبي عن سبب وضع جريدة
النخل أو الرمّان مع الميّت فقال إنّها ترفع عن الميت عذاب القبر
وردّد يومها آية من القرآن: وفيهما فاكهة وخلُ ورُمّان) .
لم يتمكن الأقارب من مرافقة النعش. كانت العادة تقتضي
الإسراع بالدفن وكانت الحرب والقصف قد صعبا إبلاغ الأتارب
فالهواتف ميّتة. وحتّى لو علموا فإن المخاطرة الكبرى بركوب
السيارة على طريق النجف والحرب مستعرّة كانت ستثنيهم
وستكون عذراً مقبولا يخلصهم من العتب والزعل. فمجنون من
يريد أن يكون في سيارة والطائرات تحوم في السماء وتلقي حممها
على كل ما يتحرك . لذلك لم يرافق تابوت أبي في رحلته الأخيرة
سوى حمّودي، الذي كان يسوق سيارة أخيه، وابو ليث، جارنا
الذي كانت تربطه صداقة بأبي والذي أصرّ على أن يرافقنا، وأنا
طبعاً. حمّلنا التابوت فوق المشبك الحديدي وربطناه بالحبال
بإحكام. كانت الرحلة إلى النجف تستغرق عادة حوالي ساعتين .
كانت شوارع بغداد شبه فارغة ذلك الصباح إلا من بضع سيارات
انت تهرب مسرعة، اخترقت طوابير من الدخان الأسود السماء
الصافية في أكثر من مكان. جلستُ في المقعد الخلفي. لم نتبادل
أية أحاديث. كان الراديو مثقلاً بالأغاني الحماسية، تحدّثت نشرة
الأخبار عن القصف المستمر وعن معارك في البصرة والناصرية
وعن وصول الأمريكان إلى أطراف النجف لكنّ الناطق العسكري
أكّد أن «جنودنا الأشاوس والأبطال من فدائيي صدّام كانوا يكبدون
العدو خسائر ثقيلة وبأن النصر حليفنا لا محالة في أم الحواسم
وبأنّ العدو سيهزم على أسوار بغداد." فعلّق أبو ليث قائلاً: انظل
ننتصر ونرجع ليوره
كان الطريق مقفراً إلا من سيارة مسرعة كل عشر دقائق وغالباً
على الجانب الثانى باتجاه بغداد. عند حدود الحلّة أوقفتنا
مجموعة من الرجال المسلّحين باللباس المدني بدا أنهم من فدائي
صدّام . اقترب أحدهم من حمّودي يسأله عن وجهتنا وعندما قال
له إنّنا نحمل نعشاً إلى النجف، قال : ما راح تكدرون تدخلون.
عالكة. الطريق كله خطر. قال له حمّودي: الازم ندفنه
بالنجف . ) فقال : ابكيفكم والله وياكم." ثم ضرب سقف السيارة
براحة يده
قبل النجف بنصف ساعة رأينا من بعيد طلائع فوج أمريكيّ
يتجه نحو بغداد. ابطا حمّودي السيارة وخرج قليلاً عن الطريق
المعبّد إلى كتفه الترابي، نصحه أبو ليث بأن يوقف السيارة فاوقفها
وأطفأ المحرّك وقال: «الله يستر.
توقف الفوج باستثناء عجلة همفي ظلت تقترب. عندما
أصبحت على بعد مئة متر أبطأت وكان على قمتها جندي يوجّه
مدفعه الرشّاش نحونا. سأل حمّودي بشيء من الخوف: شنسوي
هسه؟، قلت له: «إذا نتحرّك يضربونا. منسوي شي. ننتظر.
↚
اقتربت الهمفي ببطء وبدت كأنها حيوان خرافي يفكر بافتراسنا.
خيم الصمت وكان هناك أزيز طائرات بعيدة ، عندما أصبحت
الهمفي على بعد ثلاثين أو أربعين متراً توقّفت وأخذ الجندي الذي
كان على قمتها يصرخ عدة مرات : اكيت آوت أوف ذا كار ناوا
سأل حمودي : شديكول؟) فقلت له: يريدنا نطلع
من السيّارة. فتحنا الأبواب وخرجنا من السيارة ببطء دون أن نقفل
أبوابها. وقفنا أنا وأبو ليث إلى يمين السيّارة ودار حمّودي حولها
ووقف أمامنا. ثم صرخ الجندي : يور هاندز أب ناوا بود
يور هاندز أب ناو!) رفعت يديّ وقلت لهما: شيلو إيديكم."
صرح الجندي ثانية وهو يشير بيده إلى أن نبتعد عن السيّارة :
استيب أوي فروم ذا كار!)
نفهم أبو ليث فقال: «خلّي نوخر من السيارة. ، فابتعدنا أكثر
عنها وأيادينا ما تزال مرفوعة. خرج ثلاثة جنود من الهمفي وبدأوا
بالركض نحونا وهم يصرخون ويشيرون بايديهم إلى الأسفل :
داون، داون، غيت داون أون ذا كراوندا انحنينا وركعنا على
التراب. توجّه إثنان منهما نحونا موجّهين مواسير رشّاشاتهم نحو
رؤوسنا ووقفا على بعد حوالي خمسة أمتار . أمّا الثالث فذهب
يحوم حول السيارة ويتفخصها. صرخ احدهم وهو يشير إلى
التابوت: اواتس أون ذا كار؟» فأجابه حمودي : (اديد مان، فور
نجف." وتداخل جوابي مع ما قاله حمّودي فكرّر
ارت : ماي فاذر.
ديد. ديدمان . أزال الجندي الثالث غطاء التابوت برشاشته
وصعد من باب السائق لينظر ثم صرخ: "إتس أفين كوفن . كلير .
كلير .. نزل الثالث ثم أخذ يدور حول السيارة وينظر تحتها ثم جاء نحونا من الخلف . صرخ أحد الجنديين: ادونت موث!، فتشنا
الجندي الثالث واحداً بعد الآخر وماسورتي الجنديين الآخرين
موجهة نحونا، بعد ان فتش الجندي الثالث حمودي هز المفاتيح
أمام وجهه فخرخشت وصرخ به وأشار إلى صندوق السيارة: يوا
أوبن ذا ترنك. قلتُ لحمّودي: يريدك تفتح الصندوى . فصرخ
أحد الجنديين بي : قت أبا نهض حمّودي ببطء واتجه إلى
الصندوق الخلفى وفتحه ورشاشة الجندي الثالث تتبعه. أمره
الجندي أن يعود إلى موضعه كو باك . ففعل وركع
: من جديد
فتش الجندي الثالث صندوق السيارة وقلّب بعض ما فيه، فلم يجد
شيئاً وصرخ: «آل كلير، لَنْس يُت آوت اوف هير . ) اقتربت
الهمفي ثم خرجت عن الشارع ووقفت امام سيارتنا وماسورة
الجندي الذي على قمتها مصوبة نحونا. ركب الجندي الثالث
وتراجع الجندان نحوها مبقيين ماسورتيهما مصوبتين نحونا أيضاً
ثم ركبا. ظلّت الهمفي واقفة وبدأ الفوج يمر بسرعة وبعد أن مرّت
آخر عجلة فيه تحركت الهمفي التى كانت تراقبنا والتحقت به
بسرعة مخلفة وراءها زوبعة من التراب.
وقفنا وأخذنا ننفض التراب عن ملابسنا. أدركتُ بأنّنا نجونا
من موت محقق ، وأنّ أقلّ حركة كانت ستعني زخة رصاص تنهي
كل شيء. قال حمودي : الله خلصنه. جان رِحنَه بيهه ، فوافقه
أبو ليث الذي مازحني قائلاً: «هاي شنو إنكليزيتك؟ ماشالله بلبل.
لازم تشتغل مترجم واهم. فقلتُ له: هي كلها جم جملة من
الأفلام والتلفزيون. . قال حمودي ونحن نتحرّك من جديد:
هذولة المحرّرين راح يبهدلونه.
لم نتعرّض المشاكل بعدها وبعد ساعة أنزلنا جثمان ابي في
المقبرة ووضعناه بالقرب من ابنه المفضل أموري. نزل الدفان
حافياً حاسر الرأس إلى القبر وقال وهو يطأ القبر بصوت عال:
اللهم اجعلها روضة من رياض الجنّة، ولا تجعلها حفرة من حفر
النار. " . ثم أضاف: بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة
رسول الله، اللهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك هذا ما وعدنا الله
ورسوله وصدق الله ورسوله اللهم زدنا إيماناً وتسليماً. تعاونًا
على حمل أبي وأنزلناه فحمله ووضعه في القبر وأضجعه على
جانبه الأيمن كي يستقبل القبلة بوجهه، ثم حل عقد الكفن ووضع
خد أبى على التراب وقال: اللهم عبدك وابن عبدك وابن أمتك
بك وأنت خير منزول به . اللهم افسح له في قبره ولقنه حجته
وألحقه بنبيه و قه شرّ منكر ونكير .) ثم وضع يده اليمنى تحت
منكب أبي الأيمن واليسرى على منكبه الأيسر وهنّه قائلاً :
يا كاظم بن حسن، الله ربك ومحمد نبيك والإسلام دينك
وعليّ وليك وإمامك . ثم سمى الأئمة كلهم «هدى ""
دائمة أبرار .
بدأ يهيل التراب، عليه واختفى شيئاً فشيئاً تحته. أجهش
حمودي بالبكاء وغطى عينيه بيديه. أيقظت دموعه حزني الكامن
فهطلت دموعي أنا أيضاً. بعد التراب بدا الدفان يضع الطين .
عندها قال بعد الشهادة والتكبير : «اللهم عبدك وابن عبدك
المصلّى
وابن أمتك ونزل بك وأنت خير منزول به . اللهم إنّا لا نعلم منه
الا خيراً وأنت أعلم به منّا، اللهم إن كان محسناً فزد فى إحسانه
وإن كان مسيئاً فتجاوز عنه واغفر له. اللهم اجعله عندك في أعلى
عليّين واخلف على أهله في الغابرين، وارحمه برحمتك يا ارحم
الراحمين. الله أكبر. اللهم ارح غربته ول وحدته وانس
وحشته وآمن روعته وأسكن إليه من رحمتك يستغني بها عن
رحمة
رحمة من سواك واحشره مع من كان يتولاه.) ثم بدأنا نهيل التراب
عليه وردّدنا مع المصلّي : إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم جاف
الأرض عن جنبيه واصعد إليك بروحه ولقه منك رضواناً وسكن
قبره من رحمتك ما تغنيه به عن رحمة سواك. إيماناً بك وتصديقاً
ببعثك، هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله، اللهم
زدنا إيماناً وتسليماً.
عانقني حمّودي وقتلني معرّيّاً فعرّيته وقلت له: إنت جنت
مثل ابنه . ) ثم عانقنا أبا ليث وقال لي : راح وارتاح. جان خوش
رجال .
اضطررنا للنوم في النجف وفي اليوم التالي قيل لنا أن نرفع
راية بيضاء على السيارة ففعلنا. عندما اقتربنا من بغداد من جهة
الجنوب مرنا بما يشبه مقبرة للعجلات والدبابات المحترقة
والمدمّرة على جانبي الطريق قرب معسكر الرشيد. وكان البعض
يحفرون القبور ويدفنون الجثث المتروكة.
↚
بعد سقوط بغداد ودخول الامريكان عمت الفوضى وساد
الهياج لأيّام. كانت الكهرباء مقطوعة فلم نشاهد شيئاً على
التلفزيون الذي كان جاثماً وشاشته عمياء لا ترى شيئاً ممّا يحدث.
لكن نشرات الأخبار على الراديو كانت تتحدّث عن نهب الكثير من
الممتلكات العامة والوزارات والمكتبة الوطنية والمتحف وعن
اختفاء صدّام عن الأنظار. كانت الحكومة قد أطلقت سراح
الآلاف من المجرمين واللصوص قبل أسابيع من بداية الحرب،
لكنّني استغربتُ بان الأمريكان لم يحموا المنشآت العامة كما
يفترض حتى بالمحتلّين .
خرجتُ لأستنشق بعض الهواء النقي، فرايت جارنا ابو ليث.
تبادلنا التحيّة ثم سألني :
مو إنت جنتْ بالأكاديميّة مال فنون؟
- إي، ليش؟
قصفوهه الامريكان ؟
الأكاديميّة؟ معقولة؟ شنو السالفة؟
- والله ما ادري. هيج سمعت.
استغربت ان تكون الأكاديميّة هدفاً استراتيجيّاً. قرّرتُ أن
أذهب لأتأكد من الأمر بنفسي. ارتديث ملابسي على عجل.
حاولت امي ان تقنعني بالبقاء في البيت لخوفها من خطورة
الأوضاع، مع العلم أن الأيام الأخيرة كانت هادئة، لكنني لم
أرضخ لطلبها وقلتُ لها يجب أن أذهب إلى الأكاديمية ولن أتعطل
أكثر من ساعتين. طلبت مني أن أتوخّى الحذر وودّعتني بدعواتها
لي بالسلامة. ركبتُ سيّارة كيّا إلى باب المعظم. كانت تلال
الأزبال قد تكوّمت في الشوارع تاركة رائحة نتنة. إشارات المرور
لا تعمل والسؤاق يتفاوضون بالإشارت، لكن لم يكن هناك
ازدحام شديد. عندما اقتربنا من جسر الصرافية مال السائق بسيارته
إلى يسار الشارع وأبطأ السير كبقة السيارات. نظرتُ إلى الخلف
فرايت مجموعة من ناقلات الجنود الامريكيه تسرع نحو الجسر
لتعبر إلى الرصافة، كان الجندي الواقف على قمة آخر واحدة منها
يرتدي نظارات سوداء ويوجّه ماسورة رشاشته نحونا ومستعد
للإطلاق. تبرّم السائق بالمنظر وقال: اشدعوة عيني؟ على
كيفك! فقال رجل مسنّ كان يجلس خلفي بصوت عال: (راح
التلميذ وإجه الأستاذ، راح التلميذ وإجه الأستاذ!، لم أنهم أبعاد
الجملة كاملة يومها، لكنّ عبقريّتها زادتها أهميّة بمرور الوقت
وتسارع الأحداث وتكدّس المآسي على صدورنا. فوجدتني
أردّدها مع نفسي كثيراً كلما صفعتنا الأحداث .
كانت جداريّة صدام في باب المعظم قد لطخت بالصبغ
فغابت تقاطيع وجهه ولم يبق سوى جزء من شاربه ونصف
ابتسامة. تساءلتُ: ترى أين هو الآن؟ ولكن هل يهم ذلك؟
بالرغم من تخرجي منذ سنين طويلة إلا انني بقيت اتردد على
الأكاديميّة للالتقاء بريم طوال سنين دراستها العليا وبعد أن
أصبحتُ معيدة. كما ظللتُ ألتقي بالأستاذ عصام في الأكاديمية
حتى بعد رحيل ريم المفاجيء. عندما اقتربتُ من بنايتها ذلك
الصباح شاهدتُ جزءاً من جدار قسم الفنون السمعية والمرئية
مهدّماً. عبرتُ الشارع واقترب . كانت البوابة الحديدية مفتوحة
وبناية الإدارة سالمة، رأيتُ الفرّاش "أبو سمير ) يجلس على الدكّة
يدخن سيجارة كعادته . ألقيتُ عليه التحية وذكرته باسمي . سألته
عن قسم السمعية والمرئية فقال :
قصفوه الأمريكان بصاروخ.
شوكت؟
إجت الصحافه وبثت خطاب من الاستديو وبعد ساعة
انضربت البناية
وماصار
شي بالبنايات الباقية؟
لا، بس حركو المكتبة، والإيركندشنات كلهه انباكت من
الأقساء
منو باكه؟ منو حرك المكتبة؟
والله ما أدري يا إبني. محد يدري. آني من القصف ما
كدّرت أجي. صعبة، بس من إجيت أول مرّة شفتهه على
هالحالة، الغرف جان بيهه أقفال والأقفال ما مكسورة، يعني اللي
باكه معروف. بس خلف الله عليهم، أكو طلاب صارلهم جم يوم
ديجون ينظفون ويشيلون الحجار ويرتبون البنايات.
أكو أحد من الأساتذة؟
لا اليوم ماكو أحد.
عن إذنك، اروح اشوف جوة.
إي إي. تفضّل.
مشيتُ إلى المكتبة، كان الباب الخارجي الحديدي مخلوعاً
وجاثماً على بعد أمتار وقد تناثرت الأحجار وقطع المعدن حوله.
وقفتُ عند عتبة المدخل الرئيسي واخترقت أنفي رائحة غريبة.
شاهدتُ المكتب الذي كانت تجلس عليه أمينة المكتبة في مكانه
لكن كرسيها كان قد اختفى. كانت أغلب قطع الجدار الخلفي،
والذي كان من الزجاج السميك الملوّن بالزخارف، قد تقعرت
بفعل الحرارة وذاب بعضها فتغيّر شكله. أتما السقف فاصطبغ
بالسخام. خطوث خطوتين إلى الداخل واتجهتُ إلى اليسار حيث
كانت رفوف الكتب ناحسستُ بنار تكوي ضلوعي عندما رايت
تلالاً من الرماد تجثم في كل مكان. تذكّرتُ الساعات التي كنتُ
أقضيها في القراءة هنا. وفي تصفح الكتب الفنيّة ذات الورق
الصقيل منبهراً بأعمال ديغا وكاندنسكي وميرو وموديلياني وشاغال
وبيكون ومونيه وبيكاسو وصور تماثيل رودان وهنري مور
وجياكوميتي. حبيبي جياكوميتي. تذكرتُ كيف اغتنمت، ذات
ظهيرة بطيئة، عدم وجود أي طالب، لأطبع قبلة مفاجئة على
شفتي ريم عندما كنّا ندرس سويّة . وكيف فوجئت هي لكنّها
استجابت بلسانها لثلاث دقائق ظنتها دامت ثلاث سنوات، قبل أن
تدفعني وتقول لي : ولك !
ترى هل صارت أطروحتها عن آرتو ومسرح القسوة رماداً هي
الأخرى؟ وقفتُ العشر دقائق أجول بصري ثم خرجتُ ومشيتُ
باتجاه قسم السمعية والمرئيّة، مررتُ بالمصطبة التي كنا نجلس
عليها. كان يجلس عليها شابّان، ألقيت التحية عليهما فرا بود.
طالعني وجه بيكاسو الذي كان مرسوماً على جدار قسم الفنون
التشكيلية إلى اليمين. لكن تقاطيعه بدت أكثر قسوة ذلك اليوم كأنّه
غاضب مما حدث .
" ..
كان الجدار الأمامي لقسم السمعية والمرئيّة قد انهار كليّاً بفعل
القصف وتكومت أنقاضه أمام البناية منطيّة واجهة الطابق الأول.
تسلّقتُ الأكوام بصعوبة ووصلت إلى علاّ يسمح لي بأن أطلّ على
داخل البناية التي بدت كأنها جثة سلخ جلدها من جهة ثم احرقت
تجاويفها وتركت بعض أضلاعها بارزة. كان الأستديو قد تفخم
كلاً وانهار سقفه وأرضيته. أما القاعة المجاورة له فتناثرت على
أرضها بكرات عشرات الأفلام المحترقة. قفزتُ فوق الأنقاض
واتجهت نحو اليسار فبانت قاعة السينما. كانت أرضيّتها قد
احترقت وتناثرت عليها أجزاء من السقف المنهار وقطع الزجاج
المكسور الذي كان يلمع تحت الشمس. بينما اسودّت مقاعدها
الخاوية وحيطانها التي كانت قد شهدت الكثير قبل أن يعميها
السواد .
نزلتُ عن تل الأنقاض وأحسستُ بالركام الذي أحمله في
دواخلي يزداد ارتفاعاً ليخنق قلبي. مرّرتُ بقسم الفنون التشكيلية .
كانت بنايته سالمة باستثناء الشبابيك التي تهشمت والمكيّفات التي
نزعت من هياكلها الحديدية. قبل أن أخرج ودّعت الفرّاش وطلبت
منه أن يبلغ الأستاذ عصام بانني سألتُ عنه .
كنتُ أقف إلى جانب الدكه، لكنها لم تكن في المغيسل، بل
في مكان آخر لا أعرفه بلا نوافذ وبسقف عال وبأضواء نيون،
بعضها يرمش . كانت الدكة طويلة جداً تمتد لعشرات الأمتار
وعليها حزام أبيض متحرّك اصطفّت عليه الجثث. وكان الحزام
يدور باتجاه اليمين وينتهي عند فتحة كبيرة تؤدي إلى الخارج حيث
وقف رجال يرتدون بزات عمل زرقاء وقفًازات طبيّة وكانوا يرفعون
الجثث ويلقون بها في شاحنة كبيرة. عشرات الصنابير تمتد من
الجدران وتحتها طشوت خاوية وبها طاسات. سمعت صوتاً
يصرخ: لماذا تنتظر نظرتُ الصوت فرأيتُ أبي يجلس في
؟» نحو
الزاوية على كرسي ومسبحته بيده . تكرر السؤال: لماذا تنتظر؟ »
لكنّه كان يجيء من اتجاه آخر. التفتُ فرايت أبى في الزاوية
الأخرى أيضاً، وفي الثالثة والرابعة؟ هرعت إلى أقرب صنبور
لأنتحه لكن لم يكن هناك ماء. ، وتكرر الأمر مع كل الصنابير.
نظرتُ إلى الزاوية بحثاً عن أبي لكنه كان قد اختفى منها ومن
الثلاث الأخرى، لكن الجثث ظلّت تسير نحو الفتحة .
كانت بداية العطلة الصيفية في السنة الأولى من دراستي في
الأكاديمية النقطة المفصلية في مواجهتي مع أبي وإعلاني جهراً أنّ
مجراي سيختلف. كنتُ قد اقتنعمتُ بشكل نهائي أثناء تلك السنة
الدراسة بانني يجب أن أركّز كل جهودي المستقبلية على الفن،
وألا أعود إلى جو المغيسل الخانق مهما كلف الأمر . كنتُ قد
سمعتُ من أحد زملائي عن إمكانية العمل في صبغ البيوت باجر
جيّد وكان ذلك سيمكنني من شراء المستلزمات والمواد وحتى
المساعدة في مصاريف البيت قليلاً. كان الاتفاق بيني وبين أبي
حتى ذاك الوقت هو الآ أعمل معه في أيام الدراسة لكي أركّز
عليها بشكل كامل، على أن أكون معه أثناء العطلة. بعد أسبوع من
الامتحانات النهائية وبداية العطلة سألني بعد عودته ذات مساء من
العمل وكنتُ أشاهد التلفزيون: ايلله شوكت تبرّش ، بالمحل؟ ما
كافي عطلة؟» فأجبته انّني كنتُ أريد أن أتحدّث معه عن
الموضوع. وقف بباب غرفة المعيشة وكانت مسبحته بيده وقال :
ا
خير إن شالله؟
أكو واحد من أصدقائي أبوه مقاول صبغ بيوت وعنده شغل
هالصيف ويدفع نين.
عبس وجهه ونظر إلى الأرض ثم سمّر. عينيه عليّ وقال:
هاي تُلك بيهه؟ مو شغلك ويّاه موجود؟
وُلِت اروح اجرب شجم يوم وياه .
أر
- وتُمُعَزّقك بهالشغلة؟
ماينرادِلُهه هواية يابه. هو راح يعلّمني.
بدت خيبة الأمل واضحة على وجهه :
- هاي تالته؟ تصير صبّاغ؟ وآني أريد واحد يساعدني
ويشيل الحمل عنّي بعد كل هالسنين .
يابه هاي شغلة للصيف بس وراح أساعد بمصاريف البيت.
فكرّر (صبّاغ ثانية كأنها عار أو كأنها ستكون مهنتي الأزلية .
.؟ شغلة شريفة.
ليش شغلتنا موشريفةما بعينكابويه وجد
م خابقة ؟ وجدي
جدّي اشتغلوها. وهه إنت تريد ترقى عليناء خلف الله عليك .
دخل إلى الممر في طريقه إلى الدرج. كان الحوار قد وصل
أسماع أنّ
امي نجاءت من المطبخ تستعلم. فقال لها وهو يرتقي
الدرج: برئندي يريد يصير صبّاغ ولايشتغل شغلتني .
فسألتني :
صدى هالحجي جودي؟
إى صدى
ليش هيجي إبني؟ مو أبوك يريدك رَيّاه؟
شنو عيب الواحد يشتغل صبّاغ؟
شكو بيهه يعني
↚
- أكو واحد من اصدقائي ابوه مقاول صبغ بيوت وعنده شغل هالصيف ويدفع زين.
عبس وجهه ونظر إلى الأرض ثم سمّر عينيه علي وقال :
- هاي شلك بيهه؟ مو شغلك ويايه موجود؟
- قُلت اروح اجرب شجم يوم ويّاه .
- وشمعَرَفَك بهالشغلة؟
- ماينرادلهه هواية يابه. هو راح يعلمني.
بدت خيبة الأمل واضحة على وجهه :
- هاي تاليتهه؟ تصير صباغ؟ وآني أريد واحد يساعدني
ويشيل الحمل عني بعد كل هالسنين.
- بابه هاي شغلة للصيف بس وراح اساعد بمصاريف البيت.
فكرّر (صباغ» ثانية كأنها عار او كأنها ستكون مهنتي الأزلية .
- شكو بيهه يعني؟ شغلة شريفة.
- ليش شغلتنا موشريفة؟ ما خاشة بعينك؟ أبويه وجدّي وجد جدي اشتغلوها. وهسه إنت تريد تترقى علينا؟ خلف الله عليك. دخل إلى الممر في طريقه إلى الدرج. كان الحوار قد وصل أسماع أتي فجاءت من المطبخ تستعلم. فقال لها وهو يرتقي الدرج: «إنني يريد يصير صباغ ولايشتغل شغلتي .)
فسألتني:
- صدك هالحجي جودي؟
- إي صدك.
- ليش هيجي إبني؟ مو ابوك بريدك وَيَاه؟
- شنو عيب الواحد يشتغل صباغ؟
قمت من الكرسي وأطفاء جهاز التلفزيون وخرجتُ أتمشى الأتفادي الجو المكهرب الذي كان سيتسيد المساء بوجودي وابي في نفس الغرفة. لم أكن أتوقع أن يفرح بقراري، بالطبع، ولا أظن أنه فوجئ كليّاً. لابد أنه كان يعرف بأن هذا اليوم سياتي، فلا
يمكن ألا يكون قد لاحظ فتور الحماس الذي كان عندي في صغري. كنتُ قد سألته ذات مرة في صغري إذا كان قد فكر في أن يغلق المحل أو يبيعه بعد أن تنتهي الحرب مع إيران ويتسرّح أموري ويعمل طبيباً. فقال لي إنه لن يتقاعد أبداً وإن عمله ليس مجرّد مهنة بل تقرب إلى الله، وأني سارثها عنه كما ورثها هو عن أبيه وكما ورثها أبوه عن جده . رفض أبي أن أشارك في مصاريف البيت لكنه قطع عني المصروف. كانت أمي قد نبهتني إلى أنني يجب أن أعطي أبي أول راتب أحصل عليه وهذا ما جرت عليه العادة. فعلت ذلك، لكنه دفع يدي وقال : «إنطيه لأمك.» رفضت أمي أن تأخذ الراتب وأعادته لي. فأعطيتها خمسين ديناراً يومها كهديّة. وكنتُ أعطيها مبلغاً لابأس به كل شهر وقلت لها أن تنفقه على ما يحلو لها. لم تكن الظروف الاقتصادية جيدة لكن البيت
كان ملك ابي وبذلك كانت المصاريف الشهرية أقل عبئاً بالنسبة لنا من غيرنا. قالت أمي إنها ستدخر ما أعطيه إياها لزواجي،
فضحكت وقلتُ لها : منو كالج ناوي أتزوج؟
- يعني مو اليوم باجر، مو باجر عقبه؟
بعد عودة أموري في إجازته الدورية من الجبهة اخبرته بما حدث، فوبخني لأنني لم أنتظر عودته كي يفاتح ابي ويُقنعه بالموضوع بطريقته الخاصة أو على الأقل كي يخفف من وقع الخبر عليه. كان أموري يعرف بأني لم أعد أطيق أجواء المغيسل والجثث كما أنني صارحته بحقيقة أن أجور الصبغ هي ضعفي ما
كان ابي سيعطيني إياه . قال أموري لأبي إنه من الأفضل ألا أعمل في مهنة ليس قلبي فيها ولا ضير في الصباغة كمهنة مادامت شريفة. وذكره إنه كان يقول إن النية ضرورية وإذا لم يكن عندي
نية فكيف أعمل. كان أموري ينجح دائماً في إقناع ابي وكان أبي يستمع إلى كل ما يقوله. لكنه لم يغفر لي أبداً خروجي عن الصراط. كان الصديق، فراس، صاحب نكتة وكانت ساعات العمل، بالرغم من طولها، تمر بسرعة. كان والده يشرف على العملية
وينسق بين أصحاب البيوت وبين العمال ويزودنا بالمواد والأصباغ والتعليمات والمواصفات. لم يكن الموضوع معقداً، إلا إذا كان البيت مسكوناً ومؤثاً مما كان يقتضي حرصاً زائداً وفرش الجرائد
والنايلون ونقل الأثاث لكي لا يتلطخ، أو تتلطخ الأرضيّة، بببقع الصبغ. لكن معظم البيوت التي عملنا عليها كانت جديدة لم تطاها اقدام ساكنيها بعد. كان هناك عامل ثالث أكبر منا سنّاً واعرف
بأسرار المهنة التي لم تكن أسراراً. فهو الذي كان يخفف الأصباغ ويمزجها. كنا نبدأ بالتبييض وكشط وتسوية السطوح أو ملء الشروخ، إن وجدت، قبل أن نشرع بالصبغ. طبقة أولى، ثم طبقة ثانية . كنت استمتع بالمراحل المختلفة من العملية وبجمال وصفاء الجدران والسقوف بعد أن ننتهي منها. الجزء الوحيد الذي كنتُ أمقته هو رائحة النفط الأبيض الذي كنا نزيل به بقع الصبغ بعد الانتهاء من العمل كل يوم وننظف به الفرش والذي كانت رائحته
تخترق الأنف وتستعمر تجاويف الرأس. ربما كنث استمتعُ بالصبغ في الأصناف لأنني لم أكن أظنّ أنها ستصبح مهنتي الوحيدة وباني سأعود إلى ممارستها ثانية بعد إنهاء الخدمة العسكرية طوال سنوات الحصار لأنها كانت الوسيلة الوحيدة للحصول على دخل. تم تعييني مدرس فنية في بعقوبة وكان
الراتب لا يكفي تكاليف المواصلات الأسبوع واحد. لماذا كان بكل تلك السذاجة كي أتوههم بأنني يمكن أن أعيش من الفن أو النحت، وخصوصاً في سنين الحصار؟ كان هناك من يبيع بعض لوحاته للأجانب الذين كان عددهم قد قل لكنه لم ينعدم كليّاً،
خصوصاً الصحفيين والدبلوماسيين والناشطين الذين كانوا يزورون بغداد ويترددون على مقهى قاعة الحوار، ولبعض العراقيين
المغتربين العائدين في زيارات. لكن أغلب هؤلاء لم يكونوا مهتمين بالنحت التجريدي وكانوا يفضلون اللوحات التقليدية نسبياً والمناظر الطبيعية. وهكذا أخذ أشعر بالملل والمرارة في أواخر
التسعينيات، خصوصاً ونحن نصبغ بيوت حديثي النعمة الذين أثروا ثراء فاحشاً في سنين الحصار وبفضله. بدلاً من سطوح بيضاء ألوّنها على هواي وافرش عليها كوابيسي او فضاء تلد في حضنه مخيلتي اجسادا انا خالقها، وجدتني ولسنين طويلة لا أستخدم أكثر من لونين أو ثلاثة . ألوان
باهتة على سطوح باردة رتيبة. لا تتخللها تفاصيل أو مفاجآت، ما عدا نقطة الكهرباء ولوحة الأزرار أو التعليقة المعدنية الخاصة التعليق الثريّا. أحياناً كانت ذبابة غبية ترتطم بالسطح اللزج وتحتضر
الثوان قبل أن تموت. كنتُ أظن أن هذه الفرش الضخمة الثقيلة ذات الشعر الخشن مرحلة مؤقتة أعود بعدها إلى الفرش الصغيرة الدقيقة والأكثر نعومة وحساسية والتي أشعر معها بحميميّة . كنتُ
أحياناً أسمح لنفسي أن أسرح بخيالي عندما كنا نصبغ بيتاً جميلاً وفيه غرف بنوافذ كبيرة تطل على حدائق كبيرة، بأن أتخيل نفسي في ستوديو خاص بي أعمل على مشاريعي. وبالرغم من أحلام
اليقظة هذه وهي ضرورية لي كما هي ضرورية لملايين البشر كل يوم لتزجية الوقت، فهي المجاذيف التي تعيننا على عبور اليوم بالرغم من كل هذا، فإن أحلامي الواقعية، إن صح التعبير، لم
تكن فاحشة في نهاية الأمر. لم أكن آبه حقاً بالبيوت الكبيرة ذات الغرف المتعددة وبالسيارات والكماليات الأخرى. كنتُ سأقنع بغرفة لي وحدي مادام يمكنني أن أمارس فيها عزلتي وفتي.
↚
لم يكن ابي يتحدّث كثيراً عن عمي صبري، الذي كان يصغره بثماني سنوات. في المرات القليلة التي كان يأتي فيها ذكر الشيوعيين أو صراعاتهم مع البعثيين، كان أبي يقول: هذولة جماعة صبري . عندما كنت طفلاً كان عمي صبري يزورنا بين
الحين والآخر وينام في غرف الضيوف على الأرض. كان مرحاً وبشوشاً وكان دائماً يملأ جيوبي بالحلوى ويحب أن يلعب كرة القدم معي ومع أموري في الشارع أمام بيتنا. كان مهووساً بتشجيع نادي الزوراء وأول مرة ذهبتُ فيها إلى مباراة لكرة القدم كانت مباراة افتتاح الدوري العراقي معه. قال لي إنني ساصبح زورائياً مثله. وكان على حق إذ ورثت منه ذلك الهوس. لا أذكر لماذا لم يأتِ أموري معنا يومها. كان الجو حاراً وعندما نزلنا من السيارة التي أخذتنا إلى الملعب كانت هناك أعداد هائلة من الناس. بعد أن وقفنا في طابور طويل إشتري بطاقتي دخول كان لونهما ورديّاً ووقفنا في طابور آخر تدافعنا فيه لندخل إلى الملعب. مزق الرجل الواقف عند الباب البطاقتين من النصف. دخلنا ثم صعدنا إلى المدرجات التي كانت قد بدأت تمتلئ بالمشجعين. كان البعض منهم يغنّي ويدق الطبول. اختار هو مكاناً عاليا قرب مشجعين يحملون رايات الزوراء البيضاء. فرش عمّي الجريدة التي كان يحملها على المقاعد الكونكريتية وجلسنا بانتظار بداية المباراة . كان يرتدي نظارات شمسية سوداء لأننا جلسنا في القسم الجنوبي المكشوف من ملعب الشعب. أما القسم المقابل فكان مغطى لا تصله الشمس القويّة. كان شعره طويلاً يلمع سواده يومها. كان يرتدي قميصاً أبيض (لأنه لون الزوراء) وبنطلون جينز وحذاء رياضياً.. قبل أن تبدأ المباراة مرّ أبو السميط يحمل الصينيّة على رأسه وقطع السميط مصفوفة فوقها كأنها قطع حجر في بناء قديم. سألني عمي إن كنت أريد واحدة. هزز رأسي فاشترى واحدة لي وأخرى له. عندما خرج لاعبو الزوراء بملابسهم البيضاء من غرف التبديل التي كانت تحت الأرض إلى الملعب وقف الجميع وبدأ التصفيق والهتافات. حملني عالياً كي أتمكن من رؤية المنظر. وقف الفريق بأكمله في الدائرة الوسطية ورفع اللاعبون أياديهم ليحيّوا الجمهور في القسم المقابل، فارتفعت الهتافات . ثم استداروا وواجهوا جانبنا فازدادت حدة التصفيق. ثم انطلقوا يركضون في الساحة للإحماء ويمررون الكرات لبعضهم البعض أو يسددون على الهدف الذي وقف فيه حارس المرمى. رأيتُ جمعاً من المصورين حول لاعب أصلع يرتدي الرقم ثمانية، فسال عمي عنه، فقال: «هذا فلاح حسن بابا، أبو تيسير، ثعلب الكرة
العراقية. نجاة سمعتُ الكثير من الذين حولنا يصدرون صوتاً غريباً: «هووووه وصرخ أحدهم: جيس طيران.» وفهمت بأنهم يثبطون من عزيمة الفريق الخصم، الطيران، والذي كان لاعبوه
يرتدون الأزرق. لكنني لم افهم جيس. استفسر من عمّي فقال لي: «يعني راح يسجلون عليهم كوالة هوائية فيصيرون مثل الجيس معبي. فبدا أهتف أنا أيضاً: «جيس طيران. جيس طيران . » لكن تصفيق وهتاف مشجعي الطيران كان قويّاً هو الآخر ولا أعتقد أن أحداً منهم سمعني. وضع عمي يده على راسي وداعب شعري قائلاً: «زورائي أصيل .» كانت المباراة ندية وحافلة بالهجمات والهجمات المضادة وكاد فلاح حسن أن يسجل هدفاً إلا أن الكرة اصطدمت بالعمود . قفز عمّي ثم عاد وجلس وضرب فخذه بكفه. انتهى الشوط الأول بالتعادل وشعرتُ بالعطش أثناء الاستراحة فاشترى لي عمي قنينة
بيبسي أخرجها البائع من جردل ملئ بالثلج وفتح غطاءها وأعطاها لي. واشترى واحدة له أيضاً وضعها على خده الأيمن ثم الأيسر كي تنعشه برودتها، ففعلت ذات الشيء وتبلل وجهي. في الشوط الثاني تمكن فلاح حسن من تسجيل هدف بضربة رأس في الدقائق الأولى وطار عمّي من الفرح وحملني مرة أخرى كي أرى اللاعبين يقبلون بعضهم البعض. لكن الفرحة لم تدم وسجل الطيران هدف التعادل من ضربة جزاء فانتهت المباراة بالتعادل وباتهام الحكم بالتحيّز. قال عمي عنه إنه أعمى لأن لم ير أن مهاجم الطيران تعتر وتظاهر بأنه أسقط عمداً. صفقنا كثيراً للزوراء وظل المشجعون يهتفون «زوراء زوراء» حتى ونحن نخرج. ظل الكثير منهم بالقرب من الباب الذي يخرج منه اللاعبون بعد الاستحمام وتغيير ملابسهم كي يحبّوهم. لكننا مشينا إلى ساحة الأندلس كي نجد سيارات تعيدنا إلى الكاظميّة.
فرحتُ كثيراً بعد المباراة وأخبرتُ أمي وأبي بكل تفاصيلها وأجواء الملعب حتى عيل صبر أبي وقال: « إبني مو دوختنه؛ بالزوراء. هاي شلون ورطة؟» أخذني بعدها عمّي مرات عديدة إلى مباريات الزوراء وأخذني مرة إلى مدينة الألعاب. كانت علاقته بأبي وديّة إلا أنهما كانا أحياناً يتجادلان بحدّة في أمور لم أكن أفهمها. كنتُ في العاشرة من عمري عندما زارنا آخر مرة، كان دائماً يعانقني ويقبلني بحرارة عندما يراني وكذلك عندما يودعني. لكني لمحت تلك المرّة حزناً وغيوماً في عينيه وهو يقبلني وقال : مو تنسى عمك . أجبته: «لا ما أنساك ، بس إنت هم لا تنساني. ضحك وقبلني ثانية على جبيني. عانق الكل بحرارة وخصوصاً أبي. سالك أبي بعدها عنه فقال إنه سافر إلى بيروت. افتقدته كثيراً وكلما كنتُ أسال عن موعد عودته كانت أمي تقول: ميكدر يرجع، مشغول هناك. كنتُ أسألها عن طبيعة عمله ومتى ينتهي، فلم تكن تجيب إجابات واضحة وكانت تقول لي: إسأل أبوك .» لكن أبي كان يراوغ هو الآخر. بعد عدة أشهر كنتُ أكتب واجباتي المدرسية وكان هناك خبر في التلفزيون عن إعدام ضباط شيوعيين من الجيش، فسمعتُ أبي يقول لأمي: هذا مصير جماعة صبري. ماراح يخلون ولا واحد منهم. همزين طلع.» هوه هم كان شيوعيّاً. لكنني كنت أعرف أنه لم يكن ضابطاً. سأل أبي: بابا شنو يعني شيوعي؟» فقال لي: موشغلك هذا إبني . فسألته:| عمو صبري شيوعي. مو؟» فنهرني قائلاً: «كاني اسئلة. كتلك مو شغلك . عندما عاد أموري إلى البيت سألته عن عمي صبري وعن معنى الشيوعيّة، فقال لي إن الشيوعيين والبعثيين أعداء الداء وإن عمي صبري هرب لأنه كان مطاردة. بعد سنتين عندما ورَعَتْ علينا
استمارات الانتماء إلى حزب البعث في المدرسة المتوسطة كان يجب أن نملا الجزء المتعلق بوجود أقارب خارج القطر وكان هناك جزء آخر يطلب ذكر اسماء الأقارب المنتمين إلى الحزب
الشيوعي أو حزب الدعوة، فكتبت اسم عمّي الثلاثي : صبري حسن جاسم: شيوعي. كانت تصلنا منه رسائل في فترات متباعدة، مرّة كل سنة أوسنتين، وكان دائماً يخصني بالتحيّة بسطر خاص لي وحدي، يقول فيه: قبلاتي إلى جواد الوردة. هل ما زال على العهد الزورائي ويشجع بالنيابة عني؟ كتبتُ له رسالة وضعتها مع رسالة العائلة التي تولي أموري كتابتها. أخبرته فيها عن دراستي وعن أداء الزوراء في الدوري ونجومه الجدد وقلت له إنني أشتاق إليه وأنتظر عودته. إتصل بالهاتف مرة ليطمئننا عليه، لكن أبي استُدعى إلى الأمن العامة واستجوب لثلاث ساعات بسبب تلك المكالمة، فكتب إلى
عمّي بعدها يطلب منه الا يتصل بالهاتف. كنتُ أفكر به كثيراً خصوصاً عندما كنت أسمع في الأخبار عن الحرب الأهلية في بيروت وكنتُ أعرف بأنه هناك. بعد بيروت وصلتنا رسالتان من
قبرص، ثم سمعنا أنه ذهب إلى عدن ووصلتنا عدة رسائل عليها طوابع يمنيّة. بدا يعمل مدرساً هناك. ثم نشبت الحرب الأهليّة هناك فرحل إلى ألمانيا حيث قبلوه كلاجئ. كان يبعث لنا مساعدات بين حين وآخر في التسعينيات عندما خنقنا الحصار .
بعد وفاة الوالد بعثت له برسالة إلى آخر عنوان كان قد أعطانا إياه في برلين أخبره فيها بوفاة أخيه. أخبرته بأن خطوط الهاتف عاطلة بسبب القصف ولا نعرف متى سيتم إصلاحها، لكني طلب منه إرسال رقم هاتفه كي أحاول الإتصال به. بدلاً من الرسالة جاء هو بنفسه إلى بغداد بعد ثلاثة أشهر من وفاة أبي. كانت الكهرباء مقطوعة وكانت أمي تهز المهفه وتقول: لعد عبالّنه الأمريكان راح يصلحون الكهرباء ويرجعوهه؟ أشو عموهه علينه بالأزيد؟» كانت عبثية الموقف كله لا تفسّر إلا بعبثية مقابلة .
سمعنا طرقاً على الباب، فقلتُ لها: «يمكن هذا الكهرباء إجه، بس يريد يستأذن من قبل ما يدخل.» فضحكت من قلبها لأول مرّة منذ أسابيع. نظرتُ من الشباك فرأيتُ رجلاً أبيض الشعر
يرتدي نظارات شمسية يقف أمام الباب الخشبي وكانت هناك سيارة أجرة تنتظر في الشارع. كان مستديراً نحو الجانب الآخر
ينظر فلم أر سوى كتفه وظهره. ذهبتُ إلى الباب وقلتُ : منو؟
فقال : اصبري، صبري، إفتح . فتح الباب وكان هو، لكن السنين كانت قد صبغت شعر رأسه كله بالأبيض ولم تترك إلا بعض الرماد على فوديه وحاجبيه. صرختُ غير مصدّق : عمو
صبري؟ عانقني بقوة وهو يضحك قائلاً: «ولك جودي، صرِث أطول مني!، اغرورقت عيناي بالدموع. قبلنا بعضنا البعض سبع أو
ثماني مرات وأدمعت عيناه. أمسك بوجهي بين راحتيه كما كان يفعل قبل أكثر من عقدين وردد اسمي كأنه هو أيضاً لا يصدق.
جاءت أمي إلى الباب وقالت : لا مو معقولة. ما أصدك عيوني ! فمازحها كما كان يفعل وقال : ليش مو معقولة عيني؟، تعانقا وحمدت أمي الله على سلامته وعاتبته : ليش ما قلتلنه يا صبري
علمود نتحضرلك؟، فأجابها: شتتحضرين عيني؟ قابل آني غريب؟ جاي أشوفكم. فقالت له: «لا إنت أهل البيت، بس يعني. أنزلنا حقيبته من السيارة وأدخلناها إلى البيت وتحاسب هو مع السائق واتفق معه على أن يعود بعد ثمانية أيام في السادسة فجراً. دخلنا وأرادت أمي أن تجلسه في غرفة الضيوف فقال لها: شنو آني خطار؟ أريد أقعد وين ما تكعدون.» فجلسنا في غرفة المعيشة. سألته أمي إن كان جائعاً فقال لا ولكنه عطشان، فذهبت إلى المطبخ لتأتيه بالماء. نزع نظارته الشمسية ووضعها على الطاولة أمامه وأخرج من جيب قميصه نظارة طبية وضعها على
عينيه. قال إنه تأخر لأنه ضاع ولم يتمكن من العثور على الشارع
بسهولة : هاي شهد متغيرة بغداد!» قال إنّه حاول أن يتصل من عمّان لكن الهاتف كان ميتاً. فقلت له إنه مازال ميّتاً ينتظر البعث. فقال لي وهو يضحك: «ماكو بعث بعد. وضحكنا. وقعت عيناه
على صور أبي وأموري على الجدار، فقال لي: البقية بحياتك عيني جودي. جاءت أمي بصينية عليها قدح ماء وسراحية واعتذرت بانه قد لا يكون بارداً بما فيه الكفاية واشتكت من انقطاعات الكهرباء. كانت قد غيّرت ملابسها وارتدت فستاناً بدلاً من الدشداشة التي كانت ترتديها. شكرها وشرب الكاس بأكمله
ثم وضعه على الصينية التي وضعتها على الطاولة. عزاها هي أيضاً بوفاة أبي فبدات تبكي ثم قالت: «راح وخلاني لوحدي .. فقال لها: «هذا شلون حجي؟ شلون لوحدج؟ العوض والخير بجودي
الوردة . لم أنزعج ممّا قالته البتة، لكنها كانت لفتة طيبة من جانب عمي. سألنا عن ظروف وفاته فأسرع هي لتعيد سرد القصة التي كانت قد سردتها عشرات المرات من قبل. عندما انتهت منها قال عمي: «الله يرحمه. راح وارتاح. أهم شي إنه ما
تعب. سأله أنا عن رحلته ومتى سيعود، فقال لي ممازحاً: شنو ضجت مني بهالسرعة وتريدني أروح؟» فضحكت وقلتُ له: بالعكس، ياريتك تظل هنا وما ترجع !، فقال إنه لن يتمكن من البقاء أكثر من اسبوع فقط للأسف وعليه أن يعود إلى العمل
بعدها. سألته عن عمله فقال إنه واظب على تعلم اللغة الألمانية الأربع سنوات وبدأ يعمل في السنين الأخيرة مترجماً مع محطة التلفزيون الألمانية ناطقة بالعربية. قال إنه جاء بالطيارة من برلين، عبر فرانكفورت، إلى عمّان وبقي فيها ليلة واحدة ثم استأجر السيارة التي انطلقت من عمّان في
الرابعة صباحاً لكي يضمن السائق أن يدخل حدود العراق فجراً
وأن يكون على طريق الصحراء أثناء ساعات النهار، لأن الظلام يعني خطر السرقة من قبل العصابات والسلابة.
- دخلنا العراق الفجر وجان منظر يحرك القلب. اللي رحب
بيه ببلدي بعد كل هالسنين من الغربة والنفي جان جندي أمريكي
يلي: ولكم تر إراك. تصور!
قال إنه كان قد كتب اسمه بالعربية على خوذته: «ويليام.)
ا: فيس إز ماي كتري.) هز راسه ثم قال إنه كان ضد الحرب وإنه تظاهر ضدها مثل الملايين في ألمانيا والعالم، لكنه لم يكن يظن أن الأمريكان سيكونون بهذا الاستهتار وهذه الفوضى. فنقطة الدخول من الأردن إلى العراق كان عليها ثلاثة جنود فقط وكان
هناك موظف عراقي واحد فقط يرتدي نعلاً وملابس رياضة ويختم جوازات السفر. سأله من يقرر من يدخل ومن لا يدخل، فقال إن الضابط الأمريكي هو الذي يقرّر وأنا الذي أدمغ. الا أكو تفتيش
ولا هم يحزنون. ياهو اليريد يدخل العراق، يدخل، بكل سهولة. يعني هذا إذا نقطة الحدود هيجي، فتصور الحدود هاي كلهه شد سهلة تخترقها. أي واحد هتة ييجي من سوريا من السعودية لو
إيران ويطب . قال إنّ أحد الموظفين العراقيين على الحدود طلب منه مبلغاً وعندما سأله : ليش؟» كان رده: «ليش لا؟، لكن السائق
قال له أن يتجاهله.
قلتُ له إنّ الرشوة انتشرت بشكل فظيع أثناء سنين الحصار وصارت جزء لا يتجزأ من أي تعامل. فقال إن هذه عمليّة محو. الدكتاتورية والحصار دمرا البلد والآن تأتي مرحلة التدمير الشامل ومحو العراق كلياً ومسخه. أظهر جوازه وقال إن اسم الدولة غير
موجود بتاتاً وإن كل ما تقوله الدمغة هو دخول - مركز حدود طريبيل .، كان العراق غير موجود. فقالت أني إذا كان العراقيين أنفسهم غير حريصين على البلد ويدمروه وينهبوه فلا عتب على الغريب. قال لها إن العراقيين ما كانوا دائما بنهبون ويحرقون
الممتلكات العامة وحتى الأوربيين في غياب الشرطة والقوانين ينهبون ويدمرون. فقلت له : لكن الأوربيين لا يدمرون المتاحف والمكتبات الوطنية. فقال : صحيح، ولكن الأوربيين ما مرّوا بحصار أجاعم وأعادهم إلى الوراء مئة سنة وما كان عندهم
دكتاتور كتب اسمه على كل شيء حتى ضاع الفرق بين الممتلكات العامة وبينه . فقلتُ له: وهتلر؟ قال إن الأمريكان لم يساندوا هتلر وإنهم ساعدوا في إعمار ألمانيا بعد الحرب من خلال شيء اسمه مشروع مارشال وأن الموضوع معقد. قالت له أمي إننا لا نريد أن نمضي الوقت كله في السياسة ووجع الراس وبأنه لم يتغير من هذه الناحية حتى بعد أن غزا الشيب رأسه؟ فقال إن هذا ثلج ألمانيا
الذي لا يخرج من الشعر وليس شيباً. ضحكنا وسألته إن كان يشتهي أكلات معيّنة لم يذقها منذ سنين. فقال لها: «كل شي من إيدج حلو؟ بس الكبة أحلى.» فضحكت وضحك هو. ثم اخرج علب حلويات كان قد جاء بها من عمّان وقال: «هذي إلكم.)
قال لي إنه يريد أن يقضي معظم الوقت معنا ويريد أن يزور أختي وأولادها وان يتجول في بغداد قليلاً ويزور بعض الأماكن المحببة ويبحث عن بعض الأصدقاء القدامى. سألني إن كنا نعرف سائقاً يمكن أن نتفق معه كي نستاجر سيارته لمدة أسبوع فقلتُ له إن أحد الجيران يمتلك سيارة أجرة ويمكن أن أسأله وذكرته بمنع التجول بعد الغروب، فقال إنه يعرف ذلك. قلتُ له إنه سينام في غرفتي وحمل حقيبته إليها. في الصباح التالي سمعته يغني وهو يحلق ذقنه: هذا مو إنصاف مِنّك غيبتك هالكد تطول الناس لو تسألني عَنّك/ شرد
اجاوبهم شكول؟/ كلبي خليته يتجوي/ بنار هجرانك يُلَوّى / هذي مو منك مروة/ لا، ولا منك أصول الناس لو تسألني عنك شردأجاوبهم شئول؟/ ألف حيف وألف وَسَفَة / مثلك يخون وله / لا تظن قليبي شفيا والألم عنه يزول والناس لو تسألني عنّك شرّد أجاوبهم شكول؟
قلت له إنّنا نحن الذين يجب أن نغتي هذه الأغنية ونعاتبه بها بعد هذه الغيبة . فقال : شنو يعني آني خاين؟ فقلت له: «لا،
بَذات .» فضحك وقال : الله يسامحك يا جودي . هسّة أحجيلك
شصار بيه.» قلت له إنني أمزح وسألته عن نومه فقال : مثل الصخرة . بعد الفطور تركته يدردش مع أمي وذهبت إلى بيت حميد، سائق سيارة الأجرة الذي كان في شارعنا. كان قد خرج فأخبرتُ
زوجته بالموضوع. قالت إنه يعود عادة بعد الظهر للاستراحة والأكل قبل أن يخرج ثانية . عدتُ بعد الظهر واتفق معه على أن يمر علينا في صباح اليوم التالي. قال إنه يعمل في يوم الجمعة وليس لديه مانع لكن شرطه الوحيد الآ يسوق خارج بغداد لأن
الطرق كانت خطرة. كانت أولى محطاتنا شارع المتنبي. أنزلنا حميد وطلبنا منه أن
يجيئنا بعد ثلاث ساعات. كان عمي يطيل النظر إلى العناوين وبعد حوار مع أحد الباعة عمّا يبحث عنه قال له بأن لديه الكثير من
الدواوين وكتب التاريخ في المخزن القريب عبر الشارع. قال لي إنه سيذهب معه. تجولت أنا لوحدي في الشارع الذي كنت أحبه كثيراً لأنه كان دائماً يعد بمفاجآت في خضم العناوين التي كانت
توضع دون نظام معيّن له علاقة بالموضوع أو الحفل. كان هناك ريح خجولة صباح ذلك اليوم ازدادات ثقتها بنفسها بعد الظهر فأصبحت قويّة. كانت تتصفح الكتب والمجلات وتقلب أوراقها بغضب كانها غير راضية عمّا تقراه ولا يعجبها شيء. وضع الكثير
من الباعة أحجاراً إضافيّة وقطع طابوق على المجلات كي لا تطير. البعض الآخر كان يضع قطع خشب طويلة تكفي لإبقاء صف من الكتب تحت قبضتها دون أن تخفي العناوين. كان لكتب
الفقه الشيعي التي كانت ممنوعة فيما مضى حصة الأسد. كان عدد
↚
الجرائد الجديدة في تناسل مستمر حتى ضاع الحساب. فعدم وجود قانون للمطبوعات معناه أن كل من لديه إمكانية للطبع ورغبة في ذلك يمكن أن يبدأ جريدة. بالإضافة إى الجرائد كانت هناك بعض المجلات الأجنبية القديمة والكثير من المجلات العربية الجديدة ذات الأغلفة الصقيلة وعلى أغلفة الكثير منها مطربات وممثلات يسيل الإغراء من عيونهن وأجسادهن. كن على بعد سنتمترات من ملصقات صقيلة لرجال دين معمّمين وجوههم
متجهمة وغاضبة، ربما لأنهم كانوا يودون لو أن بإمكانهم أن يستروا عري جاراتهم، والنبي أوصى بسابع جار لكن. عاد عمي وقطع تأملاتي. كان قد اشترى نسخاً قديمة من الطبعة الأولى لبعض من دواوين الجواهري «بريد الغربة، و امرحبا
أيها الأرق، وديواناً لسعدي يوسف وبعض روايات جرجي زيدان، ومذكرات نيرودا «أشهد بأنني قد عشت.» في طريقنا إلى مقهى الشاهبندر شاهدنا شاباً يقف أمام مطبوعات وكتيبات صغيرة وضعها
على صندوق على الأرض. اقتربنا منه وكانت المطبوعات تحمل شعار واسم الحزب الشيوعي العمّالي الذي لم أكن قد سمعت به من قبل وكانت بعض العناوين لتروتسكي ولينين وغرامشي. سلم
عليه عمّي وبدا يسأله عن الحزب وعن علاقتهم بالحزب الشيوعي. كان للشاب موقف نقدي من الحزب الشيوعي لأسباب عديدة لكنه لخصها بآخر ما اقترفه الحزب بالانضمام إلى مجلس الحكم الذي كان قد أعلن عن تشكيله وأعضائه قبل أيام باعتباره
خطأ فادحاً واعترافاً بالاحتلال وبمشروعه. كان في بدايات الثلاثينيات طويل القامة بشعر أسود مجعد، حليق الذقن برتدي قميصاً أبيض وبنطلوناً رصاصيّاً. كان يتكلم بحماسة وبثقة لكن دون إفراط فيهما وبدا واضحاً أنه قد ترا الكثير عن التاريخ والسياسة. كان يكرّر كلمني عزيزي، و «أخي، قبل كل جملة
ويستخدم يده اليمنى لتسانده في بعض النقاط المهمة. قال له عمي إنه نفسه كان قد ترك الحزب منذ ثماني سنوات لرفضه لممارساته وتحالفاته وتوجهاته . ثم سأل الشاب من أين هو، فأجابه إنه من مدينة الثورة . فقلتُ له مشاكساً: تقصد مدينة الصدر؟، فقال : لا، عزيزي، مدينة الثورة . سأله عمي عن شعبيّة الأفكار الماركسية في منطقة مثلها بعد كل هذه السنين، فبدا متفائلاً وقال له إن الحزب كان عنده خلايا عاملة وباعداد لا بأس بها، لكن
الحصار كان ضربة قاصمة للحراك السياسي لأنه حطم المجتمع والنسيج الاجتماعي وبأنه لولا الحصار لما ظل النظام. تذكر إن أحد الزملاء في السنة الثانية بالأكاديمية والذي كان دائماً يستشهد بمقولات ماركس كان قد لمح لي أكثر من مرّة، بعد أن شكوت
من الحياة والحرب والاختناق الذي نعيشه، عن مجموعة من أصدقاءه يجتمعون ليتناقشوا بأفكار مشتركة (حتى نخفف من غربتنا، كما قال لي يومها، لكنني خفت من أن يكون طعماً أو شركاً للإيقاع بي، فتعللت بانشغالي بالدراسة والعمل. بدا أن عمي
لم يكن بتفاؤل هذا الشاب المتحمس، فسأله عن رأيه في صعود الخطاب الطائفي وتجدّر الفكر الديني في سنين الحصار، فقال الشاب إن تاريخ العلمانية في العراق عريق مقارنة بدول المنطقة وإن الأحزاب الدينية لا تقدّم حلولاً بل غيبيات. كما أن الحركات
الإسلاميّة فشلت في العالم العربي. دخل أحد المتدينين على الخط ليحاجج الشاب. أخذ عمّي بعض الكتيبات واعطى الشاب مبلغاً من المال كتبرّع، فشكره ودعانا لأن نزورهم في مقرهم
المؤقت. سأله عمي عن المكان فقال إنه بنك الرافدين في بداية شارع الرشيد. سأله عمي إن كانوا هم الذين نهبوا البنك، فضحك الشاب وقال له إنهم وصلوا متأخرين. ضحكنا وودعه عمي.
سألته عن رأيه بما قاله الشاب فقال إنه متفائل أكثر من اللازم بخصوص العلمانية ولكن ربما كان هذا ضرورياً. ثم أضاف أنه تذكر واحدة من مقولاته المفضلة لغرامشي عن تشاؤم الفكر وتفاؤل
الإرادة وأشار إلى الكتيّب الذي كان مقتطفات من نظريته عن المثقف العضوي. وقال إنه متشائم بخصوص الخطاب الطائفي وقال إن ما حدث ليس مجرد احتلال، بل تدميراً لدولة عمرها أكثر
من ثمانين سنة وبأن الحرب والاحتلال هذا هو الضربة القاضية، لكن العملية، برأيه ، بدأت منذ حرب 91 التي دمرت فيها البنية التحتيّة، ثم الحصار الذي خرّب النسيج الاجتماعي والآن الفراغ الذي خلفه الاحتلال ستملأه الأحزاب الطائفية لأنها تمتلك
مؤسساتها وخطابها الذي يدغدغ العمق النفسي ولأنها عرفت كيف تستغل المناخ السائد. لكنه استدرك قائلاً إن تاريخ العلمانية في العراق عريق. فحزب الدعوة، مثلاً، تأسس في النجف لأنّ المدّ الشيوعي كان من القوة حتى في النجف وكربلاء بحيث أنه استقطب
الكثير من الشباب وأخاف المراجع لأن البعض صار لا يفرق بين الشيعي والشيوعي. كنّا قد وصلنا إلى باب مقهى الشهبندر . قلت له: هل رأيت كل ملصقات المراجع ورجال الدين والكتب الفقهية التي تباع؟ فقال بالطبع بعد كل هذا الكبت لسنين طويلة لابد أن
يكون هناك تعطش، لكن ربما يخبو . دخلنا ووجدنا مقعدين فارغين فجلسنا وطلبنا شاياً . كان هناك فريق من محطة تلفزيون فرنسية يجري حوارات مع بعض المثقفين. شاهدت المخرج المسرحي صلاح القصب يجلس على بعد بضعة أمتار. اقتربوا منه
وسمعته يعتذر عن الإجابة عن أي اسئلة لأكثر من مرّة. الح مقدم البرنامج وسأله المترجم: ماذا تقول عن كل ما حدث؟ فقال له: صور شوارع بغداد. هذا رأيي. بعد عشر دقائق لمح عمّي وجهاً يعرفه فقام واتجه نحوه. كان الرجل يوزع جريدة «طريق الشعب
تعانقا بحرارة وقبلا بعضهما البعض. كان في الخمسينيات بشعر أبيض ويرتدي نظارات وقميصاً أزرق بجيوب كبيرة وقد تأبط الجرائد. تحادثا لربع ساعة قبل أن يعود عمّي ومعه نسخة من الجريدة ليقول لي إنه كان معه في الحزب وكانت آخر مرة رآه فيها في بيروت عام ۱۹۸۲. بحث عن وجه اعرفه لكنني لم أر أحداً من الذين أراهم عادة. أخذ عمّي بتصفح الجريدة. كانت هناك إعلانات عن مجالس تأبين وعزاء لشهداء من الحزب كانوا قد
أعدموا قبل سنين وكان هناك إعلان كبير عن مسيرة جماهيرية بمناسبة ذكرى ثورة 14 تموز بعد ثلاثة أيام يطلب من أصدقاء الحزب التجمع في ساحة الحرية ثم التوجه إلى ساحة الفردوس. قرا عمّي الإعلان وسالني عن رايي بأن نشترك في الاحتفالية،
فوافقت وقلتُ له سآتي لأنني أريد أن أكون معه ولكن يجب أيضاً أن أخرج في مظاهرة واحدة في حياتي بدون أن أجبر على ذلك وبدون أن تكون تأييداً لحزب البعث، لأجل التنويع فقط! فضحك.
نظرتُ إلى ساعتي وذكرته أن موعدنا مع السائق كان قد حان. مررنا ثانية بالشاب الشيوعي فحيانا من بعيد وتبادلنا الابتسامات. بعدها طلب عمّي من حميد أن نذهب إلى ساحة الأندلس. كان قد سمع بأن مقر الحزب الشيوعي الجديد كان في بناية التأمين في
ساحة الأندلس. قلتُ له إني ظننتُ أنه قد طلق الحزب، فقال: إي، بس اريد اشوف اخبار رفاقي اللي جانو، اسأل عنهم أشوف منو راجع، منو موجود. ما راح أطول. كنت نعساناً فقلت له إنني سأغفو في المقعد الخلفي لحين عودته. حين عاد كانت
ابتسامته قد اختفت، فسألته عن السبب، فقال: «ماكو شي .» في اليوم التالي شاهدنا إعلان تشكيل مجلس الحكم الانتقالي بإشراف بريمر على شاشة التلفزيون. كان المجلس خليطاً عجيباً من أسماء لم نسمع بأغلبيتها من قبل، يفترض بأنها تمثل «أطياف
الشعب العراقي. ما كان يجمعها هو أن كل اسم كان مسبوقاً بالانتماء الطائفي لصاحبه، فهذا سئي، وذاك شيعي، والآخر مسيحي، وهو ما لم نكن نعهده من قبل. استشاط عمي غضباً حين شاهد سكرتير الحزب الشيوعي العراقي يجلس مع البقية. قال إنه سمع عندما زار مقر الحزب بالأمس أنّ الحزب استشار
كوادره وصوّت على أن يكون في المجلس، لكنه لم يصدّق عينيه . ضرب كفا بكف وقال : شوف شوف بشرفك، حاطيه على اساس هو شيعي مو على أساس إنه يمثل تيار أيديولوجي أو حزب
إله تاريخ نضالي. حرامات هاي تصير تالينهه. هسّة كل تاريخ النضال ضد الدكتاتورية ورفض الحرب كله يروح بالزبل. ويصير حال الشيوعيين مثل كل هذوله الهامة والحرامية الباقيين كل واحد كرشه طن.»
ومع ذلك، ذهبنا إلى ساحة التحرير في صباح اليوم التالي الذي كان الرابع عشر من تموز. قال عمي إنه يريد أن يحتفل بذكرى الثورة وبتضحيات الشيوعيين بغض النظر عمّا آل إليه الحزب في السنين الأخيرة. كان المئات قد تجمّعوا تحت نصب الحرية. لم أكن قد وقف تحت النصب او مررتُ به منذ فترة طويلة. كان متسخاً بعض الشيء من التلوث والإهمال وبحاجة
ماسة إلى صيانة وترميم، لكنه كان يحتفظ برونقه. تذكرت الأستاذ رائد وأحلامي التي تبخرت. كان هناك الكثير من الشيوعيين بالطبع وكان المنظمون يضعون
شارات حمراء حول سواعدهم، لكن كان هناك أيضاً الكثير من بدا أنهم متعاطفون أو ممن قد يجد نفسه أقرب إلى الحزب الشيوعي من غيره من الأحزاب الطائفيّة. كان هناك بعض المحجبات. ربما اجتذب الكثيرين شعار كلا للاحتلال/ نعم للديمقراطية، الذي كان يحتل الكثير من اللافتات التي كان البعض
يحملها. كانت هناك لافتات اخرى والكثير من الأعلام الحمراء وصور عبد الكريم قاسم. كنت متعوداً أن أقرأ اسمه في سياق التنديد به لأنه انفرد بالحكم واصبح طاغية، وكان اشتراك صدام
في محاولة اغتياله واحدة من سلسلة القصص البطولة التي اعيدت علينا مئات المرات. لذا كان شعوراً غريباً أن أرى هذا العدد من صوره ترفع على الملا لا للتنديد به، بل للاحتفال بذكراه . كان
عمّي يؤمن إنه وبالرغم من كل الأخطاء كان أول عراقي وطني يحكم البلد في القرن العشرين وبأنه قام بانجازات مهمّة. قال وهو ويشير إلى الجنود الأمريكان الذين كانوا يراقبون المشهد من سيارة همفي إن الأمريكان كانوا ضدّه وساعدوا البعثيين من أجل الانقلاب ضده . كان الجو احتفالياً وجاءت فرقة موسيقى شعبية وبدات تعزف واشترك الكثير بالرقص. أبصرت سيدة في الستين من عمرها تصفق وترقص. قال عمي إنها شيوعيّة قديمة عائدة من لندن يعرفها من صورتها لأنها تكتب بعض المقالات. كانت بعض السيارات المارة تزمر تحية للمظاهرة. بدا عمي سعيداً ومتحمساً بالرغم من انتقاده الشديد لدخول الحزب إلى مجلس الحكم. قلت له إنّ من يرى المظاهرة يظن بأن الحزب الشيوعي سيكتسح الانتخابات ويحكم البلد. عندما هتف البعض حزبك فهد ما مات، باقي للأبد، سألته من يكون فهد هذا، فاستغرب وقال إنه مؤسس الحزب الذي أعدم في العهد الملكي وقال قولته الشهيرة قبل إعدامه: «الشيوعيّة أقوى من الموت وأعلى من المشانق .» نصحني بأن أقرأ كتاب حنّا بطاطو عن العراق لأنه الأهم والأكثر موسوعيّة عن تاريخ العراق الحديث، فوعدته أن أبحث عنه. قال إنه سيرسل لي نسخة إن لم أجده في بغداد. بعد ساعة بدأت الجموع بالسير نحو ساحة الفردوس. كانت المسيرة منظمة وعندما كنا نسير في شارع السعدون كان عمي يلتفت إلى الوراء ليحاول أن يقدر عدد المشتركين . عندما وصلنا إلى ساحة الفردوس كانت الأعداد كبيرة
جدّاً. ظلت المروحيات الأمريكية تحوم فوق رؤوسنا.
كان التفاؤل بالعلمانية مفرطاً وفي غير محله لأن الأسابيع التي أعقبت تلك المظاهرة شهدت الكثير من المظاهرات التي نظمتها الأحزاب الأخرى وكانت مثقلة بالرموز الدينية والطائفية. كما أن الدمغات الطائفية أصبحت عادية وبدأت تكتسب زخماً غير عادي وبمرور الزمن تخلف الحزب الشيوعي وصار حضوره ضئيلاً وبائساً في الانتخابات لأن علمانيته كانت تعني أن حصانه سيكون دائماً الأخير في سباق الخيول الطائفي لا يراهن عليه أحد. فاجاني عمّي برغبته في أن يذهب إلى نصب الشهيد الذي
صممه اسماعيل فتاح الترك. قال إنه رآه في الصور طبعاً، لكنه قرأ مقالة لناقد ألماني يقول فيها إنه من أجمل النصب التي رآها في حياته. وكان يريد أن يراه بأبعاده الحقيقية. من ساحة الأندلس اتجهنا نحو ملعب الشعب فسألته إن كان يذكر كيف أدخلني إلى
الطريقة الزورائية» فضحك وقال : طبعاً. نظر إلى القاعة المغلقة التي كانت بالقرب من ملعب الشعب وسالني عنها، فقلت له إنها قاعة صدّام المغلقة. فقال: «وشراح يسمّوهه؟ قاعة بوش؟ لاحت قبة نصب الشهيد المشطورة ذات اللون السماوي من
بعيد وبدت كما لو أنها تتحرك وتغلق كلما اقتربنا. أخرج عمّي كاميرته واخذ يلتقط الصور وانبهر بالنصب على الجانب الآخر من الشارع كان هيكل بناية اللجنة الأولمبية التي تعرضت لقصف
شديد هو كل ما بقي منها بعد أن احترق كل شيء وانهارت أجزاء كبيرة منها. سألني عنها فقلتُ له إنها كانت مقر عدي. نظر إليها قليلاً والتقط صورتين ثم عاد بأنظاره إلى نصب الشهيد. كتا أمام الباب الرئيسي وبدا أن الأمريكان كانوا قد احتلوا المكان وقد جعلوا منه موقعاً عسكريّاً. كانت هناك مسنات على الأرض أمام الباب وجنود يحملون رشاشات يقفون أمام البوابة وكانت المدرعات الأمريكيّة مصفوفة على يسار الشارع المؤدي إلى النصب. تذكرت كيف زرنا، ريم وأنا، النصب بعد افتتاحه
للجمهور عام ۱۹۸۹ وأعجبنا بجماله بالرغم من كرهنا للحرب ومعانيها. ازعجني وأغضبني منظر الجنود الأمريكان والمدرعات في مكان يرمز إلى ضحايا الحرب مثل أخي ومئات الآلاف غيره . قال عمي إنها إهانة مقصودة ومسالة تحمل دلالات رمزيّة وليست
فقط لأسباب لوجستية. بعد نصب الشهيد طلب من حميد أن يأخذنا إلى شارع الرشيد، فقال له إن كل المحال ستكون مغلفة ولن يمكنه شراء
شيء، فقال له عمي إنه لا يريد التسوق ولكنه لم ير الشارع منذ أكثر من عقدين. كانت الساعة حوالي الخامسة عصراً وبدا الشارع مقفراً. قال حميد إن الجرائم منتشرة وهناك قتل وتسليب لذلك لا
يفتح الكثيرون محالهم ومن يفتح محله يغلقه مبكراً. تأثر عمّي وقال : معقولة هذا شارع الرشيد هيجي يصير؟ جان دائماً مليان . هسه منظره يقطع القلب .)
قال لي قبل يومين من سفره إنه يشتهي أن يأكل وجبة مسقوف. فقلت له إن الوالدة ستكون سعيدة بأن نحقق له هذا المطلب وسنشتري السمك،. فرفض وقال إنه سيأخذني إلى مطعم. عندما استعلمت عن السبب قال لي إن سمك النهر ملوث وخطر بسبب اليورانيوم المنضب وإنه كان قد سمع وقرأ بان
المجاري والقاذورات تقذف في دجلة مباشرة بدون تصفية . أبهرني بمعلوماته وبمتابعته لكل ما يجري في العراق وهو هناك . استغربت وسالته ألن يكون سمك المطعم من النهر، فقال إنهم يرونه في
بحيرات اصطناعية. كانت جلسة المطعم جميلة لأننا استعدنا بعض الذكريات المشتركة، سألته إن كان يمل أو يكتئب من متابعة الأخبار فقال لي إنه يقرّر كل بضعة أشهر أن يبتعد عن الأخبار ويهجر السياسة وصداعها، لكنه يعود بعد يومين لأن الأمر
مستحيل. إدمان مرضي . سألني عن مخططاتي، فقلت له إنّ حلمي هو أن أكمل دراسة
الفن في الخارج. في إيطاليا أو أي بلد آخر. شجعني على ذلك وقال لي إن إمكانياته المادية محدودة لكنه سيساعدني في الحصول على معلومات عن منح ومساعدات وسيسأل صديقاً له يدرس في
أحد معاهد الفن في هولندا. قلت له إن ما يقلقني هو امي وخوفي من أن أتركها لوحدها في هذا الأوضاع. فقال لي: اتمام. خلينا نفكر بالموضوع سويّة ونشوف حل. سألته إن كان سيكرر الزيارة قريباً. فقال لي: اصعبة أحصل إجازة من الشغل. وتريد الصراحة، كلش فرحت إنو شفتكم، وخصوصاً إنت . بس انكسر قلبي من اللي شفته . آني جنت أتابع
أخبار العراق يوم بيوم بالراديو والجرائد والتلفزيون، وبعدين بالإنترنت. ما أخلي شي يفوتني. وجنت أعرف الحصار دمر البلد، بس غير شكل لمّن الواحد يشوف بعينه. صدمة. البلد تعبان والناس تعبانة هلكانة. يعني حتي هاي الكرادة مو جانت
أحلى منطقه؟ شوفهه شلون صايرة. بعدين الزبل والطوز والأسلاك الشائكة والدبابات. نسوان ماكو نمشي بالشارع. هاي مو بغداد اللي جنت أتصورهه. حتى النخل المسكين تعبان ومحد مداريه.
مو بس البشر! وهذوله الأمريكان، بعنصريتهم وغباءهم، ثق، راح يخلون الناس تتحسر على أيام صدام .. وصدقت نبوءته. مرّ الأسبوع بلمح البصر وفي الليلة الأخيرة قبل الرحيل
↚
اجتمعت العائلة عندنا لوداع عمي. جاءت شيماء أختي وزوجها ستار وولداهما. سلم ستار على عمّي لكنه غادر بعد نصف ساعة كعادته متعللاً بالأشغال. قالت شيماء إنه يعمل مع احد العائدين من الخارج في شركة مقاولات وبناء جديدة ستحصل على الكثير من العقود الثانوية لإعادة الإعمار. فقالت لها اني عندما سمعت ذلك: ليش ميصلحون الكهرباء؟ كانت الكهرباء مقطوعة وأكلنا على ضوء الشموع. قال عمي إن الناس في ألمانيا يدفعون الكثير للتمتع بأجواء رومانسية مثل هذه على ضوء الشموع. أصرّ في صباح يومه الأخير على شراء دِش كهدية للبيت. قال إننا يجب أن نتنفس ونشاهد ما فاتنا بعد كل تلك السنين من المعاناة والحصار. وكنا قد اوشكنا على تشغيله لكن الكهرباء انقطعت قبل أن ينتهي الرجل الذي جاء من المحل ليركبه ويبرمجه. أتفقنا أن أمر على محله الذي كان قريباً في اليوم التالي عندما تعود القوة. أصبح الدش نافذتنا التي تطل على العالم وعلى خرابنا الذي كان سيتفاقم يوماً فيوم. في الصباح كان الوداع مبللاً بالدموع. عاتبته أني ونحن نشرب آخر شاي لأنه زار الدنيا كلها ولم يزر قبر أخيه وابن أخيه. فقال لها إنه لا يزور القبور أبداً ولا يحتاج لأن يراها ليتذكر. وضع يده على قلبه وقال لها: اموري وأبو أموري ضامهم هنا، بقلبي . سلّمني ظرفاً فيه خمسمئة دولار قال إنّني يجب أن أقبلها نعيننا إلى أن تتحسّن الأمور. قال لي إنه واثق من أننا سنرى بعضنا في المستقبل القريب. بكت أمي وهي تعانقه وقالت له: مو تروح وما ترجع إلا بعد خمسة وعشرين سنة!، ورشت الماء وراء سيّارته كي نضمن عودته . ارسل لي بعد شهر من رحيله مقالة حزينة متشائمة كتب فيها
انطباعاته عن زيارته كان عنوانها «إطلال المشتاق على أطلال العراق» نشرها في أحد المواقع اليسارية. وكان أجمل مقاطعها عن العراقيين والنخل. العراقيون والنخل: من يشبه من؟ ملايين
العراقيين ومثلهم أو أقل من النخل. منهم من تفحمت سعفاته . منهم من قطع رأسه. منهم من كسر ظهره الدهر، لكنه مازال
يحاول الوقوف. منهم من يبست أعذاقه. منهم من اقتلع ومثل به ونفي من بستانه. منهم من سمح للغازي أن يتكئ على جذعه. منهم من يمشط الريح بسعفه، منهم من يقف بصمت. منهم من
سقط. ومنهم من يشمخ ويرفع رأسه بالرغم من كل شيء في هذا البستان الكبير: العراق. ترى متى يعود البستان الأهله؟ لا للذين يحملون الفؤوس ولا للبستاني الذي يغتال النخل، مهما كان لون سكينه . عندما تم اختيار الجعفري لرئاسة الوزراء كتب لي: «يقول ماركس إنّ التاريخ يعيد نفسه مرتين، مرة على شكل مأساة ، ومرّة على شكل مهزلة. وما نراه الآن هو المهزلة. فمن كان يصدّق أنّ رئيس وزراء العراق سيكون من حزب الدعوة وعلى رأس قائمة طائفيّة رجعيّة؟ عندما تركت العراق كان حزب الدعوة ممنوعاً وفيما بعد وضعه الأمريكان على قائمة الإرهاب. والآن الجعفري يصافح بوش؟ فسبحان مغير الأحوال .
+
أدمن الذهاب إلى مقهى الانترنت الذي فتح أبوابه في شارع
الزهراء . كنتُ أجلس أمام شاشة الحاسوب لثلاث أو أربع ساعات كل مساء دون أن أشعر بمرور الوقت. كنت منبهراً بهذا العالم، أو الكون، الذي تاخرنا عنه بسبب الحصار والتعتيم. مازالت أسعار الاشتراكات غالية للحصول على الانترنت في البيت. وليس عندي حاسوب. لكن أجرة مقهى الانترنت بسيطة. أبدأ عادة بجولة سريعة في بعض الجرائد المحلية والعربية ومواقع الأخبار لأقرا ما يقوله العالم عن خرابنا المستمر . اكتشف موقعاً عراقياً اسمه أوروك» وكان يشبه عراق اليوم بتضاريسه السياسيّة وبفوضاه . فكنتُ أجد فيه كتابات عميقة وثاقبة وأخرى ساخرة، جنباً إلى جنب مع أفكار طائفية وعنصرية ونظريّات لا تنتهي . كان ينشر
للجميع بغض النظر عن خلفياتهم ومنطلقاتهم كما كان ينشر الكثير من الوثائق الحكومية والمعلومات التي تفضح السياسيين وفسادهم الذي استشرى. بعد ذلك كنتُ أبدأ تسعي اليومي الذي ما كان يتقيّد بخارطة أو بهدف معيّن. كان تسكعاً يقوده المزاج وكانت الصدفة والكلمات والأفكار التي تخطر براسي هي التي تقودني إلى
مواقع ومعلومات جديدة. فتح حساباً بريديّاً (هوتمايل) للتواصل
مع عمي وللاتصال بريم. فقد كنتُ متفائلاً بالعثور عليها وإعادة
الاتصال بها. كنتُ أشعر بالفخر والإعجاب حين أجد أن بعض زملائي من الذين هاجروا منذ سنين قد نجحوا وصار لديهم مواقع خاصة يعرضون فيها أعمالهم الفنية. لكنني لا أنكر أنني كنتُ أشعر بالغبن والمرارة والغيرة حين أرى أن البعض ممن لا يمتلكون ربع موهبتي قد نجحوا أيضاً ورسّخوا أسماءهم في عمان وأماكن أخرى بفضل العلاقات العامة. بداث أحلم بيوم يكون لي فيه موقعي الخاص، لكنني تذكر أن عليّ أن أعود إلى الإنتاج أولاً. طرق الباب بعد حوالي شهر من وفاة أبي. كان في نهايات الأربعينيات، قصير القامة بعمامة بيضاء وبلحية رماديّة مقصوصة بعناية علا الشيب حائاتها. كان يرتدي نظارات طبية مدورة ذات إطار معدني فضي، وقف الجسر الذي يربط بين العدستين على قمة أنفه الكبير، تاركاً مسافة بين العدستين وبين عينيه العسليتين اللتين كان يعلوهما حاجبان كثيفان امتزج فيهما الأسود بالشيب. كان يرتدي عباءة سوداء هفهافة فوق جاكيتة سوداء. بعد السلام مد يده معزية بوفاة الوالد البقاء في حياتك إبني. آني السيد جمال الفرطوسي. أعذرنا عن التقصير، بس ما سمعت إلا البارحة . شكرته وطلب منه أن يتفضل بالدخول ففعل بعد أن قال لشاب صغير كان يقود السيارة التي جاء بها أن ينتظره في السيارة. فتح باب غرفة الضيوف وأشرتُ له بأن يتفضل بيدي وطلبت منه أن يجلس. ناديت على أمي وطلبت منها أن تعد لنا فنجان قهوة. قال إنه كان يعرف الوالد منذ عدة سنوات وإنه أحب أن يقوم بالواجب لكن الحرب ودخول الأمريكان عطلا كل شيء. بعد دقائق طرقت امي الباب المؤدي إلى الممر فقمتُ لأفتحه واخذ صينية القهوة من يدها. قدمتُ الصينية فمد يده وأخذ فنجان القهوة
ووضعه على الصحن وعلى الطاولة التي كانت إلى يمين الكرسي. وضع الصينية على الطاولة الكبيرة في وسط الغرفة وأخذ فنجان القهوة الثاني. بعد أن ارتشف قليلاً من القهوة سالني عن ظروف وفاته فقلت له إنه مات في هذه الغرفة التي نجلس فيها وهو راكع يصلي. فبدا عليه التأثر وردد سبحان الله عدة مرات ثم ردد «أسكنه فسيح جناته، مرّتين. بعد صمت ثقيل قال لي: حضرتك ما جنت تشتغل ويه الوالد؟، فأجبت بالنفي. فسال : شعجب؟ آني إبني هذا اللي ينتظر بره بالسيارة يشتغل ويايه وأخوته الاثنين همّاتين . فقلت له: والله ما راد؟» فابتسم. سالته كيف يعرف المرحوم. قال إنه يقوم منذ أكثر من عشر سنوات بالإشراف على جمع جثث مجهولي الهوية. وأولئك الذين لا تقوم عوائلهم باستلامهم ودفنهم من المستشفيات والطب العدلي . ويتولي الإشراف على غسلها وتكفينها ودفنها. سألته إن كان يمثل جهة حكومية أو مؤسسة خيريّة فقال إنه يعمل كل ذلك بشكل غير رسمي وهي مبادرة فرديّة واجتهاد منه لوجه الله. ولكن كان لديه اتفاق مع وزارة الصحة والمستشفيات وكان يعرف المرحوم عن هذا الطريق حيث كان يغسل بعض الجثث عنده . سالته عن الوضع الآن، فقال إن البلد في حالة فوضى كما هو واضح ومعظم الوزارات تُهبّت ودمرت، لكن وزارة الصحة لم تنهب على حد علمه. وهو ينتظر أن تتوضح بعض الأمور لكي يتابع عمله وهو الآن يحاول استحصال الموافقات من الجيش الأمريكي لكي لا يتعرضون لشاحنته وفريق عمله عند تجوالهم في العاصمة. الكن حتى الأمريكان مخربطين، واحد يدزني للاخ. الولي تروح للمنطقة الخضراء، وين جان القصر، بس ما خلوني أدخل. اللي هناك كالولي لازم تروح لقصر المؤتمرات نجيب موافقة، بس ماكو نتيجة . سألته عمن يدفع المصاريف التي يتكبدها فقال إنها من فاعلي الخير الذين يتبرّعون شهرياً له. وجدت نفسي أقول له تلقائياً: «بارك الله بيك وكثر الله من أمثالك . فقال لي فجاة :
- الله شد حيلك وكمل نهج المرحوم! تعرف تغسل؟
- إي، تعلمت من الوالد واشتغلت وياه بس هالحجي قبل سنين . أخبرته إن حمودي، مساعد المرحوم، هو الذي سيواصل النهج وهو الذي يعمل في المغيسل الآن ويمكنه الاتفاق معه. فاستبشر خيراً وقال إنه يعرفه. كان حمودي قد فاتحني بعد أسبوع من الوفاة برغبته في مواصلة العمل واقترح أن يدفع لنا نصف ما يحصل عليه كبدل إيجار . وافق دون أن أفكر كثيراً في الأمر. فقد كنا بحاجة إلى دخل خصوصاً وأن سوق صبغ البيوت كان جامداً ولم أفلح في الحصول على عمل آخر بالرغم من كل
محاولاتي. بدلاً من الوعود بجعل العراق جنة تشبه هونغ كونغ تفاقمت البطالة وعمت الفوضى. ودّع الشيخ دون أن أعرف بأنه سيعود ويدخل حياتي من جديد . - يعني تروح تُصبغ وتسوي أصنام أحسن من شغل شريف يصيبك بيه أجر؟ كان أبي قد جرحني بهذا السؤال أكثر من مرة حين أخبرته برغبتي في ممارسة النحت. إنهم يسرقون الأصنام هذه الأيام
يا أبي. سرقوا عبد المحسن السعدون وصهروه وباعوه. والذين
لا يسرقون التماثيل يسقطونها لأنهم يريدون إعادة كتابة التاريخ من جديد. المضحك المبكي أنهم يقلدون عدوهم الذي حاول أن يعيد كتابة التاريخ من منظار بعثي، وهدم ما هدم من
تماثيل ووضع مكانها تماثيل جديدة، التاريخ صراع تماثيل ونصب، يا أبي، ولن يكون لي نصيب فيه لأنني لم أنحت شيئاً
مهمّاً بعد. حتى صنم صدّام الكبير في ساحة الفردوس سقط بعد موتك. كنت أظن بأنني سأفرح لسقوطه أنا الذي كنت أمقته، لكنني شعرت بأن الفرحة سرقت مني. لم تكن هذه هي نهاية السيناريو الذي كنت أحلم به. فالذين أسقطوه كانوا هم أنفسهم الذين وضعوا صاحبه هناك في المقام الأول وهم الذين دججوه بالسلاح في الحرب التي أزهقت روح أموري، إبنك المفضل. والآن هناك من يريد أن يقطع رأس أبي جعفر المنصور ويسقط تمثال المتنبي. التماثيل تخاف أن تنام في الليل لكيلا تستيقظ ركاماً . كنتُ قد ظننتُ أنني نجح في الابتعاد عن الموت وطقوسه في السنتين اللتين أعقبتا وفاة أبي. لكتني اكتشفت انني كنتُ قد ابتعدت عن التعامل معه بيدي فقط، لكن أصابعه كانت تزحف في كل مكان من حولنا ولم أتمكن من طرد فكرة أنه يعيشني. لكنني كنتُ أحاجج نفسي بالقول: وما الذي تغيّر؟ ألم يكن هذا هو الحال من قبل عندما كان أبي هو العائل؟ ألم أكن آكل وأشرب ممّا يوقره لنا الموت بطريقة أو بأخرى. كنتُ أساهم في مصروف البيت قليلاً. الفرق الآن هو أن الموت أكثر سخاء بفضل الأمريكان . حمودي كان يجئ مرة في نهاية الشهر لتسليم نصف دخل المحل. وفي كل مرة كنتُ أسأله فيها عن أحواله وعن الشغل، كان يقول إنه يزداد وكنت أعرف ذلك لأن ما يسلمني إياه كان يزداد كل شهر، سالته ذات مرة عن الذين يغسلهم فقال إن الكثيرين منهم يموتون برصاص الأمريكان، لكن هناك الكثير من ضحايا الجرائم التي انتشرت بشكل لم يسبق له مثيل، بالإضافة إلى التفجيرات المفخخات . فشلت كل محاولاتي في إيجاد أي عمل. اخذتُ أقضي معظم وقتي في القراءة وفي التسكع على شبكة الانترنت واكتشاف
العوالم التي حرمنا منها لسنين بسبب الحصار. صار مقهى أفق في شارع الزهراء القريب من بيتنا محطة يوميّة. بحث عن ريم كثيراً في الأيام الأولى دون جدوى. بدأت أفكر جدياً في إكمال دراسة النحت في الخارج. كنتُ أدرك أن الحصول على منحة ليس بالأمر الهين. وأن تكاليف السفر والدراسة ستكون باهظة وهناك ايضاً حاجز اللغة، خصوصاً وان انكليزيتي ضعيفة ولا تتعدي ما بقي من المدرسة وبعض الجمل من الأفلام. لكنني بدأت أجمع المعلومات وحاولتُ مراسلة بعض كليات ومعاهد الفنون وكانت الأجوبة غالبا كليشيهات تشكرني على اهتمامي وتنصحني بقراءة الشروط والمتطلبات وأصول التقديم وتذكر موضوع سمة الدخول. استشر أستاذ عصام في الموضوع فشجعني ووعدني بأن يساعدني ويكتب رسالة توصيّة وركز على أهمية البورتفوليو وأنه يجب أن يكون قوياً لتزداد فرصي في القبول، خصوصاً وأنني لم اشترك في معارض منذ تخرّجي. قال لي بصراحة إنني يجب أن أعود بجديّة وبهمة إلى الممارسة. اشتري كاميرا رقميّة صغيرة كي أصور بها بعض أعمالي القديمة.
اتصل بي الأستاذ عصام على المحمول الذي كنت قد اشتريته بعد ثلاثة أشهر من دخول الأمريكان وقال لي إنّ المركز الثقاني الفرنسي سينظم معرضاً للفنانين الشباب وأولئك الذين لم ياخذوا فرصتهم في الماضي وشجعني على أن أشترك. كان علي أن أختار عملاً واحداً فقط. فاخترت العمل الذي كان قد سبب لي مشاكل أيام الأكاديمية وهو عبارة عن كرسي حديدي غريب التصميم،
↚
ذات وأنا أتسكع مع ريم ، كنت قد وجدته مرمية في الشارع بالقرب من الأكاديمية وقد علاه الصدا فرماه أصحاب البيت . قرر أن أحمله معي ضحكت بوقتها وقالت بغنج : شنو راح تاثث عش الزوجية من هسة ؟ » قلت لها : تعرفين آني ضد الزواج ، بس عندي فكرة لعمل فني . ، عندما أخذت الكرسي إلى الأكاديمية لأضعه في ورشة القسم ، سخر مني مسؤول الأمن الذي كان يجلس في مدخل الأكاديمية وقال : « هاي شنو دتبيع سكراب ! ) أضف إلى ذراعيه وارجله الأمامية سلاسل حديدية اشتريتها من سوق باب الأغا وقيودة طوعتها بنفسي بالمطرقة حتى بدا يشبه کراسي التعذيب . كنت أنوي الاشتراك به في المعرض السنوي ، لكن ريم نصحتنيا ألا أفعل ذلك وأعرض نفسي للخطر بدون سبب . استشر الأستاذ عصام الذي وافقها الرأي . فكرت أن أضيف إليه قفصة صغيرة واضع فيه عصفورة حقيقية . قالت ريم إنها فكرة جيدة ولكنها تفضل الكرسي بالسلاسل فقط وبدون عصفور . قالت إن هذا لا يغير من وضوح الفكرة الرئيسية وخطورة عرضه أمام الجميع . أعجب الأستاذ عصام به كثيرة فاعطيته له كهدية . رفض في البداية لكنني قلت له إن ذلك سيشرفني وبأنه لا مكان عندي في غرفتي الصغيرة في البيت . وبقي الكرسي في مكتبه كل هذه السنوات . كان يحرص الا أي شيء بالرغم من أكوام الأوراق والكتب التي كانت في مكتبه . عندما زرته في المكتب لآخذه إلى البيت لأنني كنت أنوي أن أنظفه واضيف صبغة أحمر يشبه قطرات دم وربما أضعه على منصة ، لاحظ أن الأستاذ بدا مهمومة بعض الشيء ، استفسر عن الأمر فقال لي إن بضع عليه
هناك إشاعات عن النية من الانتقام من كل من كان منتميا للبعث . فضحك وقلت له إن 95٪ من الناس اضطروا للانتماء ولكن كان من الواضح أنه لم يكن بعثيا حقيقيا وبأنه اضطر للانتماء کي يوافقوا على منحته إلى إيطاليا . فقال لي إن البعض يحاول أن يصفي حسابات أخرى
(. الله کریم . ) قيل لنا أن نجلب أعمالنا قبل يومين من المعرض . أخذ سيارة أجرة إلى فرع المركز الثقافي الفرنسي في شارع ابي نؤاس ( الآنيكس ) . كان هناك ازدحام شديد وفوضى المرور التي عمت منذ سقوط بغداد . بعد أربعين دقيقة وصلنا إلى بداية شارع أبي نؤاس . كان هناك الكثير من المطبات والطسات من جراء القصف وخفت أن يحدث شيء للكرسي الذي وضعته في الصندوق الخلفي بمساعدة السائق ، لكنني تذكرت بأنه من حديد . كان أحد الممرين في الشارع مغلقة وكانت السيارات تسير باتجاهين متعاكسين في ممر واحد وقد تموضعت الدبابات الأمريكية إلى الجانب الشرقي منه ، عندما وصلنا بالقرب من ساحة الفردوس كان هناك جنود أمريكان يشيرون إلى السيارات بالعودة . تأفف السائق واستدار وأخذ شارع السعدون إلى الكرادة ومن ثم وصلنا إلى البناية . كن قد مررت بقربها أكثر من مرة قبل سنين حين أخذت ريم دورة في اللغة الفرنسية . كان هناك مقهى صغير جميل في الحديقة الخلفية كنا نجلس فيه أحيانا . آخر مرة كانت من الدورة . كان طلاب صفها قد تجمعوا الباحة الخارجية ليلتقطوا بعض الصور التذكارية . وبعد ربع ساعة توقفت سيارة جي ام سي مظللة النوافذ على الرصيف تحت علامة ممنوع تخرجها طلب من الوقوف ، بالضبط . وأشعل السائق الغمازات البرتقالية ونزل من المقعد الذي بجانب السائق رجل بثياب خاكية . واقترب من الجمع الذي كان يتبادل التهاني وسأل عن صاحب الكاميرا قائلا إن التصوير ممنوع . أخذ الكاميرا من إحدى الطالبات وأخرج الفيلم وقال لهم الا يكرروها . ثم عاد إلى السيارة التي انطلقت بقوة . فوجئ الكثير منا لكننا أدركنا فيما بعد بان منطقة القصور تقع على الضفة الأخرى من دجلة . أما الآن فكان الأمريكان قد احتلوا تلك المنطقة واحاطوها بالحواجز ونقاط التفتيش ليعيش فيها الحكام الجدد بعيدة عنا نحن . المنظمين أن أضع العمل في زاوية بعيدة عن النوافذ وفي منطقة مظلمة ، لكن بالقرب من نقطة كهرباء ، حيث كنت قد أضف للعمل ضوءة قوية ، مثل الذي يستعمل في الاستجواب والتعذيب . كان حفل الافتتاح الذي بدا بعد الظهر ، بسبب منع التجول وخطورة الأوضاع في الليل ، مفرحة تخللته كلمة قصيرة للملحق الثقافي الفرنسي . وبعدها كلمة لأحد الأساتذة من الأكاديمية وكانت مليئة بالأمل بمستقبل ملئ بالحرية . كان الكثير منا متفائلا أيامها بأن تكون هناك بداية جديدة للناس يعثرون فيها على حياة أفضل بالرغم من كل الخراب والدمار . وخصوصا أن الاحتلال لابد أن ينتهي عاجلا أم آجلا . استغربت الأن بعض الفنانين المشاركين كان يبالغ في مديح الأمريكان وكانهم جاؤوا من أجل سواد عيوننا . کن غاية السعادة لأن سيرجيو دي ميللو ، ممثل الأمم المتحدة في العراق ، زار المعرض وكان يتوقف أمام كل عمل ويتأمله هو وثلاثة رجال كانوا برفقته في ومعهم مجموعة من المرافقين للحماية . توقف أمام عملي لمدة أطول من الأعمال الأخرى وهز رأسه ثم قال : ثيري پاورفل . وردد مترجمه : « مؤثر جدا ، ثم صافحني وغطى كفي اليمني بكفيه الإثنين وقال : « ثانك يو ، ثانك يو . ، كان المشتركون خليطا من الطلاب ومن الذين تخرجوا منذ سنين ولكنهم ابتعدوا عن الأضواء الأسباب سياسية وأخلاقية لأنهم كانوا يرفضون تجيير فتهم للمناخ السياسي السائد . استمر المعرض إسبوعة واحدة وكانت ردود الفعل إيجابية . كان هناك فريق سينمائي يصور فلما وثائقيا عن الدكتاتورية والاحتلال وأجروا لقاءات الكثير منا . كان أحدهم عراقيا يعيش في نيويورك وأجرى معي حوارة عن العمل . طلب منه أن يرسل لي الحوار على قرص ممغنط ووعدني بذلك ، لكن الم يصلني شيء ولا أدري إن كان نسيني أم أن الطرد شرق في البريد . عرض الفلم الوثائقي بعد سنة على قناة العربية وبقيت أنتظر کي أشاهد ولو لحظات من اللقاء ، لكن لم يظهر أي شيء مني أو من المعرض باكمله . كانت هناك لقطات للخراب الذي حل بالأكاديمية وكل النهب والتدمير وكانت هناك لقاءات مع بعض الشعراء في شارع المتنبي . كنث اشك كثيرة بهؤلاء القادمين من الخارج بعد سنين طويلة . فالكثير منهم جاؤوا مع الدبابات والميليشيات أو جاؤوا لجني الأرباح والفوز بسبق صحفي أو فني ثم ينسوننا افترسني الحزن بعد شهر من المعرض حين شاهد على شاشة التلفزيون رجالا يبحثون عن جثة دي ميليو في ركام فندق القناة الذي كان مقر الأمم المتحدة في بغداد بعد أن هجمت عليه شاحنة مفخخة قتلته مع آخرين كثر . بعدها بأيام قتل محمد باقر الحكيم في النجف ثم توالت وتعددت التفجيرات ، الواحد بلد الآخرا بدات بقتل المهتمين والكبار ذوي الأسماء المعروفة وذوي الشان ، ثم أخذت تفتك بالمساكين الذي لا ناقة لهم ولا جمل في كل ما يحدث ، لكن حيواتهم أصبحت عملة يمكن تداولها بسهولة . عملة كنا ظننا أن قيمتها قد وصلت الحضيض في عهد الدكتاتورية وأنها الآن ستستعيد شيئا من قيمتها ، لكن العكس هو الذي حدث . تتكوم الجثث وكأنها نقاط ، أو أهداف ، في لعبة لا تتوقف أبدا ، يسجلها الموت للفرق المنکالبة . هذا ما فکر به وأنا اسمع مفخخة استهدفت ... وبعد كل جولة تنتشل الأشلاء من بين مزيج الدم والطين . ومحظوظ من يسلم جسده دون أن يفقد عينيه أو رأسه أو من يظل قطعة واحدة . الحكم الأمريكي قتل بما فيه الكفاية والآن يكتفي بالقتل بين حين وآخر ، ويسمح اللاعبين المحليين بان ينوبوا عنه لأنهم أكثر شراسة أحيانا . لكن حتى الذين يلملمون الأشلاء ويرتبون وينظفون ما يخلفه الموت على وجه المدينة لا يسلمون منه .ذهب حمودي إلى سوق الشورجة ذات خميس في نهاية شهر آب ۲۰۰۰ لشراء المزيد من الكافور والسدر للمغيسل ، فقد كانت المواد تنفد بسرعة ، كما قال لي . وكان ويحتاج لأن ينزل إلى الشورجة مرة كل شهر بعدما كان ينزل مرة كل ستة أشهر أو أكثر قبل الحرب . لم يعد حمودي إلى البيت ذاك اليوم ولا اليوم الذي تلاه . كان المحمول مقفلا ولم يجب على الرسائل التي بعثتها له زوجته واخوه الذي كان يعمل في محل لبيع الإلكترونيات . لم يكن هناك انفجار اور مفخخة في سوق الشورجة في ذلك الشهر . بحثوا عنه في المستشفيات القريبة ومراكز الشرطة اليومين دون أن بعثروا على أثر . ثم نصحهم البعض بأن يذهبوا إلى الطب العدلي . بحث أخوه في الصور التي كانت قد التقطت لكل الجثث التي تكدست في زوايا المكان الذي لم يعد يستوعب كل هذا الموت ، لكنه لم يجد أي شيء ولا علامة تدل عليه . بحث عن الخاتم الأخضر الذي كان يرتديه حمودي في إصبع يده اليسرى بين أكداس الجثث لكنه لم يجد شيئا . مازال أخوه يتردد من يومها ، بين حين وآخر ، على الطب العدلي ويسال ويبحث دون جدوى . أكثرت أم حمودي من زياراتها للكاظم ، فهو باب الحوائج ولا يخيب أمل من يتوسل به . ونذرت أن تمشي إلى النجف إن عاد حمودي ، لكنه لم يعد إلى اليوم . هل اختطفوه . أنه تاجر غني ؟ لكن مظهره وعمره لا يوحيان بذلك أبدا والمختطفون يتصلون بعوائل الرهينة للتفاوض على الفدية التي لا يسلمون الرهينة أو الجثة إلا بعد الحصول عليها . لم يتصل أحد ولم يعد حمودي حتى بعد أن مشت أمه ثلاث مرات إلى النجف .
↚
ريم أيضاً اختفت فجأة مثل حمّودي. كان ذلك قبل سبع سنوات. لكن الذي اختطفها لم يكن مجهولاً ولم يكن بشراً. في أحد صباحات آب اتصلت بها في البيت وظل الهاتف يرن دون جواب . لم يكن عندنا محمول آنذاك! عاودت الاتصال في ولم يرفع السماعة أحد فاستغربتُ كانت علامتنا السرية في الماضي أن أترك الهاتف يرن مرة واحدة وأغلق الخط كي تعاود الاتصال هي بي. لكن بعد الخطوبة أصبحنا نتكلم مع بعضنا البعض بصورة عاديّة أمام والدها وزوجته. كانت قد أقنعتني بأن أتقدم رسمياً لخطوبتها وتغلبتُ على ترددي وعنادي الذي استمرّ لسنوات. كانت إمكانياتي المادية معدومة، فلم يكن لدي ما يكفي حتى لاستئجار شقة وكان من المستحيل أن تسكن هي في بيتنا. كما لم أكن أساساً أرغب في تأسيس عائلة. لكنها كانت تقول لي إن السنين تمر وإنّها بدأت تتعب ولا يمكن أن نظل هكذا إلى الأبد، نلتقي في الخفاء والسر ونحارب لكي نكون معاً. أقنعت والدها أن يوافق على تزويجها منّي وكان قد تردّد في البداية بسبب مهنة أبي وانعدام إمكانياتي المادية، لكنها قالت له إنني
أنوي السفر لإكمال دراستي في الخارج. تردّد، لكنها أصرت وكانت زوجة أبيها عاملاً قوياً في أن يسمح لنا بالسكن في أحد البيوت التي كان يملكها في السيدية بعد الزواج. كانت زوجة والدها سعيدة بهذه التطوّرات لأنها ظنّت أنها ستتخلّص من ريم إلى الأبد. كان عليّ أنا الآخر أن أحصل على موافقة والدي ، فالزواج من أرملة ليس مستحباً. كانت أمي قد التقت مرة بریم واحدة عندما دعوتها على الغداء عندنا زميلة أخرى واستلطفتها كثيراً، لكنني لم أقل لها بأن هناك علاقة بيننا. لكنها سألتني عندما فاتحتها بالأمر : لماذا اخترت هذه الأرملة بالذات من بين كل البنات؟ فقلت لها إنّ القلب هو الذي اختار اقتنعت على مضض وطلبت منها أن تفاتح أبي وتتولّى إقناعه. كل ما كان عليه أن يفعله هو أن يرافقني إلى بيت أبيها لخطبتها رسمياً. لم يأبه أبي كثيراً لكونها أرملة. ربما تأثر كون زوجها كان شهيداً مثل ابنه. سألني عن عائلتها وطبيعة عمل والدها لكنه لم يكن مقتنعاً بأن حالتي المادية تسمح لي بالزواج من إمرأة من عائلة غنيّة. سألني أسئلة مقتضبة ونحن في سيارة الأجرة في الطريق إلى بيت أهلها عن البيت الذي سنعيش فيه وعن المهر وتفاصيل أخرى. ولم تكن لدي أجوبة واضحة عن الكثير أسئلته . كانت المسافة بين بيتنا وبيتهم في الجادرية، التي لم تكن قدما ابي قد وطأتهما من قبل هي المسافة بين طبقتين وعالمين ، وفكرت يومها بكل المشاكل والتوترات التي سنواجهها بسبب الهوة بين هذين العالمين ترى ما الذي كان يدور برأسه وهو يتطلع إلى البيوت الحديثة الكبيرة عبر زجاج سيارة الأجرة؟
هل كان يفكر أنني كنت على وشك أن أقطع آخر وشيجة وأنني نجحت أخيراً في أن أهجر محيطي؟ كانت هناك ثلاث سيارات تقف في الكاراج الطويل الممتد من الباب الخارجي حيث وقفنا . وإلى اليمين حديقة كبيرة حشيشها مقصوص بعناية وعلى جوانبها ورود وأشجار وفي الزاوية نخلة سامقة وبالقرب منها ورود الرازقي التي " كانت تحرص على أن تقطف منها وتعطيني إياها أيام الأكاديمية وبعدها ضغطت على الجرس وانتظرنا أنا وأبي الذي نظر إلى واجهة البيت ذي الطابقين ثم نظر إلى البيوت المجاورة التي كانت ذات معمار مميز . نظرتُ إلى حذائي لأتأكد نظافته وثبت ربطة عنقي . كانت أول مرّة أرتدي فيها ربطة عنق وجاكيتة منذ سنوات. أما أبي فلم يكن يمتلك ربطة عنق. كان يرتدي قميصاً سماوي اللون تحت جاكيتة كحلية وكان العرقجين على رأسه الأصلع . خرج أبو ريم من الباب الخشبي وجاء إلى الباب الخارجي مرحباً بنا تصافحنا وقادنا إلى الباب الخشبي الذي أفضى إلى غرفة الضيوف حيث جلسنا على مقاعد وثيرة. كان أبوها مهذباً لكنه لم يعبر أو يحاول عبور الحواجز اللامرئية .
تبادلنا التحايا وعبارات المجاملة التقليدية وجرى السيناريو كالعادة. فسألنا عمّا نحب أن نشربه ،عصير، شاي، قهوة وكانت القهوة السادة هي اختيارنا فذهب إلى الباب الذي كان موارباً وطلب القهوة. كنتُ أعرف أن لديهم خادمة، لكنني توقعت أن تكون ريم هي التي ستقدّم القهوة كما جرت العادة. عرفت من وقع الخطوات أنها كانت على وشك أن تدخل. كانت ترتدي حذاء أسود بكعب متوسط الطول أظهر رشاقتها وهي تمشي وتنورة سوداء تغطي الركبتين وقميصاً أزرق بأكمام طويلة تنفتح في نهايتها. كان شعرها معقوصاً خلف رأسها وكانت تضع حمرة خفيفة على شفتيها وقد لوّنت أجفانها بالأزرق الفاتح. قدمت القهوة إلى أبي أوّلاً وطلبت منه أن يأخذ واحدة مـن قـطـع الشوكولاتة التي كانت في صحن على الصينية، لكن أبي شكرها . ثم مالت نحوي وكنتُ أجلس إلى يمينه. تبادلنا ابتسامة وأنا آخذ فنجان القهوة وقطعة الشوكولاتة. لم أستطع أن أمنع نفسي من اختلاس نظرة سريعة إلى فتحة قميصها كانت قد بخلت بها ذلك اليوم احتراماً لطقوس المناسبة فلم ألمح شيئاً. بدا عليها شيء من الخجل كأنها عرفت ما كنتُ أبحث عنه. كانت ترتدي الأساور الفضية التي تحبها في معصميها وكانت أظافرها مصبوغة بلون شفاف .
احتل المكان صمت ثقيل ولم تفلح محاولاتي في فتح مواضيع يمكن أن يتحاورا فيها اقتصد الإثنان في ما قالاه والتزما بالحد الأدنى المطلوب. لم يكن أبي ثرثاراً أساساً وبدا على أبيها أنه اضطر لإبرام صفقة غير مربحة في طريق العودة حذرني أبي من مغبة أن أعتمد على لا وأبيها في كل شيء. تصير عالة عليهم!» جرحتني كلمة «عالة» لكنني لم أقل شيئاً. بعد كل تلك السنوات كنت قد تعلمت أن الجدال معه لا ينفع .
سمح لنا خاتم الخطوبة بحريّة لم نعهدها من قبل، فكنت أزورها في البيت ونجلس في غرفة الضيوف وبدأنا نخرج بحرية ولساعات أكثر من ذي قبل. لكن شهور العسل هذه كانت ثلاثة فقط . عاودت الاتصال بلا جدوى في المساء ذهبت إلى بيتها في الجادرية وضغطت على الجرس، فلم يخرج أحد. لاحظت أن هناك سيارتين فقط، سيارتها وسيارة زوجة أبيها. كانت سيارة والدها قد اختفت. كانت الستائر مسدلة والباب الخارجي مقفولاً. لم أفهم أي شيء؟ عدت إلى البيت واتصلت بصديقتها «سهى» فقالت لي إنّهم سافروا صباح ذلك اليوم إلى الأردن ولا تعرف متى يعودون .
حاولتُ أن أفكر بكل الاحتمالات، لكنني لم أجد تفسيراً مقنعاً. لو كان والدها قد أجبرها لاتصلت بي وقالت لي أو طلبت مني المساعدة. كنتُ أعرف أنه كان يفكر بترك البلد وكان قد بدأ يزيد من نشاطه في الأردن وتركيا، ولكن ذهبتُ إلى مكتب شركة والدها في الكرادة لاستعلم فقال لي أحدهم إنهم لا يعرفون بالضبط، لكن ربما تكون زوجته مريضة وذهبت لتتعالج في الأردن. قلتُ لنفسي لا بد من أنها ستعود قريباً إذاً. ربما ذهبت لترافق زوجة أبيها . اقنعتُ نفسي إنّها ستبعث لي بخبر أو رسالة أو ستفاجئني بعودتها، لكنها لم تعد . بعد شهر ونصف وصلت إلى البيت رسالة باليد سلّمها أحد السواق في شركة أبيها لكي يتأكد من وصولها إلي. عرفتُ من الخط على الظرف أنها من ريم. كانت بالحبر الأزرق على ورق أنيق . فضضتُ الظرف بسرعة وبدأت أقرأها وأنا واقف.
3
حبيبي وستظل دائماً .
حبيبي بالرغم، ومن بعد، كل شيء. أرجو أن تغفر لي غيابي عنك وسفري المفاجئ وعدم إبلاغك بأي شيء.
قد تغفر لي بعد أن تقرأ هذه الرسالة وآمل أن تفهمني كما كنت تفهمني دائماً . برحابة صدرك بعد أن تستمع إلى بصبر وحب . آخر ما كنت أريده في الدنيا هو أن أؤذيك أو أن أبتعد عنك لأنني أبتعد عن نفسي حين أبتعد عنك . لكن أرجو أن تصدقني حين أقول إنّ غلاوتك عندي أهم من كل شيء وحبي لك هو الذي دفعني لأن أقوم بما قمت به .
قبل شهرين وأنا أستحم أحسست بحبة تحت الجلد في جانب نهدي الأيسر. ذهبتُ إلى الطبيبة لإجراء الفحوصات. لم أقل لك
شيئاً يومها لأنني لم أشأ أن أقلقك. وقررت الطبيبة أن . الضروري إجراء عملية لاستئصالها ولفحصها وكانت نتيجة الفحص أنها خلايا سرطانية. أصرّ أبي على أن أسافر إلى الأردن للحصول على رأي ثان وتم الأمر كله بسرعة. وكان رأي الطبيب الثاني والثالث مثل الأوّل أظهرت الأشعة والفحوصات أن الخلايا السرطانية كانت قد انتشرت بشكل سريع ولم يكن هناك مفر من استئصاله وأنا الآن أخضع للعلاج الكيمياوي الذي يعني أن أيامي مليئة بالغثيان والصداع والتقيؤ. تساقط شعري الطويل الذي كنت تداعبه ولم يبق منه شيء يقولون إنه سينمو مرة أخرى
بعد انتهاء العلاج لكن من الصعب أن أصدق ذلك الآن . لم يلتئم الجرح في صدري بعد لأنني أصبتُ بالتهاب بعد العملية. استيقظتُ بعدها لأجد جرحاً كبيراً، كأن أحدهم طعنني وسرق النهد الذي كنت تحبه وتقدّسه وتسمّيه قبة من قباب معبدك الوثني. النهد الذي كنت تحتضنه براحتك وتمص حلمته كرضيع وتعضه أحياناً كجرو شره النهد الذي كنت تمزح قائلاً إنك تريد
↚
أن تدافع عن حقوقه وتحرّره من الأقمشة والأسلاك المعدنية التي توضع في المشدّات لتخنقه . أخذوه مني ولم يعد في جسدي. لم تواتني الشجاعة لأن أقف أمام المرآة إلا مرة واحدة انهرتُ بعدها وبكيت لساعات تنتابني عواصف من المشاعر والأفكار اللاعقلانية التي تنتاب كل من يفترس المرض أجزاء من جسدهم. لماذا؟ ولماذا أنا بالذات؟ مازلتُ صغيرة على هذا المرض. لم أصل الأربعين بعد قالت الطبيبة في بغداد إن نسب السرطان تضاعفت في السنين الأخيرة وربما يكون السبب اليورانيوم المنصب. صرتُ أكره جسدي وأود لو أهرب منه إلى جسد جديد لا أظن أنني يمكن أن أعيش بسلام معه. عذراً فأنا أسترسل بأنانية في الكلام عن هواجسي ومخاوفي. لكن ما أريد قوله هو إنني فكرتُ كثيراً وقرّرتُ ما قرّرته لأنني أحبك، وأحبّ حبك لي الذي لم أكن أريد له أن يتغير. أعرف إنك ستقول وأنت تقرأ هذه السطور إنك ستحب جسدي بلا نهد. لا تكذب! حتى أنا لا أحب جسدي ولا أظنّ أنني يمكن أن أحبه أو أن أعيش معه بسلام. أعرف بأنك ستحبّني دائماً. لكن صراعي مع السرطان قد ينتهي . قد أبدو قاسية بحقنا لكن يجب أن أستأصلني من حياتك. لا أريد لك أن تعيش مع إمرأة تحمل في جسدها قنبلة موقوتة. أغفر لي أنني رحلتُ دون أن أودعك . لم أشأ أن أودعك. لكنني سأظل أودعك كل يوم.
سأحملك دائماً في ذاكرتي وسيحمل جسدي جسدك ورائحته ومساماته في ذاكرته .
سامحني. سأسهّل الأمور علينا بألا أعطيك عنواني وأعطيك فرصة بداية جديدة مع إمرأة أخرى أغار منها من الآن دون أن أعرف من هي. قد تكون هذه أصعب جملة أكتبها لكن أرجو ألا تحاول الإتصال بي .
حبي وقبلاتي .
ريم
قرأتُ الرسالة عشرات المرات حتى حفظتها عن ظهر قلب. في المرّات الأولى كنت أمسح دموعاً هطلت بالرغم مني. لكنّ الدموع التي تلتها هطلت في دواخلي وشعرت أنها تجمعت واستقرت في صدري تظل تذكرني بين الحين والآخر أنها هناك، مقيمة إلى الأبد. حاولت أن أحصل على عنوانها وأن أتتبع أخبارها بشتى الطرق لكن دون جدوى. سمعت أن أباها عاد ليومين ووكل محاميه ببيع كل ممتلكاتهم وأنهم استقروا في بريطانيا. سألت صديقتها سهى لكنّها قالت إن أخبارها انقطعت . ومرت الشهور والسنين واندمل الجرح. لكنني كنتُ أتحسّسه بين الحين والآخر وأعيد قراءة الرسالة التي وضعتها في علبة صغيرة مع ظرف فيه بعض الرسائل التي كنا قد تبادلناها في بداياتنا وصورنا من أيام الأكاديمية . بعد اختفاء حمّودي ببضعة أيام زارني السيد الفرطوسي ثانية . قال إن قلبه هبط حين لم يرد حمودي على المحمول لخمسة أيام وحين رأي أنّ المغيسل مقفل كان قد مرّ على بيته وسمع الخبر أهله. دعوته للدخول. بدا حزيناً ومهموماً وهو يشرب كأس الماء الذي جئت به إليه. قال إنه مستعد لدفع مبلغ الفدية، مهما يكون، إذا اتضح أن حمودي مختطف. لكن ماقاله بعد ذلك كان يشي بمخاوفه من المصير المحتوم. الله يعلم شصار بيه. ما يستاهل ... ( إنّ الله عنده علم الساعة وينزل الغيث وما في الأرحام وماتدري نفس ماذا تكسب غداً وماتدري نفس بأي أرض تموت. إن الله عليم خبير ) . كرّر الآية الأخيرة مرتين ثم نظر إلى الأرض كأنه يقرأ شيئاً ما مكتوباً عليها ثم هز رأسه وقال: (لا حول ولا قوة إلا به ). قال إنّه كلما قال لنفسه إن البشر انحدروا إلى الدرك الأسفل يكتشف أن هناك درك أوطأ. قال إن عدد الجثث التي تلقى في المزابل وفي أطراف بغداد، والتي يصطادها الناس من النهر كالسمك الميت تضاعف في الشهور الأخيرة. يا اخي حتى الميت ما يسلم منهم وكاموا يفخخون الجثث هماتين ..
استوقفتني الـ«هم» التي استخدمها والتي يستخدمها الجميع هذه الأيام للإشارة إلى الطرف الآخر. وكنت على وشك أن أسأله . يكون هؤلاء الـ«هم» بالنسبة له . لكنني تذكرت إنه كان قد قال لي في المرة الأولى التي زار بيتنا فيها إنّه يدفن الجميع ولا تهمه الطائفة ولا حتى الدين. وقال إنّ أشلاء بعض من يدفنهم لابد أن تكون للقتلة الذين فجروا أنفسهم بدلا من أ أسأله عن الـ «هم» أردت أن أعرف بالتفصيل كيف ولماذا بدأ يقوم بما يقوم به. قال لي إنها قصة طويلة، فقلت له ألا مانع لدي .
لم يكن متدينا أو ورعاً في شبابه إلا أن ما رآه أثناء وبعد
الانسحاب من الكويت عام ۱۹۹۱ هو الذي غيّره كلياً. لم أكن أصلّي أو أصوم، بل كنت أشرب وكنت منشغلاً
بلذائذ الحياة الدنيا. بعد تخرّجي من كلية الإدارة والاقتصاد ساقوني إلى الخدمة العسكرية وقبل موعد التسريح المرتقب بأشهر غزا صدام الكويت ونُقِلَت وحدتي إلى الكويت. عندما بدأت الحرب كان القصف شديداً ومتواصلاً ولا أدري كيف نجونا منه . لم يبق من وحدتي غيري أنا وجندي آخر من العمارة، اسمه موسى كنا سوية في الخندق الكل ماتوا ودفنوا تحت الرمال. عمت الفوضى من البداية لأن كافة الاتصالات والإمدادات انقطعت من الأيام الأولى حتى قرار الانسحاب سمعناه على الراديو . كان الكل يهرب نحو البصرة التي كانت قريبة جداً من وحدتنا على الطريق الرئيسي، الذي أصبح كل ما يتحرك عليه أثناء الانسحاب هدفاً للطائرات التي كانت تحوم وتصطاد البشر كالحشرات. قال موسی إننا يجب نبتعد عن الطريق وعن العجلات والسيارات التي كان الكثير منها مليئاً بما نهبه الجنود، لكي تزداد فرصتنا بالنجاة لأن الأمريكان كانوا يستهدفون كل عجلة وسيارة. وركضنا كالكلاب أكثر من ساعتين دون أن ننظر وراءنا. فكرة موسى بالخروج عن الطريق الرئيسي هي التي أنقذت حياتنا وإلا لكنا تفحمنا مثل كل أولئك الذين رأيتهم يحترقون في مقاعد السيارات والذين تناثرت أشلاؤهم حولها. رائحة اللحم والشعر المحترقين أصابتني بالغثيان وظلت تعذبني في كوابيسي لأشهر بعدها. لن أنسى أبداً تلك الرائحة ولا منظر الكلاب السائبة التي كانت تنهش جثث الجنود قرب البصرة. كنتُ أقف مصدوماً أحياناً وأرفع من الأرض حجراً لألقيه عليها، لكن موسى كان يسحبني بقوة وكان يقول إنّها ستعود وتنهشهم بعد أن نذهب فما الفائدة؟ لم يكن لدينا سوى الزمزميات وبعض التمر في جيوبنا والراديو الصغير الذي حرصنا على ألا نسرف في الاستماع إليه لكي لا تموت البطارية. كان الهدف هو أ أن نصل إلى أقارب موسى في البصرة وننام عندهم إلى أن تهدأ الأمور قليلاً ويعود هو إلى العمارة وأنا إلى بغداد تورّمت أرجلنا من المشي والركض ليوم كامل وكانت شوارع البصرة مقفرة عندما وصلناها. رأيت شعارات يسقط صدّام» على الجدران وكانت بعض الجداريات التي تظهر صورته فيها قد شوّهت ولطخت بالصبغ. تحدثت الأخبار على الراديو عن انتفاضة بدأت شرارتها في البصرة وأخذت تعم مدن الجنوب بعد أن نادى بوش الشعب العراقي لأن يأخذ الأمور على عاتقه. أنت تعرف بقيّة القصّة. غيّروا النغمة بعد عدة أيام ولم يهب أحد لمساعدة الذين ثاروا ثم جاء الحرس الجمهوري
وبطش وذبح وصار الكل يسمّى غوغاء اختبأنا عند أقارب موسى لأسبوع لأن العودة إلى بغداد كانت محفوفة بالمخاطر. سمعنا عمّا فعله البعض بالبعثيين الكبار وكيف مثلوا بجثثهم وعلّقوا بعضهم على الأعمدة. أنا لم أحب البعثيين يوماً وهناك من عائلتي من أعدمهم صدّام لمجرد الشبهة والله العظيم، لكن حرام أن تفعل هذا بأي إنسان حتى لو كان عدوّك؟ الله هو الذي سيختار العذاب الملائم لكل ظالم ... «أولئك لهم عذاب أليم . »
ظننت يا أخي أنني كنتُ قد تركتُ كل تلك المناظر ورائي لكن تلك الكلاب السائبة لحقت بي إلى بغداد بعد أسابيع من عودتي وبدأت الكوابيس. كنت أرى ستة أو سبعة كلاب تنهش الجثث وكلما انحنيتُ والتقطتُ حجراً لأرجمها به كان الحجر يتفتت ويصير تراباً. في الكابوس الآخر كنتُ أرى أهلي كلهم يحترقون ويتفحمون وأنا أحاول أن أدلق الماء من زمزميتي عليهم كي أنقذهم. لكن الزمزمية كانت خاوية فأبدأ بنثر الرمل عليهم وكنتُ أشم تلك الرائحة المقززة من جديد ثم أصحو . أخبرتُ ابن عمي بهذه الكوابيس والأرق الذي خرّب أيامي فنصحني بالذهاب إلى الجامع وبالصلاة وكان محقاً فقد أنقذت الصلاة روحي وعقلي من الجنون الذي كان يزحف باتجاهي .
لم تختف الكلاب والكوابيس كليّاً لكنها أصبحت لا تعاودني إلا مرة كل عدة أشهر. أنت سألتني عن موضوع دفن الجثث ولكن هذه جذور الهاجس الذي ظل يؤرقني. تم تعييني في إحدى مديريات وزارة الصحة خلال العمل سمعت عن
مشكلة الجثث التي تقبع في الطب العدلي وفي أماكن أخرى. والتي لا
↚
والتي لا يوجد من يدفنها أو يسأل عنها لأسباب شتى وأحزنني الأمر وأثارني.
وأخبرتُ العديد من المعارف والزملاء عنه.
وكنتُ أعلم بوجود مقبرة حكومية مقبرة محمد سكران، في بغداد التي يمكن دفن الموتى المجهولين فيها واجهتني عقبات في البداية لكن الكثير من أهل الخير ساعدوني بالتبرّعات وهكذا بدأت بشكل بسيط .
سألني إن كنت قد غيّرتُ رأيي في موضوع المغيسل والعمل فيه، فأجبتُ بالنفي. فقال : يصيبك أجر عظيم.»
فلم أقل شيئاً بل سألته عن الكلاب والكوابيس الآن وهل تركته بسلام.
فضحك وقال إنها تركته لأنها خافت مما رأته في كوابيسه الأخرى.
سألته عن الكوابيس الأخرى فضحك وقال: «المرة الجاية . »
كنت أمشي في حديقة عامة في بغداد خيل إلي بأنني كنتُ فيها ذات مرّة منذ زمن بعيد كنتُ أعرفها جيداً من الممر الذي يخترقها والذي يدور حول النافورة التي كانت تقف في قلبها كزهرة كبيرة بتلاتها من ماء كنت أسمع خريره.
لكنني لا أذكر أنني رأيتُ يوماً هذا العدد الهائل من التماثيل البيضاء على الحشيش الذي على الجانبين. كانت لرجال ونساء وأطفال بأوضاع مختلفة.
منهم من كان يجلس ومنهم من كان واقفاً، وكانت بعض التماثيل لأجساد مستلقية على الأرض.
نظرتُ إلى السماء الحبرية اللون. كان القمر يختبئ بين الحين والآخر خلف قطعان غيوم تقودها الريح إلى مصير مجهول. خيل لي بأن الريح حركت أحد التماثيل الذي كان منحنياً كأنه يبحث عن شيء ما أضاعه في وسمعت أنيناً ما اقتربت من التمثال فازداد الأنين وضوحاً. اقتربت أكثر لأكتشف بأن التمثال كان مغطى بقماش أبيض. ظلّ يئن وعندما صرتُ أقرب سمعت صوتاً ذكورياً يتوسل بي أن أبلله بالماء. سألته أنت ولماذا تنحني هكذا، فقال: هكذا كنت عندما مت
ولا أستطيع أن أتحرّك بالله عليك، خذني إلى الماء لأنني أتعذب.
أمسكتُ به من كتفيه وكان بارداً جداً. ظل محنيّاً حتى وأنا أسحبه وهو يئن، باتجاه النافورة. وضعته على حافتها بحيث يتساقط رذاذها على رأسه. تأوّه وشكرني وطلب مني أن أدفعه كي يسقط في مائها، ففعلت قبل أن أستوعب ما فعلته، سمعتُ أنيناً آخر وصوتاً يقول لي : أنا أيضاً، أرجوك .
هل كان قدري أن أعود إلى غسل أجساد الموتى؟ هل كان قدري أن أعود إلى الطريق الذي أرادني أبي أن أظلّ عليه وأسير فيه على خطاه إلى نهايته.
ولكن ما هو القدر؟ أنا لا أؤمن بالقدر.
هناك تاريخ والناس يسمون التاريخ قدراً. لكنني لا أعرف ماهو التاريخ بالضبط.
أكوام من الأحداث التي غالباً ما تخلّف وراءها أكواماً من الجثث . سمعتُ أحد المحللين على التلفزيون يستخدم قبل أيام مصطلح «تراكمات التاريخ ) ولكن من يقرر مسار التاريخ في نهاية المطاف وهل له منطق واضح؟ أم أن كل ما هناك هو تراكمات . تراكمات جثث وجماجم وأشلاء وخيبات أمل وحزن .
تاريخي الصغير الذي أردت له أن يكون مختلفاً التهمه تاريخ أكبر نهم لا يبقي شيئاً نهري الصغير الذي أردت له أن يكون مليئاً بالألوان والحياة أجبرته الانحناءات والتعرجات على أن يسلّم ألوانه لتذوب كلّها في النهر الكبير الذي يجرف كل شيء إلى الموت .
قبل اختفاء حمّودي بتسعة أشهر شعرت أمي بألم شديد في بطنها وبدأت تتقيّاً بصورة مستمرة.
كانت تظل تقول: «عبالك سچاچين ببطني . » أخذتها إلى الطبيب الذي أمر بإجراء الكثير من التحاليل والفحوص ووصف لها بعض الأدوية.
لم تتحسّن صحتها بل ساءت فأخذتها إلى طبيبة أمرت بفحوص أخرى ثم اقترحت إجراء فحص بالناظور للقولون.
كشف الفحص عن وجود ورم زرعوا عينة منه مختبريّاً فتبين بأنه غير خبيث، لكن كان لا بد من إزالته بعملية أخرى أجرت العملية بنجاح وكانت صحتها قد بدأت بالتحسن عندما أصيبت بالتهاب شديد استوجب إدخالها إلى المستشفى مرة أخرى لمدة شهر استنزفت فواتير الأطباء وتكاليف العملية والعلاج كل ما كنت قد ادخرته ممّا كان يعطيه لي حمودي شهرياً. واضطررت أن أستدين الكثير من زوج أختي لتسديد الفواتير ولكي نغطّي مصاريف البيت.
كانت كل محاولاتي للعثور على عمل قد باءت بالفشل حتى الخروج والبحث عن عمل في المدينة أصبح رحلة في متاهة من الحواجز والمناطق المغلقة.
ضاقت بي السبل وتراكمت الديون وأحسست بأنني محاصر، بعد اختفاء حمودي وعدم عودته وانقطاع المورد من المغيسل.
جاء الفرطوسي ثانية لإقناعي وكأنه قد عرف بأنني محاصر في زاوية تضيق وتكاد تخنقني.
قال إنه من غير الصحيح أن يظل المغيسل مغلقاً وحثني ثانية على أن أعيد فتحه وأعود للعمل فيه.
ذكرني بأنّ على الأحياء واجب تجاه الموتى. لم أجب بالنفي مباشرة ولعله شعر بأنني بدأتُ أفكر بالأمر جدياً ووجد ثغرة في جداري يحفر فيها .
قلتُ له إنني لم أكن متديناً. فقال إن هذا ليس مهماً في نهاية الأمر ما يهم هو النية . ثم استشهد بآية : ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب).
قال لي: يا أخي جثث مشمّرة بالشوارع والثلاجات. إذا تطهرهه وتجَفنهه طبعاً الله يحبك ويغفر لك كل ذنوبك بعدين، ثق، الوالد راح يفرح وترتاح روحه بالجنّة . » تعلّلتُ بأنني لم أغسل جثة منذ سنين طويلة وربما أكون نسيت.
فابتسم وقال إنه لا يصدق هذا وإنّه سيعطيني أحد كتب الفقه التي تتضمن أحكام الغسل والتكفين وبأدق التفاصيل . لا أدري لماذا وافقتُ . كانت الحاجة الماسة إلى النقود طبعاً.
أقنعت نفسي بأنّ هذا حل مؤقت إلى أن أجد حلاً آخر أو مصدر دخل. لم أكن أظن بأن عودتي ستكون لشهور أو سنين. عانقني الفرطوسي وطبطب على كتفي قبل أن يودّعني وقال إنه سيتولى الاتصال بمهدي، الذي كان يساعد حمودي، كي يخبره إن المغيسل سيفتح من جديد.
أرى ريم تقف عارية في بستان ملئ بأشجار رمان قد تفتحت أزهارها.
تحرك الريح الأغصان فتبدو الأزهار الحمراء وكأنها تلوح لي من بعيد. تلوّح ريم وتقول يداها: إقترب!
فأمشي نحوها. أصيح بإسمها لكنّني لا أسمع صوتي ولا أسمع وقع خطواتي.
كل ما أسمعه هو حفيف الريح. تبتسم ريم . ولا تقول شيئاً. أقترب منها أكثر فأبصر رمانتين على صدرها بدلاً من نهديها.
تلاحظ هي بأنني أنظر إلى الرمانتين فتبتسم وتحتضنهما براحتيها من تحت .
أظافرها مصبوغة بلون أزهار الرمان وشفتاها أيضاً. أسرع نحوها وحين أصل إليها أعانقها فتسقط الرمانة اليمنى وتتدحرج على الأرض.
انحني لالتقطها فأرى بقعاً حمراء صغيرة تتكاثر على ذراعي التفتُ إلى الوراء فأرى ريم تبكي وتحاول إيقاف شلال الدم من الموضع الذي كانت فيه الرمانة .
- لو المرحوم طيب جان طار من الفرحة .
قالتها أمي بحماسة وهي تعدّ لي الصفرطاس الذي أصرت على أن آخذه معي بالرغم من أنني قلت لها الليلة الماضية إنني سأشتري طعام الغداء من إحدى المحلات ولا داعي لأن تتعب نفسها .
- ليش تاكل أكل السوك يا إبني؟ أكو أحسن من أكل أُمك؟ حطيتلك مركة دجاج ويتيتة وتمن .
كانت سعيدة لأنني سأواصل مهنة المرحوم.
لم أقل لها إنّ السبب كان مادياً ليس إلا، ولدفع كل الديون والمصاريف.
قبلت جبيني وهي تودّعني قائلة: «الله ومحمد وعلي وياك . »
كان مهدي يتكئ على باب المغيسل الخشبي وقد ثني ركبته ورفع قدمه اليمنى ووضعها على الباب وضم يديه تحت صدره. في الخامسة عشرة من عمره. شعره بنّي بقصة قصيرة جداً كأنه في الجيش وعيناه العسليتان تحت حاجبين كثيفين.
كان أنفه كبيراً وقد بدأ الزغب يظهر فوق شفتيه وخدّيه. كان نحيلاً لكن بأكتاف عريضة وعظام قوية تسمح له بأن يحمل الأجساد. كلن يرتدي حذاء رياضة أسود وبنطلون جينز مع جاكيته سوداء أخفت تحتها قميص كرة قدم مخطط بالعرض بالأحمر والأسود كتب عليه بحروف كبيرة بالانكليزية: Barcelona .
كنا قد اتفقنا على أن ألتقيه الساعة الثامنة صباحاً أمام المغيسل.
استعدل في وقفته عندما اقتربت وانزاح عن الباب. حياني بشيء من الخجل وهو يبتسم. مددت يدي فصافحني بقوة ورحّب بي مستبقاً اسمي بـ «أستاذه جودي فقلت له ألا حاجة لذلك. أخرجتُ المفتاح من جيبي ووضعته في القفل لأفتح الباب بدا لي بأنه يجب أن يكون في المدرسة بدلاً . أن من يعمل معي أو مع غيري.
سألته عن ذلك فقال إنه تركها منذ سنتين يبيع المرطبات والمأكولات في البداية،
لكي يساعد أهله .
لكنه بدأ يعمل مع خاله الى ان اختفى .
قلت له : إن شاء الله يرجع . مع أنني كنت قد فقدت الأمل في ذلك.
عاودني السؤال الذي لا جواب له وهو يخز القلب .
:شنوصار بجثة حمودي وين هي؟
لم أكن قد جئت إلى المغيسل منذ فترة طويلة .
عندما فتحتُ الباب واجهتني الرائحة ذاتها. غريب كيف أن بعض الأماكن يحتفظ برائحته التي لا تتغير لعقود كانت رائحة المكان المميزة مزيجاً من الرطوبة وعطر الكافور والسدر لكنها كانت مغطاة ذلك الصباح برائحة هواء قديم محبوس أشرتُ له بأن يدخل قبلي، لكنه تردّد فدفعته برفق من كتفه.
دخل ووقف إلى يمين الباب وانتظر دخولي ثم أغلقه وراثي فبدا كأن ضوء الصباح انسحب إلى الخارج. رأيتُ الدكة من بعيد مبللة بالعتمة.
كانت شمس الصباح خجولة لا تستطيع أن تهرب إلا شعاعاً بسيطاً عبر الشباك العالي. مشيت إلى نهاية الممر ووقفتُ عند نهايته.
شغلت المروحة السقفية ثم ذهبتُ إلى الباب الجانبي المؤدي إلى الحديقة الصغيرة
حيث شجرة الرمان وفتحته كي يدخل الهواء.
طلبت من مهدي يفتح الشباك في الغرفة المحاذية كي يتنفس المكان هواء نقياً."
نظرتُ إلى الخارج فرأيتُ الرمانات تتدلى من أغصان الشجرة.
بدأ هواء تشرين البارد نسبياً، يتسلّل إلى المكان ليغير رأيي بشأن خلع جاكيتتي.
سألتُ مهدي إن كان يحب الرمان فأومـاً بالإيجاب .
قلت له إنّ بإمكانه أن يقطف الرمانات فيما بعد ويأخذها للبيت.
شكرني وسألني إن كنت لا أحبه. قلت له إنني أحب الرمان ولكن ليس من هذه الشجرة. ذهبت إلى الدواليب وفتحتها. كان كل شيء في مكانه حسب النظام الذي أرسى قواعده أبي .
أكياس السدر المطحون بجنب أكياس الكافور التي لم يكن قد تبقى منها الكثير ولهذا ذهب حمودي إلى الشورجة ولم يعد. كان هناك ما يكفي للأيام القادمة المناشف البيضاء وقطع القماش الأبيض والأكفان كانت في مكانها، لكن الأكفان هذه الأيام كانت مغلّفة بالنايلون وقد نقشت عليها الأدعية. في الدولاب الثالث تكدست مكعبات من صابون الركي الزيتوني اللون الذي فاح عطره وأكياس القطن كانت الطشوت والأجانات والجرادل والطاسات مرتبة بعناية فوق بعضها البعض.
فتحتُ الصنبور لأتأكد من وجود الماء فتحشرج صوته ثم انهمر بارداً بقوة فسددته. وقفتُ عند الدكة ولمستُ حافتها بأصابعي.
كانت هي الأخرى باردة كالجثث التي تستلقي عليها. نظرتُ إلى أصابعي
↚
وكان هناك بعض الغبار عليها . طلبت من مهدي بأن يقوم بكنس وتنظيف المكان فذهب إلى المخزن ليجئ بالمكنسة. ذهبت إلى الغرفة المحاذية. كان كل شيء مثلما هو الكراسي والطاولة وصورة الإمام علي فوق الشبّاك . كانت هناك هالة صفراء مشعة حول رأسه تحيط بالكوفية الخضراء . ارتفع حاجباه من الوسط قليلاً واستقرت عيناه البنيتان الكحيلتان في محجرين كبيرين. شاربه ولحيته سرحة متموجة وقميصه أبيض. كانت جملة لا فتى إلا علي ولا سيف إلا ذو الفقار مكتوبة أسفل الصورة. عندما نظرتُ إلى اليمين كانت هناك صورة قديمة لأبي بالأبيض والأسود مؤطرة بإطار خشبي يبدو أن حمودي علقها في الغرفة. سألت أمي فيما بعد من أين جاء بالصورة فقالت إنه طلبها منها ليكبرها لكنها نسيت أن تقول لي كان يبتسم فيها شبه ابتسامة. قلت له : ها أنذا أعود إلى المكان الذي أردتني أن أرثه عنك. ها أنذا أخذ مكانك كما أخذت أنت مكان أبيك من قبل. لكنني أحذرك يا أبي بأنني لن أظل هنا طويلاً.
سمعت صوت المكنسة تحتك بأرض المغيسل وبدأت دقائق الغبار تدخل أنفي. جلستُ على الكرسي ونظرت إلى صورة الإمام علي ثانية. جاء صوت مظفر النواب مدوياً من ذاكرتي وهو يخاطبه : «لو عدت الآن لحاربك الداعون إليك وسموك شيوعياً . » أخرجت من جيب جاكيتتي الدفتر الصغير الذي كنتُ قد دونت فيه ذات صيف كل التفاصيل المتعلقة بالغسل. كان ورقه قد اصفر، لكن غلافه كان سليماً طالعتني بعض التخطيطيات والرسوم لوجه أبي مسبحته ووجه الإمام علي وغيرها التي كانت تملأ الصفحات
وتؤطر الملاحظات والتي كان عمرها أكبر من عمر مهدي. قرأت في إحداها جملة مكتوبة بخطي : قبل الغسل نقول: أغسل هذه الجنة لهذا الميت واجباً قربة إلى الله تعالى. أثناء الغسل يجب أن نردد «ربّ عفوك» أو : اللهم هذا بدن عبدك المؤمن قد أخرجت روحه من بدنه وفرقت بينهما، فعفوك عفوك . » كنتُ قد كتبت كل تفصيل في هذا الدفتر . لم يكن الغسل معقداً أو صعباً في تفاصيله وكنتُ قد راقبت أبي يقوم به مئات المرات ثم ساعدته .
أنهى مهدي كنس المكان وسألني إن كان بإمكانه أن يقوم بأي شيء آخر، فطلبت منه أن يغلق الأبواب والشبابيك لأن البرودة دخلت المكان وأن يذهب إلى مغيسل النساء ويطلب منهن بعد السدر والكافور. كان لدينا ما يكفي لعدة أيام ولكن لا ضرر في التحوط عاد ووضع ما جاء به في الدواليب ثم جاء ووقف عند باب الغرفة . قلتُ له أن يأتي ويجلس معي. نزع جاكيتته ووضعها على ظهر الكرسي. حاولت أن أتعرّف عليه أكثر فسألته عن هواياته وما يفعله في وقت فراغه، فقال إنه يعشق كرة القدم ويلعبها كلما سنحت الفرصة وإنّه يريد أن يكون لاعباً محترفاً في المستقبل .
ابتسمت وقلت له : ليش لا؟
أشرت إلى قميصه الذي كان يحمل اسم وألوان برشلونة وسألته إن كان يريد أن يلعب في نادي برشلونة فتحمس
وقال : «إي . »
سألته عن الفرق العراقية فقال إنه يشجع الطلبة. كنتُ قد ابتعدت عن متابعة كرة القدم لكنني قلت له إنني زورائي حتى العظم. سألته عن الموقع الذي يحب أن
يلعب فيه
فقال : «الهجوم . »
قبل أن نتوغل أكثر في صداقتنا هاجمنا الموت بطرقات على الباب. هب مهدي باتجاه الباب ليفتحه
تسارعت دقات قلبي وبقيت في الكرسي لنصف دقيقة. سمعتُ مهدي يقول للطارق : «إي هنا . »
قمتُ من مكاني وخرجت من الغرفة ووقفت بالقرب من الدكة ثم اتجهتُ إلى الممر . عاد مهدي ووراءه ثلاثة رجال يحملون شرشفاً أبيض ملطخاً بالدم يخفي في طياته الميت. أشار إليهم مهدي بأن يضعوه على الدكة. قال مهدي لأحدهم وهو يشير إلي : أستاذ جودي هو المغسلجي.» كان وقع الجملة غريباً على مسامعي وكأن مهدي أعلن رسمياً حقيقة ما كنت سأقومن به .
كان الرجل في بدايات الخمسينيات. قصير القامة وممتلئاً بعض الشيء. غزا الصلع نصف رأسه الأمامي كاشفاً عن رأس حنطي اللون يلمع وعلى الجانبين شعر رمادي بلون الشارب الدقيق. نظرت إلى عينيه الكحليتين المتعبتين وقلت له تلقائياً : البقية بحياتك. شيصير منك . فقال : «تسلم. ابن أختي .» ترحمت على روحه وطلبت منه شهادة الوفاة. فطلب من أحد الذين كانا معه بأن يجئ بها من السيارة فخرج مسرعاً. بدأ مهدي يعد الطشوت ويملأها بالماء. سألني الرجل عن أجرة الغسل فوجدتني استخدم جملة أبي : هاللي تكدرون عليه. كلفة الكفن وإكرامية، التابوت من الوقف ببلاش بس بعد ما نخلص .» فقال: «زين» طلبت منهما أن يجلسا على المصطبة إن أحيا فذهب الثالث وجلس عليها، لكن عم الميت ظل في مكانه. عاد الشاب الذي كان ممتلئاً بعض الشيء وبشعر بني ووجه منفوخ يحمل الورقة وسلمها للعم الذي أعطاني إياها بشيء من التردد. نظرتُ إلى الورقة : الاسم الثلاثي واللقب : جاسم محمد علوان
الجنس : ذكر . تاريخ الولادة : ۵-۸-۱۹۸۲ سبب الوفاة : تسمم/ كبسولات. أعدتُ الورقة إليه دون أن أقول شيئاً. مات في الرابعة والعشرين حتى قبل أن تبدأ حياته بالتفتح. كانت الكبسلة والمخدرات قد انتشرتا بين الشباب بشكل لا سابق له . ذهب الشاب الذي جاء بشهادة الوفاة وجلس على المصطبة بجنب الآخر .
قتربت من الدكة فتذكّرتُ بأنّني يجب أن أخلع حذائي وبأنني لم أجلب نعلاً من البيت. ارتبكت بعض الشيء ثم ذهبت إلى الغرفة المجاورة.
خلعتُ فردتي حذائي وجوربي ووضعتهما داخل فردتي الحذاء ووضعتهما تحت الكرسي. أحسست ببرودة الأرض تسري في قدمي طويتُ أردان قميصي حتى المرفق ثم عدت باتجاه الدكة .
ذهبتُ نحو الحنفية وفتحتها فانهمر الماء بارداً.
غسلت يدي وذراعي حتى المرفقين بالصابون ثم جففتهما بمنشفة كان مهدي قد هيأها لي .
وقفتُ إلى يمين الدكة وأزحت الشرشف عن وجه الميت وجسده. كان عارياً إلا من سروال داخلي أبيض . بشرته مائلة إلى الاصفرار . شعره بني قصير وجبينه عريض وأنفه دقيق وطويل. كان يطرز خده الأيمن خال بالقرب من طرف شاربه.
شفتاه بدتا وكأنهما عطشانتان. كان هناك بعض الشعر المبعثر على صدره بين الحلمتين ثم يصبح خطاً أسفل بطنه . كان نحيلاً وقد برزت أضلاعه وعظامه بشكل واضح. وضعتُ ذراعي تحت رقبته كي أحمله وأسحب بيدي الأخرى، الشرشف من تحت الجزء العلوي من جثته اقشعر بدني. أعدتُ رأسه إلى الدكة.
وضع مهدي يديه تحت ركبتيه ليرفع بقية جسمه. سحبت
ما تبقى من الشرشف . أعطيته لمهدي الذي طواه وأعطاه للرجل الذي ظل واقفاً في مكانه . أخذه الرجل وظل ممسكاً به. جاء مهدي بمنشفة بيضاء نظيفة وأعطاني إياها وكان يحمل مقصاً باليد الأخرى. وضعتُ المنشفة على وسط الرجل. أخذت المقص من مهدي ورفعت المنشفة قليلاً بيدي اليسرى لكن دون أن أكشف شيئاً وبدأت أقص سرواله الداخلي من الجانب. درتُ إلى الجانب الآخر وفعلتُ نفس الشيء وأزلت السروال من تحته ومن فوقه وأعطيته لمهدي الذي أخذه ووضعه في كيس نايلون كان قد أخرجه من أحد الجوارير وأعطاه لعم الميت. أخذ مهدي المقص مني. وضعت راحتي على بطنه ومسحتها برفق فأحسستها كأنها من البلاستيك الصلب. ملأت طاسة بالماء وصببته على وجهه قليلاً منه وأدخلت سبابتي بين شفتيه وفركت أسنانه. كان مهدي قد بدأ يضيف السدر المطحون إلى الطشت ويخلطه فتكونت رغوة على سطحه وفاحت رائحته الزكية . صببتُ طاسة أخرى على شعره وفركته بيدي وغسلت وجهه ثم صببت المزيد من الماء. عندما نظرتُ إلى مهدي عرف بأنّ الوقت قد الوقت لقلبه على جانبه . قلبناه وأنا أردد : عفوك عفوك . » غسلتُ الجانب الأيمن من الرأس حتى أخمص القدم ثم فعلتُ ذات الشيء للجانب الأيسر. غسلناه بالماء والكافور وثم في المرة الثالثة بالماء الصافي. لأكثر من نصف ساعة كان صوت ارتطام الماء بجثته ثم سقوطه على الأرض يسود المكان تتخلله تمتماتي الدورية. نشفناه جيداً ثمّ كفناه ووضعنا جريدتي نخل جلبهما مهدي من المخزن . كان مهدي، بفضل السنتين اللتين أمضاهما مع حمودي، قد أتقن واجبات المساعد وإيقاع الغسل،
فكان دائماً يستبق الخطوة التالية ويستعد لها مما خفف من توجّسي من أن أخطيء. عندما ذهبنا إلى الزاوية لنجئ بالتابوت، نهض الشابان. وضعناه على الأرض قرب الدكة ثم حملنا الجثة وسجيناها فيه . سألني الرجل ثانية عن الأجرة فقلت له إنّه ليست هناك أجرة محددة. أعطاني عشرة آلاف دينار فشكرته وعزّيته مرة أخيرة، حملوا النعش وخرجوا .
سألت مهدي عن المبلغ وأنا أضع الأوراق في جيبي فقال إنّه جيد جداً وقال إن حمودي كان يطلب عشرين ألفاً إذا أراد أهل الميت أن تضاف الحبرة إلى الكفن اقترحت عليه أن نغسل الدكة ونرتب الطشوت فقال إنّه سيفعل ذلك لوحده. جلست في الغرفة . بحثت عن الراديو فلم أجده . سألتُ مهدي عنه فقال إنه لا يعرف أين هو . قرّرتُ أن أجئ بالراديو الصغير من البيت ليؤانسنا.
فجأة تذكرتُ بأنني نسيتُ أن أقول : أغسل هذه الجنة لهذا الميت واجباً قربة إلى الله تعالى .
خلتُ الإمام علي ينظر إلى من الصورة لكنني لم أر أي تأنيب أو غضب في عينيه . رفق الموت بحالي في يومي الأوّل فأعطاني استراحة طويلة .
لم يجئ أحد حتى الظهر. تذكرت الصفرطاس. لم يكن مهدي قد جاء بكيس أو أي شيء ء معه . أعطيته قليلاً من النقود وطلبت منه أن يشتري لنا سندويشتي فلافل من محل أبو كريمة في نهاية الشارع وأن يأتي بعلبتي بيبسي أيضاً، فابتسم وبدا متحمساً للمهمة ولما سيحمله . جلست أنتظر عودته فرأيتُ دفتري القديم وتصفحته فوجدتُ بعض الصفحات الخالية. قرّرتُ أن أدون أسماء الموتى الذين سأغسلهم . فكتبت تاريخ اليوم واسم الميت : «جاسم .
قربتنا وجبات الغداء المشتركة وجلساتنا بالقرب من الراديو الجديد الذي اشتريته من بعضنا البعض . لكن ما قربنا أكثر من أي شيء آخر هو ما كنا نقوم به معاً في الغرفة المجاورة في الأشهر التي تلت ذلك اليوم والأجساد التي كنا نغسلها والتي ملأت دفتراً بعد دفتر. كان اليوم الأول بسيطاً بالمقارنة بما جاء في الأيام والشهور التي تلته .
كانوا يشبهون البشر ببنية أجسادهم ووجوههم، ولكنهم لم يكونوا من لحم ودم بل من شيء يشبه الغيوم فكنت أراهم وأرى عبرهم بنفس الوقت. أحصيت أكثر من عشرة منهم. كل واحد له جناحان كبيران يصطفقان بقوّة. كانت وجوههم تتوهج في الظلام. تجمهروا حولي وأمسك إثنان منهم بكتفي وأجلساني على غيمة . ثم جاء ثالث وأحكم قبضتيه حول عنقي وقال بصوت بدا كأنه قادم من بعيد مع أنه كان أمامي : كيف تغسل دون أن تنوي؟ قلت له وأنا أختنق : من أنتم؟ فقال: «أأنت أحمق؟ ألا ترى أننا ملائكة؟ فقلت له : ملائكة وتعاملونني بكل هذا العنف كأنكم أمن أو مخابرات؟
صفعني وقال: «أنت لست هنا لتستجوبنا . »
وكرّر سؤاله: «كيف تغسل دون أن تنوي.»
فقلت له : «قد نويت . »
أصعب لحظة هي لحظة الاصطدام باليقظة حين يرن المنبه وأدرك بأنّ على أن أبدأ استعداداتي للعودة إلى الماراثون الإجباري. حتى أسوأ الكوابيس بشاعة يظل فيه أمل اليقظة. لكن لا يمكنني أن أستيقظ من اليقظة نفسها ومن هذا الكابوس الأبدي. بعض الناس يذهبون ليجلسوا خلف مكتب تتكدس عليه الأوراق أو ليشغلوا آلة طوال اليوم. أما أنا فمكتبي دكة الموتى وعزرائيل يعمل ساعات إضافية ويتفانى كأنه يريد الحصول على ترقية ليصير إلها. كنت أمشي في الشارع وأنظر إلى وجوه المارة وأفكر ترى من منهم سيستلقي على الدكة لأغسله . كان كل يوم من أيام الأسبوع صعباً وله مآسيه الصغيرة الخاصة بتفاصيلها، لكن الخميس كان الأصعب والأطول لأنه اليوم الذي تصل فيه ثلاجة الفرطوسي المحملة بحصاد الموت الأسبوعي . كل أولئك الذين يُقتطعون من عوائلهم وحيواتهم ويلقى بهم في المزابل على أطراف بغداد أو في النهر أو يتعفّنون في الطب العدلي. معظمهم بلا أوراق أو هوية ولا يعرف لهم اسم، فكنت أضع في دفتري سبب الموت، بدلاً من الإسم
المجهول : رصاصة في الجبين خطوط حمراء حول الرقبة، طعنات سكين في الظهر، جسد مقطع بمنشار كهربائي، جسد بلا رأس، تفتت في انفجار و و و وكان كل اسم يهوي إلى أعماقي ويظل صداه يتردد. ولا شيء يمحو الوجوه حتى صارت ذاكرتي دفتراً لوجوه الموتى. أدركتُ ذات يوم وأنا أعود إلى البيت بأنه، باستثناء مهدي وأمي، فأنني كنت أعيش أيامي مع الموتى