📌 روايات متفرقة

رواية بعينيك وعد الفصل الاول 1 بقلم تميمه نبيل

رواية بعينيك وعد الفصل الاول 1 بقلم تميمه نبيل

رواية بعينيك وعد الفصل الاول 1 هى رواية من اجمل الروايات الرومانسية السعودية رواية بعينيك وعد الفصل الاول 1 صدر لاول مرة على موقع التواصل الاجتماعى فيسبوك رواية بعينيك وعد الفصل الاول 1 حقق تفاعل كبير على الفيسبوك لذلك سنعرض لكم رواية بعينيك وعد الفصل الاول 1

رواية بعينيك وعد بقلم تميمه نبيل

رواية بعينيك وعد الفصل الاول 1

وصلت الي بيتها تجر قدميها جرا .... تصعد السلالم بتثاقل لا يماثل ذلك التثاقل في ضربات قلبها ....
شعور غريب ذلك الذي يعتريها منذ أن خرجت من مكتب ذلك الرجل الذي لم تراه سوى مرة واحدة في حياتها .... و على الرغم من أنها قد توقعت الأسوأ .... توقعت أن يطردها ربما .... لا تعلم لماذا توقعت ذلك ...
لكن الماضي الذي سبق مولدها كان أشد من أن يستقبلها بأريحية .... بعد أن شفى غليله من والدها ....
و مع أنه لم يحدث ما توقعته ..... الا أنها كانت تشعر بخزي و جرح في كرامتها يفوق الوصف ....
و أثناء وصولها للطابق الأول و هي مطأطأة الرأس سمعت أصوات صراخ و شجار عالٍ ..... و صوت " سهير " التي تسكن بالطابق اسفل طابقهم ..... و هي تقف أمام باب شقتها ... تستطيل بجسدها من فوق سور السلم و هي تصرخ و تشتم و تتوعد .....
و أثناء صراخها ... انهالت فوق رأسها كمية هائلة من القمامة من الطابق العلوي !!
كانت وعد قد وصلت اليها لترى مذهولة هذا المنظر و سهير تقف متسعة العينين بذهول مماثل و بعض قشور الخضراوات المتعطنة و البواقي مما لم يعرف مصدره يعلو شعرها .....
رفعت وعد يدها الى فمها تكتم شهقتها المصدومة و هي تهمس برعب
( يا اللهي ... لا .... لا ....... )
ثم حاولت الهرب لتصعد جارية ... الا أن سهير كانت قد استفاقت من ذهولها لتتشبث بكنزة وعد بأظافرها حتى كشفت كتفها بعنف و هي تصرخ في وجهها بأقذع الألفاظ .... لم تميز منها وعد سوى
( أقسم بالله , أن تكون نهاية والدك على يد زوجي ...... لقد تحملته كثيرا ... لكن قسما بالله بعد ما فعله الآن فكسر رقبته سيكون على يد زوجي ان شاء الله ...... )
كانت وعد تحاول جاهدة ان تخلص كتف كنزتها من براثن تلك المتوحشة و هي تصرخ بها
( ابتعدي عني ........ اتركيني ...... )
الا أن سهير ذات الصوت المجلجل برناته لم تكن لتتخلى عن فرصتها بتلك السهولة و هي تكيل لكتف وعد بعض اللكمات الطائشة ....
كانت وعد تحاول الهرب بقوةٍ الى السلالم دون جدوى و هي تنظر الي الطابق الذي يعلوها ... لعل والدها يرأف بحالها و ينزل كي ينقذها بعد ما تسبب به .... لكنها كانت كمن يتوقع أن تمطر السماء ورود فواحة ... حيث سمعت صوت صفق باب شقتها من فوق بقوة ....
و كأن من يتم ضربها على السلم الآن ... ليست ابنته و لا تعنيه في شيء .....
و حين وجدت أن السبيل الوحيد للدفاع عن نفسها هو الهجوم .... بدأت تغمض عينيها .... و تعد للعشرة ... و تأخذ عدة انفاس و هي تحاول السيطرة على طاقة الغضب الجبارة التي بدأت تشتعل بداخلها و تنذر بحرق كل ما حولها ....
و ما أن نجحت في أن تهدىء نفسها حتى ... رفعت قدمها ذات الحذاء المهترىء لتنزل بها بأقصى قوتها على أصابع قدم سهير .... التى اشتعلت عيناها ألما و غضبا أكثر .... الا أن وعد عاجلتها بقرصةٍ قوية في خاصرتها الطرية جعلتها تصرخ ألما هذه المرة .... و لم تفك وعد أصابعها القارصة كالثعبان الا بعد أن خففت سهير من قبضتها عن كنزة وعد .....
فتركتها حينها و هي تدفعها بكل قوتها لتصعد جارية فوق السلالم .... بينما وقع أقدام سهير خلفها كان يرعبها و هي تتخيلها ترميها من فوق السلالم .... و ستكون نهايتها مجرد حادثة مأساوية من سقوطها على الدرج و لن يدري احد بتلك الجريمة ......
وصلت لاهثة الى باب شقتها و أخذت تضرب عليه بسرعة هاتفة
( أبي ..... أفتح الباب .... أبي ...... )
لكنها كانت في نفس الوقت تعافر مع حافظتها الصغيرة لتخرج منها المفتاح العتيق ....و ما ان وصل صوت أقدام سهير خلفها مرافقا لصوتها العنيف المرعب .......
حتى كانت وعد قد تمكنت باستحالة من دس المفتاح في قفل الباب الصدىء و فتحه ... لتدخل مهرولة الى الداخل لتصفق الباب على أنف سهير التي كادت أن تنسف الباب من همجية ضرباتها ....
ابتعدت وعد عن باب الشقة ... و هي تتنفس بصعوبة و تعب .... تراقب الباب المنتفض و تسمع الشتائم و الصرخات من خارجه .... الى أن بدأت التوعدات تخف و صاحبتها تنزل الى طابقها و هي تقسم أغلظ الأيمان ...
أغمضت وعد عينيها و هي ترفع يدها الى صدرها المتعب بكل ما يحمله من هموم ...
ثم استدارت لتنظر الى والدها الذي كان قابعا فوق كرسيه القديم .... ممسكا بطبقٍ من العنب يتناول حباته ....ينظر اليها بابتسامة متغضنة ملتوية .... يراقبها بعينين رماديتين ساخرتين جليديتين ....
ليقول بصوته الأجش الساخر
( هل طردك ؟؟ .......... )
ظلت تنظر اليه ببرود و صدرها يغور ... لتقول بهدوء و هي تتجه ببطىء الى غرفتها
( تقصد كما فعل معك ؟؟ ....... لا لم يفعل )
فوصلها صوته من خلفها قائلا بدهشة مفتعلة وهو يدس حبة عنب في فمه
( لا تخبريني بأنه قد قبل عودتي الى العمل !! ......... )
التفتت اليه لتقول بنفس الهدوء
( لا .... وهو لا يريدك أن تقترب من مكان عمله ولو على بعد اميال ..... )
حاولت أن تهرب الى غرفتها ...الا انه استوقفها أخيرا قائلا بدون تساؤل حقيقي
( اذن ...... ماذا كان عرضه ؟؟؟ )
التفت اليه مبتسمة بلا مرح لتقول لتقول بلهجة انتصار
( سيوظفني أنا بدلا منك ............ )
اتسعت ابتسامته دون أن ينظر اليها و هو ينظر الى حبة عنب براقة معجبا بها .... و دون أن تبدو أي دهشةٍ على ملامح وجهه ليقول
( و بأي وظيفةٍ ؟؟ .......)
قالت بتحدى زائف و هي تفرك أصابعها
( بنفس وظيفتك .......... )
ضحك ضحكة خشنة و تغضنت زوايا عيناه الخشنة .... ليقول بعد حشرجةٍ متسلية
( ساع؟!! ..... لا بأس .... لا يهم المسمى .... المهم أنه يريدك )
امالت وجهها الى الجانب الآخر و هي تقول بقساوة
( لا تأمل كثيرا ..... فهو لا يريدني بتلك القوة , إنها مجرد رابطة الدم التي جعلته يشفق علينا من جديد )
كانت ضحكته هذه المرة أكثر علوا ... و أصدح صوتا و هي تخرج من أعماق صدره الملبد بحشرجات العمر و الشيخوخة ....
ظلت تنظر وجهه الخشن الضاحك .... لسببٍ ما على الأرجح أنه قد وجده مسليا له ....
لكن الأكيد أنه أيا كان سبب ضحكه .... لم يكن سعادة حقيقية بعملها الجديد أو بأي شيءٍ جاد يخصها ....
استدارت وعد بصمت لتذهب الى غرفتها دون أن تجد المزيد من الجهد على أن تحتمل المزيد من سخريته و استهزاؤه بها .......
دخلت و أغلقت الباب من خلفها تستند اليه بإرهاق .... مغمضة عينيها , كم تشعر بالراحة أنها استطاعة أخذ المتبقي من اليوم كأجازة من المعرض .... بعد أن تذللت لصاحبه السمج الى أن وافق أخيرا على مضض ...
لم تكن لتستطيع اليوم أن تتعامل مع المزيد من البشر ......
اقتربت من سريرها ببطء لتستلقي عليه فاتحة عينيها محدقة بالسقف .... و هي تسأل نفسها
" هل ستذهب اليه غدا بالفعل ؟؟ ....."
اخذت تتلاعب بخصلات شعرها المنفلتة من ذيل حصانها ..... كيف تأمن له وهي تعرف بأنه ما قبل بتوظيفها عنده الا ليذلها انتقاما من والدها ... تماما كما فعل معه قبلها ....
و من أدراها أن يغدر بها و يطردها من العمل بعد أن تكون قد تخلت عن عملها الحالي ...
أرجعت رأسها للخلف و هي تتنهد مفكرة ... بأن هذا احتمال بعيد الا أنه وارد بعد أن فعلها مع والدها ......
أغمضت عينيها مجددا ترتاح قليلا على ذكرى عينين قاسيتين .... تنظران اليها نظرة ماضٍ لم يهدأ بداخل قلب صاحبهما .....
ربما كانت تلك القسوة هي الحافز لها ..... لتقتنع ! .......
.................................................. .................................................. ............................
أفاقت من نومها على صوت شجار و صراخ ....... فنهضت من سريرها مرتعبة و هي تدرك أن الشجار بداخل بيتها نفسها .... على بعد أمتار من باب غرفتها ....
اقتربت بسرعة من الباب ترهف السمع ..... فأغمضت عينيها يأسا و هي تتعرف على صوت زوج سهير وهو يكمل ما بدأته زوجته .... لكن لا صوت لوالدها على غير العادة .... هل فعل به شيء ؟!! .... هل ضربه على رأسه ؟؟!! ....
حزمت أمرها سريعا و هي تفتح باب غرفتها لتخرج من غرفتها مندفعة .... فرأت ذلك الرجل ضخم الجثة , يقف هادرا ممسكا بمقدمة بيجامة والدها القميئة يهزه بعنف صارخا
( لولا أنك رجلا كبيرا لكنت أفقدتك القدرة على رؤية ضوء النهار لتجرؤك على زوجتي ...... )
فزعت وعد وهي ترى والدها صامتا ينظر ينظر اليه بنظرته الساخرة التي تمقتها ..... لكنها وارت مقتها جانبا و هي تندفع اليه لتنشب اصابعها في ساعد ذلك الرجل صارخة
( اترك والدي ..... اتركه و اخرج من هنا قبل أن أطلب لك الشرطة ...... اخرج من بيتي حالا .... )
فما كان منه الا أن ترك والدها ليمسك بذراعها فجأة بقوةٍ يكاد أن يرفعها عن الأرض وهو ينظر الي وجهها بقسوةٍ قبل أن يقول مشددا من بين أسنانه ...
( لقد تخطيتِ أنتِ ووالدك الحدود مع زوجتي ..... و قسما بالله لو تكرر الأمر فسوف .... )
قتاطعته وعد بشجاعة باصقة بالكلام رغم ارتجافها داخليا
( زوجتك هي من اعتدت علي .......... )
الا أنه شدد على قبضتها فأرتجفت حدقتاها ألما وهو يقول مشددا
( أتحبين أن أحيل حياتيكما الى جحيم ؟؟ ...... أتحبين أن أضعكما في تفكيري منذ اليوم ؟؟ .... )
لم ترد و قد خانها الجواب للحظة ... حينها نطق بأن هزها مرة
( الزمي مكانتك ... و سيطري على والدك ...... )
نظر الى عمق عينيها للحظةٍ قبل أن يستدير خارجا ..... فظلت مكانها مسمرة تنظر الى الباب المفتوح و دمعة قهر حبيسة عينيها يغذيها شعور بالمهانة فحانت منها التفاتة الى والدها الذي اتجه الى كرسيه ليجلس اليه باسترخاء ... رافعا احدى قدميه عليه مرخيا الأخرى .... ينظر اليها بنفس النظرة ..... و التي تضاعف مقتها لها حاليا ألف مرة ......
ابتلعت غصة كبت في حلقها ثم قالت بتجمد
( الى متى ستظل هكذا ؟؟ ........ لقد تعبت )
رفع احدى كتفيه ليقول بصوته الأجش ببساطة متناهية
( الباب يمرر جمل ........ )
أومأت برأسها لا اراديا .... ثم عضت على شفتيها قائلة بثقة
( سأرحل ....... يوما ما سأرحل من هنا و لن أخضع لشفاعة أي رابط بيني و بينك )
ابتسم وهو ينظر اليها من فوقها لتحتها ثم قال ساخرا
( لقد كبرتِ .... و أصبح لكِ صوتا , فأين أيام المكوث تحت الطاولة باكية ...... )
لم ترد عليه لعدة لحظات ..... قبل أن تهمس بلا تعبير
( لقد ولّت ............. )
ثم استدارت لتلتقط حافظتها الصغيرة لتخرج من الباب المفتوح .... كما دخلت منه و كما نامت و كما استيقظت .......... دون أن تجد الوقت لتنظر لمرآة .... أو أن ينزل الى معدتها القوية أي طعامٍ من اي نوع ...... فالجوع يأنف من أن يطل في مثل هذا الجو البائس .......
.................................................. .................................................. ......................
طرقة للباب البسيط .... ثم وقفت مطرقة الرأس , منحنية الأكتاف ....... تنتظر أن تفتح لها صديقة العمر ... تلك النسمة الوحيدة في حياتها ....
و بالفعل فتح الباب بعد لحظات .... لتفتح لها الباب تلك الأخت التي لم تلدها أمها .... بل ولدتها لها أيام الماضي الذي تفضلان نسيانه ....
" كرمة "
ابتسمت لها برقةٍ ... فابتسمت لها وعد بمرارةٍ اعتادت أن تسكن ابتسامتها منذ سنوات عديدة حتى سكنت شفتيها و حفرت زواياه ....
من ينظر اليهما يظن أنهما شقيقتان .... فهناك شبها لا يمكن انكاره بينهما , الا أنهما في الواقع لا تقربان لبعضهما لا من قريب و لا من بعيد ....
لكنها في قرارة نفسها تنكر ذلك التشابه و بشدة .... فكرمة تختلف عنها ... دائما ما كانت تختلف عنها ....
كرمة ذات الأحلام العالية ..... كرمة ذات الهدف الثابت في الحياة .... كرمة الواثقة بأنها في أفضل حال ....
منذ أن كانت طفلة .... و حتى اليوم ....
دائما ما توهم نفسها بأنها في أفضل حال .... بالرغم من أن هذا غير حقيقي .... منذ الطفولة و حتى الآن ... لكنها تأبى الإعتراف .....
تنهدت وعد بصمت و هي تتأمل الملامح البسيطة الجذابة المبتسمة .... فقالت كرمة بلهفة
( هل قبل أن يعيد والدك للعمل ؟؟؟ ........... )
همست وعد بخفوت
( هل زوجك في البيت ؟؟ .............. )
ابتعدت كرمة قليلا لتمر و هي تقول
( لن يعود قبل وقت متأخر ..... ادخلي )
لم تعلق وعد كالعادة و دخلت في صمت .... فالكلام مع كرمة غير مجدي في كل الأحوال ...
اقتربت لتجلس على الأريكة النظيفة البسيطة .... الا أن كرمة جذبتها من كفها الى غرفة نومها و هي تقول بعطف
( تعالي الى غرفتي ..... سأدعك تلهين بهوايتك المفضلة , فتنزعي عنكِ حلة البؤس تلك و أستغلك أنا في نفس الوقت )
سارت وعد خلفها في صمت .... و خلال لحظات , كانت الإبتسامة بالفعل تعلو شفتيها الحزينتين و هي منكبة على ركبتيها أرضا ممسكة بطرف ثوب كرمة الأسود الذي فصلته لها بنفسها من سلسلة عدة فساتين و ألبسة أخرى مختلفة .....
أخذت تثني طرفه و هي تثنيه لتبدأ في تثبيته بالخيط و الإبرة ..... بينما كانت كرمة تقف أمام المرآة تتطلع لنفسها مبتسمة بشرود ... ثم همست
( أريده أقصر من ذلك يا وعد .... قصريه أكثر )
رفعت وعد عينيها الى كرمة تتحقق من ملامحها .... ثم قالت بدهشة
( ميولك الإنحرافية تزداد هذه الأيام يا كرمة ..... لم يكن ذلك طرازك في الملابس من قبل .... )
أحنت كرمة رأسها و هي تبتسم اليها بمرح و تهتف
( هل ظننتِ أنني سأخرج بثوب كهذا ؟!!! ...... لا .... أنا أريده للبيت )
رفعت وعد حاجبا مغتاظا و هي تهتف بحنق
( ماذا ؟!! .... أنه من أجمل ما فصلته لكِ ..... هل أتعبت عيناي كي ينتهي به الأمر بمجرد أن ترتدينه في البيت ؟!!)
ضحكت كرمة بخفة و هي تقول بشقاوة
( حين تتزوجين ستعلمين ان ارتداء هذه الفساتين في البيت له طعم آخر يزيد من قيمتها .... لا العكس )
مطت وعد شفتيها بإمتعاض و هي تمسك نفسها عن رد فظ كي لا تقتل نظرة الأمل الغبية في عيني كرمة ... فاكتفت بأن تقول بفظاظة
( انا لن أتزوج أبدا ...... لقد كرهت الرجال جميعا )
نظرت اليها كرمة بعطف قبل أن تهمس برقة
( ليس جميع الرجال كبعضهم ..... أنا متأكدة أن هناك شخصا ما في هذا الكون الواسع ينتظر كي ينسيكِ ما عشتهِ من قبل ........)
قست عينا وعد بشدة حتى بدت كقطعتي جليد و هي تقول
( أنا أحيا أيامي الحالية على أمل تجميع ما يكفي ذات يوم لأرحل من هذا البيت .... لا لأسجن نفسي مع سجان جديد و عامة لا أمل لي في الزواج طالما لازلت أقطن مع أبي ..... فآخر شاب جاء كي يتقدم لي .... نزل مهرولا متدحرجا على السلالم هو و أمه بعد أن رماهم أبي بطبق الحلوى الذي جاؤوا به ..... )
اتسعت عينا كرمة بهلع و هي تهمس دون صوت
؛( ياللهي !! .......... )
قاطعتها وعد و هي تقول بصلابة
(اسمعي .... لن أقصره لكِ أكثر من ذلك و أرتديه في احدى تلك الإجتماعات أو الحفلات في الشركة التي تعملين بها ...... )
ضحكت كرمة و هي تقول ناظرة الى ذراعيها المكشوفتين و ساقيها الناعمتين ....
( ولا بعد ملايين السنين ...... لن أخرج به أبدا , أتريدين أن يقتلني محمد ؟؟ ...... )
أطرقت وعد رأسها و هي تتشاغل بالنظر الى حافة الثوب دون أن تجيب ..... فحين يصل الأمر الى " محمد " فهي لا تحب أن ترد كي لا تخسر كرمة كما خسرت الكثير في حياتها .....
بينما بهتت الإبتسامة قليلا على شفتي كرمة و هي تشرد من جديد الى صورتها في المرآة .... تهمس بداخلها
" ترى ماذا ستشعر حين ترى هذا الثوب يا محمد ؟؟ ....... لقد اشتقت اليك , .... اشتقت الي بطلي .... "
قاطعتها وعد بحزم أكثر من اللازم يكاد ان يكون غيظا
( اذن ...... ماذا قررتِ ؟؟ .....هل أقصره أم أتركه هكذا ؟؟ ....... )
أفاقت كرمة على صوت وعد فقالت بهدوء
( دعيه كما هو ..... فهو أنيق للغالية هكذا و لم أعد أرغب في افساد أناقته )
أخذت وعد تثني أطرافه مبدئيا بمهارة .... حتى تأخذه معها الى البيت و تكمل تثبيته على ماكينة الخياطة التي اشترتها مستعملة من أحدى صاحبات محلات التفصيل ..... و بعد أن سمعت كلاما مسمما من والدها على القروش التي أهدرتها في ثمن تلك الماكينة .....
بعد أن خلعت كرمة الفستان و طبقته كي تأخذه وعد معها ..... أخرجت من دولابها قميصا حريريا ورديا رائعا لتريه الى وعد قائلة بابتسامة رقيقة
( انظري ماذا اشريت مما تبقى من راتب الشهر الماضي ......... )
شهقت وعد اعجابا و هي تقفز لتمسك بالقميص الحريري تقلبه بين يديها .... ثم هتفت بانبهار
( راااااائع ....... هل يممكنني سرقته ؟؟ )
ضحكت كرمة و هي تقول بسعادة
( بالطبع ....... )
فما كان من وعد الا أن قلبته على وجهه الداخلي و أخذت تحفظ تفاصيله .... قبل أن تخرج ورقة و قلما لترسم تفاصيل أجزاءه المتصلة معا في خريطة صغيرة ... ثم طوت الورقة و دستها في حافظتها و هي تقول مبتسمة
؛( تمت سرقته ...... في خلال أيام , سيكون لدي واحدا مماثلا , غدا سوف أذهب الي سوق الاقمشة بالمنشية كي أحضر قماشا مماثلا ..... و الرائع أن هذا القماش ليس باهظ الثمن )
ارتمت كرمة على السرير البسيط و هي تقول مبتسمة
( صدقا يا وعد ...... انتِ موهوبة بطريقة لا يمكن تخيلها , انتِ لا تقلين أناقة عن أثرى الفتيات ...... )
ردت وعد مبتسمة و هي تجلس بجوارها متنهدة
( الخياطة و تصميم الملابس هو الشيء الوحيد الذي يخرجني من الدائرة الداكنة التي أحيا فيها مع أبي .... )
ثم شردت وعد مجددا رغما عنها بعيدا ... فما كان من كرمة الا أن ربتت على كفها هامسة
( اذن .... هل أنتِ مستعدة الآن لتخبريني بنتائج مقابلتك مع ابن عمتك ؟؟ )
نظرت اليها وعد بصمت قليلا دون أن ترد ... فقالت كرمة باحباط
( هل رفض ؟؟ ....... )
صمتت وعد عدة لحظات قبل أن تقول بفتور
( رفض أن يعيد والدي الى عمله ..... لكن عرض علي العمل بدلا منه )
استقامت كرمة بسرعة تهتف
( تعملين بشركته !!! ..... رائع ... رائع جدا ... لماذا تبدين مبتئسة هكذا ؟؟ )
نظرت اليها وعد بطرف عينيها بتبلد وبلا تعبير قالت بفتور
( سأعمل بوظيفة والدي .... كساعٍ للمكان ... أوصل مشروبات و أوراق و ملفات ..... )
اختفت الإبتسامة عن ملامح كرمة و هي تهمس بأسى مذهول
( ساع!! ....... ألم يدرك ذلك الأحمق أنكِ جامعية ؟؟ ..... )
لم تهتز عضلة في ملامح وعد المجمدة و هي تهمس بلا حياة
( يدرك ذلك جيدا ..... وهذا اكثر ما يمتعه ....)
ثم أرجعت رأسها للخلف مستندة الى ذراعها مغمضة عينيها و هي تهمس
( و لماذا أتظاهر باليأس ........ خمس سنوات و انا أعمل بكل الوظائف و الأشغال التي لا تمت لدراستي بصلة ... أتنقل ما بين هذه و تلك ...... فلماذا أعترض الآن , ربما كانت أفضل من المعرض في كل الأحوال )
أظلمت عينا كرمة بأسى و هي تهمس أسفا
( أشعر بالذنب بشدة يا وعد .... أنا أقدم ورقك في المصرف الذي أعمل به تقريبا كل ستة أشهر , لكن لا رد حتى الآن .... أنا لا أعتبر ذات توصية هامة ..... )
التفتت اليها وعد مبتسمة و هي تتطلع اليها بحب
( بل أنتِ رائعة .... دائما كنتِ أكثرنا تميزا , أتتذكرين ؟؟ ..... دائما كنتِ تعدينا بثقة انكِ ستحققين هدفك في الحياة و قد نجحت ..... أتعلمين أنكِ الوحيدة من الدار التي أكملت تعليمها العالي ؟؟ .... الباقين كلهم التحقو بالمدارس الصناعية .... و ها أنتِ أصبحت أولى دفعتك في الاربع سنوات ... و حصلتِ على وظيفة بمصرف لا يحصل عليها الا من يمتلك توصية كبيرة ........ )
ابتسمت كرمة بحزن قليلا قبل أن تقول بأسى
( لكنني تخليت عن حلم التدريس بالجامعة ......... )
امتعضت وعد بداخلها و هي تعلم السبب جيدا ..... وهو ذلك الحقد الدفين الظاهر لها و المتغلل بداخل نفس سبع الرجال ... " محمد " .....
لكنها فضلت أن تبتسم و هي تقول هاتفة
( راتبٍ التدريس في الجامعة لم يكن ليقارن براتبك الحالي ........ و أنتِ بحاجة لكل قرش من راتبك الآن )
عضت وعد على لسانها حين لمحت نظرة الحزن العميقة في عيني كرمة الجميلتين .... كم هي جميلة و كم تحبها ... انها الأخت التي عوضها بها الزمن عما لاقته من أقرب الناس لها ....
ظلت كرمة شاردة قليلا ثم نظرت الى وعد مبتسمة
( و أنتِ أيضا حصلت على شهادتك الجامعية ....... أي أنكِ لا تختلفين عني أبدا )
تنهدت وعد وهي تقول بكبت
( بل أختلف تماما ..... لقد أكملت تعليمي بعد أن جاء والدي ليسحبني من الدار منذ خمس عشر عاما كالبضاعة المستهلكة .... أما أنتِ فتابعتِ طريقك وحدك حتى النهاية )
همست كرمة تتأملها
( الا تحملين له أي نوع من الجميل يا وعد ؟؟ ..... يظل أنه جاء ليأخذك بعكس...... )
سكتت قليلا فتابعت وعد بدلا منها
( بعكس أمي ..... اليس كذك ؟؟ ...... )
أومأت كرمة برأسها دون أن ترد .... فأطرقت وعد برأسها و عيناها تزدادان قسوة جليدية لا تظهر الا في تلك المناسبات القليلة التي تحتك فيها ذاكرتها بأمها ... و يمتلأ قلبها حقدا على والدها ... و يأخذها الحنين ل " ملك " ......
ابتسمت أخيرا وهي تتلاعب بأصابعها قائلة بسخرية
( أبي ما كان ليصطحبني من الدار الا لأنه لم يستطع أن يحيا وحيدا بعد أن تدهورت أحواله .... و طبعا لا أقصد المعنى العاطفي ....... )
قالت كرمة مخففة عنها
( يكفي أنه جاء أخيرا ..... الحياة في الدار كانت قاسية جدا و مؤلمة لأبعد الحدود .....كنت أحاول التظاهر بالشجاعة الا أنني كنت خائفة معظم الوقت ...... لكن الحمد لله , لقد كان حالنا أفضل من غيرنا .... لقد كنا ضيوف و انتهت فترة استضافتنا بعد عناء )
نظرت اليها وعد بدهشة و هي تقول
( حالنا أفضل من غيرنا ؟؟ ...... الا زالت كلمات استاذة نوال الساذجة في رأسك ؟؟؟ )
ضحكت كرمة و هي تقول بمرح
( الازلتِ تتذكرين أستاذة نوال ؟؟ ....... لا أعلم لماذا كنتِ تكرهينها ؟؟ .... لقد سهلت وجودنا في الدار كثيرا بعكس الباقين ........ )
نظرت اليها وعد باستنكار وهي تقول ممتعضة
( بكلماتها الغبية عن كوننا أفضل من غيرنا .... و كون أولاد الحلال هم ضيوف أجبرت الظروف أهلهم على تركهم للدار حتى تبتسم لهم الحياة .... )
همست كرمة بحذر
( لقد كانت تشجعني بتلك الكلمات .... لقد دخلت الدار بعد أن فقدت أهلي جميعهم في مأساة سقوط الxxxx ... لذا لم يكن هناك ما يعيبني... و هي من شجعت أحلامي حتى خرجت بها و حققت معظمها ووقفت على اول الطريق )
قالت وعد بتشدد
( بينما أنا كنت أرى اللقطاء أفضل حالا من حال من رمتها أمها كي تتزوج .... و حين جاء والدها ليصطحبها بعد سنوات ...أخذها و ترك أختها الصغيرة لأنها ليست ابنته .....
اي فخر في تلك القصة !!! ......
لقد كانت تفرق في المعاملة بين الأطفال طبقا لمنشأهم الذي لا يد لهم فيه ...... انها ظالمة !!
لقد كرهتها دائما و كرهت عباراتها ...... )
قالت كرمة برقة
( كانت تغتاظ من مقاومتك لأوامرها و تعاطفك الزائد عن الحد مع " بشرى " ..... بالرغم من أنها كانت طفلة متمردة و متحايلة )
قالت وعد مصممة
( كانت تقسو عليها لأسباب تختلف عن تلك التي تدعيها ..... و كانت تقسو على الكثيرين من الأطفال لا ذنب لهم )
همست كرمة بحزن
( ترى أين ذهبت بشرى الآن ؟؟ ......... )
ردت وعد تتنهد بقهر
( اذا كنت لا أعلم أين هي ملك .... فهل سأعرف طريق بشرى التي هربت بملىء ارادتها !!)
قالت كرمة بتعاطف
( الم يوصلك أي خيط من الخيوط التي حصلتِ عليها ؟؟ ......... )
هزت وعد رأسها نفيا وهي ترد بجفاء
( بعد قرار ازالة الدار و توزيع الأطفال ........و فقدان أوراق عدد قليل منهم بسبب الإهمال , تمكنت كما تعلمين من معرفة أنها انتقلت بين عدة دور لكني لا أعلم آخرها حتى الآن ..... و كل تلك المعلومات شفهية )
ربتت كرمة على يدها وهي تقول بحنان
( أنا متأكدة من أنها تمكنت من ايجاد طريقها الصحيح كما فعلنا أنا و أنتِ ....... )
ضحكت وعد بسخرية مريرة
( طبعا ..... فهي ابنة حلال مثلنا )
أخذتها كرمة بين أحضانها و هي تربت على كتفها قائلة بخفوت
( لا تكرهي والديكِ و حياتك الى تلك الدرجة يا وعد ..... ليس من أجلهم , لكن من أجلك أنتِ ... الكره لا يجلب الا الشقاء )
طرفت وعد بعينيها وهي تفتعل ابتسامة جميلة لتنهض قائلة
( لقد أتعبتك اليوم .... لكني أفرغت كل طاقتي السلبية معك , أنتِ حقا أقراصي المسكنة ..... سأغادر الآن قبل وصول زوجك ..... لا تنسيني بالدعاء , فأنا اتخذت قراري و سأذهب للعمل عند المبجل ابن عمتي غدا ..... )
قفزت كرمة من مكانها و هي تقول بحسم
( انتظري لحظة ........ )
ثم اتجهت الى دولابها و فتحت صندوق صغير و أخرجت منه عدة اوراق مالية ... ثم اتجهت الى وعد و دستهم في يدها و هي تقول
( خذي هذه حتى تتقاضي أول راتب لكِ ....... )
انتزعت وعد يدها بعنف و هي تهتف بصلابة
( لقد كررت لكِ ألف مرة أنني لن آخذ منكِ مالا ...... فلا تعيديها ,رجاءا يا كرمة أنا لا اريد خسارتك أنتِ أيضا )
هتفت كرمة بصرامة
( هذا ليس احسانا انه ثمن العديد من الملابس التي قمتِ بتفصيلها لي دون أن تتقاضي عليها قرش واحد .... )
قالت وعد بحنق
( لقد دفعتِ ثمن القماش ...... فاخرسي و ابعدي مالك , أتظنين أنني لا أعلم بظروفك الحالية ؟!! )
أخفضت كرمة يدها بالمال ببطء و قد تحجرت ملامحها الجميلة حزنا صامتا شاردا .... فتنهدت وعد بعجز ثم همست
( أنا آسفة جدا يا كرمة ....... لم أقصد أن أجرحك , لكن أنا أعلم ظروفك كما تعلمين كل ظروفي .... فقط لا تضعي المال بيننا مجددا ...... )
قبضت يدي كرمة على الأوراق تجعدها دون وعي ... ثم همست بحزن
( اذن لا اريد منكِ تفصيل أي ملابس لي مرة أخرى ...... لن أسمح لكِ مجددا .... )
ابتسمت وعد برقة تقول
( في أحلامك ....... مهما زاد راتبك , لن يكون أي هناك محل للملابس الجاهزة يستطيع أن يلبسك ما يليق بكِ كما أفعل أنا ......... )
همست كرمة دون أن تنظر اليها
( مغرورة ........ )
ابتسمت لها وعد بمحبة ثم استدارت ملوحة لتخرج بعد أن أخذت الثوب الأسود معها كي تعدله لكرمة ..... ......
.................................................. .................................................. .............................
ابتسمت كرمة و هي متمددة في سريرها الخاوي ..... في جلستها الليلية الحبيبة , بعد أن أخذت حمامها و كوب الشوكولا الساخنة على المنضدة بجانبها في غرفتها البسيطة الأثاث الحميمية ....
من يصدق ان ذلك السرير قد نام عليه غيرها ... فالأثاث اشترياه مستعملا ... استعمالٍ راقي و قد وفر ذلك لهما الكثير ....
و هي بذوقها تمكنت من جعل الشقة الصغيرة ذات الحجرة الواحدة و البهو الضيق .. مكان حميمي رقيق الطراز
كان ذلك منذ سنوات ... سنوات طويلة جدا ... هل بدا ذلك عمرا ؟؟ .....
أمسكت بصورها مع محمد و التي تنظر اليها كل ليلة .... حيث كانت تقف بجواره تكاد ترتفع عن مرفقه بعدة سانتيمترات فقط .... فهو بطولِ الباب تقريبا , خشن الملامح ..... جميل الإبتسامة ....
ابتسمت كرمة و هي تتلمس ملامحه على ورق الصور الفوتوغرافية ..... كانت تلك الصور في أيام خطبتهما و أول زواجهما ....
لقد تزوجت محمد قبل أن تلتحق بالجامعة ......
كم مر على ذلك ؟؟ ..... حوالي عشر سنوات !!! ..... تبدو عمرا كاملا .....
كانت تبدو أصغر من الآن بكثير .... كانت تبدو طفلة .....
أغمضت عينيها مبتسمة و هي تتذكر أول مرة قابلت فيها محمد .....
كانت في السادسة عشر ....
. خرجت قبلها بأيام من دار الرعاية بعد أن كانت الوحيدة التي حصلت على الثانوية العامة بجموع جيد ..... حينها توجب عليها الرحيل للإلتحاق بالجامعة ....
كانت مصممة على تحقيق هدفها دون أي ضعف ..... ما أسهل من ان تتجه الى العنوان المدون في الورقة التي بيدها .... و حقيبتها الضئيلة الخفيفة تحتوي على بعض ما يمكن أن يطلق عليه ملابس !! ....
ستعمل أثناء الدراسة لتسدد مصاريفها .....
لكنها اصطدمت منذ اليوم الأول بالواقع القاسي .... فلا عمل لدى العنوان المدون في الورقة ... و لا مكان للسكن ... و لا مجال الا لرجوع الدار .....
كانت تجلس في اليوم التالي أو الثالث ربما على كرسي خشبي صغير في الطريق .. ثم انهارت مقاومتها فجأة و انفجرت في نحيبٍ مرير ....
أفاقت من بكائها على صوتٍ خشن
( يا آنسة ..... لماذا تبكين ؟؟ .... هل فعل لكِ أحدهم شيئا ؟؟ .... )
رفعت عينيها المتورمتين المصدومتين .... تحاول أن تصل الى نهاية ذلك الشخص الطويل الذي حجب الشمس عنها .... الى أن نظرت الى ملامحه الخشنة ....
رجل !!! ..... رجل يكلمها في الطريق !!!..... انه ليس من رجال الدار الذين تربت على قسوتهم في الدار ....
ومع ذلك كما يقول المثل " من تعرفه أفضل ممن لا تعرفه "
كيف تتصرف الآن ؟؟ .....
ظلت تنظر اليه قليلا قبل أن تمسح وجهها بشجاعة ... ثم همست متلعثمة محاولة الهدوء
( لا .... لا .... شكرا لك )
الا أنه لم ينصرف .... بل ظل واقفا فانتابها الرعب ... منظره كان مخيفا , قميصه متسخا بلونٍ أسود و بنطاله الجينز ممزق .....
ابتلعت ريقها و هي تظن بأن العالم المرعب الذي طالما سمعت عنه سيداهمها من الآن ..... الا أن شيئا ما في نظراته جعلتها تنتظر للحظة .... فسمعته يقول بهدوء
( اذن لماذا تبكين ؟؟ ...... هل يمكنني أن أساعدك بشيء ؟؟ ..... )
هتفت بسرعة
( لا ..... لا ...... شكرا ..... انصرف )
ابتسم قليلا ... الا أنه كتم ابتسامته بإتزان ثم قال بجدية
( اسمعي لا تخافي ...... أترين تلك الورشة هناك ؟؟ ..... أنا عامل بها و جميع الناس يعرفونني هنا ... فلم لا تخبريني بما يجلسك هنا باكية بحقيبة ملابسك ؟؟ )
شددت على حقيبتها الهلامية في أحضانها .... هل من الممكن أن يختطف الحقيبة و يجري؟؟ .....
الا أنها نظرت الى الورشة التي أشار اليها .... انها مفتوحة و هناك أناس يدخلون و أناس يخرجون ......
كانت لا تزال تنظر اليها مترددة .... حتى سمعته يقول بهدوء
( هل أنتِ هاربة من أهلك ؟؟ ......... )
نظرت اليه طويلا قبل أن تهز رأسها نفيا ببطء دون أن ترد ..... و قبل أن يسألها المزيد نهضت من مكانها وهي تتمسك بحقيبتها جيدا لتهمس قائلة
( أنا سأنصرف ...... عن اذنك )
لكنه قاطعها مستفهما
( هل لديكِ مكان تأوين اليه ؟؟ ....... )
همست بخفوت
( سأعود للدار ؟؟ ......... )
نظر اليها بدهشة ... قبل أن يجيب
( دار رعاية ؟؟ ....... هل لازلتِ بدار رعاية ؟؟ .... تبدين أكبر عمرا من ذلك ..... )
ظلت صامتة قليلا .... مترددة ... خائفة .... الى أن قال بهدوء
( حسنا ...... صعب جدا إن لم يكن مستحيلا أن أطلب منكِ أن تثقي بي ..... فماذا سنفعل الآن ؟؟ )
ظلت حدقتاها تتحركان يمينا .... ثم يسارا ...... الى أن أخفضتهما أخيرا و أطرقت برأسها .........
أفاقت من شرودها على صوت المفتاح في باب الشقة .... نظرت الى الساعة التي تشير الي الثانية صباحا ..... فسارعت الى لملمة الصور و أعادتها الى صندوقها قبل أن تقفز من سريرها لكنها قبل أن تخرج نظرت الى نفسها نظرة أخيرة في المرآة بقميص نومها الأسود .... ثم خرجت مسرعة الى ... محمد ....
وقفت تتأمله من بعيد و هو يخلع قميصه بملامح متجهمة .... ليلقيه أرضا ..... ثم أخذ يفتح حزام بنطاله ....
رمشت كرمة بعينيها قبل أن تهمس
( مساء الخير يا محمد ........ )
استدار لينظر اليها ببطء .... الى شعرها ذو الأمواج الواسعة ... كبحرٍ هادىء .... ليس هائجا و ليس مسطحا ....
شعرها الدافىء كملامحها و كجسدها .... و ككل شيءٍ فيها .....
قال بجفاء
( الازلتِ مستيقظة ؟؟؟ ........ )
همست مترددة
( لقد تأخرت ..... مجددا )
تأفف عاليا و هو يخلع قميصه القطني الداخلي ليرميه أرضا هو الآخر ثم هتف
( كرمة ..... لا طاقة لي حاليا بتحقيقاتك ....... )
جلس على الأريكة تحت أنظارها الصامتة و أخذ يخلع حذائه ليقذف به بعيدا ... تلاه الآخر .....
عضت على شفتها قليلا قبل أن تهمس بأمل
( هل وجدت .....عملا ؟؟ .....)
نظر اليها بشراسة و بدأ في الصراخ
(استغفر الله العظيم .... الا هم لكِ سوى الأسئلة الكئيبة والتحقيق الممل ؟؟ ..... الا يكفي الأسود الكئيب الذي ترتدينه كي تظلمي الليل في عيني زيادة عن ظلامه ...... )
همست كرمة بهلع
( أخفض صوتك قليلا أرجوك ........ )
بدأ يصرخ مجددا ... الا أنها كانت قد هجمت عليه تتعلق بعنقه وهي تهمس مترجية
( لا بأس .... ارجوك لا بأس ...... أنا فقط كنت أريد مشاركتك يومك ...... )
صمت قليلا وهي تستشعر صدره الذي يلهث كمرجل يغلي غضبا فوق صدرها ..... فأخذت تتحسس صدره محاولة تهدئته و ربما ....... جذبه اليها مجددا .....
فهمست مبتسمة من بين أمواج حنانها
( لا عليك حبيبي ..... أنا هنا و لن أتركك أبدا , .... لقد زاد راتبي اليوم .... كنت مستيقظة لأحتفل معك .... لا عليك .... أنا هنا ...... )
لكنها لم تحضر نفسها الى قبضتيه اللتين أمسكتا بكتفيها لتبعدانها بقوةٍ قبل أن يقذفها كدمية ... فوقعت أرضا حين لم تستطع أن تقف على قدميها .....
الا أنه كان ينظر اليها بقسوةٍ دون أن يأبه الى سقوطها .... ثم هتف حانقا
( هل تظنين أن هذا يفرحني ؟!! ....... بعض قروش ترمين بها الى البيت الذي تهملينه .... مكانك هنا في هذا البيت ... ووظيفتك هي خدمة زوجك ..... لا القفز هنا و هناك ........ )
ثم استدار بعيدا عن عينيها المذهولتين من انفجاره الغير مفهوم لها ... قبل ان يقول بهسيس خطر
( الا ترين أنكِ تتقدمين سريعا جدا بالنسبة الى من لا توصية لها !! ....... )
ارتجفت شفتيها قليلا وهي تهمس بغباء بينما لازالت أرضا
( ماذا .... تقصد ؟؟ ........ )
لم يرد طويلا قبل ان يقول بجفاء جليدي
( اذهبي الى غرفتك ........ ليكن بمعلومك , غدا مساءا , الرجال سيأتون الى هنا كي نقضى الأمسية بدلا من المقهى ...... جهزي عشاءا يليق بهم ..... سأترك لكِ المال صباحا )
نهضت كرمة من مكانها بصمت و اتجهت ترتجف الى غرفتها بصمت .... الي سريرها بصمت .... تحت غطائها بعد أن نامت على جانبها تدس وجنتها في وسادتها ..... بصمت ....
عند الفجر ستتذكر أن تدس بعض الأوراق المالية في حافظته ...... كي يعطيها لها صباحا ........
.................................................. .................................................. .............................
أنهت وعد وضع قميص النوم الأحمر مطويا بعناية فوق القميص الأبيض و الوردي و الذهبي ... في سلة مسطحة ثم قامت بلف السلة بقماش تل أبيض و ربطته بشريط أحمر حريري جميل ....
ابتسمت السيدة التي تقف معها في غرفتها و بجانبها ابنتها العروس الشابة ..... ثم قالت السيدة بسعادة
( سلمت يداكِ يا وعد ...... تلك القمصان فخمة للغاية , و تليق بأرقى عروس )
ابتسمت وعد و هي تنهي لف السلة بطريقة انيقة مبهجة .... و هي تقول
( مبارك مقدما يا أم زهرة ..... لا ينقصنا الآن سوى طاقم خروج مسائي من القماش الفضي و سيكون جهاز زهرة قد اكتمل ...... )
ابتسمت السيدة بسعادة و هي ترد
( بارك الله بكِ يا وعد ......أخدمك باذن الله يوم زفافك قريبا حبيبتي )
ابتسمت وعد .... فاقتربت السيدة منها بحرج بالغ ثم أخرجت مبلغ صغير و هي تقدم ساق و تؤخر الثانية ... ثم قالت أخيرا و هي تكاد تذوب حرجا
( وعد ..... كنا قد اتفقنا على مبلغ لجهاز زهرة ..... و قد قاربتِ على الإنتهاء و لم تحصلي على أي دفعة .... لذا ها هي دفعة ... أنها صغيرة .... لا تذكر بالمقارنة بعملك ..... لكن لو منحتني فرصة حتى ....... )
ربتت وعد على كفها و هي تقول برقة
( لا بأس يا أم زهرة ........ هاتي تلك الدفعة و نكون قد انهينا حسابنا )
اندهشت السيدة و هي تهتف
( لا يمكن ..... لا يمكن ابدا ..... ان شاء الله خلال أيام سوف ........ )
قاطعتها وعد بهدوء تقول
( أنا مصرة يا أم زهرة ....... الباقي سيكون هديتي لزهرة )
تحرجت السيدة ووقفت مكانها تكاد لا تعرف كيف تتصرف .... الى أن حملتها وعد الأكياس و السلة .... وهي تقول مبتسمة
( لا تنسي أن تدعينني للزفاف .......... )
ابتسمت السيدة دامعة العينين و هي تقول
( أنتِ أول المدعويين يا حبيبتي ......... )
تنهدت وعد و هي تنظر الى الأوراق القليلة في يدها ... ثم اتجهت الى سريرها لتزيح الفراش قليلا .... ثم اخرجت حافظة جلدية .... الا أنها ما أن فتحتها ووجدتها خالية حتى نظرت اليها بذهول عدة لحظات قبل أن تقلبها يمينا و يسارا ..... و ما لبثت أن نهضت من مكانها بعنف لتخرج مندفعة صارخة
( أبي ...... أبي ...... )
وجدته اخيرا في غرفته .... جالسا على حافة سريره شاردا بابتسامة حقد غريبة و كأنه يتذكر شيئا مؤذيا ما قام به قديما ....
الا أنها لم تهتم .... بل صرخت بغضب
( ابي ..... أين نقودي ؟؟ ....... )
رفع والدها وجهه اليها ببطء قبل أن ينقل نظراته من عينيها الى الحافظة الخالية .... ثم قال بابتسامة مزعجة
( أي نقود ؟؟ ........ )
طرقت وعد على الحافظة الجلدية بغضب وهي تهتف
( نقودي ..... كانت هنا .... تحت فراشي ............ )
نهض من مكانه ببطء وهو ينظر اليها متشفيا .... ثم قال أخيرا
( نقودك ها ؟؟ ...... كنتِ تدخرين نقودا من وراء ظهري , بعد كل ما فعلته من أجلك .... بعد كل ما صرفته على تعليمك ....... )
صرخت وعد بغضب و شعرها متناثر يكاد يقشعر و يقف غضبا و خوفا على شقاء الأيام الطويلة التي سيضيع في لمح البصر
( أنت أخذت ما صرفته علي و يزيد .....راتبي أنت تستلمه أول بأول منذ ان بدأت أن أعمل و أنا أدرس ..... حتى حين عملت أنت لم آخذ منك قرشا واحد .....
لكن ما تحققه لي الخياطة من قروش قليلة فهذا ملكي ..... ليس من حقك أخذه ..... ليس من حقك .... أعد لي نقودي ....... )
اتسعت ابتسامته بلمحة انتصار منفرة وهو يقول
( لا أعلم شيئا عن نقودك تلك ...... اذهبي و ابحثي عنها يا دنيئة ...... )
صرخت وعد و هي تضرب الأرض بقدمها
( أعد لي مالي .... لقد ادخرت حتى ثمن حذاء جديد و استكثرته على نفسي .... أعد لي مالي أرجوك ..... أرجوك .... انا في حاجة اليه ...... لقد سهرت طويلا على ماكينة الخياطة كي أجمعه .... أرجوك .... )
أخذ يتأملها برضا .... قبل أن يقول بهدوء
( أخرجي من هنا .. لا مال لدي لكِ ........ ابحثي عنه في مكانٍ آخر ... تحت سقف بيتي يا دنيئة , ..... )
أخذت وعد تتنفس بسرعة و صعوبة و صدرها يؤلمها غير مصدقة ... ثم استدارت مندفعة الاأنه استوقفها مناديا بخشونة
( صفا .......... )
التفتت اليه بجنون صارخة
( أنا لست صفا ...... صفا تكون أمي.....أنا وعد ..... و أنا لا أريد أن أسمع منك أي شيء .... و لن افعل لك أي شيء حاليا ..... )
ثم اندفعت الى غرفتها لترتمي على سريرها قبل أن تنفجر باكية بقهر ......
.................................................. .................................................. ...........................
دخلت وعد من أبواب الشركة صباحا بتردد ذكرها بأيام دخول المدرسة خارج الدار لأول مرة بعد ان أخرجها والدها منه
كانت تتسائل حينها ..... هل سيتقبلونها أم سيلفظونها.......
هل سيعلمون بأمر الدار ......أم لا........
تماما كما تتسائل الآن نفس الأسئلة
لقد حرصت صباحا على مظهرها كأقصى ما يمكنها ....... فارتدت قميصا بسيطا من تفصيلها وردي اللون ...... بأزرار لؤلؤية ...... لكن ينتهي بربطة أنيقة حول الخصر ...... و تنورة رمادية داكنة
حتى شعرها صففته برقة و تهذيب فرفعته من الجانبين لينتهى بذيل حصان منمق
بدت لطيفة للغاية
كي تنفي عنها عدة صفات ......... صفة الدار ........ وصفة ابنة عبد الحميد العمري ........ و صفة كونها اتت لتعمل كساعي لتقديم المشروبات على الرغم من كونها جامعية
حتى عينيها المتورمتين بديتا جذابتان للغاية في ورديتهما البسيطة
على الرغم من أن تلك الوردية سببها انهيار تام ليلة أمس
وحده حذائها كان يشوه منظرها ........لو كانت ابتاعت واحدا جديدا ....لقد استكثرته على نفسها فكانت النتيجة أن وقع ثمنه مع باقي النقود في يد من لا يرحم ....... في يد والدها...
هزت رأسها تمحو الأفكار السلبية من رأسها .... ثم توجهت الى الداخل بعد أن أعطت أسمها لحارس الأمن ....
فسمح لها بالدخول ...... لتجد نفسها واقفة في بهو الشركة دون أن تعلم أين تتجه ......
الي اين يتجه صاحب وظيفة الساعي ؟؟ ......
وهل تم تعيينها و أنتهى الامر ؟؟ ......
لم تجد بدا من أن تتجه للمكان الوحيد الذي تعرفه هنا ..... مكتب سيف الدين فؤاد رضوان .....
كان لديها شبه يقين من أنه سيطردها اليوم مشفيا غليله ..... حتى انها تسائلت عما تفعله هنا .... كما أنها لم تتقدم باستقالتها من المعرض .... فقط تغيبت الى أن تتأكد من صدق نواياه في توظيفها .....
وصلت وعد الي مكتب سكرتيرته الأنيقة .... فوجدتها بمكانها من الأمس ... متحنطة كرسم على الحائط ....
تنحنحت وعد حين دخلت ..... فرفعت السكرتيره نظرها اليها محدقة .....
ها قد عدنا من جديد للنظرات ذات الألف معنى ..... متى سننتهي ......
بادرت وعد لتقول
( صباح الخير ..... مجددا ..... لقد أتيت اليوم ......)
الا أن السكرتيره قاطعتها بهدوء قائلة
( مرحبا وعد ....... جيد أنكِ أتيتِ الي , أنا سأتولى جميع الإجراءات ......سآتي معك لأريكِ مكان عملك ..... )
أومأت وعد برأسها في صمت و هي تتنهد بارتياح صامت ..... الوظيفة حقيقة ......الا أنها لم تستطع منع نفسها من إلقاء نظرة على باب مكتبه المغلق ...... من الواضح أنه شدد الأوامر على عدم رؤيتها ..... ومن يلومه !! .....
بعد أن سجلت وعد بيانات بطاقتها الشخصية و صورتها و سجلت بياناتها .... اتجهت في صمت خلف السكرتيره الى أن وصلت لمطبخ صغير .... مفتوح على غرفة أصغر .... بها أريكة بسيطة و طاولة ..... و تلفاز !!
استدارت السكرتيرة الى وعد فأرتها جهاز استدعائها .... وهي تقول
( عامة ما ان يتم استدعائك مرة ..... ستظلين في تنقل دائم ما بين هنا و هناك ..... )
أومأت وعد برأسها دون أن ترد ..... كانت مرتبكة للغاية كطفلة منطوية ..... حتى أن أصابع قدميها كانت متكورة داخل الحذاء المتهالك .....
و فجأة صدح خلفهما صوت غناء مزعج ..... فالتفتت كلا منهما الى الباب لترى وعد شاب صغير ... لا يتعدى السابعة عشر من عمره ..... يدخل المكان مغنيا بشكل بشع ..... يرتدى جينز بالي و قميص قطني ملون ببهرجة لا تقبل هي بارتدائها ولو بعد عشرات السنوات ....
سكت الشاب فجأة فاتحا عينيه بتوجس وهو ينظر الى الفتاتين الناظرتين اليه بغرابة..... فقال بخفوت رافعااحدى حاجبيه وهو ينتزع السماعات المتصلة بهاتفه من اذنه
( صباح الخير ....... خير ؟؟ ..... )
ردت السكرتيرة بحزم
( صباح الخير يا علي ........... هذه وعد ..... انها الموظفة الجديدة التي ستعمل معك مكان عبد الحميد ... )
اتسعت عيناه ذهولا ..... ثم سرورا .... ثم عبثا .....
حتى عبست وعد بريبة منه ..... وهي تفكر
" هل هذا هو زميل العمل ؟!!!....... البداية تبدو ملونة بألوان قميصه المبتذل ....الصبر يا رب .... من صاحب المعرض السمج الى ببغاء ! "
التفتت السكرتيرة الى وعد تخبرها بهدوء
( سأتركك الآن يا وعد ........ لو احتجتِ أي شيء يمكنك اخباري ما ان أطلب منكِ قهوتي .... اتفقنا ؟؟ )
أومأت وعد برأسها بصمت ..... و ما أن غادرت حتى تحرك علي من مكانه يدور حول وعد مبتهجا بينما هي تدور مه عاقدة حاجبيها بتوجس .... مستعدة لتعاجله بضربة اذا ما فكر أن يمد يده عليها ....
الا أنه قال مسرورا بذهول
( لا أصدق هذا !! ...... هل أنتِ هنا مكان عبد الحميد منه لله !! ...... انها بركات دعوة أمي المسكينة .... )
عقدت وعد حاجبيها و هي تتسائل إن كان يعلم أنه والدها و يتعمد إهانتها .... الا أنه تابع قائلا
( كان هنا قبلك رجلا !!.......أجارك الله ..... أستغفر الله العظيم .... سليط اللسان ... طويل اليد و القدم ..... مجنون الطباع ...... بذيء .... )
( كفى ..... )
هتفت وعد بغضب بوجهٍ محمر ..... فصمت علي بدهشة ليقول
( هل أنتِ محرجة لأننا نتكلم عنه في غيابه ؟؟ ..... لا .... لا ..... لا تقلقي مثل هذا الرجل لا بد أن نتكلم عنه كي نجعله أيقونة الفظاظة ......)
تأففت وعد بنفاذ صبر و هي تشعر بأنها تود لو أن تنشق الأرض و تبتلعها ..... بينما علي يتابع بكل أريحية
( أتصدقين أنه صفعني ذات مرة !! ..... كان بإمكاني أن أعاجله بحركة مقص لأسقطه أرضا و أهبط بقبضتي على فك أسنانه أحيله الى حظاظة ...... لكني أقنعت نفسي بأنه في سن جدي ..... لذا أخذت نفسا عميقا و دعوت عليه أن تتم ازاحته من هنا ........ )
صمت قليلا ليتأمل وعد مبهورا .... بينما كانت هي تعض على شفتها مذهولة و هي تستمع الى ما أبدع به والدها قبلها في المكان ..... لقد صفع الولد و في مكان عمله !!
من الأفضل الا يعلم أحد بأنه والدها ..... لن يعلم الا الموظف الذي سجل بياناتها ..... و السكرتيرة ربما .....
لو أمكنها أن ترتدي طاقية الاخفاء فستفعل .... كي لا يعلم أحد أنها ابنة عبد الحميد العمري .....
افاقت على صوت علي يقول بسرور
( لكني لم أكن أعلم أن حظي سيكون سعيدا هكذا ...... شتان بينك و بينه ..... كنت اعلم انني ابن بار )
هتفت وعد بعد ان فقدت قدرتها على الاحتمال
( اصمت ..... اصمت قليلااااا ..... اصمت لعدة لحظات و التقط أنفاسك ....... أووف )
احمر وجهه قليلا وهو يحك رأسه بحرج .... ثم اتجه ليضع هاتفه على الطاولة بصمت .... ناظرا اليها بطرف عينيه من حينٍ لآخر .....
و هي كانت تبادله النظر بطرف عينيها كذلك بتوجس ...... الى أن قالت بحذر
( اسمع ياااا.............. )
رد عليها بجفاء دون أن ينظر اليها
( علي .........)
تنهدت و هي تقول
( اسمع يا علي ..........هذا الرجل .... الذي كان يعمل هنا قبلي , هل كانت تصرفاته تصل الى ...... مديركم )
اتسعت عينا علي بانبهار وهو يقول
( سيد سيف ؟؟ ...... انه الوحيد الذي كان يقف له بحزم .... كان يلزمه حده في كل مرة و كان يتمتع بذلك .... انه رجل بحق ..... )
رفعت حاجبيها و قد اشتعلت عيناها قسوة و هي تضع يديها في خصرها قائلة بلا تفكير
( حقا !!! ...... وهل هو رجلا بحق مع الجميع أم مع المسنين فقط ؟؟ ....... )
( سترين بنفسك إن كان رجلا على أيا كان أم لا .......... )
صدمها الصوت العميق من خلفها كصوت رصاصة اخترقت ظهرها من شدة قسوتها ....
تصلبت وعد مكانها برعب .... فاتسعت عيناها ذهولا وهي تنظر لعلي المرتعب أمامها تسأله بعينيها سؤال تعرف إجابته جيدا ....فأومأ علي بوجهه لها بايمائة غير ظاهرة الا لها وهو متشنج الملامح ...
زفرت وعد بارتجاف و خوف و هي تستدير ببطء الي مصيرها ....
رفعت حدقتيها المهتزتين بأعجوبة ... الى أن ألتقت بعينين كالصقر ... مخيفتين ... بل مرعبتين ....
كان قلبها يخفق بصورة بشعة .... حتى خشيت أن يتوقف من شدة الألم بصدرها .... و بدت أنفاسها كلهثات قصيرة خافتة
و ما ان تحرك سيف الدين بإتجاهها حتى صدرة عنها زفرة مختنقة بلا صوت و هي ترفع ذراعيها نصف ارتفاع ثن تنزلهما ثانية و كأنها خشيت في لحظةٍ أن يضربها .....
خاصة أن أغمضت عينينها بشدة .... لكن و ما أن عم الصمت حتى فتحت عينينها مجددا لتصطدم بعينيه القاسيتين ... لكن هذه المرة كان حاجبيه منعقدان ... و كأن تصرفها قد صدمه ...
مرت عدة لحظات بينهما و عينيها أسيرتي عينيه ..... بينما زاوية شفتيه هي العضلة الوحيدة التي اهتزت به ...
ثم لم يلبث أن أستدار بقوةٍ مغادرا بعد أن كاد وجوده يحرق المكان بهيبته و قسوته ......
ظلت واقفة مكانها متسمرة .... قبضتاها مضمومتان بقوة حتى أن أظافرها خدشت باطن كفها الرقيق .....
تكلم علي أخيرا بعد أن خرج من صدمة الموقف ذاهلا .....
( هل كان السيد سيف هنا للتو ؟؟ ....... ماهذا الذي حدث ؟؟ ....... هل تعرفان بعضكما من قبل ؟؟ .... )
لم تجبه وعد وهي تحارب كي تنتظم أنفاسها .... ثم لم تلبث أن همست بصعوبة وعيناها مهتزتان بدرجة قوية
( هل هو معتاد أن..... أن يحضر ..... الى هنا ..... بنفسه ؟؟ ....... )
رد علي بإندهاش
( إنها المرة الأولى ............... )
أغمضت وعد عينيها و هي تشر بالدماء تنسحب من عروقها بعد تلك الرهبة ..... فجاء علي من خلفها ليقول بقلق
( وعد ...... وعد ...... هل انتِ بخير ؟؟ ....... )
ثم أمسك بمرفقها ... ليجذبها باتجاه الأريكة وهو يقول بخفوت
( تعالي اجلسي ....... )
استسلمت له وعد وهو يجلسها على الأريكة ..... و حين جلست ظهر خوفها في ركبتيها التي أخذتا في الارتجاف و الطرق ببعضهما بحركة لا إرادية .......
فقال لها علي بقلق
( هل أحضر لكِ شيء لتشربيه ؟؟ .......... )
نظرت اليه بعدم فهم قليلا ثم هزت رأسها نفيا و هي تهمس
( لا .... لا ...... شكرا أنا بخير ....... )
أخفضت عينيها عدة لحظات ثم رفعتهما مجددا اليه تقول بانقباض
( هل أرحل ؟؟ ...... لا أظن أنه سيتجاوز عن ما قلته للتو ...... هل أرحل بكرامتي ؟؟ ...... )
عبس علي أكثر وهو ينظر الى تلك الشابة التي تكبره بعشر سنوات تقريبا و التي تبدو الآن كطفلة تائهة من امها ... فربت على كتفها وهو يجثو أمامها أرضا قائلا
( هل كل هذا الرعب بسبب العمل ؟؟ ....... اسمعي ..... لا أحد في هذه الدنيا يملك رزق أحد .... دعيها على الله ..... لا تخافي هكذا على رزق ........ )
أومأت برأسها بصمت و ببطء شاردة دون ان ترد ...... الا أن قبضتيها كانتا في حالة توتر وهي تخففهما لتشد بهما من جديد .....
بعد ساعة من جلوسها مع علي في مكان عملهما .... تنظر اليه بصمت يرقص على أنغام شعبية أثناء ترتيبه بعض الأشياء .....
علا صوت صفارة صغيرة ..... فأسرع علي ليلتقط هاتف معلق على الحائط ..... رد بهدوء ثم أغلق الهاتف ليأتي اليها مستبشرا
( وعد ..... يا وعد ..... ابشري ..... سكرتيرة السيد سيف تطلب لنفسها قهوة بيضاء .... وواحدة مرة للسيد سيف )
نظرت اليه بدهشة فتابع علي بسرور
( لو كان طردك لما كان طلب القهوة ....... هيا انهضي ..... أيمكنك اعدادها أم أعدها أنا لكِ ؟؟ ....... )
نهضت وعد من مكانها ترتجف ...... وهي تحاول جاهدة استعادة أنفاسها ... بينما أسرع علي بتجهيز القدحين لها ....
و خلال دقائق كانت وعد تضع قهوة السكرتيرة أمامها ..... فأومأت اليها بما يشبه " شكرا " .... أثناء عملها
ثم أشارت الى مكتب السيد سيف كي تدخل !
أخذت وعد نفسا عميقا ثم طرقت طرقتين على الباب وانتظرت ..... اخيرا سمعت صوتا عميقا يدعوها للدخول بكلمةٍ واحدة .....
اغمضت وعد عينيها للحظة واحدة ثم دخلت بصمت و هي مطرقة الرأس .... لكنها لمحت أن الهاتف على أذنه ....
" جيد الحمد لله أنه مشغول عنها .... فلتضع القهوة ثم تهرب "
اقتربت فوق البساط الفخم حتى وصلت الى المكتب الرائع لتدور حوله بارتجاف داخلي ... الى ان صلت لجانبه ...
ثم اخذت تنزل قدح القهوة بصمت و هي تشعر بوهج ناري منبعث من عينيه يكاد يخترقها .....
و اثناء وضعها للقدح .... سمعته يقول بمودة
( صباح الخير حبيبتي ....... خرجت مبكرا قبل أن تستيقظي )
فغرت وعد شفتيها قليلا وهي مطرقة الرأس تمسك بكأس الماء البارد ...
" هل هو متزوج ؟؟؟!! ....... هل هو متزوج ؟!! .... من تكون تعيسة الحظ ؟؟!!
فسمعته يقول
( نعم يا أمي .... لن أتأخر الليلة )
انتفضت وعد حين سمعت كلمة " أمي " التي نطقها بوضوح .... فارتجف الكأس أثناء نزوله ليرتطم بسطح المكتب اا أنها سارعت لتثبيت قاعدته و هي تشهق بخوف و نظراته لا ترحمها ..... و أنفاسه تصلها لهيبا ....
انسكبت عدة قطرات على سطح المكتب .... فأسرعت تمسحها بكفها !
سمعته يزفر بنفاذ صبر ..... قبل أن يقول بخشونة
( لا عليكِ يا أمي ..... إنها فقط العاملة الجديدة , و يبدو أنها ستكون السابقة كذلك و لم تكد تمر ساعة على توظيفها )
تشنجت وعد و هي ترفع عينيها اليه بسرعة .....فعادت لتصطدم بعينيه ......
لماذا ينظر الي عينيها بتلك القوة ..... انه يضيع كل أفكارها بنظراته الجريئة تلك ......
عاد ليقول بخفوت دون أن تبارح عيناه عينيها ...
( سأراك الليلة يا أمي ............ )
هل يكلم .... عمتها ؟؟ ...... من المؤكد عمتها ..... اليست أمه ..... وهو ابن عمتها كما سمعت ؟؟ ..... فمن المؤكد أن عمتها هي من كانت على الهاتف .... المسألة لا تحتاج ذكاءا .....
وضع سيف الهاتف مكانه .... فأسرعت وعد تغادر سريعا .... الا أنها ما أن ابتعدت عدة خطوات ... حتى قصف صوته خلفها
( وعد .............. )
تسمرت مكانها ..... لم تتمكن من الهرب , ماذا تفعل الآن ؟!! ......
استدارت اليه بصمت تحتضن الصينية كدرع واقٍ ...... باستعطاف داخلي لم تسمح له أن يظهر على ملامحها .....
لكنها انتفضت حين اندفع صوته يقول
(ما حدث ...... لن اسمح بتكراره مجددا ....... لن اسمح ببذاءة الكلام في هذا المكان ........ مفهوم ؟؟ )
ابتلعت ريقها و هي تغص بدمعة حبيسة من ارهاق الصباح و ليلة أمس .... الا أنها أومأت بصمت محاولة السيطرة على تلك الدمعة قدر إمكانها ......
ظل ينظر اليها طويلا قبل أن يقول بجفاء
( يمكنك الإنصراف الآن ............ )
انصرفت وعد بسرعة وهي تريد ان تسأل علي عن أقرب حمام كي تبكي وحدها .... مجددا .......
الا انها خلال الساعات التالية لم تبكِ .... لقد انشغلت بالعمل الذي لم يجلسها للحظة .... ما بين مشروب للاستاذ فلان ... الى عصير الاستاذة بجواره .... تصوير اوراق .... نقل ملفات .... توصيل اوراق .. ورسائل خاصة من الأخ الموظف الي زميلته الهائمة في الجانب الآخر ......
الا أن أعين الجميع كانت تلاحقها .... الكل مندهش من الساع الجديد الذي تلا عم عبد الحميد .... ان كان يجوز تلقيبه بكلمة عم دون أن يفتح رأس أحدهم !!.....
و مكتب السيد سيف الدين كان له نصيب الأسد في الطلبات ..... فكانت تدخلها دون أ تحظى منه بنظرة أخرى ....
و كان هذا أفضل لها ....
أخذت تنظر الي علي الذي كان يتنقل بين المكاتب على حذاء بإطارات !!
كم تتمنى واحد من هذا ......
تنهدت وعد ترتاح قليلا لكنها ما أن جلست أخرا للحظة حتى عاد الهاتف ليدق صفارته الأزلية .... فنهضت من مكانها تتنهد بيأس لتسمع صوت سكرتيرة ابن عمتها المبجل تطلب قهوتين للمبجل و صديقه !....
طرقت وعد الباب للمرة الرابعة على التوالي ثم دخلت ما أن سمعت صوته يأمرها بالدخول ....
دخلت بصمت و تهذيب لتتجه الى المكتب و كان يجلس أمامه شاب أخر يميل الى سطحه مشيرا بورقة الى السيد سيف لكنها ما أن اقتربت حتى صمت و هو ينظر اليها بدهشة ... قميصها الوردي ذو الخصر المعقود ... ذيل حصانها الناعم المرتب المنسدل منه خصلتين ناعمتين تزيدنها وداعة و رقة .... الى أن انتهت ...
حينها لوح لها سيف بيده كي تنصرف و كأنه يصرف ذبابة !! .....
أظلمت عيناها و خرجت و هي تصب عليه لعناتها السرية ......
استدار الشاب الي سيف يقول بدهشة و ابتهاج
( من هذه يا سيف ؟؟ ........ )
رفع سيف رأسه عاقدا حاجبيه ينظر الي الباب الذي أغلقته خلفها .... ليعود بنظره الى الورق أمامه قائلا
( انها الفتاة الجديدة ... التي استلمت الطلبات )
رفع زميله حاجبيه يقول بدهشةٍ أكبر
( ساعٍ ...... هل هذه هي الساعي الجديد ؟!! ..... مكان عبد الحميد سليط اللسان مغلق الوجه !! .... ياللهي لقد طورت من أدائك جدا ....... هذا هو الكلام الصحيح .... هذه هي الوجوه التي تفتح الشهية ... للعمل في الصباح )
رفع سيف رأسه كطلقة رصاص ينظر اليه بوجه محمر غضبا .... وهو يقول بصرامة
( احترم نفسك يا سعد ....... )
عقد سعد حاجبيه يقول بدهشة
( ماذا قلت أنا ؟؟ ........... لماذا كل هذا الإنفعال ؟؟ )
رد سيف بحنق
( لأنها ...... لأنها موظفة هنا ...... لا تتكلم بطريقة بذيئة عن موظفاتي )
رد سعد وهو يحك رأسه
( طريقة بذيئة ؟!! ........ لقد ابديت اعجابي ليس أكثر ...... إنها تبدو .... )
قاطعه سيف حاسما
( قلت كفى يا سعد ........... احترم نفسك او احمل نفسك و اخرج من هنا )
رفع سعد كفيه مستسلما وهو يقول
( حسنا .... حسنا ....... هنيئا لك ..... اشبع بها ...... سأغادر الآن يا محترم )
بعد أن غادر سعد ظل سيف يوهم نفسه بالعمل قليلا ... و بعد أن شعر بضياع تركيزه ارجع ظهره للخلف مستندا ... مغمضا عينيه ...... شعور غريب يعتريه .... لا يمكنه وصفه تماما .... يمنعه من التركيز حاليا ....
فتح عينيه و أمسك بهاتفه ليطلب رقما ....... و ما لبث أن قال مبتسما
( ظهر الخير يا أمي ....... طلبتك كي أسألك إن كنتِ تريدين كعكة موز معي الليلة .... لكنها في الحقيقة حجة كي اسمع صوت حبيبتي ....... )
.................................................. .................................................. ......................................
وقفت وعد قرب انتهاء اليوم تلتقط بعض الأكواب .... و هي تستمع الى موظفة انيقة تكلم زميلتها مخرجة ساقها التي تنتهى بحذاء رائع ذو كعبٍ رفيع عالي قائلة
( لقد كلفني هو وحقيبته راتب الشهر الماضي ..... و أنا الآن أعيش عالة على أمي حتى أتقاضى راتب هذا الشهر )
أخذت زميلتها تضحك و هي تقول
( مثل هذا الحذاء و حقيبته يستحقان أن تعيشين عالة على الجيران حتى لو امكن ...... انهما مبهران و هما مكسب في حد ذاتهما .... لذا لا تحزني على ثمنهما ...... )
رفعت وعد وجهها وهي شاردة تماما ......
و من بعيد كان سيف خارجا عبر الممر فالتقى وجهه بوجهها أثناء مروره ..... فلم يستطع أن يحيد بنظره عنها و عينيها في عينيه .....
حتى غمزت بعينها اليمنى غمزة صريحة الى عينه مباشرة .... فارتفع حاجبه قليلا وهو يسير معوج الرأس ينظر اليها بانشداه ..... فلم يشعر الا وقد تعثر في صندوق موضوع أرضا ....
و احتاج الأمر منه عدة لحظات كي يتمكن من وزن نفسه مجددا بينما التف حوله موظفين يسنداه ....
حين استقام أخيرا .. تنحنح بخشونة و هو يعدل من سترته و قميصه .... قبل أن يخرج شاتما نفسه .....
انتفضت وعد من شرودها على صوت علي يخبرها أن ميعاد الإنصراف قد آن .... فالتفتت اليه تقول بتعب
( لقد كنت شاردة تماما ..... هيا أنا ذاهبة حالا ...... )
.................................................. .................................................. ............................................
الحياة .... هي أغنية جميلة .... لا يدرك جمال نغمتها الا من أنعمت عليه الحياة بانقاذه مرة بعد مرة ....
الحياة رائعة
رائعة حين تستشعر أنك محظوظ بالخروج اليها مقاتلا ... متوقعا الإنهزام في أي لحظة .... لكن الله ينصفك فيها مرة بعد مرة لتنهض أقوى .....
الحياة رائعة كيومٍ كهذا .... بجوه الرائع وصوت طيوره .....
الحياة رائعة بمن نحبهم .....
نزلت درجات السلم مبتهجة من الصباح الباكر .... تنهي تضفير الضفيرة الطويلة العسلية على جانب كتفها
لتعقد نهايتها بالرباط المطاطي حول معصمها .....
تلك هي شقة السيدة ليلى .... انها صاحبة محل الورود الذي تعمل به في الدور الأول ..... و منذ ان عملت به اصبحت السيدة ليلى تأتمنها شيئا فشيئا حتى باتت تتكاسل في النزول و تترك لها أمر فتح المحل و الوقوف به ....
عملها هو شيء رائع آخر من ضمن اشياء رائعة كثيرة خصتها بها الحياة ....
تنسيق الزهور هو فن تطور به يوما بعد يوم ......
تلك هي شقة السيدة شيراز .... انها مقفلة الآن لأن السيدة شيراز مسافرة من فترة ...... انها سيدة غريبة الأطوار و هي لا تكبرها بالكثير .... لكنها تمتلك الكثير .....
على الرغم من عنجهيتها و غرورها ..... الا ان السيدة شيراز تحديدا ساعدتها كثيرا .... فهي من امنت لها الغرفة الصغيرة في أعلى لxxxx الذي تقطن به ..... و هي من طلبت من السيدة ليلى أن تجد لها عملا معها كي تعمل في نفس مكان سكنها ......
على الرغم من كل غرورها .... و نفور بعض الناس منها في الxxxx .... الا انها لا تستطيع انكار جميلها .... و السيدة شيراز لا تعلم بأن الحياة الرائعة قد حبت ملك بذاكرة حديدية ...... لا تنسى الجميل .... ولا الوجوه !! ,......
هذه أبغض شقة عندي ....
انها شقة الأستاذ زهير ...... امشى على أطراف أقدامي كل يوم صباحا كي لا يفتح بابه .....
طبعا لا أستقل المصعد أبدا .... بسبب هذا الأستاذ زهير نفسه ....
الا أن الحياة احيانا لا تمنحنا ما نتمنى ....
فتح الباب و خرج الأستاذ زهير .... لينظز الى ملك مبتسما وهو يقول
( يا صباح الجمال ..... و انا كنت أتسائل عن سبب اشراق اليوم من بدايته ... فالجميلة النائمة تهبط من أمام بيتي ... )
مد يده يقرصها من وجنتها الا أن ملك كانت أسرع منه فأبعدت وجهها بسرعة تبتسم ببرود قائلة
( صباح الخير يا استاذ زهير ...... عن اذنك لقد تأخرت ..... )
نزلت جريا قبل أن يستطيع أن يمنعها حتى وصلت لمدخل الxxxx أخيرا ..... لكن و قبل أن تفتح أبواب محل الورود ...
رأت سيارة تعرفها جيدا تصف أمام المدخل .... لتهبط منها شابة شقراء تعرفها كذلك ....
تغطي عينيها بنظارةٍ داكنة ..... الا أنها كانت كما هي و كأنها لم تسافر لفترة .....
اقتربت ملك ببطء منها حتى وصلت اليها تقول برقة
( حمد لله على سلامة رجوعك سيدة شيراز ...... لم تتأخري هذه المرة )
رفعت شيراز وجهها دون أن ترفع نظارتها .... و بدت و كأنها تحاول التعرف الي من تحدثها .... ثم قالت بفتور
( مرحبا يا ملك ...... الازلتِ هنا ؟؟ ...... تتعاقب الأيام و الأحداث و انتِ لا تزالين في نفس المكان )
لم تعلم ملك بماذا ترد .... لكنها ابتسمت على أي حال ..... و انتظرت حتى طلبت شيراز من حارس الxxxx أن يصف لها سيارتها ثم يحمل لها حقيبة ملابسها منها فيما بعد ......
كان الاستاذ زهير قد وصل الي ملك ليقول من خلفها
( اتهربين مني يا جميلة و صغيرة ....... أم لأنني رجل عجوز لا أستطيع أن أجري خلفك على السلم )
أغمضت ملك عينيها غضبا .... الا أن صوتا آخر انبعث من خلفها
( لازلت كما أنت يا سيد زهير ....... اترك الفتاة في حالها , انها أصغر منك بكثير )
نظر زهير الى الشابة الشقراء الرقيقة .... فقال مبتهجا
( شيراز ..... لقد عدتِ !! ..... لا تتغيرين أبدا ... بل وكأنكِ تصغرين في العمر .... تبدين في السادسة عشر لا أكثر )
ردت شيراز ببرود و هي تتجه الى المصعد
( و أنت تبدو كما أنت ..... في الخمسين )
ثم نادت بلهجة أمر
( ملك تعالي معي ...... احتاجك )
.................................................. .................................................. ..........................................
دخلت ملك خلف شيراز شقتها ..... انها تحتاج بعض التنظيف.... و ستقوم هي به ....
التفتت الى شيراز فوجدتها تخلع ثيابها تدريجيا الى أن وصلت الي الحمام .... و قبل أن تغلق الباب قالت بفتور
حضري لي الفراش و أي شيء اشربه .....
ثم اغلقت الباب .... أخذت ملك تجمع الثياب التي خلعتها شيراز ..... و تحاول تريب ما يمكنها ترتيبه .... ...
ثم اتجهت للمطبخ كي تعد لها ما تشربه ......
بينما وقفت شيراز تحت الماء المنساب فوق جسدها .... تنظفه بقوةٍ كادت أن تدميه و كأنها تصب جام غضبها عليها .....
تحك بشرتها بقوة اكثر حتى احمرت بشدة و احمر وجهها و لهث نفسها ..... دون أن تدري بأن دموعها تسابق جريان الماء فوق وجنتيها ....
حين شعرت بالتعب أسندت جبهتها الى الحائط اللامع مغمضة عينيها ......
فشل آخر .... بعد الفشل الأول و الفشل الثاني .....
لكن لماذا تسميه فشلا .... ففي كل مرة خرجت من كلا منهم بما يرضيها ..... تلك الشقة و السيارة و مبلغ محترم ....
لقد قام كلا منهم بتقدير قيمتها فنقدها ثمنها قبل أن يلفظها .....
بكت شيراز بصمت تهتز كتفاها بنحيبٍ صامت و هي تتذكر الأحلام السعيدة التي بنتها قبل زواجها الأول .... الرجل الثري الذي سيرحمها من الذل الذي ذاقته طويلا ..... الذي سيحميها قذارات الكثير ممن تعاملوا معها من ايام الطفولة .... حين كانت لا تعلم و لا تفهم ماذا يفعلون بها أصلا ....
كانت تعلم بأنها كانت تخرج خائفة ..... دون ان تفهم ماذا حدث لها بالتحديد ....
و أخيرا بان لها الخلاص في زوج يملأ العين و يصون العرض ..... الحلم الذي طالما حلمت به
حلم الحائط الآمن ......
لينتهى بها الحلم بمجرد رسالة على ورقةٍ باهتة ...... بأنه آسف .... لقد انتهى وقتهما معا ......
لكنه ترك لها تعويض عن الأضرار التي لحقت بها على أية حال .....
بينما الثاني ......
الثاني كان سعادة خالصة لم تتوقعها يوما .... و جاء بالصدفة الي حياتها دون أن تقرر هي ذلك ..... ليخرج منها بقسوة مع نظرة ألم في عينيه لن تستطيع نسيانها أبدا ما حيت ....
غطت وجهها تتذكر تلك الأيام التي عاشف بها فوق السحاب في فترة بعيدة قريبة من حياتها .......
الى متى ..... الى متى ستظل هكذا .... ما بين هذا و بيت ذاك ..... و كأنها ملك لكل من يريدها ليرميها كحشرة قذرة حين يريد .....
حتى هذا الحقير .... لم يشفي غليلها و هي ترى في عينيه الذعر الذي تمنته ..... بل ودت لو تقتله بالفعل ....
لكن لا بأس .... يكفيها حاليا ما فعلته به ..... الحقير العفن ....
خرجت شيراز من الحمام متدثرة بثوب الحمام الأبيض الفضفاض ..... تضم جسدها بقوةٍ بينما لم تستطع أن تخفي انتفاضها ......
اتجهت الى سريرها تحت أنظار ملك القلقة .... ثم ندست به بثوبها تضمه اليها أكثر بينما لا تبالي إن كانت ملك ترى دموع انهيارها .....
اقتربت ملك منها تغطيها بصمت .... ثم مدت يدها تمسح وجهها من الدموع .... لتربت على كتفها و تميل هامسة في أذنها
( لا تقلقي ...... أنتِ في بيتك الآن ..... نامي )
.................................................. .................................................. ..........................................
كانت واقفة ترتب مجموعة من ورد الجوري الأحمر في كأس كريستالي بديع .... في منتصفهم ترقد جورية بيضاء ....
مثل الجورية المنغرزة في اعلى ضفيرتها ......
الحياة رائعة ....
تمنحك ما تحرم منه غيرك ..... لتكن ممتنا في النهاية ......
اغمضت عينيها تستنشق عطر الورود .... فرافقها صوت الاجراس الحالمة التي تنبىء عن دخول احد الزبائن
فتحت ملك عينيها لتنظر الي القادم السعيد الحظ الذي سيخرج من هنا بباقة ورد ....
فوجدت شابا وسيما .... تبدو عليه علامات الثراء ... يسير في ارجاء المكان .... يتأمل الورود المختلفة ....
فتحت ملك شفتيها لتسأله عن طلبه ..... الا انها صمتت قليلا لتغلقهما من جديد .... و انتظرت ....
الى ان وصل اليها .... ينظر هنا و ينظر هناك ..... دون ان يعيرها نظرة .....
لكن اخيرا رفع عينيه اليها .... و مضت لحظة قبل ان يهمس
( من فضلك ........ هل لديكِ زهور بنفسج ؟؟ ....... )
لم ترد ملك و هي تائهة في ملامحه الوسيمة .... عيناه الفاتحتان ... ملامحه الجذابة .... الجرح الذي زادها جاذبية فوق حاجبه الايسر ......
غمزت ملك بعينها اليمنى بشرود قبل أن تفيق لتهمس برقة
( بالطبع ............ )
ارتبكت عضلة في فكه قبل أن يبتعد قليلا ليقول ناظرا الى ساعة معصمه ...
( ربما سأمر في المساء لأطلب باقة ........ الآن يجب أن أذهب )
ثم استدار مبتعدا تحت أنظارها ..... لكن قبل أن يخرج نادت قبل أن تمنع نفسها
( شادي ........... )
توقف مكانه لحظات قبل ان يستدير اليها بملامح غريبة ليقول بغطرسة
( هل تناديني أنا ؟؟ ........ )
أومأت برأسها بصمت ..... فرفع ذقنه ليقول مبتسما بعد عدة لحظات
( معذرة أنتِ مخطئة ........ أنا اسمي كريم ..... كريم القاضي )
ثم خرج دون أن يمنحها الفرصة لتنطق بكلمة اخرى ..... فقط انتظرت حلول المساء بفارغ الصبر ..... الا أنها انتظرت طويلا ..... طويلا جدا
أخرجت الورقة القديمة المطوية بعناية من مخبأها .... لا تعلم لماذا لم تمزقها او حتى تجعدها ... كل ما تتذكره حين قرأت الرسالة المختصرة هو أنها نظرت اليها بصمت دون أن تطرف عيناها بدمعة ....
عكس تلك الدموع التي ذرفتها ليلة أمس ..... هل وهنت عزيمتها مع مرور الوقت ؟!! .....
فتحت الورقة لتقرأها بصمت ....
" آسف شيراز ...... لقد انتهى وقتنا معا
كانت أياما سعيدة ... لكن لكل فترة نهايتها مهما بلغ جمالها ... الشيك المرفق به تعويض مناسب و مكافأة عن الفترة السعيدة التي قضيناها سويا .... "
ظلت شيراز تنظر الى تلك الكلمات لعدد فقدت القدرة على تذكره من كثرة ما طالعتها ....
تلك الرسالة كانت الحافز لها كي تحرق ثقتها و تمحو اعتمادها على أيٍ كان ....
كان صاحب أول مكان نظيف تعمل به .... و ما أن رآها حتى وضعها تحت أنظاره على الفور ... و قرر امتلاكها , وهي كانت تدرك هدفه جيدا .... فعلى الرغم من حداثة سنها الا انها كانت تدرك هوية تلك النظرات جيدا و لا تخطئها ....
فهي تحديدا بعكس باقي الأطفال نشأت على تلك النظرات و تربت عليها و تعرفها حق المعرفة ...
منذ أن بدأ وعيها في الإدراك .... حتى وجدت نفسها أسيرة شخص قميء كريه الرائحة بالدار ... كان يستهدفها دون غيرها ليتصرف معها تصرفات غريبة مشبوهة ....بغرفةٍ مظلمة ضيقة ....
كانت ملامسته لها تخنقها ...حين كان يحجزها في أحد أركان تلك الغرفة المظلمة .... و لمساته و قوته الجسدية تضغط جسدها الصغير الهش فتندفع الدموع من عينيها بغزارة دون أن تفهم حقا ما يجري .... كل ما كانت تعلمه هو أنها لم تستطع أن تمنع نفسها من البكاء يوما .....على الرغم من أنه لم يكن يؤلمها جسديا بشدة لكنها كانت تبكي و كأنها تدرك بفطرتها أن ما يحدث هو أمر خاطىء ...
سنوات طفولتها كلها ظلت أسيرة ذلك الرجل دون أن تقدر على منعه .... و لم يكن هناك من يساعدها ... أو حتى يصدقها ......
و ما أن فهمت على أعتاب مراهقتها المبكرة .... حتى قررت الإنتقام منه ..... ثم الهرب .....
خرجت بقسوةٍ في قلبها .... و تمرد على الجميع ....و رغبة في التمتع بمباهج الحياة ....
و دارت بها الأيام بمختلف الوظائف .... و قد حصلت على الكثيرمنها ... ليست بمجرد شهادة الإعدادية التي حصلت عليها بصعوبة .... و أنما بمقومات أخرى كانت تمتلكها .... أهمها صفة الطفولة التي تسكن ملامحها دون روحها ... تلك الطفولة كانت تجذب نوعا معينا من البشر .... النوع المريض تحديدا ....
لم تتعرف في حياتها سوى على هذا النوع ..... و كأنها كانت تجتذبهم جذبا كما يجتذب اللهب الفراشات ....
و كانت مرحبة بأن تقتنص منهم أقصى ما تستطيع .... لكن بأن يكون ذلك حلالا ... شيء ما بداخلها رغم أنه لم يكن هناك من رباها بالفعل تربية سليمة ... الا أن ذلك الشيء رفض أن يستغلها شخص آخر بتلك الطريقة القذرة ... و كأنها مجرد سلعة رخيصة الثمن .....
لذا ما أن عرض زوجها الأول عرضه الغير شريف ... حتى صدته بقوةٍ كادت ان تكون هيستيرية ....حينها لم يكن أمامه سوى الإستسلام لمطلبها في الزواج ....
فتزوجته..... تزوجت الرجل الذي لا يجذبها كرجل ولا حتى بذرة .... وهي تظن بأنها أسعد الفتيات حظا بما حققته من أمان للأيام المقبلة ..... فكان مهرها مبلغا محترما ..اودعته في اول حساب لها في المصرف ....
و بعد ستة أشهر ..... مجرد ستة أشهر ...... ترك لها تلك الرسالة في يدها الآن .... و طلب من حارس الxxxx بأن تغادر الشقة المؤجرة !! .......
و بعد أن صرخت و حطمت كل شيء فكرت أن تفتعل له فضيحة علنية ..... الا أن الشيك في يدها جعلها تتمهل ... مع المبلغ السابق فيه الكفاية لها .... بالرغم من أنها الآن تدرك بأنه كان ثمنا بخسا جدا بالنسبة للحياة التي تحياها حاليا
لكن حينها كان مبلغ لم تسمعه يوما من قبل .... بالإضافة الى أنها أدركت أن ذلك الرجل لم يكن أمانها من البداية .... لذا لا فائدة من إضاعة الوقت في زواج لا طائل منه ...
توقف ذكرياتها البائسة عند ذلك الحد حين سمعت صوت رنين جرس الباب المزعج ....فأعادت الرسالة بعناية الى مخبأها .... ثم قامت بتثاقل كي تفتح الباب .....
وقفت مكانها تنظر بصمت الى ملك ..... بابتسامتها .... برقتها .... بضفيرتها الطويلة العسلية .....
و بالمقابل بادلتها ملك النظر بصمت فلم يفتها تورم عيني شيراز المؤسف ... ذلك المشهد الذي لا يراه غيرها أبدا....
اتسعت ابتسامة ملك على الرغم من ذلك و رفعت يدها بالأكياس المحملة ببعض الطعام من المحل المجاور و قالت
( البيت فارغ تماما من الأطعمة بسبب غيابك .... سأعد اليكِ شيئا بسيطا )
تركتها شيراز لتستدير و تبتعد ... فاتجهت ملك بعد أن أغلقت الباب الى المطبخ .... فوضعت الأغراض في الخزنات .... و قامت بتحضير عدة شطائر و قهوة شيراز التي تدركها جيدا ....
اتجهت ملك تبحث عنها الى أن وجدتها مستلقية على مقعد وثير جانب النافذة المفتوحة ... و الأشعة المقتربة من الغياب تتألق فوق خصلاتها الذهبية الجميلة .... فبدت كلوحة ناعمة خاصة و هي ممددة ساقيها فوق مقعد آخر قصير بدون ظهر ......
ظلت ملك تنظر اليها و هي ترسم شيئا فوق ذرات الغبار السائرة بانتظام في خط أشعة الشمس الذهبية ..... فابتسمت و هي تقترب منها بهدوء لتضع الطبق و القدح على طاولة صغيرة بجانبها ..... ثم همست بخفوت كي لا تفسد هدوءا الظاهري
( أتحتاجين شيئا آخر ؟؟ ............ )
نظرت شيراز اليها ببطء ثم أزاحت قدميها عن المقعد لتهمس قائلة ....
(أريدك أن تقلمي أظافري .... لا طاقة لي بالخروج اليوم و منظرها لا يعجبني )
نظرت اليها ملك لحظة بعينيها الواسعتين كعيون الغزلان .... ثم تقدمت ببطء لتتناول المبرد ... و طلاء أظافر شفاف تعلم مكانهما جيدا ...
ثم جلست أمامها على المقعد الصغير لتلتقط احدى قدميها و بدأت في تقليم أظافرها بدون صوت .....
بينما كانت شيراز تنظر الى ضفيرة ملك الطويلة التي قاربت الوصول الي خصرها ... مستريحة مسترخية بدلال فوق احدى كتفيها بنعومة و أنوثة .....
فقالت بجمود بعد فترة
( لقد طالت ضفيرتك كثيرا .... حتى بدا منظرها غريبا , ....سأقصها لكِ ..... لتبدين أكثر عصرية )
لم ترتعب ملك و لم تنفعل .... بل حافظت على كل هدوئها ... لتقول مبتسمة بهدوء و تحفظ
( لا يهمني أن أبدو عصرية ..... أنا لم أقص شعري منذ طفولتي , أحب تلك الضفيرة ..... تذكرني بأشخاصٍ قريبين من قلبي )
ظلت شيراز تنظر اليها قليلا ثم قالت بغيظ
( انها غير جميلة أبدا ...... سأقصه لك و أجعد لكِ خصلاته فتصبحين مبهجة المنظر لا كئيبة الى تلك الدرجة )
لم تهتز عضلة في ملامح ملك الكريمية .... ثم قالت بهدوء
( انها جميلة عليكِ أنتِ سيدة شيراز و تليق بكِ ..... لكنها لن تليق بي أبدا , سأبدو كمسخ )
ثم تابعت عملها دون أن تنتظر ردا ... فأخذت تنظف أظافر قدم شيراز بعناية ... لتطليها بحرص بعد ذلك
ثم أبعدت رأسها تنظر عن بعد متأملة قدم شيراز التي عادت أنثوية جميلة .... فنظرت اليها بهدوء
( أتعجبك ؟؟ ......... )
الا أنها صمتت حين رأت شيراز تهتز بكاءا بصمت و هي تنظر من النافذة دون أن تصدر صوتا .... تنهدت ملك بصمت ....
السيدة شيراز .... انها سيدة غريبة الأطوار .... تبدو كطفلة جذابة للغاية , الا أن بداخلها نفسا معقدة لم تستطع ملك أن تفهمها حتى الآن .....
لكنها لم تكن تحب أن تزيد الضغط عليها .... كانت تتغاضى عن الكثير منها , بنفسٍ سمحة .... لأنها تدرك أن ما تفعله شيراز يكون تقريبا خارج حدود سيطرتها على نفسها العليلة ...
ربتت ملك على قدم شيراز برقة و هي تهمس مبتسمة ...
( تناولي طعامك سيدة شيراز ..... أراهن أنكِ لم تضعي شيئا بفمك اليوم )
لم تنظر شيراز اليها و لم تلتفت الى الشطائر و القهوة ..... فتنهدت ملك بحزن و هي تفكر
بعض البشر لم تكن حياتهم سهلة كما يبدو عليهم .... لكنهم لم ينجحوا في تطويع تلك الحياة ثم قالت بعد فترة محاولة الإبتهاج
( أتعلمين ما أنتِ بحاجة له ؟ ..... ان تسافري في رحلة, .... تبتعدي في مكان جميل لعدة أيام , تنسين ما فات و كل ما يؤلمك ..... أنا شخصيا لا أتمكن من فعل ذلك بمفردي , لكن بما أنك من الشجاعة لفعل ذلك فلما لا تغتنمي الفرصة ...... لا أجمل من الإبتعاد .... وحدك .... لنفسك .... بمكان مريح
دون البكاء على ما فات .. أو القلق على ما هو آت ........ )
ظلت شيراز مكانها , تنظر من النافذة دون أن تتحرك طويلا .... الى أن نظرت الى ملك بصمت لعدة لحظات , ثم همست أخيرا
( ربما معكِ حق ....... بنفسي , و لنفسي ...... )
ابتسمت ملك برقة و هي تومىء برأسها دون أن ترد ..... لكن نزعة تأنيب ضمير انبعثت بقلبها الطيب و هي تشعر بالقلق من تلك الفكرة المتهورة التي دفعت شيراز اليها و هي على ما يبدو ليست في أفضل حالاتها ....
.................................................. .................................................. ............................
دخل الى بيته مساءا .... ذلك البيت الذي لم يغفل يوما عن إشعاره بالشكر لله أولا ثم الفخرثانيا بكلِ حجرٍ فيه ... بناه بيومٍ بعد يوم و عامٍ بعد عام .... حتى استطاع الوقوف على قدميه من جديد و النهوض بأسرته الصغيرة التي كادت أن تضيع ذات يوم لولا فضل الله
انبعث من خلفه صوت ناعم لم يفقد أنوثته على الرغم من مرور السنوات عليه
( هل جئت يا سيف ؟؟ .......)
ابتسم قبل أن يلتفت اليها قائلا
( لا .... لم آتي بعد .........)
استدار ينظر اليها مبتسمة اجمل ابتسامة رآها على امرأة يوما .... امه الحبيبة , تلك العصفورة التي يأبى الزمن أن يترك آثاره على ملامحها الملائكية و قوامها الصغير .... كما ترك آثاره بوضوح على روحها ...
ولولا آثاره على روحها المتعبة , لما كانت ظهرت تلك الخطوط الدقيقة عند زاويتي عينيها من كثرة البكاء ....
اقترب سيف منها ببطء لينحني و يقبل جبهتها طويلا ... فانتظرت عدة لحظات قبل أن تقول بسعادة وديعة
( ما الهدف من هذه القبلة ؟؟ .......)
رفع سيف رأسه متمهلا ليقول متشدقا
( هل لديكِ مانع ؟؟ ........ )
رفعت حاجبها الرقيق لتقول برقة
( أبدا يا أميري .... لكن من عادتك منذ صغرك الا تأتي لتقبلني الا بعد أن تتسبب في مصيبةٍ ما ...... )
ضحك سيف و هو يستدير عنها ....الا انها لحقته لتقول بحزم غير جدي
( أعترف يا ولد ...... ماذا وراءك )
التفت اليها بعد أن خلع سترته و علقها على كتفه ... و بدأ في فك عقدة رابطة عنقه ....متمهلا قبل أن يقول
( أعترافي ..... هو أنني اليوم شعرت باشتياق لكِ أكثر من كل يوم .... فمادت بي الذكريات الى طبق حلوى الدقيق الذي كنتي تعدينه لي كلما رجعت الى البيت مهموما ..... )
اتسعت ابتسامتها وهي تقول بتحمس
( دقائق و تكون جاهزة لك ........ و كم أمير لدي!! )
قال لها منافقا
( لا أريد أن أتعبك .............. )
قالت و هي تتجه للمطبخ دون تأخير
( تعبك راحة يا مخادع ...... و فرصة لأجلس معك و أعرف سبب همك )
دخلت أمه المطبخ .... بينما وقف مكانه محبطا وهو يهمس لنفسه
؛( لن يهدأ لها بال قبل أن أقر لها معترفا ....... )
.................................................. .................................................. .............................
جلست أمه أمامه .... مسندة ذقنها الى كفها , تنظر اليه مبتسمة بتأمل صامت و كأنها تتأمل لوحتها المفضلة ...
وهو يلتهم وحدات الحلوى واحدة تلو الأخرى ... و كأنه وحش يلتهم أجنة صغيرة خاصة
فقد كان يقول لها ببساطة في سنوات مراهقته بعد عودته من عمله المسائي .... ما أن تضع الطبق أمامه ...
( تلك الحلوى طرية و ملمسها و استدارتها تشبه جنين صغير .... )
ثم يلتهمها في فمه بمنتهى البساطة .... بينما كانت تبقى هي ناظرة بوجوم الى قطعة الحلوى في يدها دون أن تجرؤ على وضعها بين أسنانها بعد أن تسمع تشبيهه الجهبذي ....
ابتسمت أكثر ثم همست
( اذن ..... ما الذي يضايقك هذه الأيام ؟؟ ..... منذ عدة أشهر و أنت تبدو مشغولا بشيءٍ ما, لكن الليلة .... تبدو عيناك منشغلتان أكثر من الأيام السابقة )
التهم واحدة أخرى دون أن يسرع في الجواب ليقول بعد لحظة
( امممممم انها جميلة المذاق و ناعمة كال ........ )
قاطعته أمه بصرامة
( لا تكمل تشبيهك المتوحش .... و لا تتهرب من السؤال )
نظر اليها بهدوء مبتسما ليغطى كفها الموضوع على الطاولة بينهما قائلا بحنان
( أي سؤال ؟ ...... لا يشغل بالي سوى العمل بمشاكله , أفكر أحيانا في أخذ أجازة للراحة بعد كل هذه السنوات من التعب ....... )
ابتسمت أمه بسعادة و جذل و هي تقول متحمسة
( و لما لا تنفذ الخطة على الفور ؟؟ ...... و تجعل منها أجازة شهر عسل في نفس الوقت )
رفع سيف حاجبيه ليقول
( شهر عسل ؟؟ ...... فكرة رائعة , لكن هناك مشكلة تافهة ..... أنه لا عروس لدينا لأقضي معها شهر عسل )
مالت على الطاولة باندفاع لتقول
( أنت فقط اعطني الإشارة .... و في خلال شهر واحد ستكون قد عقدت قرانك على أجمل فتاة في المدينة )
ضحك سيف وهو يلتهم اثنتين معا في فمٍ واحد ... ثم قال من بين أسنانه
( أجمل ما فيكِ يا أم سيف أن ثقتك بإبنك لا تضاهى ........... )
انعقد حاجباها لتقول بصرامة
( و هل هناك مجنونة ترفضك ....... أمير وسيم طول و عرض و ظروفه ممتازة ... و فوق كل هذا .... حنان العالم يسكن قلبه ...... )
ابتسم وهو ينظر اليها بطرفِ عينيه ليقول
( أنتِ الوحيدة التي ترين ذلك ........... )
قالت بحدة
( و شقيقتيك ؟؟ ............. )
رفع يده مستسلما يقول
( هكذا أصبحتن ثلاث ..... مرحى .... ستقبل اي أسرة محترمة بي في هذه الحال )
تنهدت أمه بتعب و هي تقول برجاء
(يا سيف كفاك سخرية و أرح قلبي ..... هل يعجبك أن تتزوج الصغيرة قبل أخاها الأكبر و أختها الكبرى ؟؟........لولا أن مهرة متمسكة بالشاب , لما كنت قبلت بهذا الوضع أبدا ..... )
ضرب سيف جبهته وهو يقول
( قراءة الفاتحة بعد غد ....... لقد نسيت و عقدت اجتماعا مسائيا , جيد أنك ذكرتني لألغيه غدا صباحا )
قالت أمه بحنق
( أنسيت موعد قراءة الفاتحة لشقيقتك يا سيف ؟؟!!! ......... انظر ماذا فعل العمل بك و أبعدك عن شقيقتيك )
قال سيف متشدقا مدافعا
( كنت سأتذكر من نفسي غدا يا أمي حين أراكن تقمن بالتجهيزات صباحا .... كل ما في الأمر أنني تذكرت إلغاء الإجتماع .........فلا داعي لهذا الفيلم العربي )
تنهدت أمه و هي تسند وجنتها الناعم الى كفها الرقيق شاردة ..... فرفع سيف حاجبا متوجسا يقول
( ماذا بكِ يا أمي ؟؟ ....... هل هي سحابة الكآبة المعتادة مع كل فرح ؟؟ ...... ارجوكِ , لا مجال لها أبدا .... مهرة حساسة و لا نريد أن نحبطها في هذه الفترة ......... )
قالت بحزن
( اختك ورد ...... لقد سرق عمرها منا في غمرة ما لقيناه سابقا ..... و ها هي الآن تجهز لحفل خطبة شقيقتها التي تصغرها بتسع سنوات كاملة ........ )
ترك سيف الحلوى الأخيرة من يده .... بعد أن نجحت أمه أخيرا في سد شهيته ....
فتنهد بيأس وهو يقول بجمود
( و ما الداعي لهذا الكلام الآن يا أم سيف ؟؟ ........ مشاعرك هذه ستصل الى مهرة و لن تشعر بذرة فرح )
قالت بعتب
( الا تفكر سوى بمهرة ؟؟ ..... و لماذا لا تتأثر من أجل ورد ؟؟ )
نهض سيف من مكانه ليقول بخفوت
( مكانة ورد لا جدال عليها ....... كل ما أحاول فعله هو انقاذ فرد وحيد في هذه الأسرة من مرارة الماضي )
لكنه قبل أن يخرج من المطبخ سارعت امه تقفز خلفه ملتقطة قطعة الحلوى الأخيرة لتحاول جاهدة أن تدسها في فمه مترجية
( حسنا لا تغضب .... خذ هذه , أنا آسفة ...... )
فقال بحاجبين منعقدين
( لا لقد سُدت شهيتي و انتهى الأمر .......... )
الا إنها لم تحركها من أمام فمه و هي تبتسم له ابتسامة الأطفال قائلة برقة
( آسفة ............... )
ظل ينظر اليها مقطبا قليلا .. قبل أن يلتهم الأخيرة من بين أصابعها , ثم تبعها بقبلة فوق كفها الصغير ليقول مبتسما
( هل أخبرتك أنكِ الأحب لي من بينهما ؟؟ ........... )
ابتسمت بحنان حزين ثم قالت
( و أنت أميري ............ )
ترك يدها ليتجه الي الباب قبل أن يقول بهدوء
( سأعمل قليلا في غرفتي ........... )
لكنه و قبل أن يخرج استدار اليها مبتسما ليقول بهدوء
( سلمت يداكِ يا منيرة ........ )
ازدادت ابتسامتها الحزينة جمالا و هي تهمس
( و سلمت لي يا حبيبي ...... )
.................................................. .................................................. ............................
تنهد سيف بنفاذ صبر و هو يلقي سترته على السرير ثم يستلقي عليه مستندا الي ظهره وهو يحل أزرار قميصه باختناق ....
ماذا دهاه ليتجه الى مكان تواجدها صباحا و قبل أن يدخل مكتبه !! ....
هل كان يريد التأكد من وجودها ؟؟
يستحق كل كلمة بذيئة سمعها من لسانها الطويل المتوارث من والدها .....
ماذا دهاه !!
ماذا دهاه ليتجاهل مكانته و يذهب اليها !!
اليها !! .....
عبس سيف بشدة لينهر نفسه .... المكان مكانه و هو متفضلا عليها أي يذهب و يتجول في مكان عمله الذي بناه بعرق جبينه كما يشاء ....
تأفف سيف بنفاذ صبر و هو يسند رأسه الى ذراعه .....
ماذا دهاه ليأتي بها الى مكانه !!
تأفف سيف مجددا وهو يشعر بأن الأيام القادمة ستكون صدى لماضٍ حاول جاهدا دفنه بعد الخروج منه ...
.................................................. .................................................. ........................
وضعت عدة أطباق على المائدة المربعة الصغيرة دون أن تتكلم منذ أن وصلت من عملها مساءا ....
و عند احضارها لزجاجة الماء في الأخير .... وجدته جالسا و بدأ في التقاط عدة زيتونات ....
لم تطل النظر اليه طويلا و بداخلها حالة رهيبة من النقمة عليه .... لكنها ما أن استدارت لتذهب الى غرفتها .حتى ناداها قائلا
( هاتي الملح ......... )
ظلت واقفة قليلا ظهرها غير قادرة حتى على الإلتفات اليه .... فقالت بجمود دون أن تستدير
( أحضره بنفسك ...... )
قال لها دون أن يعلو صوته
( لا تستفزيني يا فتاة ......... )
حينها استدارت اليه هائجة تقول بحدة
( ربما كان كل ما أريده في هذه اللحظة هو استفزازك .... فربما رؤية القليل من المشاعر الآدمية على ملامحك قد يريح القهر الذي اشعر به في تلك اللحظة .......)
نهض من مكانه ببطء وعينيه في عينيها .... فاستدار حول الطاولة ليقترب منها , وهو يقول
( أتريدين رؤيتي مُستفزا ؟؟ ........ ربما حينها كنت آدميا بالنسبة لكِ يا بنت صفا !!)
الا أنها لم تفقد شجاعتها و هي تنتصب رافعة ذقنها تنظر اليه لتقول
( العمل الوحيد الجيد الذي فعلته صفا في حياتها ه أنها ابتعدت عنك ..... هربت بنفسها من ظلمك )
كان قد وصل اليها حين انتهت من آخر كلماتها ... لتتبعها صفعة مفاجئة منه لم تحس لها حسابا فغافلتها لتلقيها على الجدار من خلفها .... و ما كادت تلتقط أنفاسها حتى اندفعت واقفة تلتقط ذراعه بقوةٍ قبل أن يهبط بكفه على وجنتها في صفعة ثانية .....
تسمر مكانه للحظة و هو ينظر الى كفها المتشبث بمعصمه عاليا تكاد تكسره ... ثم انتقل بنظره الى عينيها اللتين تحولتا الى متوحشتين ... فاتسعت عيناه بقدرٍ ضئيل غير ملحوظ تقريبا ... بينما قالت مشددة على كل حرف يخرج من بين اسنانها .....
( لقد كبرت ..... و أصبحت أقوى منك جسديا , فلا تجبرني على الدفاع عن نفسي .... )
ظلت عيناها تواجهان عينيه بشراسة .... قبل أن تلقي بذراعه بعيدا لتدخل غرفتها صافقة الباب خلفها ... بينما بقى عبد الحميد واقفا يحدق خلفها و هو يدلك معصمه المغضن ذو العروق الزرقاء البارزة
ارتمت وعد على سريرها .... تمسح دمعة خائنة على النفس , بالرغم من أنها أقسمت عدة مرات أن تمنع دموعها بالقوة ... لكن كرامتها و آدميتها تشعر بالتضرر على الرغم من كل ما مرت به و على الرغم من أنه من الطبيعي أن تعتاد الإهانة .... لكنها ولدت رغما عنها ولدت بذلك الشعور المسمى بالكرامة ... و الذي لم يتناسب يوما مع كل ما لاقته في حياتها .... لذا كانت تتمنى لو يضمحل هذا الشعور و يختفي .. لربما كانت أهدأ نفسا حينها و أكثر تأقلما مع حياتها ....
حانت منها نظرة الى حذائها البالي المصطف بترتيب على أرض غرفتها ... فعضت شفتها السفلى ندما و هي تتحسر على النقود التي ادخرتها و سلبها منها عبد الحميد ....
كم تتمنى لو تعود فقط ليومين ماضيين و تشتري حذاء جديد .....
هذه هي النتيجة الطبيعية للبخل ..... لقد بخلت على نفسها بثمن الحذاء و ها قد ضاعت النقود ....
و طبعا لن تشتري القماش الوردي الحريري الداكن المماثل لقميص كرمة ... كي تخيط مثله .....
تأوهت بكبت و هي تشتم نفسها على المكان المتوقع الذي خبأت فيه النقود بكل سذاجة ....
ما عليها الآن سوى أن تبدأ رحلة الإدخار من جديد .... و تكثيف الخياطة لكل من تطلبها من الجارات ... لكن هذه المرة ستأخذ معها ما ستتقاضاه الي أي مكان تذهب اليه ....
تنهدت و هي ترجع رأسها للخلف مستندة الى ذراعها ... ناظرة الي سقف الغرفة
ظلت تنظر الي السقف طويلا .... وسؤال واحد يطوف بذهنها ...
هل بالفعل كان سيف الدين فؤاد رضوان واقفا خلفها اليوم ؟؟ ...... و ماذا كان يريد ؟؟.... لقد خرج قبل أن يذكر سبب قدومه الي مكان عمل السعاة !!!
.................................................. .................................................. ...........................
نزل صباحا ليجد حالة من الهلع تحيط بالبيت ....فرأى والدته تتذمر شاكية و هي تبدأ في ازاحة كراسي المائدة من البهو ... فاتجه اليها سريعا ليقول مقطبا
( صباح الخير يا أمي ...... ماذا تفعلين ؟؟ )
ردت منيرة متجهمة و هي جامعة شعرها الناعم الذي تظلله بعض الخصلات الفضية ...فوق رأسها و وجهها محمرا غضبا
( السيدة التي تأتي لتنظف البيت هاتفتني و اعتذرت عن الحضور اليوم ... اليوم يا سيف ... من بين كل الأيام و غدا قراءة الفاتحة لأختك .... و لا مجال لأجد واحدة اليوم , لذا لن أضيع المزيد من الوقت ..... سأبدأ تنظيف بنفسي )
هتف سيف بحدة
( تبدأي ماذا يا أمي ؟!! ..... تنظفين البيت من طابقين بمفردك ؟!! .... لن أسمح لك بذلك أبدا , فقرات ظهرك المتعبة لن تتحمل ..... أين ورد و مهرة ؟؟؟ )
قالت أمه و هي تضع كرسيا مقلوبا فوق آخر معتدل
( لا وقت لديهما لمساعدتي ..... بالكاد سيكفي وقتهما لما يحتاجانه حتى مساء الغد ..... )
أمسك سيف بذراعها يقول
( اذن اتركي كل شيء مكانه ...... البيت نظيف و لا يحتاج كل هذا المجهود )
قالت منيرة غاضبة
( لن تقرأ الفاتحة الا و البيت منظف بأكمله يا سيف ...... انها مسألة راحة نفسية و أنا لن أكون مرتاحة أبدا الا بإنهاء تنظيف البيت استعدادا ...... )
قال سيف وهو لا يزال متمسكا بذراعها وهي تحاول جاهدة التملص منه بعزم ......
( لقد عرضت عليك مرارا أن آتي اليك بخادمة لتقيم معنا و تنتهي كل تلك المشاكل ...... انظري الآن لكل ذلك القلق الذي تسببينه )
قالت منيرة و هي تحاول الوصول بعزمٍ للكراسي
( و أنا أخبرتك بعدم قدرتي على تحمل شخص غريب بين أربعتنا )
فما كان من سيف الا أن ثبتها بقوةٍ من كتفيها قائلا بحزم
( حسنا ... حسنا .... اهتمي انتِ بمهرة و أعدك بأنني سأحضر لكِ واحدة من تحت الأرض غدا ..... )
هتفت أمه بجزع
( غدا !!! .... غدا يا سيف !!! .... الزيارة دا أم تراك نسيت مجددا ؟!! )
قال سيف بفاذ صبر
( سيأتون بعد العشاء يا أمي .... و من بداية الصباح ستكون هناك من تقف على الباب لتساعدك .... فقط عديني بألا تفعلي شيئا اليوم .... )
لم ترد أمه بل أبقت شفتيها مذمومة برفض .... الا أنه هزها قليلا يقول
( لكِ وعدي ..... ....... )
تنهدت أمه باستسلام وعلى مضض .... فقالت بخفوت
( أعدك .............. )
لكنه لم يتركها قبل أن يقول مؤكدا
( أمي ..... فكري لا قدرالله لو تأذى ظهرك و ضطررتي الى الإستلقاء مجددا .. ان لم تفكري بنفسك فكري بمهرة )
قالت منيرة بتذمر
( حسنا ..... حسنا ..... كم أنت لحوح !! ...... هيا اذهب الى عملك , لقد تأخرت ..................... )
ظل ينظر اليها نظرة محذرة للحظة .... قبل أن يومىء برأسه ليستدير و يخرج تاركا أمه واقفة بقلق على الرغم من أنه قد..... أعطاها وعده ......
.................................................. .................................................. ..........................
دخلت وعد الى غرفة السعاة صباحا و على ما يبدو أن ذلك الصبي المدعو علي لم يصل بعد ... و كان ذلك من دواعي سرورها , فلم تكن في حالةٍ تسمح لها بتحمل ثرثرته في بداية صباحها الباكر .... فلتستقر أولا و تهدأ نفسيا من عناء الطريق الطويل ثم تفكر في محاولة تحمله ...
وضعت حافظتها الصغيرة في جارور الطاولة الفارغ .... ثم استقامت لتعدل من قميصها الأبيض النظيف و تنورتها السوداء التي تبدو كزهرة لوتس مقلوبة ....
لم تخرج من بيتها يوما الا وكانت راضية عن منظرها ... مهما كانت حالتها النفسية , فأبسط ما تستطيع تقديمه لنفسها هو أن تكون أنيقة ... و لو على الأقل من وجهة نظرها هي فقط .... و هذا ما دفعها الى أن تصمم على اتقان الخياطة ...فقد وجدت بها ملاذها و حبها .... و ارضاءا لنفسها المخدوشة .....
مجرد عدد واحد من مجلة تعليم الباترونات كانت كفيلة بأن تجعلها تفهم و تبدأ .... حتى بدأت تبدع من نفسها , و أحيانا تصمم و تنفذ .... و كل ذلك بلا تكلفة تقريبا ....
كل ما تتمناه ألا يرتفع ثمن الأقمشة يوما .... فلتغلو أسعار كل السلع ... الا الأقمشة ... و الا فستفقد الشيء الوحيد المحبب في حياتها ....
نظرت الى المرآة الصغيرة الملعقة على الحائط .... هل ذلك المدعو "علي" هو من وضعها ؟ .... أنه غريب الأطوار على كلِ حال .... لم تعرف رجلا من قبل يهوى النظر الى المرآة ...
لكنها استغلتها الآن و هي تعيد ترتيب شعرها الذي انساب الكثير منه من ذيل الحصان اثناء الطريق الطويل ....
فشردت وهي تعيد ملامسة الخصلات خلف أذنيها مرة بعد مرة ..... فانحنت عيناها و انخفضت زاويتي شفتيها لتعود اليها لمحة الالم ....
تلك اللمحة التي تمثل جاذبيتها ...
لم يعرف يوما وجها قابلا للحزن كوجهها !! .... لا يقبله فحسب بل يحبه ليجعل منه وجها جذابا ... بل آسرا للنظر ...
ما تلك العينين التي يكمن جمالهما في حزنهما !! .....
لقد ذكرته على الفور بعيني "فيروز" ..... ذلك الحزن الساكن في عيني المرأة التي أسرت العالم بصوتها ...
" جارة القمر "
" جارة القمر "
لماذا همس بها مرتين في نفسه ؟!!
انتبه فجأة الى عيني القمر تتسعان فجأة في المرآة ليرافق اتساعهما شهقة مصدومة و هي تستدير اليه بسرعة و اضعة يدها على صدرها اللاهث بوضوح من ذلك القميص المدرسي الساذج ....
أوووف ... من أين تأتي بملابسها البسيطة التي لا تتبع أي طراز حديث ؟؟.....
بسيطة و غير عصرية و ...... و جذابة ..... جذابة عليها بشكل لعين ....
أغمضت وعد عينها ثانية واحدة و هي تستعيد أنفاسها بعد أن فجعت برؤية وجهه خلفها في المرآة الصغيرة ...
ما هذا الرعب الرديء ؟!!
هل يظهر للناس في الظلام ليرعبهم و يخرج في كوابيسهم !!
أخذت نفسا وهي تفتح عينيها لتطلاعه بأكبر قدر تستطيعه من الهدوء .... ثم ابتلعت ريقها بصمت و هي مستعدة النفس لإستقبال خبر الإستغناء عنها ...
هل قلبه الأسود لم يتحمل غفران ما سمعه بالأمس ؟؟ و اليوم سيصرفها من العمل ؟؟.....
تكلم سيف أخيرا ليقول بصوتٍ خافت عميق النبرات يرسل رعشة في الأوصال
( هل رأيتِ عفريت ؟؟ ........... )
انتظرت لحظتين بصمت ازيد من زمن الأجابة المناسب ... فرفع حاجبه , حينها هزت رأسها نفيا ببطء ,
قال سيف وهو يضع كفيه في جيبي بنطاله
( جيد ..... طبعا تتسائلين عن سبب مجيئي الى هنا يومين متتاليين .... )
عادت لتهز رأسها نفيا بتردد ..... الا أن سيف لم يعتبرها اجابة بل تابع بصلابة
( ستعدين نفسك لظهوري في اي وقت يا آنسة وعد ..... عملك هنا لم يكن بالشيء المفضل لي كما تعلمين , لذا من المستحسن الا تدعيني اسمع شيئا كالذي سمعته بالامس ..... لأنني بصراحة أتحين الفرص كي أصرفك من العمل كما صرفت والدك ...... من العدل أن أخبرك بذلك .... )
لاحظ انها زمت شفتيها قليلا ... و ما يشبه بريق قسوة ظهر بعينيها الشفافتين ....لكنها لم ترد , فتابع بحزم أكثر
( و هذا لا ينطبق علي فقط لأنني صاحب العمل .... بل أي شكوى ستصدر ضدك ستكون نهاية عملك هنا .... مفهوم ؟؟ ........ )
لم ترد وعد و هي تفكر ... " ألم يكن هذا معنى ما قاله بالأمس ؟؟ !! ..... ما الجديد الذي أتى به اذن !! "
كرر سيف بصرامة
( مفهوم ؟؟ ......... )
أومأت برأسها بصمت و هي تنظر الي قدميها ... الا أن سيف قال بلغة أمر
( انظري الي ...... )
نظرت اليه بتردد فقال بهدوء
( هل فقدتِ صوتك ؟؟ ...... هل فعلتِ ؟؟ ..... لأنك تتكلمين بلغة الإشارة منذ الأمس .... و هي لغة لا أفضلها حين أخاطب أحدا .......)
عادت لتزم شفتيها أكثر ..... الا أن يديها بدأتا في الإرتباك كحدقتي عينيها اللتين اتسعتا قلقا .... و خوفا ....
بالرغم من شجاعتها الظاهرة ... ووقاحتها المتوارثة من عبد الحميد العمري ... الا أنها أحيانا تصل الى حافة خوف مجهول و كأنها متوقعة الأسوأ ممن يواجهها .....
هل كانت هناك الكثير من المواجهات في حياتها ؟.... على الرغم من صغر عمرها ......
فتحت شفتيها لتهمس بهمس غير مسموعة .... فأمال رأسه متعمدا قائلا بغطرسة
( لم أسمع ......... )
أعادت بهمسةٍ أعلى درجة واحدة لكنه التقطها
( حاضر ....... )
لكنه لم يتركها الا قال بهدوء حاسم
( سيد سيف ....... )
أخذت نفسا اطول قليلا ...و رمشت بعينيها كبتا .. لكنها استسلمت أخيرا و همست بلا روح
(حاضر سيد سيف ......... )
ظل يدقق بها للحظات قبل أن يومىء برأسه وهو يقول بهدوء
( جيد ......... ابدأي بعملك اذن )
أومأت برأسها دون أن ترد .... الا أنه لم يكن سافلا معها هذه المرة فتركها أخيرا و خرج و هو يفكر براحة أنه برر تواجده الغريب بالأمس كما نال حقه منها جراء حديثها الوقح عن رجولته ..... لكن هل كانت راحة فعلا ؟؟ ..... ولماذا لها طعم مختلف الآن تلك الراحة ......
.................................................. .................................................. ............................
دخل علي بعد دقيقة من خروج سيف ... ليقول مندهشا متلفتا حوله
( الم يكن هذا هو السيد سيف الذي خرج من هنا الآن ؟؟ ........ ماذا كان يريد ؟!!! ... لقد كثر تواجده هنا )
استدرات عنه وهي تشعر بالدماء تندفع بهياجٍ مكبوت بين أوردتها و كأنها تلقت صفعة من ذلك الوغد أشد من صفعة والدها بالأمس ..... لكنها ردت بصوتٍ ميت
( كنت أتلقى التقريع على ما قلته بالأمس ..... كان كريما بأن يحدثني على انفراد )
رفع علي حاجبيه مفكرا عدة لحظات قبل أن يقول بهدوء
( كان أقسى من هذا على عبد الحميد الذي عمل هنا من قبلك ...... لكنه لم يكن يهتم بموضوع الإنفراد هذا و كان يسمعه ما لا يسر على الملأ ...... لذا لا تحزني فحالك افضل ممن سبقك , انتِ فقط احترمي الجميع هنا وهو سيكون طيبا معك .... أنا لم أشهد منه سوءا من قبل )
قست عيناها و انقبضت كفاها .... لكنها أخذت نفسا دون ان ترد .... فقال مغيرالموضوع
( ملابسك جميلة جدا ..... تشعريني بالخجل من نفسي .... )
استدارت تنظر اليه بريبة ... و أوشكت على أن تلقي عليه كل ما تستطيعه لتفرغ به ما فعله بها الوغد سيف ... الا أنها خشيت في اللحظة الأخيرة من عواقب ذلك حين يصل الأمر الى الوغد سيف .....
لذا تظاهرت بأنها لم تسمع منه شيئا و تابعت تحضير الأكواب الخزفية الخاصة بكل موظف .... بينما كان هو جالسا على الأريكة الصغيرة يربط رباط الحذاء ذو الإطارات ليبدأ العمل .... فقال بهدوء
( انت تختلفين عن جميع الفتيات اللاتي يعملن هنا .......... )
كم هو ذكي !!! .... لقد لاحظ أن فتاة في وظيفة ساعي ... تختلف عن فتيات يرتدين أحذية ذات الماركات التي لم ترها سوى بالمجلات .... بعد أن تكون قد ادخرت ثمن المجلة لا لشيء سوى لترى تصميمات الملابس التي بإمكانها تنفيذها .....
الا أنه تابع بهدوء
( أنتِ أجمل منهن .............. )
استدارت اليه بغضب ... ستفقد وظيفتها بسبب هذا الأحمق , فلتسيطر على نفسها قليلا ... ليست هذه هي المرة الأولى التي تتعامل فيها مع رجل مستظرف .... هذا ان كان يصلح اعتباره رجلا ... فهو بالكاد يبدو قد ترك مقاعد الدراسة .....
نظرت اليه بتجهم وهو ينهي ربط حذاؤه .... فالتقى بعينيها المحدقتين بالحذاء , فقال مبتسما
( هل تريدين استعارته اليوم ؟؟ ...... سيكون أكبر من مقاسك قليلا لكن لا بأس )
رفعت حاجبا محتقرا ... ثم قالت بجفاء
( نعم هذا ما ينقصني اليوم لأبدو بمزيدِ البله .......... )
نهض واقفا متزنا على اطارات الحذاء بمهارة ... ثم قال براءة
( أتقصدين أنني أبله ؟؟ ........ سامحك الله )
رفعت كتفها ببساطة و هي تقول
( أنت من قلت أنك أبله ...... لذا لو فكرت بأن تشكوني لسيد سيف لن يفيدك بشيء )
ظل واقفا مكانه طويلا ينظر اليها بتعجب ... ثم قال اخيرا
( للوهلة الأولى تبدين قوية البأس .... لكن من يتعامل معك يجد أن عقلك لا يتجاوز مرحلة الروضة )
استدارت اليه مهددة الا أنه خرج من الغرفة بسلاسة على حذائه المتزحلق مدندنا باغنيةٍ شعبية ٍ ما .....
ظلت وعد واقفة مكانها ... ناقمة على الوغد المدعو سيف , الذي جعلها تفرغ شحنة كرامتها المهدورة على شاب ليس بأكبر كثيرا من طفل .... مهما بلغت سماجته الا انه لا يستحق ان ينال ما كانت هي تناله طوال عمرها ...
تأففت وعد بكبت و هي تستعد لأول رنين معلنا عن اول طلب من احد الموظفين ......
.................................................. .................................................. ........................
يدها كانت ترسم وردة و هي شاردة .... مبتسمة لذكرى أيامٍ بريئة ... جميلة .....
حين كانت في السادسة عشر ....
( هل أعجبتك الغرفة ؟؟ .......... )
سألها محمد عن رأيها في الغرفة فوق السطح التي وجدها لها كي تبقى تؤجرها .... و هي تسير بجانبه بجوار سور البحر ...
لقد خرجت معه كما طلب منها بعد أن رأت الغرفة و قامت بمعاينتها ......
فتاة مراهقة تخرج بصحبة عامل على طريق البحر ..... كم بدا لها هذا مشهدا مألوفا هذه الأيام ... لكنها لم تتخيل أن تقدم على هذا التهور حينها ..... لقد منحته ثقتها لأنه ببساطة نصيبها ....
همست كرمة الصغيرة بإحباط
( أنها ممتازة .... لكن من أين آتي بالإيجار و أنا لم أعمل بعد ؟؟ ....... )
لقد بقت الليلتين اللتين سبقتا مع سيدة من حيه لديها ثلاث بنات .... و قد طلب منها هذه الخدمة من أجل فتاة من بلدته جاءت للمدينة وحيدة ....
قال محمد بهدوء
( اسمعي ........ سأدفع عنكِ الإيجار حتى تجدين عملا , و أنا أبحث لكِ عن عمل مناسب )
هتفت كرمة برعب
( لا ...... مستحيل أقبل بذلك ..... مستحيل ..... )
ابتسم محمد وهو يقول ببساطة
( الديك حل آخر يا فتاة ؟!! ...... لا تتكبري و اقبلي شاكرة )
عضت على شفتها بحرج .... وهي مرتعبة من الفكرة .... ثم همست
( أريد عملا مسائي لأتمكن من الإلتحاق بالجامعة ...... )
لا تزال تتذكر كيف عقد حاجبيه وقتها قائلا
( الا تزال تلك الفكرة تراودك ؟؟ ...... و ماذا ستستفيدين من الجامعة ؟؟ .... ماذا أخذ الجامعيون من شهاداتهم ؟؟؟ ما أتقاضاه يوميا قد يفوق راتبهم الشهري .... بما فيه من اكراميات )
ردت بصوتٍ قاطع لا يتناسب مع سنها الصغير
( سألتحق بالجامعة و لو كان هذا آخر شيء أفعله في حياتي ...... )
صمت محمد حينها حانقا من تفكيرها الرجعي المتخلف ..... لا يهمها سوى قطعة ورقة اسمها شهادة كي تعلقها في اطارٍ على الحائط بغرفة جلوس مذهبة ....
لا يزال صوتها الهامس يرن في اذنها
( هل ستساعدني ؟؟ ........... )
قال محمد وهو يلقي بقشور حبيبات الترمس بغيظ على الأرض
( سأساعدك ......... لكن بشرط , أن تقبلي بذلك دون جدال )
ثم أدخل يده بجيبه المهترىء ليخرج ورقة عشر جنيهات و مدها لها قائلا
( خذي هذه ...... قد تحتاجين لأي شيء )
ابتعدت كرمة الصغيرة بسرعة هامسة بقهر
( لا أستطيع ...... لا يصح ذلك )
تأفف محمد هاتفا بحنق
( بالله عليكِ يا فتاة خذي و أنت صامتة ..... و الا فلن أجد لكِ عمل )
مدت كرمة يدا صغيرة مرتجفة بعد فترة طويلة .... لتتناول منه العشر جنيهات الممزقة و تدسها بخوف في جيب فستانها البسيط .... قلقة من أن يسرقها أحد أثناء عودتها للغرفة التي ستبيت بها الليلة و التي سيدفع محمد ايجارها ...... لكنها اكتشفت انه لا خوف على العشر جنيهات .... فمحمد أوصلها حتى الحي الذي ستسكن به .....
ابتسمت عيناها الشاردتان بحزن .... و تلاعبت أصابعها بخصلات شعرها المتموج
( كرمة ....... كرمة ....... سيد عماد يريد منك تقرير المعاملات الأخير الذي طلب منكِ تحضيره)
أفاقت كرمة على صوت زميلها المتعجل .... فنهضت على الفور ممسكة بملف أمامها و هي تقول
( أنا ذاهبة اليه على الفور ...... )
عدلت من قميصها الأبيض و تنورتها اللوتسية الشكل و التي تحمل اسم وعد مسجلا ببراءة اختراع ....
ثم اتجهت الى مكتب السيد عماد و شعرها يتراقص بمرح خلف ظهرها .....
السيد عماد .... وهو نفسه السيد جميل ..... ليس لأن اسم جميل يحتل اي ترتيب في اسمه الرباعي ... بل هو صفة تطلقها عليه في سرها من شدة عجابها به و امتنانها له ....
السيد جميل من الأناس الذين وضعهم القدر في طريقها كي يجعلون حياتها أسهل .... وهو يذكرها نوعا ما بالأستاذة نوال .... التي كانت تميزها عن الجميع ... كونها مهذبة و هادئة و دائمة النظافة .... و بخلاف ذلك معلومة الأصل و النسب .... لولا ظروفها القدرية .... لذا كانت ضيفة مكرمة , لا مجرد فتاة ملاجىء
السيد جميل .... مدير هذا الفرع .... هو من أشرف على مقابلة العمل التي خاضتها بقلبٍ مفجوع....
رجل محترم في غاية التحضر .... عاش عمره كله بالخارج , الى أن عاد في السنوات الأخيرة كي يدير هذا الفرع ....
الأستاذ جميل لا يقوم بمقابلات عمل روتينية .... لا يقبل بمجرد سيرة ذاتية باردة ... لقد دخل له العديد ممن يحملون توصيات هامة و كان يعلم ان هذا هو الواقع بالبلد ... لكنه كان يدقق بتفاصيل حياة كل من يدخل اليه ....
بدءا من اسرته و حياته العامة و الخاصة و المدارس التي التحق بها بدءا من الإبتدائية و حتى هواياته .... و كان يستفزه لمعرفة مدى قابليته لتحمل الضغط العصبي ....
لذا لم تجد كرمة بدا من الإعتراف ..... فهو يتأكد شخصيا من كل معلومة يسأل عنها .... يتحرى صدق الموظف و أمانته أولا ..... لذا لا مجال للكذب ....
فاعترفت انها ولا فخر خريجة دار للرعاية ..... و انها الوحيدة التي التحقت بالثانوية العامة ثم الجامعة
كانت تراقب عينيه تتساعان بذهول مع كلماتها المرتجفة .... الى أن ثبت صوتها قليلا مع ذكر تقديراتها الجامعية المرتفعة .....
الى أن همس أخيرا
( هل يوجد مثلك بالفعل هنا !!! ..... كنت أظنه حلما !!! )
و نالت الوظيفة لسبب قدري بعث لها السيد المتحضر جميل ...... كانت لغته معظمها انجليزية سليمة , و العربية منها متكسرة بشكل طريف .... كله في الواقع كان طريفا جميلا ....
لقد عاونها كثيرا .... حتى بات يفضلها على الجميع .... في نظره لا أحد من العاملين بالفرع تمكن من تحقيق معجزة كالتي حققتها كرمة .....
و هي من جهتها صممت على أن تكون عند حسن ثقته ..... فأصبحت نابغة الفرع كما كانت نابغة دفعتها ....
و الغيرة منها أصبحت نارية قاتلة ..... لكنها لم تهتم ... لقد رأت من هم أكثر خطورة من هاؤلاء المدللين .... فلم تخاف أحدهم يوما .....
و السيد جميل لم يتورع عن اخبار الجميع فخورا بطفولتها الشجاعة .... في البداية ودت لو تقتل نفسها مما فعله... لكن فيما بعد و بعد أن ساندها .... بدأت في استمداد الرؤية المتحضرة منه شيئا فشيئا ....
الم تقل من قبل أنه السيد جميل .....
طرقت الباب بنعومة ثم دخلت مبتسمة بمرح قائلة
( صباح الخير سيد عماد ....... )
اشار اليها عماد مبتسما أن تقترب سريعا وهو يقول بالإنجليزية
( صباح الخير حبيبة قلبي ....... )
أدركت كرمة أن السيد عماد لم يكن وحيدا ..... بل كان هناك من يجلس في مواجهته .... فقال السيد عماد وهو يمد يده طلبا للملف ... فأخذه مباشرة منها
( أريد أن أعرفك بتلك الجميلة ..... انها جوهرة الفرع ..... و حبيبتي بشكل خاص )
كان يتكلم ما بين العربية المتكسرة و الإنجليزية .... و كانت كرمة قد اعتادت كلماته الجريئة ظاهرا و الطفولية داخلا .... فهو في نهاية الأربعينات و الشعر الأبيض قد غطى على الشعر الأسود بشعره ....الا أنه لا يزال وسيما رياضيا جذابا ..... حتى زوجته الجميلة مثله متأقلمة تماما مع مزاحه معها .....
لكن رغما عنها يحمر و جهها مع كلماته .... ربما لم تتحضر بما يكفي ....
تابع السيد عماد قائلا
( كرمتي ..... هذا حاتم .... انه موظف جديد هنا معنا ......وهو أيضا حبيبي )
التفتت كرمة مبتسمة الي الرجل الجالس الى الكرسي .... شاب جذاب للغاية , يرتدي قميصا أبيضا نظيفا و بنطالا من الجينز لكنه أنيق كذلك ....
مرت عيناه بها كلها دفعة واحدة .... بخصرها النحيف كخاتم رقيق .... و حتى شعرها المتماوج المتقافز عفويا
الا ان كرمة لم تلحظ اهتمامه و هي تقول مرحبة
( مرحبا بك ..... نورتنا بكل تأكيد و أتمنى أن يحقق عملك هنا كل أهدافك )
ما دام السيد جميل قال عن حاتم انه حبيبه .... اذن فحاتم من الأناس العصاميين مثلها .... فالشخص العصامي من وجهة نظرها الخاصة ليس من كون رأس مال بل هو من نجح في تخطي الأهوال للوصول الى بداية الطريق .... و من المؤكد كذلك أنه طاقة عمل جبارة مثلها .....
فحبيب السيد جميل ... لابد ان يكون كفأ ... مناضلا .... فعالا ... ايجابيا .... رائعا .... مثلها بالضبط...
ابتسم لها حاتم محييا بصمت لامحا خاتم الزواج في نظرة خاطفة .... فقال السيد عماد وهو ينظر الي التقرير في يده
( لما لا تصطحبينه في جولةٍ بالمكان يا كرمة ؟؟ ....... ريثما انتهي )
قالت كرمة ببساطة مبتسمة ( بكل سرور ............... )
فنهض حاتم من مكانه ليتكلم للمرة الأولى منذ أن رأته
( بل من دواعي سروري أنا ........" مدام كرمة ")
طافت كرمة به بمكتب مكتب ... متحدثة بلباقة , معرفة الزملاء بزميل جديد .... طالبة منهم بمزاح ان يمنحوه فرصة قبل أن يقتنسوه .... بعضهم كان يضحك ضحكة صفراء و البعض كان لا يهتم .... و واحد منهم قال
( هذا ما ينقصنا ............. )
نظر اليه حاتم بصمت نظرة قاتمة دون أن يرد .... لكن ذهنه كان يبدو حادا و كأنه يسجل الجميع
ابتعدت كرمة بحاتم الى أن خرجت به الى الرواق .... فنظرت اليه بعينين قويتين سمرتاه مكانه و قالت بصوتٍ مهلك و كأنا تعزف مقطوعة النصر
( القاعدة الأولى ..... اياك ان تجعل كلمة غبية او نظرة ساذجة تبعدك عن هدفك .... مدام السيد عماد متفائلا بك فهذا يعني انك خضت الكثير و نجحت قبل ان تصل الى هنا .... لذا اياك و التخاذل او الهزيمة بسبب العناصرالبشرية المدمرة لغيرها ..... ضع في رأسك أنك أفضل من الجميع ..... و ستكون )
صمتت تلتقط أنفاسها السريعة .. ثم سألت بهدوء
( سأكون معك خطوة بخوة الى أن تثبت أقدامك هنا ..... فلا تخشى من أحد )
ظهرت ابتسامة على شفتيه وهو ينظر اليها طويلا ..... نظرة مندهشة بها اعجاب و شيئا من الحسرة .... لكن بالطبع كرمة لم تلحظ كل ذلك .... فقال بهدوء واضعا كفيه في جيبي بنطاله
( و كيف أخشى من أحدهم و لدي تلك الشعلة من القوة تساندني .......... )
ابتسمت كرمة و هي تقول بلهجةٍ كرتونية رافعة قبضتها المضمومة ....
( معا سنهزم سكان هذا الفرع .......... )
ضحك حاتم بخفوت و عيناه مبهورتان قليلا يهز رأسه بتعجب .... فتابعت كرمة ببساطة
( اذن .... هل ستفطر من طعام المقهى المحنط , أم نرسل من يحضر شطائر فول لنا ....أنا سأدفع كترحيب مني بك و لا تخف سنأكلها في وقت الراحة .... فأنا لا أقبل بالتجاوز .... )
رد حاتم قاطعا ...مبتسما مائلا برأسه قليلا .... مسترقا النظرات لها
( شطائر الشعب بالطبع ....... )
رفعت كرمة اصبع الابهام قائلة بتشجيع
( جيد ....... )
و سارت تسبقه وو يتأملها مليا .... الا أنها استدارت تقول بجدية
( هل معك علكة فم ؟؟ ....... لا بأس أنا أحمل عددا ضافيا معي .... فنحن في مصرف )
ثم اكملت طريقها تسبقه .... و قد اتسعت العينان خلفها .... مؤكدا بحسرة !! .......
.................................................. .................................................. ........................
تسير في الرواق الطويل و هي تحمل أبغض طلب الى قلبها ... الطلب الخاص بسيف الدين فؤاد رضوان .....
دخولها اليه الآن هو من أسوأ ما يمكن أن تمر به .... لكن لا أمل أبدا أن تخلو أيامها القادمة من بهجة رؤية وجهه البغيض ....
طرقت الباب بخفة .... ثم دخلت ناظرة الى الصينية في يدها دون ان ترفع وجهها اليه , فربما تتمكن من الخروج دون أن ترى طلته البهية ....
لكن أذنها الحساسة التقطتت تأففه وهو يضع سماعة هاتف ... ليقول بخفوت
؛( لا أمل ........ )
يبدو يائسا من شيءٍ ما ... و من المرجح أنه سيسقط يأسه فوق رأسها الآن ....
وضعت قهوته وهي مطرقة الرأس ....ثم تلاها كوب الماء .....
خصلة غرتها تأبى التهذيب دائما فتنساب فوق جبينها و على جانب وجهها رافضة الإنصياع لربطة شعرها كباقي خصلاته ....
ذيل حصانها ينساب هو الآخر على كتفها القريب منه ما أن تنحني .....
أخذ قلمه يطرق على سطح المكتب بشرود وهو يتطلع اليها مدققا بتفاصيلها الأكثر من عادية .....
من المؤكد بأنها تقضي كل ليلة مع عبد الحميد لتروي له مدى تغلغلها بحياته .... انهما يدبران خطة ما و هذا هو ما هو متأكد منه ..... لن تكون ابنة عبد الحميد العمري لو لم تفعل .....
و الدليل تلك التفاصيل الدقيقة بها و التي تجبره على مراقبتها و هي تمثل بأنها غير منتبهة ....
استقامت أمام ناظريه و بدأت في الإنسحاب .....الا أن صوت قصف فجأة
( وعد ........... )
تسمرت مكانها للحظة ثم استدارت اليه بهدوء ...... مطرقة برأسها , الى أن أجبرها صمته الى رفع عينيها الى عينيه .... بقت ساكنة للحظة ... و بقى هو ....
ثم قال فجأة أول ما طرأ على باله ....
( أحتاج الى من تنظف البيت غدا بصفة ضرورية ...... فهل أنتِ مهتمة بالأمر ؟؟ )
ملامح وجهها التي رآها لن ينساها أبدا .... كانت حالة من الصدمة لم تظهر على أي عضلة من وجهها سوى عينيها اللتين اتسعتا ... لتظللهما غمامة داكنة في اللحظة التي تلتها .... لتنحنيا و تتثاقل نظرتيهما
و شفتاها انفرجتا قليلا .... بنفسٍ ضئيل .... تتسعان ثم تنغلقان .... عدة لحظات مرت قبل أن تهمس بصوت ميت
( أنا ..... لست خادمة , ..... سيد سيف )
نظر الي بعض الورق أمامه دون أن يقرأ منه حرفا وهو يقول بهدوء
( أعرف ذلك ....... أنا فقط عرضت عليك الأمر , لأن أمي تحتاج الى من تساعدها غدا بصفة ضرورية و لم أوفق في ايجاد أحد حتى الآن ...... لذا ان كنت تقدرين على هذا المجهود حتى العشاء ..... فسوف أعطيكِ مبلغ *** )
لم ينظر اليها حتى سمع همستها المبهورة
( كم !!! ........... )
رفع نظره اليها ..... وجهها كان أكثر صدمة من الصدمة الأولى ... شفتيها منفرجتان , و الخط الدقيق في منتصف شفتها السفلى يبدو أكثر وضوحا .... و كأن شفتيها متكورتان تنطقان بالرقم في سرها ....
فأعاد لها الرقم مرة أخرى بهدوء .... ظلت شاردة قليلا ثم نظرت الى عينيه و همست
( في يومٍ واحد ؟!! ....... )
أومأ برأسه بهدوء وهو يقول
( بالطبع ...... فالمجهود لن يكون هينا ... يتوجب علي إخبارك بذلك , فغدا يوم خاص ..... انها مناسبة قراءة الفاتحة لشقيقتي الصغرى ...... )
ارتبكت قليلا ... ثم همست
( مبارك ......... )
أومأ برأسه دون أن يرد .... منشغلا بمراقبة تفاصيل وجهها من جديد .... شرودها و تنازعها الداخلي ....
و لم تمر عدة لحظات ... حتى رفعت رأسها قائلة بخفوت
( موافقة ........ )
أخفض رأسه ..........
بعد عدة لحظات قال بخفوت دون أن ينظر اليها ...
( غدا .... من الساعة الثامنة لو سمحتِ ......... هذا هو العنوان )
اقتربت منه ببطء لتلتقط من يده ورقة صغيرة خط عليها بضع كلمات ببطء ....ووجوم ....
للحظة شعرت به لن يفلتها ... الا أنها كانت تتوهم فقد سلمها الورقة على الفور .... ربما هي قوته الواصلة حتى الى أطراف أصابعه ما جعلتها تظن ذلك ....
ثم استدارت ببطء تريد الهرب .... الا أنه وقبل ان تصل للباب ناداها مرة أخرى
( وعد ....... )
تنهدت بيأس و غامت عيناها أكثر .... الا خلاص من ذلك الجرح المستمر
لكنها استدارت تنظر اليه .... و ينظر اليها ..... الى أن قال بصيغة تحذير خافتة
( لا مجال لذكر ........ )
قاطعته قبل أن تأبه لغضبه من مقاطعتها له ...
( لن أخبر أحد بأنني ابنة عبد الحميد العمري ......بعد اذنك )
ثم اسرعت الخطا لتخرج ململمة ما تبقى من روحٍ أهدرت على مدى سنوات طويلة ...... بينما أغلفت عن عينين قاسيتين خلفها .... شاردتين ... و لسان يسأل
" ما هذا الذي فعلته للتو ؟ " ..............
.................................................. .................................................. .............................
استيقظت صباحا .... تأخذ نفسا عميقا و تستعد ..... اليوم سيكون من أصعب الأيام في حياتها , لقد عملت و شقت كثيرا رغم حداثة سنها .... الا أنها و بعد دخول الجامعة كانت تحاول جاهدة الحفاظ على كيان معين سعت لإنشائه
لم يكن العمل شيء يعيبها أبدا ..... لكن ثقتها بأن أحدهم ما يفعل ذلك الا لإذلالها و قبولها بذلك ... كان هذا يزعزع الكيان الذي بنته لنفسها .... و كان في نظرها بداية التنازل .... لكنها لم تستطع المقاومة ...
هل هو المبلغ الذي لم تحلم به في يومٍ واحد .... أم .... أم هناك رغبة خفية ... بل تشوق لرؤية شقيقة عبد الحميد العمري ؟؟؟
طوال ليلة أمس و هي تتخيل صورا مختلفة لها .... و لم تستقر على واحدة .... لكن خوفا من أن تكشفها كان يتربص بها .... فهل ستطردها ؟؟ .... لا بأس المهم الا يكون ذلك مصاحبا لسباب أو تطاول في الأيدي ....
خرجت من غرفتها .... تحمل كيسا صغيرا .... فمرت بوالدها الذي كان يدقق النظر بها ... جالسا على كرسيه المقيت .... و كأنه يستشعر بأنها ستقوم اليوم بشيءٍ هام و تخفيه عنه .... لطالما كانت له مراقبة الصقور ...
لم تكن الطاولة عليها طعام افطار .... و هي لن تعده اليوم .... بداخلها مرارة الصفعة لا تزال حاضرة ... فليحضره بنفسه اليوم ....
أغلقت الباب خلفها دون حتى أن تتمنى له صباحا سعيدا ....
فلو كان صباحها سعيدا اليوم , لربما حينها كانت أهتمت و تمنت له السعادة في صباحه .......
.................................................. .................................................. ...........................
وقفت وعد تنظر الي البيت الجميل بعد أن نزلت من الحافلة السبعة راكب .... كان بيتا من طابقين , لم يكن ضخما لكنه كان جميلا و طرازه راقي ...
له حديقة صغيرة جميلة .... ابتسمت وعد و هي تنظر الى شتلات الورود المرصوصة في تلك الحديقة المربعة ...
يشبه البيوت العائلية القديمة .... لكن بطراز أحدث قليلا ...
وقفت أمام الباب تأخذ نفسا عميقا ... و هي تتسائل عن مدى رجوح تلك الفكرة و ذلك التصرف المتهور ....
لكن اصبعها كان قد تصرف قبل أن تأخذ قرارها بالتراجع ... فضغطت الجرس ووقفت تنتظر .... و قلبها يدق بعنف ....
مرت عدة لحظات قبل أن يفتح الباب .... لتجد نفسها واقفة أمام أمرأة ... أقصر منها قليلا ... رقيقة مبتسمة بجمال ووجهها به طفولة تتماشى مع اللون الفضي المتناثر هنا و هناك بشعرها الناعم المعقود ...
كانت دقيقة الجسد ... ذات عينين عسليتين حنونتين حولهما بعض خطوط حزينة بفعل الزمن و الظروف ....
زادت ضربات قلب وعد و تمسكت بالكيس الذي تحمله أكثر ... و اتسعت عيناها قليلا لا تعرف ماذا تقول
الا أن السيدة التي لم تفقد ابتسامتها قالت بمودة
( صباح الخير ........ )
تنحنحت وعد بقلق و مرت عدة لحظات قبل أن ترد بحذر دون ابتسام
( أنا .... أنا .... لقد جئت من أجل ..... تنظيف البيت )
اتسعت عينا المرأة قليلا ... دون أن تفقد ابتسامتها الا أن الدهشة كانت جلية عليها و هي تتفحصها من قمة رأسها الى قدميها ثم قالت بدهشة
( تنظيف البيت ؟؟!! ....... متأكدة ؟؟ )
أومأت وعد بقلق متزايد ... ثم قالت بملامح جامدة
( أنا من طرف السيد سيف ...... )
زادت دهشة السيدة الواقفة أمامها أكثر بالرغم من اتساع ابتسامتها لتقول بمودة
( بسم الله ماشاء الله .... العمل لا يليق بك , قد أعتاد على جمالك لأبدأ بك يومي .... ادخلي حبيبتي )
دخلت وعد بعدة خطوات مترددة تنظر حولها بقلق .... بيت جميل و رقيق ... بل رائع ببساطته و ذوقه الرفيع ... لن يتعبها في التنظيف ... لكن سيتعبها تأملا و حسرة ....
تبعتها السيدة من خلفها لتقول بود
( تبدين متعلمة يا وعد ......... )
استدارت وعد اليها تقول بخفوت
( نعم .... أنا جامعية ...... )
بهتت ابتسامتها قليلا ... ثم قالت بتعاطف يكاد يكون شفقة رفضتها وعد داخليا
( حقا !! ......... كم هذا مؤسف , أود لو عفيتك الآن من العمل )
رفعت وعد ذقنها وهي تقول بثقة متقصدة
( ليس هذا وضع جديد ..... أنا لست خادمة في الواقع , لكن هذه مهمة أصبحت منتشرة بين العديد من الجامعيين كجليسة أطفال في يومٍ واحد ... و غيرها من مهام اليوم الواحد و العمل لا يعيب أحد .... )
عادت ابتسامة السيدة مجددا بمودة أكبر
( أحسنتِ ...... ألم أقل لك أنني قد أعتاد على جمالك )
ثم قالت معرفة
( أنا منيرة ..... والدة سيف )
أومأت وعد بتردد و هي تومىء برأسها شاعرة بقلبها يهبط قليلا .... ثم همست مكررة اسمها من جديد
( وعد ........ )
ربتت منيرة على كتفها تقول
( اسمك جميل ككل شيء فيك ....... )
سمعت وعد صوت خطواتٍ ثابتة من خلفها .... تبعها الصوت عميق النبرات
( صباح الخير يا أمي ............... )
استدارت وعد بسرعة تتشبث أكثر بالكيس البلاستيك الذي تحمله بيديها ... لتراه واقفا على بعدٍ منها ... ينظر اليها نظراتٍ تبدو كالصقر ....
لا تعلم لماذا ذكرتها نظراته في هذه اللحظة بنظرات والدها ... فاقشعر بدنها ....
الا أن والدته هي من قاطعت سيل أفكارهما لتقول
( لم تخبرني بمدى جمال هديتك لي اليوم يا سيف ..... انها فأل خير لمناسبة اليوم ان شاء الله )
لم يرد سيف و عينيه تطوفان على ملامحها سريعا حتى أخفضت نظرها ..... فتابعت منيرة توضح لها
( الليلة قراءة الفاتحة لابنتي الصغرى مهرة ...... )
رفعت وعد عينيها ... و همست دون أن تبتسم بفعل شدة ارتباكها من الموقف المأسوف عليه
( نعم ....... أعلم , مبارك )
ردت منيرة بالشكر بينما عادت وعد الى النظر بعيدا عن ذلك الذي يرمقها كمتهمة ... فقالت منيرة
( حسنا ...... هل نبدأ ؟؟ فربما تمكنا من الإنتهاء قبل موعد الضيوف ....... )
أومأت وعد برأسها .... ثم وقفت تردد و خجل تقول
( أين ...... سأبدل ملابسي ... من فضلك )
قالت منيرة و هي تجذبها من يدها ....
( تعالي معي ..... سأريك الغرفة , ملابسك جميلة على فكرة ...... هل قلت لكِ أن من قبل أن كل ما بك جميل )
ابتسمت وعد باهتزاز و هي تسير معها صامتة ..... شاعرة بزوج من العيون النارية تحرق ظهرها ...
خرجت وعد بعد دقيقة .... وقد ارتدت جلبابا قطنيا بسيطا و رفعت شعرها عفويا فوق رأسها ... و بدات تجيل نظرها تبحث عن ابن شقيقة والدها ..... فلم تجد له أثر ,
جيد .... من المؤكد أنه أحس أخيرا ببرود تواجده في المكان فقرر الخروج للعمل ....
التقت بمنيرة في منتصف البهو ..... فبادرتها قائلة بخفوت
( سألف الأبسطة أولا و أرفعها ........)
فردت منيرة قائلة مبتسمة
( حسنا حبيبتي ...... تصرفي بحرية و أرني مدى تفوقك , لو كان بيدي مساعدتك لساعدتك .... لكن للأسف ظهري مصاب بشدة ..... )
ردت وعد بخفوت و هي تطلع لملامحها بتدقيق للمرة الثانية منذ أن أتت الي هنا
( سلامتك ....... ارتاحي و أنا سأسألك إن احتجت لأي شيء ........ )
أومأت منيرة و قالت بمودة
( بارك الله بكِ حبيبتي ..... اذن سأذهب أنا الى المطبخ لأباشر عملي , فأنا من سأعد مأدبة الليلة بنفسي )
ردت وعد
( أعانك الله .......... )
و بعد أن دخلت منيرة الى المطبخ .... انحنت وعد لتلف أول بساط ... الا أنها لمحت بطرف عينيها سيف لا يزال متواجدا بالمكان .... ممسكا بسلسلة مفاتيحه ...
فأستقامت بسرعة و هي تنظر اليه بقلق .... فالتقت نظراتهما للحظة ثانية .... و لم يفته أن ينظر الي جلبابها القطني .... شعرت وعد بالقلق أكثر .... هل هذا الجلباب البيتي رقيق أكثر من اللازم ؟؟
لم تكن تظن أنه سيظل متواجدا هنا بكل وقاحة .... ابتعد سيف داخلا الى المطبخ .... فانتظرت لحظتين , لتنحني مرة أخرى مسرعة لتلف البساط ...
الا أن صوت أقدامه جعلها تستقيم ثانية بسرعة حتى كادت أن تتعثر و تقع بطرف جلبابها ... لكنها استقامت أخيرا
وهذه المرة أحمر وجهها بشدة و امتقع في آنٍ واحد .....
لماذا تشعر بالخجل طالما ارتضت و جاءت الى هنا ؟!!
من ينظفن البيوت ينحنين و يسمحن الأرض دون خجل ممن هو متواجد .... فلماذا تشعر بالخجل الآن , هذا جزاء ما فعلته بنفسها .... فلترضى اذن و تصمت ....
صوت سيف الخافت كان كقذيفة في اذنيها حين قال
( أنا سأخرج الآن ........ )
رفعت عينيها اليه بسرعة و نظرت يمينا و يسارا متوقعة أن ترى أمه ..... الا أنها كانت الوحيدة المتواجدة ,فنظرت اليه دون أن ترد و دون أن تفهم سبب اخباره لها بذلك .... الا أن وجوما غريبا كان يظلل ملامحه قبل أن يستدير و يخرج بخطواتٍ قوية .... صافقا الباب خلفه .....
بقت وعد تنظر الي الباب قليلا .... قبل أن تعاود عملها بهدوء , لا داعي لأن تجهد نفسها بالتفكير حاليا ... فأمامها عمل شاق .....
و خلال الساعات التالية بدأت وعد بكنس البهو .... ثم مسحه بقماشٍ مبلل ... لتبدأ رحلة تنفيض الأبسطة و الأثاث .... ثم تلميع التحف و المرايا و أطارات الصور و اللوحات .....
و أثناء تنظيفها للصور المعلقة الى الحائط ..... استطاعت رؤية شقيقة والدها ... و ابنها سيف ... و شابتين في عدة صور متفرقة ....
واحدة منهما و هي الكبرى ذات ملامح قوية صلبة تكاد تكون قاسية و تشبه شقيقها .... ووالدها ...
أما الصغرى .... فكانت نسخة مصغرة من أمها بشكلها الملائكي .... ابتسمت وعد بحزن و هي تنظر الى صورة الصغرى المسماة بمهرة ....
على الأرجح أنها تشبه ملك الآن ... فملك أيضا كانت ملائكية الوجه و كان من الواضح أن الطفولية ستظل ساكنة وجهها حتى تكبر ......
لو أن فقط يجتمع شملها بملك من جديد و تطمئن عليها ..... فربما حينها ضاع الكثير من ما تشعر به من أسى ....
انتهت وعد من البهو و المطبخ تماما حتى وقت الظهيرة .....
فأخبرتها منيرة أن تصعد الى الطابق العلوي و تبدأ بإحدى الغرف الى أن تأتي و تطلعها على مكان الملاءات و المناشف لنظيف .....
صعدت وعد بتردد .... الى أن وجدت أول غرفة , فطرقتها .... و حين لم تسمع جوابا دخلت ....
الا أنها تسمرت مكانها و هي ترى فتاة شابة ترتدي فستانا أبيض جالسة تبكي بصمت على حافة السرير ....
فقالت وعد معتذرة و هي تتعرف على مهرة التي رأتها في الصور ...
( أنا آسفة ...... لقد طرقت الباب, لكنني لم أسمع ردا ..... )
رفعت مهرة رأسها تنظر الى وعد بدهشة ... ثم قالت بخفوت
(؛ من أنتِ ؟؟؟ ............... )
ردت وعد بحذر
( أنا هنا منذ الصباح ..... لأنظف البيت )
نظرت مهرة اليها نفس النظرة المتعجبة حيث لا تشبه النساء اللاتي نظفن البيت من قبل ... الا أنها أومأت برأسها و هي تمسح وجهها لتنهض قائلة
( حسنا ...... امنحيني خمس دقائق , سأبدل هذا الفستان , و احمل حاسوبي و أخرج من هنا )
قالت وعد بسرعة
( لا داعي .... لقد أخبرتني السيدة منيرة بأن أبدأ بأي غرفة , لذا يمكنني أن أذهب لغرفة أخرى .... )
قالت مهرة بخفوت ...
( لا .... يمكنك البدء )
ترددت وعد قليلا , ثم قالت
( آنسة مهرة ...... هل أنتِ مريضة ؟, هل أستدعي السيدة منيرة لك ؟؟ )
عادت مهرة لتبكي .... فازداد قلق وعد , لتقول
( سأنزل و أحضرها حالا ......... )
الا أن مهرة استوقفتها قائلة و هي تبكي
( انتظري يا من اسمك ......... )
أكملت وعد بإمتعاض خفي
( وعد يا آنسة مهرة ....... )
فأومأت مهرة دون اهتمام , لتقول فاردة ذراعيها
( ما رأيك بفستاني ؟؟ ................ )
تأملته وعد طويلا .... كان فستانا ابيض ,مستقيما .... غاية في الاستقامة دون اي شكل معين .... نحيف جدا كصاحبته ... نزولا الى ركبتيها ... بأكمام بيضاء طويلة مستقيمة ... لكنها أوسع من ذراعي مهرة النحيفتين
من الواضح انها رغم نحافتها الا ان جسدها كان مستقيما تماما دون خصر ... لذا من اختاره , اختار فستانا مستقيما ظنا منه انه يناسبها .....
الا انه باختصار كان بشعا عليها
ردت وعد بهدوء ( انه راااااائع ....... )
مسحت مهرة وجنتها و هي تهمس بأمل
( حقا ؟؟ ....... لكني لا أراه كذلك )
رفعت وعد حاجبا مرتابا و هي تسألها بعجب
( هل هذا هو ما يبكيك ؟؟ ........ )
أومأت مهرة برأسها ..... فأتبع الحاجب الثاني أخاه عجبا و هي تقول
( لكن الحياة بها الكثير من الأشياء الصعبة لتبكين عليها ......... )
قالت مهرة من بين دموعها
( و بما أنني لم أقابل ما هو صعب بعد ..... فمن حقي أن أبكي اليوم على فستان قراءة الفاتحة ..... كم مرة ستقرأ لي فاتحة بظنك ؟!! ..... )
ردت وعد بنفس الحاجبين المرتفعين لعنان السماء
( وجهة نظر سليمة ........ )
استدارت مهرة تنظر لنفسها بالمرآة .... محاولة ارتداء حزام ذهبي رفيع , الا أنه أنتج بعض الإنتفاشات بقماش الفتان أعلاه و اسفله مما جعل منظره أسوأ .... فعادت دموعها للتساقط .... انها نحيفة تكاد تكون هزيلة ....
صمتت وعد تنظر اليها طويلا ... و ياللعجب , شعرت بتعاطف معها دون أن تعرف لذلك سببا .... لذا قالت بعد فترة
( من أختاره لك ؟؟ ........ )
ردت مهرة بخفوت
( أختي الكبرى ورد ..... لقد أصرت عليه و لم أشأ أن أغضبها ..... إنها تتعب من أجلي كثيرا )
ضيقت وعد عينيها محاولة ابتلاع الفستان نفسيا ... الا انها لم تنجح .... كان بشعا ....
فدخلت وعد تقول بخفوت
( ربما استطعنا تعديله قليلا ...... أنا متمكنة من الخياطة و قد خيطت عدة فساتين سهرة من قبل و كانت رائعة بشهادة أصحابها )
نظرت مهرة اليها برفض
( الآن ؟؟؟ ..... لم تتبقى سوى عدة ساعات قبل أن يأتي خطيبي...... كم انني ... بصراحة لا أستطيع المجازفة )
قالت وعد
( لن يأخذ مني تعديل بسيط طويلا ...... و سأخبرك بما سأفعله لو اقتنعتي فلنتوكل على الله )
ترددت مهرة طويلا قبل أن تقول
( أخبريني أولا ..... بماذا تفكرين ؟؟ )
قالت وعد تطرح أول حل من بين عدة حلول معروفة لديها
( هل عندك قميص متمدد من الدانتيل أسود أو أحمر ؟؟ .................. )
قالت مهرة
( نعم ..... لدي أسود ......)
فقالت وعد ( هل يمكنك الإستغناء عنه ؟؟ ....... )
فقالت مهرة ( نعم ...... في سبيل الفستان .. نعم )
قالت وعد
( اذن يمكنني منحك ساعة واحدة لأكمل باقي عملي ...... لكن اريد علبة الابر و بكرات الخياطة و اياك ان تخبريني بأن البيت لا يحتوى عليها ..... )
قالت مهرة
( بل توجد علبة بسكويت معدنية قديمة في المطبخ تحتوي على تلك الأشياء الغريبة ...... )
قالت وعد
( اذن احضريها بسرعة ................ )
قالت مهرة و هي بالفعل عند الباب
( ستخبريني أولا ..... أليس كذلك ؟؟ )
ابتسمت وعد تقول
( سأخبرك أولا .................. )
و خلال ساعة ....
كانت وعد قد قصت أكمام الفستان لتجعلها أسفل الكتف مباشرة و ثنت طرفي الكم حتى اصبح مضبوطا ....
ثم قصت خصر عريض من القميص المطاطي الدانتيل الأسود .... و أخذت تقصقص حواف زهرات الدانتيل حتي بدا مفرغا بدوائر من حافتيه ..... لتصنع منه خصرا عريضا محكما حول الفستان من أسفل الصدر حتى أعلى البطن بقليل ....
ثم فتحت مقدمة المتبقي من القميص و جعلته مستديرا حول الكمين ..... بحيث تحول الي سترة من الدانتيل الأسود قصيرة جدا تكاد تكون من كمين و ظهر فقط ....
و بعد بحث قليل وجدت رباط شعر به وردة جوري حمراء .... و شريطة شعر رفيعة من الحرير الأحمر....
فثبتت الشريط الأحمر الرفيع في منتصف الخصر العريض من الدانتيل الأسود .... و ثبتت به الوردة الحمراء في جانبه .....
و حين ارتدته مهرة أمامها .... بدت النتيجة اروع بكثير فهتفت بجذل
( انظري ..... كنت قد اشتريت حذاء ابيض , لكنني بعد تعديل الفستان سأرتدي هذا )
نظرت وعد الي مهرة و هي ترتدي حذاء كلاسيكي احمر لامع ... ذو كعب رفيع جدا و طويل ... بدا مع الفستان مذهلا .... حتى ان وعد ظلت فاغرة الشفتين قليلا امام روعة الحذاء الباهظ ....
لكنها نفضت الافكار عنها لتقول مبتسمة بخفوت
( اتمنى ألا تغضب أختك ............. )
التفتت مهرة اليها تقول
( ورد طيبة جدا ..... هي فقط تحب ان تكون القائدة في كل شيء , لتضمن الخير لنا من وجهة نظرها )
صمتت وعد لا تعلم بماذا ترد .... الا أن مهرة قالت بسعادة
( وعد ..... بإمكانك امتهان التصميم و ليست الخياطة فحسب , ستربحين ذهبا و سترتاحين من الخدمة في البيوت )
أظلمت عيني وعد ..... " خدمة في البيوت ؟!! " .... لقد نسيت الأمر في خضم الساعة الماضية تماما
الا أن عبارة مهرة العفوية كانت بمثابة صفعة لها ..... تذكرها بالتصرف الأهوج الذي جعلها تقبل و تأتي كي تنظف بيت سيف الدين فؤاد رضوان .....
قالت وعد بفتور لتقطع الحديث
( سأذهب لأتابع عملي ...... لم يتبق لي سوى ثلاث ساعات لأنتهي من الثلاث غرف ... اي ساعة لكل غرفة , بما فيهم غرفتك ...... )
قالت مهرة بسرعة مبتسمة
( كم أنتِ منظمة و دقيقة في وقتك !! ........لا داعي لغرفتنا انا وورد ..... سأنظفها بنفسي غدا , يكفيكِ ما فعلتهِ من أجلي ..... )
هزت وعد رأسها موافقة .... فهي بحاجة للوقت على كلِ حال ولو تبقى بعضا منه فستنظفها هي .....
.................................................. .................................................. .......................
حين تابعت وعد عملها كانت حالتها النفسية افضل بعد ان اخذت تلك البرهة من الوقت في قضاء احب هواية لها و كم استمتعت بالنتيجة لولا كلمة مهرة التي جعلتها تفيق لنفسها ...
و بالفعل بعد ثلاث ساعات كانت وعد قد انتهت من تنظيف الثلاث غرف .... و بعد أن كانت قد انهارت جسديا
لم تكن تظن ان تنظيف بيتا من طابقين سيكون مهلكا بهذه الدرجة ....
دخلت وعد المطبخ تكاد تزحف على يديها و قدميها و قد قاربت الساعة الثامنة .....
لتجد منيرة قد انتهت من صف العديد من أصناف الطعام بمهارة .... و قد بان عليها التعب بالفعل .... لكن لم يكن ذلك هو ما جذب نظر وعد ..... بل وجود امرأة شابة تساعدها
"ورد " بلا شك ..........
انها جميلة تشبه النمور .... تبدو في نفس عمر سيف ..... لكن بها شيء يخيف .... لا تعلم ما هو تحديدا ...
نظرت ورد اليها ورد بالمقابل بتساؤل .... فرأتها منيرة التي قالت مبتسمة
( تعالي حبيبتي ....... ورد هذه وعد التي أحضرها سيف بمعجزة لتنقذني اليوم )
برقت عينا ورد ببيرق مخيف و هي تقف مكانها بسكون مفاجىء .... ليرتفع حاجبها بشرود بعيد .... بعيد جدا .....
ارتجفت وعد قليلا من نظرتها .... هذه المرأة أو الشابة أيا كانت فهي شريرة ..... و نظرتها مخيفة ...
ودت وعد لو تهرب من هنا على الفور ..... فقالت بتردد و عيناها لا تبارحان عينا ورد النمريتين
( هل تريدين مني شيئا آخر سيدة منيرة ؟؟ .......... )
ابتسمت منيرة و هي تقترب منها لتقول بمحبة و هي ممسكة بذقنها
( سلمت يداك حبيبتي ..... )
ثم قبلتها ببساطة !! ...... ذهلت وعد من عفوية تلك السيدة .... بينما تسمرت عيناها على عيني ورد الشيطانيتين من خلف ظهر منيرة .... فارتجفت !!
ابتعدت وعد و كانت قد بدلت جلبابها و نظفت نفسها و عادت لطيفة شهية من جديد ....
من الواضح أن منيرة تظن بأن سيف قد أعطاها نقودها مسبقا .... لأنها لم تشر الى الأمر تماما ....
و بالطبع تفضل وعد الموت على ان تطلب منها مالا ...... لذا لا سبيل سوى الرحيل ..... خاصة و أن منيرة بدات في طلب رقمٍ ما .... و اثناء انتظارها اخذت تقول بقلق
(؛ لقد وصلت الساعة الثامنة و لم يصل أخاك بعد ..... ستكون كارثة ان وصل الضيوف قبله )
لكن ورد لم يبدو عليها أنها قد سمعتها أصلا .... فقد كانت مدققة بوعد التي كانت تتهرب بنظراتها بعيدا قدر الإمكان ..... لذا همست على أمل الا يسمعها أحد
( سأنصرف سيدة منيرة ......مبارك و...... تشرفت بمعرفتك )
ثم استدارت لتخرج سريعا من المطبخ .... متشبثة بكيس جلبابها اللعين !! .....
لكنها ما أن وصلت الي الباب و فتحته خارجة .... حتى داهمتها ضوء مصباحي سيارة ليغشي عينيها ... فرفعت يدها تظلل عينيها .... فلم تدرك درجتي السلم أمامها فداست على الهواء لتسقط على الأرض ذات الحصوات بكل قوة .....
لم تسمع صوت الباب الذي فتح ... بل شعرت فقط بذراعين قويتين رفعتاها لتقف مجددا ... لكن من الواضح ان ركبتها قد جرحت من الألم الذي تشعر به .....
كانت يديها لا تزالان تظللان وجهها .... ولم تزيحهما وهو يقول
( وعد ..... وعد ...... هل أنتِ بخير ؟؟ ..... ابعدي يديك )
لكنها لم تتحرك على الفور ... الى أن أمسك بكفيها يبعدهما برفق ..... حينها رفعت عينين متعبتين متألمتين الي عينيه ........ يالحزن عينيها !!
( ما الأمر يا سيف ؟؟ ......... )
انبعث صوت ثلجي النبرات من خلف وعد ..... فترك سيف كفي وعد لينظر الى ورد خلفها .... فقال بهدوء
( لقد وقعت و جرحت نفسها ........أخبري أمي أن تهتم بها حاليا )
و في حين قتمت ملامح ورد كانت وعد تسارع بالقول
( أنا بخير و يجب أن أذهب الآن كي لا أتأخر .........)
قال سيف بصوتٍ غريب
( كنت ستغادرين قبل أن أعطيك المال ....... لم أظن بأنني سأتأخر الى الآن و نسيت صباحا )
احمر وجهها بشدة و ارتبكت .... و لم تجد سوى الهمس
( لا داعي للتبرير ..... الدار أمان )
شبح ابتسامة ظهرت على زاوية شفتيه القاسيتين ... لكنها لم تلحظها و هي مطرقة الرأس ,
حينها عادت ورد لتقول ببرود
( هيا يا سيف كي تبدل ملابسك فقد تأخرت ........ )
نظر سيف الى ورد ثم قال بهدوء
( حسنا اسبقيني للداخل يا ورد سآتي حالا ......... )
كان وضعا غريبا ... و الأعمى سيلاحظ ذلك ... الا أن ورد دخلت بعد لحظتين مما زاد من غرابة الموقف
و بعد دخولها سارعت وعد للابتعاد قليلا وهي تهمس
( يجب ان اذهب الآن فانا استقل مواصلات عامة و لا احب ان اتاخر ...... )
قال سيف بصوت عميق
( ابقي هنا حتى نهاية الزيارة و سأقلك بعدها ...... )
فزعت وعد و همست بلا وعي
( لااا .......... )
الا ان سيف رد بصلابة
( بلى ....... لن ترحلي الآن , لن احمل نفسي مسؤولية اي خطر يواجهك )
سيطرت على اعصابها بصعوبة و همست
( و تحمل نفسك مسؤولية ذلك الوضع المشبوه بتوصيل الفتاة التي قامت بتنظيف بيتك ؟!! )
رد سيف ببرود
؛( انتِ عاملة عندي و تحت مسؤوليتي الخاصة اليوم .... لذا يجب ان اعيدك لبيتك آمنة )
فتحت وعد شفتيها لتجادل .... الا انه سبقها و رفع كفه قاطعا
( كفى ..... هذا أمر , والا فلا تأتي غدا للعمل )
فغرت شفتيها و عينيها بذهول ... و همست بعد فترة غباء
( أنت تمزح !!! ............. )
انحنى يتناول كيسها البلاستيك الذي وقع منها اثناء سقوطها .... فسلمه لها قائلا بجفاء
؛( جربيني و سترين ............ )
هزت وعد رأسها قليلا بعدم تصديق ... لكنها لم تجد ردا مناسبا , فقال مبتعدا يسبقها للدخول
( الى الداخل يا وعد .... الا لو قررتِ الا تكرميني برؤيتك مجددا .......... )
وقفت وعد في باب المطبخ ....
تراقب بصمت العائلة كثيرة الأفراد التي جلست ... و قد بدأ الحديث الودود منتقلا الى الطرائف و الغرائب و فضائح العريس و العروس حين كانو اطفالا ....
ثم لمحت دخول مهرة .... رشيقة كالغزال بفستانها الذي عدلته ... و شعرها البني الفاتح منسدلا فوق كتفيها
سلمت على الكبار ثم الصغار الى أن وصلت الي خطيبها .... شاب وسيم أكبر منها قليلا ... يبدو مدلها بحبها
سلم عليها ضاغطا على كفها .... هامسا لها بشيء ما ... فاحمر وجهها بشدة و ابتسمت بخجل ....
و بعد أن جلس الجميع .... و بعد حديث قصير , بدأوا بقراءة الفاتحة .....
نظرت وعد الي منيرة التي بدأت تبكي بصمت أثناء القراءة .... و نظرة سيف و ملامحه !!!
ابتسمت وعد بشرود و هي تسمع زغروتة طويلة و عالية من والدة العريس .... و بكاء منيرة تحول لشهقات قصيرة و هي تتمنى لو كان والد مهرة موجودا معهم اليوم محتضنة ابنها بقوة ....
اما سيف فلم يقبلها على جبهتها كالعادة .... بل ضمها الى صدره بقوة .... تكاد تكون عنيفة , حتى انه اغمض عينيه للحظة ..... و هي لفت ذراعيها حول صدره بنفس القوة .....
والد مهرة ..... والد سيف .... زوج أخت والدها ....... تعلم أنه أذاه بشدة قبل موته .....دون تفاصيل دقيقة ...
لكنها موقنة من شيءٍ واحد .... أن تلك الأسرة قد نكبت بنكبة اسمها " عبد الحميد العمري " ......
أثناء شرودها .... كانت ورد قد اقتربت , لتدخل الى المطبخ بصمت .... فتراجعت وعد للداخل خطوتين , ناظرة للمرأة المخيفة برهبة ... و التي عادت لتنظر اليها ... كلها ... دون أن تترك أي تفصيلٍ بها ....
ثم قالت بخفوت ... لكن جليدي , يبعث الرجفة في النفس
( قدمي الشراب يا ............ )
همست وعد تلقائيا
( وعد ..................... )
أومأت ورد ببطء .... ببطء شديد للغاية ... ثم أعادت مشيرة بذقنها للصينية
( قدمي الشراب يا وعد ........ )
ثم خرجت .... ظلت وعد واقفة مكانها كتمثال بارد كالثلج و عينين قاسيتين .... و هي ترى منيرة قد اندهشت قليلا بعودة ورد بدون صينية الشراب ..... الا أن ورد جلست واضعة ساقا فوق ساق مرتاحة الملامح و الإبتسامة ....
أوشكت وعد أن تخرج و لن يستطيع أحد أن يضع اصبعا عليها .... و لتذهب وظيفته للجحيم ....
الا أن نظرة الي ذلك الجمع أوقفها .... كيف ستخرج من هنا أمام الناس .... ثم التبرير و التوضيح و الاستغراب المعتاد .... لا داعي لكل هذا ....
فلتقدم الشراب و تمرر هذه الليلة على خير ....
تلك الصغيرة كانت تبكي لان فستانها لا يعجبها ... فماذا لو علمت بأن ابنة عبد الحميد العمري متواجدة معهم تحت سقفٍ واحد !!
أمسكت وعد بصينية الشراب بثبات قدر الإمكان ..... ثم خرجت من المطبخ
كانت مشاعر سيف الداخلية عنيفة أمام ليلةٍ كهذه ..... مهرة الصغيرة .... ووعد ......
وعد !! اتسعت عيناه وهو يراها ..... تقترب منهم تحمل صينية الشراب دون أن تنظر لأحد ....
مقدمة الشراب للجميع .... الى امه التي ابتسمت بمفاجأة لوجودها .... الي مهرة و خطيبها ...الى ورد ذات النظرة البراقة .... الى باقي الأهل .... حتى وصلت اليه ....
انحنت قليلا منتظرة .... دون أن تنظر اليه .... لا تعابير .... لا ملامح .... لا شيء ....
مد يده ليأخذ الكأس .... هامسا بلا روح ( شكرا ........ )
لم ترد و لم تنظر اليه ......الصينية تهتز بين يديها بفعل الإرهاق ....
ثم ابتعدت .... لتدخل المطبخ سريعا ....... بينما ظل سيف ناظرا الي الكأس في يده مشاعر غريبة .... طغت على فرحته بمهرة .......
دخلت منيرة المطبخ متعجلة فوجدت وعد لا تزال بالداخل جالسة على أحد كراسيه ... فابتسمت قائلة بسعادة بينما عيناها متورمتان بكاءا ...
( الا زلت هنا يا وعد ؟ ..... ظننتك رحلتِ من فترة , لكن سررت أنك تمكنتِ من حضور قراءة الفاتحة
انتظري سأحضر لكِ طبقا مميزا بيدي قبل أن أبدأ في تقديم الطعام بالخارج ...... )
نهضت وعد من مكانها قفزا تقول بإباء
( لا .... شكرا لكِ سيدة منيرة , لا داعي ....... )
قالت منيرة مصممة بحزم
( أنا مصرة .... و سأعده لكِ قبل أن أبدأ بالتقديم )
الا أنها أثناء كلامها وقعت منها معلقة التقديم أرضا من فرط هرولتها فانحنت لتلتقطها و هي تسند ظهرها الرقيق النحيف متأوهة .... حينها اقتربت منها وعد تسندها من مرفقها و تجلب لها المعلقة قائلة
( لما لا ترتاحين قليلا ..... لقد عملت من الصباح و حتى الآن دون أن ترتاحي )
ردت منيرة تبتسم
( و ما أجمل من التعب في يومٍ كهذا ..... كنا نشتاق الى الفرح أن يدق جوانب البيت منذ سنين طويلة )
لم ترد وعد لعدة لحظات ... ثم قالت بخفوت
( حسنا ارتاحي الآن و كفاك مجهودا و أنا سأحضر المائدة و أقدم الطعام ............. )
قالت منيرة بتأنيب ضمير
( كان من المفترض أن تكوني ببيتك الآن ...... لولا تلك التي كان من المفترض أن تأتي لتساعدني و اعتذرت في اللحظة الأخيرة بالأمس ...... لقد تعبتِ اليوم حبيبتي , يمكن لورد أن تساعدني الآن )
ابتلعت وعد رأيها و هي تقول
( لا تعب صدقيني ..... اذهبي انتي و أنا سأحضر كل شيء )
ترددت منيرة قليلا , فابتسمت وعد لها مشجعة بثقة , حينها قبلت منيرة على مضض و هي تشعر بقدميها تحترقان بالفعل من الوقوف الطويل من الصباح و حتى الآن ....
لذا أعطت وعد بعض التعليمات البسيطة عن طريقة التحضير و تنسيق الأطباق المُقدمة ... ثم أصرت عليها وعد أن تذهب ....
و ما أن خرجت منيرة من المطبخ حتى بدأت وعد بالتحضير من و الي المطبخ و المائدة .... فلم تنس الكؤوس و الشمعدانات الرفيعة الكريستالية التي كانت تزين غرفة السفرة ..... و زادت بأن طوت محارم المائدة المزخرفة على شكل مخروطي لتضعها فوق الأطباق المسطحة الجميلة ذات الأطر المذهبة ....
و خلال خمسة عشر دقيقة كانت قد انتهت .... و هي تنظر مبتسمة الى المائدة المنسقة بجمال ....
لم يكن اليوم بأكمله مرهقا .... بل ساهمت بعض الصدف البسيطة في جعل جزءا منه ممتعا ....
ربما جرحها تعالي تلك المدعوة ورد دون سبب يستدعي ذلك .... لكن تنسيق المائدة الآن فعلته بملىء ارادتها من أجل منيرة .....
ابتسمت وعد قليلا تفكر و هي تضبط وضع معلقة ذهبية ....
" ربما هي ذلك الشيء في الأفلام العربية القديمة الملقب باسم ... رابطة الدم ... و الذي كانت تراقب مشاهده في التلفاز العتيق بسخرية فظة ... شاعرة بمدى تفاهة تلك المشاهد "
رفعت وعد وجهها فطالعتها صورتها في مرآة غرفة السفرة الضخمة ..... كان الإرهاق يبدو عليها جليا ووجهها شاحب .... و قد اتسعت عيناها أكثر من اتساعهما الطبيعي المخيف ....
أخذت وعد ترتب خصلات شعرها و تملسها خلف اذنيها ... لتلف ذيل حصانها مرتين حول رسغها الى ان تركته فوق كتفها ناعما ملفوفا بريئا .....
ماذا تفعل الآن ؟؟ ..... هل تخرج بجرأة لتدعوهم ؟؟!! .....
حسنا لا بأس فلتتشجع ..... ربما ينتهي هذا اليوم و تعود لتدفن نفسها تحت غطائها ....
خرجت وعد ... خطوة .. خطوتين ... ثلاثة .... الى أن وقفت أمام الجميع .... فمرت لحظتين قبل أن ينتبهوا لها فيبدأ الصمت يعم المكان و النظرات تحدق بها .....
بدراسة سريعة ... كانت معظم النظرات ودودة ....
وواحدة فقط براقة .. مخيفة .... شريرة ....
بينما الأخيرة .... الأخيرة تلك المحدقة بها كالصقور ... فحثها دافع متهور لا ارادي لأن ترفع عينيها الى تلك النظرات .....
نظرة خاطفة اليها جعلتها ترتبك و تبعد عينيها عنه سريعا .... فقالت لتداري ارتباكها
( المائدة جاهزة سيدة منيرة ........ )
ابتسمت منيرة و هي تدعو الجميع للطعام ... بينما بدت نظرات الصقور أكثر سخونة حتى كادت أن تلفح بشرتها الشاحبة ....
و انقضت الليلة أخيرا ...... الحمد لله أن هناك مغسلة أطباق و الا لكانت سقطت تعبا مغشيا عليها .... صحيح أنها اعتادت العمل , لكن من الواضح أن حياتها لم تكن بمثل قسوة حياة غيرها رغم كل شيء ...
كانت تمسح رخام المطبخ بقماشة نظيفة حتى بات لامعا تماما ....
و كانت شاردة تماما , لذا انتفضت شاهقة برعبٍ حين قصف صوت قوي خلفها كالرعد
( ماذا تفعلين ؟!! ............ )
استدارت وعد ترتجف و هي تنظر الي سيف بعينيه الغاضبتين ووجوده يملأ المطبخ من حولها ....هيبة و حجما....
فتراجعت بسرعة الى الرخام تتشبث به هامسة
( لم أفعل شيئا ........ )
فتح فمه ينوي صب جام غضبه عليها الا أنه صمت في اللحظة الاخيرة و هو ينظر الي الخوف الجلي على ملامحها رغم محاولتها المضنية لتهدئة نفسها و اظهار بعض الشجاعة ...
زفر سيف بحنق ... ثم أخذا نفسا خشنا قبل أن يقول بصوتٍ يماثله خشونة
( الا ترين بأنكِ تجاوزتِ ما طلبته منك دون أي دعوة ....... )
كانت وعد تتنفس بسرعة و مع ذلك رافضة أن يرعبها فلم تحيد بعينيها عن عينيه ... فقالت بصوتٍ خافت
( لم أتجاوز أي شيء ...... كنت بالمطبخ طوال الوقت )
هتف سيف يضرب اطار الباب بقبضته
( قصدت العمل ....... )
انتفضت وعد مع قبضته .... لكنها رفعت ذقنها بالقوة تواجهه رغم قلبها المنتفض .... فهذا الرجل أمامها موتور منها و من والدها .... و قد يدفعها غضبه لأن يفعل بها أي شيء في لحظة تهور ....
قالت وعد بصوتها الخافت
( أنت أصريت على بقائي ......و السيدة منيرة كان ظهرها يؤلمها , لذا اضطررت أن أساعدها بما أنني باقية هنا رغما عني )
كان سيف ينظر اليها أثناء كلامها و كأنه يقرأ لغة شفاهها ... فتسائلت وعد إن كان يعاني صعوبة من الاستيعاب !!
الى أن صمتت أخيرا ... حينها لم تستطع متابعة التحدي فأخفضت عينيها بارتباك ..... و حين لم يتكلم و لم يتحرك ... شجعت نفسها و قالت دون أن تنظر اليه
( هل يمكنني أن أذهب الآن ؟؟ ......... )
لم تسمع ردا لعدة لحظات الى أن قال أخيرا بخشونة
( هيا ....... سأعيدك الى بيتك الآن , لقد انصرف الجميع )
ترددت قليلا قبل أن تهمس بقلق
( رجاءا دعني اذهب وحدي ...... أنت تجلب لي و لك المشاكل )
رد سيف بفظاظة
( اقلقي على نفسك .... و دعكِ مني , ........... هيا , دقيقة واحدة و اريدك عند الباب الخارجي )
ثم انصرف دون أن يزيد كلمة ... بينما وقفت وعد تشتعل بها شرارات الرفض , تريد لو تصرخ بذلك الفظ الجلف ... الا أنها رغما عنها كانت تخشاه ... ترفض ذلك , لكن تخشاه ...
نظرته مخيفة و ماضيه مجهول بالنسبة لها ..... لكن من المؤكد ان ذلك الماضي يحتوى على الجزء الثاني من اسمها في أكثر أجزاؤه سوادا و قتامة ... ان لم يكن كله ....
خرجت وعد باستسلام مطرقة برأسها .... تعبر البهو ....تنظر بطرفِ عينيها خلسة بحثا عن منيرة .....
من الواضح أنها صعدت الى غرفتها لترتاح ....
لم تنتظر لتودعها ......
عادت وعد لتطرق برأسها .... تسير بوجوم ... و هي تردد جملة قالتها منذ ساعات و لم تسمعها منيرة كما لن تسمعها الآن
" سررت بالتعرف اليكِ .... و شكرا على القبلة "
.................................................. .................................................. .....................
دخلت ورد الى الغرفة بملامح متجمدة .... كانت تود لو تلحق بتلك المخلوقة الغريبة بالأسفل , الا أنها وازنت أمورها و فضلت أن تدرك مهرة قبل أن تتصنع النوم هربا منها ...
أغلقت الباب خلفها بهدوء ... تنظر الي مهرة التي كانت تنظر للأسوارة التي أهداها لها خطيبها مع خاتم الخطوبة ... جالسة على حافة السرير في حالةٍ من الوله و الهيام ... حتى أنها لم تشعر بدخول ورد ...
كتفت ورد ذراعيها و ظل واقفة مكانها الى أن تشعر بها الأميرة .... و حين يئست تنحنحت ,, حينها قفزت مهرة من مكانها تسدير الى ورد ... و ما أن رأتها حتى ارتبكت و توترت و هي تنهض قائلة بابتسامة قلقة
( مرحبا ...... ما رأيك في الليلة ؟؟ .... كانت جميلة اليس كذلك ؟؟ .... )
ظلت ورد واقفة مكتفة ذراعيها دون أن ترد و دون أن تلين ملامح وجهها ..... فازداد ارتباك مهرة و قالت محاولة اثارة جو من البهجة
( لم تخبريني ما رأيك بحسام ؟؟ ...... هل أعجبك ؟؟ )
ظلت ورد صامتة لفترة ... ثم تنازلت و ردت أخيرا ....
(حين نزلت صباحا للعمل ..... كان هناك فستانا غير هذا معلقا في دولابك )
رفعت مهرة حاجبيها بتفكير في حجةٍ ما .... ثم قالت متلعثمة
( بالطبع تدركين أنه نفس الفستان ..... أنا فقط ارتديت حزاما فوقه )
اقتربت ورد بسرعة من مهرة و نزعت كتف السترة الدانتيل القصيرة عن كتفها لتقول بحدة
( كم الفستان مقصوص ....... هل هذا من تأثير الحزام ؟!! )
جذبت مهرة نفسها من ورد و هي تدلك كتفها و تعيد السترة عليه بعنف هاتفة
( و ما المشكلة إن أردت أن أضيف له شيئا ..... لا تعطي الموضوع أكبر من حجمه يا ورد رجاءا .... ليس الليلة )
التفتت ورد اليها بعنف تأبى أن تترك الأمر عند هذا الحد ... فهتفت
( بمن استعنت ؟؟ ....... أمام من أحرجتني و الجميع يعلم أنني أنا من اخترت فستانك ؟؟ )
هتفت مهرة مستجدية
( لقد عدلته بنفسي و أنا وحدي ........ )
هتفت ورد بحدة
( كاذبة ....... أنتِ لا تستطيعين حتى ادخال خيط في ثقب ابرة )
ظللت مهرة جبهتها بيدها و هي تقف يائسة مكانها لتهمس بضعف
( لا داعي لذلك الآن يا ورد رجاءا ......)
قالت ورد بصلابة
( ليس قبل ان تخبريني من ساعدك خلال ساعات عملي ........)
تنهدت مهرة بيأس و هي تحك عينيها ... لا تزال لحظة اندلاع النيران قادمة , لذا قررت أن تخوضها و تنتهي فقالت بصوت مكتوم دون أن تنظر اليها
( الفتاة التي ....... جاءت ..... )
همست ورد تقاطعها بصوتٍ خطير و عينين متسعتين ذهولا و شراسة
( وعد ؟!! .......... )
نظرت اليها مهرة ... خائفة من نظرة عيني ورد دون ان ترد ... فصرخت ورد بقوة
؛( أجيبيني ...... هل جعلت خادمة تقص لكِ فستانك ؟!!! ..... أجيبي لتثبتي لي مدى تهورك واللامسؤولية المرضية التي أصبحتِ تعيشين بها ..... )
هتفت مهرة و قد بدأت عيناها تدمعان
( لم يحدث شيء هام يا ورد أرجوكِ ..... انها محترفة في التفصيل و أخبرتني بما ستفعله قبل أن تفعل .... و قد ,.... لقد ...... لقد أحببت روح المغامرة ..... أحببت روح المغامرة في أمرٍ من أتفه ما يكون .... فلماذا تصنعين منه مأساة ؟؟ ...... )
فتحت ورد فمها لتصرخ و تصرخ .... بأنها أكبر مأساة .... مأساة سوداء عميقة .....
الا أنها عادت لتغلق فمها و هي تنظر الى مهرة بصمت قبل أن تستدير عنها ...... تبدل ملابسها بشرود ... و ما أن انتهت حتى اندست في فراشها فهمست مهرة مترجية
( ورد لا تغضبي مني ..... رجاءا لا تفعلي ذلك .... ورد ..... ورد لا تنامي بهذا الشكل )
الا أنها لم تجد سوى الصمت جوابا .... و بعد أن أطفأت الضوء بيأس خيم على الغرفة ...
ظلت عينا ورد مضيئتين في الظلام .... متسعتان بقسوة ... و الألم يحف زاويتهما .... بشدة ..........
.................................................. .................................................. .......................
وقفت وعد أمام السيارة برهبة .... تنظر اليها متوجسة وكأنها كائن عجيب كوكب خارجي ....
بينما وقف سيف مقابلا لبابه المفتوح ينظر اليها قبل أن يقول بخشونة
( اجلسي ...... ماذا تنتظرين ؟؟ .... أن أفتح لكِ الباب ؟!! )
رفعت وعد وجهها اليه تستفيق من تأملها ... فهزت رأسها نفيا ببطء قبل أن تفتح الباب لتدخل بحذر و كأنها تخشى على السيارة .....
هل هذه مقاعد سيارة حقا !! .... انها مريحة أكثر من مقاعد بيتها .....
جلدية واسعة .... فاتحة اللون و ياللعجب ليست متسخة على الرغم من لونها الفاتح !! .....
جلس سيف بعدها فشعرت أن السيارة قفزت بها و سقطت من هول وزنه و هو يجلس حانقا .....
ثم صفق الباب خلفه ..... فظلت تنظر اليه قليلا , الى أن نظر اليها متجهما ليقول بخشونة
( الباب .......... )
همست وعد بعدم فهم ( ماذا ؟؟ ....... )
قال سيف بنفاذ صبر ( لو تكرمتِ بإغلاق بابك فسأكون ممتنا لك ........ )
انتفضت تنظر الي بابها المفتوح .... فجذبته بحذر و بخفة , فانغلق وحده بأكثر سلاسة من خفتها ....
ما هذا الباب ؟!! ...... انه ينجذب و يغلق بمنتهى البساطة و الخفة !! ....
بعكس أبواب سيارات الأجرة التي كانت تستقلها...... فقط حين تمتلك أجرتها .......
أبواب سيارات الأجرة تحتاج الى قوة جذب جبارة حتى ترجرج السيارة ... و ما أن تتنفس الصعداء , حتى يخبرها السائق بلهجةٍ مسلم بها و ملامح متجبسة
" افتحي الباب و اغلقيه مجددا ........ "
حينها تسمي بالله ... و تجذب الباب بكلتا ذراعيها كأنها تشد جملا يأبى النهوض .....
أما هذه السيارة ..... فخفيفة كالريشة .... عطرة الرائحة ....
ابتسمت وعد و هي تراقب ارقاما كثيرة مضاءة بعد أن بدأ بتحريك السيارة ....
اتسعت ابتسامتها قليلا و هي تشعر بأنها في مركبة فضائية ..... لم يتسنى لها الجلوس في سيارة مثلها من قبل
( ضعي حزام الأمان ....... )
أفاقت من بهجتها الصامتة على صوته الخشن .... الا أنه كان خافتا هذه المرة !! .....
نظرت الي مكان الحزام و اخذت تجذبه حتى وصلت به للجهة المقابلة ... فحاولت ادخله مرة و اثنتين فكان يقفز منها في كل مرة ....
زفر سيف بنفاذ صبر .... فتلجلجت بقلق و حاولت مرة ثالثة و قفز منها مجددا ... فهتف سيف بحنق
( ما بالك ؟!!! ..... انه ليس حزام طائرة ........ )
ارتجفت وعد من عصبيته الزائدة .... فعضت على شفتها ممتعضة داخليا و هي تفكر بحنق
" تمهل يا عم !! ........ "
كانت ممسكة بمقبض الحزام المعدني فقال سيف بخشونة آمرا وهو يمد يده المفرودة
( أعطِني إياه ................. )
نظرت اليه وعد بصدمةٍ .... الا أنه لم يكن ناظرا اليها ... بل كانت عينيه على الطريق أمامه و يده تتحكم بالمقود بمهارة ...بينما يده الأخرى تنتظر مفرودة !
مدت وعد المقبض اليه فشعرت بالحزام يخنق صدرها للمرة الأولى .....و ما أن وضعت المقبض في يده حتى أغلق يده على كفها الصغيرة قبل أن يتسنى لها أن تنزعها .... فارتجفت و احمر وجهها بشدة و نزعت كفها من بين أصابعه بشدة ...
نظر اليها نظرة جانبية بتعبيرٍ لم تقرأه في الظلام ... فأدارت وجهها بسرعةٍ الي نافذتها ....
حينها توهمت بأنها سمعت نفسا حادا ....
أو ربما لم تتوهم .... و كان هذا نفس نفاذ صبر وهو يوشك على أن يرميها خارجا .....
ثم يدهسها بإطارات سيارته .... و ربما حينها سيتذمر لإتساخ اطارت السيارة الثمينة ... التي على ما يبدو أغلى ثمنا من قيمتها كإنسانة في حياة الكثيرين ....
شعرت بالحزام يجذب بقوةٍ على كتفها يكاد يخلعها ... فتأوهت وعد رغما عنها و هي تسقط ناحيته قليلا ... الا أنها عادت و اعتدلت بسرعة رافظة النظر اليه ورأسها موجة بصلابة الى النافذة بزاوية مئة و ثمانين درجة ....
سمعت أخيرا صوت تكتكة مقبض الحزام ... و على ما يبدو قد انتهت مشكلته .....
عم الصمت و الظلام السيارة وهي تطير بهما سريعا ......
رفعت وعد قبضتها لتستند بذقنها اليها و هي تراقب أضواء أعمدة الإنارة تجري أمامها على طول طريق البحر المظلم .....
كانت تطير .!!... و الهواء المنبعث من جزء مفتوح من النافذة يطير خصلات شعرها بنعومة .....
فابتسمت بجذل و هي تلتصق أكثر بالزجاج ...... انها تطير بحق !! ......
أغمضت وعد عينيها و الإبتسامة تتألق على شفتيها ....
ظل سيف ناظرا الي الطريق بثبات و عيناه جامدتان .. قاسيتان .... و حين مر بعض الوقت لم يستطع مقاومة النظر اليها مرة ....
لم ينسى بعد نظرة الإنبهار الطفولية التي تجلت على ملاحها ما أن دخلت الي السيارة .... شيئا ما كان له ثقل الحجر بمعدته شعر به حينها ....
لم يكن يوما ممن يتصفون بالحساسية .... أو الحس المرهف ....
لكن شيئا ما بها !! ...........
نظر اليها .... فصدم بمنظرها و قد راحت في سباتٍ عميق بعد تعب اليوم ....
كانت رأسها متساقطة فوق صدرها كعنق أزوة مكسورا ..... و ذيل حصانها فوق كتفها المجاور يتطاير نحوه بخجل ...
نظر سيف الى الطريق بوجهٍ متجهم .... و ملامح صلبة ....
لكنه بعد فترة عاد لينظر اليها .... طويلا .... معيدا نظره الي الطريق .. و منه اليها مجددا ....
حتى حثه دافع شيطاني على مد يده ببطء .... ليمسك بذقنها بلمسةٍ لا تكاد تكون حقيقية .... ثم ضغط عليه ببطء .... شعر بنبضات رسغه تتزايد بحماقة .....
حينها تأوهت وعد قليلا ..... فخشى أن تستيقظ صارخة به تتهمه بالتحرش ... لذا تردد قليلا قبل أن يقول بخفوت خشن
( عدلي من وضع رأسك ........ )
لم ترد عليه ... بل بدت من عالم الأموات .... فعاد ليقول بصوت خافت خشن ..... خشن للغاية ...
( وعد ....... ارفعي رأسك ..... ستتأذى عنقك )
حينها اطمئن أنها ليست في حالة تسمح لها بإتهامه بالتحرش .... لذا غطى وجنتها بكفه وهو لا يزال ممسكا بذقنها و عدل من وضع رأسها ببطء حتى أرجع للخلف و أسنده الى ظهر مقعدها .....
انتظر لحظة ..... ثم انتبه لنفسه مصدوما فسحب يده و كأنه أمسك بجمرةٍ مشتعلة ....
ليتشبث بالمقود بكلتا كفيه حتى ابيضت مفاصل أصابعه ..... بالرغم من أنه دائما يقود بيدٍ واحدة !! .....
لكن ربما كانت دواعي السلامة في هذه اللحظة تتطلب أن يقود بكلتا يديه ......
بدا الطريق أمامه طويلا .... أسودا .... ممتدا الى مالانهاية ....
عيناه قاسيتان .... وجهه متصلب كالحجر ..... و قلبه أشد تحجرا .....
حيث اختفت أعمدة الإنارة .... و اختفى جانبي الطريق .... و ارتسم أمامه على زجاج سيارته صورة من ماضٍ قرر أن ينساه الا أن ذكراه كانت له بالمرصاد .....
خمس عشر صفعة متوالية ..... عدها في نفسه صفعة صفعة ..... لم يغفل عن واحدة ....
مقيدا بحبلٍ سميك ... يحفر في عضلاته النحيفة ..... و صوت كالرعد يقصف في اذنه
( لص ..... هذه هي تربية امك المصون !! ....... هل هذا هو الإبن الذي لطالما ملأت العالم فخرا به و بتربيته !! ..... صحيح ابن أمك ...... )
صرخ حينها بغضبٍ أسود لاهب و هو يبصق دما من فمه
( من يستعيد حقه ليس لصا ...... أنت من سرقنا ..... أنت المجرم ..... )
لتتوالى الصفعات على وجهه و حزام جلدي يضربه .... بينما هو مقيدا أرضا لا وسيلة لأن يدافع عن نفسه سوى أن تتقلص عضلاته و تشتد فتصير كالحجر أمام العنف الذي يواجهه .....
خمسة عشر صفعة .... لم يكن جلد الحزام مؤلما كألمهم ...... فصرخ مجددا و عروق عنقه تنتفخ و تتوهج
( سأقتلك يوما ما يا عبد الحميد ...... سأقتلك )
الا أن قبضة قوية أمسكت بشعره تجذب رأسه للخلف بوحشية .... و صوت هادر يقول
( حظا سعيدا ....... حين تخرج من السجن يا لص )
ثلاث سنوات بالأحداث .....
سرقة بالإكراه ...
تهجم على بيت خاله ليلا..
مع وجود أسلحة ....
فقد كان يحمل معه سلاحا ناريا للطواريء في حالة فشله و محاولة الهرب
و كان هذا السلاح الناري هو عبارة عن ألعاب نارية .... الا أنها كانت ممنوعة , و تعد سلاحا .....
لن ينسى مادة في القانون ذكرها محامي تبرع للدفاع عنه دون جدوى
" لا تجوز محاكمة من يرتكب السرقة , إضرار بزوجته أو أصوله أو فروعه إلا بناء على طلب المجني عليه ، وللمجني عليه أن يتنازل عـن دعواه بذلك في أية حالة كانت عليها"
لكن عبد الحميد لم يتنازل ... و صمم على الدعوى شارحا بأن هذا الصبي خطر على المجتمع و هو نواة مجرم عتيد ....
ثلاث سنوات كانت أسرته في أشد حاجةٍ لتواجده معها .... خاصة بعد أن توفي والده خلالها .....
لم يشعر بأن قدمه زادت السرعة ... و عيناه ازادت قسوتهما ... حتى أصبحتا أشد سوادا من الليل المحيط بهما ..
أوقف سيف السيارة أخيرا ...و جلس طويلا ينظر نظرة ميتة الي البيت القديم و العريق مهما طالت به السنوات ... و مهما طاله التهالك بما في ذلك الحي القديم المحيط به ....
لكن لا يزال هو... مخيفا و متحديا الزمن ....
ذلك البيت هو نفسه .... لن ينساه أبدا ما حيا ...
النظرة الميتة أخذت الحياة تدب فيها محملة بالكره و السواد ...... فنظر الي وعد قبل أن يفقد البقية الباقية من سيطرته على عنفٍ قديم حاول تطويعه على مدى السنوات الماضية .... و بالفعل بعد عدة لحظات من النظر اليها , تمكن من استعادة جزء يسير من سيطرته ......
عجيب أمرها !!! ....
يرأف بحالها لحين ..., فتذكره بالماضي ليعود و يقسو عليها ...
يفقد سيطرته على طاقة الكره بداخله في حينٍ آخر ... و ما أن ينظر اليها حتى يستعيدها ....
هل صممت تلك الوعد خصيصا ... كي ترسل اليه أمرا معاكسا لما يشعر به في كلِ مرة !!!
ظل ينظر اليها قليلا بملامح قاسية كالحجر قبل أن يقول بخشونة
( وعد .... وعد .... )
حين اشتد صوته في المرة الثانية ... تململت وعد قليلا , الى أن استيقظت تماما مدركة وجودها بسيارته , فانتفضت معتدلة في جلستها تنظر حولها بعينين متسعتين نائمتين ... لا تفهمان شيئا من الواقع المحيط بها ...
فقال سيف بغلظة
( لقد وصلتِ لبيتك ...... هيا انزلي )
ظلت لحظتين تستوعب و تستفيق تماما فكرر بعنف مكبوت
( اخرجي ....... )
حينها استوعبت وعد تماما فامتقع وجهها بشدة على الرغم من الظلام المحيط بها .... فأخذت تضغط على الحزام بحماقة حتى انفتح ثم مدت يدها تمسك بمقبض الباب ... الا ان صوته الخشن سمرها يقول
( انتظري ...........)
نظر اليه بخوف .... فوجدته يمد يده اى جيب سرته فأخرج حافظة جلدية ثمينة .... ليخرج منها عدة أوراق كبيرة جديدة ..... ثم مدها لها يقول بفظاظة
( لقد نسيتِ نقودك مجددا ...... بدأت أتسائل إن كنتِ في حاجة لها بالفعل كما يظهر عليكِ )
أخفضت نظرها و قد شحب وجهها للغاية من هذه الإهانة المستترة ... الا أنها مدت يدها تلتقط منه الأوراق بإرتجاف و هذه المرة حرص على الا يلمس يدها ...
لكن بنظرة واحدة رفعت وعد عينيها اليه هامسة بدهشة
( لكن هذا أكثر مما اتفقت معي عليه ......... )
قال وهو ممسكا بالمقود ناظرا أمامه منتظرا خروجها من سيارته
( لأنكِ زدتِ عملا عما اتفقنا عليه ........ )
هزت وعد رأسها رافضة و هي تبدأ بالهمس
( لا ... هذا شيء لا يذكر ... من فضلك أن .... )
قاطعها آمرا بصرامة
( أخرجي ......... )
فغرت وعد شفتيها قليلا ... لكنها قفزت من السيارة هذه المرة و كرامتها لا تتحمل المزيد ... متسائلة عما دهاه ...
كان شبه طبيعيا في بيته حى ظنت بانه قد نسي من تكون و هو يعاملها بصورة مهذبة ...
فماذا دهاه الآن لينقلب الي النقيض مجددا ؟!!! .... هل هو مريض نفسيا ؟!!!
لكن و قبل أن تبتعد سمعته يقول بخشونة
( غدا ...... يمكنك أن تتأخري للحادية عشر )
و حين نظرت اليه تنوي شكره ... وجدته ناظرا أمامه يرفض أن ينظر اليها ... ثم انطلق بالسيارة دون أن ينتظر منها شكرا ....
لم تنتبه وعد من شدة الإرهاق الى أنها لم تذكر له عنوانها بل عرفه بنفسه .....
دخلت وعد الي بيتها ... لكن بينما هي تصعد السلالم الرخامية حذر ... نظرت حولها اولا قبل أن تفتح زرا من قميصها لتدس الأوراق المالية بملابسها الداخلية ثم عادت لتغلقه مجددا ....
ثم صدت الى أن وصلت لشقة والدها فأخرجت مفتاحها من حافظتها الصغيرة ... و فتحت الباب و دخلت ....
كانت تسير على أطراف أصابعها في الظلام ... الى أن سمعت صوت سجانها يقول بصوته الأجش
( أين كنتِ ؟......... )
انتفضت داخليا .. الا أنها لم تظهر شيئا فاستدارت اليه ببطء تقول بفتور
( تأخرت بالعمل .......... )
أوقد عبد الحميد الضوء ... فطالعها بنظرته المتفحة التي تكاد تعد عليها أنفاسها و تخنقها .... بينما نظرت هي الي كل مكانٍ آخر تتظاهر بالامبالاة و نفاذ الصبر الى أن وصل اليها يرمقها بنظرات غريبة ... الى أن جذب حافظتها منها فجأة مع صيحة استنكار منها الا أنه فتحها دون أن يعبأ بها .... فلم يجد بها سوى بضع عملات معدنية تستقل بها المواصلات .....
حينها ضربت وعد كفها على ظاهر يدها الأخرى و هي تقول بامتعاض
( لن أتقاضى راتب قبل آخر الشهر .... فأرح نفسك حتى هذا الحين )
كانت تتكلم بصفاقة بينما قلبها ينبض خوفا من ان يأخذ منها النقود التي تخبئها .... فهل يمكنه الوصول للحضيض بأن يمد يده الي صدرها عنوة ؟!! ....
تظاهرت بالصلابة و الهدوء الى أن قال أخيرا بصوتٍ غامض
( اذهبي الى غرفتك ...... )
رمقته بنظرة باهتة قبل أن تتجه الى غرفتها مغلقة الباب خلفها بإحكام .... ثم جلست على حافة سريرها لتخرج الأوراق المالية من ملابسها ...
ظلت تنظر اليها قليلا ... تريد الشعور بالنفور من نفسها لانها قبلت بهذا العمل , لكن رغما عنها بدأ شبح ابتسامة في الظهور على شفتيها ... وهي تتحسس تلك الأوراق ...
تراجعت لتستلقي على سريرها و النقود مضمومة في يدها الى صدرها و هي تخرج مجلة أزياء من تحت وسادتها ... تقلب بين صفحاتها مبتسمة بإرهاق ....
حياة وعد رغم أنها أكملت تعليمها و عملت بوظائف عديدة لا تليق أيا منها بكونها جامعية ... الا أنها تعتبر منغلقة على ذاتها .... لا تملك هاتف و لا حاسوب .... حتى التلفاز العتيق لا تشاهده في أغلب الوقت كي لا تجلس مع والدها ....
لذا حياتها الأنثوية كلها تتلخص بين صفحات المجلات .... تتعرف منها على أحدث الصيحات و أجملها .... لذلك هي أنيقة على الرغم من كل شيء ...
لكن اليوم .... اليوم خالطت حياة حقيقية ...بيت جميل يعمه الدفىء و المحبة ....
و غرفة فتيات ممتلئة بأشياء مبهرة .... و الحذاء الأحمر ,...... آآآآه من الحذاء الأحمر و جماله !! ....
ارجعت وعد رأسها للخلف مبتسمة و هي تتذكر منيرة .... انها جميلة للغاية , حتى مع تقدم السنوات بها .... تبدو جميلة للغاية ....
خلال دقيقتين كانت وعد قد راحت في سبات عميق و هي لا تزال مبتسمة ... و يدها تربت الأوراق المالية فوق صدرها .....
.................................................. .................................................. ..........................
تعمل على حاسوبها بسرعة البرق بيدٍ واحدة .... بينما يدها الأخرى تخرج شطيرة من تحت سطح المكتب لتقضم منها قضمة كبيرة ثم ترجعها مرة أخرى .... فاندفع صوت دافىء من خلفها يقول بهدوء
( ظننتك لا تقبلين بالتجاوزات في العمل ............. )
استدارت بسرعة بكرسيها الذي يلف لترى حاتم مستند بكتفه الى اطار باب المكتب مكتفا ذراعيه ناظرا اليها بإبتسامة عميقة ....
ابتسمت كرمة و هي تقول بحرج
( انا من النوع الذي يحرق طاقة عالية لذا لابد أن آكل عند شعوري بالجوع و الا فلن أستطيع التركيز بالعمل أبدا )
لم يتحرك حاتم من مكانه و هو يقول مبتسما
( الا تستطيعين العمل و انتِ جائعة ؟؟ ............. )
هزت كرمة رأسها نفيا بحرج ووجهها محمرا بجاذبية ... ثم قالت مبتسمة
( هل استلمت العمل ؟؟؟ ............ )
صمت لحظة .... ثم قال اخيرا بهدوء
( لا .... ليس بعد , ليس قبل ان يسلمني .....السيد عماد العمل بنفسه )
أومأت برأسها متفهمة .. ثم قالت بإشراق
( لا تقلق ..... اكثر ما يكرهه السيد عماد هو الروتين العقيم ... لذا طالما أنه قد اقتنع بك فاعتبر الأمر منتهى إن شاء الله )
تحرك من مكانه دون أن يرد ... جذب كرسي متحرك آخر ليجلس عليه و ينزلق به جانبها وهو يقول رافعا احدى حاجبيه بخبث
( اذن ...... أنتِ من الموظفين اللذين لابد لهم أن يتناولون افطارهم في العمل ... و قبل العمل نفسه )
رفعت كرمة قلمها مستقيما منبها ....و هي تقول بحدة
( في العمل نعم ..... لكن قبل العمل لا ...... يمكنك أن تقول خلاله و حين اكون وحيدة )
مد حاتم يده لرف المكتب ليتناول قطعة جزرة مخللة ... فوضعها في فمه بجدية وهو يستمع الى دفاعها القوى ...
و أثناء اكله لقطعة الجزر ... قال بجدية دون أن يبتسم
( و هل المخللات من الأشياء الضرورية لطاقتك كذلك ؟؟ ............. )
اختفت ابتسامتها و هي تقول مدافعة
( نعم أحتاج للملح ...... .... )
رد حاتم وهو مستمر في مضغها
( همممممممم ...... يمكنني أن اتفهم ذلك , اذن منقذتي من براثن الأشرار ..... هل يمكنني أنا اليوم أن أدفع ثمن الشطائر ؟؟ ...... )
ردت كرمة مبتسمة
( لقد سبق و دفعت ثمنها ..... و الا فكيف آكلها الآن ؟!! ..... )
تناول حاتم هذه المرة خيارة مخللة و هو يقول بهدوء أثناء قضمها بإتزان
( قصدت شطائر أخرى غير هذه ..... في موعد الغذاء )
ردت كرمة ببساطة رافعة إحدى حاجبيها
( هل أنت بخيل ؟؟ ............. )
صمت قليلا غير مستوعب ... ثم قال
( تلك الصفة تتنافى مع عرضي للتو !! ....... )
ردت كرمة بحزم
( بل أنت بخيل ..... لأنك تود أن ترد لي ثمن ما دفعته سابقا برد الدعوة )
ابتسم حاتم للحظات قبل أن يقول بمرح
( أنتِ درامية للغاية .............. )
ضحكت كرمة قليلا و هي تقول
( نعم بالفعل ...... أنا درامية في معظم الأوقات )
ظل حاتم ينظر الى ملامحها العذبة قليلا .... قبل أن يقول ببساطة وهو ينهض واقفا ....
( حسنا اتفقنا .... نقانق ؟!! ......... )
أومأت كرمة مبتسمة و هي تقول موافقة
( نقانق يا سيدي ......... )
توقف حاتم ليقول بتردد
( لماذا قلتِ يا سيدي ؟........... )
نظرت كرمة اليه بتعاطف مبتسمة ..... ثم قالت بثقة تبثه إياها
(يوما ما قد تصبح مدير هذا الفرع ..... و لما لا ؟؟ .... و حينها سنحفظ الألقاب يا سيدي )
عاد حاتم ليبتسم قائلا
( آه ..... لما لا حقا .... لكن ربما تسبقينني منقذتي ,.............. )
رفعت كرمة كفيها تقول
( من لسانك لأبواب السماء ....... , لكن الشيء الوحيد السيء حينها ألا يكون السيد عماد متواجدا )
عادت ابتسامة حاتم لتفتر .... ثم قال بهدوء بعد فترة
( اذن ...... القاك وقت الغذاء ...... )
ابتسمت كرمة قائلة بود
( وقت الغذاء ............. )
خرج حاتم من المكتب متسائلا بعجب عن مدى رجاحة عقله في دعوة الغذاء تلك !! ..... لكنه تمكن من اعطاء نفسه بعض الأعذار العملية ...
.................................................. .................................................. .............................
وقفت أمام محل الأحذية الذي تمر عليه يوميا لتنظر اليه بشجاعة من يتبع حمية قاسية .... ثم تتركه و تبتعد !
أما اليوم فقد خرجت في موعدها مبكرا على الرغم من ساعات التأخير التي أعطاها سيف الإذن بها اليوم .... فلو مكثتها في البيت لما كانت سلمت من اعطاء والدها تقريرا مفصلا عن سبب تأخرها ...
لذا فضلت الخروج .... آخذة معها مبلغها المالي الصغير ... و ها هي تجوب الشوارع منذ فترة طويلة منتظرة أولى المحلات كي تفتح أبوابها لها مرحبة ....
و قد خرجت مستعدة لهذا الحدث العظيم ... فارتدت فستانها الحبيب الذي قامت بخياطته في لحظات تجلي و حب لنفسها ....
فستان بسيط للغاية ذو أكمام قصيرة تتعدى أكتافها بقليل ... لونه بلون السكر الكريمي ... بقماشه المطبع بزهور صغيرة منقوشة بلون الخوخ ....
و له حزام تربطه بعقدة فيظهر نحافة خصرها كطالبة صغيرة .... أما شعرها فللمرة الأولى منذ سنوات تركته منسابا بعد أن رفعت كلا من جانبيه بمشبكي شعر .....
وقفت تبتسم بخجل و هي ترى صاحب المحل يأتي متكاسلا و النوم لم يغادر عينيه بعد ....يفتح أقفال المحل ...و الواجهات الزجاجية .... و هو ينظر اليها بطرف عينيه واقفة تنتظره في هذا الصباح الباكر ...
فسألها وهو يقوم بعمله
( هل تنتظريني آنستي ؟؟ ........ )
أومأت وعد مبتسمة ..... فابتسم قليلا ثم قال
( اذن ادخلي ..... لا نريد أن نعطل الآنسة الصغيرة الجميلة ذات الفستان الجميل )
في يوم آخر كانت لتعتبره متحرشا و تتعامل معه بما يليق بأمثاله .... الا أن حالتها الصباحية اليوم لم تجعلها تظن ذلك بل ابتسمت بخجل و هي سعيدة بعبارته
" الآنسة الصغيرة الجميلة "
يبدو انسان يفهم و لديه بعد نظر .... بعكس الجلف ابن شقيقة عبد الحميد ... الذي قال لها في مقابلتهما الأولى
" عجبا ... تبدين أكبر من عمرك !! "
مطت شفتيها امتعاضا و هي تتذكر عبارته الفجة ..... سيكون محظوظا ذلك الجلف لو وجد بطة تقبل الزواج منه و هو يعامل النساء بتلك الطريقة ....
دخلت وعد الى المحل الذي أشرق في لحظات ... لتنظر الى كنز هائل من الأحذية , أخذت تتطلع اليها بسرور الى أن اتجهت تلقائيا الى حذاء كلاسيكي ... ذو كعب عالي و رفيع .. و مفتوح من أصبعيه الأماميين فقط ...
ولونه قرمزي قاتم كالياقوت ... وقد زاد اللون من بريق لمعانه ....
أمسكت وعد بالحذاء بين كفيها برفق و كأنها تحمل شيئا ثمينا ... ناظرة اليه بتطلع مهيب ... كم تعشق الأحذية الأنيقة !!
و أخذ هاجس يتلاعب بها و يطالبها بأن تشتريه ... و أنها لن تعيش سوى مرة واحدة في هذه الحياة ... لذا فلتشتريه ولو أبقته مخبأ تحت السرير لترتديه كل مساء ٍ في غرفتها ثم تعيده الى مخبأه مع حلول الصباح ...
ظلت تنظر اليه و هي تحن للحظة تهور تجعلها تشتري هذا الحذاء و هي تمتلك ثمنه في محفظتها الصغيرة دون أن تكون مطالبة بتسليم هذه النقود الى والدها دون نقاش ...
و دون حتى ان تكون تحت ضغط الذي تتعمده كي تدخر كل ما يمكنها تهريبه ... بكل قسوةٍ كي تستطيع الهرب من حياتها فيما بعد ...
اليوم لا تفكير في المستقبل ... و لا تفكير في الإدخار الجاف ...
اليوم ستشتري حذاء جديد .... ظلت تتحسس الحذاء القرمزي بأصابعها بحب ... ثم تنهدت أخيرا لتقول للبائع
( أريد حذاء أرضي و خفيف .... و يتحمل طويلا )
وضعت الحذاء القرمزي بحذر في مكانه فوق الرف الزجاجي .... فلتصحبه السلامة و تمنياتها بالا ترتديه غيرها أبدا و يظل مكانه الى أن يهترىء من الوقوف انتظارا ....
اتجعت وعد الى عملها مبتسمة و هي ترتدي حذاء انثوي ساعدها البائع في اختياره ... أرضي و يشبه أحذية راقصات الباليه بلون السكر و له ربطة فوق مقدمته ...
كانت تسير ... لتنظر اليه بين حين وآخر فتبتسم أكثر , هل كانت قدمها جميلة هكذا من قبل ؟؟ .... انها تبدو الآن و كأنها مخبوزة برائحة الفانيليا .... لون الحذاء الفاتح يجعلها بيضاء و رقيقة ...
كان العقل يحثها أن تشتريه داكن اللون كي لا تظهر عليه المشقة و تجاعيد العمر سريعا ... ...
لكن بالرغم من سعادتها فالعادة تحكم ......
"كانت ممسكة بكيس بلاستيك يحتوى على حذائها القديم ...لن تفرط به فربما احتاجته يوما -_- "
وصلت وعد الى عملها في موعدها تماما ...
و ما ان دخلت الى غرفة السعاة حتى طالعها علي .... الذي استدار بسرعة ما أن شعرد بدخولها وهو يقول
( وعد ...أين ...... )
صمت تماما وهو ينظر اليها بهيئتها الجديدة ... بينما دخلت وعد بهدوء مبتسمة أمام ردة فعله دون أن تنظر اليه .... فقال أخيرا بخفوت ما أن وجد صوته
( أين كنتِ بالأمس ؟؟ ..... حين تأخرتِ اليوم تأكدت من أن السيد سيف قد صرفك من العمل )
ردت وعد بهدوء و هي تضع محفظتها في الجارور ... و تضع كيسها تحت الطاولة الخشبية
( السيد سيف يعلم بتغيبي بالأمس ... و أيضا منحني الإذن بالتأخير اليوم )
ظل علي ينظر اليها قليلا بصمت ... ثم قال أخيرا بخفوت
( هل خُطِبتِ ؟؟ .......... )
استدارت وعد اليه تنظر اليه بدهشة ثم قالت متعجبة
(لماذا تفتق ذهنك عن هذا الإحتمال الآن تحديدا ؟!! ...... )
نظر علي اليها من شعرها و حتى حذائها الجميل ... مارا بعينيه على فستانها بتمهل ثم قال بخفوت
( بالأمس تغيبتِ و اليوم تأتين متأخرة بمظهر أميرة ..... هذا التصرف رأيته من عدة موظفات هنا لأعلم أن حفل خطبتهن كان في الليلة التي سبقت ظهورهن الإستعراضي ......... )
ارتفع حاجبي وعد بدهشة و هي تنظر الى فستانها الجميل لكن من قماش قطني رخيص ... متوقفة عند كلمة واحدة
" مظهر أميرة !! "
ثم رفعت عينيها اليه تقول مبتسمة ...و هي تمسك بتنورة الفستان المتسعة بكلتا يديها لتفردها
( أتراني أميرة ؟!! ....... ما بال الجميع لطفاء اليوم ؟؟!! )
ابتسم علي بهدوء ينظر اليها ليقول بعد فترة
( ربما الجميعة لطفاء اليوم لأنك لطيفة على غير العادة ...... )
لجمت وعد ابتسامتها و أخفضت فستانها لتقول بجدية
( حسنا ...... كفانا لطفا و كلاما و هيا الى العمل ..... )
تحرك علي يدور من حولها بحذاؤه ذو الإطارات و هو يقول مصمما
( ليس قبل أن خبريني ..... هل خطبتِ بالأمس ؟؟ )
ابتسمت وعد و هي تهز رأسها بتعجب و هي تفكر ....
" لو تعلم كم كانت تختلف ليلتي بالأمس عن حفل خطبتي المزعوم ذلك !! "
الا انها قالت بجدية زائفة
( توقف عن الدوران من حولي .... سأصاب بالدوار )
قال مبتسما دون تخاذل
( ليس قبل أن تعترفي .......... )
ضحكت وعد رغما عنها ... ثم هتفت بغيظ
( لم أخطب لأحد ...... و لن يحدث هذا أبدا فأرح نفسك )
ضحك علي وهو يقول
( الحمد لله ....... أخفتني للحظة )
عبست وعد و هي تنظر اليه .... ثم قالت بفظاظة
( حسنا ابتعد عن طريقي .......)
قال علي وهو مستمر بالدوران حولها
( هل يلف فستانك ؟؟ ....... )
ازداد انعقاد حاجبيها وهي تقول محاولة تخطيه
( ابتعد ........ والا فسأدب قدمي بين حذائيك السخيفين و أقلبك على وجهك )
لم يتأثر وهو يقول لها بلامبالاة
( جربي و سستحول ساقك لموزة مهروسة ...... لفي بالفستان و أنا سأبتعد )
وضعت يديها على خصرها و هي تقول
( اسمع يا هذا ...... لطالما كرهت من هم بمثل عمرك و الآن ازداد كرهي لهم أضعافا , أبتعد و الا فسوف أصب غبائي اليوم عليك ..... )
قال علي ببرود
( لطالما كرهتِ من هم بعمري ؟!! ..... هل هذا على أساس أنكِ ممرتِ من مرحلة الروضة لعمرك الآن مختزلة كل اربع أعوام في عام !! ..... الم تكوني في عمري من قبل ؟!! .... )
تأففت وعد و هي تقول بصرامة
( ابتعد عن طريقي أيها الشخص ...... لن ألف ..... )
قال علي وهو يزيد من سرعته ( ستلفين ...... )
هتفت وعد مغمضة عينيها .... تضرب الأرض بقدمها بينما فرحة صغيرة تطرق بابها و تستئذنها للدخول على غير موعد
( لن ألف ..... لن ألف .......)
.................................................. .................................................. ............................
ظل ينظر الي ورقةٍ تحتاج توقيعه طويلا دون أن يقوم حتى بخط أول حرف من اسمه .... حتى أنه طلب من سكرتيرته ان تذهب و تترك له الورقة حاليا الى أن يقرأها ...
لكنه لم يقرأها و لم يوقعها ..... كان فكره شغول بمكانٍ آخر ...
بمحادثته مع أمه صباحا قبل أن يخرج للعمل .... حين اصرت عليه أن يتناول افطاره أولا و ما أن جلست معه حتى ابتدئت حوارها الذي اغلق شهيته قبل أن يبدأ
( هل أقليت وعد الى بيتها ؟؟ ....... )
توقفت يده قليلا ... ثم قال بهدوء متسائلا
( وعد ؟!! ............ )
ردت أمه بدهشة تقول
( نعم ..... وعد تلك الفتاة التي أحضرتها بالأمس , هل نسيت اسمها ؟!!..... )
قال سيف بلا تعبير بعد فترة
( لم أنساه .... لكني مندهش أن تتكلمين عنها و كأنكِ تعرفينها ........ )
أجابته منيرة مبتسمة
( انها لطيفة و جميلة للغاية ..... و قد انقذتني بالأمس , لقد ظللت بالمطبخ طوال اليوم دون حتى أن أشغل بالي بمتابعتها .... و كأنها معتادة على البيت بكل مهارة .... انها مريحة و ذكية جدا
كان منتهى اللطف منك ان توصلها الي بيتها ليلا بعد تعبها معنا ..... دائما أنت أميري و ستظل )
ساد الصمت قليلا ثم قال سيف بجفاء مغيرا الموضوع بصورة غير ملحوظة
( لو كنتِ أنجبتِ فتيات لربما ساعدنكِ و لما احتجتِ لمساعدة من احد .......... )
ردت منيرة مستنكرة
( أتريد أن تترك مهرة تجهيز نفسها و تنزل لتنظف البيت ؟؟؟ ..... أم تريد لورد أن تترك عملها لكي تأتي و تمسح الأرض يوم خطبة أختها التي تصغرها بتسع سنوات !!!.....كفاني ألما من هذا الموضوع .... )
لم يرد سيف و لم يظهر شيء على ملامحه المتجمدة التي اعتادت اخفاء ما بداخله بمهارة منذ سنوات طويلة ....
قالت منيرة بصوتٍ مدلل بعد أن هدأت قليلا
( سيف ....... )
قال سيف قبل أن تتابع
( أعرف هذه النبرة جيدا ..... ادخلي في صلب الموضوع و اطلبي ما تريدين )
قالت منيرة مبتسمة بدلال
( أريد تلك الفتاة .................. )
وضع سيف قطعة الخبز بتمهل في طبقه دون أن يظهر أي تعبير على وجهه ... ثم قال بهدوء بالغ
؛( تريديها كيف تحديدا يا أمي ........ )
ردت منيرة بمودة
( أريدها أن تساعدني هنا بالبيت . ..... أما كنت تلح علي لأحضر من تساعدني ؟؟ ... ها أنا قد اقتنعت )
لم تهتز عضلة في وجهه على عكس ما يجيش بداخله ... فقال بعد فترة بصوتٍ جاف
( هذا مستحيل يا أمي ...... انها موظفة عندي في الشركة و هي جامعية )
سألت أمه بدهشة
( أعلم أنها جامعية فقد أخبرتني هي بذلك ..... لكنني أعلم أن ظروفها صعبة ..... لكن موظفة عندك في الشركة ؟؟ ...... ظننتها بلا عمل و تكون من طرف أحد موظفيك ..... )
رد سيف قاطعا
( بل هي موظفة عندي ...... اذن كما ترين فالأمر مستحيل , لكني سأبحث لكِ عن واحدة أخرى )
صمتت منيرة قليلا فاستبشر سيف خيرا .... لكن و قبل ان يكمل افطاره سألت أمه
( و ما هي وظيفتها في شركتك ؟؟ ...........)
تنهد سيف بصمت وهو يعلم ان امه لن تترك الموضوع ببساطة .... لكنه ارغم نفسه على الرد بهدوء مكبوت
( تقدم طلبات في الشركة ........... )
اندهشت منيرة في البداية ... ثم قالت بعد لحظة بأمل
( أي أنها لم تجد وظيفة تناسب مؤهلها حتى الآن ... اذن لن يضيرها أن تأتي لتساعدني و تساعد نفسها كذلك )
قال سيف قاطعا بنفاذ صبر
( أمي ....... لن أطلب منها أن تكون خادمة , كانت بالأمس مجرد مهمة ليوم واحد و انتهى الأمر ..... )
قالت أمه بصوت طفولي حزين
( لكنني كنت أتمناها هي ........ لقد اعتدت عليها و اعجبتني )
ابتسم سيف رغما عنه ... ثم قال بخشونة
؛( أمي ..... أنتِ تتدللين علي كما كنتِ تفعلين مع أبي رحمه الله )
ارتجف الحزن في زوايا ابتسامتها الجميلة ... الا انها لم تختفي تماما وهي ترفع قبضتها لتستند اليها بوجنتها هامسة
( و كان هو رحمه الله يستجيب لدلالي و يحضر لي كل ما أتمناه .... )
ضحك سيف بيأس و هو يقول
( كان يحضر لكِ دمى و حلوى يا أمي ....... بينما وعد انسانة و ليست دمية احضرها لكِ لتلعبي بها )
عقدت منيرة حاجبيها لتقول متذمرة
( العب بها ؟!!!............... )
قال سيف بقوة
( نعم تلعبين بها ...... سأخبرك لماذا تريدينها هي دون غيرها على الرغم من أنني الححت عليكِ كثيرا كي تحضري من تساعدك .....
لأنكِ وجدتها مختلفة .... تختلف عن المكان المتواجدة به .... متعلمة و مثقفة .... جذابة و رقيقة و تتحدث بصوتٍ خافت .... ترتدي ملابس جميلة ... و جميلة ..... لقد رأيتها بالأمس كلعبة جميلة ...... )
كانت لهجته القوية قد خفتت تدريجيا حتى نهاية كلامه .. حتى صمت وهو عابس , بينما كانت منيرة تنظر اليه بصمت , و ما أن انتهى حتى قالت ضاحكة
( لقد ذكرت كلمة جميلة ثلاث مرات ...... يبدو انني لست الوحيدة التي رأتها كذلك )
نهض سيف من مكانه منتفضا بقوة .... ليقول بقسوة غير مقصودة
( لا أحب ذلك المزاح يا أمي ..... لم أحضرها هنا اليكِ كي أنظر اليها بتلك الطريقة )
نهضت أمه مذهولة .... لتقول بقلق
( لماذا كل هذا الإنفعال يا سيف ؟!! ....... كنت أمزح معك فقط عن مدى جمالها و تناقضه مع عملها ... )
تنهد سيف بقوة كي يهدىء من انفعاله قليلا .... ثم قال بخشونة
( لا بأس يا أمي ..... الوضع فقط حرج لأنها تعمل لدي و لا مجال للمزاح بأمرٍ كهذا .... و هذا ما كنت اشرحه لكِ من البداية ..... لذا انسي هذا الموضوع رجاءا ..... )
لم ترد منيرة و هي تنظر اليه بإحباط .... لكن و ما أن هم بأن يغادر حتى قالت منيرة بلطف
( سيف ...... عدني أن تكون أولى مرشحاتك , لو توفرت لديك وظيفة تناسب مؤهلاتها )
لم يرد ... الا أنه ابتسم لها ابتسامة جافة قليلا , قبل أن يلوح لها بيده ثم يخرج .......
رفع سيف رأسه حين سمع طرقة أخرجته من شروده ... ثم نظر الي سكرتيرته التي دخلت مبتسمة لتقول برقة
( هل آخذ الورقة الآن سيد سيف ؟؟ ...... أحتاج الى ارسالها لقسم المحاسبات )
طرق سيف على سطح المكتب بظهر قلمه ... ليقول بهدوء
( علا ..... من فضلكِ اطلبي لي قهوة قبلا , اشعر بعدم تركيز ......... )
قالت السكرتيرة مبتسمة بمرح ..
( لو كنت أبكرت قليلا لكنت أحضرتها لك معي سيد سيف ...... كنت للتو مارة بغرفة السعاة , لأجد علي و الموظفة الجديدة وعد يلهوان كالأطفال ..... منظرهما كان مهلكا من الضحك )
قست عيناه للحظات دون أن تتأثر ملامحه .... ثم قال دون مقدمات
( حسنا يا علا اذهبي الى مكتبك الآن ..... و أجلي القهوة قليلا )
أومأت برأسها بعدم فهم .... ثم خرجت من المكتب و هي تتسائل إن كانت ستحصل على هذه الورقة اليوم أو ربا العام المقبل .... يبدو وكأن شيئا هاما يشغل باله على غير عادته في عمله ....
لكنها ما كادت أن تجلس الى مكتبها حتى وجدته يفتح باب مكتبه ليخرج دون أن يوجهه لها كلام ....
هزت كتفيها و هي تعود لعملها .... فلقد خرج بدون سترته أي أنه سيعود حتما ليسلمها الورقة المعقدة ...
.................................................. .................................................. ............................
وقف مكانه بملامح كالحجر و عينان ...... تبرقان ...
يراها تدور حول نفسها .... رافعة ذراعيها لأعلى كراقصات الباليه .....
ترتدي فستان يليق بتلميذات المدارس .... تفصيله يجعله ينتفخ مع دورانها فيصبح كالمظلة دون أن يظهر منها شيء .... بينما خصلات شعرها تحيط بوجهها الضاحك ليدور بها كمن يشاركهها الرقص ...
ماهذا الشعر ؟!!!......
و ما هذه الضحكة ؟!!! .....
و علي كان يدور من حول دورانها بحذائه ذو الإطارات ضاحكا بمرحٍ موازي لمرحها وهو ينظر اليها بإنبهار و كأنه ينظر الي جنية أو ساحرة !!....
ظل مأسورا لعدة لحظات قبل أن يصرخ فجأة
( كفى ........ )
توقف علي مكانه فجأة بمهارة على الرغم من انتفاضته للصوت القوي ... بينما فتحت وعد عينيها بذهول منتفضة كذلك .... ليحاول عقلها المصدوم بصعوبة نقل الأمر الى جسدها بأن يتوقف ..
الا أنها ما ان توقفت عن الدوران وجدت انها لم تتقف بالفعل ... فبينما كان علي متسمرا كانه يحاول كبت ضحكه بصعوبة ....
كانت الدنيا تميد بوعد و من حولها ... فتسقط بخطوةٍ يمينا ... لتسقط خطوة يسارا تجاه علي الذي كان يضحك الآن بصوت مكتوم وهو يسندها من ذراعها دون جدوى و هي غير قادرة على محاربة الدوار و الوقوف بثبات ...
حتى أنها كانت ترى من سيف اثنين و هي تحاول تركيز حدقتيها عليه ......
نظر سيف بقسوة الي يد علي على ذراعها المكشوف ليهتف بصرامة صادمة
( اثبتي مكانك ......... )
وقفت وعد أخيرا وهي تلهث قليلا ... و هذا هو ما خفف عليها صدمة رؤيته المعتادة .... و حين أصبحت واعية لوجوده تماما ... مدت يدا مرتجفة لتبعد شعرها الهائج من حول وجهها و هي تنظر اليه بعينين متسعتين ....
صدح صوت سيف قاسيا
( ابعد يدك عنها يا علي و دعها تقف بمفردها ...... )
انتزع علي يده بسرعة و قد احمر وجهه بصورة ملحوظة .... حينها بدأ سيف في القاء جام غضبه عليهما هاتفا
( ما هذا الجنون الذي كنتما تفعلانه ؟!! ....كيف تتجرآن على مثل تلك التصرفات في الشركة ؟؟ ..... الم تحسبا أن يراكما أحد العملاء ؟!!! ..... هل تعملان بمرقص ؟!!!! ....
لقد تخطيتما كل الحدود بذلك التصرف المنافي لجميع أصول العمل الجاد و المحترم ...... )
احتقن وجه وعد بشدة ... انها المرة الأولى في حياتها كلها التي تلهو فيها بهذا الشكل , و المرة الأولى كذلك الذي تنال فيها تقريع يمس أخلاقها تلك الصورة ....
ابتدأ علي يقول بصوت خافت مدافع على الرغم من ذلك ....
( سيد سيف .... الذنب ليس ذنب وعد , أنا الذي كنت .......... )
قصف صوت سيف قائلا .....
( أصمت يا علي ....... حسابك معي فيما بعد )
ثم نظر الي وعد نظرة مخيفة وهو يهتف بقسوة
( و أنتِ !!! ...... كم تظنين عمرك ؟!! )
ازداد امتقاع وعد و ارتجفت شفتيها .... فصرخ بها
( أجيبي ...... كم تظنين عمرك ؟!!! ........ )
أخذت تلهث بينما كانت عيناها تنبضان بمشاعر متناقضة غريبة ... ما بين خوف و كره .... و حزن ...
لم تجد القدرة على الرد ..... فناب عنها يقول بفظاظة
( احترمي عمرك يا وعد ...... و خاصة في شركتي الخاصة و هذا آخر انذار لكِ ...... لو وجدت منكِ أي تصرف سفيه آخر لن أكلف نفسي حتى بإبلاغك ...... )
ألقى عليها نظرة أخيرة قاسية كالجليد ..... قبل ان تتوقف عيناه للحظةٍ واحدة على حذائها الجديد .... فقط لحظة واحدة .... قبل أن يخرج من الغرفة .....
اقترب علي ببطء من وعد التي كانت مسمرة مكانها بكتفين منحنيتين و رأس مطرقة .... فهمس بأسى
( وعد ..... أنا آسف )
قاطعته وعد بقوةٍ و هي تبتعد عنه بسرعة البرق
( كفى ........ لدي عمل )
ثم ابتعدت عنه و هي تتجه الى الأكواب و الأقداح ترصها بجدية و انفعال دون أي حاجة لما تفعله بالفعل ... بينما وقف علي مكانه فاقدا الرغبة في فعل أي شيء بينما يشعر بمرارةٍ على ما تسبب به للتو ......
.................................................. .................................................. .............................
امتدت يد كرمة الى شطيرة من الشطائر ... لا تعلم كم عددها تقريبا , لكنها في الواقع كانت جائعة للغاية ... لقد قامت اليوم بعدد من العمليات الحسابية تمكنها من حرق مخزن طعام ....
قالت متابعة كلامها و هي تغطي فمها بيدها أثناء مضغها للطعام بسرعة
( لذا لا عليك أن تخشى أحداأبدا ...... لكن عامة أنا سأظل بجانبك الى أن تستقر أمورك و السيد عماد أيضا يدفع من يعتمد عليهم الى الأمام و بقوة ...... )
قال حاتم وهو يقضم شطيرته بينما يتأملها مليا ...
( اذن ... هل يمكنك أن تطلعيني على بعض تفاصيل العمل الى أن أستلمه بالفعل , كي لا أضيع المزيد من الوقت ؟)
ترددت كرمة قليلا ثم همست بحرج
( اعذرني يا حاتم ..... لا يمكنني ذلك .... قبل أن تستلم العمل رسميا ..... )
ابتسم حاتم ليقول وهو يأكل ...
( هل هي مسألة ثقة ؟؟ ......... )
قالت كرمة و هي تلتهم المتبقي من شطيرتها
( اعذرني يا حاتم ...... لكن وعد مني سأعطيك كل ما تحتاجه من معلومات ما ان تستلم العمل )
امتدت يدها الى الشطيرة الأخيرة ... في نفس الوقت الذي مد حاتم يده ينوى أخذها .... فتوفت كلتا يداهما في منتصف الطريق ....
ليقول حاتم مبتسما
( تفضلي ............. )
قالت كرمة بحرج
( لا تفضل أنت ....... لقد شبعت حقا )
قال حاتم مصمما
( أنا مصر .... تفضلي , لن أقبل جدالا في هذا )
أخذته كرمة مبتسمة بحرج و بوجهٍ محمر قليلا ... لكنها ما أن بدأت تأكل حتى ازدادت سرعتها تدريجيا , فقال حاتم مبتسما وهو يتأملها آملا الا يكون ذلك واضحا وضوح الشمس
( أنتِ تأكلين بسرعةٍ للغاية ........... )
رفعت كرمة عينيها اليه تمسح زاوية شفتيها ... لتقول بنفس الحرج لكن مع قليل من الضيق
( انها عادة من أيام الطفولة للأسف ........ )
تابعت أكلها للشطيرة دون أن تلحظ نظراته التي أصبحت أكثر عمقا مع لمحة تعاطف زاد فيها الإعجاب ....
رد حاتم بعد فترة ببساطة
( خذي راحتك ...... الطعام وجد ليؤكل بقلبٍ قوي , لا لأن يمس بخجل )
ابتسمت كرمة مومئة برأسها و هي تأكل دون أن تنظر اليه .... بل كانت تنظر الى بعض أوراقها تتسلى بقرائتها أثناء أكلها مما منحه فرصة للمزيد من تأملها ....
خرجت كرمة من عملها مساءا بمنتهى النشاط .... تسير بقوةٍ حتى موقف الحافلات .. ملامحها مشرقة بالحيوية الى أن وصلت الحافلة فاستقلتها و لحسن الحظ وجدت مكانا فجلست به مفعمة بالقوة و الإباء ....
لتبدأ الحافلة طريقها الطويل ... ومع كل دقيقة كانت الملامح القوية تزداد رقة و سكونا تلقائيا ....
الى أن نزلت من الحافلة ... فوقفت عند مقدمة شارع ضيق تنتظر تلك السيارة التي تتنقل بين الطرق الضيقة ذات الثلاث إطارات و تكفي لراكبين اثنين فقط ... و ما ان عثرت على واحدة منها حتى استقلتها فانطلقت تطير بها ....
بينما كرمة شاردة تنظر الى الطرقات بلا روح ....
و ما أن خرجت منها أخيرا .... سارت تتهادى المسافة الباقية دون أي نشاط ... بل ظهر الإجهاد عليها و طال الشرود بعينيها الرقيقتين العذبتين ....
وصلت أخيرا الي بيتها .... الحمد لله أنهم يسكنون الطابق الأرضي ... صحيح أن نوافذ شقتهم تعتبر مشاعا بين سكان الحي حيث يكشفون كل غرف بيتها و هم يسيرون في طريقهم ...
لكنها كانت أكثر من سعيدة الا تضطر أن تصعد سلالم عالية بعد عملها ....
لكنها ما أن دخلت من مدخل الxxxx حتى وجدت محمد ممسكا بمقدمة قميص رجلا يمسك دفترا في يده ... بينما هذا الرجل يحاول ضربه دون أن ينجح سوى في أن يصرخ عاليا ...
( هذا تعدي على موظف اثناء تأدية واجبه .... سأحرر محضرا لك في القسم .... ابعد يدك )
قال محمد وهو يشدد من قبضتيه فوق قميص الرجل
( و أنا سأحرر عشر قطبات في رأسك ان لم ترحل حالا ......... )
جرت كرمة الي الرجلين لتمسك بقبضتي محمد تلقائيا تحاول تحرير الرجل المسكين منه و هي تهتف
( اترك الرجل يا محمد .... ماذا فعل لك كي تمسكه هكذا , )
اخذ الرجل يجذب نفسه بالقوة الى ان سمعت كرة صوت تمزق بدأ في الظهور بقميصه وهو يصرخ
( ما أن أخبرته بأنني محصل فاتورة الكهرباء ...... و ان الفاتورة متأخرة الدفع لعدة أشهر و سيتم قطع الكهرباء عنكم حتى اصابه الجنون ....... )
أخذت كرمة تساعد الرجل في جذب قميصه من بين قبضتي زوجها و هي تقول بهلع
( لم تصلنا اي فاتورة ......... )
قال الرجل منفعلا
( بل كانت تصل و كان زوجك يقوم باستلامها ....... لكن و ما دخلي انا بكل ذلك , سأحرر له محضر و أخرب له بيته )
هتفت كرمة مترجية
( ارجوك يا محمد اترك الرجل ........من أجلي يا محمد اتركه ...... )
نجحت أخيرا في تحرير الرجل بينما عينا محمد تبدوان بلون الدم ... من الغضب و السهر .....
ابتعد الرجل بسرعة البرق ممسكا بقميصه الممزق وهو يتوعد و يشتم ... الا أن كرمة أمسكت بذراعه تربت على صدره بقوة هاتفة كالرجال
( لا داعي ارجوك...... دعنا نحل الأمر وديا ..... )
ظل الرجل على عناده و كرمة متشبثة بذراعه تترجاه ..... الى أن أخرجت من حافظتها و رقة أعلى ثمنا من قميصه و هي تترجاه أن يقبلها آسفة .....
و بعد وقت طويل قبل الرجل وهو يدس الورقة بجيبه و خرج من البيت شاتما مزدريا ....
دخلت كرمة الي البيت تلهث بتعب ثم صفقت الباب خلفها لتصرخ
( لماذا لم تخبرني بفواتير الكهرباء يا محمد ..... و كيف تتهجم على موظف ؟؟ .... هل ينقصنا قضايا يا محمد ؟؟ )
اندفع واقفا امامها ليمسكها من ذراعها بقوةٍ جعلتها تصرخ بألم بينما هو ايضا يصرخ
( اياكِ و رفع صوتك مجددا ...... و الا فوالله لن ارحمك المرة المقبلة )
ترك ذراعها اخيرا ..... فأخذت تدلكه بصمت ناظرة اليه بحنقٍ متألم ..... ثم هتفت أخيراما أن ابتعد عنها
( سنضطر لدفع غرامة الآن ........ )
عاد اليها سريعا ليمسكها من شعرها صارخا
( أخبرتك بالا ترفعي صوتك بوجهي ........ )
صرخت كرمة بألم
( أترك شعري يا محمد ......... )
تركه أخيرا حين سمع نبرة التوسل في صوتها .... ليبتعد ناظرا اليها بصمت ثم قال أخيرا
( حضري الطعام ..... لقد جعت و أنا في انتظار السيدة لتعود من عملها )
تركته كرمة و هي تدخل الى المطبخ خالعة سترتها لترميها ارضا بغضب .... ثم تفتح أزرار قميصها و تشمر كميها متذمرة بكلامٍ غير مفهوم ....
و بعد ساعة كانت قد انتهت من تحضير الطعام .... و هدأ غضبها تماما و خمدت نارها ... فبدأت بتحضير الأطباق الى المائدة الخشبية الصغيرة ...
ثم قالت برقةٍ جافة قليلا فيها القليل من العتاب
( الطعام جاهز يا محمد ..........)
نهض من مكانه ليجلس الى المائدة و ما أن همت بالإبتعاد حتى قال بخشونة
( الن تأكلي ؟ .............. )
همست بوداعة
( لست جائعة الآن ......... )
ابتسم محمد بسخرية وهو يقول
( نسيت أنكِ تأكلين في العمل ...... فقد تزوجتِ العمل بدلا مني )
ظلت تنظر اليه قليلا بصمت .... ثم عادت أدراجها لتسحب كرسيا و تجلس ببطء و هي تنظر اليه بحب .... ثم همست أخيرا
( لو ألححت علي قليلا فربما أفكر .... و قد آكل لقمة )
نظر اليها بخشونة و هو يلك الطعام بفمه .... ثم سأل بفظاظة
( لقمة واحدة فقط ؟؟ .............)
همست مبتسمة وهي تسند ذقنها الي كفها
( ربما لقمتين ............... )
أخذ محمد يأكل بخشونة و همجية .... قبل أن يقول بجفاء
( و ماذا لو أطعمتك بنفسي ؟؟ ...... )
ابتسمت بشوق مجهد للغاية ثم همست متنهدة كمن تعب من سباق طويل
( ربما حينها آكلك كلك .......... )
ابتسم محمد ابتسامة فظة .... لو صح تسميتها ابتسامة و هي مجرد التواءة خشنة لزاوية شفتيه ثم أخذ معلقةٍ ملأها أرزا ليدسها بفمها .... فتلقتها بجوع ... لكن ليس للطعام تحديدا ....
تلك الليلة ...بعد أن تحممت و ارتدت قميص نوم ابيض مريح ذو حملاتِ كتف طفولية .. متسع من حولها كالبالون النصف منتفخ ....
لجأت الى السرير بتعبٍ يكاد يكون قتلا ..... تعرف بأن محمد سيخرج لملاقاة أصدقاؤه كالعادة و يسهر حتى وقت متأخر صباحا ....
لذا قررت النوم أخيرا .....لكنها ما أن نامت الى جانبها حتى سمعت صوت محمد يدخل الى الغرفة ... فظنت بأنه سيبدل ملابسه و يخرج .....
لكنها صدمت حين شعرت به يندس الى جانبها ليلتصق بظهرها .... يحيط خصرها بذراعه القوية القاسية ... يدس فمه قرب عنقها ....
فأغمضت عينيها عشقا و هي تفكر بأنه قد أطال الغياب عليها هذه المرة ..... و كيانها يصرخ شوقا له ....
احاطت ذراعه بذراعها و هي تهمس
( احبك .......... )
فسمعت صوت الخشن يدغدغ اذنها قائلا
( احبك .........)
ابتسمت أكثر وهي تفكر بأن كل غرامات العالم يهون تسديدها لو تليها مصالحة كهذه ....
استدارت اليه ..... تنظر الى ملامحه القريبة من ملامحة ... مسافة لا شبها .......
تتنهد ببطىء و هي تتذكر حين كانت تأتي اليه تتلكأ و تفرك أصابعها ببعضها .... ليطالعها بنظرةٍ واحدة ثم يقول مبتسما
( ماذا تريدين يا عفريتة ........... )
فتقول بحرج بالغ ووجه بحمرة ثمرة الطماطم
( محمد ...... محمد ........ لو .... يمكن ..... أقصد ...... محمد كنت أحتاج ..... ثمن كتاب هام جدا ولولا لذلك لقمت بتصويره صدقني ..... )
كان حنها يضحك ساخرا مما تفعله بكل تلك الكتب التي تصلح لأن تقلي فوقها اصابع البطاطس .... لكنه كان يمد يده في جيب بنطاله ليخرج ثمن الكتاب بعد مزاحه معها كل مرة ....
ظلت تتلاعب بشعره وهي تتذكر تلك التفاصيل الصغيرة .... لم تكن لتعشق رجلا آخر كما عشقت ذلك الرجل بين ذراعيها ..... أبدا ....
اقتربت منه ..... تندس بصدره .... تبادره كما تفعل دائما ..... واثقة بنفسها ... محبة .... عاشقة ....
تعلم أسرار و خبايا الحب ..... بثقة و ثقافة فقد كان حب المعرفة يجري بعرقها في كل أمور حياتها العامة و الخاصة .... و كانت بداية تلك الخبايا على يديه هو ..... و آخرها سيكون له .....
لم تترك نزيلا واحدا الا وجذبت نظره و هي تسير برشاقةٍ على الأرض الرخامية المصقولة .... بكعبٍ عالي رفيع حاد يطرق عليها كنغم منتظم ..... يعلوه بنطالها الجينز الأنيق الذي ينخفض عن ركبتها عدد محدود من السانتيمترات .... و يهفهف من حولها قميصها الأصفر من الشيفون الشفاف .....
لفائف شعرها الأشقر تزيدها جمالا ..... و هي تتنغام مع مشيتها ملامسة كتفيها بنعومة ....
أنيقة و عصرية .... متحررة و مرفهة .... كل معالم الدلال تحيط بشابةٍ أتت الي إحدى منتجعات البلد الراقية لتمكث وحدها في إجازة مريحة ....
نظارتها السوداء كانت القناع الذي يخفي ألما و مرضا .... لا يعلمه و لا يتخيله أيا من الناظرين اليها الآن ...
كانت تود لو سافرت الى خارج البلاد ... الى مكان بعيد لا يعرفها أحد فيه و لا تعرف أحدا ....
لكن سفرة كهذه كانت ستكلفها أكثر بكثير مما يحتمله رصيدها الساكن بلا زيادة حاليا ... و لا تعرف ما الحل في الأيام المقبلة ....
وقفت أخيرا في شرفة الغرفة التي وصلت اليها لتطل على بحرٍ من بحور بلادها لم تره من قبل !! .... هل يعقل ذلك ؟؟
لقد وصلت لهذا العمر و لم ترى هذا البحر من قبل .... كان يبدو مختلفا بالفعل عن بحر مدينتها .....
نزعت شيراز نظارتها السوداء ببطء عن عينين متورمتين مخيفتين .....
ماذا بها ؟؟ ..... كانت تظن أنها قد نسيت أيام طفولتها بالقوة .... دفنتها بالقوة .....
فما بالها تبكي منذ اسبوعٍ كامل و هي تتذكر خوار الثور الذي كان يقبع فوقها دون أن يغتصبها بحق خوفا من أن يفتضح أمره لو فعل و أكمل طريقه للنهاية ....
تتذكر أنفاسه و لمساته كل يوم .... بعد أن كانت تظن بأنها قتلتها قتلا ....
لكنها تعلم .... زواجها الاخير هو الذي كسر شيئا ما بداخلها .... فأخرج ما دفنته .....
السيد العظيم .... زوجها الثالث ... كم كان شبيها بثور دار الرعاية .... في خواره و تصرفاته الشاذة .... في مرضه و جنونه ....
كانت تظن بأنها ستستطيع التحمل .... لكن بعد عدة أشهر شعرت بنفسها تنهار ... لتموت ببطء مع كلِ مرة يقترب فيها منها .... حتى أصبحت في النهاية كجثة هامدة بين ذراعيه ...
كما كانت جثة طفلة صغيرة بين ذراعي ثور الدار ......
أخذت نفسا مرتجفا بفعل دموع صامتة ثم همست بصوت مزعزع
( ها أنا قد اتيت الى هنا ...... و ماذا بعد ؟!! ...... لا أشعر بشيء و لا أملك فكرة عما سأفعله .... )
ظلت تنظر الى البحر المتد أمامها حتى مغيب الشمس بمظهر مهيب ....
فاستدارت شيراز ببطء تتطلع الى غرفتها الجميلة .... الحقيقة أنه على الرغم من هيئتها الجميلة العصرية و مستواها المادي الذي أصبح لا بأس به مقارنة بما عاشته سابقا ...
الا انها في الواقع تشعر بقلق في الأماكن السياحية ...التي تفوق ادراكها ....
ذلك أن الوظائف التي عملت بها جميعا كانت دون المستوى .... صحيح قامة بترقية نفسها نوعا ما ... الا أن الواقع يلزمها بشاهدة صغيرة لم تتجاوزها حين هربت من دار الرعاية .....
لتظل تتنقل بعدها من خدمة لخدمة ... شيئا فشيئا ... تؤهلها أمكانياتها الشكلية لا غير ... حتى امكن تسميتها يوما بالسكرتيرة نوعا ..... الى أن تزوجت ...
لكن في الواقع مستواها اللغوي متدني جدا .... و قد استعانت بموظف الإستعلامات ببهو الفندق في ملء العديد من البيانات باللغة الإنجليزية و التي بالطبع لم تفهم منها شيئا ....
مظهرها الخارجي ... بالسيارة التي تعلمت قيادتها بصعوبة شديدة .... و شقتها التي حصلت عليها بعد زواجها الثاني ..... و ملابسها الفاخرة المتحررة ... كل هذا يخفي بداخله فتاة بلاأي نوع من تعليم أو ثقافة ......
و الآن تتهور لتأتي الى هنا بمفردها !! ......
ضحكت شيراز بسخرية مريرة و هي تتذكر أنها كانت تريد أن تسافر الى خارج البلاد !! ... هذا ماكان ينقصها بالفعل .... أن تذهب الى مكان لا تفقه منه كلمة واحدة ... و لا يوجد به موظف استعلامات من بلدها ليساعدها و يملأ لها البيانات .....
تحولت الضحكة المريرة الى ضحكة مدهوشة قليلا ... ثم عالية و هي ترفع يدها الى فمها بذهول بينما عيناها لا تزالان متورمتان ....
ثم همست بعد ضحكها
( حسنا ..... ها أنا هنا و قد حدث ما حدث .... فلأحاول أن أستمتع ... )
تناولت حقيبتها الصغيرة و قررت النزول مبدئيا .... لقد قضت فترة طويلة مع زوجها الثاني و الثالث في فنادق كهذه .... صحيح لم تكن هي المتكلمة بشيء ... كانت فقط المستمتعة نهارا .... بينما لياليها تقضيها تتفنن في اسعادهما ......
لكن الآن ..... ستمتع نفسها بنفسها دون مساعدة من أحد ....
خرجت شيراز من الغرفة و هي تهمس
( لست في حاجةٍ لأحد .......... )
و خلال دقائق كانت تسير في بهو الفندق ... بتردد غير الثقة التى جائت بها منذ ساعات .....
تتأمل أناس من بلدان غريبة ..... في مثل شقارها تقريبا .... الا أن شقارها لم يكن طبيعيا مائة بالمئة ....
تستمع الي بضع جمل و ضحكات هنا و هناك دون أن تفهم منها شيئا .... فكانت لا اراديا تلف خصلة شقراء مموجة على اصبعها بتردد و هي لا تعلم الى أين تذهب ....
بدأ توترها يتزايد قليلا ... و شرودها يأخذها الى أماكن تفضل نسيانها كما قررت .... ستعالج نفسها بنفسها ولو بالقوة ... و ستخرج عالم الذكور من حياتها قسرا ....
سمعت صوت مزاحٍ عالٍ خلفها ... فالتفتت تنظر خلفها بلا هدف أثناء سيرها للأمام ... في تلك الأثناء كان هناك شابا واقفا ظهرها اليها و هي تتقدم ... مد يده فجأة يشير الى احد ما من بعيد مبينا له مكانٍ بيده .....
حينها ارتطمت شيراز به .... لكن في الواقع كانت يده المفرودة هي من ارتطمت بصدرها بقوة ...
شهقت شيراز بصوتٍ عالٍ بينما انتفض هو كمن اصابه ثعبان سام ساحبا يده و قد بدا الإحمرار على وجهه ...
الا أنه بالرغم من ذلك تمكن من السيطرة على نفسه بسرعة البرق وهو يمد يديه امامه و كأنه يعتذر ....
و اعتذر بالفعل مرتبكا بكلمةٍ انجليزية لتلك الشقراء الأجنبية التي ارتطم بها بطريقةٍ مخزية.....
الا أنه لم يجهز نفسه لتلك الصرخة الوحشية بكلمة واحدة
( حيوااان ...... )
لتليها صفعة انثوية سقطت على وجهه اأمام كل المتواجدين .... اتسعت عيناه بذهول ... للتحولان تدريجيا الى كرتين من لهبٍ زادتا من شراسة ملامحه التي لا تبدو أنها تمت للطيبة بصلة
ففقد اليسطرة على اعصابه و غضبه .... ليعاجلها بنفس الصفعة دون ان يستطيع منع نفسه !
صرخت شيراز برعب و هي ترف كفهل تغطي وجنتها الحمراء ناظرة اليه بخوف و ذهول ....
بينما كان الجميع ينظرون اليهم بدهشة ... و موظف يجري سريعا الى مديره الذي يعلوه رتبة قائلا
( نزيل و نزيلة صفع كلا منهما الآخر سيدي !! .......... )
.................................................. .................................................. .........................
انطلقت شيراز تجري و هي تشهق و تبكي بعنف .... الى أن تمكنت من غلق باب المصعد في وجه الموظف الذي كان يرجوها أن تهدأ كي يتمكن من حل تلك المشكلة ...
ارتمت على مرآة المصعد بظهرها و هي تغمض عينيها باكية بقوة
" كنت أعلم أنني سأفسد كل شيء .... كنت أعلم أنني لن أتمكن من السيطرة على نفسي بمفردي أبدا "
دخلت غرفتها و هي ترمي حقيبتها على السرير بقوةٍ .... نازعة القميص الشيفون الأصفر لترميه أرضا ...
ثم ارتمت على السرير تبكي و تبكي ..... ما تلك الفضيحة التي افتعلتها للتو كعذراء مسكينة !!!! ....
ماذا دهاها !!!!
ظلت تبكي الى أن جفت مقائيها .... و تعبت .... تعبت أكثر من تعب الأيام الماضية كلها ......
و بعد فترة طويلة سكنت تماما ..... تتعثر بأنفاسها المجهدة ... الى أن بدأت عيناها في الإنغلاق تدريجيا .... فنامت طويلا بعد أن جافاها النوم لمدة أسبوع كامل .....
استيقظت شيراز صباحا على صوت طرق على باب غرفتها ... فجلست بصعوبة تنظر حولها ... تستوعب المكان الجديد الذي نامت فيه ليلة أمس .... و ما أن وعت تماما حتى سمعت صوت طرقة أخرى ....
فنهضت ببطء تتعثر وتسير بطريقة غير طبيعية الى أن وصلت لباب الغرفة ..... فأرهفت السمع عليه بأذنها قليلا قبل أن تقول بخفوت متلعثم
( من ؟؟ ........ )
الا أن أحدا لم يجبها ... ففتحت الباب ببطء ...... عقدت حاجبيها قليلا حين لم تجد أحدا .... لكنها وجدت سلة ورود ضخمة موجودة أرضا ....
ازداد انعقاد حاجبيها فأخرجت رأسها تنظر يمينا و يسارا الى الرواق ... لكنها لم تجد أحدا , فانحنت تلتقط السلة ثم دخلت و أغلقت الباب ....
و حين أمسكت بالبطاقة التي كانت ملصقة بالسلة و فتحتها ....
مكنها تعليمها المتدني من قراءة كلمة عربية واحدة
( آسف ..... )
كانت تقف خلف منضدة البيع الرخامية بعد انصراف صاحبة المحل ظهرا كي تترك المحل في عهدتها كما تفعل كل يوم و في نفس الموعد ...
انحنت ملك تستند الى المنضدة و هي تلعب بهاتفها الذي يعد معظم اصدقائها و أهلها .... أو بمعنى أصح يضم جميع أصدقائها ....
حيث بنت لنفسها العديد من الصداقات الإلكترونية في هذا العالم الإفتراضي ... و باتت تتكلم طوال اليوم و تضحك و تلعب ... حتى انها بعد أن تترك هاتفها قليلا ... تظن بأنها قد ملأت المكان من حولها صخبا و ان الجميع استاؤو من كثرة ثرثرتها الإلكترونية و ذلك العالم الذي دفنت نفسها به و بنت منه عائلة واسعة ....
كانت تقف الآن على حالتها تلك ... منحنية الى المنضدة ... تطرق بساقها لحنا رقيقا و تدندنه بشفتيها الرقيقتين بينما تضحك من آن لآخر الى شاشة هاتفها العائلي ....
و ضفيرتها الذهبية الطويلة كانت منسدلة على كتفها لتستلقي براحةٍ على المنضدة أمامها ... في أعلاها مثبتة وردة جورية صفراء غريبة هذه المرة ....
إنها وردة بين الورود !! ......
وجهها الوردي ... و شعرها الطويل ذو الوردة ... كل ما بها يجعلها وردة بين الورود ....
سمعت ملك صوت الأجراس النسيمية على الباب تعلن عن دخول أحدهم ... فرفعت نظرها اليه , لتتسمر في وقفتها قليلا .... قبل أن تستقيم مبتسمة بخجل حذر ....
نظرت اليه تماما كالمرة السابقة ... و هو يتنقل ناظرا الى الورود , كفيه في جيبي بنطاله الجينز ... واضعا نظارته الداكنة فوق عينيه الرائعتين ....
يتعمد اظهار بأنه لا يلحظها .... فظلت واقفة مكانها تنتظر و ابتسامة تداعب زاوية شفتيها ...
الى أن لم يجد بدا من التقدم اليها ببطء .... يتظاهر بأنه لا يزال ينظر حوله .... فاتسعت ابتسامتها قليلا ... قليلا فقط ...
قبل أن يضطر مرغما الى أن يقف أمامها أخيرا ... موجهها وجهه اليها .... أخيرا !! .....
انتظر لحظة ... ثم لحظتين ... ثم ثلاث .... قبل أن يقول بخفوت من خلف زجاج نظارته الداكنه
( مساء الخير ....... )
همست ملك ببساطة
( لقد تأخرت اسبوعا ....... )
شعرت بأنه ملامحه قد تجمدت قليلا قبل أن يقول بحذر قلق
( عفوا !! ...... تأخرت !! .... على ماذا ؟؟ )
كانت تنظر اليه في عمق عينيه ببساطة ... ثم قالت باتزان مبتسم واثق
( جئت من اسبوع .... و طلبت باقة ورد , .... ثم قررت أن تعود مساء ذلك اليوم لتأخذها ..... لكنك لم تأتي من وقتها ..... )
فتح شافتيه قليلا و قد تجبست ملامحه ... ثم قال بصوت غريب
( انكِ ...... تتمتعين بذاكرةٍ قوية )
اشرق فمها الجميل ابتساما ...... ثم همست
( بل هي الأفضل ............ )
ابتسم ابتسامة شاحبة مهتزة قبل أن يهمس
( جيد ............. )
تابعت ملك بابتسامتها البراقة
( حين كنت صغيرة كانت معلمتي تدعوني بصاحبة الذاكرة الحديدية ....... )
عادت ابتسامته لتهتز و تفتر الي ان اختفت .... قبل أن يعاود الهمس دون ابتسامة
( هذا رائع ....... لكِ )
أومأت ملك بإبتسامة تكاد تكون متحدية براقة
( نعم هو رائع بالفعل .......... )
استمر الصمت بينهما للحظة قبل أن تشد ملك من كتفيها برشاقة لتقف منتصبة و يداها الرقيقتان على المنضدة أمامها لتقول بلهجة لها رائحة الورود
( اذن ....... هل أحضر لك باقتك اليوم أم ستنتظر لأسبوع آخر )
شعرت به مترددا ... مرتبكا ... على الرغم من مظاهر الثراء المحيطة به , الا أنه يبدو كطفلٍ ضائع ..... و خائف , لذا رق له قلبها الطيب ... فانتظرت مبتسمة لكي ...... يتخذ قراره !!
أخيرا قال بصوتٍ خافت يحاول أن يكون مازحا ....
( هل هذه محاولة جر قدم ؟؟!! ..............)
اشرقت ابتسامتها و ظهرت أسنانها الؤلؤية و هي تقول بقوة
( بالتأكيد ...... نحن نحاول كسب زبونا ... )
ابتسم بضيق و هو يومىء برأسه متفهما .... بينما عيناه المطرقتان تختلسان النظر اليها بين الحين و الآخر من خلف زجاج نظارته الداكن .... وهو يظن بأنها لا تلاحظهما ...
ثم قال اخيرا مقررا
( نعم أريد باقة ....... كبيرة ..... جميلة )
قالت ملك برقة دون أن تتعجله
( باقة من أي نوع ؟؟ ......... )
ظهر تردده جليا أكثر ... ثم قال وهو ينظر أرضا الي شيءٍ وهمي
( أريد باقة على ذوقك ........ )
اتسعت ابتسامتها اكثر ... على الرغم من الإحمرار الجميل الذي يزين وجنتيها , لكنها قالت ببساطة
( حسنا ....... لو ذكرت لي المناسبة , و مكانة الشخص الذي ستقدمها له , ربما اتمكن حينها من مساعدتك )
سمعته يتنفس بوضوح ... و حاجبيه ينعقدان محاولا التركيز على معلومةٍ معينة كي يستحضرها كي يدلو بها ...
فساعدته ملك تهمس
( هل هي لخطيبتك ؟؟ ..... حبيبتك ؟؟ ..... ام صديقتك ..... ام مجرد مجاملة اجتماعية ؟؟ )
ارتفعت عيناه اليها كما ارادت فابتسمت لهما , فقال مترددا ....
( لا ..... لرجل كبير ..... اممممممم ... مريض ..... شيء بسيط )
فكرت ملك بنها باقة مختلفة تماما عن تلك التي طلبها في المرة السابقة .... لكنها لم تظهر ذلك فأومأت لتهمس برقةٍ بطيئة
( و ما درجة قرابتك به ؟؟ ............ )
نظر اليها بقوةٍ تكاد نظراته ان تخترق زجاج النظارة الداكن فسارعت للقول بود
( تعلم أن ذلك يشكل فارقا في الباقة .... اليس كذلك ؟؟ ...... )
حين لم يرد و لم يخفض نظرته ذات الزجاج الداكن عن عينيها فتابعت بهمس
( أنا أتعامل مع الورود و كأنني أتعامل مع البشر ..... لكلا منها شخصيتها و طبيعتها و ....و درجة قربها الي من ستذهب اليه ...... )
ظل الصمت يحيط بهما قليلا .... قبل أن يقطعه قائلا بقتامة
( نعم ........ أستطيع تفهم ذلك ..... انه ..... في مثابة جدي ...... )
خفتت ابتسامتها قليلا ... لتهمس بعد فترة
( هذا لطيف ...... )
صمتت ثانية تنظر اليه لتجد أن نظرته قد اختفت تحت جفنيه المنخفضين ... المنشغلين عنها ...
فهمست متابعة ...
( خذ راحتك و أنا أعدها ..... دقائق و ستكون جاهزة )
أومأ برأسه دون أن يرد و دون أن ينظر اليها ... لبدأ رحلته المعتادة في التجول بالمكان دون حتى أن يهتم بخلع نظارته !! ....
بينما بدأت اصابعها الرقيقة في تجميع التيوليب الأبيض ذي السيقان الخضراء النضرة الطويلة ....تلفهها بورق أخضر واسع يشبه أوراق شجرة الموز ...
و أثناء لفها للباقة بورقٍ أبيض نصف شفاف كانت تنظر اليه بين الحين و الآخر ... يقف في آخر المحل , يعطيها ظهره ... ينظر من خلف كتفه مرة بعد مرة فيصدم بابتسامتها المنتظرة لإخلاساته
فيعيد نظره بعيدا بسرعة البرق ....
أخيرا ربطت الباقة بشريطين أخضر و ذهبي لامعين ... ثم أمسكت بها بين يديها و فوق صدرها كعروسٍ تنتظر ..... تنظر الي ظهره بحرية طالما أنه لا يريد أن يبادلها النظر .... و حين شعرت بأنها قد اكتفت لكن ليس من وجهه بعد نادت برقة
( باقتك جاهزة ............ )
تسمر قليلا لسماع صوتها .... ثم استدار اليها ببطء لتتجول عينيه فوقها متمهلة على ضفيرتها الطويلة النائمة
ثم أخذ يقترب منها ببطء حتى وصل اليها ... ليلقى نظرة على الباقة الرائعة قبل أن يلتقطها منها ببطء ... ثم همس
( إنها رائعة ........ )
ابتسمت أكثر هامسة مثل همسه
( أشكرك ............ )
اخرج من جيبه بطاقة مالية ذهبية يقدمها لها ... الا أنها ظلت تنظر اليها قليلا بصمت قبل أن ترفع عينيها اليه هامسة
( نحن لا نتعامل بها ........... )
أومأ برأسه قبل أن يخرج ثمن الباقة فأخذته منه تحرر وصلا ... لتجده بعد لحظة يمد ورقة مالية جديدة برائحة المصرف اليها على سطح المنضدة الرخامية .... فرفعت نظرها اليه متسائلة , ولوهلة شعرت بأنه الكلام يصعب لديه ... لكنه قال أخيرا بلا تعبير
( إنها لكِ ........ )
اشتدت ملامحها و تصلبت على الرغم من عدم ظهور اي تعبير على وجهها ... لكنها همست بأدب
( لا شكرا ..... لا آخذ إكراميات )
ظلت كفه مفرودة على الورقة المالية دون أن يتحرك ... ثم قالب بعد فترة بصوت فاتر يكاد يكون به برود العنجهية ... فقط يكاد .... لمن يعرف لهجته جيدا .....
( لا أعتقد ذلك ........... )
اشتدت ملامحها أكثر ... و ظهرت الكبرياء على ملامح عمرها الفتي و هي تقول بحزم
( آخذ ممن أقرر أن آخذ منه ..... لا أحد يجبرني على مالا أريده )
رفع ذقنه هو الآخر ... ليقول ببرود
( و قررتِ من مرةٍ واحدة فقط الا تقبلي بإكرامياتٍ مني ؟!! ........)
قالت بهدوء و تحدي بعد فترة صمت
( بل مرتين يا ....... سيد كريم )
التوت شفتيه في حركةٍ خاطفة لا إرادية حين شددت على حروف اسمه .... فتابعت بمودة مبتسمة حين لاحظت سكونه المفاجىء
( ذاكرتي الحديدية .............. )
أومأ بما يشبه ابتسامة لا معنى لها ..... قبل أن يسحب يده بالورقة المالية ليشدد قبضته على الباقة و كأنه يخنقها ...
ثم ابتعد خطوتين للخلف بظهره .... ناظرا اليها قبل أن يقول بخفوت
( شكرا ...................... )
لكن و ما أن ترتكته يبتعد حتى نادت وهي تميل على المنضدة الرخامية بيديها و جسدها بأبتسامةٍ مشرقة
( نتمنى رؤيتك مجددا ............. )
استدار اليها ... متراجعا دون ان يتوقف ... و من خلف زجاج نظارته الزجاجية ... رأت عيناه تبتسمان!!
قبل أن يرفع الباقة ملوحا بها بغرور وهو يستدير مجددا خارجا من الباب .... محدثا أصوات الأجراس من خلفه .... بينما بقت تنظر للباب المغلق و هي تتسائل ان كان سيتأخر اسبوعا هذه المرة ....
أو ربما قد اكتفى و قرر الا يأتي ابدا ........
.................................................. .................................................. ........................
نزلت من غرفتها بعد ساعتين من استيقاظها .... ساعتين و هي تقرر ان كانت ستخرج من حبسها الإنفرادي أم ستظل قابعة به ....
لذا ففي الأخير قررت الإفراج عن نفسها و خرجت بتكاسل ... انسانة أخرى ,.... و كانها مجهدة من الإنساة التي كانتها من قبل ....
لذا خرجت بقميصٍ فضفاض ... يعلو بنطالا قطنيا مريحا .... بينما تركت شعرها دون تصفيف أو تمويج خصلات ... فأصبح على طبيعته هشا طائرا مع نسيم الهواء دون أي شكل معين .... بالكاد يتعدى كتفيها ...
حتى شعرها المصبوغ كان مجهدا مثلها من استمرار صبغه و تمويجه ليصبح في صورة لفائف جذابة عصرية
وجهها المرهق ... نظفته تماما و خرجت به دون اي لونٍ اصطناعي عليه ....
لم تعلم بأنها قد ظهرت و كانها ابنة السادسة عشر .... فلقد كانت تلك هي منحة الطبيعة لها , الا أنها في نفس الوقت كانت الجاذب لأصحاب العقول المريضة .....
اتجهت شيراز الى مقهى الفندق ....تنوي الجلوس أمام البحر بصمت ... ترتاح ... فقط ترتاح علها تمحو المشاهد البغيضة من التقافز الى عقلها ....
جلست ببطء تنظر حولها بطرف عينيها ... ترى إن كان هناك من يتابعها متذكرا الصفعة التي تلقتها على الملأ بالأمس ....
سيكون من أسوأ أيامه حظا إن رأته اليوم ... أو أبدا ....
أيظن أنه بباقة ورد سيمحو فعلته الحقيرة !! ....
كان مصير ورداته القذرة هي مكب النفايات حيث تنتمي .... فقط فليفعل طيبا و لا يظهر أمامها كي لا تفتعل الفضائح مع إدارة الفندق ....
طلبت بالكاد قهوتها التي تعرفها حق المعرفة .... ثم استندت الى مقعدها تستسلم الى نسمات الهواء التي تربت على وجنتيها بنعومة فأغمضت عينيها لها تشعر بإحتياج قوي الى تلك المعاملة الحنونة ...
سمعت صوت قدح قهوتها يوضع على الطاولة أمامها ففتحت عينيها تنظر الي النادل الواقف بجوارها مبتسما ... فهمست بتردد و بشفتين متيبستين
( شكرا ........... )
الا أن آخر حروف الكلمة اختنقت في فمها قبل أن تخرج ما أن أبصرت الجلف الحيوان الذي صفعها بالأمس آتيا من بعيد .....
تشنجت عضلاتها و بدأت هرموناتها الشرسة المدافعة عن النفس في الإنتشار بأوصالها ... حتى بدأت شعيرات رأسها في الوقوف انتظارا ...
و اقسمت بداخلها بأنها سوف تصفعه مرة أخرى لو تجرأ على الإعتذار لها .... فاستقامت مستعدة منفوشة الشعريات الإستشعارية ....
الا أن نظرته اصطدمت بنظرتها في ذلك الوقت ..... فارتجت في أعماقها و هي ترى نظرة بأس قوية شملتها كلها في لمحةٍ واحدةٍ بها تهديد خفي من أن تفتعل أي مشهد ....
و شفتاه كذلك اشتدتا كملامح وجهه كلها .... و ما أن مر بها حتى نظر أمامه يتجاوزها يتجاهلها تماما !!....
ظلت شيراز مستقيمة في جلستها متشبثة بذراعي مقعدها بشراسة ... عاقدة حاجبيها بغضب غير مصدقة ...
حتى انها التفتت برأسها تنظر الي ظهره وهو يغادر ... دون أن يحترمها ولو بنظرة .....
همست بإنفعال داخلي
( ما باله هذا الأحمق ؟!! ........)
عادت تلتفت أمامها و هي تشعر بغليان الدم في عروقها ... و تدفق الغضب أضعافا ....
كيف تركت حقها بهذه البساطة ؟!!!
لماذا لم تطلب محاسبته ؟؟!!! ....
الحقير لم يعتذر لها و لم يحترمها حتى بنظرةٍ لائقة !!! .....
الا يعلم ممن كانت متزوجة ؟!! ..... زوجها السابق يستطيع أن يجعله يلعق الأرض استرحاما ...
لكن هذا أولا بعد أن يغفر لها ما فعلته به قبل الطلاق ....
من بعث اليها باقة الورود اذن ؟!!! ....
نهضت من مكانها بقوةٍ جعلتها تصطدم بحافة الطاولة فانسكبت قهوتها عليها الا أنها لم تعبأ بها و هي تندفع بهمجية الى بهو الفندق حيث موظف الإستقبال المهذب مرسوم الوجه يجلس مبتسما
لكن ابتسامته اختفت ما ان رآها مقبلة بصورةٍ تخبره بوضوح بأنها تنوي افتعال المشاكل .... بل و الفضائح لو أمكن ....
و بالفعل وصلت اليه شيراز ثم ضربت بقبضتيها على سطح منضدة الإستعلامات و هي تقول بحدة
( أريد أن أرى المسؤول هنا ........ )
اندفع المدير المسؤول عن العلاقات العامة يسألها بقلق و قد تعرف عليها من ليلة أمس فشحب وجهه و توترت ملامحه ....
( صباح الخير سيدتي ...... هل هناك من خطبٍ ما ؟؟ )
استدارت اليه شيراز بعنف و هي تقول
( ألازلت تسأل ؟؟ !! ...... أريد أن أتهم نزيل هنا بالتحرش ... و التهجم و الإعتداء )
اصبحت ملامح الرجل في حالةٍ يرثى لها ... و هي تذكر أخطر ثلاث كلمات قد تدمر سمعة فندق محترم و على الملأ .... فقال بنبرةٍ مهذبة
( اهدئي سيدتي ....... رجاءا و دعينا ... )
صرخت شيراز و قد فقدت صبرها
( أهدأ ؟!! ...... لقد رأيت ما حدث بالأمس بنفسك )
ارتجف الرجل الضخم المنمق و هو يرى بعض السائحين و قد بدأو بالإهتمام و الإنتباه للموقف .. فنظر اليها بقلق مترجيا
( ظننت أن الأمر قد تم حله وديا سيدتي ..... خاصة و قد انقضت الليلة على خير )
هتفت شيراز بحدة
( ظننت ؟!!! ..... ظننت ؟!! ...... أي فندق هذا ؟!! .... و هل أحل الأمر وديا مع متحرش ؟!! )
انتفض الرجل و هو يقول محاولا تهدئتها بشتى السبل
( سيدتي .... رجاءا لما لا نتجه الى مكتبي و دعينا نكمل حديثنا هناك ....)
هتفت شيراز
( نكمل حديثنا !! ..... نعم ولما لا تطلب لي قالب حلوى كي يطيب لنا الحديث و أنا أخبرك كيف مد يده و لمس صدري !!!...... )
رفع الرجل يديه طلبا للنجدة وقد احمر وجهه و شعر بأن الفضيحة قد بدأت بالفعل ... فقال مترجيا للمرة الأخيرة
( سيدتي أعدك أن تتم ترضيتك كما تأمرين فقط لنذهب الي مكتبي ..... رجاءا .... رجاءا ... )
كانت شيراز تلهث نارا و لهيبا بينما احمر وجهها غضبا من العدم ..... فلم تكن تلك هي حالتها حين استيقظت , لكن يبدو و كأن النيران التي تجيش في صدرها بين حين و آخر قد اندلعت و انتهى الأمر ... و لن يستطيع شيء منطقي أن يخمدها أبدا ....
استغل الرجل توترها و ارتجافها حنقا فمد ذراعه خلف ظهرها دون أن يلمسها و هو يدعوها مبتسما بترجي قائلا
( تفضلي سيدتي ..... رجاءا , و أعدك أن يتم كل ما تطلبينه ......)
ظلت تنظر اليه بغضب ناري أحمر و هي لا تعلم تحديدا خطوتها التالية ... الا أنها سارت أمامه الي حيث يشير فتنفس الرجل الصعداء خلف ظهرها و هو يجفف عرقه محاولا الإبتسام للسائحين الناظرين بإهتمام ...
الحمد لله أنها كانت تتحدث العربية ... خاصة مع موضوع ال ....!!!! .... احم ...
تنحنح الرجل بوجهٍ أحمر وهو يعدل سترته يتبعها بإحترام و ابتسامة لائقة ..... قلقة .....
دخلت شيراز الى الغرفة التي أشار اليها الرجل ثم تبعها مبتسما بقلق و هو يغلق الباب من خلفهما ...
فوقفت أمام المكتب الأنيق .... لتستدير اليه بغضب و هي تقول
( ها أنا قد أتيت الى هنا يا محترم ...... أخبرني كيف ستتصرف إزاء هذا الوضع )
قال الرجل بتهذيب مبالغ فيه و هو يستدير ليجلس خلف مكتبه
( تفضلي اجلسي سيدتي ..... )
ضربت شيراز الأرض بقدمها و هي تصرخ
( لن أجلس ....... اريد أن اعرف ما هي الإجراءات التي ستتخذها ضد هذا الحقير ....و الا سأتصرف أنا بنفسي )
قال الرجل مترجيا يكاد ان يجلسها بنفسه
( اجلسي سيدتي رجاءا .... و سنتفاهم ... رجاءا )
تأففت شيراز بصوتٍ عالٍ ثم رمت نفسها على الكرسي الجلدي امامه و هي تضع ساقا فوق اخرى بصلف و غرور ... غير مدركة انها ترتدي خف بحر مطاطي ... و ليست احدى احذيتها الأنيقة ذات الكعب العالي .!! ....
قال الرجل بلهجةٍ مدروسة
( ماذا تحبين أن تشربي ؟؟ ........ )
مالت شيراز الى سطح المكتب مندفعة بيديها و صدرها حتى ان الرجل تراجع قليلا وهو يعدل من رابطة عنقه قلقا منها ... فهي لا تبدو متزنة تماما ... و هي تقول بلهجة فحيح مهددة
( لا تختبر صبري طويلا .............. )
أومأ الرجل برأسه نصف إيمائة ... ثم قال مشبكا كفيه معا
( سيدتي ...... الوضع ليلة أمس كان به لبس و سوء تفاهم , و محاولة تضخيم الأمر لن تجدي )
هتفت شيراز بجنون
( سوء تفاهم !!! ....... هل هذا هو كل ما لديك ؟!!! .... حسنا دعني أخبرك بأنني سأضخمه و اضخمه و اضخمه حتى ينفجر في وجوهكم ...... )
عادت شيراز الي ظهر مقعدها و هي تلهث انفعالا و حنقا .... بينما تحول وجه الرجل داكنا وهو يقول بقلق
( هل تعرفين اسمه سيدتي أو هويته .......)
نظرت اليه شيراز بغضب و هي تهتف
( و من أين لي أن أعرفه ..... بالأمس كان اليوم الأول لي هنا .... )
رفع الرجل عينيه الي السماء شاكرا ... ثم عاد ليرسم قناع الحكمة على وجهه و هو يقول بإتزان
( حسنا سيدتي .... سنحاول معرفة من تقصدينه )
نظرت اليه بذهول وهي تهتف
( أنت تعرفه ..... لقد رأيته بنفسك ..... كنت متواجدا بالأمس .... )
رد الرجل بعينين تحيدان جانبا و فم متيبس
( لا ..... لم أره ...... )
هتفت شيراز و هي تضرب سطح المكتب
( أنت كاذب ..... بل رأيته .... )
قال الرجل و هو يجفف عرقه رغم مكيف الغرفة
( قضية تحرش .... انها مسألة خطيرة , لذا يجب التيقن من هوية من تدعين عليه بذلك .... )
ظلت تنظر اليه بذهول .... ثم صرخت بجنون
( تعال معي الآن و سنبحث عنه ...... و حين أراه سأقدمه اليك بكل سرور من مؤخرة ياقة قميصه النتن )
همس الرجل بداخله ... ياللهي .... يبدو أن اليوم لن ينتهي على خير .... الغوث .....
الا أنه لم يكمل تفكيره حتى اندفع صوت الباب وهو يفتح مصاحبا لصوتٍ قوي يعرفه جيدا ...
( لا داعي لتعبكم ...... فقد أتيت بنفسي .... )
استدارت رأس شيراز كطلقة رصاص .... تنظر بوحشية الى ذلك الهمجي مفتول العضلات الذي يقف بباب غرفة المكتب و الذي كاد أن يخلع لها رأسها بالأمس ....
بينما أغمض مدير العلاقات عينيه يأسا .....
قفزت شيراز واقفة و هي تصرخ قائلة
( و تتجرأ على القدوم الي هنا بنفسك ....... )
اقترب منها ببطىء و عيناه على عينيها الخضراوين الثائرتين ليقول بصوت هادىء مخيف
( أردت أن أوفر عليكِ عناء البحث طويلا ..... )
ظلت شيراز تنظر اليه قليلا بذهول ناري غاضب قبل أن تستدير الى المدير صارخة بجنون
( ها هو يقف أمامك ...... ارني كيف ستتصرف معه ؟!! )
ابتلع الرجل ريقه وهو يقول بلهجةٍ منذرة بالخطر و القلق
( سيدتي .... أنتِ تهجمتيِ عليه أولا ... لذا لا يمكنني أن أفعل شيئا إزاء هذا ... )
اتسعت عينا شيراز كقطةٍ متوحشة و هي تصرخ
( لأنه تحرش بي ..... أمامك و أمام جميع الناس )
ظل الرجل صامتا قليلا ... ثم قال أخيرا بصوتٍ مكتوم
( لم يكن ذلك تحرشا ........... )
ظلت تنظر اليه و هي تشعر بأن قلبها سيتوقف من شدة غضبها و سرعة نبضاته ... و على الرغم من معرفتها سابقا بأنه لم يكن تحرش ... الا أن هياج غضبها قد اشعل فتيله و انتهى الأمر ...
فاستدارت الي الواقف خلفها ينظر اليها بهدوء قناص محترف .... فهتفت بفقدان سيطرة
( أنت قذر ... حيوان ... حقير .... عفن ... )
قاطعها بصوتٍ هادىء يكاد يرسل قشعريرة في الأوصال من قوته
( و أنتِ عديمة التربية ...... )
اندفعت اليه في لحظةٍ خاطفة و قد فقدت على ذرة سيطرة على نفسها تنتوي صفعه من جديد ... الا أنه كان جاهزا لها هذه المرة فأمسك بمعصمها يثبته عاليا حتى صرخت ألما ... فهزها بقوةٍ و هو يقول بصرامة مخيفة
( هل تتوقين لصفعة أخرى ؟؟ ...... لأنني لن أتوانى عن تكرارها لو لزم الأمر .... )
أخذت شيراز تتلوى و تجذب معصمها من كفه الحديدية دون جدوى ... حتى بعد أن ضربت قدمه بقدمها ... لم يشعر بها و كأن قدمه فاقدة الإحساس مثله ....بينما المدير وقف خائفا من مكانه قائلا بترجي
( سيد وليد ..... تمالك نفسك رجاءا )
الا أن وليد لم يلتفت اليه و لم يتخلى عن معصمها بقوة ....
ظلت تلهث قليلا بعد أن وقفت مكانها ... ساكنة ... مجنونة المشاعر ... مرتجفة رغما عنها .,,حينها فقط قال بهدوء
( هل انتهيتِ ؟؟ ....... )
نظرت اليه بعينين خضراوين شرستين كارهتين دون أن ترد ... فترك معصمها أخيرا ...دون أن تترك عيناه عينيها
حينها ارتدت الى المدير من خلفها تهتف بلهجةٍ تكاد تكون نحيب على الرغم من شراستها
( اذن ماذا ستفعل ضده ؟؟ ...... أنا مصممة على تقديم شكواي و سأضيف اليها تهجمه علي الآن .... أمامك )
تنهد الرجل بقوة وهو يشعر بأن الأمور قد ازدادت سوءا ... فقرر اختصار المسافات ليقول بخفوت
( سيدتي ..... هناك لبس مؤكد , السيد وليد من المحال أن يتحرش بأي نزيلة هنا ... فهو أكبر مساهم في هذا الفندق ...... )
عم صمت ثقيل المكان .... بينما شيراز تنظر اليه بجنون مذهول صامت ... ثم همست أخيرا
( هكذا اذن !!!! ............. )
ثم نظرت خلفها الى وليد الذي كان يتأملها مليا مكتفا ذراعيه بغرور... فعادت بنظرها الى المدير و كأنها فأر صغير وقع في المصيدة .... ثم هتفت بقوة
( اذن سأقدم بلاغا لشرطة السياحة ..... و سأشن عليكم حربا لتكن فضيحة لن تنسوها أبدا .... و أنا لن أبقى في هذا الفندق القذر للحظةٍ واحدة ...... )
اتجهت شيراز الى الباب تتجاوز وليد بعنف دون أن تحاول أن تمسه .... بينما كان المدير يحاول اللحاق بها هاتفا
( انتظري سيدتي رجاءا .......)
الا أن وليد أمره بصرامة بالا يتبعها .... و لم تسمع شيراز المزيد و هي تخرج بجنون من المكتب .... متجهة الى غرفتها اللعينة .....
اخذت تضرب الزر الغبي للمصعد عدة مرات عله بذلك يسرع في النزول لكن دون جدوى .... بينما كانت في حالةٍ يرثى لها ... نفس حالة القهر المصاحب لغضب مجنون حين يتم التعدي عليها دون أن تتمكن من أخذ حقها ممن هو أقوى منها .... حالة الفأر المحاصر ....
عادت لتضرب زر المصعد مرة أخرى بقوةٍ أوشكت على خلعه من مكانه .... الى أن وصل أخيرا و فتح أبوابه ...فوجدت العامل الصغير يقف مبتسما لها فدخلت بعنف الي الداخل دون أن ترد له ابتسامته ...
لكن وما أن واجهت الباب المفتوح حتى شاهدت المدعو وليد آتيا الى نفس المصعد فامتدت يدها تلقائيا بثورةٍ تضرب رقم طابقها قبل أن تصل يد العامل اليه ....
لكن يد وليد امتدت كي تمنع انغلاق المصعد ... وهو ينظر اليها بصلابة خطيرة قبل أن يقول بهدوء آمر
( أخرج من المصعد من فضلك ....... )
خرج العامل الحائر دون مناقشة ... الا أن شيراز بدأت في الصراخ
( أخرج من هنا قبل أن أُخرج مخك من رأسك ...... )
و حاولت تجاوزه الا أن جسده القوي سد طريقها والباب ينغلق أمام عيني العامل المذهولتين ....
ما أن بدأ المصعد في الصعود ..... حتى وجدت شيراز نفسها اسيرة ذلك المكان الضيق مع رجلٍ ذو مكانةٍ و نفوذ .... و قد تهجم عليها بالفعل مرتين من قبل .... فتراجعت لا إراديا الى أن وصل ظهرها الى المرآة من خلفها ... بينما اتسعت عيناها قليلا و هي تحدق بعينيه و قد تسارعت دقات قلبها من نظرته المخيفة ....
ثم اتسعت أكثر و هي تجده يقترب منها خطوة أخرى فصار المكان أكثر ضيقا بصورة مخيفة ....
فتوقف على بعد خطوةٍ منها وهو يقول بصوتٍ هادىء مخيف
( أتظنين أنني لا أعرف من هن من نوعيتك ؟؟ ....... )
لم ترد شيراز و هي تنظر اليه متسعة العينين ... لاهثة الصدر .... بينما تابع هو مصمما
( من تظن نفسها المجال الوحيد لرؤية اي رجل في المكان .... متوهمة ان الجميع راغب في التحرش بها و مغازلتها ..... لا لشيء سوى لأن تشعر بأهميتها ..... )
وصل المصعد الي طابقها حاولت تجاوزه مسرعة الا انه عاد ليسد طريقها بسهولةٍ ضاربا على زر النزول مجددا فانغلق المصعد .... فرجعت للخلف ترتطم بالمرآة متسعة العينين بخوف و هي تصرخ
( هذا المصعد مراقب ........... )
ابتسم وليد بقوة و هو يجيب بهدوء
( أتظنيني لا أعلم ذلك ؟!! .............. )
ثم تابع بهدوء
( أتسائل لماذا تفتعلين كل هذا المشهد ؟؟ ..... ظننتك عدت لعقلك بالأمس و و ها أنتِ تكررين نفس المشهد الحقير )
لم ترد و هي تتنفس بصعوبة من ضيق المكان بهما ... بينما صمت هو قليلا يتأملها جليا قبل أن يقول بصرامة
( أرني أقصى ما يمكنك فعله ....... و سأكون سعيدا بل أكثر من سعيد بقص مخالب واحدة أخرى من مثيلاتك )
وصل المصعد للأسفل و فتح أبوابه أمام العامل الذي لا يزال يقف منتظرا بعينين مندهشتين .... حينها تراجع وليد مبتسما لها بهدوء قبل أن يخرج من المصعد ..... بينما بقت هي واقفة متشبثة بالمرآة ... و عيناها المتسعتان بدأت في تجميع سحابتين سريعتين من الدموع ....
فدخل العامل ينظر اليها بقلق وهو يقول
( هل أنت صاعدة سيدتي ؟...... سيدتي ؟؟ ..... )
نظرت اليه شيراز دون أن ترد .... ثم أومأت برأسها دون أن جد صوتا كي تهمس به ....
.................................................. .................................................. .............................
منذ ايامٍ وهي ترتدي حلة الصمت ... و كأنها قد امتثلت لكل أوامره ... و إن كان لا يصدق ذلك ....
تدخل كل يومٍ بقهوته التي اعتادها من يدها .... حتى صار مذاق القهوة غريبا من يدٍ غيرها .... و كأنها وضعت بها بعضا من وعدٍ بشيءٍ مجهول .... به القليل من غموض عينيها ....
نظر اليها بطرفِ عينيها .... يراقبها و هي تضع القدح امامه بصمتٍ و تهذيب ... ثم تليه بكوب الماء ...
و ها هي ترتدي نفس الفستان الذي كانت تدور به منذ أيام ...المكشوف الذراعين ...
و كأنها تتحداه تحدٍ صامت ... تسأله بعينيها إن كان يجرؤ على انتقادها من جديد .... الفستان يذهب و يأتي في يومٍ خاطف و كأنها تدلل نفسها
أما الحذاء الجديد فثابت ... و قد أصبح رفيق أيامها الدائم منذ أن ابتاعته ..... بنقوده !!....
صحيح أنها استحقت تلك النقود و صارت ملكا لها .... لكن شعور أنها ابتاعت شيئا ما بنقوده تبث بعروقه نشوة غريبة ....
فهل هي بسبب انتقام ساذج يجري في دمه من ذلٍ رآه فيما ما مضى من عبد الحميد العمري ؟ ....
أم أن للأمر حساب آخر .....
رفع ملفا من أمامه ... ثم نادى ما أن استدارت
( خذي هذا سلميه لعلا أثناء خروجك ........ )
توقفت مكانها لحظة ..... فظهرت شبه ابتسامه على شفتيه .... لكنها اختفت ما أن استدارت اليه ... ثم اخذت تقترب منه بخطواتٍ رقيقه فوق بساطه البارز و المعتاد أن يخفي صوت خطواتها فيغيظه أكثر ...
الحق يقال ... أن الحذاء جميل في قدمها .... شتان ما بين تلك الصورة و الصورة التي انطبعت في ذهنه عن أول مرةٍ رآها فيها ..... لا تزال أنيقة رقيقة ..... لكن شتان ما بين الحذائين ...
كانت تقترب ببطىء دون أن تنظر اليه..... ففكر ساخرا
" تتجنب النظر اليه منذ أيام ؟...... حسنا لا بأس بذلك "
وصلت اليه أخيرا فمدت يدها بهدوء تمسك بطرف الملف ... الا أنها ما أن همت بجذبه حتى وجدت بأنه لا يسمح لها !! .... عادت لتجذبه مرة أخرى , الا أن الأصابع الحديدية كانت مشددة على الطرف الآخر من الملف ...
حينها رفعت عينيها الى عينيه متسائلة .....
ابتسم بضراوةٍ بداخله هامسا
" نلت منكِ ..... "
لكن وجهه الحجري كان يخفي ما بداخله بمنتهى المهارة وهو يقول ناظرا الي عينيها التي لم يرها منذ عدة أيام
( ماذا قلت لكِ بشأن ثوبك ؟؟ ........ )
اتسعت عيناها قليلا .. بينما زادت ابتسامته الداخلية و التي لم تطل الى شفتيه ... فقالت بخفوت
( لم تقل شيئا ........ )
رفع حاجبا غامضا و هو يسألها بخطورة
( حقا ؟!! .......... )
ثم قال بصوتٍ صلب
( ألم أطلب منكِ الا ترتديه هنا مجددا ؟؟ ...........)
أتسعت عيناها أكثر .... و اتسعت ابتسامته الداخلية أكثر و أكثر ... ثم قالت بخفوت
( لا ...... لم تطلب ذلك ....... )
رد سيف بصوتٍ شديد البأس ...
( و لا تتذكرين من الأساس !! ....... كم هذا رائع !! ..... )
كان يراقب عينيها المتسعتين بحرية ... و هما تدوران يسارا قليلا و قد بدأ شرودهما في محاولة يائسة لإستعادة كل أوامره السابقة ... علها تعثر على الأمر المفقود الذي يمنعها من اعادة ارتداء هذا الفستان ....
لكنها لم تفلح ... فعادت الحدقتان الواسعتان اليه ... تستقر فوق عينيه المستقبلتين لهما براحة .... لحظتين قبل أن تقول بخفوت
( لا أتذكر أنك طلبت ذلك .... سيد سيف )
انتظر سيف للحظة قبل أن يقول بهدوء بطيء
( أنا لا أطلب ..... أنا آمر فقط )
ظلت تنظر اليه بملامح صامتة مهذبة ... قبل أن تقول بخفوت مهذب كذلك
( و هل أوامرك تتضمن ملابس الموظفات هنا ؟! ....... )
للحظات ظن بأنه لم يجيد سماع ما تفوهت به للتو .... فقال بهدوء يسبق عاصفة خطيرة وهو يمد رأسه للأمام قليلا
( عفوا !! ...... ماذا قلتِ للتو ؟؟ !! ....... )
لم ترد .... ظلت تنظر اليه بهدوء و قد تعبت من ذلك السباق الذي تجري به منذ أيام و هي تحاول جاهدة تجنب جميع استفزازه لها كي تخطىء فيصرفها من العمل بدافع الإنتقام الغبي الذي لا يتناسب مع مكانته أو عمره ...
فلينضج قليلا !! ..... لقد مر على الماضي القاتم بينه و بين والدها عمرٌ بأكمله ....
وهو لا يزال قابعا بين زواياه الخانقة ....
وهي لا تريد سوى أن تستفيد من محاولة انتقامه الواهية ببعض النقود التي تستند اليها لتعينها على الهرب ....
فهو بالنسبة لها غريب تماما ..... و إن كان يوجه اليها بعضا من سخافاته ... فهو لا يعلم بأنها قد تحملت من ساخافات أرباب العمل من قبل ما لا يتحمله هو شخصيا ....
صحيح أن جزئا بداخلها يؤلمها لسببٍ مجهول مع كل إساءة يوجهها لها .... لكنه ذلك الجزء أصغر من أن يدفعها للإستسلام لإعتباراتٍ معنوية تافهة ....
مثل استسلامه لتلك الإعتبارات على الرغم ن هالة القوة و السيطرة المحيطة به ....
لكنها الآن و بعد أن وصلت لآخر حدود سكونها أمامه .... و قالت ما قالت و حدث ما حدث .... لذا أخذت نفسا و هدأت من قلبها المرتجف و هي تقول بخفوت
( قلت .... هل أوامرك تتضمن ملابس الموظفات هنا ؟؟ ..... أنا أسأل فقط سيد سيف لأكون بمعرفةٍ بقوانين المكان
و كي أعرف الخلل الذي يشكو منه ثوبي .. كي أتجنب هذا الخلل في غيره من الملابس .... )
للحظات تمتعت برؤية نظرة ذهول لم تتطاول الى ملامحه ... فقط عيناه ذهلتا دون أن تتسعا حتى ... ثم بدأ الذهول يتحول الي شرارات الغضب ... حتى بدأت ملامحه في تشرب لونٍ قاتم ....
لذا شجعتها متعتها بهذه اللحظة على تهدئة قلبها ... و تجهيز نفسها لصرفها عن العمل ... لا بأس ... لقد صرفت من العمل لعددٍ غير محدود من المرات ....
انها فقط الوخزة الأولى من اليأس ثم تعود الحياة لمجراها ....
لكن سيف حين تكلم .... بدا هادئا على الرغم من أن صوته كان يطفو فوق حافة الخطر و هو يقول
( سأخبرك مما يشكو ثوبك يا وعد .... فإضافة الى أنه رديء الذوق و هذا شيء يخصك وحدك طالما ارتضيته ... لكنه أيضا يكاد يكون زيا يائسا في محاولةٍ مثيرةٍ للشفقة من جذب النظر .... دون اعتبار لطبيعة وظيفتك التي تحتم عليكِ التزام زيا معينا لا يكشف أي جزء منكِ بخلاف جميع الموظفات .... نظرا لتنقلك من مكتب لآخر ...في وظيفة تعتمد أساسا على الخدمة لا تحتمل محاولة فاشلة في التأنق ... كالتي ترتدي ثوب مسائي في صباحِ عملٍ شاق ....و سبق و أخبرتك بأن هذا المكان له واجهة يجب الحفاظ عليها ... )
كانت كلماته تتوالى الواحدة تلو الأخرى دون توقف ... بينما تحولت وعد الى تمثالٍ أخذ يتحجر مع كل كلمةٍ طائشة من كلماته يقذفها بقوةٍ فتصيب هدفها في مقتل ....
الى أن انتهى تماما و أرجع ظهره للخلف ينظر اليها ... متحققا من اصابة هدفه ....
كانت عيناها تلمعان ببريق دموع تريد القفز من مقلتيها ... لكنها كانت تسجنها بالقوة ...
شاهد حركة حلقها و هي تبتلع ريقها بصعوبة و كأنه عضلات عنقها متشنجة ... بينما ازداد احمرار وجهها ...
" على الأقل هذا الإنفعال أفضل من صمت الأيام الماضية .... فهي تبدو من عالم البشر الآن , و قد عادت عينيها الى حزنهما .... الي ذلك الرسم الدقيق الذي يليق بهما "
هدأ غضبه المفاجىء و عاد الى تأمله لعينيها ....ابتسم رغما عنه بداخله , لن ينكر أن عينيها جميلتين ... بل جميلتين للغاية خاصة في حزنهما .....
قال فجأة بهدوء
( رجاءا لو ستبكين ..... انتظري قليلا الى أن تخرجي من هنا , فأنا لا أحتمل الدراما في حيز تواجدي )
رفعت ذقنها قليلا لتقول بهدوء ناقض نظرة عينيها
( أنا لا أبكي ...... لقد رأيت الكثير من قبل و لم يكن البكاء كلمة يحتويها قاموسي الشخصي )
أغلقت شفتيها و شردت عيناها قليلا و هي تتابع سرا " الا حين أكون وحيدة ... حينها يكون البكاء صديقي "
شدت ظهرها و هي تقول بتهذيب
( آخر مرة ستراني بهذا الثوب سيد سيف ..... و يسرني أن أنقل رأيك الى الخياطة الخاصة بي )
ابتسم ابتسامة قاسية و صوت ساخر يهمس بداخله
" خسارة ..... " لكنه قال بخفوت
( اعتذارك مقبول ...... و من رأيي الخاص فالإستغناء عنها سيكون أفضل لكِ )
ابتسمت دون أدنى قدر من المرح .... ثم همست
( لا أفضل قطع رزقها ..... لكن ربما ستلتزم قدرها الحقيقي منذ الآن ..... عن اذنك )
ضمت الملف و الصينية الى صدرها و استدارت لتخرج ..... تشعر بالإختناق من .... حيزه تواجده !! ....
ذلك الحيز الملىء بالقتامة و الكره ..... حيز يضم أي شيء باستثناء السلام .....
( وعد ............. )
توقفت مكانها على صوته القوي مجددا ..... أغمضت عينيها و ظلت مكانها غير قادرة على الإستدارة اليه مجددا , لكنها في النهاية تمكنت من الإستدارة اليه بقوةٍ ما ... ثم همست
( تحت أمرك ...... )
أعجبته الكلمة و أعجبه رقتها في نطقها ..... الا أنه لم يسمح بالإعجاب المتزايد بالتنازل ... فقال بهدوء راقي
( الى ماذا تسعين ؟؟ ...... )
عقدت حاجبيها قليلا و هي تنظر اليه بعدم فهم .... قبل أن يأتي دورها لتهمس بنفس سؤاله
( عفوا ؟!! ................)
التوت شفتاه قليلا ... ثم قال
( كيف حال والدك ؟؟ ........... )
ارتجفت بشكلٍ ظاهر رغما عنها ....لم تصدق السؤال .... و لم تعرف بماذا ترد حقا .... تخشى اذا أجابته بأنه بخير , ينفعل و يطردها ..... فهو غبي وحده ... دون الحاجة لإستفزازه ....
أومأت برأسها إيماءة غبية ... لا تهدف لأي شيء .... و هي لا تزال تفكر بالإحجابة و كأنها في اختبار الثانوية العامة ... تبا له ....
قال سيف موفرا عليها حيرة هذه اللحظات لكن مع نبرةٍ تحمل الكثير من كبت الإزدراء
( بلغيه سلامي .......... )
اتسعت عيناها أكثر مما أثار المزيد من الرضا في نفسه ... و لم تستطع منع نفسها من الهمس بغباء
( حقا ؟!! .......... )
ابتسم سيف ابتسامةٍ متشكلةٍ مع قساوة وجهه وهو يقول بلهجة غريبة
( نعم حقا ....... )
اهتزت عضلة في وجنة وعد وهي لا تدري بماذا ترد ... فلم تجد بعد البحث سوى أن تهمس
( عن اذنك ........ )
أومأ لها برأسه دون أن يرد .... عيناه تتابعان استدارتها ... خطواتها البطيئة الخفيفة كالفراشة , بالثوب المرفوض !!....
كم يجعلها تبدو شهية بهية في نظر البعض ..... ترى من تعمد اختياره لها ؟!! .... أهي نفس خبيثة قابعة في الإنتظار لنتيجة ما تدير ...
اختفت ابتسامته مع اختفائها .... كم يغضبه أنها تتمكن كل مرة في أخراجه عن طوره دون أي جهدٍ منها ... تماما كوالدها .....
شرد بملامحٍ قاسية في تلك المرة التي تخللت عدة مقابلات بعد ماضٍ بعيد ... و هو ينظر اليه محتقرا يكاد يمنع قبضته بالكاد من أن تمتد الى فكه المتجعد ليهشمه ... ربما منحه بعض الرضا ...
نظراته الرمادية الداكنة ... ذات العينين الباردتين كالجليد ... بهما قساوة الزمن و خبث نفسٍ سكنها الجشع ....
ربما كان الزمن قد نال من قسمات وجهه الا أن عينيه كانت نفسها .... بنفس النظرة التي يمقتها ....
تذكر ابتسامته الساخرة على الرغم من رثاثة حاله .... ليقول فجأة بنبرةٍ بسيطة و كأنه يعرض عليه كوب من الشاي بعد كل ما كان
( لما لا تتزوج من ابنتي .... و تنسى الماضي بكل ما حمله )
تذكر حينها أن الذهول تملك منه ... مع صدمة اللحظة الأولى .... ذهول من الوقاحة التي لم يتخيلها يوما .... ثم بدأ في الإستهجان ببطء لينفجر في ضحكٍ عالٍ .... عالٍ جدا عله يزيح القليل مما يعتمل بنفسه ....
استمرت العينان الرماديتان المتغضنتان الزوايا في النظر اليه بسخرية أثناء ضحكه العالي دون أن تهتز او تجفل .... .... حتى انتهى تماما بعد عدد من الضحكات القصيرة الختامية مع بعض السعال ....
و أخيرا تمكن من النطق بخفوت بعد إجهاد الضحك العالي
( أنت حقا لا تنفك عن إبهاري ........ صدقني .. أنت تستحق الإعجاب )
لم تتخلى الملامح المتجعدة عن ابتسامتها الهادئة الساخرة ... و الواثقة ....ثم قال بصوته المقيت الهادىء ذو النبرة المستفزة .....
( أنت أولى بابنة خالك في النهاية ........ خاصة بعد أن نجحت في الوقوف على قدميك و تكوين حياتك بنجاح معقول)
هز سيف رأسه حينها مبتسما بذهول .... ثم نظر اليه أخيرا متأملا .... طويلا ....
يريد أن يطعنه ..... يؤلمه بقسوة ..... يثير لديه اي احساس بالكرامة او الآدمية .... فقال أخيرا ببساطة هادئة عفوية
( و مما تشكو ابنتك لتعرضها بتلك الطريقة البخسة ؟؟؟ ........ )
رفع حاجبا متفكرا قليلا ... أو متظاهرا بالتفكر ثم قال أخيرا ببساطة تماثل بساطة سيف
( انها غبية نوعا ما ..... لا قدرة لديها على اقتناص ما تريده .... تحارب بعينيها فقط ....دون عقلٍ أو عزيمة حقيقية ..... لكنها في النهاية تستطيع الالتفاف حول روح رجل كأمها ...... )
امتعضت شفتا سيف و شعر بتقزز حقيقي و هو يشعر بأنه يحادث قوادا لا أبا .... الا أنه أحب اللعبة ... بل عشق لعبة إيلامه ... هذا إن كان يمتلك دما و أعصابا كالبشر تجعله يتألم بمعجزةٍ ما .......
قال سيف بهدوء شديد .... شديد ...
( هل هي ....... جميلة ؟؟ ........ )
لم يرد عليه حينها .... بل ظل ينظر اليه في عمق عينيه .... فتابع سيف قائلا بثبات
( لا بد لرجل أعمال مثلي من معاينة أي بضاعةٍ قبل شرائها .... خاصة تلك البضائع التي تبدو جديدة خارجيا الا أنه سبق استهلاكها ...... )
برقت عيناه للحظةٍ ثم رد بصوته الأجش
( كم تبدو شبيها بخالك يا ولد ......... )
لا زال يتذكر كم شعر بثورةٍ عارمةٍ حين سمع تلك العبارة ..... و التي ضربته في مقتل ... و على الرغم من أنه شعر بالندم فور نطق تلك الكلمات القذره المضمون عن فتاة لا يعرفها و لم يرها من قبل .... حتى ولو كانت ابنة عبد الحميد نفسه ...
الا أن تصريحه هذا جعله يشعر بنارٍ سوداء أحرقت عروقه حين سرت بها .... فسيطر جاهدا على انفعاله , الا أنه لم يكن ماهرا كل المهارة و هو يندفع قائلا من بين أسنانه ....
( فقط في أحلامك المريضة ...... ليس هناك من البشر من يمكن وصفه بأنه يشبهك ,... و أحب أن أضيف غير شاكرا بأنني أفضل الزواج من خادمة على أن أدنس بيتي بدمٍ من نسلك ..... )
كان صدره يؤلمه حينها من شدة الغضب .... الغضب الجارف و هو يرى ابتسامة عبد الحميد المنتصرة و هو يراه يخرج عن أعصابه كما ينجح في ذلك دائما ....
قال عبد الحميد أخيرا
( اذن تذكر تلك الكلمات جيدا ...... لأنك حين تأتيني متوسلا راجيا كي أمنحها لك ..... ستكون النجوم أقرب لك )
ابتسم سيف حينها ذاهلا ... غير قادر على استيعابه !! .... يشك في أن يكون حكم السن جعله يختل , و إن كان لا يصدق بأن هذا الرجل من الممكن أن يختل أبدا ....
ناده يومها ... تماما كما نادى ابنته منذ دقيقة ... ليقول له
( الوظيفة لك إن كنت تريدها و هذا هو كل ما لدي لأمنحه لك ..... فكم أحب أن تحضر لي قهوتي كل صباح )
ابتسم عبد الحميد وهو يومىء برأسه دون أي شعور بالدونية ... ثم خرج من نفس الباب الذي خرجت منه ابنته للتو ....
تنهد سيف وهو يرجع رأسه للخلف مفكرا ....
" مجيئها الى هنا كان أكبر خطأ ...... كان قد صرف والدها في اشارة منه لصرف الماضي بأكمله , لكن الماضي عاد ليبعث اليه لعبة جديدة جميلة ..... يتحداه ان كان يجرؤ على عدم القبول بها ..... "
اخذ اصبعه يدور على حافة الفنجان الذي وضعته امامه منذ قليل ..... لعبته .....
.................................................. .................................................. ..........................
دخلت وعد الى غرفة السعاة صامتة .... واجمة .... و قد انحسرت الدموع بجهدٍ كي تنسكب على روحها المجهدة .... و عادت ملامحها الى شحوبها الرقيق الشفاف دون تعبير معين ...
نظر اليها علي ما أن دخلت بصمت دون أن تنظر اليه .... كان منظرها يوحي بوضوح بأنها قد تلقت تقريعا جديدا
انه لا يعلم لماذا السيد سيف قاسيا معها الى تلك الدرجة .... بالرغم من أنه طيب جدا مع الجميع و قد ساعده كثيرا من قبل ....
ووعد تبدو رقيقة و مهذبة و ليست أهلا للتقريع و الإهانة كعبد الحميد الذي كان يعمل هنا من قبلها .....
اقترب علي منها خطوة قبل أن يقول بخفوت
( وعد ...... هل ستظلين صامتة هكذا طويلا ؟؟ ...... )
لم ترد وعد و لم ترفع رأسها و هي تقوم بغسل بعض الأكواب الموضوعة ... فقال علي بوجوم
( لم أقصد أن أكون سببا في توجيه اللوم لكِ ....... لكن أنا .... أنا حقا سأكون سعيدا إن أصبحنا أصدقاء )
توقفت يداها عن العمل قليلا قبل أن تتنهد و تلتفت اليه بهدوء قائلة
( اسمعني جيدا يا علي ..... أنا لست هنا لتكوين صداقات ... أنا هنا لأنني أحتاج هذا العمل و بشدة ... و الا لما كنت ارتضيت به على الرغم من أنه لا يناسب مؤهلي ..... كما أنني عامة لست تلك الشخصية الودودة التي تتأقلم مع أصدقاء ...... ليست لي سوى صديقة واحدة و قد جمعت بيننا ظروفا معينة هي ما أنشأت صداقتنا ... لذا رجاءا لا تتسبب لي في المزيد من المتاعب .... فأنا حاليا في غنى عنها صدقني ..... )
عادت الى عملها مطرقة برأسها .... بينما شعر علي بوجومٍ أكبر ... و شعور بالكآبة لا يعلم سببه ....
عاد الى الأريكة البعيدة ينظر اليها بصمت .. تنهي عملها ثم تعد لها كوب من الشاي ... لتجلس صامتة ملتقطة جريدة اليوم و هي تتابع اعلانات الوظائف و بيدها قلما استعدادا للتصويب على أي وظيفة تراها مناسبة ...
انها ناوية على ترك العمل هنا !!!
نظر اليها بوجهٍ مكتئب ...... انها بالفعل تنوي الرحيل ما أن تجد الفرصة متاحة ....
سمع صوت دقة من هاتفه الجديد فرفعه ينظر الي رسالةٍ جديدة .... حينها حانت نظرة من وعد اليه عاقدة حاجبيها و هي ترى هاتفه باللمس في يده .... ولم تستطع من الهمس بدهشة
( ما هذا ؟!!! .........)
نظر اليها متفاجئا مبتسما من زوال صمتها .... ثم نظر منها الى هاتفه ليرفع رأسه الى وجهها مبتسما
( انه هاتفي الجديد ..... هل أعجبك ؟؟ .... )
ظلت وعد تنظر الى هاتفه و كأنه مخلوق فضائي غريب ... ثم هتفت باستنكار
( كيف طاوعك قلبك على دفع ثمنه ؟!! ....... )
رفع على حاجبيه مندهشا .. ثم قال مفسرا
( لقد اشتريته مستعملا ............ )
اتسعت عينا وعد بدهشةٍ و استنكار أكبر ثم هتفت بحدةٍ أكبر
( و إن يكن !!! ...... أنا لم أمتلك هاتفا يوما و لن يحدث هذا أبدا .... ما تلك الرفاهية الفارغة ؟؟ )
أوشك حاجبي علي أن يلتصقا بمقدمة شعره ... ثم قال بهدوء
( ترفقي بنفسك قليلا يا وعد ...... و تمتعي ببعض مباهج الحياة )
قالت وعد بصلابة و هي ترمي الجريدة جانبا
( أنا أمتع نفسي بكل المباهج التي لا تكلفني ثمن هذه اللعبة الحمقاء في يدك ..... شمس مشرقة ... سماء صافية ... رائحة البحر .... مجلات لا تجرحني في ثمنها .... قماش أصنع منه أجمل الثياب .... )
خفت صوتها في النهاية تماما حين وصلت الى ذكر كلمة الثياب فتذكرت كلام سيف عن ثوبها ..... في لحظةٍ واحدة ارتسم الحزن على وجهها وهي تنهض من مكانها بشرود تتجول في الغرفة الى أن وصلت للمرآة الصغيرة ... تستطيل كي تنظر الى الفستان و هي تمسك بياقته بيديها شاردة في تفصيله ....
بينما كان علي مندهشا أكثر و أكثر .... فنهض ممن مكانه سريعا يقول
( هل أنتِ من تخيطين ملابسك ؟؟!! ...... أنتِ رائعة بحق )
الا أن وعد لم تشاركهه اعجابه و قد فقدت ثقتها بعملها في لحظةٍ واحدة ...... لا عجب اذن من أنها كانت تخرج كل مرة من عند أحدى الخياطات مصطحبة معها نفس العبارة
" لدينا عاملات زائدات عن الحد .... أعتذر "
ربما كانت واثقة من نفسها الى حد الغرور و هي تظن بأنه من الممكن أن تمتهن الخياطة ....
استدارت الى علي دون ابتسام و بتعبير حزين لتهمس رغما عنها
( لا لست رائعة ..... ملابسي لا تليق بهذا المكان )
هتف علي و هو يقترب منها أكثر ... ليلتقط كفيها و يبسط ذراعيها في حركةٍ عفوية
( هل أنتِ مجنونة !!! ..... انظري الى ثوبك !! .... انه رااااائع .... )
ابتسمت وعد رغما عنها و هي تشعر بنفسها في حاجةٍ الى تلك الكلمات , لكنها سحبت كفيها من كفيه ببطء ...و هي تقول بخفوت و بوجهٍ محمر قليلا
( شكرا لك يا علي ...... و هاتفك رائع أيضا .... لم أقصد ان أحبط فرحتك به ..... )
رد علي مبتسما بخفوت
( قريبا سوف تحصلين على واحد أفضل منه ... و سيكون جديدا لا مستعمل )
ابتسمت وعد تمط شفتيها و هي تقول بتصميم صارم
( مستحيل ....... من يشقى في جمع المال لا يهون عليه أن يضيع منها قرشا واحدا )
ضحك علي مستسلما وهو يقول بيأس
( بخيلة ....... )
ردت عليه وعد و هي تستدير بعيدا عنه ( أحمق ...... )
الا أن جزءا من عقلها شرد فجأة و عل حين غفلة مع ملك !!
فهمست بداخلها " أين أنتِ يا ملك ؟!! .....اشتقت الى تضفير شعرك .... و اشتقت اليكِ .... جدا "
شعرت بالوجوم حين وجدت نفسها لم تفعل شيئا حيال الأمر منذ فترة .... هل بدأت تيأس ؟؟ ..... هل أرهقتها حياتها المجهدة فجعلتها تنسى ملك .... أو تتناساها مدهية أن الحياة ملهاة كبيرة .. تطحن من يدور بها !! ...
لا .... لن يهدأ لها بال ...و حتى لو كان الأمر يعد معجزة فسوف تقاتل من أجل تحقيقها .... لكن من أين لها أن تبدأ .... من أين ؟؟.....
.................................................. .................................................. .............................
اقتربت مهرة تتسلل بخفة من خلف أمها التي كانت تقشر بعض الخضروات ... لتهجم عليها تقبلها بشدة ... فانتفضت منيرة شاهقة قبل أن تنفجر ضحكا و هي تهتف
( توقفي عن تلك الحركة المعتوهة يا مهرة ... لقد كبرتِ عليها و قد كبر قلبي و سيتوقف في أحدى المرات )
امتعضت مهرة و هي تتعلق بكتفيها نائمة على ظهرها
( توقفي عن ذلك الكلام ...... لا أحبه )
ابتسمت منيرة و هي تتابع عملها ببساطة و كأنها معتادة على أن تظل مهرة متعلقة في ظهرها .... ثم قالت منيرة مازحة بتعجب بعد فترة
( كيف تمكنتِ من ترك الهاتف لبضع دقائق دون أن يكلمك حسام بها ...... )
قالت مهرة عاقدة حاجبيها وو جنتها ملتصقة بظهر أمها
( هذا الحسد ......هذا الحسد هو ما يتسبب لنا في كل شجاراتنا معا )
ثم قالت بضيق
( ألن ترتاحي قليلا .... أنتِ واقفة في المطبخ منذ وقت الإفطار .... )
انبعث صوت ناعم قوي النبرات من خلفها يقول
( و لما لا تساعدينها طالما أنتِ مرهفة الحس بهذا الشكل ؟ ........ )
رفعت مهرة رأسها تنظر الى ورد من خلفها .... فقالت بحرج
( أنا كنت لأفعل ..... لولا أنني مضطرة للخروج مع حسام حالا .... نريد أن نرى بعض الأشياء للبيت )
مطت ورد شفتيها مستهزئة و كأنها كانت تنتظر تلك الإجابة .... ثم دخلت المطبخ لتعد لها بعض الشاي ... فقالت مهرة منتهزة الفرصة
( و لما لا تساعدينها سيادتك ما دمتِ في إجازة اليوم ؟؟ .................... )
قالت ورد بهدوء دون أن تتكفل عناء الألتفات اليها
( أنا خارجة أنا أيضا ........ أم هناك مانع ربما ؟؟ .... )
قالت منيرة بحزم
( لا أريد مساعدة من أيا منكما ..... آآه لو كان سيف قد وافق على طلبي و أتى لي بتلك الفتاة لتساعدني )
قالت مهرة وهي تقضم قطعة حلوى
( أي فتاة ؟............ )
ردت منيرة متحسرة
( تلك التي نظفت البيت يوم قراءة الفاتحة لكِ ....... وعد )
توقفت يدا ورد عن العمل ثم استدارت ببطىء و قد انتعش انتباهها ... بينما هتفت مهرة كالأطفال
( انها فكرة مذهلة ...... أنا أريدها كذلك يا أمي ..... انها ذات ذوق و تستطيع ترتيب ثيابي و المحافظة عليها بل و يمكن انتقائها كذلك كلما خرجت ...... أريدها يا أمي .... أريدها ارجوك ِ ..... )
هزت منيرة رأسها يائسة و هي تقول
( سيف لم يقبل بذلك ...... بالرغم من أن الفتاة جميلة ... جميلة ... جميلة .... تفهم بمجرد الإشارة ... دون حتى الحاجة للنطق .... مرتبة و نظيفة ..... و مريحة للغاية ... بعكس ام ابراهيم .... )
هتفت مهرة مذكرة
( و أم صابر ..... و أم ربيع .... انهن حتى يتجرأن عليكِ و لا يفهمن أي شيء اطلاقا .... أمي أنا أريدها أرجوكِ )
في تلك اللحظة انبعث صوت ورد هادئا ناعما .... ناعما للغاية
( كم هي فكرة رائعة يا أمي ........ أنا أيضا موافقة عليها , بل و مصممة كذلك ...... )
عادت منيرة لتهز رأسها قائلة بيأس
( يا ليت كان بإمكاني اقناع سيف .... لقد رفض بشدة , من الواضح أن الفتاة سيجرحها هذا العرض بصفة دائمة فهي تبدو ابنة عائلة محترمة مرت بظروف صعبة )
تذمرت مهرة بحنق و هي مستمرة في أكل الحلوى .... بينما قالت ورد بهدوء بعد فترة
( حسنا أنا مضطرة للخروج الآن ..... فقد تأخرت ...... تأخرت كثيرا )
ثم استدارت لتخرج من المطبخ دون أن تمس كوب الشاي .... بينما سألت مهرة أمها
( الى أين ستذهب ورد ؟؟ ........... )
قالت منيرة بكآبة
( لا أعلم ........... )
قالت مهرة مندهشة ( لماذا لا تسألينها ؟؟ ...... أم أن تلك القوانين خاصة بي أنا وحدي ؟!! )
قالت منيرة بنبرة حزن دفينة
( قدري ظروف أختك يا مهرة ..... لا أحب أن أشعرها في تلك الفترة بأنها مراقبة أو مختنقة .... أختك كبرت على تلك المعاملة ..... )
مطت مهرة شفتيها غير مقتنعة تماما .... الا أن الأمر حين يأتي الى ورد فهي تفضل الا تزيد حزن أمها حزنا فوقه .................................................. .................................................. ...........................
دخلت ورد بهدوء الى مكتب علا ... ممسكة بحافظتها الكبيرة الأنيقة ... تختال بطلتها الغامضة , ... و ما أن رفعت علا وجهها و رأتها حتى قفزت واقفة تبتسم قائلة
( مرحبا آنسة ورد .... أنرتِ المكان بوجودك .... )
ابتسمت ورد بهدوء ثم قالت ببطء رزين
( كيف حالك يا علا .......... )
ردت علا بسرعة و تهذيب
( في خير حال يا آنسة ورد ....... )
سألتها ورد و هي تنظر الي باب مكتب سيف قائلة
( هل سيف بمكتبه ؟؟ ......... )
ردت علا
( نعم ...... تفضلي بالدخول , فلا أحد بالداخل سواه )
لكن ورد بقت واقفة مكانها قليلا ... ثم قالت بهدوء و كأنها تتذكر شيئا ما
( علا ...... كنت أريد أسألك عن حال الفتاة الجديدة التي جاءت للعمل هنا ...... اسمها وعد أممممممم )
قالت علا بتهذيب تكمل
( وعد عبد الحميد العمري ..... آنسة ورد , انها لطيفة و بخير حال .... الحقيقة أنني في البداية قلقت من تشابه لقب عائلتها مع لقب السيدة منيرة ... و ظننت بأنها قريبة للعائلة ولو من بعيد .... لكن السيد سيف بعد أن وظفها تأكدت من أنه مجرد تشابه أسماء ..... )
كان كل الكلام قد تضائل و اختفى بعد ذكر اسم " وعد ... عبد الحميد .... العمري "
و أصبح كل ما يليه مجرد ثرثرة لا قيمة لها ... ابتسمت ورد لعلا ابتسامة واهية ثم همست بدون وعي
( جيد ......... )
ثم نظرت الى باب مكتب سيف ببريق انتصار قبل ان تلتفت لعلا قائلة بهدوء و ابتسامة مشرقة
( اذن اراكِ فيما بعد يا علا فسأدخل لسيف الآن ....... )
لكنها و قبل أن تدخل استدارت الى علا تقول مبتسمة
( علا من فضلك اريد كوب عصير من أي نوع لو تكرمتِ ......... )
قالت علا بسرعة مبتسمة
( حالا آنسة ورد ......... )
طرقت ورد الباب طرقتين قبل أن تدخل قائلة بابتسامتها الناعمة
( هل سأعطلك لو أخذت من وقتك القليل ؟؟ ............. )
رفع سيف رأسه عن الورق أمامه ليفاجأ بوجود ورد .... فقال بعد لحظةٍ من استيعاب وجودها
( مرحبا ورد ...... ما تلك المفاجأة الجميلة ؟؟ ..... )
دخلت ورد تقول مبتسمة
( حقا ؟؟ .......... )
رد سيف مؤكدا
( بالطبع يا ورد ...... تعالي اجلسي و اخبريني بما تريدين )
اقتربت ورد منه ببطء تتأمله مليا قبل أن تجلس أمامه واضعة ساقا فوق الأخرى ثم قالت بهدوء
( اليوم أخذت أجازة و قررت أن أمضيها خارج البيت .... ففكرت أن أمر عليك و أبهج عيني برؤيتك هنا كالعادة )
ابتسم سيف قليلا و هو ينظر اليها ... حبها بقلبه يماثله حب مهرة تماما , حتى و إن كان لا يستطيع اظهار ذلك كما يظهره ببساطة لمهرة ....
قال سيف بصوتٍ خافت
( أريد أن أفعل شيئا يبهجك بحق أكثر من مجرد النظر الي ....... )
ابتسمت ورد بجمال و هي تقول
( صدقني ..... وجودي هنا هو أكثر ما يبهجني )
التقط سيف سماعه داخلية ثم قال
( ماذا تحبين أن تشربي ؟؟ ........... )
قالت بنعومة
( لقد طلبت عصير من علا بالفعل ........ )
اهتزت زاوية شفتيه قليلا قبل ان يضغط زرا .. ثم يقول بهدوء
؛( علا ..... اطلبي من علي عصير ورد من فضلك )
ردت علا بتهذيب
( لقد سبق و طلبته سيد سيف ......... )
وضع سيف السماعه بهدوء .... وهو يحك ذقنه بيده .... فقالت ورد تؤرجح ساقها
( ماذا تفعل ؟؟ ......... )
نظر اليها ليقول بعد لحظة
( اراجع عقدا هاما .... .... )
ابتسمت ورد و أومأت برأسها ..... و بعد دقيقتين من الحديث الهادىء بينهما عن أحوالها و عملها سمعا طرقا هادئا على الباب ... ثم دخلت وعد حاملة صينية عليها كوب العصير ...
أخذت ورد تراقبها بصمت .... و قد كان الصمت في الغرفة ثقيلا متوترا ....
وضعت وعد العصير أمامها بأدب ... لكن ما أن التقت عيناهما حتى ارتجف الكوب قليلا قبل أن تتركه , فقالت ورد قبل أن تغادر
( كيف حالك يا ........... )
أمسكت وعد الصينية أمام صدرها كدرعٍ واق ... فهمست بهدوء
( وعد ........... )
قالت ورد بنعومة
( آآه نعم وعد ..... أنساه دائما ..... )
كان سيف حذر الملامح كصقر متربص ينقل نظره بينهما .... بينما كانت عينا وعد تجري فوق فستانها بتدقيق , فزاد انعدام ثقة وعد بنفسها بعد كلام سيف صباحا ...
قالت ورد ببساطة
( أتتذكرين اسمي ؟؟ ......... )
ارتبكت وعد قليلا لكنها همست
( نعم آنسة ورد .... كاسمي وعد .... لكن مع استبدال العين بالراء .... )
سكتت تماما حين وجدت نفسها تثرثر بغباء ...انها تخاف منها ... تخاف منها بشدة ... تبدو كنمرة مستعدة للإنقضاض على أيا كان ..... فحثها فجأة دافع مجنون جعلها تلقي نظرة جانبية على سيف لا تعلم سببها .. فوجدت ابتسامة تلوى زاوية شفتيه ... بينما هو ناظزا الى الورقة في يده
انه يضحك عليها !! .... كلاهما يسخر منها ....
زمت وعد شفتيها و انقبض قلبها ....خاصة مع نظرة ورد التي فقدت كل أثر للطف مع بريقٍ مخيف فهمست بوجوم
( عن اذنكما ............. )
ثم خرجت تكاد تتعثر بقدميها .....
بقت أنظار سيف معلقة بالباب قليلا قبل أن يلتفت الى ورد قائلا بخفوت
( تفضلي ....... اشربي عصيرك )
ابتسمت ورد و هي تلتقط الكوب لترتشف منه رشفة واحدة .... و بعد فترة وقف سيف قائلا بهدوء
( سأتركك لدقيقة يا ورد ..... سأتوجه للشؤون القانونية ثم أعود حالا .... )
اومأت ورد دون أن تجيب ... فخرج سيف يتركها تنظر بشرود الى العصير البرتقالي في يدها ... و عيناها سارحتان في عالمٍ غير العالم ... و الكره الذي كانت تكبته منذ دقائق بدت كالساعات أصبح الآن كطوفان جارف عنيف يكتسحها دون رحمة .... تلك الصغيرة المرتبة التي تظن أن الحياة لا تزال مفتوحة أمامها !!! ....
امسكت بقلمٍ من أقلام سيف تنظر اليه في شرودها المؤلم .... ثم نزعت غطائه ....
و فجأة وضعت الغطاء على الصينية ثم أخذت توازن كوب العصير فوقه حتى بات قاعدة الكوب مستندة الى الغطاء .....
نهضت ورد من مكانها لتضغط نفس الزر الذي ضغطه سيف ثم قالت بهدوء
( علا ...... هل يمكنك استدعاء وعد من فضلك ..... شكرا )
ثم عادت ببطء لتجلس مكانها بكل هدوء ........ تنتظر و تنتظر .... عيناها تشردان و ترجعان .... تبرقان ثم ينطفىء نورهما ......
و خلال دقائق دخلت وعد بهدوء ... قلقة متوترة .... لكنها همست ببطىء
( تحت أمرك آنسة ورد ............ )
ظلت ورد تنظر اليها قليلا .... ثم قالت مبتسمة برقة
( نسيت أن أبلغك بأن أمي تبلغك سلامها و شكرها على مجهودك في ليلة خطبة أختي ....... )
ابتسمت وعد ابتسامة مهتزة ثم همست بارتباك
( شكرا لك و لها آنسة ورد ....... ذلك من فضلكما و مبارك للآنسة الصغيرة )
أمالت ورد رأسها لتقول بخيلاء
( و عندي عرض مميز ......... أمي مصرة غاية الإصرار على أن تعملي لدينا بصفة دائما ... )
للحظات طرفت عينا وعد ... و أظلم وجهها قليلا قبل أن تهمس مستفسرة
( أعمل !! ..... ماذا !!! ........ )
ردت ورد ببساطة
( تعملين لدينا في البيت ..... و الا فماذا تعملين غير هذا !! ..... )
أخذت وعد تشعر بنفس تزايد نبضات غضبها من جديد .... مع قوة السيطرة على النفس و الأصعب هي السيطرة على ملامحها ....
اهدئي يا وعد .... لقد مررتِ بما هو أسوأ .....
أنسيتِ حين كنتِ تأخذين مقاسات سيدة في الحي ثم جاء زوجها غاضبا لسببٍ ما فطردك من البيت !! .... لماذا ألمك الآن أشد قسوة ..... أنسيتِ إهانات صاحب المعرض ؟!! ...... فلماذا تؤلمك كرامتك الآن بتلك الفظاعة ....
ابتلعت وعد ريقها قبل أن تقول بخفوت و بصوت مرتجف
( أنا لست خادمة آنسة ورد ...... أنا جامعية و ابحث حاليا عن وظيفةٍ ثابتة ..... )
رفعت ورد حاجبا واحدا وهي تقول بلهجةٍ ممطوطة
( حقا !! ......... كم هذا لطيف .... و لم تجدي وظيفة مؤقتة غير هنا ؟!!! ..... )
طرفت عينا وعد قليلا ... قبل أن تهمس بخوف
( لا أفهم ............ )
قالت ورد بنعومة الزجاج
( لا بأس ....... عامة هذا من سوء حظنا بالتأكيد ..... )
ظلت وعد واقفة أمامها تشعر بدوارٍ و إجهاد يفوق الحد ..... ليلة أمس أمضتها في خياطةٍ طويلة .. طويلة ... لا تنتهي كي تنهي عمل ثوب مطلوبا منها من أحدى فتيات الحي و تريده قبل نهاية هذا الإسبوع ,.,...
لذا فرؤية تلك الآنسة ورد بعد ارهاق ليلة كهذه أمرا ليس من حسن حظها بالتأكيد ....
قال ورد اخيرا بهدوء
( من فضلك يا وعد خذي الصينية معك اثناء ذهابك ...... )
تنهدت وعد بداخلها لكنها همست بتهذيب
( حاضر ........... )
اقتربت وعد من جانب المكتب ... و مدت يدها تاخذ الصينية , ...... لكن و دون أن تدري ما حدث .. ما أن رفعت الصينية عدة انشات حتى وجدت الكوب و قد سقط على الصينية و منها الى سطح المكتب و قد انسكب نصف العصير على الصينية .. و النصف الآخر ....... فوق أوراق سيف !!! .....
ظلت وعد للحظات ناظرة بذهول الى المأساة أمامها .... تظن بأن ما حدث هو من وحي خيالها المجهد... و بعد عدة لحظات حين لم تختفي تلك الصورة ... همست بعدم استيعاب مذهول
( ماذا حدث ؟؟!!! ...... كيف ؟!!!! ...... لست ..... )
بدأ الإستيعاب في العمل ببطىءٍ شديد ... الا انه قفز لأقصى درجات الخطورة حين سمعت الصوت قوي النبرات يأتي من خلفها قائلا بحيرة
( ما الأمر ؟؟ ....... لماذا تقفين هنا ؟؟ ...... )
قفزت وعد من مكانها بقسوةٍ تستدير اليه و قد بدت في حالةٍ يائسةٍ من الرعب .. و أخذت تهذي بهمسٍ مرتعب بينما لا تزال متمسكة بالصينية التي اخذت تقطر على ثوبها بعد أن حولتها لدرعٍ واقٍ مجددا ....
كان سيف ينظر الي سيمات الرعب على وجهها و حاجبيه ينعقدان بشدةٍ تدريجيا ... الى أن انخفضت عيناه الى ثوبها الذي كان يستقبل قطراتٍ مجهولة المصدر .... فاقترب خطوة يقول بخفوت
( ماذا بكِ ؟؟ ......... )
الا أن وعد كانت قد وصلت الى أقصى درجةٍ من التعب و فقدان القدرة على التعامل مع الموقف فلم تستطع النطق الى أن وصل سيف الى المكتب فأبصر في نظرةٍ واحدة ما حدث فبدأت عيناه في الإشتعال .... ليهتف فجأة بغضب دون حدود
( ما هذا ؟!! ......هل أنتِ غبية ؟!!!!!)
و كانت كلماته هي آخر ما تحتاجه وعد كي تدور بها الدنيا و تزيغ عيناها و تضيع حدقتاها قبل ان تضيع منهما الرؤية لتسقط بين ذراعيه اللتين تلقاتها قبل أن تتلقاها الأرض ....
هتف سيف بقلق وهو يسندها بذراع بينما يربت على وجنتها بيده الأخرى
( وعد .... وعد ..... )
قالت ورد بعينين تبرقان
( إنها تتظاهر كي تهرب بطفولية ....... )
انحنى سيف واضعا ذراعه تحت ركبتي وعد ليحملها الى الأريكة هاتفا
( ورد ..... عودي الي البيت الآن رجاءا .... )
قالت ورد ببساطة و هي تراقب وعد بفضول
( قد تحتاجني .......... )
صرخ سيف ..
( الآن يا ورد .... رجاءا )
ابتسمت ورد و التقطت حافظتها الكبيرة ثم اتجهت الي الباب قبل أن تهمس بخفوت
( فرصة غير سيعدة ..... ربما مرة أخرى )
أبعد سيف شعر وعد عن وجهها و هو يربت على وجنتها بقوةٍ لدرجة أن احمرت وجنتها قليلا على الرغم من شحوب وجهها المخيف ... بينما أخذ يقول بتوتر
( وعد ..... وعد ..... )
دخلت علا من الباب الذي تركته ورد مفتوحا لتراقب المشهد بقلق و هي تقول
( ماذا حدث سيد سيف ..... ماذا بها .... )
قال سيف بتوتر
( لا أعلم ..... لا أعلم ... لماذا لا تفيق .... )
نهض من مكانه من حافة الاريكة الى مكتبه مسرعا ثم فتح أحد الأدراج ليخرج قنينة عطره التي يضعها هناك ثم عاد اليها لينثر من عطره القوي رذاذا على فكها قريبا من أنفها وهو يمسح وجهها بيده .... قائلا بتوتر
( وعد ..... وعد ........ )
فتحت عينيها بصعوبةٍ تطرف بهما قليلا ... و أول ما أن فتحت عينيها تماما حتى اصطدمت بعيناه تطالعناها بقوةٍ تكاد أن تعري روحها .... ارتجفت تحت أصابعه و هي تهمس بعدم فهم
( ماذا حدث ؟؟ ....... )
سحب سيف نفسا خشنا قبل أن يتنهد قائلا
( أنا ن يجب أن أسألك ..... ماذا حدث ؟؟ .... لقد سقطتِ أمامي للتو )
استدار سيف الى علا التي كانت واقفة تراقب المشهد بذهول فقال بلهجةٍ حازمة
( اطلبي من طبيب الشركة أن يأتي حالا ...... )
أومأت علا بسرعة ... ثم خرجت و هي كارهة أن تترك هذا المشهد ....
عاد سيف يلتفت الى وعد ... ينظر الى وجهها بنظراتٍ غريبة ... يده تمسح خصلات الشعر الأسود من وجهها دون توقف .... حتى بعد أن رجعت الى مقرها لم تتوقف يده عن حركتها ....
ارتجفت وعد بشدة وحاولت الإستقامة قائلة
( لا داعي ..... لا داعي أرجوك ..... انها حالة اعتدت عليها مصاحبة لفقر الدم .... )
حانت منها نظرة الى سطح مكتبه من خلف كتفه العريضة فارتجفت أكثر و أكثر حتى باتت تنتفض انتفاضاتٍ صغيرة و هي تتذكر ما فعلت ....
قال سيف بخشونةٍ أكثر
( هل تعانين من فقر الدم .... )
ابعدت نظرها ببطء عما خلف ظهره لتلتقي بعينيه الحادتين كشفرتين ... فهمست ترتجف ....
اللعنة !!! جسدها يرتجف بشدة تحت كفه .... وهو غير قادر على نزعها .... ماذا بها ؟!! .... ماذا فيها ؟؟؟ ...
هل القى عليها تعويذةٍ ما ليجعلها بمثل هذا التأثير اللعين عليه ؟!! ....
انخفضت عينيه الى شفتيها الزرقاوين المتشققتين .... بعد أن تحولتا في لحظةٍ واحدةٍ من لونهما الوردي ...
حاولت النهوض بحركةٍ واهية تنبهه فيها كي يبتعد ... الا انه ظل مكانه ... وجهه قريبا من وجهها يهمس بخشونة
( انتظري ..... سيصل الطبيب قريبا , انه يأتي من مكان قريب )
رفعت عيناها الحزينتان الى عينيه ... لتهمس مرتجفة
( لا داعي ..... أرجوك .... أريد مغادرة هذا المكان ..... لقد ..... تعبت )
التوت عضل بفكه .... الا ان ملامحه بقت على جمودها , ثم همس بنفس الخشونة متجاهلا طلبها
( انها ثاني مرة التقطك فيها بين ذراعي ... هل سقطتِ في المرة السابقة مغشيا عليكِ كذلك بسبب مرضك ؟؟ .... )
رمشت محاولة تذكر ما يقصده بصعوبة .... و ما ان استطاعت حتى همست بسرعة
( .ماذا ؟؟.. لا ... لا ... لقد تعثرت بدرجة سلم ......, و .... فقر الدم , لا يعتبر مرضا .... انه شيء عادي ... )
همس سيف بخشونة ... وجهه قريبا منها للغاية
( هذا في مخيلتك فقط ........ )
ارتجفت شفتاها قليلا تحت ناظريه الحادين .... فهمست بصوتٍ يكاد أن يكون نحيبا
( أرجوك .... أريد أن أنهض .... أريد أن ..... أغادر ...... )
لكنه لم يستجب ... و لم يبتعد .... فأعادت عينيها خلف ظهره , لترفع يدا مرتجفة الى فكها هامسة بلا وعي تقريبا
( أوراقك ......... )
همس سيف بعد فترة ذهولٍ منها يمتع نفسه قليلا بتأمل تعبيراتها الشفافة
( يوجد منها نسخا عدة في حاسوبي ........ )
الا ان وجهها لم يطمئن و كأنها لم تسمعه .... و لم تعودا عيناها من ضياعهما .....
"حافظي على حزنهما قدر استطاعتك .... و ابقي على انسدال جفنيهما كشمسين تقتربان من المغيب "
كل ارتجافة تمر بها كانت تسري في جسده قبل أن تغادرها تماما ..... جالسة أمامه على الأريكة وجها لوجه ....... نصف مستلقية و ساقيها ممددتين أسفل ذراعه الممتدة الى ظهر الأريكة ....... من حولها ..... من فوقها ......محاصرا لها وهو يجلس على حافة الأريكة يكاد أن يلفحه دفءها على الرغم من ارتعاشها الواضح ...... عيناها ذابلتان ضائعتان ...... و شفتاها مرتعشتان ....... بدا في النهاية مضطرا لرفع يده الخائنة عن خصرها ............ لكن لتتحرك ببطىء الى احدى كفيها المتشبثة بحافة الأريكة و هي تحاول الهرب جديا ،، بينما هو لا يسمح لها ...... قبضت يده عليها ....... تخفف من تشبثها اليائس بالأريكة ...... و ما أن خف تشنجها حتى وجدها ناعمة في يده ........ ضغيفة ...... مرهقة ككل ما فيها ...... رفعها ببطء و عيناه تحاولان استحضار عينيها من ضياعهما الحالي ..... ثم أخفض نظره لكفها الصغيرة ..... كانت بيضاء للغاية ...... بأظافر رقيقة شفافة ...... معقوفة قليلا دليلا على مرضها ...... لكنها كانت رائعة ....... قلب كفها مستشعرا النبض في باطن رسغها ...... آملا بدافع مجهول أن يكون متسارعا ...... متقافزا مجنونا ...... لكنه كان بطيئا ....... مما أحدث بداخله شعور بال ....... الإحباط ...... استفاق أخيرا على صوتها يهمس من جديد
من فضلك ...... أريد النهوض) )
أخذ وقته في الرد ....... ناظرا بملامح لا تعبير لها سوى الجمود ، قبل أن يقول بخشونة خافتة
لن تذهبي لأي مكان قبل وصول الطبيب ......) )
همست بحدة مجهدة ....... نافذة الصبر قليلا و كأنها بدأت تفقد أعصابها على الرغم من تعبها
) لن أرى أي طبيب ...... من فضلك دعني أنهض ....... أخبرتك هذا أمر طبيعي )
لم تلين ملامحه و لم تظهر شيئا باستثناء أنها ازدادت صلابة ..... بينما هي كانت تجيل عينيها في كل اتجاه ما عدا عينيه ...... لقد بدأت تتوتر لذا اتخذت القرار بأنا بدات تسحب ركبتيها الى ضمتهما الي صدرها متجاوزة ذراعه ثم رمت نفسها واقفة بسرعة ....... لكنها ما أن فعلت ذلك حتى وجدت نفسها تتعثر قليلا و هي ترمش بعينيها عدة مرات مقاومة الدوار المفاجىء ....... و كان هو سريعا كذلك حين نهض واقفا أمامها يسندها الى أن تمكنت من الإستقامة ..... ثم قال أخيرا بفظاظة
هل هناء المزيد من الغباء أم أنك قد اكتفيت ؟؟ ......). )
لم ترد وعد و لم ترفع رأسها الى رأسه التي تعلوها ...... بينما كانت تنظر أي ثوبها الذي ناله ما ناله من العصير المشؤوم ...... فقال و نظرته تتبع خط سير نظرتها .......
يمكنك أن تنظيفه في الحمام هناك بآخر المكتب ....... ))
نظرت وعد بصمت الي الباب الصغير الملحق بمكتبه ...... ثم همست بسرعة
) لا داعي ...... شكرا لك ..... سأذهب الى الحمام الملحق بغرفة السعاة )
لم تلين ملامح سيف و هو يقول بلهجته المتصلبة
....)!! بالله عليك الا تفعلين شيئا في حياتك أفضل من المجادلة ؟ )
زمت وعد شفتيها بينما ظلت واقفة مكانها كحصان عنيد الرأس يرفض التحرك
حينها زفر سيف بنفاذ صبر و هو يعتقل ذراعها بكفه ليسحبها ناحية باب الحمام قائلا بصرامة
(نظرا لعدم تقدير مقدار ضبط النفس الذي التزمه بعد كل تلك الفوضى التي تسببتي بها ..... فسأضطر لشرح ما أريد عمليا)
جرها عدة خطوات قبل أن يتركها تسير بفعل القصور الذاتي من دفعته ...... لكنها لم تستطع منع نفسها من الإستدارة اليه مواجهة عينيه بنظرة غضب غير معتادة من عينيها ..... فنظر اليها بتحدي ان تتجرأ و تظهر غضبها للعلن .... فاستمرت نظرتها عدة لحظات قبل ان تستسلم و تخفض رأسها ..... تستدير لتتجه الى الحمام ...... لكن و قبل أن تدخل سمعته يقول ببساطة
) لا تحكمي غلق الباب ...... )
اتسعت عيناها للحظات ...... و هي تظن بأنها تتوهم ما سمعته للتو ..... فهمست بذهول و غباء
) ماذا ؟!! ............ ،)
لم تتغير ملامح سيف و هو يعيد ما قاله
( لا تحكمي غلق الباب ..... فربما أصبتِ بالإغماء مجددا , و الباب الخشبي غالي الثمن هذه الأيام كي أكسره من أجلك .... )
ظلت عيناها على حالهما .... متسعتان ... مذهولتان ... بينما بدأ وجهها في الإحمرار تدريجيا حنقا و حرجا ... فقال سيف ببساطة بريئة حين لاحظ صمتها .....
) لا تخافي .... لن أفتح الباب و انت بالداخل ......... لك كلمتي )
احمر وجهها بشدة أكثر و أكثر ..... حتى كاد أن ينفجر بالدماء الثائرة أسفل بشرتها الرقيقة الشفافة ....... فهتفت بارتباك و غباء دون تفكير
) أنا لن أفعل شيئا أكثر من مسح ثوبي بمنشفة مبللة .........و أنا أرتديه )
رفع احد حاجبيه ليسألها ببساطة
) هل هذا معناه عدم ممانعتك في دخولي ؟!! ....... لا بأس ...... إن احتجت لمساعدة ما عليك سوى استدعائي )
ألجمتها الصدمة و ازداد احمرار وجهها بشدة قبل أن تهتف بعنف
) ( هذا ليس مضحكا ..........
ثم استدارت لتسرع الخطا المتعثرة الى الحمام صافقة الباب من خلفها بقوة ...... بينما تركته واقفا تعلو وجهه شبه ابتسامة و هو يراقب الباب المغلق ...... ثم همس بصوت غير مسموع
) فقط قومي باستدعائي ....... لكن اياك أن تسقطي أرضا )
استدار عن الباب مبتسما وهو يفكر بشيء واحد
متعة ..... حملها متعة .......
اختفت ابتسامته قليلا ...... و قد بدأ يشعر بالغرابة ......
فإن كان تقبُل متعته في حملها كأي رجل ناضج محبط مثله يعد أمرا طبيعيا مقبولا ... بفعل الفطرة ...... لكن ما معنى الشعور بالرضى من تمني الذهاب سريعا قبل أن يأتي الطبيب ليتعذر بحجة جديدة كي يصطحبها في سيارته؟!!
تجهم وجهه قليلا و بقى رافضا الجواب لعدة لحظات ....
ثم اتجه الى مكتبه بدون جواب محدد قبل أن يضغط على الهاتف الخاص ليقول بصوت لا معنى له
) علا ...... اعتذري للطبيب ، وعد أصبحت بخير ..... انه مجرد هبوط )
انهى الاتصال قبل أن يسمع ردها الحائر ...... ثم التقط سترته المعلقة على ظهر كرسيه ليرتديها بسرعة .......
و جلس بهدوء ........ ينتظرها !!!! ...........
.................................................. .................................................. ................................
أمسكت بالمنشفة السوداء .... منشفة سوداء ؟!! .....
ما تلك الكآبة ؟!! ..... من يكلف نفسه عناء شراء منشفة سوداء ؟!! .... تماما كرخام الحمام المدرج من الأسود اللامع حتى الأبيض القريب من السقف ....
تعلمت دائما أن تكون الحمامات بلون ازرق فاتح ..... فماهذا الحمام الفخم ؟!!! ......
تستطيع أن تفهم أن يهتم بأثاث و ديكور مكتبه حيث يقابل عملائه .... لكن كم دفع يا ترى في سبيل تجهيز حمام جانبي فخم كهذا ؟!! .....
بللت المنشفة السوداء بشرود .... ثم اقتربت بها من البقع المتنشرة على ثوبها بتردد خائف .....
ماذا لو نضحت المنشفة السوداء المبللة بلونٍ أسود على ثوبها السكري ؟؟؟ .....
سيكون الثوب حينها قد أصبح في خبر كان .....
اقتربت كفها القابضة على المنشفة ترتجف من قماش ثوبها السكري .... و هي تهمس بحنق
( لو تلون بالأسود سأقتله ...... )
ثم بدأت تمسح ثوبها أخيرا بحذر ... ثم تضغط قليلا ... حينها وجدت أن الوضع آمنا ... فأخذت تمسح ثوبها بالمنشفة المبللة بضمير ...
جيد .... خامة المنشفة جيدة و لا تنضح باللون .... منشفة غالية الثمن ...
مبذر حتى بمناشفه !!! ....
شردت وهي تنظر الي ثوبها ... تمسحه بقوةٍ أخذت تتزايد أكثر و أكثر .... وهي تعض على شفتها السفلى
" لقد نعتها بالغبية ..... لقد صرخ بها "
و كانت أخته موجودة ..... لم تصل الإهانة بها من قبل الى مثل الدرجة ..... لقد مرت بمواقف مهينة كثيرة , لكن لم يسبها أحد أرباب عملها من قبل سبابا صريحا ..... لم تكن لتسمح لهم .....
كانت تتنفس بقسوة .... وهي تستعيد الآن كامل وعيها و قوتها ..... كيف سكتت له ؟!! .....
عامة لقد انتهى عملها هنا ..... كانت خطوة فاشلة و توجب عليها أن تدفع ثمنها ......
رفعت عينيها الحزينتين الى المرآة أمامها للحظةٍ و هي مستمرة في عملها .... فانبعث صوت بداخلها يهمس الى عينيها الناظرتين من المرآة
" لكنه طمأنك بأنه يحفظ غيرها ..... كما أصر على طلب الطبيب , لمجرد أن ساعية أصيبت بالإغماء !!"
ظهر طيف ابتسامة على شفتي وعد و هي تفكر بأن المدعو سيف الدين المرعب ... يحوي بداخله القليل من الطيبة و الحنان .... من المؤكد انه قد ورثها من والدته ....
لولا استسلامه الساذج للماضي الذي يسمح له بأن يتحكم به لتلك الدرجة , لكان أصبح شخصا مميزا بحق ...
حتى انتقاماته منها ساذجة .... جارحة لها طائشة , الا ان رجلا بمثل عمره يسعد بأن يلقي عليها بعض الأوامر ... و يمتمتع بمحادثتها بفظاظة ..... لا بد و أن بداخله شخص ساذج !! ....
اخذت ابتسامتها تبهت قليلا و هي شاردة في صورتها .... الواقع أنها تحملت أكثر بكثير مما يفعله ....
حتى اكثر من صراخه بكلمة غبية امام شقيقته .....
و كي ينال منها في مقتل , لا بد له أن يبذل جهدا اكبر بكثير مما يفعله حاليا ......
لابد له أن يتعلم من خاله كي يستطيع أن ينال منها ......
عبد الحميد العمري هو الوحيد القادر على ايلام روحها و بشدة .......
رغما عنها شعرت نوعا ما بشيءٍ يشبه الشفقة تجاه سيف ..... انه يحاول استرداد حق الظلم الذي نال اسرته سابقا ... لكنه يبدو كطفلٍ ضائع ..... يقسو عليها في حين , ليظهر معدنه الأصيل في حينٍ آخر و يمنحها بعض العطف ....
عادت وعد لتبتسم قليلا و هي تفكر
" لا يستطيع أن يظل نذلا الى نهاية الموقف ...... هذا ما خبرته أثناء التعامل معه "
أخفضت نظرتها الي الثوب الذي تقوم بتنظيفه ... و الابتسامة لا تزال تداعب ثغرها .... لكنها تشنجت حين وصلت المدعوة ورد الي تفكيرها ..... تلك المرأة تحديدا , لا تشعر بأي شفقةٍ تجاهها ....
بالعكس .... انها تخاف منها ......
زمت وعد شفتيها و أظلمت ابتسامتها و هي تهمس
( عامة ...... عملي هنا قد انتهى ..... لدي حياة أحاول الهرب اليها , و بقائي في لعبة الماضي تلك تعيق خطواتي ...... ليس لدي الوقت أو الطاقة لمثل تلك التفاهة .... )
بعد أن أخذت نفسا عميقا و هي راضية عن قرارها .... وجدت بأنها قد بللت الثوب اكثر من اللازم .. بمنتهى القهر !!
.................................................. .................................................. ..............................
خرجت وعد بخطواتٍ بطيئة ... عيناها تسبقها تجولا في المكان , بحثا عن التنين ......
الى أن وجدته قابعا في كرسيه .... مستندا بظهره في ارتياح واضح , واضعا ساقا فوق أخرى بخيلاء ....
مسندا سبابته الى فكه منتظرا ..... ناظرا الي باب الحمام و كأنه ينتظر أن يقتنصها بنظرة من عينيه ليرديها قتيلة ....
تلجلجت بمكانها و هي تتلاعب بأصابعها .... لكن و قبل أن تتكلم , سبقها قائلا وهو رافعا احدى حاجبيه و عيناه تهبطان الى ثوبها المبلل
( لقد غسلتِه بضميرٍ منقطع النظير !!! ....... )
اخفضت نظرها الى الثوب الملتصق بخصرها فأخذت تبعده بأصابع مرتبكة و قد احمر وجهها قائلة لتغير الموضوع بسرعة
( سأنصرف الآن ...... و ..... اعتذر مجددا عن كل ما .... تسببت به من فوضى )
نهض من مكانه بهدوء وهو يقول ببساطة
( هيا لأقلك في طريقي ........ )
تسمرت مكانها للحظة , ثم قالت بسرعة
( ماذا ؟!! ...... لا .... لا ..... أشكرك , لا داعي لذلك )
لم ينفذ صبره كالعادة .... بل قال بهدوء ناظرا نظرة ذات مغزى الي ثوبها المبلل
( هل تنوين استقلال مواصلات عامة بتلك الصورة ؟؟ !! ....... ربما لو كنتِ قد التزمتِ و ارتديتِ ثوبا أكثر سمكا من هذا لما كنتِ في مثل هذا الموقف الآن ......انظري كيف تشرح الظروف مقصدي بمنتهى السرعة )
احمر وجهها و ازداد حنقها الداخلي بدرجةٍ رهيبة .... فقالت بعد فترة من محاولة كبت غضبها
( لا تشغل بالك سيد سيف ....... و شكرا على الإهتمام )
هز سيف كتفه ليقول ببساطة
( ليس اهتمام بوجهٍ خاص ..... لكن للأسف , لسببٍ ما جعلتني الظروف مسؤولا عنكِ )
رفعت عينيها اليه وقد فقدت الكثير من غضبها مقارنة بالحيرة التي ظهرت بهما من كلامه الغريب ... فهمست بتعجب
( ماذا تقصد ؟!! ................. )
لم يرد سيف للحظات وهو يستدير متجاهلا اياها ... فظنت أنه قد تراجع عن موقفه الكريم المبالغ به , الا أنه قال بهدوء قبل خروجه من الباب ...
( هيا بنا ....... ..... )
خرج بعد كلمته الآمرة دون أن ينتظر المزيد من ردها ... بينما وقفت تنظر الى الباب قليلا و هي تشعر بعدم الراحة من كل ما يحدث . الا أنها في النهاية لم تجد بدا من أن تتبعه بصمت ... و هي تمر بمكتب علا سكرتيرته و التي كانت تنظر اليهما بدهشة و فضول ... ثم سألت وعد
( هل أنتِ بخير الآن ؟؟ ........ )
أومأت وعد برأسها و بابتسامة مهتزة قليلا ... الا أن صوت سيف جاء مقاطعا من خارج مكتب علا
( هيا يا وعد ......... )
ازداد ارتباكها أمام فضول علا الذي تزايد .... فأخفضت رأسها لتسير متعثرة خلفه مسرعة .........
بعد أن جلست بسيارته استطاعت هذه المرة من تثبيت حزام الأمان وحدها و كأنها قد اعتادت على المكان .... ثم التفتت الى مراقبته أثناء تحركه بالسيارة .... أكثر ما لفت انتباهها المرة السابقة هو تعامله بسلاسةٍ مع السيارة أكثر من تعامله مع البشر .... يبدو وكأنها جزءا منه .... تفهمه و يفهمها ..... حركاته مع المقود تبدو جميلة !! ....
حانت منه نظرة اليها و هي تراقب يديه تتحركان .... فقال بخفوت
( ما الأمر ؟؟ ........... ربما لا تعجبك قيادتي ؟!! )
ارتبكت قليلا ... ثم همست بخفوت
( لا .... انها جيدة ........ )
مط سيف شفتيه سخرية وهو يومىء برأسه امتنانا للكلمة الفائقة الكرم ..... ثم سألها بهدوء
( هل تعجبك السيارة ؟؟ ....... )
كان بداخله ينتظر ردها بالرغم من معرفته بالجواب مسبقا ... من نظرات عينيها .... في المرة السابقة و الآن .....
اعجابها بالأشياء العادية يكاد يكون انبهارا خفيا .... لا يظهر سوى من نظرات عينيها ...
لكنها أجابت بخفوت و دون تعبير معين
( لا بأس بها .......... )
ارتفع حاجبي سيف عاليا وهو ينظر الى ملامحها المرتبكة ثم أعاد نظره الي الطريق ليقول مبتسما بهدوء
( مجرد لا بأس بها ؟!! ...... )
نظرت وعد الي ابتسامته بدهشة خفية ... ثم أخفضت رأسها لتقول بخفوت
( إنها جميلة ......... )
ضحك سيف بخفة ليقول بهدوء
( جميلة ؟!! ....... وصف غريب لسيارة ظللت أفكر في مواصفاتها لعدة أشهر , ثم أسمع وصف يليق بسيارة فتيات وردية اللون .... لربما وضعت بها بعض الدمى من الفراء في المرة القادمة ... )
أفلتت منها ضحكة صغيرة من بين شفتيها .... لكنه سمعها فنظر اليها بدهشةٍ عاقدا حاجبيه وهو يتأكد مما سمعه للتو .... فتأكد بالفعل وهو يراها تضغط على شفتها بأسنانها محاولة أن تكبت تلك الضحكة قبل أن تدير رأسها الى النافذة بجوارها ....
إنها تضحك اذن مثل باقي البشر !!!
ابتسم سيف وهو ينظر أمامه .... متابعا قيادته بصمت , مستمتعا بذلك الشعور بالغرابة الذي يجتاحه حاليا .....
الجلوس بجوارها ممتع .... مريح ..... حين يتناسى من تكون .... حين يفكر بها كوعد .... مجرد وعد دون لقب أو عنوان ....
يجد نفسه حينها مرتاحا ....
اهتزت ابتسامته قليلا ... و عقله يعود ليشده للواقع , الا أنه أحجمه بالقوة .... حاليا على الأقل .....
طالما أنه مرتاحا الآن , فليتمتع بتلك اللحظات ....
قال أخيرا بهدوء كي يقطع الصمت بينهما
( ماذا تناولتِ على الإفطار اليوم ؟؟ .......... )
التفتت اليه بدهشة ..... و ظلت تنظر اليه طويلا قبل أن تتنازل و تقول بحذر
( لا أتناول اي أفطار عادة .......... )
قال سيف ببساطة
( توقعت هذا .......... و ربما لا عذاء و لا عشاء كذلك ..... )
قالت وعد تهز كتفيها و كأنها تحادث طفلا صغيرا
( و كيف سأبقى على قيد الحياة إذن ؟!! ....... بالغاز الطبيعي ؟!! )
نظر اليها سيف نظرة جانبية ,.... ليقول رافعا احدى حاجبيه
( وصاحبة روح فكاهية كذلك ؟!!!...... كل يوم اكتشف بكِ شيئا جديدا )
ارادت الرد " و أنا كذلك ...... "
الا أنها أمسكت بالكلمات قبل أن تهرب من بين شفتيها ....ثم عادت تلتفت الى النافذة بجوارها مقررة أن تنهي هذا الحوار ....
شعور مفاجىء بالإرتعاش داهمها حين بدأ مكيف السيارة في تبريد خصر ثوبها المبلل فتحول مع مرور الدقائق الى طبقة جليد حول وسطها .... عظيم ... الآن ستعاني الليلة بكاملها من وجع لا يطاق في عضلاتها الضعيفة بسبب البرد
سمعت صوته يقول بنبرة عميقة
( هل تشعرين بالبرد ؟؟ ......... )
التفتت اليه بسرعة لتقول كاذبة
( لا أبدا ............. )
بينما كان زجاج النافذة بجوارها قد بدأ في تكوين طبقة ضبابية بفعل المكيف العالي ... و ذراعيها كانتا تحاوطان خصرها مما جعل ارتجافها واضحا ....
حينها لم يأبه لردها الساذج .... فأطفأ المكيف و قام بفتح زجاجي نافذته و نافذتها بضغطة زر .... حينها بدأ هواء الصيف الدافىء في الدخول الي السيارة كي يهدىء قليلا من ارتعاشها .... ماعدا كفيها اللذين ارتجفا و هما تلمسان بشرة ذراعيها ....لم تعتد تلك المعاملة من قبل !! ... فهمست بخفوت دون أن تتجرأ على النظر اليه
( شكرا ............ )
انتظر قليلا قبل أن يقوله بصوته العميق
( على الرحب ....... )
و خلال دقائق وجدته يوقف السيارة بجوار غرفة خشبية صغيرة لبيع الحلوى .... ليخرج من السيارة دون أن يعيرها أي اهتمام بكلمة واحدة .... و رغم امتعاضها , ظنت أنه ربما ذهب ليشتري سجائر له ربما ....
لكنها لم تستطع منع نفسها من مراقبته من نافذتها .... هو و جو السيطرة المحيط به و المناقض للكوخ الخشبي الصغير .... حتى البائع بدا متسارعا محترما لهيمنة ذلك الضخم الواقف أمامه ....
ثم أخذت تتابع ذلك الكيس البلاستيكي الأبيض الذي أمسك به ... ليقوم البائع بملئه بمختلف أنواع الحلوى البسيطة من بسكويت و شرائح بطاطس .و عدد من الشوكولا .. و علبة عصير ....
ثم وجدته راجعا بعد أن أعطى للرجل ورقة تبدو أكثر قيمة بكثير مما اشتراه بالفعل .....
فتح الباب ليجلس بقوةٍ مما جعل السيارة تقفز مجددا ككل مرة يجلس فيها ... و دون كلمة وجدته يلقى بالكيس في حجرها !!! ..... ثم يتحرك بالسيارة بمنتهى الهدوء !!..
نظرت الي الكيس مجددا تتأكد من وجوده ..... ثم قالت أخيرا بذعر و كأنها تمسك فأرا
( ماهذا ؟!! .......... )
رد عليها بهدوء دون أن ينظر اليها
( مفرقعات ........... )
و من حيث اللا مكان وجدت نفسها تقول
( و تمتلك روح فكاهية أيضا !! ........ )
نظر اليها عاقدا حاجبيها مندفعا ... فألجمتها صدمة ما قالته للتو !!! .... انها تمزح معه !! .... تمزح مع سيف الدين فؤاد رضوان ..... ذلك الذي يود لو يخنقها في أية لحظة ... فهمست ترتعش من جديد
( آسفة ...... لم أقصد ..... )
ظل ينظر اليها عدة لحظات بملامح قاسية و حاجبين منعقدين .... فازداد امتقاع وجهها , قبل أن ينظر أمامه .... و لم ترى طيف الابتسامة اللذي ظهر على زاوية شفتيه .... في الجانب الغير مواجه لها من وجهه .....
ثم قال بصوتٍ آمر
( هيا كلي ........)
ارتبكت أكثر و تلعثمت و هي تنقل نظرها منه الى مجموعة الحلوى ثم قالت بسرعة و هي تحاول أن تمد له بها
( لا .... لا ...شكرا لك .... لن أقبل بهذا .....)
نظر اليها لفترة نظرة مخيفة قبل أن يقول بصوت خافت ..... مخيف ....
( وعد ........ كلي )
ارتبكت أكثر بكثير ... ثم أخذت نفسا مرتجفا لتهمس متلجلجة
( اذن سأدفع ثمنها ..........)
لم ينظر اليها هذه المرة , الا أن ملامح وجهه الجانبية كانت متصلبة ... فزادت من ارتجافها , ثم قال أخيرا بنبرةٍ خافتة
( أنتِ قليلة الأدب ..... هل أخبرك أحد بذلك من قبل ؟؟ .... )
لم ترد و هي تنظر اليه بأدب و خوف .... فتابع بهدوء و هو يستدير بالسيارة و كأنه يراقص المقود
( لو امرءة أخرى عرضت مثل هذا العرض لكنت طردتها من السيارة ...... )
اخفضت وجهها و نظرت في حجرها و قد احمر وجهها متخيلة عدد النساء اللاتي يركبن بجانبه .... و يشتري لهن حلوى !!.....
عضت شفتها مرة أخرى تمنع ابتسامة خجل .... ثم قررت تناسي تلك الأفكار المضحكة بمد يدٍ خجولة لتفتح الكيس ... ثم عقدت حاجبيها و هي تفكر
" كل هذه حلوى !!! ...... واضح أن التبذير عنده هو اسلوب حياة !! "
ثم أمسكت ببسكويتة لتفتحها بحرج .... و كان صوت فتح ورقتها يبدو في السيارة كقصفٍ عالٍ من شدة احراجها من الموقف ....
ما هذا اليوم ؟!! ..... انها لا تزال غير مصدقة لما تمر به الآن !!
سيارة رائعة .... و مجموعة من الحلوى في حجرها ... و هي تتفرج من النافذة بتمتع ....
لكن الأغرب من هذا كله أن شريكها في الحلم ...... هو سيف الدين فؤاد رضوان !! ....
كانت تأكل بصمت و هي تنظر من النافذة الى البحر .... و لدهشتها وجدت نفسها تشعر بجوع رهيب , على الرغم من أنها لا تأكل أبدا خلال اليوم ....
وضعت الورقة الفارغة في نفس الكيس بحذر كي لا تسقط أي فتات على مقعد السيارة ..... ثم مدت يدها بتردد و خجل الى واحدة أخرى .... لكن و قبل أن تفتحها نظرت اليه بحرج .... ثم مدت يدها بالكيس لتقول بخفوت
( تفضل ؟......... )
لم ينظر اليها ... لكنه قال ببساطة
( افتحيها لي ........ لكن اشربي انتِ العصير )
أعادت الكيس الى حجرها ثم أخذت تفتح واحدة بحذر .... لتسلمها له .... ظلت يداه على المقود للحظتين ثم مد يده يأخذها منها ....ملامسا يدها , فأبعدتها بسرعة ....
التفتت الى بسكويتتها , لكنها لم تستطع أن تمنع نفسها من النظر اليه ..... لتجد أنه قضم نصفها , ثم دس النصف الآخر معه ..... في نفس الفم !! ......
لقد أكل البسكويتة كلها في فمٍ واحد !! ...... بينما كانت ممسكة ببسكويتتها الهشة ... و التي تزين زاويتها قضمة صغيرة منها و كأنها قبلة بريئة !!! .....
أعادت وعد عينيها الى حجرها بسرعةٍ قبل أن يضبطها تنظر اليه ......
و استمر الصمت بينهما قليلا .... ثم قررت الهمس أخيرا بشجاعة
( اسمع ......احم .. سيد سيف , لم يتسنى لي أن ..... اقدم لك اعتذار لائق على الكارثة التي تسببت بها في مكتبك )
توهمت أن ملامحه لانت قليلا .... لكنه حين تكلم كان صوته بلا تعبير
( حسنا ........ هاتي الإعتذار اللائق ..... )
ابتلعت ريقها ثم همست بقنوط
( أنا آسفة ............. )
ظل صامتا قليلا عاقدا حاجبيه ... منتظرا !! .... و حين تأكد أنه ليس هناك المزيد أرجع رأسه للخلف هاتفا
( ياللهول !!! ........... هذا كثير بحق !!..... بالنسبة للعقود الهامة التي نالت من كرم استضافتك , فان تلك الكلمة كثير بحق ....... لم يكن هناك داعٍ لمثل هذا التكليف ... )
ابتسمت وعد وهي تدير رأسها للنافذة بجوارها تود الهرب من جو المرح الغريب هذا ..... ماذا به ؟!! .... هل هو متعاطٍ احد انواع المكيفات ؟!! .....
الا أن تلك الدقائق الغريبة المقتطعة غدرا من الزمن آن لها أن تنتهى .... فأخذت نفسا عميقا قبل أن تقول بخفوت
( سيد سيف ......... انت تضع نفسك في موقف غريب بمثل هذا التقارب ..... )
صمتت قليلا بخوف ... و هي متأكدة من أن قصدها قد وصله واضحا , و حين طال الصمت .... تجرأت على النظر اليه ....فلم تلاحظ تغييرا يذكر على ملامحه الا أنها كانت واثقة من أن خطوط وجهه قد اشتدت ....
حين تكلم أخيرا قال بهدوء فاتر
( لقد كبرت قليلا على أن أهتم بما يعتقده الناس .......... )
فتحت شفتيها و ترددت .... ثم نطقت أخيرا بهدوء
( لكن أنا أهتم ........... )
نظر اليها فجأة نظرة غريبة ..... أجفلتها , و ألجمتها الصمت ..... ثم عاد ينظر أمامه لفترةٍ طويلة قبل أن يقول بهدوء جليدي
( يبدو أنكِ قد تغاضيتِ عن واقع ملح ...... على الرغم من رفض كلانا له ..... وهو أنكِ تكونين في الواقع .... ابنة خالي ...... )
لم تخدعها أذنها و هي تلمح نبرة الاشمئزاز التي رافقت الصفة الأخيرة دون إرادة منه ..... فأخفضت نظرها لتقول بخفوت
( لكن معظم من حولنا لا يدرك ذلك ........ لذا فالمزيد من تلك المواقف التي أشكرك على الشهامة بها , الا أنها تعطي فكرة سيئة للغاية .......... )
لم يرد عليها للحظات طويلة .... ثم قال أخيرا مبتسما دون مرح
( و ما هي تلك الفكرة السيئة اذن ؟...... هل تعتقدين بأنهم قد يظنون أننا ...... مرتبطان مثلا !!! ..... )
تصلبت ملامحها .... و شعرت بسخريته الخفية تجرحها بشدة كشفرةٍ حادة ..... فظلت تنظر اليه طويلا بلا تعبير ,
بالطبع يهزأ منها من هذا التخيل الذي طرأعلى باله هو .... لا بالها هي ....
فقررت أن تصحح له ظنه عن مدى جموح خيالها , فقالت بهدوء
( الارتباط !! .... انه الظن الأكثر رقيا بين مدير و موظفة لديه ..... لكن و بما اننا نتحدث عن مدير يصطحب مجرد ساعية عنده ..... فالأمر حينها يأخذ أبعاد أخرى أخجل من أن أذكرها ....... )
صمتت تلهث بكبرياء جريحة و هي تنظر من نافذتها و قد فقدت شهيتها ... و عاد الصمت ليسود قليلا , قبل أن تسمعه يقول بخشونة
( تتحدثين أكبر من عمرك ......... )
ردت وعد بسخريةٍ فظة دون أن تلتفت اليه
( نعم ..... تماما كشكلي ..... )
عقد حاجبيه قليلا ثم قالت باستفهام
( ماذا ؟!! ...... ماذا تقصدين ؟؟ .... )
لم ترد عليه و قد شعرت في تلك اللحظة بالطفولية من ردها السخيف ... فردت بخفوت
( لا شيء ....... هل يمكنك أن تنزلني هنا من فضلك ؟ ..... و شكرا لك على كل شيء )
تجاهل طلبها تماما .... ثم قال بهدوء ليثنيها عن الأمر مكررا نفس جملتها
( لم يتسنى لي من قبل أن أشكرك شكرا لائقا على مساعدتك لأمي ...)
نظرت اليه بدهشة ... و ارتبكت بحرج , ثم تلعثمت قائلة
( لقد كان ..... عملا , و لا يستدعي الشكر ...... )
رد سيف بخفوت
( و مع ذلك لقد جعلتِ اليوم اسهل بكثير لها ...... حتى أنها لم تعتبره عملا ..... )
صمتت وعد و هي تشعر بانفعال قوي .... ثم همست أخيرا
( امك ...... لطيفة جدا ,, ... جدا في الواقع )
لم يطرأ تغيير على ملامحه القاسية ... ثم قال بخفوت
( و هي أيضا تظنك لطيفة جدا ..... و تبلغك سلامها و ..... )
قاطعته وعد بهمس تشعر بسعادةٍ خفية من تلك المعلومة مما جعل ألم ما ستتفوه به أقل
( نعم أعلم ..... و قد عرضت أن أعمل لديكم بصفة دائمة ........ )
عقد سيف حاجبيه بشدة و اندفع رأسها اليها بقسوةٍ وهو يسأل بخشونة
( كيف ؟؟!!! ......... )
الا أنه لم ليبث أن همس لنفسه بحنق ( ورد ......... )
ارتبكت وعد بقوة ..... الم يكن ينوي أن يخبرها بهذا العرض ؟!!!! ...... لقد تعثرت في الأواني و أحدثت كارثة بالإيقاع بورد بمثل هذا الشكل ..... لكن من أين لها أن تعلم ؟!!
لكن سيف قاطع تفكيرها وهو يقول بخشونة
( أمي لا تعرف من تكوني ..... لذا لم أكن لأعرض هذا العمل عليكِ بصفة دائمة )
اتسعت عينا وعد بذهول .... هي يبدو ما قاله للتو كاعتذار ؟!!!!!!!!!! ..... ظلت تنظر اليه طويلا غير مصدقة
ثم همست أخيرا كاذبة و محاولة أن تلطف الجو
( لا بأس ..... أنا لم آخذها بمحمل شخصي ....... العمل ليس عيبا , أنا أعمل منذ سنوات طويلة .... و حتى قبل انهاء دراستي )
لم يرد .... و لم ينظر اليها .... لكنه قال بعد فترة بسخرية
( يبدو أن أمي محقة بخلاف ظني ..... في كونك لطيفة )
امتعضت وعد قليلا ..... لكنها ابتسمت رغما عنها و هي تطرق برأسها ... ثم همست بعد فترة شرود
( أنت محظوظ بها ............ كنت أتمنى أن احظى بأمٍ مثلها )
عقد حاجبيه قليلا وهو يسمعها .... انها المرة الأولى التي تصف فيها شيئا من مشاعرها الداخلية ... لكنه كتم شعوره ثم سأل مستغلا الفرصة بعفوية
( اين هي أمك بالمناسبة ؟؟ ............ )
شعر بها تتصلب و تتشنج ... و ظن أنه سيلجأ الى الإلحاح عليها في الرد ... لكنه فوجيء بها ترد بلا تعبير
( إنها متزوجة .... في بلدٍ بعيدة ...... )
صمتت و نظرت من زجاج نافذتها ..... فنظر اليها سيف ليقول بصوتٍ طبيعي
( هل لديكِ أخوة ؟؟ ............. )
صمتت قليلا .... ثم قالت بنفس النبرة الخافتة ذات اللا تعبير
( نعم ...... لدي أخت ...... )
كان سيف ينظر اليها بين الحين و الآخر .... ثم علم بأنها لن تدلي بالمزيد من المعلومات أكثر من هذا , و رغما عنه شعر بالغيظ حين أدرك أنه قد اقترب من البيت الذي كان له أسوأ الأثر في نفسه .....
التفت اليها يوشك أن يخبرها شيئا .... الا أنه وجدها تقطب جبينها بتفكير عميق ثم تسأل فجأة
( كم الساعة الآن ؟؟ ......... )
نظرت الى ساعة السيارة الرقمية ... الا أنه سبقها في الإجابة
( انها الخامسة و الربع ....... )
تأوهت وعد بلا صوت .... ثم تنهدت , لتقول فجأة بتعب
( هل يمكنك أن تنزلني هنا من فضلك ....... )
نظر اليها ليقول ببطء
( بيتك بعد شارعين ........... )
ردت وعد وهي تقول قبل أن يبتعد كثيرا عن وجهتها .... فهي ليست في حال يسمح لها بالمشي الطويل
( عندي مصلحة هنا لا بد أن أتمها ....... هنا من فضلك عند هذا البيت )
توقف سيف تلقائيا قبل أن يقول بغموض عاقدا حاجبيه
( ما هي تلك المصلحة ؟؟ .......... )
استدارت وعد اليه بدهشة متعجبة من فضولية السؤال .... فهمست
( عفوا !! ............ )
قست ملامحه فجأة و عادت الى واقعها بعد سماعه لردها ... فقال آمرا
( هيا انزلي ........ )
ارتبكت بشدة و هي تظنه مجنونا مهوسا لديه انفصام بالشخصية ....فخرجت بحنقٍ من السيارة لتصفق بابها بصورة غير ملحوظة .... لكن قلبها لم يطاوعها فانحنت الى النافذة المفتوحة لتقول بعد لحظة صمت مشيرة بعينيها الى الكيس القابع بين أحضانها
( أشكرك سيد سيف على عطفك ...... كنت في غاية الكرم معي )
لم ينظر اليها وهو يقول ساخرا
( شكر لائق !! ..... اليس كذلك , اذن ربما يمكنك الآن الذهاب الي مصلحتي لأذهب أنا ايضا الى مصالحي التي تعطلت كثيرا حتى الآن ......)
احمر وجهها حنقا و خجلا .... ثم استقامت لتستدير متجهة الي البيت الذي توقفت عنده و هي تتذمر بخفوت تشتمه بكل الشتائم التي تعرفها .... و لم تكن تعلم أنه حين تحرك بسيارته كان ينظر مقطبا في مرآة سيارته الخلفية ليرى البيت الذي دخلته للتو .........
.................................................. .................................................. .............................
كان واقفا ينظر اليها من زجاج واجهة الفندق الضخم ..... منذ عدة ساعات و هي جالسة فوق حقيبة السفر الخاصة بها أمام مدخل الفندق .... أمام الذاهب و الآتي .....
تبدو كطفلة تائهة ..... خاصة مع ذيل الحصان القصير المتطاير برقة .... بينما تغطي عينيها نظارة سوداء كبيرة تخفي معظم وجهها ......
بالطبع لم تجد أي حجز سريع للطائرة في مثل هذا التوقيت من العام .... و بكل غباء و رغبة في الاستعراض تقف خارج الفندق منتظرة معجزةٍ ما .....
اقترب مدير الفندق منه ليقول باستنكار و قلق
( إنها ترفض الدخول أو الرحيل سيد وليد ...... وهذا المنظر ضار جدا بسمعة فندقنا , خاصة أن بعض السائحين توقفوا لسؤالها عما تعانيه ..... الا أنها لسببٍ ما لم تستطع اجابتهم ..... )
ظل وليد ينظر اليها و هي جالسة على الحقيبة برأسٍ مالت من التعب .... ثم قال أخيرا بصوتٍ خشن
( ما اسمها ؟؟ ........... )
أجابه المدير بخفوت ....
( من ورق تسجيلها بالفندق عرفت بأن اسمها بشرى عبد العزيز ..... )
همس وليد لنفسه و كأنه يختبر اسمها ( بشرى ....... )
بينما تابع المدير قائلا بقلق
( لقد خرجت اليها بنفسي ثلاث مرات دون جدوى ..... و لقد قارب الظلام على الحلول )
لم يرد وليد لفترة طويلة .... ثم قال أخيرا بصلابة
( اتركها ساعة أخرى و إن لم تعتدل و تدخل .... سأتصرف بنفسي )
فأومأ المدير بغير اقتناع ...... ثم مضى الى عمله , بينما ظل وليد واقفا مكانه يراقبها بملامح مشتدة .......
بطيئا ... بطيئا .... مرت الساعة .... و حل الظلام .... فشعرت ببرد الجبال ليلا يبدأ في الهبوط عليها بحلته الجليدية .... فأحكمت السترة الرياضية الخفيفة من حولها علها تجد بعض الدفء دون جدوى ....
لقد تعبت .... لقد تعبت .... تعبت للغاية و هي على وشكِ السقوط ....
انسابت الدموع على وجنتيها من تحت نظارتها السوداء التي لم تخلعها على الرغم من حلول الظلام ..... و كأنها تشكل لها حماية من المجهول ....
سمعت صوته من خلفها جعلها تنتفض بقوة
( أخشى أنني مضطر لأن أطلب منك الرحيل ...... فهذا المشهد غير لائق بالفندق )
رفعت عينيها المغطاتين بالناظرة السوداء اليه بغضب و جنون التعب .... الا أنها اصطدمت برؤية ملامحه الشرسة .... وهو من جانبه لاحظ أنفها المحمر من البكاء لكنه لم يعلق ... و حين لم ترد قال آمرا
( خذي حقيبتك و ابتعدي عن مدخل الفندق .... أمامك الجبال واسعة أمامك , فخذي راحتك )
نظرت شيراز تلقائيا الى الجبال السوداء من بعيد .... فانقبض قلبها لتنظر اليه هاتفة بكراهية
( لقد خرجت من فندقكم العفن ..... فابتعد عن طريقي و الا ابتليتك بجناية , لا تخرج منها )
تحولت ملامحه الى ملامح شيطان .... فارتجفت من البرد و الخوف .... لكنه قال بصوت هادىء خطير
( و مع ذلك فهذا لا يزال مدخل الفندق و تابع له ..... فابتعدي من هنا حالا قبل أن أرميكِ بنفسي )
ظلت جالسة فوق حقيبتها ترتجف بشدة ... الا أنها متماسكة بشجاعة زائفة .... تنظر اليه بتحدي و ليركب أسرع خيوله ...
حينها لم يكلف وليد نفسه عناء تلويث يده بامساكها .... بل اشار الى اثنان من حارسي أمن الفندق اللذين أتيا هرولة اليه .... فقال بهدوء ما أن وصلا
( السيدة ستغادر مدخل الفندق حالا ...... )
اقتربا منها تلقائيا دون تفكير ... فماكان منها الا أن نهضت عن حقيبتها صارخة برعب
( لا تلمساني ......... )
مد وليد يده بإشارة واحدة فتوقفا مكانهما .ثم صرفهما ... و نظر الى شيراز بهدوء متجمد .... فهتفت برعب و جنون
( سأغادر أرض فندقكم اللعين.... عسى أن يحترق بكم جميعا .... )
و حين لم يرد ... أمسكت بمقبض الحقيبة لتجرها خلفها عدة خطوات .... الا أن صوت وليد قصف من خلفها
( في الصباح .... حين نجد جثتك ملقاة على الطريق .... ربما حينها سنتمكن من ايصالك لمدينتك )
تسمرت شيراز مكانها مرتعبة .... تنظر الي السواد العملاق أمامها يكاد يكون مهددا أن يبتلعها .....
ماذا تفعل الآن ؟!! ......
ازدادت دموعها على ذلك الموقف الذي ارغمت نفسها عليه بغبائها المعتاد و الهيستيري ....
فمدت يديها تمسح الدموع بصمت من تحت النظارة السوداء ..... و ظلت واقفة مكانها منحنية الرأس .... لا تعلم كيف تتصرف ......
ثم أخيرا بعد فترة طويلة .... استدارت اليه .... لتقول بكلماتٍ كالموت نفسه غصبا ...
( س ..... س ..... سأدخل ..... )
لم يرد عليها للحظات طويلة قبل أن يقول بصرامة
( لقد تم حجز غرفتك ما أن سجلتِ خروجك من هنا ..... )
رفعت شيراز كفيها تغطي وجهها بنظارتها و هي تصرخ و قد فقدت سيطرتها على نفسها
( لماذا تفعل بي ذلك ؟!!! ........ ارحمني لقد تعبت و اريد العودة الى بيتي )
ظل ينظر الى انهيارها الأخير .... ثم قال أخيرا بصوتٍ قاسٍ
( ادخلي ...........سنجد لكِ أي غرفة قد تفي بالغرض )
أخذت شيراز تنشج و تشهق بكاءا .... الا أنها تبعته بسرعة و هي تجر حقيبتها خلفها .... و ما أن دخلت الى البهو الدافىء ... حتى اتجهت الى أحد كراسيه الضخمة الوثيرة ... لترمي نفسها بإنهاك ....
و استمر انهاء تسجيلها لحجز غرفة جديدة فترة طويلة .... و ما أن استدار وليد يبحث عنها ..... حتى وجدها ساقطة على ذراع المقعد في سباتٍ عميق .... ضائع ...... فاغرة فمها على اقصى اتساعه!!!
.................................................. .................................................. ............................
ظلت كرمة واقفة مكانها في النافذة المطلة على الطريق الضيق حتى وقت متأخر .... تشعر بإنقباض في قلبها ...
صحيح أن محمد يتأخر كل ليلة ... الا أنها الليلة تشعر بخوف عليه يفوق الأيام الماضية ...
منذ تلك الليلة التي تصالحا بها و عاد بينهما الوصال قليلا .... و الحال ظل بينهما هادئا مريحا نوعا ما لعدة أيام ... الا أنه عاد ليتعثر مجددا لمجرد شجار تافه ....
لقد أصبح محمد حساس بدرجة خانقة ... لا تتماشى أبدا مع ضغط يومها المتعب , .....
انها تشعر أنها في حاجة اليه في هذه الفترة من حياتها أكثر من احتياجها له و هي صغيرة قبل أن تبدأ دراستها ....
أغمضت عينيها و هي تشعر بحاجة الى أن تريح رأسها على صدره ليأخذها في أحضانه .... لا لشيء سوى لأن تنام ... فقط تنام بين أحضانه ....
فتحت عينيها على صوت هاتفها .... فاتجهت اليه بسرعة تلتقطه و هي تشعر بانقباض من ذلك الهاتف المتأخر ليلا .... وضعته على اذنها بتردد لتجيب بخوف و تلعثم واضح .....
ثم لم تلبث أن اتسعت عيناها لتقول بسرعة
( نعم .... نعم ....... بأي قسم شرطة ؟؟ ..... نعم سآتي حالا ...... )
اغلقت الهاتف و هي تهتف لاعنة غضبا ... ثم اتجهت جريا الى غرفتها تبحث في أقمصة محمد و جيوب بناطيله الى ان وجدت بطاقة هويته المهترئة .... فدستها بحقيبتها مع هاتفها اثناء اغلاقها لسحاب تنورتها و ازرار قميصها ... قبل ان تدس قدميها في حذائها لتخرج ليلا بحثا عن سيارة أجرة .....
بعد فترة طويلة ... وقفت كرمة امام ضابط القسم مطرقة الرأس و هي تضع بطاقة هويتها و بطاقة هوية زوجها امامه بصمت ... فظل ينظر اليهما طويلا متحققا ... قبل أن ينظر الي كرمة بلا تعبير معين مددققا بها ....
ثم قال اخيرا
( تعملين بمصرف ؟؟ .......... )
أومأت كرمة بكل تهذيب و هي تشعر بالخوف .. فتابع الضابط يقول
( وهذا العاطل الذي يسير بلا تحديد هوية هو زوجك ؟؟؟ ......... )
ابتلعت كرمة ريقها بتوتر ... ثم تنحنحت هامسة بتلعثم
( لقد .... لقد نسيها ....... لقد كان مشغولا اليوم ..... لذا خرج مسرعا ...... سيادتك .... )
نظر الي بطاقة هويتها مجددا ... قبل ان ينظر اليها ليقول بلهجة خطيرة
( لقد تهجم على افراد المناوبة ..... )
ارتجف قلبها رعبا ... فهمست برجاء
( انه .... انه مشغول البال قليلا و ليس في حالته الطبيعية .... رجاءا .... انها المرة الأولى له )
نظر اليها بملامح حديدية قبل أن يقول ساخرا
( و هل سنتحمل كل من ليس في مزاج عال ؟!! ......... )
اخذت تفرك أصابعها توترا .... ماذا لو أصر و أبقاه في الحجز ؟؟ .... ستموت لو عادت الي البيت بدون محمد .....
ظلت واقفة مكانها تشعر بأنها على وشكِ البكاء .... فرمى الضابط الهويتين الي على سطح المكتب , فمدت يدها تلتقطهما بيدٍ مرتجفة .... فقال أخيرا وهو يسند ظهره للخلف
( و كيف تتزوج جامعية مثلك من عامل ؟!!! ...... هل تزوجته ضد رغبة عائلتك ؟؟ )
لم ترد كرمة لفترة و هي مسمرة عينيها على الأرض تخشى أن تظهر نظرة غضب فيأخذها ضدها و ضد محمد .... فهمست أخيرا
( النصيب ..... سيادتك ...... )
ظل ينظر اليها طويلا بعينين جليديتين .... قبل أن ينادي على فرد الشرطة كي يحضر محمد من الحجز ...
استدارت كرمة الى الباب تنتظر .... و تنتظر ... الى أن دفعه أحدهم للداخل ....
تأوهت كرمة بصمت و هي ترفع يدها الي صدرها .... لقد ضربوه !! .... هناك آثار صفعات على وجهه !! ....
دمعت عيناها دون أن تجرؤ على البكاء علنا خوفا من أن يظنها الضابط تتصنع مشهدا ... فيعيده الى الحجز من جديد ......
نظر اليها ليصطدم نظره بعينيها الدامعتين .... و شفتيها المتأوهتين .......فتنفس بصوتٍ كاللهاث , بينما بدت عيناه كسيرتان و بشدة ......
استدارت كرمة الي الضابط لتهمس باختناق
( هل يمكننا الإنصراف الآن ؟؟ ...... سيادتك )
ظل الضابط ينظر اليهما مطولا قبل أن يشير اليهما بالإنصراف .... فأمسكت كرمة بذراع محمد , لا تعلم هل تدعمه أم تدعم نفسها ..... لكنهما و قبل أن تخرج سمعت الضابط يقول من خلفهما
( احكمي مراقبتك له بصورة أفضل ..... فربما لن تكون العواقب محمودةفي المرة المقبلة )
تشنج محمد مكانه... ينظر الى الضابط عينا بعين , فارتعبت كرمة و هي تجذبه بصوة خفية و تحثه على الخروج و هي تهمس للضابط متظاهرة بالشكر
( حاضر ..... حاضر ....... )
.................................................. .................................................. ..............................
وقف تحت رذاذ الماء الضعيف في حمامهم القديم ذو القشور المتساقطة .. و السقف الذي ظهرت أسياخه الحديدية بفعل الرطوبة .... مستندا بكفيه الى الحائط .... محنيا رأسه .... مغمضا عينيه .....
ليتصلب جسده فجأة حين شعر بكفيها تمسدان ظهره ..... و صوتها يصله هامسا مع صوت رذاذ الماء
( لا بأس ..... لا بأس ........ )
التفت اليها ينظر اليها ببطء .... قبل أن ينحني اليها , فتلقته في احضانها غير مبالية بالبلل الذي أصاب ملابسها .. و هي تربت على شعره هامسة في أذنه
( لا بأس ....... ليست المرة الأولى , ..... لقد مررنا بالكثير و اجتزناه ....... )
حاولت رفع رأسه الا أنه لم يستجب لها وهو يدفن وجهه في عنقها الدافىء ... فهمست له تختنق بدموعها
( محمد .... تعال لترتاح قليلا ...... هيا حبيبي )
خرج معها تسنده بذراعها .... الى أن اندس في الفراش القاسي و هي لا تزال تجفف له شعره بمنشفة صغيرة و هي جالسة بجواره على ركبتيها ... تنظر اليه بعطف و كأنه طفلها الوحيد ....
ابتسمت بحزن و هي تندس بجوار تمسد كتفه السمراء ... تتذكر حين جائته يوما باكية بعد أن طردها المعيد السمج من المحاضرة لكثرة جدالها و نقاشاتها ....
حينها انفعل صارخا بانها لن تذهب الى الكلية مجددا .... فهو لا يسمح لأحد بأن يهين زوجته بتلك الطريقة ....
و كانت هي تراقب صراخه ليبدأ بكائها في الهدوء تدريجيا ... ليحل محله الخوف من أن يمنعها حقا من الجامعة ... فظلت تراضيه لليلة كاملة ... بعد ان كانت هي الباكية ....
الى أن حل الفجر .... و نالت رضاه أخيرا متذمرا .... مستسلما لعاطفتها و دلال طفولتها عليه ....
لكنها فوجئت بأنه قام بافتعال مشادة مع ذلك المعيد في الطريق بعد أن تعرف اليه .... ليهدده بأن كرمة هي الخط الأحمر في تلك الدفعة ....
و لولا رحمة الله .... و جبن ذلك المعين ابن الطبقة المدللة لكانت وقعت في كارثة حقيقية ....
اسندت كرمة وجنتها الي كتفه وهو يدير ظهره لها ...كتفه تتحرك و كأنه نشيج جسدي بفعل كرامة و رجولة مهدورة .... فالتاع قلبها عليه بقوة ... و احاطت كتفه و صدره بذراعها ... بقوة شديدة ..... ثم همست برقة
( محمد .....انسى ما حدث .... انسى ذلك الضابط ... و انسى التجول في الطرقات .... انسى كل تلك التفاهة , لما لا تقبل العمل بورشة السيد عبد الحفيظ .... لقد فاتحتني زوجته مجددا و اخبرتني بانه يتمنى من له مثل يديك الذهبيتين ...... )
الحقيقة انها هي من ترجت زوجة السيد عبد الحفيظ مرة بعد مرة ....الى أن وافقت و نقلت رجائها الى زوجها فوافق أخيرا ...
انتفضت على صوت محمد يهتف غاضبا
( لن أعمل لدى أحد ..... و اياكِ أن تتجرأي على فتح هذا الموضوع مجددا .... إن لم أفتتح ورشة خاصة بي فلن أعمل أبدا ..... و اطمئني .... لن آكل لقمة بِحُرِ مالك ..... )
تنهدت كرمة بيأس ثم صمتت تماما و هي تشعر به منهارا حاليا .... يكفيه ما ناله ....
أغمضت عينيه لتقبل كتفه برقة ضاغطة شفتيها بقوة تمنحه ما تستطيع من قوتها ..... الى أن هدأ نشيج جسده قليلا ....
فظنت أنه في سبيله للنوم .... الا أنه بعد فترة طويلة قال بصوتٍ مختنق
( كرمة ..... أتتذكرين ذلك اليوم الذي عثرت عليكِ به ؟؟ ...... )
ابتسمت كرمة و نضحت عيناها حنانا ..... "عثرت عليكِ " .... انه ذلك التعبير الذي يستخدمه دائما لوصف أول يوم رآها فيه .....
و كأنها قطة ضالة وجدها على قارعة الطريق و أخذها ليقوم بتربيتها في بيته .....
التصقت به اكثر و هي تهمس
( و كيف لي أن أنسى ....... لطالما فكرت , كيف كانت ستنقلب حياتي لو لم تعثر علي .... لربما كنت ضعت , او على الأقل لم أكن كرمة التي تراها الآن ...... )
همس محمد بصوت مختنق أكثر
( لقد وجدت بكِ حياتي ..... و جدت بك نفسي .... قطعة مني كانت تائهة و عثرت عليها أخيرا )
اقتربت منه أكثر و اكثر و هي تهتف من قلبها
( و كان هذا هو ذاته ما أحسست به .... و جدت مصدري ... أصلي .... لأكتمل معه ... )
استدار اليها .... ينظر اليها مطولا , و هالها أن تجد عيناه حمراوان بالفعل .... ثم قال بخشونة
( كرمةِ أن تركتني فسأ ....... لا أعلم حتى كيف سيكون حالي )
اقتربت كرمة تستلقي على صدره مغمضة عينيها لتهمس
( كيف أتركك و أفقد نفسي ؟؟!!! ...... سأتركك في حالةٍ واحدة فقط .... و هي ذهابي للقبر قبلك )
هتف بخشونة غاضبا
( اخرسي يا مجنونة ..... اياكِ و نطقها مجددا .... )
ابتسمت لعينيه و قلبها يلتاع .... لا يزال حبهما قويا مؤلما .....لكن ما هو ذلك الحاجز الذي يحول بينهما ... و كيف لها ان تهدمه قبل ان تتهدم هي الي شظايا ....
اقتربت كرمة منه تندس بصدره لتهمس باختناق
( لو كنت امتلك ذهبا .... لو كنت امتلك اي شيء , لبعته في سبيل تحقيق مشروعك ..... لأقف بجوارك كما وقفت بجواري دائما ...... لكن نصيبك انني لا استطيع مساعدتك سوى ببضع كلمات .... بينما أنت .... انت كنت ظهري الذي يشتد بي لمواجهة الريح ......انت من منحتني شهادتي و حققت حلمي ..... )
صمتت قليلا تختنق بغصة بكاء و هي تهمس بصوت مختنق
( بينما لا استطيع تحقيق حلمك ........... )
ضمها اليه بصمت , ليقول بصوت جريح
( الورشة ليست حلما ..... ليست حلما كأحلامك الوردية التي تحيين بها , انها مصدر رزق ...... )
ابتلعت ريقها ... دائما ما تتعاكس مرادفاتهما .... و يقسو قلباهما على الرغم من الحب .... فيصبحان كاثنين في حلبة مصارعة ....
لقد حققت الحلم الوحيد الذي كبرت عليه .... و ساعدها القدر بمعجزةٍ ما منحتها وظيفة تستحيل على الكثيرين ممن يحملون توصية اقل مما يجب .... بينما كانت هي خالية اليدين الا من شهادتها ....
و الآن ...... الآن بعد الوصول .... او بعد الإقتراب من نقطة نهاية السباق ..... لماذا لا تشعر بطعم النجاح .... النجاح يزيدها توهجا و قوة و صلابة ..... لكن لماذا لا تشعر بحلاوة مذاقة .....
هل تتجرأ الآن بينها و بين نفسها على ان تهمس بأنانية أنه رغم كرم الله و فضله .... الا أنها ينقصها الكثير ...
تنقصها راحة البال .... تنقصها المودة بينها و بين شريك عمرها .... تنقصها البسمة .... ينقصها صوت ضحكة طفل تجلجل بين جدران هذا البيت لتبث فيه الحياة من جديد .....
لم تلحظ ان دمعة شقت طريقها على وجنتها لتسقط على صدره ...الا حين استشعرتها بوجنتها فرفعت رأسها بقلق ...لا تريده ان يراها تبكي الآن .... فهذا آخر ما ينقصه حاليا .....
الا أنها وجدته قد ذهب في سبات عميق .... فارتاحت قليلا و سكنت فوق صدره محاولة النوم , لكنها حين نظرت من النافذة وجدت ان نور الصباح قد بدا في الظهور بخجل ....
فتنهدت بيأس .... حسنا لا مجال للنوم الآن , فموعد استيقاظها قد اقترب بالفعل .....
فظلت قابعة فوق صدر محمد ... تنظر الي النور الرمادي .... تستمع الى صوت صياح الديك الموجود في " منور " البيت .... يصاحبها صوت بكاء رضيع الشقة التي تعلو شقتهما ......
ظلت ملامحها متبلدة تراقب النور المتزايد ببطء شديد .... و هي تهمس برفق
( ششششش يا صغير ..... مهلا مهلا .... ماما ستعد زجاجة الحليب حالا ..... )
ابتسمت برقة ما ان اختفى صوته بالفعل .... لا بد و أنه يرضع الآن ..... بألف هناء يا صغير .....
.................................................. .................................................. ...............................
عادت لتزرر قميصها الأبيض الخاص بالعمل .... ثم أخذت تمشط شعرها اللولبي المتراقص .... لتربطه برباط مطاط يسمح له بالحركة بحرية ....
نظرت الى نفسها في المرآة .... عيناها تبدو مجهدتان للغاية ... غائرتان و أسفلهما دوائر زرقاء .... لكنها ابتسمت على الرغم من ذلك بتصميم .... يكفيها أن محمد قضى الليلة بين أحضانها نائما كالأطفال ... و ليس في الحجز ....
حسنا ليست ليلة كاملة .... بل مجرد نوم ساعتين ثم نهض من السرير .....
خرجت من الغرفة تبحث عنه لتجده جالسا على الأريكة بجوار النافذة ... فابتسمت له بحب , الا أنه لم يرد لها الإبتسامة ... فتنهدت لتذهب الي المطبخ و تعد له افطاره ..... و بينما كانت تخرج لتضع ابريق الشاي على الطاولة ... و جدته يدخن سيجارة محلية الصنع رائحتها كريهة .... فهمست بعتاب
( ليس و معدتك فارغة يا محمد ..... الن تنتهي من تلك العادة ؟.... )
لم يجبها و هو يتابع نفث الدخان عاليا .... فاقتربت منه بخجل تبتسم برجاء علها تفلح ... ثم جلست بجواره تهمس
( محمد حبيبي .....من المفترض ان ارد على زوجة السيد عبد الحفيظ .... وافق حبيبي ارجوك )
قال محمد بصوت متجمد لا حياة فيه
( لا تعيدي فتح هذا الموضوع ....... )
لم تستسلم كرمة و هي تهمس باكثر نبراتها انوثة
( اسمعني فقط يا محمد ..... انها فترة مؤقتة ... اعتبره عمل مؤقت الى ان يكرمنا الله بفتح ورشة خاصة )
قال بصوتٍ ميت
( اسكتي يا كرمة ........ )
فهمست تترجاه بتوسل
( يا محمد اسمعني ....... )
الا أنه مد يده ليصفعها على وجنتها قائلا بحدة
( اسكتي ....... حالا .... )
صمتت تماما تستوعب صفعته ....لم تكن صفعة لتكن منصفة معه ..... لم تؤلمها الآن و لم تؤلمها من قبل ... انها حتى لا تترك أي أثر .... مجرد تربيتة واحدة قوية على وجنتها للتوقف عن الجدال ....
ابتلعت كرمة ريقها و هي تحاول التنفس بطبيعية .... لتغمض عينيها , ثم تعود و تفتحها محاولة الهدوء ....
لقد اعتادت على حركته تلك و تأقلمت معها منذ صغرها .... لكن مؤخرا .... لا تعلم لماذا أصبحت تلك الحركة و كأنها تكسر بها شيئا ما ..... لا يصلح أبدا بعدها .....
همست لنفسها " ما بالك يا كرمة ؟!!..... لماذا تدعين القهر و كأنه ضربك بالفعل ؟؟ ..... لم يكن محمد ليؤذيك ابدا "
ارتجفت شفتاها و هي جالسة بصمت بجواره ....ثم قامت من مكانها بهدوء لتخرج الى عملها .... لكنها توقفت بعد عدة خطوات ... طويلا .... لتعود و تجلس بجواره مطرقة برأسها ثم رفعت وجهها أخيرا لتقول بهدوء بعد أن حاولت منع نفسها طويلا و لم تفلح
( أنا لا أحب تلك الحركة يا محمد ........ )
نظر اليها قليلا ليعقد حاجبيه قائلا بخشونة
( اي حركة ؟؟ .......... )
اخفضت وجهها و هي تقول بنفس الهدوء
( ان تضرب وجنتى لأتوقف عن الكلام ........ انا لم أعد قادرة على تحملها بعد الآن )
ظل ينظر اليها بغرابة ....و عيناه تبرقان شررا , ثم قال أخيرا
( و أن لم أتوقف عنها .... ماذا ستفعلين ؟؟ )
أخذت نفسا حادا .... ثم قالت بهدوء
( لن أقبل بها يا محمد بعد الآن ...... لم تعد تلك هي الطريقة المناسبة لتنهي بها حوارا معي , لقد كبرت يا محمد )
لم يرد عليها لعدة لحظات يدقق بها بعينين تقدحان شررا ... مخيفتين .... ربما ما حدث له بالامس لم يكن هينا , لكن هي ايضا تعبت .... تعبت للغاية ....
و فجأة اعاد نفس الحركة ليضرب وجنتها بخفة قائلا بصرامة
( هل ستكبرين علي الآن ؟........... )
امتقع وجهها اكثر ... و شعرت بالكسر بداخلها و قد اتسع كشرخ ازداد جريا في زجاجٍ ناعم ..... فظلت جالسة , تتنفس بسرعة قليلا .... لكن بصمت تام و كأنها قد فقدت صوتها .... ثم ودون كلمة واحدة نهضت تلتقط حقيبتها و تخرج من الباب تغلقه خلفها ..... بهدوء ... و أدب .....
.................................................. .................................................. ............................
لم تحضر معها طعام افطار اليوم ..... لأول مرة لا تجد القدرة على الأكل ....
جلست تعمل كالآلة الصامتة المنتجة بمهارة .... لكن دون روح ..... لساعتين او ثلاث , قبل ان يدخل الساعي قائلا بتهذيب
( السيد عماد يطلبك سيدة كرمة ........ )
اومأت له كرمة مبتسمة بصمت .... ثم نهضت لتتجه تلقائيا الى مكتب السيد جميل كماكينة مسيرة ....
طرقت الباب لتدخل بعد سماع صوت السيد جميل يدعوها ببهجته المعتادة ... فدخلت كرمة مبتسمة بهدوء قائلة
( صباح الخير سيد عماد ....... )
ابتسم عماد مرحبا ناظرا اليها بتشوق غريب قبل ان يقول متفائلا
( صباح الخير كرمتي ...... )
نظرت كرمة تجد حاتم جالسا على كرسي امام مكتب السيد عماد .... فابتست له .. لتلوح له شبه تلويحة تحتية ... ثم تعيد امساك كفيها ببعضهما ....
بينما كانت لحركتها العفوية اثرا مدمرا على حاتم .... الذي رفع اصبعيه ملوحا امام جبهته كتحية بحرية .... مبتسما لها بعمق .... ثم اخذ وقته لعدة لحظات في تأملها ....
تلك المرأة مكتملة الأنوثة .... لا لشكلها أو لجسدها ... على الرغم من جاذبيتها الواضحة .... لكن لشيءٍ آخر ....
انوثة منبعثة من قوة رقيقة .... مزيج غريب من القوة و الرقة ... الأنوثة و الصلابة ... النجاح و تحمل الكبوات ....
لاحقت عيناه الظلال الزرقاء تحت عينيها ..... عينيها اليوم فاقدتين لبريقهما ..... فاقدتين للحياة ......
شعر بشيء قابع في حنجرته من الشعور بها ..... هناك وترا كهربيا وصل بينهما يجعله يشعر باختلاجاتها بوضوح ....
تكلم عماد اخيرا بنبرة حزن واضحة وهو يقول بعربيته الضعيفة
( كرمتي ..... قبل أي شيء , اريد أن اخبرك بأنك من أفضل من عملت معهم على الإطلاق .... انتِ طاقة جبارة ... و انسانة موهوبة على الصعيد الشخصي و العملي ..... و أنا قولا و فعلا تشرفت بالتعرف الى محاربة مثلك ....)
ابتسمت كرمة بحب ... بسعادة .... بفخر .... بامتنان .... لكن بخوف .... لماذا تبدو صيغة الوداع في كلماته ؟!! ...
فتابع السيد عماد كلامه هادئا مبتسما
( اليوم يا كرمتي ستنالين ترقيتك رسميا ..... و تترأسين زملائك و أنت أهلا لها .... )
اشرقت ابتسامتها أكثر و بدأ قلبها في النبض بجنون و هي تشعر بالنجاح يظهر لها شيئا فشيئا .... الا أن السيد عماد تابع قائلا بأسف و حزن ...
( و أكثر مايؤلمني ..... هو أنني سأبتعد عن رؤية ذلك النموذج المشرف أمامي كل يوم .... )
اختفت ابتسامة كرمة .... و تخوفت ملامحها و هي تهمس بكلمة واحدة ( ماذا ؟!!! ..... )
مد عماد يده ناحية حاتم الجالس بهدوء أمام قائلا
( مديرك الجديد ..... من اليوم سيكون حاتم , الذي سيحل محلي في ادارة الفرع )
اتسعت عينا كرمة بذهول و هي تنظر كالرصاصة الى حاتم .... متوقعة أن يضحك مخبرا اياها بأنها مجرد مزحة ...
لكن عينا حاتم قابلت عيناها بهدوء .... تؤكد لها الخبر .....
ظلت تنظر اليه بذهول و رعب .... وهو ينظر اليها بهدوء .... ليخفض عيناه أمام نظرتها القاتلة في تعبريها المحزن القوي ....
بينما كان عماد يتابع كلامه
( أنا سأنتقل مع اسرتي الى فرع الخارج ...... لكنني سأمر بكم كل عدة أشهر ...... )
كانت كرمة في عالم آخر .... عالم بشع .... السيد جميل سيرحل !! ..... الوحيد الذي يشعرها بقيمة نفسها !!! ... الوحيد الذي أذاقها طعم النجاح و شعر بالفخر بها .....
الرجل الذي رفعها عاليا و اعطاها كيانا لم تكن لتحلم به ..... لقد كان السبب في تلك السعادة المتوهجة التي تصطحبها معها الى العمل يوميا .... لم يحترمها احد من قبل مثله ...... لم يشعرها احد من قبل ان طفولتها في دار الرعاية هي مدعاة للفخر .....
ليحل محله ذلك المدعي ... المنافق ... المتلاعب .....ذلك التافه سيحل محل السيد جميل ... السيد عماد ؟؟!!!! ....
لم تشعر بنفسها الا وقد هدها تعب ليلة الامس .... او ربما تعب سنواتٍ مضت .... لتنفجر باكية ... شاهقة بصوتٍ عالٍ كاأطفال ... و هي تغمض عينيها عن هذا الواقع .....
نهض عماد من مكانه قافزا متأوها وهو يتجه اليها يحاول استرضائها .... مذعورا من انهيارها الغير محترف بالمرة ..... بينما كان حاتم جالسا مكانه ... و الثقل في حنجرته يتثاقل .... بينما النيران في عينيه تشتعل غضبا من عدة اقتراحات معينة عن تخيله لأسباب بكائها الهيستيري لرحيل عماد ......... عماد الذي يراضيها الآن كطفلة صغيرة مدللة ...... يراضيها كمدللته ..... فتزداد النيران بداخله هياجا و غضبا .....
دخل سيف البيت بروحٍ مختلفة ... و ابتسامة صغيرة غير ملحوظة تزين زاوية شفتيه ... ربما لن لايحظها من يراه ... لكن بالتأكيد من يعرفه يستطيع أن يرى تراخي تلك الخيوط المشدودة حول فمه و فكه الصلب ...
منذ فترة طويلة لم يشعر براحةٍ لإنسان كما شعر بها في دقائق قليلة مع تلك المدعوة وعد ....
يثق بها ؟.... مستحيل .... كيف يثق بها و رأس الأفعى يقضي كل ليلة من لياليه يبث في اذنها من المكائد و الدسائس ....
لكن هذا لا يمنع أنه يشعر بالراحة لها .
على الرغم من الحنق الشديد الذي شعر به حين تعمدت الخصوصية !!....
ناكرة الجميل بعد كل ما فعله من أجلها ... تتصنع الأهمية و تتجاهل سؤاله ....
هل هي ذاهبة لزيارة صديقة لها ؟.... هل لديها صديقات ؟؟
يشك بذلك .... لا يعلم لماذا , لكنه يشك أن تكون لها مثل هذه الحياة المرحة ...
لا يصدق لماذا يهمه أن يعرف الى أين ذهبت بهذه القوة ....
لكنه الآن لا يستطيع منع ذلك الإحساس برقتها .... بها رقة و هدوء .... و صلابة تتحدى بها من يفوقها قوة و جاها ...
رقيقة كالنسيم .... ناعمة كالورد ....
ازدادت ابتسامته تهكما وهو يفكر بسخرية أنه في وضعٍ صعب جدا ....
ربما آن الأوان أن يستمع لنصيحة أمه و يبدأ في التفكير جديا في الزواج .... طالما أن مجرد فتاة عادية مثلها جذبته بمثل هذه القوة و في مثل هذا الوقت القصير ... على الرغم من أن ....
( هل عدت ؟؟ ........ )
كان ليبتسم مجيبا بمرح أنه .. لا لم يعد بعد ... لو كان ذلك صوت أمه .... , لكن بما أن الصوت صوت ورد وهو بالتأكيد يحوى الكثير ... اذن لا مجال لأي مرح ...
استدار اليها ببطء .... ينظر اليها بوجه قاتم ... دون الحاجة للرد , الا أنها رفعت حاجبا لتسأل ببراءة
( كيف حال وعد الآن ؟؟ ...... )
لم يرد سيف للحظة ثم قال بصوتٍ لا تعبير فيه
( على أساس أنها كانت تدعي ذلك !! ..... )
هزت ورد كتفها و هي تقول
( ربما كانت قد فعلت .... المسكينة أصابها الهلع مما فعلته و من تخيل ردة فعلك , لذا أعذرها إن تصنعت الإغماء هربا مما ستفعله بها ..... )
تنهد سيف وهو ينظر لأعلى قليلا .... ثم عاد لينظر اليها قائلا بهدوء
( حسنا .... كان أمرا عارضا , غير ذا قيمة و قد مرأ ..... لذا انسيه و لا تشغلي بالك )
ثم تركها و اتجه الي السلم ... الا أن صوت ورد جاء هادئا من خلفه
( لاااا .... كيف أتجاهل اغماء ابنة خالنا ؟!! .... )
تسمر سيف مكانه , دون أن يستدير اليها لعدة لحظات .... فقط عدة لحظات استطاع فيها السيطرة على انفعالاته بمنتهى المهارة ثم يستدير اليها دون أي تغيير طرأ على ملامحه ليقول بصوتٍ هادىء
( منذ متى و أنت تعلمين هوييتها ؟؟ ......... )
ابتسمت ورد برقة لتقول بهدوء
( منذ أن علمت بعمل عبد الحميد نفسه عندك .... و معرفتي المسبقة بأن لديه ابنة اسمها وعد ... و أنا لا أؤمن بالصدف خاصة حين تزيد عن حدها ....... )
ابتسم سيف دون مرح ليقول
( غريبة !! ...... أنا نفسي لم أكن متأكدا من اسمها ...... )
أمالت ورد رأسها و هي تقول بهدوء على الرغم من أنها قد فقدت ابتسامتها ...
( ربما لأنك نسيت أو تناسيت كل ما كان من هذا الرجل ضدنا .... فتراخت عزيمتك و ازداد وهنك بعد أن اعتدت طعم النجاح و الراحة ..... )
ابتسم سيف بقسوةٍ أكثر
( ما كنت لأهتم بتوظيف عبد الحميد عندي ...... )
ردت ورد بسرعة تسأله
( و ابنته ؟؟............. )
مد سيف ذراعيه يقول بنفاذ صبر
( و ابنته أيضا تعمل عندي ..... فماذا تريدين من العدل أكثر من ذلك ؟!! )
اشتعلت عيناها شرا للمرة الأولى و غادرها قناع الرقة و هي تهتف
( عدل ؟!! ...... هل هذا هو العدل في نظرك ؟!! ..... أنها تحضر قهوتك كل صباح ؟!! ..... هل هذا يماثل ما فعله بنا والدها ؟!! ..... هل نسيت ما فعله بأمك و أبيك ... بك ... وبي ؟!!! ....
لاااا ... لا و الف لا يا سيف .... هذا لا يقارب ذرة من العدل .... )
مسح سيف مقدمة شعره بيده وهو يقول بغضب مكبوت
( الرجل فقد جاهه و ماله .... فما الذي يمكنني أن أسلبه إياه يا ورد ؟!!! .... لقد كان القدر رحيما معه و أفقده كل ما كان يمكنني أن آخذه منه ...... )
عم صمت داكن مشحون بينهما ....وعيناهما في حربٍ يائسة , الى أن قالت ورد أخيرا بخفوت جليدي
( لا زال يملك ابنته ........ )
اتسعت عينا سيف للحظةٍ ... قبل أن تعودا لبرودهما و هو يقول بصوتٍ خطير مكررا
( و هي تعمل لدي يا ورد ...... و انتهى )
حاول الإبتعاد , الا أنها وقفت أمامه تقول بصوتٍ يشبه شفرة حادة فوق زجاج مصقول
( أمي تريدها أن تعمل لدينا بصفة دائمة ....... )
لم تتغير ملامح سيف وهو ينظر اليها ... الا أن عينيه التمعتا ببريقٍ أكثر قسوة ... ثم قال أخيرا بصوتٍ لا جدال فيه
( انسي يا ورد ....... لن أدخلها الي هذا البيت مجددا , و خاصة بصفة دائمة ... )
قالت ورد بشراسة
( هل لأنك لا تثق بها ...... أم لأنك تعطف عليها ؟؟ ...... )
رد سيف قاطعا بكلمةٍ واحدة ... صلبة .... مخيفة ...
( الإثنان ............................. )
نست ورد الإحتمال الأول ... و صرخت عاليا و جسدها كله يهتز بشرارات الكره السوداء
( تعطف عليها ؟!! ............ تعطف عليها يا سيف ؟!! .... و أنا , الا تعطف علي ولو قليلا ؟!! )
قال سيف بصرامة دون أن يرفع صوته
( أخفضي صوتك يا ورد .......... لا أريد لأمك أن تسمع كلمة من هذا , كما أن تلك المقارنة التي تعقدينها بينك و بينها تنتقص من قدرك كثيرا ....تلك الفتاة حتى ولو كانت ابنته و حتى إن كنت لا أثق بها ... الا أنها حتى الآن لم تضرنا في شيء لذا لن أنزل من قدر نفسي بأن أنتقم منها على جريمةٍ لم ترتكبها .... و خاصة بعد أن قررت ترك المجرم نفسه ... . )
ظلت ورد تلهث بصعوبة ... و هي تنظر اليه نظرات مُتعِبة في مجرد النظر اليها من شدة الكره و الضعف و القهر بها ..... ثم أخيرا اقتربت منه لتمس ذراعه هامسة بتوسل مرير
( دعها تعمل لدينا يا سيف أرجوك .... و أعدك الا أمسها بسوء ..... )
ظل ينظر اليها عاقدا حاجبيه بشدة .. الا أن الذهول كان ظاهرا بعينيه , ثم قال حانقا بحدة
( أنا لا أصدق ذلك ..... أنتِ تقتلين نفسك يا ورد , اتركيه ... فقط اتركيه ..... )
ظلت تنظر اليه نظرات فارغة بلا حياة .... ثم اخفضت يدها ببطء عن ذراعه ... لتقف صامتة لفترة قبل أن تقول بصوتٍ ميت
( وهل تركته أنت ؟!! ..... تعود و تدور بحثا عنه ... مرة به و مرة بابنته .... تحلل لنفسك ما تحرمه علي .... )
اشتعل الإستنكار في عينيه ليقول بحدة
( انها تعمل .... و أنا أكبر من أن أستمتع بذلك , لقد ذكرتِها منذ لحظات ...... مجرد دخولها الي بالقهوة , لا يعبر ذلك عن أي شيء ...... )
قالت ورد تشد على أسنانها
( أي أنك وظفتها لديك لمجرد أن تساعدها ؟!!! ..... و هل نفذ العالم من كل من يحتاجون الى المساعدة كي تساعد ابنة عبد الحميد ؟!!! .... )
أغمض عينيه يأسا و قد أسقط في يده ... لا يجد التبرير المناسب , الا أنه هتف بحنق
( توقفي عن ذلك ..... فقط توقفي عن ذلك , لدي من المشاغل ما يكفيني لأفكر بمثل تلك التفاهات ..... )
همست بصوتٍ جليدي و عينان كالزجاج و هي ترفع يدها لتمس أذنها بشرود
( تفاهات ؟!! ......... )
اسقط سيف يديه يضرب بهما فخذيه بتعب ليقول بصوتٍ خافت قاسي
( انسيه ..... فقط انسيه و اتركيها لحالها يا وعد ...... )
ابتعد عدة خطوات و قد قرر إنهاء تلك المناقشة العقيمة ... الا أن صوتها جاء من خلفه أكثر خفوتا كهمس ميت
( أنا ورد ..... ولست وعد ..... لقد أخطأت بحرف ..... مجرد حرفٍ واحد ..... لا عليك , ليس خطأ جللا )
ظل سيف واقفا مكانه .... لا يستدير اليها , كي لا تفضحه عيناه , بهزيمة نطق اسمٍ لم يكن من المفترض أن ينطقه ..... الا أنه رفض الإستسلام و الٌإقرار بالهزيمة .... ليقول بصوتٍ حاسم لكن مجهد
( لا أريد أن تعلم أمي بكل ذلك يا ورد ..... اعلمي أنكِ ستؤلمينها حد الموت لو فعلتِ , فإن كان ذلك يرضيكِ فافعليه ..... )
ثم صعد السلم دون اضافة أي كلمة اخرى ...................
دخلت ورد الى غرفتها تغلق الباب خلفها بصمت ... ثم اتجهت الى المرآة تنظر الى نفسها بملامحها الميتة ... و عيناها الخضراوان الزجاجيتان ... و كأنه زجاجٍ يخفي خلفه لهب حارق على وشك كسره في أي لحظة ...
أبعدت غرة شعرها الطويل من جانب وجهها الى خلف رأسها ..... ثم مدت يدها خلف أذنها كي تنزع سماعة الأذن الصغيرة و تضعها بهدوء على منضدة الزينة ....
وقفت ورد تنظر الي تلك القطعة الصغيرة قليلا .... قبل أن تتجه الى سريرها كي تستلقي به على جانبها , رافعة الغطاء فوق وجهها
و من بعيد سمعت صوت طفيف ... لأمها تطرق الباب و هي تنادي ...
( ورد .... هيا للغذاء حبيبيتي , لقد وصلك أخوكِ ..... تعالي لتساعديني ... )
الا أن ورد لم تلتفت الى الباب ... و لم ترد , حتى بعد أن فتحت أمها الباب و دخلت عدة خطوات لتقول بخفوت
( ورد .... هل نمتِ حبيبتي ؟؟ .... ورد )
ظلت ورد مكانها دون أن تستدير الى أمها التي خرجت بصمت مغلقة الباب خلفها ....
كان ذلك ما يفعله والدها دائما .... حين يدخل ليتفقدها بينما هي تتظاهر بالنوم كاتمة ضحكتها بالقوة ... الا أنها غالبا ما تفشل في إمساكها لفترة أطول فتنفجر ضاحكة , قبل أن تفاجىء بيدين قويتين يحملانها عاليا حتى سقف الغرفة ....
أغمضت ورد عينيها ..... و هي تتسائل عن جدوى بقاء أمثال عبد الحميد في هذه الحياة .... و غالبا ما تحظى بناتهم على فرصٍ أفضل في الحياة ....
سيف معجب بها ....
فكرت بهذه الجملة بمنتهى البساطة دون أي تعجب .... بل في الواقع هذا هو المنطقي في هذا العالم ...
كم من مرةٍ رأت فتاة في مثل ظروف وعد ... و مثل خبثها و دناءة أهلها ... لتفاجأ بأنها تحظى بزوج و حياة لم تكن لتحلم بمثلها !! ....
حتى أصبح الجميع يلهون بقول أن من لا تستحق هي في الواقع من تجد أفضل الفرص ....
و تلك وعد ... ليس فقط أنها لا تستحق , بل يكفي أنها ابنة عبد الحميد .... الذي سلبها والدها يوما ...
كان صدرها يتردد بنفسٍ حارق تحت الغطاء لدرجة أنه أوشك على أن يحترق ....
.................................................. .................................................. ......................
دخلت وعد البيت بأقدامٍ متثاقلة .... أصبح ذلك البيت يمثل لها ثقلا يفوق قدرتها على التحمل ...
ممسكة بما تبقى من كيس الحلوى ...
تذكرت حين كانت جالسة في انتظار أخذ قياسات الفتاة الرابعة لأسرة تعرفها جيدا ... و المطلوب تفصيل اربع فساتين طبق الأصل لكن بقياسات مختلفة .. نظرا لأن الفتيات سيكن وصيفات عروس من قريبات الأسرة ... لذا توجب أن يرتدين تصميم واحد ...
حينها جاء آخر العنقود ... الولد الوحيد لهذه الأسرة ...
ينظر اليها طويلا مدققا بها بملامح طفولية قريبة للغباء .... و كانت وعد كذلك تراقبه بملامح لا تحوي أي نوع من أنواع المودة ....
الى أن تكلم أخيرا قائلا ببلادة
( ما هذا الذي معك ؟؟ ..... )
نظرت وعد الى الكيس في حضنها و التي كانت على وشك أكل شيءٍ منه , الا أنها أعادت غلقه , لتنظر الى الولد الصغير قائلة ببرود
( شيئ لا يخصك ...... )
اقترب حاجبي الولد من بعضهما وهو ينقل نظره منها , الى كيس شرائح البطاطس الظاهر من داخل الكيس الشفاف ... و في عينيه نظرة صياد خارق للقانون في محمية طبيعية ...
ثم قال بخفوت خطير ...
( لمن شرائح البطاطس تلك ؟؟ ...... )
قالت وعد و عيناها لا تحديان عن عينيه في تحدٍ صامت
( لي ............ )
عاد الولد ينظر الى الكيس طويلا .... و أحد حاجبيه يرتفع كأحد أبطال أفلام الرعب , ثم قال أخيرا بصوتٍ لا يقبل الجدل
( أريدها ..... )
فردت وعد و حاجبها يرتفع مجاراة لحاجبه
( لا ........... )
فاحمر وجه الولد غضبا و قد بدأ يفقد قناع السيطرة خاصته وهو يقول
( أريده ...... .. )
فردت وعد بصوتٍ بارد جليدي
( اجعل والدتك تأتي لك بواحد ......... )
ازداد حنقه بوضوح .. و من الواضح أيضا أن أمه لن تأتي له بمثله سوى في الأعياد ... بدعوى أنه خطر , أو لمجرد أنها أم صميمة ترفض لمجرد الرفض ...
ثم قال بصوتٍ حانق
( و من جلبه لك ....... )
قالت وعد بلهجةٍ مغيظة
( ابن عمتي ........... )
قال الولد و هو يضع كفيه في خصره مادا وجهه للأمام كي يغيظها بالمثل
( الا تعلمين أن أخذ الحلوى من الغير تجعل منك متسولة ؟؟ ....... )
نهضت وعد من مكانها لتنحني اليه قائلة بنفس اللهجة
( قل ذلك لنفسك ........ )
ثم مدت له لسانها قبل أن تستقيم متأففة بنفاذ صبر لتنادي بصوت نافذ الصبر
( يا سيدة منال ...... لقد مرت ساعة كاملة و لم نكمل حتى جميع القياسات , فمتى اذن سأقص القماش ؟؟ )
و بعد ساعتين كاملتين .... كانت وعد قد تمكنت بعد جهد من أخذ القياسات و قص القماش ... و تثبيته بأبرة و خيط مؤقتا ... كي تأخذه معها الى البيت و تبدأ في خياطته بماكينتها ....
و ها هي الآن تقف في مدخل البيت القديم ... تنظر بأسى لأعلى خلال التفافات السلم ... تود لو تبتعد و تجد لها مكانا آخر تسكنه ...
لماذا اذن كانت تريد من السيدة منال أن تتعجل , كي تنهي عملها .... الى ماذا تريد أن ترجع ... أو الى من ؟؟ .....
الى عبد الحميد ؟!!! ....
أخفضت وعد عينيها و هي تتنهد بتعب .... هل يأتي اليوم الذي ستتمكن فيه من الإستقلال بحياتها ؟؟ ....
لقد أصبح عمرها ستة و عشرين عاما .... و ها هي بدون وظيفة تناسب مؤهلها .... و لا تملك ايجار غرفة حتى في أي مكان ....
دون أن تدري وجدت نفسها تنخفض كي تجلس على درجة من درجات السلم ....
شعور غريب بالفراغ بدأ في التوسع بداخلها ....
ماذا حققت حتى الآن ؟؟ .... أربع سنوات و تصل للثلاثين دون وظيفة أو سكن مناسبين ... و دون حتى أن تجد أختها ملك ....
ستصل الى الثلاثين دون أن تجد ملك ؟!!! ....
عقدت وعد حاجبيها و تأوهت بصدمة و هي تفكر
و كم سيتبقى من العمر اذن كي تقضيه معها ؟!! ..... هذا إن وجدتها أصلا ....
مالت وعد برأسها حتى اسندتها الى حاجز السلم .... ثم أغمضت عينيها ....
لم تحقق أي شيء بحياتها .... اي شيء ....
ابتسمت بمرارة ساخرة و هي تفكر بنفسها حين كانت تلوم كرمة بينها و بين نفسها على زواجها المبكر الذي أنهت به حياتها ...
و الآن حين تنظر الي نفسها و تقارنها بكرمة .... تعلم بأن العيب ليس فقط في الظروف , فظروف كرمة كانت أصعب منها .... لكنها تمكنت في الوصول الى جزء كبير من أهدافها ....
بينما هي .... تجلس هنا على درجات سلم قديم , منقبضة من دخول بيت ذلك الرجل المكتوب لها والدا في شهادة الميلاد ....
فتحت وعد الكيس بيدها في صمت .... لتفتح منه كيس شرائح البطاطس الذي تمكنت من انقاذه من براثن ابن منال الثقيل .....
أخذت تلتقط واحدة بعد الأخرى تأكلها بصمت .... و بلا حياة تهبها الى ملامحها الشفافة المتعبة ....
و ماذا عن قرارها بعدم الذهاب الى العمل مجددا ؟؟ .... هل ستواتيها الجرأة لاتخاذ هذا القرار دون أن تجد عملا بديلا ؟؟ ....
لا تستبعد أن تموت من الجوع لو فعلت ذلك .... اليست تقطن مع عبد الحميد العمري ....
نظرت وعد الى شريحة بطاطس رقيقة بين أصابعها .... تتذكر أحداث اليوم مع سيف الدين فؤاد ... و الذي انتهى بجلوسها في سيارته ....
منذ فترة طويلة لم ترى معاملة شبيهة بتلك المعاملة التي تلقتها اليوم ....
بل الأصح أنها لم تتلقى مثل هذه المعاملة مطلقا .....
لا .... لا .... كيف نسيت ؟!! .... بل تلقت مثل هذه المعاملة من قبل ...
منذ سنواتٍ طويلة جدا .... من والد ملك رحمه الله .... كان طيبا معها جدا ......
كان يعاملها معاملة طيبة و يجلب لها بعض الحلوى كل فترة ....
لقد كانت صغيرة جدا ... لكنها مع ذلك تتذكره , تتذكر طيبته معها ....
لكنها كانت فترة قصيرة جدا .... و كأن الطيبة قد أبت أن تكون حليفة لها لفترة أطول ....
ليرحل فجأة في صمت و هدوء ..... كما يرحل كل شيء جميل في حياتها ....
تاركا أمها صفا ... وهي تحمل طفلتين ....
وعد عبد الحميد العمري ... و ملك ابراهيم عثمان ....
ابتسمت وعد ابتسامة حزن تسودها الرقة .... كم كانت ملك شبيهة بأبيها .... و كم فرحت بها حين وصلتالى هذا العالم على الرغم من أنها كانت مجرد طفلة في الرابعة ... لكنها تتذكر اطياف مشاهد حين كانت تتسلل الى المهد الصغير لتلعب بها قليلا ...
كانت طفلة ضاحكة منذ صغرها ....
أدخلت وعد يدها بأسى و شرود الى كيس البطاطس ... لكنها رفعت رأسها حين اكتشفت أنه قد فرغ تماما ... فتنهدت بحزن ..... حتى البطاطس انتهت .... العالم كله ضدها ... حتى البطاطس ....
حين لم تجد بدا ... نهضت بتثاقل ... تصعد الطوابق المتبقية , حتى وصلت الى شقتة والدها ....
و ما ان دخلت حتى وجدته قابعا في نفس مكانه بعيني الصقر الرماديتين كعينيها .... لكن شتان بين طبيعة النظرتين ...
تسمرت مكانها للحظات بانقباض قبل أن تغلق الباب ببطء و هي تتنهد في داخلها ...
ثم عبرت أمامه بسرعة و هي تقول بإقتضاب
( السلام عليكم ................ )
لكنها لم تتمكن من الهرب سريعا بما يكفي ... فقد لحقها صوته الأجش
( أين كنتِ ؟ .......... )
توقفت مكانها تزفر دون صوت ... ثم التفتت اليه ببطىء لتقول بفتور
( كنت عند السيدة منال التي تسكن قبلنا بشارعين ...... لأقص قماش فساتين بناتها .... هل هناك استفسار آخر ؟؟ ..... )
قال بصوتٍ آمر
( متى ستأتين بمال ؟؟ ...... هل تظنين حقا أنكِ قد وصلتِ لمثل عمرك كي تعيشين هنا مجانا لمدة شهر كامل ؟!! ..... )
ظلت تنظر اليه بعينين متجمدتين قبل أن تقول من بين أسنانها
( شهر كامل ؟؟!! ..... لماذا , أنسيت أنك قد أخذت المال الذي ادخرته لشهور ؟؟ .... فيما صرفته كله؟؟ )
قال دون أي احساسٍ بالذنب
( ما ادخرته كان ثمن معيشتك هنا ... و ليس طعامك , ما تلك الوقاحة فيكِ حيث تقفين أمامي متبجحة كل دقيقة بما تدخرينه من قروش !! .... )
امتلأ قلبها قسوة تجاهه أكثر و أكثر .... ثم همست من بين أسنانها
( لماذا أنت بهذه الصورة ؟؟ ... لماذا تعاملني بتلك الطريقة ؟؟ .... الا تشعر بذرة أبوة تجاهي ... فقط ذرة واحدة .... )
ظل ينظر اليها بملامح في قسوة الرخام البارد ... ثم قال بصوته الغريب
( أنت مثل أمك تماما ... جاحدة , ناكرة للجميل .... قذرة .... )
ارتدت للخلف قليلا و كأنه قد قذفها بالكلمة الأخيرة ... فانعقد حاجبيها بذهول .. لتهتف بعد لحظة
( لماذا تنعتني بهذه الصفة ؟؟ ... ماذا رأيت مني كي تنعت ابنتك الوحيدة بها ليل نهار و كأنها كلمة تدليل !! )
قال وهو ينظر اليها بلا أي ندم ...
( يكفيني أنكِ ابنة أمك ...... العرق دساس )
ارتجفت شفتاها قليلا و تشوشت الرؤية أمامها بدموع حبيسة .... ثم قالت بحدة
؛( و لماذا تزوجتها اذن طالما كانت بمثل هذه البشاعة .... لو لم تتزوجها لكنت قد رحمتني من أن أكون نسل كليكما ...... )
ضحك قليلا بخشونة ... بينما عيناه كانت مخيفتين كعيني الضباع وهو يقول
( أتعلمين أنني كنت شبه متأكدا من أنكِ لستِ ابنتى ..... كنت أود لو أرحت قلبك الآن بأنكِ بالفعل لستِ من نسلي أنا على الأقل ..... لكن للأسف , حين جئت لأخذك تأكدت من أنكِ لي ..... )
اتسعت عيناها بذهول و قد انسابت دموع القهر منهما على وجنتيها ... و هي تهتف بخزي
( كيف تخبرني ذلك بمنتهى البساطة ؟!! ..... و تقول للأسف أيضا ؟!! ....هل أنت آسف على أن ابنتك بنت حلال ؟!! .... أي رجل أنت ؟!! .... )
لم يظهر اي انطباع على ملامحه ... الى أن قال بصوته الذي أصبح كالنياط على جسدها
( ابنة حلال أم ابنة حرام .... هل سيشكل ذلك في كون أن أمك كانت خائنة قذرة ؟!! .... الذي يدعو للأسف أنها قد تركت لي ذرية تحمل من دمها الملوث ..... )
تحولت دموعها الي شهقات نحيب خافتة .... و هي تغلق عينيها تعصرهما قبل أن تفتحهما مجددا و هي تهتف بعذاب
( و لماذا أخذتني اذن ؟!! ..... كنت تركتني مع أختي ..... كنت تركتني مع أختي .... لماذا أخذتني طالما تكرهني لهذه الدرجة ؟!! )
قال متشدقا ببساطة
( آه أختك .... لا بد و أنها كانت بنت حرام هي الأخرى .... فذلك ما كانت تجيده أمك .... )
وضعت كفيها على ذنيها بقوة و هي تغمض عينيها باكية بعنف ... بينما ظل هو ينظر الى انهيارها بملامح متجمدة ....
الى أن رفعت رأسها في الأخير ... تنظر اليه و هي تنشج بضعف و عيناها متورمتان بشدة ... ثم همست من بين بكائها الذي تحول الى متعبا ضعيفا
( و كيف تأكدت من أنني ابنتك ؟؟ ........ لا أذكر أنك قمت بأي تحليل , ... او أي شيء من هذا القبيل ... )
ظل ينظر اليها لفترة ... قبل أن تلتوي زاوية شفتيه بسخرية ليقول ببساطة
( من عينيكِ .......... )
عقدت حاجبيها قليلا بعدم فهم ... الا انه تابع بصوته الأجش
( حين رحلت أمك و هي تصطحبك معها و قبل ان أتأكد .... كان من الصعب التنبه للشبه .... لكن ما أن عدت لآخذك من دار الرعاية .... و كنت قد كبرتِ قليلا ... ما أن نظرت الى عينيكِ حتى ادركت الشبه ... انهما نفس عيناي ...... )
صرخت وعد و هي تبكي بطفولة مقهورة
( أفضل أن أفقأهما ........ ... )
ضحك عبد الحميد عاليا .... فاستدارت بعنف تنوي مغادرته الى غرفتها , الا أن صوته جاء من خلفها غامضا نشازا
( كيف حال ابن عمتك ؟؟ ...... )
توقفت مكانها .. ثم استدارت اليه بعينين ممتلئتان كرها و بكاءا ... ثم هتفت بحقد دفين يحمل سخرية مريرة
( يبعث اليك بتحيته ......... )
رفع عبد الحميد احد حاجبيه متجاهلا الكره الواضح في عينيها و نبراتها ... ثم قال منشرحا
( حقا !! ....... ردي اليه التحية .... و بحرارة )
عقدت حاجبيها بشدة وهي تبكي بصمت ... تهز رأسها بذهول و يأس من هذا الكائن ... , ثم همست بصوتٍ كاره
( ماذا فعلت به و بأمه ؟!! ............. )
نظر اليها عبد الحميد مبتسما بتجمد ... قبل أن يقول بهدوء
( لما لا تسألينه هو ؟!! ..... فربما فتح قلبه لكِ و ارتاح للشكوى معك .... )
هزت رأسها مرة أخرى قبل أن تقول بخفوت يائس
( من الواضح أنه شخص لم يعتد الشكوى بحياته .... لكن الأمر لا يحتاج لذكاء لمعرفة أنك كنت نقمة على تلك الأسرة ..... كما أنت على كل اسرة تدخلها ... )
استدارت لتغادر , الا أنه قال بهدوء و كأنه يتكلم عن الطقس
( احذريه ..... فهو لن يهدأ له بال قبل أن ينالك ...... و ها أنا أحذرك لتعرفين أهميتك عندي )
تسمرت وعد مكانها مغلقة عينيها بقوة من عمق الذهول .... ثم هتفت بقوة
( كفى ....... كفى ...... )
ابتعدت و هي تشعر بغثيان فظيع .. الا أن صوته انطلق مجددا ليقول بهدوء
( بسرعة كي تحضري الغذاء .... لقد جعت ... )
دخلت وعد سريعا دون أن تكلف نفسها عناء الرد ... لتغلق بابها بالمفتاح ... ثم ترتمي على سريرها محطمة منهارة ... لم تكن يوما تحمل بداخلها اي عاطفة خاصة تجاه أمها .... الا أن كلامه كان له تأثير السم في عروقها ...
للحظات ... للحظات ودت بالفعل لو تكون ابنة حرام و لا ترتبط به بدمٍ أسود ... و يا حبذا لو لم تكن ابنة أمها كذلك ... لكن للأسف ذلك لم يكن متاحا .... فهي ابنة صفا بالدليل و البرهان ...
تذكرت الآن الأستاذة نوال ... استاذة الدار ...
التي كانت تفرق بوضوح في المعاملة بين أطفال الحلال و اللقطاء ....
بينما ها هي الآن .... جالسة تبكي على حافة سريرها .... تتمنى لو لم تكن ابنة حلال لهاذين الإثنين ....
صفا و عبد الحميد ....
نهضت ببطىء تمسح دموعها بظاهر يدها ... و اتجهت الى أحد أدراجها , تأخذ منه عدة ألوان من لفائف الصوف ... و ابره " الكروشيه "
ثم جلست على سريرها و بدأت في عقد طرف خيط أحمر في الأبرة الصغيرة و هي تهمس بينما الدموع لا تزال تنسكب بصمت على وجنتيها ...
( هذه القطعة ستستغرق نصف ساعة ..... فلينتظرها مرغما ... و الا فليكسر الباب و سأعاود تركيب قفل و مفتاح كما فعلتها اربع مرات من قبل ..... )
.................................................. .................................................. .....................
ظل منتظرا ... دون وعي منه تقريبا و ظاهر قلمه يطرق سطح المكتب بانتظار ... يحتاج الى قهوته الصباحية حالا ....
لا يستطيع أن يبدأ يومه بدونها ... و من يلومه !! ....
منذ أن طلبها بنفسه و هو يجلس متحفزا في انتظراها .... قهوته الصباحية ....
سمع أخيرا طرقة خافتة على الباب ... يستطيع ان يميز تلك الطرقة عن باقي الطرقات ... عن طرقة علا و عن طرقة علي ... و عن طرقة غيرهما ....
قال بصوتٍ عميق لا تعبير به ...
( أدخل .......... .... )
انتظر قليلا ... الى ان شاهد الباب يفتح , و الصينية تدخل اولا ... تمسكها اليد الصغيرة البيضاء ...
ابتسم داخليا دون ان يظهر شيء على ملامحه القاسية ....الى ان ظهر الجسد الأنثوي الهش الرقيق ...
يراها تخطو كعادتها على بساطه السميك .....
مطرقة تنظر الي الصينية بتهذيب .... لا ترتدي فستانها المنكوب اليوم .... ذو الورود و الذراعين المكشوفتين ....
لكنها ترتدي الزي الذي ارتدته في يومها الأول .... التنورة الرمادية و القميص الوردي ذو الرابطة حول الخصر ....
تأفف بداخله وهو يراها مجددا ترتدي كل ما يظهر تناسق قوامها .... لماذا لا تفهم طبيعة وظيفتها و أنه لا مجال لمثل تلك العروض هنا ....
اقتربت من المكتب بحيث استطاع جليا استنشاق رائحة صابون الوجه الذي تستخدمه ....
استطاع التعرف اليه ... لأنه صابون رخيص أصفر اللون يعرفه جيدا ... كانت أمه تحممه به وهو صغير ... لذا ظلت هذه الرائحة بأنفه منذ وقتها ....
الا يزال يتم انتاج مثل هذا الصابون بالفعل ؟!! ..... و لماذا اصبح لطيفا في أنفه الآن !! ...
انحنت وعد لتضع القهوة أمامه .... ثم كوب الماء ....
لتستقيم ببساطة تنتوي المغادرة ... فقال سيف بصوتٍ هادىء
( الأناس الطبيعين عادة يقولون صباح الخير .... خاصة لمدرائهم .... من باب التهذيب ... )
احمر وجهها و ارتبكت ... بينما أمسكت الصينية كدرع واقي كعادتها ... مخفية خصرها النحيف مما أثار غضبه أكثر من ارتدائها لهذا الزي ...
قالت وعد بخفوت
( صباح الخير ... سيد سيف )
لم يرد عليها صباحها .... من باب قلة التهذيب ... لكنه قال بهدوء
( هل أنتِ بخير الآن ؟؟ ....... )
أومأت برأسها ببطىء و هي تقول
( نعم طبعا بخير .... شكرا لك ... و شكرا لك على كل ما تكبدته بالأمس ... )
ضحك سيف في داخله و هو يفكر بأنه بالفعل قد تكبد الكثير بحملها .... يكاد يتذكر انقباض كل عضلات جسده حينها .... دون أي ضمير أو مراعاة لحالتها المرضية ...
لكنه لم يظهر شيئا حين قال بهدوء
( آه نعم بالأمس .... هل تأخرت في قضاء مصلحتك ؟؟ ... )
عقدت وعد حاجبيها و هي تقول بحيرة
( أي مصلحة ؟!! .......... )
حينها تجهمت ملامح وجه سيف ..قبل أن يستطيع منعها و هو يدقق في عينيها بقسوة ... ليقول بعدها بصوتٍ غريب
( لقد أنزلت قبل بيتك بشارعين ..... قلت أن لديك مصلحة ما تردين قضائها ... )
فكت وعد حاجبيها و هي تقول ببساطة
( آه ... نعم ... لا ... لم أتأخر ... شكرا لإهتمامك .... )
لم يرد سيف ... ولم تلين ملامحه , .. فاستدارت وعد نصف استدارة .. لكنها ترددت قليلا .. قبل أن تلتفت اليه ...
فتابع سيف يحدق بها بإهتمام ... بينما هي مطرقة الرأس ... ثم وجد يدها ترتفع لتحشرها في أحد جيبي تنورتها الرمادية ...
جيب أنيق مائل ...لا يظهر منه سوى فتحته ذات الإطار المائل ... و حين أدخلت يدها ازداد شد التنورة حول بطنها قليلا ... فعبس سيف وهو يشعر بيده تنقبض حول القلم الممسك به أكثر ...
الى أن وجدها أخيرا تخرج قطعة مستديرة ملونة .... لتضعها ببطىء على سطح مكتبه وهي مطرقة الرأس ...
نظر سيف الى قطعة الكوروشيه التي تشبه وردة مسطحة ملونة بعدة ألوان .... لكنه رفع رأسه حين نطقت وعد أخيرا بخفوت دون أن ترفع وجهها اليه
( هذه .... ردا للأشياء التي جلبتها لي بالأمس .... )
ازداد عبوس سيف .... و التوى شيء غريب في معدته , الا أنه حين تكلم قال بهدوء
( هل أخبرك أحد من قبل أنك قليلة الأدب ؟!! ...... )
رفعت وعد عينيها اليه للحظة ثم أخفضتهما ... الا أنهما لم تكونا خائفتين على غير العادة ... ثم همست
( نعم .... أنت .... )
مدت يدها تسحب تلك القطعة و هي تهمس
( آسفة ...... أعرف أنها لا تليق بك ... )
حينها امتدت يده تغطي يدها بهدوء !! .....
رفعت وعد عينين متسعتين ...كالقمر في تمامه الى عينيه ... و احمر وجهها بشدة من يدها الموضوعة على مكتبه و يده تغطيها ....
الا أن سيف لم يهتم وهو يقول بصوتٍ جاف
( ألم يعلمك أحد .... حين تقدمين هدية , .... لا تذكري أنها ردا لأي شيء .... )
ارتبكت وعد و عضت على جانب شفتها السفلى .... و ازداد احمرار وجهها و هي تهمس بذهول خفي
( آسفة ........... )
أخذ سيف وقته كاملا وهو يحدق بعينيها واضعا كفه فوق كفها قبل أن يسحبها ببطء دون أن يسحب عينيه عن عينيها .... ثم نظر اأخيرا الى الوردة الملونة ليقول بصوتٍ عميق للغاية
( هل صنعتها بنفسك ؟؟ ........... )
أومأت وعد برأسها قبل أن تهمس ببراءة
( إنها خاصة بكوب الماء ..... انظر )
ثم أمسكت بالكوب لتضعه فوق الوردة ... فجاء مقاسها مناسبا تماما و أوراقها بالكاد ظاهرة من أسفل الكوب
ثم قالت وعد دون أن تنظر اليه ...
( كي لا يترك الكوب أثرا على سطح المكتب ..... لاحظت أنك لا تمتلك أحدى تلك الدوائر الخشبية ... و خشب مكتبك غالي .... لا ينبغي أن تترك عليه حلقة ماء متخلفة عن كوب الماء .... )
قال سيف يقاطعها بإتزان
( هششششششش .... كفى ثرثرة .... )
صمتت وعد مرتبكة .... فقال سيف بهدوء بعد فترة طويلة
( يدهشني اهتمامك بحلقة الماء المتخلفة عن كوب الماء بعد حمام العصير الذي غسلتي به مكتبي بالأمس ... لكن ......... )
صمت قليلا ... قبل أن يرفع عينيه الى عمق عينيها الرماديتين ليتابع بخفوت
( شكرا لك يا وعد ......... )
ابتسمت للحظة قبل أن تعود و تسحب الإبتسامة سريعا .... وهي تومىء برأسها قبل أن تقول بأدب
( العفو ..... عن اذنك )
ثم خرجت بسرعة تغلق الباب خلفها دون صوت .... بينما بقى سيف ينظر الي الوردة الملونة طويلا بتعبير وجه غير مقروء ... قبل أن يمد يده و يأخذ الكوب من فوقها ليضعه بعيدا على سطح المكتب ... ثم يعاود النظر اليها !! .......
.................................................. .................................................. ..................
كانت وعد تقدم بعض المشروبات و الطلبات هنا و هناك ... و قد أصبحت تعلم معظم خبايا الكثير من الموظفين هنا ... من كلامهم ... اتصالاتهم ... مزاحهم مع بعضهم البعض .....
الموظفات هنا معظمهن مدللات ... يدفعن الكثير و الكثير , و يبقين غير راضيات عن نتيجة منظرهن ....
بينما الكثير من الشباب هنا من طبقة عالية .... لا يبدو عليهم احتياج قوى للوظيفة , من طبيعة هواتفهم و ساعات معصمهم ....
لكن ليس الجميع بهذا الشكل .... فناك الكثير ايضا ممن يبدو عليهم الاتزان في التصرف و المظهر ... أمثال من يريد تكوين نفسه بصرف النظر عن حال اسرته ...
وصلت وعد الي مكتب أحد الموظفين الأكبر قليلا ... ممن يمتلكون مكتب خاص بغرفة و ليست مجرد حواجز فاصلة بين المكاتب ....
طرقت وعد الباب بهدوء لتدخل مكتب الأستاذ رامي رجل في منتصف الثلاثينات ... وسيم بثقة تصل الي الغرور ... مهتم بمظهره و مكانته للغاية ...... ثم دخلت لتجده يتحدث في هاتفه الخاص وهو يقول
( لا تقلق ..... في ظرف أسبوع سأكون قد عثرت لك على عنوانه ... مكتب التحقيق سيتولى الأمر ... لا تخف ... حين بدأت أنا و اخي في انشاء هذا المكتب .... كنا نعلم جيدا ما نفعله .... و حتى الآن لم يضع منا أي طلب تحقيق الا و قد نفذناه وعثرنا على المطلوب .... حتى ولو كان شخص هارب منذ عشر سنوات )
تسمرت وعد مكانها و هي تدقق النظر بحدة في ملامح الأستاذ رامي وهو يتحدث بثقة ... و قد ثبتها كلامه و صعد مباشرة الى مصابيح عقلها فأضائها .....
استمر رامي يتكلم قليلا ... الى أن نظر اليها واقفة في مكانها تحدق به بعد أن وضعت الكوب الساخن دون أن تغادر المكان ....
فتابع كلامه بهدوء دون أن يشير اليها بالإنصراف ... و أخذ وقته متمهلا , الى أن أنهى مكالمته بهدوء أخيرا ... ثم رفع نظره اليها مبتسما ليقول بصوت ممطوط و كأنه معتاد على إعجاب الإناث به
لكن وعد لم تلحظ ذلك و هي تقف أمامه متخلية أنها اشارة من السماء ...
( صباح الخير ........... )
ردت وعد بخفوت
( صباح الخير أستاذ رامي ...... )
ارجع رامي ظهره للخلف منتظرا .... مبتسما .... الى أن قالت وعد أخيرا بارتباك
( سيد رامي ..... هل يمكنني أن أحدثك بموضوع خاص قليلا .... )
اتسعت ابتسامته أكثر لكنه قال ببساطة
( بالطبع تستطيعين ... أنااااااااا أبسط مما تتخيلين ... )
أومأت وعد برأسها مبتسمة بإهتزاز ... وهي تهمس
( شكرا ........ )
ثم أخذت نفسا عميقا قبل أن تهمس محمرة الوجه ...
( سيد رامي ... لقد سمعت ... جزء من محادثتك ... و أنا آسفة جدا جدا ... صدقني لم أقصد ... )
قاطعها رامي ببساطة وهو يقول
( مهلا ... مهلا ... و لماذا ترتجفين بهذا الشكل , لا بأس ...... )
أومأت وعد مرة أخرى تبتلع ريقها ... ثم رفعت رأسها اليه و همست
( هل تمتلك حقا .... مكتب تحقيق ؟؟ .... لقد سمعت عن الأمر في بعض الأفلام الأجنبية ... لكنها المرة الأولى التي أسمع بها هنا في البلد ..... )
أجاب رامي مبتسما بعفوية ... ليست عفوية تماما
( نعم .... أنه مشروع جديد نوعا ما , على الرغم من أني و اخى بدأنا به منذ عدة سنوات ... و الحقيقة أن البلد هنا في حاجة اليه أكثر من الخارج آلاف المرات .... لكننا لا ننشر الموضوع على الملأ ... عملنا يقتصر على من نثق بهم .... كخدمات خاصة .... تعلمين ... لأنه أحيانا يتعارض الأمر مع عمل الشرطة في البحث و كثيرا ما عطلو لنا عملنا في بعض الحالات و نحن لا نحتاج لوجع رأس بهذا الشأن ..... )
أومأت وعد برأسها بسرعة و هي تقول بسرعة
( نعم .... نعم .... هذا ممتاز ..... و كثير من الناس هنا تحتاج هذا المشروع , فاسهل شيء يضيع هنا في البلد الأوراق و هويات الناس ..... و الناس نفسهم .... )
أومأ رامي موافقا .... ثم انتظر يدقق بها النظر في كل تفاصيلها التي تختلف كليا عن مظهر السعاة ... فهي تبدو كشيءٍ يفتح النفس للعمل صباحا ... مع القهوة ...
حين تكلمت وعد أخيرا .... بعد ان حصلت على جرعة شجاعة ... قالت بخفوت
( سيد رامي .... اشعر بأنك قد هبطت علي كنجدة كنت احتاج اليها من فترة .... )
رد رامي بهدوء مبتسما
( حقا ؟!!! ......... )
اومات وعد براسها مباشرة و هي تقول
( نعم ...... لقد اضعت شخصا قريبا مني , و حتى اوراقه ضاعت كلها ... فهل يمكنك ان تجده لي ؟؟ .... )
التوت ابتسامة رامي وهو ينظر اليها ليقول
( اتريدين استئجار خدماتنا ؟؟ ....... لكنها غالية جدا يا وعد , تماثل أتعاب مكتب محترم للمحاماة )
امتقع وجهها و هي تفكر ...بأنها لم تحسب حساب تلك النقطة أبدا ...
هل من المعقول أن تفقد أملا كهذا .... لمجرد انها لا تمتلك مالا ؟!!! ....
ظل رامي ينظر اليها مبتسما و هي تعض شفتها مفكرة بأسى ... فقال بصوت ناعم
( لما لا تحكين لي القصة ..... ربما تمكنت من مساعدتك )
نظرت اليه وعد بصمت .... لا تريد أن تفشي كل أسرارها دفعة واحدة الى أن تتأكد من أنها ستستئجر خدماته .... لكن الأمل كان لا يزال يدفعها بقوة ... فقالت بخفوت يكاد يشبه الرجاء
( طفلة ...... كانت في دار رعاية أعرفه , تم ازالة الدار بأمر من الحكومة و توزيع الأطفال على دور أخرى .... لكن أوراقهم تداخلت و فقد بعضها .... و فقدت أنا هذه الطفلة .... الأمر تقريبا مستحيل )
لمعت عينا رامي ببريق صامت .... ما بين شهوة و سخرية .... و نوعا من الإزدراء ...
ثم نهض من مكانه ببطء ليلف حول مكتبه حتى وصل اليها و اقترب منها للغاية حتى كاد أن يلامسها فابتعدت خطوة ... الا أنه قال بصوت خافت للغاية له نبرة غريبة مع ابتسامته المقلقة
( هل فقدتِ طفلة في دار رعاية ؟؟ ..... هل هي قريبة لكِ ؟؟ .... )
ابتلعت وعد ريقها و قد بدأت تشعر بالخوف من نبرته و ابتسامته .... و قربه بهذا الشكل , فهمست بصوت متجمد قلق
( نوعا ما ....... أعرفها فقط ..... )
فقال متفهما بشكل مبالغ فيه ... و بينه و بين نفسه قد قام بتصنيفها على الفور
( نعم ..... نعم ..... فهمت .... )
ثم مد يده يمسك بذراعها يقربها منه خطوة وهو يهمس ...
( لما لا تأتين الى مكتبي الخاص الليلة .... و سنتباحث الأمر .... )
قفزت وعد للخلف وهي تهتف برعب
( لكننا لم نناقش مسألة الأتعاب ........ )
فعاد ليقترب منها أكثر ... ليضع يده على خصرها هامسا مبتسما
( الليلة سنناقشها ...... )
قفزت وعد للخلف كالملسوعة ... و هي تهتف بحنق
( لا شكرا ...... أنسى الأمر )
ثم جرت الى الباب تفتحه لتخرج منه الا أنه لحقها و قد ابتعدت عدة خطوات في اتجاه المكاتب ذات الحواجز الفاصلة ... فنادى ساخرا بصوتٍ التفت له الرؤوس
( أنا في الخدمة يا وعد ...... )
احمر وجهها بشدة و أسرعت الخطا في اتجاه غرفة السعاة دون أن تنظر اليه .... لكن هناك من كان ينظر اليه بخلاف من نظر من الموظفين .....
هناك كانت عينان في برود الجليد تراقبان الموقف بملامح مرعبة شديدة البأس ... حيث كان مارا ممسكا بأحد الملفات في يده الى أن استوقفه صوت رامي العالي ... ليرفع رأسه و يرى وعد تخرج من مكتبه مسرعة بوجهٍ محمر مرتبك .... غارق في الخزي !! ....
سيطر سيف على ما يشعر به في لحظةٍ واحدة ... ثم تابع سيره الى مكتبه دون أن يلتفت للوراء ولو للحظة .... ليس بعد ....
.................................................. .................................................. .......................
دخلت وعد الى غرفة السعاة ترتجف بقوة ... وجهها أحمر و عيناها حانقتان و صدرها يلهث بشدة .... فما أن رآها علي ... حتى اقترب منها بسرعة وهو يقول بقلق
( وعد .... ماذا بكِ ؟؟ .... )
الا أنها لم ترد و هي تتنفس بعنف و غضب ....ثم طوحت بالصينية كالطبق الطائر لتحط في المغسلة محدثة صوتا عالٍ مزعج .و هي تهتف
( اللعنة ....... )
فأمسكها علي من كتفيها ليجلسها على الأريكة ثم جثا أمامها يقول بخوف
( ماذا بكِ يا وعد ؟؟ ...... كلميني فقط ... ماذا حدث ... )
اخذت وعد تسحب عدة أنفاس الى أن هدأت قليلا .... ثم نظرت الى علي الجاثي أمامها , فهمست وهي تحاول التنفس بطبيعية
( لا بأس يا علي ..... فقط اتركني قليلا .... رجاءا .... أنا بخير )
ظل علي مكانه قليلا ينظر اليها .... يود لو يمسك بكفيها ... لكنه نهض أخيرا وهو يقول
( حسنا .... لكني لن أذهب الى مكان , سأبقى هنا معك ...باستثناء الطلبات الباقية . سأقدمها كلها و استريحي انتِ )
أومأت وعد برأسها دون أن ترد .... و في داخلها تصرخ بجنون
غبية ..... غبية ..... غبية ......
لكن ماذا كان بإمكانها أن تفعل ؟!! ..... من يلومها على التنازل و وضع نفسها في مثل هذا الموقف ....
انها ملك .... ملك التي تركتها في الدار وحيدة من أجل أبٍ لا يستحق حتى حرفي الكلمة ...
ملك التي تركتها بمنتهى الأنانية كي تذهب أملا في أسرة و بيت........ فلم تجد الأسرة و لا البيت ...
و قد أضاعت ملك للأبد .....
تنهدت بأسى و هي تنسى الحقير القذر ..الوحيد الذي كان يملك مفتاح مساعدتها .....
لتشرد بتفكيرها في ملك مرارا ....
و مرت الساعات ... و بعد فترة طويلة جدا انحدرت نظراتها الى الجريدة المطوية بجوارها و التي تركتها هنا صباحا أثناء بحثها عن وظيفة كالعادة دون جدوى ....
فامتدت يدها اليها .... تفتحها بصمت و هي تقلب فيها ذات اليمين و ذات اليسار .... تفكر بعمق ثم همست تقول
( علي ..... هل لديك فكرة عن تكلفة إعلان بهذه الجريدة ؟؟ ..... )
نظر اليها علي ليقول بحيرة
( هل تودين أن تضعي بها إعلان ؟؟....... هذا يختلف .... لكن عن أي شيء الإعلان ؟!! )
قالت وعد بخفوت غير واثقة
( بحث ......... عن صديقة ..... )
ارتفع حاجبي علي حتى كادا أن يلتصقا بمقدمة شعره ... ثم أعاد بغباء
( ستضعين اعلان في جريدة ....... للبحث عن صديقة ؟!! ..... )
أومأت وعد برأسها .... ثم همست
( صديقة أضعتها منذ سنوات طويلة ...... أخطأت بحقها و لا بد أن أعثر عليها ..... لأعوضها .. )
ظل ينظر اليها بتعبير كارتوني مذهول ثم قال أخيرا يستفسر
( هل هي من عالم البشر ؟!! ....... )
امتعضت وعد و هي تقول متأوهة
( علي ...... لقد مررت بالكثير خلال اليوم و أمس .... فمن فضلك الأمر لا يتحمل مزاحك )
قال علي بحيادية
(؛ أنا لا أمزح ..... لكن على الأرجح أنت من تفعلين ..... )
هتفت بحنق
( لا أفعل .............. )
ظل ينظر اليها كمن ينظر الي مخلوق خرافي .... ثم قال أخيرا
( هل تتذكرين اسمها جيدا ؟؟ ....... )
همست وعد بحرارة
( كحفظي لاسمي تماما ............ )
ظل علي ينظر اليها بارتياب من مدى غرابتها عن الحياة .. ثم قال أخيرا
( سؤال ..... مجرد سؤال كنوع من الإستفسار الغير مغفور من جانبي ...... هل جربتِ على سبيل المثال , البحث عنها ربما عن طريق موقع التواصل ؟؟ !!! ..... )
امتعضت وعد وهي تأفف .... لكنها قالت بغضب مرغمة
( من المستحيل أن يكون لها حساب على مواقع التواصل يا علي ..... كن جديا )
قال علي ببساطة و هو يرفع أحدى حاجبيه توجسا
( و لماذا يكون ذلك مستحيلا ؟!! ....... اليست شابة ؟؟ ..... كم عمرها ؟؟؟ )
تنهدت وعد و هي تقول
( عمرها الآن تقريبا اثنان و عشرين عاما ....... لكن من المستحيل أن يكون لها حساب على تلك المواقع ... أنا ..... انا فقط ...... أتمنى أن تكون على قيد الحياة .... لقد مررنا بظروف صعبة .... ظروف لا تعترف بتلك الرفاهيات .... ظروف تجعل من ينجو منها يعد بطلا ...... )
ظل علي يستمع اليها قليلا ... ثم قال أخيرا
( و لو كانت قد نجت .... ووجدت طريقها مثلك تماما , فما الذي يمنع أن تكون مثل باقي من هم في مثل عمرها ؟؟!! ........... )
نظرت وعد اليه تأبى الإعتراف .... ثم قالت أخيرا بقنوط
( أنا لم أنشيء حساب في أي من تلك المواقع إطلاقا ...... )
رفع علي كلتا يديه عاليا وهو يصرخ و قد فقد السيطرة على نفسه
( هذا لأنكِ لستِ معنا في عالم الأحياء ...... أنتِ تعيشين عالم الجفاء الإجتماعي و عصر الرسم على الجران حيث كات تلك هي طريقة التواصل الوحيدة .... )
هتفت وعد تبرر بعنف
( لم أمتلك حاسبا من قبل .... و لا حتى هاتف .... )
أغمض عينيه يهز رأسه بيأس وهو يقول
( أنتِ ... حالة ميؤوس منها خارجة من كتاب تاريخ يعلو سطحه الغبار ..... )
صمتت وعد و هي تطرق برأسها .... فنظر علي اليها بصمت ثم قال بعد فترة طويلة
( هل هي مهمة لك ؟...... تلك الفتاة التي تبحثين عنها ؟؟ .... )
قالت وعد بحزن دفين
( أكثر من أهميتي لدى نفسي ........ )
اقترب علي منها ليرتمي بجوارها على الأريكة ... فقفزت قليلا ... ما بالهم هؤلاء الرجال حين يجلسون يحدث زلزال في المنطقة المحيطة !!
اخرج علي هاتفه من جيب بنطاله .... ثم قام بضغط الشاشة ... وهو يقول
( سأنشيء لكِ حسابا خاصا .... حتى يكرمك الله بحل عقدة بخلك اللامتناهية و تشترين هاتفا خاصا لكِ ... )
همست وعد غير مقتنعة
( لن يصلح هذا أبدا ....... انه تضييع للوقت )
قال علي رافعا رأسه للسماء
( هل من الممكن أن نجرب فقط قبل الإعلان ؟!!! ...... ربما كانت أكثر الحلول تفاهي هي أجداها ..... هذا بخلاف أنكِ لم تحسبي شيئا آخر .... )
همست وعد و هي تسند وجنتها الى كفها المضمومة بقوة
( وماهو ؟؟ ......... )
قال علي رافعا احد حاجبيه
( انه ربما كانت هي الأخرى تبحث عنكِ ......... )
نظرت وعد اليه بعينين تشعان بريقا مجنونا جياشا بعاطفةٍ خالصة ,,فابتسمت ... حينها ابتسم لها علي لينظر الي الشاشة قائلا
( هناك مشكلة وحيدة .... بما أن الهاتف معي و بما أنني سأنشيء لكِ الحساب ... ستكون كلمة مرورك السرية معي ...... حينها سيكون حسابك كله مفتوحا أمامي .... من رسائل و صور و غيرها .... )
قالت وعد بسرعة
(لا بأس يا علي ...... فأي رسائل تلك التي تتحدث عنها يا حسرة .... و انا أصلا لن يكون لي أصدقاء لأضيفهم غيرك ......)
قال علي مبتسما
( و صديقتك .... حين نجدها ..... )
قالت وعد تتنهد بحرارة
( ياااااا رب .............. )
قال علي أخيرا
( ما هو اسمك كاملا ..... الذي تعرفه صديقتك .... )
ترددت وعد قليلا قبل أن تقول أخيرا بصوتٍ خافت
( وعد عبد الحميد العمري .........)
ضحك علي وهو يقول مازحا
( عبد الحميد ؟!!! ....... ياالهي !! ..... انه اسم الساعي الذي كان هنا من قبلك ... استغفر الله كلما تذكرته وددت لو ....... )
صمت قليلا ..... طويلا .... ثم رفع اصبعه .... و رفع عينيه الى عينيها الرماديتين المرتبكتين .... ثم قال أخيرا بذهول ...
( لا ...... لا .... اخبريني أنني أتوهم ......... رجاءا ..... )
همست وعد برجاء
( لا تخبر أحدا بذلك يا علي أرجوك .......... )
نهض علي ببطء ليقول بخفوت
( أعتقد أنه علي أن أذهب بعد كل تلك الإهانات التي لوثت بها سمعك من قبل ........ )
جذبته وعد من ذراعه ليسقط مجددا ... و هي تقول بحنق
( اجلس يا علي و احترم نفسك ..... هيا أكمل ما كنت تفعله ...... )
جلس علي ... ينظر اليها بطرف عينيه .. و خوف جديد يعتمل في نفسه من ان ينال صفعة على مؤخرة عنقه منها كما كان يفعل المقزز ... احم ... عبد الحميد ....
قال علي بخفوت
( بالمناسبة ..... ما اسم صديقتك ؟؟ )
قالت وعد بخفوت
( ملك ...... ملك ابراهيم عثمان )
أومأ علي ... ثم قال ببديهية
( حسنا ..... طبعا دون الحاجة للسؤال .... ليس لديك بريد الكتروني .... )
هتفت وعد بسعادة منتفضة ... حتى ان علي توجس منها و انتفض مبتعدارافعا يده مدافعا عن وجهه بطريقة غير ملحوظة
( نعم لدي ...... حين اخذت دورات للحاسب ارغمونا هناك أن يكون لكلٍ منا بريد الكتروني قبل البدء في الدورة )
نظر اليها علي بطرف عينيه ... ليقول مستنكرا بسخرية
( دكتاتورية !!!! ..... منهم لله )
ثم تابع انشاء حساب على موقع التواصل على بريدها الايكتروني ... ووعد مائلة اليه تراقبه بانبهار طفولي ... ثم رفع هاتفه اخيرا ليقول
( الان الصورة ...... ابتسمي )
ابعدت وعد عينيها و هي تهتف
( لا .... لا اريد ..... ضع اي صورة حيادية ..... )
تنهد علي وهو يقول
( صورة حيادية ؟؟؟ ..... لما لا نضع خريطة البلد مع تحديد الرقعة الزراعية بها ؟!!! .... وعد لابد ان تضعي صورتك في حالتك تلك تحديدا فلربما تمكنت من التعرف اليك )
توترت وعد ... و تشنجت أصابعها ... و ارتبكت ... فشعر علي بالعطف عليها , فقال يهدئها
( لا بأس ..... لا تخشي شيئا , سنضع الصورة المحترمة و نخفي صورة الإغراء ذات الوضع الحلزوني بعيدا )
ضربته وعد على ذراعه و هي تضح قليلا تاركة بعض من قلقها ... ثم ابتسمت بقلق ما أن رفع علي الهاتف الى وجهها ... فقال برقة
( أريني أجمل ابتساماتك ......... )
ابتسمت وعد أكثر ... و شردت عيناها بأمل في صورة ملك الحالية .... هل هي جميلة ؟؟ ....
التقط علي الصورة وهو يقول مبتسما بصوتٍ مبحوح
( رائعة .......... )
ابتسمت وعد له بمودة .... بينما كان ينهي ما يفعله .... و لم يلاحظا أن هناك من كان واقفا بالباب .. ينظر اليهما بشراسة ... الى أن قال أخيرا بصوتٍ عميق
( علي ....... لقد انتهى اليوم , لماذا لم تغادر ؟؟ ..... )
انتفض كلا من وعد و علي ينظران الى سيف الواقف بالباب ... بهيئته الضخمة المخيفة بطبيعتها دون الحاجة لبذل مجهود .....
فنهض علي يقول بدهشة
( حقا ؟!!! ...... لم نشعر بالوقت .... شكرا لك سيد سيف .... هيا يا وعد ي نغلق المكان )
قال سيف بهدوء
؛( لا يا علي .... اذهب انت ... سأبقى أنا و بعد الموظفين لوقتٍ أضافي , و نحن في حاجة لوعد .... )
قال علي بسرعة
( سأبقى أنا اذن و تغادر وعد ...... لقد كانت متعبة اليوم و ...... )
قاطه سيف بصوتٍ حازم لا يقبل الجدل
( ستغادر أنت يا علي ..... و ستبقى وعد .... )
ثم نظر الي وعد بوجهٍ جامد لا تعبير له ليقول بصوته العميق
( هل تمانعين يا وعد ؟؟ ....... )
قالت وعد بسرعة و تهذيب
( على الإطلاق ....... سأبقى ..... حاضر )
قال سيف بنبرةٍ بها لمحة استهزاء
( طبعا ستنالين ثمن وقتٍ اضافي ..... لا تقلقي )
شحب وجه وعد و هي تنظر اليه و قد بدا غريبا كأول يوم عرفته .... بينما انسحب علي بصمت يتبعه سيف بلا كلمة .....
.................................................. .................................................. .....................
بعد أن دق الهاتف يطلب منها قهوته المساءية ....... جلس ينتظرها ........ كما كان ينتظرها صباحا ...... لكن شتان ما بين حالتي الإنتظار ...... كان جالسا كبركان ثائر على حافة الإنفجار ...... بداخله غضب عنيف ، لا يماثل قيمة فتاة لا قيمة لها أصلا في حياته ...... شعور غريب بالرغبة في القتل تنتشر في أوردته ...... لم يكن ليدع الأمر ليمر مرور الكرام ...... لذا و بعد فترة مناسبة اتجه حاملا نفس الملف البائس ..... يسير في ارجاء الشركة متعمدا العفوية ...... الى أن وجد مقصده .... رامي ....... كان واقفا مع احدى الموظفات يمزح معها ، لكن و ما أن لمحا سيف حتى اعتدلا لتنصرف الموظفة بسرعة تتبعها نظرة سيف الجليدية ...... بينما استقام رامي يقول مبتسما ببساطة
(مرحبا سيف ........ )
ارغم سيف نفسه على الابتسام ببرود قبل أن يرد بلهجة تمكن من جعلها عادية
( مرحبا رامي ........ )
ثم سكت متعمدا ليقول بهدوء
(أردت سؤالك عن شيء لفت نظري اليوم ...... تلك الفتاة الجديدة ...... الساعية ..... لقد رأيتها تخرج من عندك مسرعة و كأنها قد ارتكبت جريمة و أنت تصرخ بأنك في الخدمة ...... ماذا كانت تريد منك ؟)
ضحك رامي قليلا لكن بدون حرج ثم قال
(اعفيني يا سيف رجاءا من الكلام ..... لم يكن يتوجب علي أن أصرخ بهذا الشكل ، لكن رغما عني لا أملك سوى تعمد احراج احداهن حين أجدها من هذا النوع........ ).
تجمدت ملامح سيف بصورة غير ملحوظة ...... قبل أن يقول بصوت هادىء
( أي نوع ؟............. )
ابتسم رامي بتحرج هذه المرة و هو يقول
(.......... اعفيني يا سيف رجاءا)
قال سيف بلهجة هادئة لكن امتلأت بنبرة الحزم الذي لا يقبل الجدل
(رامي ..... اخشى أنني مصرا على معرفة الأمر لأن تلك الفتاة تعمل في مرحلة مؤقته و أنا لا أرغب في توظيف تلك التي تشير أنها من نوع ارفض الإشارة اليه بدون حجة قوية ...... )
أطرق رامي برأسه قليلا .... قبل أن يقول مستسلما
( كانت تريد استئجار خدمات مكتبنا الخاص أنا و أخي ..... أنت تعرفه .... )
عقد سيف حاجبيه بشدة ليقول بحيرة
( نعم أعرفه ....... فيما كانت تريد خدماته ؟؟ !! ...... )
رد رامي مبتسما ابتسامة ذات مغزى
( تريد معرفة طريق طفلة أودعتها في دار للرعاية .... ثم فقدت أثرها .... )
اتسعت عينا سيف .... و تشنج جسده , فأومأ رامي موافقا دون الحاجة للنطق .... ثم قال بهدوء
( لقد أخبرتني بهذا بنتهى الهدوء ..... دخلت لرجل غريب تخبره بذلك بمنتهى الهدوء , فضلا عن كونها لا تمتلك أتعاب لتلك الخدمة ..... فماذا يفترض بي أن أفهم من ذلك ؟!!! .... )
تصلبت ملامح سيف تماما ... و اشتعلت عيناه بلهيب أسود مخيف , ثم قال بخفوت
( رامي ...... إنها أمور لا تحتمل الإدعاء , فلو كنت قد ...... )
قاطعه رامي بهدوء
( لو كنت أكذب هل كان بإمكاني أن أعلو بصوتي هكذا أمام الجميع .... فتركض خائفة من أمامي دون الرد ؟!!! )
صمت سيف تماما حينها و لم يجد أي رد .....
وها هو الآن يجلس في انتظارها .... بروحٍ على وشك الوثوب لقتلها دون رحمة .... لقد دافع عنها أمام شقيقته , على الرغم من عدم ثقته بها .... لكنه لم يستطع تخي أن تكون بهذه الدرجة ال ......
كان عرض عبد الحميد البائس لا يزال يطوف بذهنه .... حين عرضها للزواج و كأنها بضاعة رخيصة يريد التخلص منها ....
دخلت وعد الي المكتب ... تمر بمكتب علا أولا فوجدته خاليا .... هل ذهبت ؟!!! .... ألن يحتاج الى سكيرتيرته ؟!!! .....
فطرقت الباب و دخلت بهدوء .... كالعادة مطرقة الرأس .... تسير فوق البساط السميك بلا صوت ...
لكن شيئا ما أثار قشعريرة باردة في أوصالها .... احساسها بطاقة غضب او كره جبارة تحيط بالمكان ...
لكنها كذبت احساسها ووضعت الصينية برفق على سطح المكتب ...
أنزلت الفنجان .... ثم أنزلت الكوب بحثا عن وردتها الى أن وجدتها مكانها فابتسمت قليلا و هي تضع الكوب فوقها
الا أن صوته قصف قويا
( ضعيها على سطح المكتب ...... )
رفعت عينين مصدومتين الى وجهه المخيف ...لكنها وضعت الكوب على سطح المكتب كما أمر ... ثم همست بعد تردد
( سيد سيف ..... هل أخطأت بشيء ؟؟ )
ارجع ظهره للخلف ... ناظرا اليها بصمت قبل ان يقول بصوتٍ غريب
( لماذا هذا السؤال الغريب ؟؟؟ ..... هل تشعرين بأنك قد أخطأت بشيء ؟؟ )
لم ترد .... لأنها لم تعرف بماذا ترد ... الا أن قلبها امتلأ قلقا .... فهمست ترتجف
( انت ..... مختلف قليلا عن ..... الصباح )
و كأنها قد أطلقت سراح الوحش .... فتوحشت ملامحه دون أن يهتم بإخفائها هذه المرة وهو يقول بصوتٍ خافت لكن مرعب
( هل نسيت نفسك ؟!! ..... )
ابتلعت باقي كلامها بسرعة ... و انقبض قلبها , فهمست بتوتر
( أنا آسفة .... لم أقصد ..... )
لكن سيف ارتدى قناع الجليد مرة أخرى وهو يقول ببرود
( عامة يا وعد .... يؤسفني أن أخبرك بأن عملك معنا قد انتهى )
شعرت وعد أن صاعقة قد ضربتها ..... و بأن الأرض تميد بها ... لكنها تمكنت من الهمس بذهول
( ماذا ؟!! .... لماذا .... ماذا فعلت ؟!!! .... )
قال سيف بهدوء
( لم يعد يناسبني وجودك هنا ....... )
همست وعد و كأنها تهذي
( لم يعد يناسبك ؟!! ..... لم أكمل حتى الشهر !!! )
قال سيف بنبرة استهزاء
( لا تقلقي ..... ستحصلين على راتب شهر كامل )
هزت رأسها قليلا غير مستوعبة الكابوس الذي تحياه ... ثم همست بعذاب
( لقد تركت عملي السابق ....... )
ابتسم سيف بقسوة قائلا
( آآآه ..... كبائعة أحواض و مراحيض ؟!!! ..... كان هذا خطئك اذن )
فغرت شفتيها قليلا ... تنظر اليه بعدم تصديق .... لكنها أرغمت نفسها على التنفس قبل أن تصاب بالدوار ... ثم همست أخيرا
( حسنا ...... شكرا لك , بعد اذنك ... )
استدارت لتغادر فلم ترى نظرة الغضب المذهول من سيف الذي لم يتوقع استسلامها بهذه البساطة ...
فنادى خلفها بقوة
( وعد ........... )
توقفت مكانها ... ثم استدارت اليه ... بعينيها الحزينتين , ... المائلتين بقسوة يكاد أن يغرق بهما ... مما جعله يغضب أكثر و أكثر ....
نهض من مكانه بقوة ليستدير حول المكتب ... الى ان وصل اليها فرفعت رأسها اليه كي تجاري طوله ...
لتفاجى به يمد يده ليقبض بها على فكها رافعا وجهها أكثر .... اتسعت عيناها بذهول , الا ان سيف قال بخفوت
( توقعت الا تستسلمي بهذه السهولة ........ )
ابتلعت ريقها تحت كفه القوية المهددة بخنقها .... فهمست بضعف
( انه خطأي كما ذكرت .... كان يجب ان اتوقع ذلك , كان منتهى الغباء مني ان اثق بك بعد ان فعلتها مع ابي سابقا ..... و انا استحق كل ما يحدث لي بسبب هذه الثقة الغبية )
اتسعت عيناه بوحشية .... ليهمس وهو يجذبها اليه
( لقد تجرأتِ كثيرا !!! ......... )
قالت بحرارة ألم
( لم أعد موظفة عندك ..... لذا من حقي الدفاع عن نفسي )
مد يده الأخرى ليمسك بخصرها يجذبها اليه أكثر .... وهو يميل برأسه كي يهمس بأذنها بصوتٍ أثار القشعريرة في أوصالها ...
( هل هذا كله جزء من مسرحية عبد الحميد العمري .... و التي كتب فصولها لك ِ ؟؟ )
انتفضت وهي تتلوى كي تبتعد عنه صارخة
( ماذا تقصد ؟!! ... ابتعد عني .... )
الا أنه ترك ذقنها ليحيط بها بذراعه الأخرى مما شل حركتها تماما فازداد رعبها أمام ضخامته ... بينما كان يتابع هو هامسا في اذنها ملامسا لها
( أتظنين أنكِ قد خدعتني بالفعل ؟!! .... لقد كنت فقط أنتظرك كي تفضحين نفسك بنفسك .... )
صرخت وعد أعلى و هي تقاومه بلا جدوى
( ابتعد عني ...... ابتعد عني ......... أنت مجنون .... )
الا أنه جذبها مرة واحدة لترتطم به .... وهو يهمس بغضب
( من تلك الطفلة التي تبحثين عنها ؟؟ ..... و كيف تمكنت من فضح نفسك بهذه الجرأة و القذارة ؟!!! )
توقفت عن المقاومة تماما .... و هي تنظر اليه بذهول .... بعينين متسعتين تشعان صدقا مذهولا ...
ثم لم تمتلك نفسها من الهمس
( الحقير ...... الحقير ..... الحقييييييير )
الا أن سيف لم يكن ليتركها ... و للأسف بدأ جسده الخائن في التفاعل معها فشدد عليها أكثر وهو يهزها قليلا هامسا بلهجة الأمر و قد فقد السيطرة على نفسه تماما
( انطقي يا وعد ..... من تلك الطفلة التي تبحثين عنها ؟؟ .... )
صرخت بجنون و هي تقاومه بعنف
( و ماذا صور لك تفكيرك المريض ؟!! ....... أو ماذا صورلك الحقير الذي جاء اليك ركضا كي ينقل اليك آخر الشائعات ..... )
لم يرد عليها وهو ينظر الي وجهها المجنون و عينيها الصارختين صدقا من دون دموع .... لربما لو بكت لما كان الآن واقفا أمامها تنتابه لحظة تردد ....
الا أنها تابعت دون أن تنتظره تصرخ
( و هل لو كان ما بظنك سليما .... كنت لأفضح نفسي بمثل تلك السذاجة ؟!!! .... أنا سأغادر ... سأغادر هذا المكان المجنون .... )
هزها اليه مرة أخرى وهو يهمس آمرا بوحشية
( من تلك الطفلة ؟؟ ......... و لماذا تطلبين هذا الطلب من رجل غريب دون أن تمتلكين ما تستطيعين به الدفع سوى ...... )
صرخت وعد عاليا و هي تتلوى أكثر رافضة الإستسلام لبوادر الإغماء مجددا ...
( أخرس ..... أخرس .... انت أحقر منه , و انت لا تمتلكني كي تسألني شيئا لا يخصك ..... )
أسقط فمه على فكها ليهمس بغضب محاولا تهدئة جنونها
( تلك الحركات لن تفيدك ..... و لن تغادري قبل أن أحصل على إجابة ..... )
صرخت بجنون و هي تهبط بقدمها فوق قدمه دون أن يشعر و كأنه بسمك خرتيت ....
( أبتعد عني ...... و اجعل الحقير الذي أخبرك أن يتحرى لك عني .... أنتما من نفس النوع , لقد تحرش بي مثلما تفعل انت الآن ...... )
سقط كلامها عليه من أسقط دلو من الماء البارد فوق رأسه فانتفض مبتعدا عنها وهو يشعر بالذهول يعتريه ينظر اليها بقوة ..... بينما جرت هي من أمامه , لكن شيئا ما جعلها تركض بجنون الى وردتها تسرقها بعنف ثم جرت الى الباب و هي تلعن كل ما يتعلق به ...
الا أنها ما أن مرت به حتى أمسك بها مجددا لكن من معصمها ذو الكف الممسكة بالوردة .... يرفعه لأعلى بقوة ثم مد يده الحرة ... ليجذب الوردة منها بالقوة ... ثم حرر معصمها دافعا اياها و كأنها ستلوثه ...
ثم قال أخيرا بجنون
( الم يعلمك أحد أنه لا يمكنك استعادة هديتك ما أن تريدين ؟؟ ........ )
كانت تنظر اليه تتنفس بجنون ... و هو ينظر اليها بجنون زائد عنها أضعافا ....
فهمست بكره
( احتفظ بها ..... علها تذكرك باليوم الذي فقدت فيه ذرة تحضرك )
ثم خرجت جريا تلعن الغباء الذي اوصلها الي هنا ...... بينما المجنون الآخر  يقف لاهثا ... لا يصدق ما فعله للتو ......
هذه المرة لم تضطر الى انتظار اسبوع كامل ... لم تنتظر سوى يوم واحد ... تحديدا اربع و عشرون ساعة ... في نفس الساعة التي تغادر فيها صاحبة المحل صاعدة الى شقتها ....
سمعت من خلفها صوت الأسطوانات المعدنية الموسيقية تقرع بعضها معلنة عن وصول أحدهم .... لم تضطر حتى الى الإلتفات لمعرفة هويته ....
لقد سبقه عطره اليها .....
أغمضت عيناها تبتسم قليلا .... انه يضع عطرا رائعا ...
تعمدت الا تلتفت اليه .. و هي تستمع الى خطواته تقترب منها ... الى أن وقف أمام منطدة البيع الرخامية مباشرة .... ثم ..... لا شيء ...
انتظرت و انتظرت .... و لم يتكلم ... بينما كانت أصابعها تدعي ترتيب بعض الوردات على الحائط ....
انه يقف خلفها ... ينظر اليها مدققا دون أن يتكلم ... ماذا ينتظر ؟!! ...
أطرقت برأسها قليلا ... تميل به جانبه بدرجة واحدة فقط ... و كأنها تستشعر مقصده من صمته ...
الى أن احمر وجهها ... شيئا ما أخبرها أنه يراقبها بطريقة مختلفة .... طريقة شاب الى فتاة ....
استدارت ببطىءٍ اليه .....ترفع عينيها الى عينينه مباشرة دون مقدمات .... انه لا يضع نظارته السوداء هذه المرة
استمر الصمت بينهما قليلا ... يتابع وجهها بصمت ... فيزداد أحمرارها دون أن تحيد بعينيها عن عينيه ...
و لتزيح القليل من ارتباكها أمسكت بضفيرتها , تجلبها من ظهرها الى كتفها و هي تجدل نهايتها المتدلية من الربطة الصغيرة ...
ثم قالت مبتسمة برقة حين يئست من أن يبدأ كلامه
( مرحبا ..... لقد عدت مجددا .... )
لم يرد عليها ..... بل ظل ينظر اليها الى أن قال بخفوت
( و لم أنتظر اسبوع هذه المرة ..... )
ابتسمت أكثر قليلا و هي تطرق برأسها .... فهذا ما كانت تفكر به للتو ... ثم همست دون أن ترفع رأسها اليه
( مرحبا بك ....... المكان ..... مكانك )
لم يرد لفترة ... ثم قال بخفوت أكثر ...
( و أصحاب المكان ؟؟ ........ )
ابتسمت ملك و هي تتلاعب بنهاية ضفيرتها عند خصرها تقول برقة
( أصحاب المكان في بيتهم ..... هذا وقت راحة صاحبة المحل , أنا أعمل هنا فقط ..... )
ابتسم كريم وهو يراقبها ليقول بمرح
( اذن أنا محظوظ .......... )
ابتسمت ملك أكثر و هي تدير وجهها .... لتقول مغيرة الموضوع
( اذن ماذا ستطلب اليوم ؟؟ ....... باقة جديدة لجدك ؟؟ ...... )
قال كريم فجأة و دون مقدمات
( أريد أن نخرج سويا الى مكانٍ ما ....... )
رفعت ملك اليه عينين مصدومتين تحدق بعينيه ... لتهمس بذهول
( ماذا ؟؟ !! ..... )
أراح كريم كفيه على المنضدة الرخامية بينهما ... يميل اليها قليلا قائلا بتصميم
( أريد أن أراكِ ..... خارجا .... )
همست ملك بتردد
( لماذا ؟!! ....... ..... )
لم يجد ما يرد به للحظات ... لقد تعرف الى فتياتٍ كثيرات و لم تسأله واحدة مثل هذا السؤال , بل كن يوافقن مباشرة .... بداية من أنها صداقة عادية ... لكن بداخلهن كن يتمنين الإرتباط به و كثيرات منهن طلبنها منه صراحة ....
لكن ملك ..... لم يجد ما يجيبها به .....
لكنه قال بثقة
( لأني أريد أن أسمعك ...... أعرفك ..... أنظر اليكِ .... )
ظلت ملك تنظر اليه متسعة العينين و كأنها تعيش حلم خيالي .... لكنها أطرقت برأسها قليلا و كأنها تفكر ... ثم همست أخيرا
( حسنا ........ لا بأس )
شعر كريم بالصدمة من استسلامها الفوري , فعقد حاجبيه ليقول بدهشة
( حقا ؟؟!!! ............ )
نظرت ملك اليه بتردد ثم أومأت برأسها لتقول بخفوت
( نعم حقا ...... أين تريد أن نتقابل ؟؟ ... )
ظل كريم ينظر اليها بوجهٍ قاتم .... وهو يراها أسهل مما كان يظنها منذ لحظات , بل أسهل ممن تعرف اليهن من قبل ..... ثم قال أخيرا بخفوت
( ما رأيك أن نذهب الى مقهى *** .... )
مطت ملك شفتيها وهي تهز كتفها قائلة
( لا أعرفه ......... )
قال كريم بدهشة
( لا تعرفينه ؟!! ...... عجبا انه من أشهر الأماكن )
ردت ملك ببساطة
( لست معتادة على الخروج ......... )
حينها ضحك كريم بلمحة سخرية و هو يقول مجددا هازئا
( حقا ؟!!! ................... )
نظرت ملك الى ضحكته الساخرة دون أن تشاركه المزحة و هي تقول بجدية
( نعم حقا ...... هل هناك مشكلة في ذلك ؟...... )
رد كريم و هو يهز رأسه قليلا قائلا بنبرة سخرية
( ليس هذا الإنطباع الذي أخذته حين وافقتِ على طلبي دون أن أعيده مرة ثانية .... أعتقدت حينها أنك معتادة على الخروج مع أيا كان ..... )
لم يكن ناظرا اليها ... بل ناظرا الي هاتفه مستعدا الى أخذ رقم هاتفها .... ثم قال بهدوء
( ما هو رقم هاتفك ؟؟ ......... )
ظل منتظرا ... لكنها لم ترد الى أن رفع عينيه اليها متسائلا , الا أنه فوجىء بها تنظر اليه نظرة مجروحة صدمته ... ثم همست أخيرا ببراءة
( لماذا تجرحني ؟؟ ..... ماذا فعلت لك ؟؟ ........... )
شحبت ملامح كريم بينما طالت عيناه الى عينيها مأسورا بها , فقال أخيرا بصوتٍ مرتبك به لمحة ندم
( لم أقصد .........فقط ظننت ..... )
سكت و أطرق برأسه ... فهمست ملك برقة
( ماذا ؟........ )
رد كريم بعد لحظة
( لا ..... لا شيء .... أنا آسف , لم أقصد ..... )
رفع عينيه اليها ليقول بابتسامة خلابة
( هل ستعطيني رقمك ؟؟ ......... )
لم تهتم بأن تمليه رقمها ... بل أخذت ورقة صفراء صغيرة من مفكرة بجانبها و كتبت عليه رقمها .... لتمضي تحتها أسمها ملك بطريقة فنية ...
ثم مدت الورقة اليه على السطح الرخامي دون كلام ... فلم يتمالك نفسه من القول وهو ينظر بدهشة الى الورقة
( كان هذا سريعا ......... )
لم ترد ملك لفترة ثم قالت بخفوت
( ها أنت تجرحني مجددا و أنا حقا لا أعلم ماذا فعلت كي تأتي الي خصيصا و تجرحني .... )
ابتلع كريم ريقه و هو يتفاعل مع رقتها و برائتها المتناقضة مع سهولة تعاملها ... ثم همس أخيرا
( لم آتي هنا خصيصا كي أجرحك ..... أتيت فقط كي أتعرف اليك .... )
أطلت ابتسامة رقيقة من شفتي ملك بددت الحزن بهما ... ثم همست برقة
( لا بأس ...... متى تريد أن نتقابل ؟؟ ...... )
عاد كريم ليندهش على الرغم من انه اعتذر لها للتو .... لكن بساطتها تثير دهشته و سخطه ....
ثم قال اخيرا وهو يأخذ الورقة ليدسها في جيبه
( ما رأيك اليوم ..... بعد انتهاء عملك ؟؟ ...... )
هزت ملك رأسها نفيا و هي تقول
( لن يمكنني ذلك .... المكان هنا يبقى مفتوحا حتى وقت متأخر جدا .... و بما أنني اسكن في نفس البناية فأنا أبقى به حتى هذا الوقت المتأخر ..... )
قال كريم متسائلا
( يوم عطلتك ؟؟ .......... )
قالت ملك
( الأحد ........... )
رد كريم باقتضاب
( لا ..... يوم الأحد أقابل والدي .... انه يسافر و يأتي عادة يوم الاحد .... وأنا يجب ان أكون في انتظاره )
لم ترد ملك و هي تستمع اليه باهتمام .... ثم همست اخيرا
( عندي ساعتين للراحة في اليوم .....من الخامسة للسابعة ...... )
هتف كريم مبتهجا
( نعم ..... بالطبع من الخامسة , كيف لم أفكر بذلك ..... اذن فليكن غدا من الخامسة ... )
همست ملك بعينين متسعتين
( كيف عرفت وقت راحتي ؟!! ........ )
عقد كريم حاجبيه ليقول مرتبكا
( ليس .... لم ..... استنتجتها فقط ...... )
أومات ملك برأسها دون أن ترد .... ثم قال كريم أخيرا بعد أن أخذ نفسا عميقا
( اذن ...... الى الغد ؟؟ ......... )
ردت ملك بخفوت
( الى الغد ........... )
قال كريم بهدوء وهو يتراجع للباب
( سأمر عليكِ لاصطحبك ......... )
أومأت ملك و هي تلوح له شاردة برقة كما يلوح لها ..... خارجا بعنفوان أمير للشباب ... يضع نظارته فوق عينيه .... و بعدها سمعت صوت هدير سيارته الرائعة ... لينطلق بها كالسهم من أمام المحل .... بينما كانت هي تراقب السهم المختفي متسائلة إن كان ذلك حلما أم حقيقة !!!
.................................................. .................................................. ......................
احساس غريب بحبيبات الرمال الباردة تداعب قدميها الحافيتين ........ تسير بطول الشاطىء الخاوى على الخط الناعم لإلتقاء الموج الخافت بالشاطىء ....... رفعت نظرها الى آخر البحر من بعيد ..... و فاجأها شعور بأنها تريد أن تكون الآن عند تلك النقطة تلك النقطة البعيدة التي يتلامس فيها البحر بالسماء في لون رمادي شاحب يودع الليل السابق انها المرة الأولى التي تخرج فيها الى الهواء الطلق في مثل هذا الوقت .....وقت الشروق ....... كل ما تعلمه أنها نامت ليلة أمس كجثة هامدة في لحظة واحدة دون أن تفكر أو تشعر بشيء حتى حين استيقظت كان الليل لا يزال مغطيا المكان حولها بخجل معلنا عن قرب الفجر ......
لذا لم تفكر طويلا و هي مستلقية تنظر الى سقف الغرفة قبل أن تنهض ببطء و بلا روح ......
تقف في شرفتها قليلا مانعة نفسها بالقوة من تذكر أحداث اليوم السابق ....... و ما أن بدأ الضوء الرمادي في الإنبلاج أمامها من البعيد حتى استدارت دون تفكير تريد الخروج من تلك الشرنقة المحيطة بها بأي طريقة الا أنها كانت شرنقة من نسيج العنكبوت الواهي ...... تحيط بها ..... تخنقها ..... دون أن تتمكن من التخلص منها تماما .....
و بحركات سريعة كانت قد ارتدت قميصها الأبيض الشفاف ...... مع بنطال قصير من الجينز لا يصل الى ركبتيها ...... حتى أن حافة القميص كادت أن تصل الي آخره ..... تاركة شعرها بفوضاه الشقراء المتناثرة هنا و هناك محاولة الوصول الي كتفيها الصغيرين ...... لم تنظر ولو نظرة واحدة الي مرآتها .... لم تضع ذرة من شيء على وجهها و كأنها تود لو تخلصت من بشرتها لو أمكنها ذلك ...... من ملابسها ..... تود لوفقط تحولت الى نسمة لا ترى و لا تمس .....
كان الشاطىء أمامها خاوي تماما في هذا الوقت ...... السكون به له رهبة ...... رهبة مخيفة نوعا ما تزيد منها صوت تكسر الماء الناعم على الشاطىء ...... توقفت عن السير للحظات ...... ناظرة الى ذلك الخط الفاصل بين البحر و السماء ...... ليتشوش ذلك الخط أمامها بأمواج حبيسة في عينيها ظهرت من اللا مكان .... دموع خائنة ترفض أن تنضب ...... لقد اوهنها كثيرا زواجها الأخير ..... بأكثر مما كانت تتخيل ..... انتابتها قشعريرة تقزز و هي تتسائل بعجب عن قدرتها على الاستمرار به ..... بل و البراعة فيه كذلك .....
أغمضت عينيها و هي تكتف ذراعيها حول جسدها النحيل تريد أن تفركه بشدة لينسى ما ناله طويلا ......
محنة ..... الأمر كامن محنة من أوله و آخره ..... لم تعد واثقة الآن أن المبلغ الضخم الذي نالته كان يستحق تلك المحنة ......
تقدمت قدميها الحافيتين ببطىء خطوة نحو الماء ...... الماء البارد كان يجمد أطراف أصابعها....... الا أنها ابتسمت ابتسامة صغيرة تتناقض مع تلك الدموع الناعمة على وجنتيها ......
مشت لخطوةٍ أخرى حتى غطت الماء قدمها .. و عيناها لا تحيدان عن عن ذلك الخط البعيد متمنية أن تنصهر معه .....
مع كل ذكرى كانت تعود الى ذهنها كانت تخطو خطوة و كأنها تود بها ان تبرد ذلك الحريق بداخلها .. الى ان وصلت المياه حتى صدرها دون ان تشعر .... فصدمتها البرودة الشديدة وهي تحرق خصرها الدافىء فارتجفت بشدة ... الا انها على الرغم من ذلك ابتسمت و هي تمد ذراعيها على اتساعهما ....فوق صفحة الماء ... لتهمس فجأة ....
( أنا حرة .......... )
عادت تنظر الى ذلك الخط البعيد و هي تهمس مجددا
( أنا حرة ...... لا أحد يمتلكني ...... )
أغمضت عينيها و ذراعيها تحلقان فوق سطح الماء لتهمس
( لا أحد يمتلك جسدي ...... و لا حتى روحي )
أخذت نفسا مرتجفا عميقا و هي لا تزال مغمضة عينيها ... ... لتهمس مبتسمة
( أنا حرة ........ )
ثم انخفضت ببطىء شديد حتى غطى الماء رأسها فاختفت تماما ....و كأنها تحولت الى موجة ناعمة بين الأمواج الخافتة ...
مرت لحظة ... ثم لحظتين .... حينها انتفض واقفا ذلك الذي كان يراقب العرض ... جالسا فوق الرمال من بعيد ....
فقفز واقفا وهو يهمس مقطبا بشدة
( اين اختفت تلك المجنونة ؟!!! ....... )
و لم يكرر السؤال وهو يخلع قميصه القطنى من فوق رأسه في حركةٍ واحدةٍ ...ليرميه أرضا . استعدادا للبحث عنها ...
الا أنه لم يكد يتحرك خطوتين حتى تسمر مكانه وهو يراها تنتفض من تحت الماء فاتحتة ذراعيها صارخة بجنون يكاد يكون بهجة لها طعم الحزن
( أنا حرة .......... )
وقف مكانه ينظر اليها وهي كحورية البحر بقميصها الابيض الشفاف و شعرها الاشقر الملتصق بوجهها كالاطفال .... فرفع حاجبا متوجسا وهو ينظر حوله هامسا
( المجنونة !! ....... )
ليعود بنظره اليها ليجدها و قد بدأت بالخروج قليلا ليس الا لتركل الموجات بقدميها بقوة .... ثم تعود و تقفز كسمكة ضاحكة تغطس تحت سطح الماء ....
حينها هز رأسه غضبا و هو يعود ليقترب خطوة أخرى في وضع الإستعداد لإخراجها لو تطلب الأمر ...
لكنها عادت للظهور مجددا ...
فوقف يراقبها و قد أعطت ظهرها للموج ... و قد سكنت ملامحها تماما و اختفت البهجة ... لتسكن كتمثال مطرق الرأس مصنوع بمهارة عن الحزن ...
ظل واقفا من بعيد يراقب تلك اللوحة الى أن رآها تجر قدميها جرا خارجة من الماء و قد اشرق الصباح أخيرا من حولها ....
كانت صغيرة ... نحيلة جدا .... تكاد تكون طفلة مشردة و هي تلف نفسها بذراعيها بشدة ترتجف ....
فا قترب منها ببطىء فوق الرمال ... و هي تقترب منه مطرقة دون أن تراه ....
ظلت عيناه عليها قليلا .... الى أن وصل أمامها فوقف و كانت على وشك الإصطدام به الى أن شعرت بذلك الحاجز الضخم الذي سد عليها الطريق ... فتوقفت مكانها شاهقة بخفوت لترفع رأسها ... و هي ترى ذلك الصدر الضخم العضلات متمثلا أمامها فجأة على ذلك الشاطى الخالي ...
و ما أن أستوعبت وجوده حتى عادت عيناها للتوحش فجأة ... و ما أن همت بالصراخ حتى دفع اليها بمنشفة جافة وهو يقول بخشونة
( خذي هذه .......... )
لم يكن أمامها الا أن أمسكت بالمنشفة التي دفع بها اليها , الا أنها في اللحظة التالية طوحت بها بعيدا لتحط فوق الرمال و هي تصرخ على الرغم من ارتجافها
( ابتعد عني ....... لقد حذرتك أن تتعرض الي مجددا )
رفع احدى حاجبيها و هو يتأملها بسخرية قليلا قبل أن يقول بهدوء لا مبالي
( و الا ؟؟؟؟؟ ......... )
كانت تنظر اليها بذهول متوحش من مدى سماجته ... فصرخت و قد بدا عليها الجنون
( الا كبير لك ؟!! .... أتظن أنك تمتلك العالم بامتلاكك جزءا منه ؟!! ..... )
سكتت للحظة تلتقط أنفاسها المجنونة و قد انطلق عقال لسانها بعد أن أوصلها لمرحلة الجنون المعتادة فتابعت تصرخ بهياج
( لا تظن أنك قد أرهبتني بعرضك المخزي في المصعد .... أنت لا تعلم ماذا بإمكاني أن أفعل بك و لا تعرف من أعرفهم ..... انهم يستطيعون اخفائك من على سطح الأرض ..... لقد سكت فقط لأنني أريد أن أمضي أجازتي في هدوء .... لكن لو عدت للتعرض لي أو التحرش بي مجددا .... فسأ ..... )
صمتت تأخذ نفسا مرتجفا و هي تضم جسدها بقوة ..... فانتهز الفرصة ليقول أخيرا ساخرا بصوتٍ خافت هادىء ....
( ماذا ؟..... تابعي فأنتِ تثيرين اهتمامي .... أم أن البرد قد جمد لسانك كما جمد الغباء عقلك ؟؟ ....
أتعرفين .... أنتِ تختلفين عن تلك الشخصية التي تمثلين دورها .... فأنت لا تمتلكين حتى المواصفات المطلوبة للمهمة ..... هل لديكِ فكرة عن مظهرك الآن ؟؟ .... أنتِ تبدين كفأر شارد .... الا يمكنك على الأقل دراسة تلك المتطلبات كي تتمكنين من اقناع من حولك ؟!! ..... )
ظلت تنظر اليه تحاول إيجاد الكلمات المناسبة من أشد قواميس القذارة اللغوية ...و فغرت شفتيها بالفعل ...
الا أن شيئا ما جعلها تنظر حولها ... بطرف عينيها , لتجد أن المكان لا يزال خاليا تماما و الفندق نفسه بعيدا عن الشاطىء أي أنها حتى لو جلجلت بأعلى صوتها لن يسمعها سوى طائر النورس ....
ما الذي سيمنعه من فعل أي شيء يريده الآن ؟.... و بالطبع لن يتجرأ أحد على الوقوف ضده ....
فمن الواضح أنه قد اشترى جزء من الفندق بنزلائه ......
زمت شفتيها تحاول كبت البذائة التي كانت ستنسكب للتو من بين شفتيها ...
حينها سمعت صوته أجشا عميقا يقول بخفوت
( اختيار موفق ...... )
رفعت عينين غاضبتين اليه .... فرأت أنه فهم صراعها مع نفسها في التعامل معه , هل هذا معناه أنه يهددها بالفعل .... انتابها الخوف من الوقوف هنا فقررت الإبتعاد عنه ....
الا أنها ما ان تجاوزته حتى قال بخشونة
( لو كنت مكانك لما فكرت في الدخول بهذا الشكل ..... جسدك كله ظاهر بشكل يثير الشفقة ... )
احمر وجهها و هي تخفض نظرها الى نفسها رغما عنها فهالها أن تقف أمامه طوال هذا الوقت بذلك الشكل .... كيف نست نفسها بهذا الشكل ....
و دون كلمة عادت اليه مطرقة الرأس ... بإباء ....
لتنحني و تلتقط المنشفة الكبيرة الوحيدة ... و التي رمتها أرضا .... فلفتها حولها لتبتلعها تماما ...
ثم غادرت سريعا دون أن تنظر اليه مجددا .... وهو لم يتبعها ....
ظل واقفا مكانه .... يراها تتعثر في مشيها فوق الرمال ... و شيئا ما في طبيعتها المتشنجة جعله يدرك أنها تخشى أن ينقض عليها في أي لحظة ....
و قد أثار ذلك حنقه .... بشدة .....
.................................................. ...........................
جنون ذلك الذي كاد أن يفتك برأسه و هو يقود سيارته بتهور على غير عادته ... منذ أن غادر شركته و هو في حالة هياج مجنون ...
بل على الاصح منذ أن غادرته هي .....
لا يصدق انه هو من كان هناك .... معها في ذلك المكتب ... و قد تصرف على ذلك النحو ال ....
ضرب المقود بعنف وهو يشتم للمرة ال ..... الألف ربما ....
حين أن شعر بأنه لن يستطيع القيادة دون ان تحدث كارثة .... اتجه بسيارته الى ذلك الموقف المطل على البحر مباشرة .... و الذي اعتاد القدوم اليه قبل حتى ان يمتلك سيارة ...
اوقف سيارته في مواجهة البحر ... ثم نزل منها صافقا الباب بنفاذ صبر ... قبل ان يجلس مستندا الى مقدمة السيارة .... يواجه البحر بأمواجه العالية .... و التي لا تقارن بالطوفان بداخله ...
ما هذا الذي فعله ؟!!! ....
و من تكون هي لتجعله يتصرف بهذا الشكل ؟!!
و ماله إن كانت شريفة ... أو سيئة السمعة .... أو حتى .....
فلتكن ما تكن .... فلتحترق بنارٍ مستعرة .... ماله و مالها ؟؟؟ !!!! ....
زفر بنفاذ صبر و جنون وهو يرفع اصابعه يغرسها ....
بل يهتم .... اللعنة ....
لماذا يحاول انكار ما يظهر له جليا و يثير جنونه ..... هي نفسها تثير جنونه ....
منذ شهر يقترب من كماله و هي تتسرب اليه .... الى أنفاسه .... الى عينيه .....
لم يتخيل يوما ان ينجذب الى فتاة كما انجذب اليها ... اللعنة ....
من يخدع ؟!! .... منذ التقت عيناه بعينيها و قد شعر بصدمة لم يعايشها من قبل ....
لماذا توجب عليها أن تكون ابنة عبد الحميد العمري ؟.....
سكن مكانه فجأة بنفسٍ لاهب و عينين متقدتين ..... وهو يقف عند هذا السؤال طويلا ....
و ماذا لو لم تكن ابنته ؟!! ..... ماذا كان سيحدث حينها ؟! ....
فيما يفكر .... و ماهذا الشعور الغادر المسيطر عليه ؟!! .....
و على الرغم من كل عالم الإستحالة الذي يحياه حاليا ... لازال لجسده رأيا آخر وهو يحتفظ بدفئها ... بارتجافها بين ذراعيه ....
شتم سيف نفسه و شتمها وهو يغمض عينيه غيظا .... غضبا ....
أطرق برأسه يحاول الوصول الي سطح سيطرته على نفسه و الذي كونه شيئا فشيئا على مدار السنوات الماضية ...
رفع رأسه أخيرا بصمت ينظر الى البحر أمامه ....
ماذا الآن ؟...... لقد رحلت .....لقد طردها
لقد رحلت و من المفترض أن يتنفس الصعداء مبتهجا بأنه خلص حياته منذ ذلك السم المسمى عبد الحميد العمري و ابنته ....
الا أن الواقع كان شيئا مخالفا تماما ....الواقع أنها تتسرب اليه أكثر و أكثر .... الى أعمق أعماقه ... و بسرعة خيالية .... كان ليضحك لو كان أخبره أحدا بها قبل شهر ...
الواقع انه سيشعر بالجنون لو لم يتأكد من صحة تلك القصة التي سمعها اليوم ....
وهذا الواقع .... انه سيكتفي بالجنون و يحاول التأقلم معه .... فلا سبيل آخر ...
رفع رأسه يدس كفيه في جيبي بنطاله .... يتنفس بصورة منتظمة ... تظاهرا و ليس حقيقة .....
وعد العمري .....
كان اسما عابرا في حياته ..... دخلها في لحظةٍ سمح هو بها .... ليخرجه منها بقراره .... و انتهى الأمر ....
.................................................. .................................................. ......................
دفنت وجهها تحت غطائها و هي تبكي بعنف .... لا تصدق مدى الإنتهاك الذي شعرت به اليوم ... لمرتين لا مرة واحدة .... من اثنين من المفترض أنهم كما يطلق عليهم المجتمع حاليا
" أولاد ناس " .... أي أناس محترمين ....
لكن حين تداخلت مهم لم تجد ذرة احترام .. ...
أغمضت عينيها بقوةٍ و هي تشعر بلمساته عليها .... بضغطه لها ....
لقد أصاب بالجنون .... لا سبيل آخر لوصف ذلك الحقير سوى بأنه قد اصيب بالجنون ليعاملها بتلك الطريقة
فحتى الدناءة لها حدود ... كما فعل الحقير القذر رامي ...
أما المدعو سيف .... فلقد جن ... جن تماما , الا لو كان مجنونا من الأساس و يتظاهر بالعكس ...
لا زالت حتى الآن تتذكر عيناه الحمراوان و جنونها .... و ارتعاشها خوفا منهما ....
ليست تلك نظرة رجلٍ يستمتع .... بل كانت نظرة مجنون ...
و ستعيدها ألف مرة ....
الحقير سيف الدين فؤاد رضوان ما هو الا مجنون ....
سمعت باب غرفتها يفتح دون استئذان ... فأغمضت عينيها و هي تفكر بأنها نسيت ان تغلقه خلفها من شدة الحالة البؤس التي دخلت بها ...
الى ان سمعت صوت والدها يقول بخشونة
( ماذا الآن ؟؟ ..... منذ ساعة و أنتِ تبكين نائحة , ما الذي حدث ؟؟ .... هل سُرق منكِ راتبك ؟؟ ... لأنه لو كان قد سرق فمن حقك البكاء لأنني لن أتحملك طويلا ..... )
لم تتمالك وعد نفسها من الصراخ من تحت الغطاء
( لم يعد هناك أي راتب ..... لقد طردني ابن أختك من العمل , تماما كما فعل معك .... )
لم تسمع له صوتا للحظة ... قبل أن تشعر بالغطاء يطير من فوقها وهو يصرخ فجأة
( ماذا ؟!!! ..... كيف سمحتِ لذلك أن يحدث ؟؟ .... هل أنتِ غبية ؟؟ )
نهضت من مكانها و هي تبكي بقوة صارخة
( لقد فعلها معك من قبل .... فلماذا سمحت بحدوث ذلك , انه يتسلى بنا و نحن كنا من الغباء بحيث بنينا آمالا عليه ..... )
صرخ عبد الحميد وهو يميل ليجذبها من شعرها حتى صرخت ...
( مجرد سؤالك هذا يعني أنكِ غبية لا تفقهين شيئا ......من الغد ستذهبين للشركة للاعتذار له عن أيا كان ما فعلته , المهم أن تبقين هناك ....... ... )
نظرت اليه بعينين تبرقان احمرارا من البكاء و ذهولا من كلماته ... فصرخت و هي تحاول تخليص خصلات شعرها من أصابعه ذات العروق الزرقاء ...
(ألست أنت من حذرتني من أنه لن يهدأ له بال حتى ي ......... لن أذهب .... لن أذهب ....أنت لا تعلم ماذا فعل ... )
صرخ وهو يهز رأسها من منابت خصلاتها
( لا يهمني ما فعله .... بل يهمني ما ستفعلينه و ستفذين ما آمرك به منذ الآن .... )
صرخت و هي تقبض بكفيها فوق كفه المنغرزة في خصلاتها
( لن أذهب .... لن أذهب .... لقد طردني و أمرني بعدم العودة , فأيا من كلامي غير مفهوم ؟!! .... و حتى أن لم يفعل ... فأنا لن أذهب .... لن أذهب .... )
خلع خفه البيتي ليهوى به على ساقيها و فخذها .... فصرخت الما و هي تتحاول أن تتفاداه .. لكن دون جدوى سوى أن تتقطع خصلات شعرها .... أو أن تضربه !! .... لا خيار ثالث ...
لذا ظلت تصرخ به و هي تفك أصابعه من شعرها بينما هو يضربها كالأعمى ... هاتفا بأفضاله عليها و التي قطعت من لحمه الحي ... فمتى ستتحمل المسؤولية لتخرج به من حياة الفقر بعد أن كان سيد القوم قديما ...
لكن لا عجب فهي " وجه فقر " .... و وجودها معه جلب له النحس و الفقر ...
لربما لو كان تركها لما كان هذا ما آل اليه حاله ....
كل ذلك الهتاف المسموم كان يدخل الى اذنها فيصيب ما يصيب من روحها ... و يهيج كرهها له أكثر ....
حررت قبضة من قبضتيها تنوى أن توقف خفه المنزلي الذي يهوى على جسدها ....
الا انها ما أن حاولت تفاديه حتى نزل به على وجهها ... فصرخت عاليا و هي تغطي وجهها بكفيها ....
فما كان منه أن تركها تعبا ... لا رأفة ....
ثم هتف أخيرا يلهث بتعب ... و هي تسقط على جانبها مغطية وجهها بكفيها تبكي بقوة ...
( ستذهبين ..... ستتركين الغد يمر , ثم تذهبين بعد غد ..... و الا فلتبحثي لكِ عن مكان آخر للسكن )
ترك خفه ليسقط أرضا فوضع به قدمه الكبيرة الخشنة .... ثم خرج من الغرفة تاركا وعد تبكي صوتٍ مختنق و هي تهمس
( ليتني أستطيع .... ليتني أهرب منك و من حياتي كلها ... )
.................................................. ...........................
عاد سيف أخيرا الي بيته بعد أن حل الظلام بعدة ساعات .... كان مرهقا ... و ملامح وجهه أكثر تشددا مما يعرفها أهل البيت ...
فأبصر أمه و شقيقتيه على مائدة الطعام ... و أمامهن طعام الغذاء بعد أن انتظرنه طويلا ... الا أن أمه كانت تجلس مستندة بوجنتها الى كفها دون أكل ....
مر بهن يلقي السلام بصوت متشدد ... والثلاث ازواج من الأعين الانثوية ترمقنه باهتمام ... لكنه لم يشعر برغبة حالية في أي حديث ....سينفجر في أي شخصٍ قد يستفزه حاليا ....
الا الشخص الوحيد مع الأسف ... حيث هتفت أمه
( سيف ..... ألن تأكل معنا , لقد جاعت شقيقتاك و هما في انتظارك .... )
قال سيف باقتضاب
( لست جائعا يا أمي .... أرغب في الراحة فقط )
نهضت منيرة من مكانها سريعا و على ملامحها قد بدا القلق ... الا أنه رفع يده موقفا اياها بحزم و نبرته أعلى قليلا من المعتاد
( رجاءا يا أمي .... ليس الآن , فقط سأرتاح قليلا .... )
ثم صعد السلم دون أن يسمح بكلمةٍ أخرى .... فجلست منيرة ببطىء شديد و هي تهمس بشرود دون أن تنظر الى ابنتيها
( ماذا به أخاكما ؟؟ ..... أنه متقلب الاحوال منذ فترة )
هزت ورد كتفها و هي تهمس بلهجة غريبة
( من يدري ..... ربما كان في الأمر فتاة ..... )
ابتسمت منيرة فجأة و هي تلتفت اليها قائلة
( أتظنين ذلك يا ورد ؟...... لكن لماذا يبدو عليه الغضب و انشغال البال ؟؟ .... هل هو خصام المحبين ؟؟ )
رفعت ورد وجها ممتعضا الى أمها ... التي على ما يبدو لا تجد غضاضة من مناقشة تفاصيل سيف العاطفية أمامهما ... ثم قالت ببرود
( ربما ليس الأمر سلسا كما تظنين ...... )
عقدت منيرة حاجبيها و هي تقول بحيرة
( و لماذا لا يكون سلسا ؟!!.... سيف ظروفه و الحمد لله أصبحت ممتازة بأكثر ما كنا نتخيل .... )
قالت ورد بخفوت تهز رأسها متشاغلة بالنظر الي طبقها ...
( من يدري ؟؟ .... ربما رفضته .... ربما لا تناسبه ..... )
هتفت منيرة بغضب
( من تلك التي ترفض سيف ؟؟ ...... هل به خطأ واحد يجعل أي فتاة عاقلة ترفضه ؟!! )
رفعت ورد وجهها ببطء حتى نظرت في عمق عيني أمها لتقول بإيجاز بليغ ذو نبرةٍ كالجليد تقصد منها التذكير ...
( إصلاحية الأحداث ....... لثلاث سنوات )
اضطربت ملامح منيرة ... ليس لذكر سنوات الإصلاحية , فأي أم كانت لتدافع عن ابنها خاصة حين يخطىء وهو في سن صغيرة خطأ مضى عليه سنوات طويلة ....
لكن الماضي نفسه يجعلها تضطرب و تتألم ملامحها .... فتتذكر والد سيف ... حينها تظلم عيناها و تبهت ملامحها ...
نهضت منيرة ببطىء ... تتجه الى السلم , فقالت مهرة بسرعة
( ألن تأكلي يا أمي ؟؟ ...... )
لكن منيرة لم ترد .... بل تابعت الصعود , فالتفتت مهرة الى ورد تقول بحدة و غيظ
( أكان يجب أن تثيري نفس الموضوع مجددا .... أوووووف )
هزت ورد كتفيها و هي تهمس ببرود شاردة
( من يدري ؟؟ ......... )
.................................................. .................................................. ....................
وقف سيف بالشرفة ليلا في وقتٍ متأخر .... ينفث دخان سيجارته , على الرغم من أنه لا يدخن السجائر هنا في البيت كي لا يغضب أمه التي لا تزال تنفعل عليه حتى الآن ...
لمست يد ناعمه ذراعه ... فالتفت ببطىء ينظر الى ورد تقف بجانبه .... فتنهد عميقا .... بينما تركت ذراعه لتتقدم خطوة كي تريح كفيها على حاجز الشرفة ... تنظر الى الليل الأسود من أمامها ....
ثم همست أخيرا
( أتتذكر حين علمت بعمل عبد الحميد لديك ؟؟ ..... شعرت بنشوى غريبة , سيطرت على شعوري بالقلق الذي اكتفيت بإيجازه في عبارةٍ واحدة ..... " لقد أدخلت الشر الي حياتنا من جديد " )
لم يرد سيف و هو ينفث دخان ابيض الى السماء الداكنة ... ثم قال أخيرا
( لماذا نعيد هذا الكلام مجددا يا ورد ؟ ........ )
التفتت اليه تستند بظهرها الى الحاجز .. لتهمس بعد فترة
( لأنك تفصل بين الاثنين ......... )
قال سيف بهدوء دون أن ينظر اليها
( من هما الاثنين ؟؟؟ ......... )
قالت ورد بتصميم جليدي
( عبد الحميد و ابنته .......... )
نظر اليها سيف بصمت ..... قبل أن يقذف سيجارته بابهامه و سبابته من الشرفة ليقول بصوت مكبوت
( عجبا ...... كنت أظن أنك أكتر من سعيدة بادخال هذا الشر الى بيتنا ...بعمل وعد فيه ....)
أمالت ورد رأسها قليلا تحدق به بعينين تبرقان خطرا ثم قالت بخفوت
( ربما لو فعلت لكنت قد اطمئنتت عليك .......)
عقد سيف حاجبيه بشدة قبل أن يقول بغموض
( ماذا تقصدين ؟ ...... )
هزت رأسها ثم همست ( من يدري ........))
حاولت بعدها أن تتجاوزه مبتعدة الا أنه أمسك بذراعها ليقول بصوت خطير
(ماذا تقصدين يا ورد ؟! ...... بأنك تتمنين أن تعمل وعد لدينا انتقاما منها ... كما سعدت بعمل والدها عندي من قبل ....... لكن الخطر يكمن في عملها هي لدي ؟...... بماذا تفكرين ؟!!!.... )
مدت ورد رأسها تهمس بشراسة نمرة ملتقطة طرف سؤاله الأخير معيدة الكرة الى ملعبه
( بماذا أنت تشعر ؟........)
ترك ذراعها ببطىء قبل أن يقول بخفوت صلب
(......... ماذا تقصدين ؟)
رفعت ورد احدى حاجبيها لتقول ساخرة
(ما الأمر يا سيف ؟ ...... لم أعتدك بطىء الفهم بحيث تسألني عن مقصدي ثلاث مرات حتى الآن.....)
قال سيف بعينين تبرقان غضبا.... غضبا مدعيا النكران
( لقد جننت تماما ...... تماما ...... )
رفعت كتفها و هي تقول بلامبالاة
(ربما ...... قلت لك من يدري .....لكن أريد أن أذكرك بشيء واحد فقط ...... عقرب تزوج حية ..... ماذا يمكن أن ينجبا ؟!!........)
قال سيف بحدة
( (لمعلوماتك فقط يا ورد و قبل أن تتهيه مخيلتك بعيدا ......لقد صرفت وعد من العمل و انتهى الأمر ...... )
لم تهتز ملامحها كثيرا و هي تحدق به ...... لتقول أخيرا
(ليته ينتهى عند هذا الحد ..... أتتذكر عبد الحميد جيدا ..... أقصد ليس ذلك الذي كان يعمل عندك محنيا رأسه وهو يقدم لك قهوتك كل يوم بل قصدت خالك ..... اتتذكر كيف كان ؟ ..... هل نسيت كم كان عنيفا ؟؟
بالإضافة الى أكله مال حرام..... كان عنيفا مرعبا .....أنسيت كفه التي أصابتني بالصمم في أذني .... انسان مثل هذا .... حين يجدك في اخر المطاف و قد اصبحت سيده و سيد ابنته ... فهل تتخيل أن يتركك هنيئا تتنعم بما حققته ؟ !!....... فإما أن تكن على معرفة بهذا و على هذا الأساس نتعامل مع ابنته ...... و إما أن تمحو ما تبقى منهما للأبد ......)
زفر سيف بنفاذ صبر ... نفاذ صبر من مقدرتها الفذة على اختراق اعماقه و سبر اغواره بدقة ... الا انه رفض الاستسلام خاصة و انه الوقت الاخير الذي يحتاج فيه الى احدهم كي يضعه امام مرآة ... لذا قال بخفوت
( لقد انتهى الامر يا ورد ..... و خرجت وعد ووالدها من حياتنا للأبد ....)
همست ورد تصحح له بهدوء
( عبد الحميد و ابنته ..... و ليست وعد و والدها .... )
ضحك سيف بلا مرح و هو يهز رأسه يأسا ثم قال أخيرا ناظرا الى الليل أمامه
( لو كان بإمكاني صرعه على ما فعله بك لما ترددت .... اطمئني يا ورد , عبد الحميد العمري انتهى من حياتنا للأبد ..... أما ابنته ... فلم تتواجد من الأصل , كنت أشفق عليها لا غير ... )
ابتعد عنها قليلا ... و صوت داخلي يصرخ به بعنف ... " كاذب !! ..."
الا أنه رفض الإلتفات اليه حاليا ... بينما بقت ورد تنظر اليه بملامح في جمود التماثيل ... و عينين لا تسكنان ابدا ثم همست أخيرا
( ربما كنت مصيبا بالفعل في رفض عملها هنا بالبيت ..... نعم يا سيف ... لقد انتهى الأمر .... )
ثم خرجت من الشرفة دون أن تضيف كلمة أخرى تاركة سيف يشعر بقوة كلمتهما معا " لقد انتهى الأمر ... "
و التى كانت بقوة لكمة في معدته .... فأغمض عينيه .....
انتهى الأمر .....
انتهى الأمر .....كلمة انتهى بها ليله .... ليبدأ بها نهاره ... حين طلب قهوته الصباحية و في داخله نفس التوق الى اليد البيضاء الصغيرة تجلبها اليه ... الا ان التوق كان للحظة ... حين عادت الكلمة القاسية كحد السيف تخبره بأنها رحلت و انتهى الأمر ....
سمع طرقة على الباب .... و كانت اذنه مرهفة لدرجة ادراك بأن الطرقة ليست طرقتها .... ليدخل علي حاملا نفس الصينية المستطيلة الفضية .... ذات الإطار المذهب ...
شرد سيف في تلك الصينية التي كانت تستخدمها كدرعٍ واقي حين يستلزم الأمر ... و شيئا ما بداخله جعله يبتسم داخليا و هو يتذكر كم كان هذا يغيظه ....
رفع حاجبيه شاردا وهو ينظر الى الورق أمامه بينما يضع علي القهوة على سطح المكتب ... بعد أن صبح عليه بأدب ...
قال سيف بهدوء مدعيا العفوية ....
( ألم تأتِ وعد الى العمل اليوم ؟؟ ....... )
ارتبك علي ... ثم قال كاذبا ببراءة
( إنها في الطريق .... لقد هاتفتني للتو و أخبرتني أنها عالقة في الطريق , حيث الزحام فظيع بسبب حادثة أحدثت شللا في حركة المرور .... إنها المرة الأولى التي تتأخر فيها ... لكن اليوم الظرف كان رغما عنها ... لكنها آتية في الحال .... مجرد دقائق .... )
ابتسم سيف ابتسامة لا تعد كابتسامة ... بل مجرد التواءة صغيرة ... فقد شعر بوهجٍ دافىء للحظة ... فقط للحظة ... حين سمع عبارة تأكيدها على الوصول حالا ...
الا أن تلك اللحظة كانت خائنة و انقضت سريعا .... أسرع من الريح ...
فقال سيف بهدوء خافت ... دون أن يرفع عينيه الى علي
( وعد لا تمتلك هاتفا يا علي ...... فابحث لك عن حجة أخرى ... )
ارتبك علي و احمر وجهه قليلا ... لكنه لم يكن ليتخلى عنها فقال سريعا ...
( لا بد أن أمرا طارئا قد أخرها ..... دقائق و سأجدها هنا ... صدقني سيد سيف .... )
لم يرد سيف .... و هو يتذكر ما حدث بالأمس و هجومه عليها .... يريد أن يمحو ذلك الهجوم من تاريخه حتى و إن كانت تستحقه .....
قال سيف بهدوء وهو يطرق على الملف أمامه بظاهر قلمه ...
( كيف حال والدتك يا علي ........ )
رد علي مبتسما
( انها بخير .... و تبعث لك بسلامها كل يوم .... )
ابتسم سيف قليلا ... لكنه ظل شاردا .... ملامحه قاتمة , لا يمكن فك رموزها ....
لكن مع ذلك رفض علي أن يخرج قبل أن يدافع عن وعد مرة أخيرة ... فتغيير الموضوع من قبل سيف لم يكن في صالحها .... فقال بلهفة رغم عدم عملية ما يقوله
( حين تصل وعد سأرسلها اليك لتشرح لك سبب تأخرها ...... )
تمهل سيف قليلا ... ملامحه لا تعبر عن شيء ... و لا ينظر اليه حتى ... الى أن قال بهدوء
( اعتقد ان استمرار وعد معنا يا علي أصبح غير مجديا ....... )
اتسعت عينا علي و ارتفع حاجباه ... ليهتف فجأة
( لا ... هذا لا يمكن ...... )
رفع سيف وجهه اليه , رافعا حاجبه بدهشة من حدة علي , الذي تدارك نفسه سريعا و هو يتلعثم قائلا
( أقصد .... انه تأخير ليومٍ واحد ... و هي مجتهدة جدا ... و نشيطة ... و طيبة .... ليس من العدل أن .... )
قاطعه سيف قائلا باستفسار قاسٍ
( ليس من العدل !!! ...... )
ارتبك علي أكثر وهو يقول بخفوت معدلا كلماته
( لا أقصد ذلك .... إنما فقط .... انما فقط ...... )
عاد سيف يطرق بظهر قلمه على سطح المكتب ليقول بهدوء رغم النار المندلعة في صدره
( أحيانا يا علي ...... ننجذب الى أشخاص , ليس من المناسب أن ننجذب اليهم .....و هذا أكبر خطأ قد تقع فيه ... اتفهمني ؟ .... )
لم يرد علي لعدة لحظات قبل أن يقول بخفوت
( و أحيانا لا .......... )
رفع سيف وجها به لمحة صدمة وهو ينظر الى ملامح علي الهادئة فجأة و كأنه يتحداه .... فسأل سيف بهدوء
( هل أنت معجبا بها ؟؟......)
أحمر وجه علي فأطرق برأسه دون أن يرد وهو لا يصدق أن السيد سيف قد سأل هذا السؤال مباشرة و بمثل هذه الصراحة فأربكه ....
و حين طال الصمت .... تكلم سيف بقسوة ... نزلت فوق رأس علي كدلو من الماء البارد ....
( انت معجب بشابة تكبرك بتسع أو عشرة أعوام .... تمزحان و تلهوان يوميا أمام الجميع ....تمسك بذراعها ... تتقرب منها بمظهر غير لائق على الإطلاق ..... و بالأمس أجدك تصورها متغازلا بها على الرغم من أني حذرتك من مثل تلك التصرفات التي تسيء للمكان .... )
صمت سيف يلهث بداخله بغضب ... وهو يتأكد مما كان يعرفه من البداية , حيث ان هذا الشاب الصغير الذي يتوق شوقا لدخول عالم النصف الآخر لم يجد امامه سواها ... هي دون غيرها .... و هي تسمح له بذلك , تتمتع بنظرة الوله في عينيه بكل جشع .... تشجع لمساته و تقرباته ....
كم يتمنى لو ان عنقها بين كفيه الآن .......
الا أن هتاف علي جاء قويا على نحو مفاجىء بشجاعة بها القليل من الغضب
( هذا ليس صحيح .... و ليس عدلا .... لم اتقرب منها على اي نحو .... و هي ليست من ذلك النوع الذي يقبل حتى بالصداقة , انها انطوائية لدرجة ميؤوس منها .... و مهذبة جدا و لم تفعل شيئا مخجلا ابدا ....
أحيانا أحاول أن أجرها الى المزاح قليلا لأخفف عنها ضغوط حياتها التي تبدو جلية على وجهها ,.....و هي بالكاد تتجاوب معي .... و حين تفعل تكون تصرفاتها طفولية غير محتسبة لأنها لم تعتد الأمر إطلاقا ....
و بالأمس لم أكن أصورها لغرض سيئ .....
كنت انشيء لها حساب على موقع التواصل .... لانها كانت في حالة نفسية سيئة جدا , و كانت على وشك نشر اعلان في الجريدة تبحث عن صديقة قديمة لها !! ...
أتتخيل ذلك !! .... انها حتى لا علم لها بطرق تواصل البشر , فكيف اذن تصبح من النوع الذي يشجع تصرفات غير لائقة؟!! ..... )
صمت علي يلهث قليلا , بينما كان سيف ينظر اليه مقطبا بشدة و ملامحه قاسية للغاية ... فقال بصوت خافت صارم
( اي صديقة تلك التي تبحث عنها ؟؟ ..... )
أخذ علي نفسا مرتجفا من انفعاله باتهام سيف الا أنه رد مبرئا ساحة وعد
( صديقة لها منذ سنوات طويلة .... اخبرتني أنها قد أخطأت في حقها و أنها تتمنى أن تجدها بأي طريقة ....
و حين رأيت عيناها تدمعان و انها كانت في حالة صعبة و كأن أحدهم قد أساء اليها ....
و حين سألتها رفضت أن تخبرني .... لكنها بدلا عن هذا كانت يائسة في ايجاد صديقتها ..... و هي لا تمتلك حاسبا أو هاتف .... لذا انشأت لها حسابا على هاتفي .... و كنت اضع صورتها كي تتمكن صديقتها من التعرف اليها ..........)
شعر سيف بقبضة جليدية تعتصر صدره ... الا أنها في نفس الوقت تعيد اليه الروح كتنفس صناعي ... فكيف ذلك ؟!!
الا انه قال بخفوت و بلا تعبير مقروء
( كم عمر صديقتها تلك ؟........... )
لم يفهم علي مغزى السؤال ... لكنه قال عفويا
( اثنان و عشرون تقريبا ..... المهم أن ماكنت أريد أن أخبرك به هو أن ... )
رفع سيف يده موقفا علي عن الإسترسال ... ليقول بعدها بهدوء جليدي
( ماذا أخبرتك عن تلك الفتاة التي تبحث عنها ؟؟............. )
عقد علي حاجبيه , الا أنه قال
( لم تخبرني الكثير ..... كل ما قالته , انها صديقة غالية لديها جدا .... و أنهما عاشتا طفولة صعبة لذا هي تتمنى فقط أن تكون بخير أو على قيد الحياة ..... )
صمت علي منتظرا نتيجة دفاعه .... و صمت سيف ... الى أن قال سيف بصوت لا تعبير له
( اذهب الآن يا علي ......... )
قال علي بلهفة بها القلق
( و وعد ؟......... )
قال سيف بلهجةٍ اكثر صلابة ... لا تقبل الجدل
( اذهب الآن يا علي ..... عد لعملك هيا .... )
ظل علي واقفا للحظة .... يريد الدفاع عنها ... عن وعد .... لكنه خشي ان يؤذيها اكثر , فغادر في صمت , بينما بقي سيف جالسا كتمثال .... الى ان همس أخيرا بحنق
( ياللغباء ........ ياللغباء ....... )
المحتوى الان غير مخفي
ظلت طوال الوقت جالسة مكانها على السرير ....ترفض الخروج اليه ...
من حسن الحظ أنه أمهلها فرصة حتى الغد .... أي أنه لن يؤذيها قبل أربع و عشرين ساعة ....
لذا فلتتمتع بقليل من الراحة .... و تفكر كيف ستتصرف في الأيام المقبلة ...
لو كانت فقط تملك ايجار غرفة متواضعة ....
لقد بحثت من قبل على غرف للإيجار مرارا .... لكن احقرها كان يفوق اي راتب كانت تتقاضاه ... بخلاف ان والدها كان يضع يده على الراتب كله من الاساس ....
فلو رحلت من هنا الى اين تذهب ؟؟ ........
ارتجفت مجددا و هي تتذكر ما تعرضت له بالأمس .... المعرض كان أهون حالا , صحيح أنها قابلت العديد من السمجاء و من تطاولو عليها ... لكن و بما أنه مكان مفتوح للمارة و العابرين لم يكن من السهل التهجم عليها بهذا الشكل ....
عامة ها قد ذهب المكان بحقراؤه ... و هي على الأرجح لن تقابل أيا منهم مجددا ....
سمعت صوت جرس الباب يدق فجأة .... فأغمضت عينيها و هي تقسم بأنها لن تخرج لتفتح الباب ما أن يصدح صوت والدها آمرا إياها بذلك ..... فليفتح هو .....
اليوم هي في حالة عطلة إجبارية .... و يكفيها ما نالها منه بالأمس .....
سمعت صوت باب الشقة القديم يفتح ....ياللروعة ... لقد رأف بحالها و فتح الباب بنفسه .....
لكن شيئا ما غريبا استشعرته أذناها .... همهمات غير ودودة بين طرفين ....
و كانت لتتجاهل الأمر .... لولا أن صوتا تعرفه جيدا جعلها تقوم من مكانها و هي تشعر بنفسها تتوهم ....
وقف سيف ينظر بقتامة الى الوجه الحاد القسمات و الذي نالت منه تجاعيد الزمن بصورة أكبر مما رآها منذ عدة أشهر ..... لكن العينان هما نفسهما بقساوتهما ....
و قامته انحنت قليلا بفعل العمر .... بعد أن كان يراه قديما كجدار مسنن طويل مرعب يفوقه طولا بملايين الأمتار .....
قال سيف بلا مقدمات
( أريد وعد ......... )
ساد صمت قاتل ... قاسي بينهما , الى أن قال عبد الحميد أخيرا بصوت ساخر
( بهذه البساطة ؟!! ....... كم أنت واثق من نفسك )
سيطر سيف على انفعالاته بسرعة قبل أن يقول مجددا ....
( هذا أمر بيني و بينها .... فلما لا تخبرها بوجودي و تنهي الأمر .... و إن كنت واثقا من شيء الآن , فأنا واثق من تقافزك فرحا بداخلك بلعبتك القديمة ..... )
ابتسم عبد الحميد ساخرا .... ليقول بصوتٍ أجش
( و هل قررت الآن دخولها ؟؟ ...... اخبرتك من قبل , لو جئتني زاحفا ستكون النجوم اقرب لك .... )
ضحك سيف بخفوت و هو ينظر اليع بنظراتٍ تبرق شررا ... ليقول بقسوة
( هذا حين تراني حاملا باقة ورد في يد و الخاتمين في يدٍ أخرى ..... أي في أحلامك السعيدة فقط , أما الآن و بكل أدب فأنا أريد وعد لأمر بيني و بينها .... فقط )
كان يشدد على حروف كلماته الأخيرة بلهجة مهينة يقصد بها إهانته .... وهو يقف أمامه كالجبل واضعا يديه في كفيه بنطاله باستهانة ... متحديا إياه الا يجيب طلبه برؤية ابنته و كأنها ملك خاص له ....
و ما أروع ذلك الشعور ..... ليس الأستهانة بعبد الحميد العمري ...
و إنما الشعور الثاني .... أن تكون وعد العمري ملك خاص له ....
أخذ نفسا متوهجا ... قاسيا في نفس الوقت ....
الا أن عبد الحميد لم يريحه ... و لم تظهر الحسرة على وجهه وهو يقول بخشونة
( اذهب من هنا يا ولد ..... اذهب الى أمك و أختك الغبية ذات عيون الشايطين .... لم تعد الآمر الناهي الآن ... كانت لعبة و انتهت ..... )
مد سيف يده يقبض على بيجامته القديمة فجأة و قد استعرت عيناه نارا وهو يهمس بخطورة
( دع أمي و اختى خارج الأمر يا عبد الحميد .... لأنني أحاول جاهدا منذ سنوات قليلة أن أشفق على عمرك المتقدم كي لا أرد اليك ما فعلته بهما ..... فلا تختبر صبري طويلا , كي لا ترى القوة البدنية التي كنت تمارسها على من هم أضعف منك قديما ..... )
أوشك سيف على دفعه للحائط ... الا أن حركة خلف عبد الحميد جعلته يتوقف لتطول عيناه الى آخر الردهة ... حتى رآها ....
كانت تقف من بعيد متسعة العينين بذهول تراقب سيف الممسك بمقدمة سترة عبد الحميد ....
ليس ذهولها هو المهم .... المهم هو ذلك الإحساس الذي شعر به كصدمة كهربية لذيذة ....
لم تكن تلك المخلوقة المتشردة الواقفة أمامه هي وعد الأنيقة المهذبة التي عرفها ....
بل كانت فتاة أقرب الى أوائل العشرينات ... نحيفة للغاية , ترتدي بيجاما وردية بهت لونها كثيرا من كثرة الغسيل حتى قارب الأبيض الوردي .... و شعرها كان هائجا بفوضى لم يراها من قبل ....
ناعما مهتاجا من حولها ..... ووجهها المذهول شاحبا يماثل وردية بيجامتها الساترة التي تبدو اكبر منها بعدة مقاسات تحجبها عن عينيه المتفحصتين تماما .....
فغرت وعد شفتيها وهي تهمس دون كلام مسندة كفها الى الحائط بجوارها كطفلة استيقظت للتو من النوم ...
( ماذا تفعل هنا ؟؟ ........... )
نزع سيف عينيه عنها بصعوبة ... لتقسو نظراته وهو يعيدها الى عبد الحميد ليمسك بمعصمه الحاجز له امام الباب و يخفضه بالقوة ... ثم يدخل المكان و كأنه المالك له ....
خطا سيف عدة خطوات داخل المكان القديم .... كان هو نفسه ... بنفس الأثاث الذي لم يتغير سوى بظهور القدم عليه .... نظر سيف باتجاه المطبخ الضيق المفتوح بابه ... ذي الشباك الضيق المطل على " المنور " و الذي تسلل منه منذ سنوات طويلة ....
اعاد نظرة بجولة بطيئة في المكان العتيق المحيط به .... يتنفس رائحته التي لا تزال هي نفسها ....
تتسلل قسوة الى صدره باردة كالثلج ... الى أن تعود أمامه الى المخلوقة الهشة هاجئة الشعر في منتصف الصورة العتيقة .... فيضربه الوهج الدافىء ....
عيناها استوعبتا صدمة وجوده أمامها و في بيتها .... و برقتا غضبا و ألما من ذكرى ما فعله معها بالأمس و ها هو صدرها يلهث بنارٍ حارقة .... و فكها الذي انطبعت عليه شفتاه لا يزال ناعما جميلا ....
و كفيها اللتين كانتا تقاومانه بالأمس ... منقبضتان الآن و نيتها في ضربه ظاهرة بعينيها الجميلتين ....
هديتي الصباح ......
اكتشف أنه ما عاد يستطيع العمل الا برؤية هاتين الهديتين .... و تبا لأي شيء آخر .....
حين خرجت للضوء قليلا استطاع رؤية الجانب الآخر من فكها .... ذلك المزرق قليلا .... حينها انعقد حاجبيه بشدة ... لقد ضربها ... لا مجال لتخيل آخر ....
رفع عينيه الى عينيها المتجمدتين بحزنهما الدفين ممتزجا بغضبٍ حديث .... فبادرته بلهجة خافتة على الرغم من القسوة الظاهرة بحروفها
( ماذا تفعل هنا ؟؟ ...... لقد تركت لك عملك الثمين , هل جئت تتأكد من أن أترك الحياة بأكملها .. .. )
لم يرد وهو يتأملها جليا بثورة غضبها الجديدة عليه .... لكنه حقها بصراحة بعد تصرفه الهمجي بالأمس معها ...
وضع كفيه في جيبي بنطاله من جديد يتأملها بسخرية طفيفة ... قبل أن يرد بهدوء
( اتيت كي آخذك للعمل .......... )
اتسعت عيناها بدهشة غضب قبل أن تتمالك نفسها و تكتف ذراعيها قائلة بفظاظة
( حقا ؟!!! ..... يالكرم الأخلاق !! ..... و من المفترض أن أسقط أرضا باكية من فرط السعادة !!!.... )
التوت زاوية فمه بشبه ابتسامة قاسية وهو يقول
( السخرية لا تليق بك ........ )
قالت وعد بلهجةٍ حادة تقطر قهرا
( بل يليق بي أكثر ما فعلته معي بالأمس ..... اليس كذلك ؟!! )
زالت السخرية عن عينيه وهو يتأمل ثورتها المقهورة و عيناها البراقتان بغشاء دموع غضب طفيف يأبى أن يستباح ....
نعم يليق بك تماما ..... يليق بك ضمي اليك أقرب و اقرب ..... " "
الا أنه رأى من الحكمة ألا يجهر بأفكاره وهو يرى صراعها القوى ما بين السيطرة على نفسها و بين حافة الإنفجار ....
قال سيف بهدوء لا يخلو من القسوة
( يمكننا مناقشة ذلك ..... بعد أن تخبريني تحديدا عما فعله رامي معك ..... من البداية )
هتفت بغل قبل أن تتمكن من تمالك نفسها
( نفس ما فعلته معي ........... )
اسودت عيناه و قتمت بشرته .... و الصورة الآن تأخذ بعدا مختلفا بعد ما سمعه من علي صباحا .... ليترتب عليه تكرار جملتها التي رمتها به بالأمس ....
و لم يشعر الا و نارا تشتعل بصدره أكثر و قبضته تنقبض غضبا .... لكنه همس بلهجةٍ خافتة ... خطيرة ذات مغزى
( نفسه ؟!! ........ )
صُدمت للحظة و اتسعت عيناها ... ثم لم تلبث أن ارتبكت و احمر وجهها بشدة ...بينما كان هو يراقب احمرار وجهها فتشتعل ناره أكثر و أكثر .... و يشعر برغبة عارمة في القتل ..... الا أنه أخذ نفسا حاد وهو يهمس بصوت أجش لا يصل الى والدها ....
( تكلمي ..... لا تبقي صامتة هكذا ...... )
كانت وعد تنقل عينيها منه الى والدها الواقف خلف كتف سيف ينظر اليها بنظراتٍ كيديةٍ ذات مغزى ....
حينها عادت لترتبك و تتوقف ردود افعالها من تلك اللحظة العصيبة التي تعيشها
غضبا و ظلما من ذلك الشخص الذي تهجم عليها بالأمس ... و ما بين خجلها العنيف من سؤاله و كانه يمتلك الحق في السؤال عما فرضه عليها و يرفضه من غيره ....
و القهر من ذلك الرجل الذي تنتمي اليه .... و يقف امامها و عيناه تطلقان الف اشارة ما بين معاني مختلفة
من بينها " الم اخبرك انه لن يهدأ له بال قبل أن ينالك..... "
و ما بين نظرات معناها " اغتنمي الفرصة ......... "
و أمر لا جدال فيه بقسوة " ستعودين معه الى العمل ..... "
لم تدرك أنها بدأت في الإرتعاش كما تتوتر دائما ... و بدأت في التنفس بسرعة بينما الواقف أمامها كان في حالة هياج داخلي وهو يرى حالتها ليفسر سببها كيفما كان ....
قطع والدها الصمت بينهما ليقول بخشونة
( وعد لن تعود للعمل لديك مجددا .......... و اخرج من هنا الآن )
نظر سيف بطرف عينيه الى مصدر الصوت خلفه دون أن يلتفت , ليعيد عينيه الى عيني وعد المرتبكتين .... فقال بصرامة
( ستعودين الى العمل يا وعد ......... )
عادت وعد تنظر الى والدها من خلفه و الابتسامة تعلو ثغره المتشقق ..... فنظرت الى سيف تقول بخفوت
( أخرج من هنا ........ )
مد سيف يده يمسك بذراعها بقوة ليقول بصوتٍ متصلب
( ستعودين يا وعد ..... و لو كنتِ قد عرفتِ عني شيء في الفترة الماضية , فهو أنه ليس من الحكمة لأحد أن يقف ضدي .... خاصة .... خاصة .... كل من يمت لذلك الرجل الواقف خلفي .... لذا حين أقول أنكِ ستعودين .... فسوف تعودين .... )
برقت عيناها رفضا .... لكن و قبل أن تتكلم تابع بصوتٍ مخيف
( لكن ليس قبل أن تحكي لي ما حدث بالأمس من البداية ..... بدءا من تلك التي كنتِ تبحثين .... )
اتسعت عينا وعد قليلا .... تخفي وجهها عن وجه والدها .... خلف وجه سيف الذي سترها ....
في اشارةٍ صامتةٍ اليه كي يصمت هو الآخر ...... و قد التقط هو هذه الإشارة بسرعة ... ليسكت تماما , متمتعا لعدة لحظات بذلك التواصل الخفي بينهما ....
عادت لتنظر الي عبد الحميد خلفه الناظر اليهما بتدقيق .... ثم قالت بحزم ...
( سأذهب الى العمل اليوم لأتقاضى راتبي ..... و الآن بعد اذنك ..... أخرج من هنا )
لم يبدو على سيف أنه قد اهتم بكلمة واحدة مما تفوهت به ... و كأنه هراء ....
الا أنه اكتفى بأن سار بخيلاء و قوة حضور الى باب الشقة .... و قبل أن يخرج استدار اليها قائلا بمنتهى الهدوء
( سأنتظرك في السيارة ........ و إن لم تتواجدي بأسفل خلال عشر دقائق , سأكون عندك هنا مجددا ... بكل القديم و الحديث ..... )
أخذت نفسا ناقما وهي تنظر بكرهٍ الي عينيه الهادئتين رغم قسوتهما ..... لكنه سرعان ما استدار , ليخرج ملقيا نظرة استهانة لخاله .... و كأنه يتحداه على الرفض ...
استدار عبد الحميد الى وعد بعد أن خرج سيف ليقول بصوتٍ ساخر ....
( كيف أوصلته الى تلك الحالة بمثل هذه السرعة ؟!! ...... ابنة أمك صحيح )
كانت وعد واقفة أمامه كتمثال من حجر و هي تنظر اليه طويلا .... قبل أن تتابع كلامه بسخرية
( و ابنتك .......... )
ثم استدارت الى غرفتها ..... تغلق بابها بقوة اعصابها المهتاجة , لتستند اليه بظهرها مغمضة عينيها للحظات .....
ما العمل الآن ؟؟ .... والدها يهددها ... و سيف ينتظرها ....
انهما يلهوان بها .....
ما تلك الكارثة التي تحياها ... هل هي مجبرة على العمل عنده بعد تصرفه الحقير ؟!!!
انهما يمرران الكرة بينهما , يحدهما الماضي بكل ما كانه ..... و يتخذان منها وسيلة لهزيمة الآخر .....
بينما هي قابعة تحت خطر المسكن و العمل و مصروفها ..... والدها لن يتردد في طردها مادامت لا تعمل ....
لأنه مصمم أن تعود لسيف ..... لذلك سيتغل تلك تهديده بمنتهى الدناءة ......
كانت مرجعة رأسها للخلف مغمضة عينيها .... تحتاج لدقيقة تفكير .... فقط دقيقة واحدة .....
ثم لم تلبث أن فتحت عينيها بتصميم ... لتتجه الى دولابها القديم ... مقررة أن تخرج منه ما ترتديه ....
.................................................. .................................................. ......................
كان ينتظرها يداه على المقود بغضب ... بشوق .... بلهفة ....
يريد أن يأخذها و يطير بها من هنا .... البيت و هذا الطريق يحدان من شوقه و يشدانه الى الماضي من جديد ...
لمحها أخيرا تخرج من باب البيت .... رفع رأسه ببطىء ينظر اليها تسير باتجاهه مباشرة و كأنها محددة لطريقها و هدفها .....
تعبر الطريق الصغير بحزم ..... مرتدية فستان سماوي رقيق يتراقص حول ساقيها ... منقوش بياسمينات بيضاء .... فوقه سترة بيضاء خفيفة مفتوحة تتراقص من حول خصرها الناعم المتمايل بكل حزم ...
و في قدميها يلمع حذائها الجديد .... و الذي سيظل في نظره جديدا الى مالا نهاية .....
بينما شعرها لم تمسه على ما يبدو ..... تركته كما هو مما سحب أنفاسه بشدة .....
وصلت اليه وفتحت الباب ثم جلست بجواره لتغلق الباب خلفها ناظرة أمامها دون كلمة .... بينما هو ينظر اليها غير قادر على ابعاد نظره عنها .... ليس مجرد شكلها ... و انما عنها هي .... وعد .....
نظر امامه ليقوم بتحريك السيارة بهدوء ليستدير و يخرج الى الطريق الرئيسي .... فقالت بصوت جليدي
( هل أفهم مما قلته فوق .... أنني لن أتقاضى راتب شهر كما وعدتني ؟؟ .... )
رفع يدا آمرة و هو يقول بصرامة
( ششششششش ............. )
نظرت الى يده بغضب ناري تود لو قفزت عليها لتنهشها بأسنانها .... لتجده يعيدها الى المقود بهدوء مكملا طريقه دون أن يعيرها انتباها ...... فنظرت الى نافذتها بغضب و احساس بالظلم ....
و ظل الصمت بينهما الى أن تنبهت أنه لا يتجه الى العمل ..... فنظرت أمامها ثم اليه لترى جانب وجهه الصلب الغير معبر عن شيء باستثناء القسوة ....
فضلت الإنتظار قليلا ..... الى أن وجدته يدخل بسيارته في موقف مطل على البحر .... ليوقفها تماما .... و ما أن بدأت في فتح فنهما للكلام حتى فوجئت به يخرج من السيارة بهدوء ليتجه الي مقدمتها ... ليستند عليها واضعا كفيه في جيبي بنطاله ناظرا الى البحر أمامه .... و على الرغم من أنها لا ترى سوى ظهره من زجاج السيارة الأمامي .... الا أنها استطاعت أن تلمح شروده ....
رفعت حاجبها .. تنظر حولها قليلا و هي تهمس بدهشة
(؛ ماذا الآن ؟!! ....... )
لذا لم تصبر طويلا قبل أن تخرج من السيارة فلفحها هواء البحر الذي بدأ يتحول الى باردا قليلا فطير شعرها للخلف بقوة..... طارفا عينيها .... ضاربا وجهها .....
ضمت جانبي السترة المفتوحة الي خصرها بذراعيها وهي تتجه الي حتى وقفت امامه تواجهه .... فطير الهواء شعرها عكسيا هذه المرة حول وجهها .... باتجاهه .....
لكنها لم تهتم ووقفت تنتظر بغضب أن يتكلم ....... لكنه لم يتكلم .... بل كان جالسا ينظر اليها بملامح غامضة اليها .....
ينظر الى شعرها الهائج ناحيته و كأنه يتسابق للوصول اليه ... و ذراعيها اللتين تحيطان بخصرها النحيل لتحميانه من البرد ..... و الحذاء .....
كانت على شفتيه التواءة ابتسامة و هو يفكر بوضعه في الأمس .... حين كان واقفا في نفس المكان , متخذا ذلك القرار برمي الماضي تماما .... و رميها معه .... شاعرا بأنه يقتلع شيء قوي منه نما حديثا بداخله ليتغلغل بقوة ....
و الآن .... ها هي أمامه .... بعد أن سرقها عنوة و جاء بها في سيارته الى نفس المكان ....
ظل يتطلع بها طويلا ..... يريد أن يشبع منها كلها و كأنه يحاول تفسير ما بداخله .... لكن ليس بعد , عليه أن يهتم بأمرٍ ما أولا .....
لذا قال بصوتٍ هادىء لكن خطير
( ماذا فعل بك رامي ؟؟ ....... )
ارتبكت قليلا ... ألم ينسى الأمر بعد .... الا أن سيف قال متابعا بصوت أكثر خطورة كالفحيح
( مثلما فعلت أنا ؟؟ ......... أمسك بمعصميكِ مثلما فعلت أنا ؟؟ .... ضمك اليه مثلما ضممتك أنا ؟؟ ....)
ازداد ضمها الي نفسها بذراعيها و ازداد ارتجافها .... ثم همست أخيرا بقسوة حزينة
( ولو فعل .... ماذا ستفعل له ؟؟ ..... و هل ستتصرف مع نفسك بالمثل ؟؟ ..... )
أخذ سيف نفسا غاضبا قبل أن يقول بخفوت شرس
( أجيبي يا وعد ..... و لا تحاولى استفزازي .... )
أوشكت أن تدعي كذبا على الحقير الذي كان السبب في كل هذا الموقف الآن .... الا أنها همست في النهاية
( لم يتمادى مثلما تفضلت أنت ...... امسك بذراعي و قربني منه فقط .... )
لو كانت تظن بأن جوابها قد أراحه فهي مخطئة .... فقد لمعت عيناه بوحشية أكثر و قد ازدادت قتامة ملامحه و كأنما الواقع أكثر قسوة من تخيل موقف أشد ..... لم تفهم وعد سبب توحش نظراته على الرغم مما فعله بها بالأمس .... لم يكن امامها سوى حل واحد .... أن سيف الدين فؤاد رضوان ما هو الا رجل مجنون ....
قال سيف بصوت شارد بعيد لكن أثار في نفسها رجفة ....
( أنا سأتصرف .......... )
ثم ظل ينظر الي البحر بعيدا .... و كأنها غير موجودة ,أرادت أن تصرخ به
" تصرف مع نفسك أولا .... و الا فلا تتصرف معه ..... "
لكنها التزمت الصمت و رغبة خبيثة في داخلها تريد الإقتصاص من ذلك الحقير رامي .....
و همس صوت بداخها ... " و سيف .... من سيقتص لكِ منه ؟؟ .... "
قالت وعد بعد فترة طويلة
( لو كنت قد غيرت قرارك بشأن راتبي ... فأنا سأنصرف الآن , و أنا لن أعود للعمل .... أنا آسفة )
رد سيف بمنتهى الهدوء و هو شاردا بالبحر دون أن ينظر اليها
( ستعودين ............ )
تميزت غيظا ثم قالت بعد فترة بقسوة خافتة
( اسمعني سيد سيف .... أنا أعلم جيدا أنك ما وظفتني عندك الا لرغبة سخيفة في الإنتقام من والدي ... و لا أعلم كيف تصورت أن هذا من الممكن أن يكون انتقاما !! .... فمثل هذا العمل هو عبارة عن مرحلة عادية جدا في حياتي ... فقد عملت من قبل في اشغالٍ أكثر صعوبة و اهانة منه ....
و تكون مخطئا إن ظننت للحظة أن هذا من الممكن أن يهزم والدي ..... فهو لا يهتم البتة , حتى و إن احرقتني أمامه حية ....
و مع ذلك .... قبلت العمل لديك لأستفيد من رغبتك السخيفة في الإنتقام ....
أي انني من الآخر ... اخذتك على قدر عقلك المسكين .... لأن في الحياة أولويات أهم من شخص يريد أن ينتقم من آخر حتى بعد أن انصفته الحياة و أكرمه الله ....
لكن بعد تصرفك بالأمس .... وجدت أنك ستتخذ أبعادا أخرى من انتقامك ... و تلك الأبعاد أنا بعيدة كل البعد عنها ..... لذا أنا آسفة جدا .... أنا مستقيلة .... )
كان سيف ينظر اليها و على شفتيه شبه ابتسامه ... مراقبا ثورتها مما زاد غضبها أكثر ... و ما أن انتهت من محاضرتها حتى قال سيف و كأنها لم تقل حرفا واحدا
( من تلك التي كنتِ تبحثين عنها ؟؟ ........... )
فغرت وعد شفتيها و هي تحدق به غير مصدقة أنه لم يعيرانتباها لحرفٍ واحد مما قالته ..... ثم أدارت وجهها لتغرقه موجات شعرها الداكن بعيدا عن عينيه .... ثم قالت اخيرا بصوتٍ هازىء مكبوت
( طفلة ابحث عنها بدار رعاية .... ماذا يمكن ان تكون ؟!! .... )
اشتدت ملامحه وهو يقول بقسوة
( لا تتلاعبين بالكلمات يا وعد .... انها شابة في الثانية و العشرين ...... فمن تكون ؟؟ .... )
لم ترد وعد و هي تنظر جانبا للبحر .... شاردة بجموحه ... ثم قالت أخيرا بهدوء
( ماذا فعل والدي بكم ؟؟ ........ )
صمت سيف قليلا و كأنها باغتته بالسؤال ... فقال بصوت خافت بعيد
( لما لم تسأليه ؟؟ ........ )
قالت وعد بهدوء ....
( سألته مرارا .... و لا جواب محدد لديه سوى ابتسامة ساخرة )
قست ملامح سيف بعنف ... و انقبضت كفاه ... الا أنه قال بعد فترة طويلة
( لا جواب لدي ..... ولو جاوبت فلن يعجبك ردة فعلي ... )
أومأت وعد برأسها قليلا ... ثم قالت أخيرا بهدوء
( و أنا ليس لدي جواب كذلك عن سؤالك ....اسأل رامي او اسأل من عرفت منه عمرها الحقيقي )
ابتسم سيف قليلا ... ثم قال اخيرا بصوت هادىء
( لا بأس سأعرف بنفسي ..... كما سأعرف كل شيء عنك , مهما كان صغيرا منذ الآن فصاعدا ..... )
نظرت اليه بغرابة و عينين متسعتين ... ثم قالت بعد فترة بصوت حاولت أن يكون بسيطا
( حظا سعيدا في ذلك ..... لكن لا تنتظر مساعدتي , فأنا لن أعود للعمل و لن تراني بعد اليوم .... )
ضحك سيف بخفة دون أن يغضب هذه المرة .... بينما كان ينظر الى حذائها الجديد ... قبل أن يمد ساقه ليضرب قدمها بقدمه بخفة فزحزحها قليلا ... ثم قال مداعبا
( جميل حذائك ..... الذي اشتريته بمالي ...... )
فغرت شفتيها لينعقد حاجبيها و تتحول في لحظةٍ الى أنثى الثور و هي تتخصر بكفيها على وسطها تاركة جانبي السترة قائلة باستنكار همجي حتى أنها كادت أن تبطش به
( مال من ؟!!!! ..... اي حذاءٍ هذا الذي بمالك ؟؟ ..... أنه مالي اخذته بعرق جبيني و حين أقول هنا عرق جبيني فأنا أقصد المعنى حرفيا .... أم أنك نسيت ؟!!! )
ابتسم سيف وهو يراقبها .... حيث بدأ يحب ثورتها ... كما يحب حزنها ... و يحب رقتها .....
لذلك كان قاصدا استفزازها علها تثور و تثور و تتغاضى عن مسألة ترك العمل ... فتابع بصوتٍ رقيق يتناقض مع عمق نبرته
( لكنه طلع من حافظتي .... كما سيكون حال كل ما ستشترينه فيما بعد .... )
نظرت اليه وعد و قد اسقط في يدها كمن يستمع الى معتوه ..... ثم قالت بهدوء شديد بعد فترة
( لن يحدث ..... لن أعود للعمل ...... )
قال سيف مبتسما ببساطة
( بل ستعودين .......... )
فتحت فمها تنوي الصراخ في وجهه ... لكنها تسمرت مكانها قبل أن تفعل و هي تتذكر تلك اللحظة التي اختلت فيها بنفسها بعد ان خرج من بيتها اليوم ....
لقد استفزها طويلا حتى صرخت عدة مرات بانها لن تعود للعمل ... لكن في تلك اللحظة الوحيدة التي فكرت فيها بحقيقة وضعها حين تعود لوالدها وقد عصت اوامره ... فربما يطردها من البيت و على احسن الظروف سيجعلها عبدة عنده ليذلها يوميا ....
كما فكرت في نفس اللحظة في عدم منطقية تصرفات سيف معها .....
و ها هي تسترجع تلك الافكار مجددا .... ناظرة اليه .... وهو ينظر اليها بشرود يكاد يكون تائها
فسترتها كانت تتراجع قليلا ... كاشفة عن احد كتفيها ... مع فستانها السماوي ذي الياسمينات البيضاء
اخذ سيف نفسا عميقا وهو يحاول تجاهل تلك الهالة المجسدة من الرقة و التي تستفز اي يدٍ غير مسيطرة للتسرب اليها ....
تكلمت وعد أخيرا ... و جاء صوتها ضبابيا رقيقا بين صوت الموج و الهواء ... و على وجهها يعو تعبير غريب , يكاد يكون رقة مختلطة بإبتسامة تأبى الظهور ...
( ماذا تريد مني يا ..... سيف ؟؟ ..... )
رفع عينيه الى عينيها ببطء ... و رفرفة داخليه بأحشاءه تداعبه من نطقها اسمه مجردا ... لكنه قال ببطء و دون تردد
( اريدك ....... )
رمشت بعينيها و اهتزت بمكانها لحظة على الرغم من ادعائها دور الثقة و السيطرة على الموقف ... الا أن كلمته أربكتها و جعلتها تنتفض .... فاستجمعت قواها لتقول هادئة هدوء مزيف
( بمعنى ؟!! ..... )
ظل سيف يراقبها طويلا ... بكل ما فيها و كأنه يتشربها مع قهوته ... ليقول أخيرا
( أريدك مع قهوتي الصباحية كل يوم ....... )
شعرت أنها فقدت التواصل للحظة ... فعقدت حاجبيها و هي تحدق به , ألم تقل من قبل أنه فاقد العقل ...
لكنها تمكنت من القول بخفوت
( أنا لا أملك أي وعود يمكنني تقديمها لك ....... لاشيء على الإطلاق ... )
ابتسامته كانت بها و لها .... خافتة شاردة ... ليقول أخيرا بهدوء
( لا وعود ......... )
رفعت ذقنها قليلا و هي تنظر اليه ... ثم قالت بقوة
( و أنا لست للبيع .... حتى على سبيل الإنتقام ..... )
اتسعت ابتسامته وهو يقول
( أما أتفقنا من قبل أن أنتقامي منكِ سيكون بتقديم قهوتي الصباحية ؟....... اذن لا مشكلة , فأنا أحصل على انتقامي الخاص يوميا .... )
مطت شفتيها بامتعاض و هي تراقب شخصا ارتاحت حياته و نسي الشقاء ... فبات يتسلى بأي لعبة جديدة تقع في يده ....
" انتقامه بتقديمها القهوة له !! ..... يا للفراغ و الرفاهية التي يعيشها .... "
أخفضت وعد رأسها قليلا ..... تستدير لتنظر الي البحر و كأنها تسأل نفسها عن الطريق الذي تسير به الى أين سيطول بها ...
قال سيف من خلفها بهدوء
( ألن تخبريني عن تلك التي تبحثين عنها ؟؟ ..... أم أضطر للبحث خلفك ؟؟... )
عادت لتمط شفتيها و هي تهز رأسها استهزاءا .... لكنها قالت بهدوء و هي تنظر الي البحر
( ربما لو عثرت عليها و كانت بخير ..... قد أخبرك عنها احتفالا بذلك .... )
قال سيف بصوتٍ مبتسم من خلفها
( لكنه ليس وعد ؟؟ ........ )
قالت وعد بصوتها الرقيق مؤكدة
( لا وعود ........... )
استدارت اليه لكنها تسمرت من نظرات عينيه اللتي كانت تخترقها بقوة ... فارتبكت قليلا و احمر وجهها لتقول بخفوت مطرقة برأسها
( حسنا ...... هل سنذهب للعمل أم ماذا ؟؟ ...... )
عاد ليبتسم ... ثم استقام من مكانه ليشير اليها أن تركب , لكنها ترددت قليلا قبل أن تقول
( لكن لا تنزلني أمام المكان مباشرة ...... )
قال سيف بلهجة آمرة
( وعد ..... ادخلي السيارة .... )
جلست وعد مكانها و جلس بجانبها ... ينظر اليها نظرة عميقة كل حين , تذيلها ابتسامة شاحبة ... بينما كانت هي تلتقط اشاراته بطرف عينيها فيحمر وجهها ... لتديره سريعا الى النافذة ....
انسابت موسيقى حالمة من المذياع أثناء طيران سيف بالسيارة على طريق البحر .... فشردت بها وعد و ملامحها تنساب منها الرقة لكن دون أن تبتسم ... و كأن الإبتسامة أصبحت مجهودا إضافيا عليها ....
تسللت يد سيف لتمسك بكفها الموضوعة على ركبتها برفق ... فرفعت اليه عينين واسعتين مندهشتين , فقابل نظرتها بابتسامة ......
الا أنها سحبت يدها ببطء شديد ... ليبعد يده عن ركبتها الى المقود ,..... ناظرا أمامه ...
دون أن يفقد ابتسامته ........
وقفت تمشط شعرها الطويل أمام المرآة .... تنهدت و هي تشعر بالتعب منه ,. الحقيقة أن تمشيطه أصبح مجهدا جدا .... لكنها على الرغم من ذلك من المستحيل أن تقصه ....
رفعت عينيها الى المرآة قليلا تنظر اليهما بشرود ... و هي تتذكر وعد ....
ملامحها تبدو بعيدة نوعا ما ... و كأنها مغطاة بنسيج أبيض شفاف .... لكن صوتها ما زال يشدو بنعومة في أذنها قبل النوم ....
دائما ما كانت تضفر لها شعرها بينما تغفل عن تضفير شعرها الخاص ....
كانت تهمس لها بصوت لابد و انه كان طفوليا لكن به امومة
( شعرك مثل سلاسل الذهب ..... لو تجرأت أيا من المشرفات على قصه لك فسأنهشها بأسناني ... )
ابتسمت ملك أمام المرآة و هي تتعجب من أن بعض العبارات لا تتيه من بالها أبدا ....
كتلك الأنشودة التي كانت وعد تغنيها لها قبل النوم ....و هي تضمها معها في سرير واحد .....
كانت تتعامل معها كطفلة تلعب دور الأم مع دميتها .... الا أنه لم يكن هناك وجودا للدمى حينها ....
كانت فقط ملك .... و كانت وعد تفرغ بها كل أمومتها و طفولتها .....
أين هي الآن ؟..... فقط تتمنى أن تكون بخير ....
تتمنى أن تكون الحياة كريمة مع وعد كما كانت كريمة معها .....
اختفت ابتسامة ملك وهي تتذكر صراخها ذات يوم
( وعد !!! .... وعد !!! ....... )
تتذكره و كأنه بالأمس .... حين ايقظتها احدى المشرفات ذات يوم ,و أخذتها من بين أحضان وعد لتذهب بها الى الحمام دون ضرورة الى ذلك .... و حين عادت ملك جريا بعد أن أهلتها ... وجدت السرير فارغ ....
فانطلقت تجري خارج ممر العنبر .... و هي تنادي بقلق على وعد .... الى أن رأتها ....
رأتها خارجة و رجل ضخم غريب يمسك بيدها ....
حينها نادتها ملك فاستدارت اليها وعد بقلق و عينين مفجوعتين ... لكنها كانت تبكي بصمت ....
تشير اليها بأن تعود للعنبر ..... لكن ملك جرت اليها و هي تتشبث بيدها لتسألها عن سبب خروجها ...
لازالت تتذكر حتى الآن أن وعد انحنت الى أذنها لتهمس و هي تبكي
( سأذهب لفترة قصيرة ثم أعود اليك ..... لكن فقط , أريدك أن تحفظي اسمي كأسمك .... وعد عبد الحميد العمري .... احفظيه كاسمك و اياكِ نسيانه أبدا ..... ردديه )
كانت ملك غير مستوعبة تماما لما يحدث ... و هي تنظر الي وعد التي تغرق الدموع وجهها بصمت
لكنها أخذت تهمس بطاعة كما هي دائما مع وعد
( وعد عبد الحميد العمري ...... وعد عبد الحميد العمري )
بعدها ضمتها وعد اليها بقوة و الدموع تنتقل من وجهها الناعم الى وجه ملك الأكثر نعومة .....
ثم ابتعدت بالقوة ما أن جذبها الرجل الضخم خلفه نافذ الصبر .... فابتعدت معه و هي تلوح لملك .... و حين أوشكت ملك على الجري لحاقا بها ... وجدت ذراعي مشرفة تحيط بها و تحملها قسرا لتعيدها الى العنبر ... بينما استمر نداءها لساعة .... و ساعتين .... و ثلاث ....
لقد ذكرت وعد أنها ستعود سريعا .....
و استمر ندائها ليوم و اثنين .... ثم طال به الصوت لاسبوع ..... بعدها بدأت في الدخول في فترات عقاب طويلة .... ببقائها وحيدة الى أن تنتهى من ندائها ....
حدثتها المشرفة طويلا عن أن وعد قد ذهبت مع والدها و أنها لن تعود الى هنا مجددا .... لكن ملك لم تستوعب حرفا و لم تقتنع و كأنما لم تفهمه ..... والدها ووعد قد توفي قبل سفر أمها بعد أن تركتهما لجدتهما ....
و التي لم تلبث أن توفيت بعد عام .... تاركة وعد و ملك بمفردهما في شقة قديمة ..... و الجيران يتوافدون لإخراج الجثمان من تلك الشقة .....
و بعد التنقل من جار الى جار .... استقر الجميع على ضرورة ارسال وعد و ملك الى دار للرعاية .....
آخر ما تتذكره ملك هي تلك الفترة الطويلة التي كانت تقضيها في النداء على وعد .... ثم بعدها حدثت فجوة .... جعلتها تنسى الكثير من التفاصيل .....
الى أن بدأت ذاكرتها في بناء حياة جديدة .... في دار جديد .... مرفه .... نظيف .... ينفق عليه الكثير من متيسري الحال .... فبدا أشبه بمدرسة داخلية نظيفة مرتبة ....
حتى المشرفات هناك كن مختلفات .... و كأن رقي الدار مرتبط برقي المشرفات اللاتي يعملن به .....
عادت من شرودها و هي تنظر الي صورتها مجددا .... لتبتسم برقة حزينة ....
ما أجمل أن تصطحب معك نسمة من الماضي المؤلم .... لترافقك الى حاضر به بعض لمحات الإشراق ... فتريها أن المستقبل ليس مؤلما كما كانت تصور له لياليه ....
رفعت ملك يديها لتضفر جانبي شعرها في ضفيرتين رفيعتين ... ربطتهما معا خلف رأسها فأصبحتا كالطوق الذهبي يزين وجهها ....
بينما ضفرت باقي شعرها في ضفيرة سميكة واحدة تركتها خلف ظهرها .... و كانت أثناء تضفير شعرها ... تنظر بين الحين و الآخر ... الى وعد الصغيرة التي كانت تجلس على السرير ناظرة اليها بابتسامتها الأمومية !!.... فتبادلها ملك الإبتسام !!.....
و حين قيمت نفسها أخيرا ... شعرت بالرضا بذلك الثوب الوحيد الذي تملكه .... الوردي الشاحب ....
فكل ملابسها كانت مبتاعة في فترة التنزيلات من الأسواق المحلية.... من جينزات و أقمصة قطنية ....
أما هذا الثوب الوردي الشاحب ..... فقد كان نزوة ليست بباهظة الثمن لكنه أنثوي بحيث لم تستطع أن تقاومه .... و لم ترتديه الا بضع مرات قليلة في المحل ....
لكنه الآن بدا مناسبا تماما لأول موعد لها ..... مع صديق ....
نظرت ملك الي الساعة القديمة ذات الزجاج المكسور .... فوجدت أن موعد العمل قد حان .... لذا طارت تخرج من غرفتها كي تنزل و تفتح المحل لكن دون أن تنسى أن تلوح لوعد ..... و تلوح لها !
تنتظر انقضاء الساعات الأولى كي تحصل على وقت راحتها و كم كانت الساعات طويلة بطيئة !! ....
ظلت ملك تنظم الورود لكل من يطلبها و عيناها على الباب الزجاجي كلما سمعت صوت اسطوانات النسيم ...
على الرغم من أن الوقت لا يزال مبكرا على موعدهما .... الا أنها كانت تتمنى لو أتى مبكرا ....
كي تريه للسيدة ليلى ... صاحبة المحل التي كانت تنظر اليها بين الحين و آخر بعجب .... من تلهفها الي النظر للباب ... و هيئتها المنمقة أكثر من اللازم ....
وكلما حدجتها بنظرة مدققة .... كانت ملك تحمر خجلا دون سبب لتخفض عينيها مبتسمة و هي تعض شفتها بتشوق ....
أخذت xxxxب الساعة تعاندها بشدة ... تتحرك ببطءٍ مغيظ ... الى أن نهضت السيدة ليلى من مكانها و هي تقول متأوهة برقة
( سأصعد الى شقتي الآن يا ملك ...... لا تنسي أن تحكمي غلق الباب حين يأتي موعد راحتك )
أومأت ملك مبتسمة و هي تفكر بأن السيدة ليلى لا تمل و لا تكل من تذكيرها بنفس التوصية , على الرغم من أنها لم تنسى ليوم واحد اغلاق الباب في وقت راحتها ....
ما أن خرجت ليلى حتى نظرت ملك الى الساعة .... و الباقي من الزمن ثلاثون دقيقة كاملة ... ظلت تترقبها بعينيها دقيقة دقيقة .... الى أن سمعت صوت رنين الاسطوانات عند الباب ..... فابتسمت ....
نظرت بطرف عينيها اليه يدخل بقامته العالية ووجهه الوسيم .... انه يشبه نجوم السنيما بشعره الناعم البني و عينيه الجريئتين .... حتى الجرح في حاجبه يزيده عبثا ....
التمعت عيناه حين وقعتا عليها .... و كأنما يقتنصها في نظرةٍ واحدة ....
ليقترب منها ببطء دون أن تغفل عيناه عنها .... فوصل اليها أخيرا , يفصل بينهما الحاجز الرخامي ... أيديهما مرتاحة عليه بعكس ما بداخلهما .... قال أخيرا بصوتٍ خافت
( مرحبا ,........ )
ردت ملك برقة هامسة
( مرحبا .......... )
صمت يتأملها من جديد عله يرى بها ما غفل عنه في المرة الأولى ... ثم قال أخيرا
( تبدين جميلة ........ )
ابتسمت و هي تطرق برأسها بخجل ثم همست
( و أنت كذلك .......)
سمعت هدير أنفاسه حتى عجزت عن تفسيرها ... فارتبك قلبها عدة مرات , لتسمعه يقول بعد فترة
( اريد باقة جوري حمراء ...... لفتاة جميلة )
رفعت عينين متسعتين اليه .... فبدا واثقا مبتسما باعجاب عجز عن اخفاؤه ....
فهمست ملك بحيرة
( حقا ؟؟ ............. )
رد كريم واثقا
( بالتأكيد ....... اعتدت أن أجلب الورود معي لكل فتاة جميلة أخرج معها ... لكن و بما أنني مررت بكِ هنا , فسيكون من الغريب أن أحمل معي باقة ورد ..... )
ارتبكت ملك و احمر وجهها .... انه يعترف أمامها بأنه يخرج في مواعيد مع فتيات أخريات و يعتبرها كمجرد موعد بينهن !!! ..... هل يفترض بها أن تشعر بالإهانة و ترفض الخروج معه ؟؟ ....
لكن الرد بداخلها تأخر ... و زادت حيرتها ... فأخذ المبادرة منها وهو يقول آمرا
( هيا........سنتأخر )
كانت لهجته خافتة آمرة .... كمن اعتاد القاء الأوامر طوال حياته , لذا رغما عنها شعرت برغبة عارمة في تحديه ... فنظرت الي الساعة على أمل أن تكون أكثر بطئا و يكون وقت راحتها لم يحن بعد ... ولو بخمس دقائق ....
لكنها وجدت أن أخمس دقائق قد مرت منه بالفعل .... لذا أعادت نظرها اليه تقول بخفوت
( أظن ذلك ......... )
خرجت ببطء من خلف الحاجز الرخامي لتقف أمامه .... فمنحته الفرصة كي يراها كلها بثوبها الوردي الشاحي ... و تاجها المضفر على قمة رأسها ....
بدت أحدى بطلات العصر الفيكتوري هاربة من أحد الأفلام .... و كان ينظر اليها واجما , و كأنه يخشاها أو يخشى عليها ....
مشت أمامه برقة راقصة باليه و هي تعد باقة ورد جوري مميزة ليست ضخمة ... و لكنها رقيقة ذات سيقان طويلة عددها محدود ... لفتها بورق شفاف ثم ربطتها لتنظر اليها مبتسمة بشرود و هي تحتضنها الى صدرها ....بينما كريم كان ينظر اليها مسحورا ... ليهمس بعد فترة صمت مبهور
( هل أعجبتك ِ ؟ ........ )
ابتسمت ملك أكثر قليلا و هي تومىء برأسها ثم همست بمرح
( إنها جميلة جدا ....... شكرا لك , ذوقك رائع )
ابتسم كريم هو الآخر غير قادر على نزع عينيه منها ... بينما همست ملك برقة
( لم أتلقى باقة ورد من قبل ........ )
رفعت عينيها اليه مبتسمة .... لتهمس بسحر
( شكرا لك ......... )
ظل كريم ينظر اليها قليلا .... قبل أن يتنحنح ليقول أخيرا مخرجا حافظته
( حسنا ...... سأدفع ثمنها , و بعدها نغادر ...... لكن لا تنظري الى الثمن )
ضحكت ملك و هي تستدير خلف الحاجز الرخامي ... لتأخذ منه ثمن الباقة و تضعه في الجارور و تعيد اليه الباقي ... فقال مبتسما دون أن يأخذه
( أعتقد أنكِ لا زلتِ ترفضين الإكرامية ؟؟ ...... )
اختفت ابتسامتها و هي تنظر اليه .... فقال بسرعة
( أنها مزحة ......... )
قالت ملك دون أن تبتسم
( ليست ظريفة ............ )
مد كريم يده يسحب الباقي .... وهو يقول مقطبا جبينه
( أنتِ حقا مفيدة لغرور الرجل ....... هيا بنا )
خرجت معه بعد أن أشار الي الباب مادا ذراعه لكن ليس قبل ان تخبىء باقتها الخاصة لحين عودتها .... وجدت ملك سيارة أخرى غير الفضية التي أعتاد المجيء بها الى هنا و تأكد ظنها حين سمعت صوت جهاز فتحها ...
كم سيارة يمتلك ؟؟ .... و لما كل هذا الإستعراض أمامها ؟!!...............
جلست في المقعد الأمامي بعد أن فتح لها الباب ..... ثم استدار ليجلس بجوارها لينطلق بعد ذلك كالسهم ...
لم تتكلم ملك أثناء الطريق .... كذلك لم ينطق هو .... لكن القلق كان ظاهرا عليه أو أن هناك معضلةٍ ما يقوم بحلها ....
لم تخفي ملك مراقبتها له .... فكان ينظر اليها بين الحين و الآخر ليظاهر بالإبتسام لكن دون أن يتكلم ... و كأنه يفضل أن يجهز ما سيقوله اولا ....
توقفا أخيرا أمام مقهى راقٍ للغاية ..لا ليس مقهى في الواقع انه مطعم فخم جدا , الا انه مشهو بقهوته .... . نزل من السيارة و فتح لها الباب .... فخرجت ببطىء تتطلع الى أناقة المكان .... تستطيع تذكر انها لمحته من المواصلات مرة أو اثنتين .... لكنها لم تهتم بالنظر الي اسمه ... لذلك تعجب أنها لم تكن على معرفة بالمكان ....
دخلا الى المكان الخافت الإضاءة ... تنبعث من كل زاوية منه موسيقى ناعمة ... بينما الأصوات لا تعلو عن الهمهمات الخافتة ... قادهما نادل منمق الى ركن بعيد قليلا تم حجزه من أجلهما خصيصا ....
لم تظن بأن المقابلة تستحق كل هذا الإستعداد .... ربما لو جلسها على سور شاطىء البحر لكان الأمر مميزا أكثر ....
ارتبكت ملك و هي تشك للمرة الأولى في مدى ملائمة ثوبها الخفيف البسيط مع فخامة المكان ....
جلست ملك ... ثم جلس كريم مقابلها , ينظر اليها برقة .... يحاول حفظ ملامحها الدقيقة ... ثم ابتسم ليقول
( هل أعجبك المكان ؟؟ ...... )
شبكت كفيها في حجرها أسفل الطاولة و هي تجيب بارتباك
( لطيف .......... )
همس كريم يميل الى الأمام قليلا
( اذن لماذا لا تبدين مبتهجة ........ )
همست ملك تقول وقد احمروجهها ارتباكا
( تلك الأماكن ... توترني قليلا .... )
قال كريم وهو يترقبها بنظراته الملتهمة
( و كيف توترك و أنت أكثر جمالا من المكان نفسه بمن فيه ؟! ..... )
اتسعت عينا ملك و هي ترفعهما اليه مندهشة من جرأته .... ثم لم تلبث أن أخفضتهما الى كفيها ما أن بادلها النظر بقوة مبتسما .....
مرت فترة قليلة .... قبل أن يهمس كريم
( كلميني عن نفسك ........ )
عادت لترفع وجهها اليه ... تتحقق من ملامحه , ثم همست
( كلمني أنت عن نفسك ..... و عن أخبارك )
رجع ببطىء الى الخلف ... ينظر اليها بغموض , ثم قال بخفوت وهو يتلاعب بأكياس السكر الصغيرة ...
( أخباري !!...... حسنا أنا شاب كغيري من الشباب , ..... اسمي كريم القاضي ... من عائلة القاضي , لابد و ان تكوني قد سمعتِ بها .... مولع بالسهرات و السفر .... السيارات .... و الفتيات )
كانت تنظر اليه كمن يقرأ الجريدة .... بلا اي تعبير .... اطلاقا .... حتى عندما نطق الكلمة الأخيرة بصوتٍ خافت مازح ... لم تحمر خجلا ... على الرغم من أنه كما يبدو مزاحا واقعيا .....
حين وجدها صامتة تنظر اليه بلا تعبير .... قال أخيرا وهو يمد كفيه متسائلا
( هل هناك المزيد ؟؟ ......... )
لم ترد ملك على الفور ... ثم همست
( هل كانت حياتك سهلة ؟؟ ............. )
ارتجفت ملامحه قليلا ... الا أنه تمكن من الضحك بافتعال ليقول بجاذبية شاب واثق بنفسه و بحياته
( الحياة منحتني الرفاهية ..... فمن أكون لأتذمر !! ..... )
ابتسمت ملك برقة ... ثم همست تقول برضا
( و أنا أيضا قد كانت الحياة كريمة معي للغاية ....... )
بهتت ضحكة كريم للحظات ينظر الي عينيها .... ثم قال بصوت خافت
( هل هي سخرية مريرة ؟؟ ...... )
نظرت اليه بتعجب ... ثم قالت بثقة
( بل على العكس ..... الحقيقة أنني كنت محظوظة في معظم أحداث حياتي ..... حتى أيقنت بأن القدر يحرسني دائما ...... )
كان كريم يستمع اليها باهتمام ... ثم قال أخيرا
( ماذا عن اسرتك .... والديكِ ؟ ..... )
عقدت ملك حاجبيها قليلا .... تنظر اليه و كأنما هي غاضبة من شيء ما , الا أنها تجاهلته تماما ... و هي ترفع كفيها على الطاولة بعد أن ارتاحت للمكان قليلا ... تتأمله من حولها ....ثم لم تلبث أن قالت بخفوت
( أنا أعمل في محل للورد كما تعمل ...و أسكن بنفس الxxxx في غرفة علوية كما تعلم .... ليس لي أصدقاء , و إن كان معظم ساكني الxxxx يعتبروني كابنتهم .... لكن لي علاقات كثيرة في العالم الإفتراضي .... )
صمتت ثم هزت كتفيها تقول بلامبالاة
( هذه هي كل المعلومات المهمة عني ...... أنا مثلك , ليس لدي الكثير لأقصه .... )
أدارت وجهها بعيدا عنه , متعمدة تجاهل التحدث عن والديها و طفولتها ....
بعد فترة جاء النادل اليهما بالمشروبات التي طلبها كريم ..... فوجدت ملك أمامها كأس ضخمة بها مشروب شوكولا مغطى بطبقة كريما بيضا ... و مزين بشرائح من الفراولة الحمراء .... فابتسمت و هي تنظر الي الكأس رغما عنها ....
ثم همست دون أن تنظر الي كريم
( ماهذا ؟؟!!! .... لي و للجيران ؟!!! ...... )
ضحك كريم وهو يقول بخفة
( بألف هناء .......... )
نظرت اليه مبتسمة بمرح ثم قالت ضاحكة
( الف هناء ؟!!! ..... انها لا تتناسب مع سيارتك و نظارتك ... و ساعة معصمك .... )
ضحك كريم و هو ينظر الى ملامحها التى بدأت تتورد مرحا .. لتتأقلم مع المكان ... ثم قال
( لم تري شيئا بعد يا صبية .... فلا تدعي المظاهر تخدعك )
خفت ضحكها و تحول الى ابتسامة رقيقة و هي تهمس بثقة
( لن تخدعني المظاهر ....... لا تقلق .....)
تحولت ملامحه الى الشرود ... و هو يتشاغل بالنظر الى أرجاء المكان مثل حالها ... أصابعه ذات الأظافر النظيفة تتلاعب ببعضها بتوتر .... و الساعة الغالية الثمن تطرق سطح الطاولة بحركة لا إرادية ....
شعرت فجأة بالعطف عليه .... فقد بدا كطفل صغير متوتر قلق .... و قد ضغطت عليه أكثر من اللازم ...
لذا أمسكت بكأسها الضخم ... ترتشف القليل من مشروب الشوكولا .... بالماصة الطويلة ...
ثم همست قائلة بسرور
( انه رااااااااااااائع ....... )
التفت اليها متفاجئا بنبرة الإنبهار في صوتها .... ثم لم يلبث ان ابتسم زهوا و كأنه هو من أعد المشروب بنفسه ...
قال كريم أخيرا بصوتٍ لاهث .... و قد عاد لعبثه الناضح عليه وهو يتأملها تلعق الكريما البيضاء من فوق المشروب
( أنتِ تبدين بنعومتها .... و حمرة وجنتيك تماثل ثمار الفراولة بها .... )
رفعت عينيها اليه و قد احمر وجهها بشدة .... انه عابث و فاشل أيضا ..... وهي تتعجب من وقوع الفتيات في فخه مع ثقتها بوقوعهن راضيات مسالمات .... فقالت باتزان
( هل كتبت تلك العبارة بورقة كي تسمعها لي ؟؟ ..... ام أنك حفظتها بحكم العادة ؟؟ ..... )
عقد حاجبيه وهو ينظر اليها مستمرة في لعق الكريما دون أن تنظر اليه ... أما هو فقد غادرته الإثارة و بقى بداخله الغيظ فقط .... و الإنجذاب القوي لها .....
فقال دون تفكير
( لم أكن مضطرا عادة للحفظ أو التحضير ..... فالأمر كان أسهل من ذلك بكثير )
رفعت عينيها اليه مصدومة .... ثم قالت بعد فترة ما أن وجدت صوتها
( أتمنى الا تجدني من تلك الأمور ..... السهلة .... التي تظنها ..... )
شعر بأن حنقه منها يزداد أكثر و أكثر .... حتى بدأت أصابعه بالطرق في عصبية ... و ساقه تهتز بتوتر تحت الطاولة ناقلة اليها شحنات غضبه , لكنها كانت تنظر اليه بفتور .... تنتظر و تنتظر الى أن انفجر غضبه و هو يقول بقلة تهذيب .... ووجه محمر من الحنق
( ليس هذا ما رأيته حين وافقتِ على طلبي للخروج من العرض الأول دون الحاجة لأكرره ... و رقم هاتفك الذي تكرمتي به دون حتى أن تعلميني عن اسمك و الذي كتبته على الورقة وكأنه اسم محل يعرض خدماته ... )
كانت تنظر اليه بذهول أخذ يتزايد حتى ان عينيها اصبحتا في اقصى اتساعهما بينما فغرت شفتيها ... و ما أن انتهى حتى صمت ينظر اليها هو الآخر مذهولا من نفسه ... ثم ينظر حوله و كأنه فوجىء بإنفجاره ...
حين نطقت ملك اخيرا ... همست و هي تضع الكأس من يدها جانبا
( انت تعرف اسمي من قبل ..... لكنك مصر على الاستمرار بتلك التمثيلية الرديئة .... )
عقد حاجبيه وهو يراها تستعد للنهوض فقال بحنق يمسك معصمها ما ان استقامت واقفة
( اي تمثيلية ؟!! ...... اجلسي مكانك حالا ..... الناس ينظرون الينا ..... )
نظرت حولها قليلا ... ثم انحنت لتجلس ببطء دون ان تحيد بعينيها عن عينيه .... تنتظر أن يحسن من موقفه ... و كان هو يلهث بغضب .... لكنه يحاول تهدئة نفسه ... ثم قال مرغما
( طبعا كنت اعرف اسمك ...... لقد اعجبت بك من فترة لذا حاولت معرفة اسمك و عنوانك ..... لكن ما اثار سخطي هو ثقتك المبالغ بها في البشر .... وددت لو خنقتك ..... لم اتصورك تشبهين من عرفتهن من قبل )
كانت تنظر اليه بتعبير ميت .... تستمع اليه باذن خاوية ... ثم همست بألم بعد فترة طويلة
( كنا بمثابة اخوة ......... الجرح في حاجبك كان نتيجة دفاعك عني ..... ظننتك أتيت الي مشتاقا تعرفني على أخبارك .... لم أظن أن تتنكر لي بمثل هذه الرداءة في الإداء ..... )
اتسعت عيناه ذهولا ... ثم ارتبك وجهه و احمر وهو يحاول الكلام نفيا ... استنكارا ... أي شيء ...
الى أن قال أخيرا
( أنا آسف ...... أنت تخلطين بيني و بين شخص آخر ...... )
ابتسمت ..... لكن بلا اي ذرة مرح .. ثم نهضت ببطء لتنظر اليه بحزن , ثم همست اخيرا
( لا ..... لست أخلط بينك و بين أحدٍ آخر ... كما إني لست أتوهم ... ... )
ثم ابتعدت قبل أن يعاود الإمساك بمعصمها و هي تهمس برقة
( سررت برؤيتك .... و الإطمئنان عليك يا شادي ..... لكن اعتقد أنها ستكون المرة الأخيرة .... )
ابتعدت عنه بهدوء و كبرياء فنهض خلفها بسرعة وهو يهمس خوفا و غضبا
( ملك ....... انتظري )
الا ان اثنين حالا بينهما حين قالت واحدة بمفاجأة
( كريم القاضي !! ..... ماذا تفعل هنا , الم تخبرنا مرارا أنك لا تستسيغ المكان .... لنفاجأ بخيانتك و مجيئك هنا بدوننا !! .......... )
تسمر كريم مكانه .... ينظر الي مجموعة اصدقاء .... و حينها توقف تقدمه تجاه ملك وهو يرفع يده ليغرزها في خصلات شعره ناظرا اليها بطرفِ ..... و كان أن التفتت اليه ... لتقيم الوضع في نظرةٍ واحدة ...
إنه خائف من أن يلمحها أحد من أصدقائه معه .... لذا ابتسمت ابتسامة حزينة .... لمرة أخيرة و كأنها تودعه ... ثم خرجت دون أن تنظر خلفها و قد تأكدت من أنه لن يتبعها هذه المرة ....
و في تلك الليلة و بعد أن وضعت وجنتها الي الوسادة القاسية في سريرها الوحيد ... تنظر بوجوم و خيبة أمل الى الباقة الحمراء الجميلة الموضوعة على الكرسي الجانبي مكسورة الخاطر مثلها ...
و يد صغيرة تمشط شعرها باصابعها الحانية .... إنها وعد ... تسهر بجانبها كل ليلة ... تتخيلها و هي تمشط لها شعرها حتى اصبحت بالفعل تشعر بأصابعها تمر فوق رأسها بحنان ...
سمعت ملك صوت دقة من هاتفها .... أمسكت ملك بالهاتف تنظز اليه دون تشوق على غير عادتها ....
الا إنها ما كادت أن تستوعب حتى نهضت جالسة ببطء شديد .... عاقدة حاجبيها بصدمة .... تنظر مذهولة ....ثم لم تلبث ان همست و هي لا تزال في مرحلة الصدمة
( وعد!!!!!!!!!.......... )
.................................................. .................................................. .................
كانت السيارة تجري بهما ... و هو يود لو يطيل القيادة و هي بجانبه قليلا ....
ينظر اليها بين الحين و الآخر , تطلع من نافذتها كالعادة ... لكن المختلف هذه المرة هو شعرها الذي يطير بحرية دون أن تبالي به ....
إنها الآن هنا معه .... و هذا هو المهم .....
اقتربا من مكان عملهما .... للأسف ...
فالتفتت وعد اليه تهمس بخفوت
( انزلني هنا من فضلك ................ )
لكنه لم يمتثل لطلبها , بل ابتسم وهو يقول بخفوت
( و إن لم أفعل ؟؟ ......... )
نظرت اليه بعينيها الواسعتين لتقول بهدوء
( اذن لن انزل معك ........ )
اتسعت ابتسامته قليلا و هو يرد بخفوت عميق
( آه .... اذن لن أفعل , فهذا يناسبني اكثر ....)
احمرت وجنتى وعد رغما عنها وادارت وجهها الى نافذتها تقول بصوت مؤنب
( سيف ......... )
نظر اليها عاقدا حاجبيه بحنان بينما هي رافضة النظر اليه .... هل تقصدت نطق اسمه مجردا و هي تعلم ما أثاره به من أعاجيب !! ....
لا يعتقد أنها بمثل تلك البراءة التي تجعلها لا تدرك تأثيرها عليه .... لكنه ليس متذمرا رغم ذلك ....
أوقف السيارة جانبا رغما عنه حين قرر أخيرا أن يرحمها من قلقها الذي بدأ ينتابها و هي تتطلع مستطيلة العنق الى طريق العمل خوفا من أن يراها أحد من العاملين أو الموظفين ...
لكن و قبل أن تمد يدها كي تفتح الباب ... سمعته يقول بصوت آمر
( انتظري ........ )
توقفت يدها و هي تنظر اليه بتساؤل .... فوجدته يبحث بأحد جيوب الباب .... ثم أخرج رباط ورق مطاطي ... مده اليها بصمت وهو ينظر اليها نظرة تملكية بحتة جعلتها تحمر أكثر و ترتبك بينما همست بتوتر
( ما هذا ؟!! ............. )
قال ببساطة ذات نفس اللهجة الآمرة
( اربطي به شعرك ........ )
ارتفع حاجبيها وهي تنظر اليه بعدم فهم .... لكنه تابع بنفس البساطة
( و لا تطلقي شعرك مجددا ....... )
ظلت تنظر اليه طويلا ... بينما نظراته اليها كانت قوية واثقة لا تقبل الجدال ... ثم تابع أخيرا بصوتٍ خافت قليلا
(الا اذا كنا بمفردنا ............. )
حينها اتسعت عينيها ذهولا لكنها سارعت بإخفائه و هي تقول بصوتٍ حاسم
( اي مناسبة سنكون فيها بمفردنا ؟!! ...... )
رد سيف ببساطة يقول
( من يدري ..... ربما يوم كاليوم , ..... تلك المناسبات تأتي وحدها ...دون تخطيط .... )
ظلت وعد تنظر الى الرباط الراقد على كفه المفرودة الممتدة أمامها بصمت .... تبدو خائفة و كأنه رباط سيقيدها مدى العمر إن هي قبلت في تلك اللحظة ....
مرت الثواني بطيئة .... ثم مدت يدها ببطىء لتأخذ الرباط و دون جدل رفعت يديها ببطىء لتجمع شعرها عاليا عن عنقها و هي تلملمه بأصابعها ...
أسند سيف جبهته بإصبعيه و هو يراقبها دون حرج .... مأخوذا بحركة أصابعها و هي تمشط خصلات شعرها أولا بعد أن رفعته و قبل أن تربطه ...
أصابعها البيضاء الرشيقة تجري بين خصلات شعرها الأسود الحريري لتفك معضلاته
كانت شاردة قليلا ... في معضلة مستعصية أخرى غير خصلات شعرها ..... بينما عيناه تبرقان و هو يطالعها بأسف و هي تقيد شعرها الجميل بقيده ....
ذلك الشعر يخصه وحده ..... تلك حقيقة من حقائق الزمن .... فليتعامل معها و لتتعامل معها و ليتعامل الجميع معها ......
كانت عيناه تراقبان عنقها الطويل الذي انكشف اليهما الآن .... و ذيل حصانها يتلاعب مستفزا له فوق كتفيها و ظهرها ....
لكنها هي كانت مطرقة الرأس .... جالسة بمكانها شاردة ....
و عيناه لا تبارحان استسلامها .... الى أن همست أخيرا
( أنا سأخرج الآن ........ )
لم يرد لفترة .... ثم قال أخيرا بهدوء عميق
( وعد ........ )
بقت مسمرة مكانها لعدة لحظات ثم رفعت وجهها اليه و هي تهمس
( نعم ....... )
قال سيف وهو ينظر الي عينيها
( أريد قهوتي بعد ساعة من الآن ......... )
لم يتغير تعبير وجهها و هي تنظر اليه ثم قالت أخيرا بتهذيب
( حاضر ...... عن اذنك ...... )
ثم خرجت بسرعة قبل أن يمنعها ...... بينما هو ينظر في اثرها مبتسما , شاعرا أنه من العقل أن خرجت الآن قبل أن يتهور بتصرف أحمق ....
هل قال أنه يحب ثورتها ؟!! ..... و ماذا عن كلمة "حاضر" تلك اذن !!!
التى ما أن تخرج من بين شفتيها حتى ...............
أخذ سيف نفسا عميقا ثم قام بتحريك السيارة كي يضرب بعض الهواء وجهه الساخن ...... وهو في حاجةٍ اليه ......
دخلت وعد الى غرفة السعاة لتجد علي واقفا واجما يحضر بعض الأكواب دون حماس
فقالت وعد برقة
( صباح الخير ......... )
التفت علي اليها بلهفة و عينان تشعان بنجومٍ خفية وهو يهتف
( وعد ....... هل عدت للعمل ؟!! ..... لقد ظننت أن ..... )
دخلت وعد بهدوء مبتسمة و هي تقول
( ظننت أن ..... ماذا ؟؟ ....... )
رد علي بلهفة وهو يقترب منها
( أنكِ قد صرفت من العمل ......... )
ردت وعد بهدوء و هي تفتح ذراعيها
( لكنني كما يبدو لم أصرف ..... و ها أنا ذا ...... )
رد علي بقلق
( لكن السيد سيف كان غاضبا بشدة .......... )
قالت وعد و هي تباشر بعملها دون ان تنظر اليه ,
( لا تقلق من السيد سيف ..... لقد سويت الأمر معه )
ظل ينظر الي ظهرها و هي تعمل مبتسما .... سعيدا أنها هنا أخيرا .... ثم قال ينوي أن يبهجها
( أريد الحلاوة ........ )
لم تلتفت وعد اليه و هي تشمر كميها و تباشر بغسل بعض الأكواب المتراكمة .... قائلة ببساطة
( لأي شيء يا استاذ علي .؟؟...... )
قال علي مبتسما واضعا كفيه في جيبي بنطاله بغرور
( لن أقول قبل أن تعطيني الحلاوة .......... )
قالت وعد بمودة مدعية الغضب
( هذا بدل أن تعطيني أنت حلاوة غسل كل تلك الأكواب المتراكمة .... ماذا كنت تفعل طوال اليوم بخلاف التزلج و مضايقة خلق الله ..... )
قال علي متشدقا بتمهل
( لقد عثرت لكِ على ملك ....... )
سقط الكوب الذي كان في يدها في المغسلة الرخامية ليتحطم بصوتٍ عالي و يتحول الي شظايا .... و هي تستدير اليه بعينين متسعتين مغشيتين .... بينما هتف هو بذعر وهو يتجه اليها جريا محاولا لملمة حطام الكوب
( لقد كسرتِ كوب الخاص بالسيد يسري .... يالهي يا وعد ... من بين كل الناس كسرتِ كوب السيد يسري المهووس بأغراضه الخاصة ...... )
الا أن وعد مدت يدا مرتجفة تمسك بمعصمه و هي تهمس قائلة بصوت غير ثابت
(؛ماذا قلت ؟؟ ......... )
منظر الي عينيها المهتزتين .... و شفتيها المرتجفتين , فرق قلبه لحالها فترك الكوب يذهب الى الجحيم و التفت اليها مكررا ببطىء كي تستوعب
( لقد عثرت لك على صديقتك ..... ملك .... )
شعرت بالدوار للحظة فأسندها علي بسرعة و هي ترفع كفها الى جبهتها ... ثم قال بقلق
( وعد ...... هل أنتِ بخير ؟؟ ...... )
انتظرت وعد عدة لحظات ثم رفعت اليه وجها شاحبا لتهمس برجاء مثير للشفقة
( أرجوك يا علي لا تلهو بي ...... إنه أمر لا يحتمل المزاح)
ابتسم علي بعطف ثم أمسك بكفها بقوة ليقودها الى الأريكة هامسا
( تعالي ...... اجلسي قليلا ....... )
جلست وعد و هي ترفع وجهها اليه بتوسل .... فرأته يخرج هاتفه من جيب بنطاله الخلفي ... ليجلس بجوارها مبتسما وهو يهمس يريها الهاتف
( انظري بنفسك ...... )
نظرت وعد و هي ترتجف بشدة الى يده الممدودة لكنها خافت ان تنظر الي شاشة الهاتف ... فرفعت عينيها الى علي غير قادرة على النظر , فقال علي ببساطة
( لقد عثرت عليها بنفس الاسم ... ملك ابراهيم عثمان ..... )
همست وعد و كأنها تبكي من هول ما تشعر به ...
( ماذا لو كان مجرد تشابه أسماء ..... لن أحتمل هذا .... )
ابتسم علي أعمق و هو يجيب بهدوء
( لم أترك ذلك للصدفة .... لقد بحثت بين أصدقائها الى أن وجدت أنها قد أنشأت حساب آخر لها ..... و احزري بأي اسم ؟؟؟؟ ..... )
ابتلعت وعد ريقها و هي تهمس بموت ثم حياة
( ماذا ؟؟ ........... )
قال علي مبتسما بثقة
( ملك ... عبد الحميد .... العمري .... )
ابتسم علي غير مصدق وهو يقول بسعادة
( إنها تبحث عنك كذلك ....... )
تأوهت وعد بصمت فاغرة شفتيها .... بينما تشوشت الرؤية أمامها من الدموع التي غطت مجال النظر أمامها
شفتاها ترتجفان بشدة حتى عضت على شفتها السفلى كي توقف ارتجافهما .....
فهمس علي بعطف وهو يشير بذقنه للهاتف الممدود اليها
( الا تريدين رؤيتها .؟؟...... إنها قمر ....فلتة أنثوية جبارة ..... تقول للقمر انهض لأجلس مكانك .... )
عادت وعد لتفغر شفتيها وهي تهمس بعذاب
( هل رأيتها ؟؟؟ ............ هل صورتها موجودة ؟؟ .... هل هي .... )
أمسك علي بكفها يفتحه بالقوة ليضع الهاتف به بحسم قائلا بلهجة الأمر
( وعد ..... انظري اليها و كفي عن الثرثرة ..... ثم بعدها دعينا نولول في صمت .... إنها قمر بنجومه !!! )
قبضت وعد على الهاتف و هي تتنفس بقوة ... محاولة تقوية نفسها حتى أنها عقدت حاجبيها بقوة في اشارة مزيفة للصلابة .... ثم نظرت الى صفحتها الخاصة ....
ملك ابراهيم عثمان ...
طارت عينا وعد الى الصورة الجانبية ..... لكنها لم تكد تلمحها حتى ضغط علي على الصورة لتكبيرها فبدت واضحة لها
فتاة شابة .... كالبدر في تمامه .... ذات ضفيرة عسلية طويلة ..... عيناها العسليتان الحالمتان في خضار البحر ...
تنظر بحلم .... و كأنها هي نفسها حلم مرسوم .....
أفلتت شهقة باكية منها رغم إرادتها و هي تتلمس الصورة بأصابعها المرتجفة لتهمس ببكاء معذب
( يالهي !!! .......... )
شعرعلي بأن عينيه تدمعان بحماقة فقال متنحنحا كي يجلي صوته
( لقد أرسلت اليها طلب صداقة بالأمس حين تأكدت أنها هي ..... و لقد قبلت الصداقة على الفور , و جاءت رسالة منها .... الا أنني و للأمانة التي اقتضت علي .... منعت نفسي مرغما من فتح رسالة البسكويتة بالقشدة .... و نمت آسفا ... ناظرا الى الهاتف الملغم .... )
نظرت اليه وعد و دموعها تنساب على وجهها .... بشهقات مجهدة .... وهي تهمس بضحكةٍ من بين البكاء
( رسالة !!! .... منها ؟؟؟ !!! .... الي أنا ؟!!! )
أومأ علي برأسه ثم مد اصبعه ليضغط على الرسالة ببساطة .... ففتحها أمامها ...
عندئذ نظرت وعد بلهفة الي الكلمات الغارقة أمامها بفعل دموعها .... لكنها تمكنت من الوصول الي عقلها كالبرق
" مرحبا ....
هل أنت وعد عبد الحميد العمري ؟؟ ...... من دار رعاية ال **** ؟؟؟ "
و انتهت الرسالة !!
لا مزيد .... فقط سؤال خائف ... متوتر ... يظهر خوفه جليا أمام عينيها الباكيتين ...
فرفعت رأسها الى علي و هي تهمس برجاء
( هل يمكنني أن أجيبها يا علي ؟؟ ..... أرجوك )
اتسعت عينا علي وهو يهتف بغضب
( يا حمقاء .... هل تطلبين الإذن ؟!!! ..... هيا اكتبي لها ما تشائين .... )
نظرت وعد الى الرسالة المفتوحة ... ثم أخذت نفسا عميقا قبل أن تمد يدا مرتجفة لتكتب
" مرحبا ...
مرحبا يا ملك ..... أنا وعد عبد الحميد العمري ..... لقد حفظتِ اسمي جيدا كما طلبت منك منذ سنوات
... نعم يا ملك .... إنها أنا ..... أختك ..... "
رأت كلمة كتبت تحت رسالتها بالإنجليزية ... معناها أن الرسالة قد تمت رؤيتها بالفعل ...
رفعت وعد عينين مذهولتين الى علي فقال مؤكدا
( لقد رأتها ..... و سترد عليك حالا .... انظري الى تلك العلامة .... انها تكتب لكِ الآن .... )
أعادت وعد نظرها بسرعة الى الهاتف تنتظر على نارمحرقة ... موجعة ... مذهلة .....
بينما قام علي من مكانه يمنحها بعض الخصوصية ..... و ليمسح دموعه .... اللعنة , ها هو يبكي كالفتيات ...
أخيرا ظهرت الرسالة الى وعد ....
" مرحبا ....
كيف حالك ؟؟ ..... "
عقدت وعد حاجبيها قليلا ...على الرغم من أنها مبتسمة ابتسامة لا أجمل منها ... ثم كتبت
" أنا بخير ...
هل أنتِ خائفة ؟؟ ...... معك حق , أنا أيضا أشعر بخوف غريب "
رأت اشارة الكتابة ثم وصلتها الرسالة
" قليلا .....
أشعر أنني أتخيل ...... أنا خائفة من أن يكون ذلك مجرد تخيل , لم يسبق أن تخيلت شيئا واقعيا كهذا "
تأوهت وعد عاليا و هي تغطي فمها بكفها المرتجفة ببكاء موجع و هي تهمس
يا حبيبتي ... لو كنت أمامي الآن لضممتك الى الأبد حتى يذهب خوفك ....
لكنها كتبت بأصابع شجاعة
" أنت لا تتخيلين يا ملك .... إنها أنا وعد .... و أنت كنت في انتظاري ... اليس كذلك ؟؟ "
وصلتها كلمة بإيجاز صامت
" نعم ....... "
ثم مرت لحظات صمت طويلة .... قررت وعد أن تتركها لتبادر ... فوجدت بالفعل رسالة متوترة منها
" لكن شكلك مختلف ....."
عادت وعد لتتأوه مجددا .... ماذا تفعل كي تذهب خوفها ؟؟ ... فكتبت بعد لحظة
" لقد كبرت .... مثلما كبرتِ أنتِ تماما ... لكنك أصبحت في جمال البدر و عيناك هما نفسهما لم تتغيرا أبدا "
ثم لم تترك وقتا يمر و هي تكتب
" أين تسكنين و مع من ؟؟ ..... أريد أن أعرف كل أخبارك ..... لا بد أن أراك اليوم ...... "
انتظرت الرد
" أنا أعمل بمحل ورود ال **** ..... لكنني أبقى هناك حتى وقت متأخر من الليل و أنا أقطن في غرفة نفس الxxxx .......هل يمكنك المجيء ؟؟ "
ذلك المحل و بعد أن أخبرتها ملك عن المنطقة .... إنها بعيدة جدا عنها ... تقريبا ساعة ... ثم ساعة للعودة ... لكن لا بأس ... ستذهب ولو للآخر العالم ...
فكتبت بسرعة
" عرفت العنوان .... سآتي اليكِ اليوم .... "
ثم أخبرتها هي محرجة قليلا بطبيعة عملها ومكان عملها علها تستطيع المجيء .... لكن البيت مستحيل ....
انتظرت الرد الى أن وصلها من ملك
" سأكون سعيدة لو تمكنتِ من الحضور ... أنا مضطرة للذهاب الآن .... هناك زبون .... سلام "
تأوهت وعد وهي ترى الرسالة المختصرة فهمست برجاء و كأن ملك تسمعها
( أنتظري قليلا ..... أرجوكِ ... )
لكنها كانت قد ذهبت .... حينها أخفضت وعد الهاتف الى حجرها ثم رفعت كفيها لتغطي بهما وجهها و تنفجر في نحيبٍ مكبوت .... مثير للشفقة بشكل ميؤوس منه ....
حتى جائها علي جريا يجلس بجوارها و هو يربت على كتفها هامسا
( ماذا بك يا وعد ؟؟ ..... ألم تطمئني عليها ؟؟؟ .... )
استمرت وعد تشهق باكية قليلا ثم تمكنت من الهمس بإختناق
؛( لا أصدق .... لا أصدق .... أشعر و كأنني حلم , على الرغم من أنني كنت أؤكد لها أنها لا تحلم ...
لكنها لا تعرفني .... إنها تكلمني و كأنني غريبة عنها ... )
رفعت وجهها المتورم اليه لتقول فجأة بلهفة
( سأذهب اليها حالا يا علي ....... )
نهضت من مكانها قافزة .... الا أن علي أمسك بمعصمها يهتف بقوة
( لن تذهبي الى أي مكان الآن ...... لقد أتيتِ اليوم متأخرة يا وعد , و السيد سيف لن يرحمك لو أرتكبتِ خطأ مجددا ...... )
هتفت وعد بقوة
( بل سأذهب .... لن يمنعني شيء يا علي .... سأذهب حالا .... )
اتجهت الى الباب بقوة الا أن علي اعترض طريقها وهو يقول بصرامة جديدة
( لن تذهبي يا وعد ..... ماذا ستستفيدي لو فقدتِ وظيفتك ؟؟..... هل سيسعد ذلك صديقتك ؟!!! ... تريثي قليلا , لن يضيرك بعد الصبر أن تنتظر لعدة أيام أخرى .....)
ظلت وعد تنظر اليه قليلا .... وهي تلهث انفعالا ... بينما هو ينظر اليها متحديا صارما ... الى أن دق الجرس فجأة فاتجه على الى الهاتف الداخي وهو ينظر اليها محذرا من أن تخرج ....
و ما أن وضع الهاتف حتى قال بلهجة مؤكدة
( السيد سيف ينتظر قهوته الت تأخرت ..... حالا ..... عجبا متى طلبها !!! )
انتبهت وعد الى أنها كانت قد نسته تماما ... في خضم الساعة الماضية , لكنها لم تلبث أن قالت بهدوء بعد أن أخذت نفسا عميقا
( سأعد اليه قهوته ........ )
و خلال دقائق كانت تطرق الباب بأدب ثم تدخل ..... اقتربت وعد منه ببطىء و هي تضع القهوة على سطح المكتب ..... و كالعادة شعرت بالشحنات السلبية موجهة ضدها .... لكنها قررت التغاضي عنها... لا يزال قلبها يرتجف و روحها تتوهج
لقد عثرت على ملك
لقد عثرت على ملك
فلا شيء بعد الآن يستطيع ان يهزمها ..... لذا كانت سعادتها غالبة على رهبتها منه
الا أن صوت قصف بخشونة جعلها تنتفض قليلا
( لماذا تأخرتِ ؟؟ .............. )
رفعت وجهها اليه بنظراتٍ بريئة .... ثم قالت بوداعة
( لم أتأخر ..... ما أن طلبت القهوة حتى أحضرتها من فوري )
أمال رأسه جانبا وهي يتأملها بملامح جامدة .... لكن القسوة ظاهرة بها ...
ثم قال بصوتٍ جاف
( لقد طلبت منكِ أن تحضري القهوة من نفسك ........ )
عقدت وعد حاجبيها و هي تهمس
( متى كان هذا ؟؟ ............. )
رد سيف بخشونة أكبر
( لا تتلاعبي يا وعد ...... لماذا تأخرتِ ؟ ....كنت تلهين مع علي اليس كذلك ؟ )
عقدت حاجبيها الا أنها ابتسمت رغما عنها و هي تقول
( ألهو مع علي ؟!! ...... هل نحن أطفال ؟!! ........ )
أجاب سيف بملامح قاسية كالرخام البارد
( هذا ما أراه ........... )
ابتسمت وعد و هي تطرق برأسها لتقول
( هو لا يزال يعد طفلا .... و هذا أجمل ما فيه , أما أنا ..... فأنا أكبر من عمري ..... حتى أنني أبدو أكبر من عمري )
قال سيف و قد خفتت حدة لهجته قليلا
( لقد ذكرتها مرتين حتى الآن ...... من أخبرك بذلك ؟؟ ..... )
رفعت وجهها اليه , لتسأل بحيرة
( اخبرني بماذا ؟؟ ........ )
رد سيف بصوت مكبوت و قد بدأت به التخيلات
( أنكِ تبدين أكبر من عمرك .... هل هو شخص اثير لديك بحيث جرحتكِ كلمته ؟)
نظرت اليه بدهشة .... لقد نسي أنه أخبرها بذلك في أول لقاءٍ لهما .... فردت بخفوت مبتسمة
( لا .... كان مجرد شخص عابر ...... )
صمت سيف لفترة قبل أن يقول بهدوء
( كان أحمقا ....... )
عادت لترفع اليه عينين مندهشتين قليلا فقابلها بعينيه الصريحتين .... و ياللعجب كانتا تبتسمان بعكس وجهه ...
اخفضت وعد وجهها المحمر .... ثم أخذت نفسا مرتجفا و هي تقرر خوض حربا شعواء
( سيد سيف ....... هل لي أن أطلب طلب ؟؟ .... )
لم تسمع ردا .... فانقبض قلبها لترفع اليه عينيها فاصطدمت بعينيه المتربصتين بها ... و المتلقفتين لعينيها ...
فاحمر وجهها .... مجددا .... ثم قالت و قد اعتبرت صمته دعوة للكلام
( أريد أن اذهب الي مكانٍ ما الآن ...... الأمر طارىء جدا )
لم يرد مجددا .... و حين نظرت اليه كانت ملامحه هي نفسها , لكن عينيه فقدتا ابتسامتهما !....
فقالت وعد ترتجف قليلا
( لم يكن من المفترض أن أحضر اليوم من الأساس .... و يمكنك أن تخصمه من راتبي ... )
رد سيف بلهجةٍ آمرة ناهية
( لا ....... )
لا !!! .... فقط لا .... بهذه البساطة !! ....
فقالت وعد بصوتٍ حاد انطلق فجأة
( اذن أنا مستقيلة ...... و أنا آسفة أنني أتيت الى هنا معك )
لكن و ما أن استدارت مبتعدة حتى قصف صوته كدوي المدافع خلفها بكلمة واحدة
( وعد .......... )
تسمرت مكانها و قد أرعبتها نبرته .... لكنها لم تلتفت اليه و صدرها يلهث بسرعة , فقال بلهجة قاسية
( استديري ...... )
استدارت وعد اليه ببطء تنظر اليه بصمت و ملامح متجمدة بها بعض الخوف فقال سيف بخشونة
( أولا ...... لقد تماديت كثيرا , و هذا أمر قد لا أسيطر على انفعالاتي معه مستقبلا اذا ما استمريتِ على هذا النحو ..... ثانيا حين أصدر أمرا في هذا المكان , فهو يكون قرارا نهائيا لا رجعة به ....
ثالثا ..... )
صمت فجأة ..... ثم نهض من مكانه ببطء و هو يتقدم اليها فوق البساط الفخم بينهما ... الى أن وقف أمامها مباشرة ثم قال بصوت أجش خافت
( ثالثا .... لا تخافي بتلك الصورة حين آمرك أو حتى حين أصرخ بوجهك ..... فأنا لن أعيد ما فعلته سابقا .... )
رفعت عينيها اليه مصدومة من لهجته الدافئة .... بينما كان ينظر هو اليها متشربا من عينيها حلاوتهما في اتساعهما و صدمتها .... و برائتهما ....
اخفضت عينيها قليلا ..... ثم همست بخفوت و قد هدأت نبضاتها قليلا
( الا ..... الا يحق لي اذن أن أنال ترضية صغيرة عما فعلته بي ...... )
همس سيف وهو يقترب منها خطوة أخرى
( ماذا تريدين ؟؟ ......... )
ردت وعد همسا ... و رأسه يعلو رأسها مباشرة
( أريد الذهاب لشيءٍ ضروري جدا .... جدا .... صدقني )
لم يرد عليها للفور و هو يتنشق رائحة شعرها العذبة , ثم قال أخيرا صوتٍ أجش
( ليس قبل أن تخبريني بكل شيء ..... الى أين أو الى من ستذهبين ؟؟ )
رفعت وجهها ونظرت اليه باستنكار و هي تهتف
( انه أمر خاص ........ .. )
حينها عادت ملامحه الى قسوتها المعتادة و هو يبتعد عنها خطوة ليقول بجفاء
( اذن فردي هو لا ...... اذهبي لعملك )
هتفت وعد و هي تضرب الأرض بقدمها كالأطفال
( لكن هذا ليس عدلا ........)
الا أن سيف استدار يعطيها ظهره وهو يقول بجفاء و برود
( الظلم منتشر في كل مكان ..... فاعتاديه ..... و الآن اذهبي لعملك .... )
هتفت وعد من قلبها تتأوه
( ارجووووك يا سيف ....... )
لم يستدر اليها .... فلم ترى زاوية شفتيه التي التوت في ابتسامة خشنة أصبحت تخصها هي وحدها .... ابتسامته الخاصة بها ....
من مجرد رجائها باسمه مجردا .... ها هي تتلاعب به مجددا ....
ابنة عبد الحميد .... أو ابنة امها .... متلاعبة مثلهما بحكم الوراثة أو لا .....
كل هذا لا يمنع استمتاعه بالأمر .......
لكنه تمكن من القول بهدوء ......
( و اليوم ستعملين لوقتٍ إضافي لأن لدينا اجتماع هام بعد دوام العمل و سنحتاجك معنا .... )
حينها صرخت وعد متأوهة
( ماذا ؟!!! ...... لا أريد العمل لساعات اضافية , أنا متنازلة عنها و يمكن لعلي أن يأخذها و سيكون مسرورا ....... )
قال سيف بصرامة حاسمة
( قلت أنت يا وعد .......... و انتهى الأمر ..... )
هتفت وعد بحرارة
( أرجوك ...... عندي ظرف خاص , أحتاج الخروج من هنا مبكرا .... )
لم يستدير اليها .... مخفيا بذلك ما بداخله من شراسة لأن يعرف نوعية هذا الظرف الخاص ... و إن كان رجلا أو شابا مثلا .....
فقال بهدوء مستفز
( أخبريني بظرفك الخاص و ربما حينها أمنحك العذر ........ )
صرخت وعد بحنق و أعصابها مشدودة
( الا يحق لي ببعض الخصوصية)
ساد صمت قصير قبل ان يستدير سيف اليها مجددا ..... ينظر اليها بنظرات أخافتها قليلا قبل أن يقول بهدوء
( لا مكان للخصوصية بيننا يا وعد ..... و كلما سارعت بتقبل ذلك كلما كان أفضل لك ...... )
نظرت اليه وعد بوجه شاحب قليلا ..... ثم همست مصدومة
( بأي حق ؟! ......... و من منحه لك )
رد سيف ببساطة وهو ينظر الي عينيها المصدومتين
( بحق اليوم الأول الذي أتيت فيه الى هنا ....... و قد اعطيتينيه بنفسك فلا يحق لك أن تتذمري الآن ...)
صرخت وعد بخوف
( لم أمنحك أي حقوق يا سيف ......... أنت تتوهم ذلك )
نظر سيف اليها بوجه جامد قبل أن يقول ببساطة
( من أعطاك الحق كي تناديني باسمي مجردا )
اجفلت قليلا و لم تدري كيف ترد ..... فتابع سيف ينقذها من الجواب
( لا تملكين الجواب يا وعد..... حتى و لو بحثت بداخلك فلن تجدي الجواب )
ظلت تنظر اليه بعدم قدرة على النطق ما بين عجز و رفض ...... و حين أوشكت عيناها أن تعصفا بعواصف رمادية ..... قال سيف بصوت خافت به نبرة حنان أرسلت رعشة الى أطرافها
( اقتربي ........ )
لم ترد وعد عليه ..... و لم تقترب ، بل ازداد حاجبيها انعقادا و أزدادت عينيها قلقا ..... قتابع سيف مبتسما بثقة مستفزة
( هنا ..... اقتربي )
همست وعد بحاجبيها المنعقدين و ملامحها المرتبكة
( ماذا تريد ؟! ............. )
كرر سيف بنفس الهدوء و اللهجة الآمرة
( اقتربي ............. )
اقتربت منه وعد بقلق فوق البساط الذي بات يحفظ خواطتهما جيدا و كأنها لحن قديم معزوف فوق نسيجه الشرقي لراقصين متباريين
حتى وصلت الي بعد خطوة منه ..... فتوقفت مطرقة برأسها ، جلس سيف مستندا الى حافة مكتبه قبل أن يمد يده للخلف يتناول مظروفا أبيض من على سطح المكتب ...... ثم عاد و التفت اليها و هي تقف أمامه ترفض النظر اليه ثم قال مبتسما
( خذي .......... )
نظرت وعد الي الظروف عابسة ثم همست قبل أن تتناوله
( ماهذا ؟!! ........... )
قال سيف ببساطة
( راتبك.............. )
أخذت المفاجأة المنتظرة أعصابها و انتباهها وهي تهتف بلهفة
( هل حل موعد القبض! !! ......... حقا! ! ........ لكن لماذا لا اخذه من الخزينة ؟)
قال سيف مبتسما ببساطة
( ستتقاضين راتبك مني دائما ........ )
لم تتوقف وعد طويلا عند سؤاله " و لما هذا ؟...... "
بل كانت تتحسس المظروف المتخم قليلا .... فقال سيف مبتسما وهو يراقب سعادة عينيها الجلية
( افتحيه و عدي ما به ................ ،)
نظرت وعد اليه قليلا بدهشة ..... لكنها بحركة أصبع واحد تمكنت من فر الأوراق المالية و هي بالمظروف ..... حينها رفعت عينين مذهولتين اليه و هي تقول
(.......... !لكن هذا أكثر مما توقعت بكثير)
رد بابتسامته الخاصة بها
( أنت تستحقينه ............ )
خفتت بهجتها قليلا و هي تسأل سؤال غبي به نبرة تمنى لو كانت ذات قيمة حقا
( حقا ؟!! ........... )
رد سيف مومئا برأسه وهو يقول
( بالطبع ...... أنا لا أرمي نقودي في الأرض أبدا .... )
لم ترد وعد للتو و هي تنظر الى الأوراق المالية مجددا ... فسألها سيف مستمتعا بأقصى ما يستطيعه من تلك اللحظة
( ما هو أول ما ستشترينه ؟؟ ...... )
ابتسمت وعد دون أن تنظر اليه .... و هي تعض شفتها مفكرة متأملة الأوراق .... ثم همست
( سأخيط فستان جديد ........ )
عبس سيف وهو ينظر الي فستانها السماوي الذي أرقه من أول اليوم .... ليقول بخشونة
( من نفس الخياطة ؟ ......... )
ضحكت وعد قليلا و هي تهمس بسعادة هذا اليوم الذي اعتبرته هدية من القدر
( نعم ...... هي بعينها ...... )
قال سيف بغيظ قليلا
( ولماذا هي بعينها ؟؟ ! ......... هل هي شفقة أم أنكِ معجبة بعملها بهذا القدر ؟ )
لم ترد على فظاظته و لم يكن بقادر على اثارة استيائها مجددا في يومٍ كهذا ... فهمست
( انها ..... بسيطة الحال , تحب ما تفعله .... تحب نظرة السعادة الأخيرة و الرضا على وجه من يرتدي من عمل يديها .... كما أنها البهجة الوحيدة في حياتها ..... )
كان يستمع اليها مستمتعا ..... حتى خياطتها الخاصة أعجبته دون أن يراها ! .....
الى أين سأخذه المزيد من تفاصيل .. وعد عبد الحميد العمري .... !!
همست وعد تقاطع تفكيرة الشارد
( وهدية ............. )
النبرة التي نطقت بها لفظة هدية .... جعلته يفقد كل قدر من المرونة وهو يسألها بخشونة
( لمن ؟؟ .................. )
همست بحلم و ملامح مبتسمة بعد السيل العنيف من العواطف المتناقضة التي مرت بيومها الذي أدركت الآن رغم أي غضب و استفزاز أنه من أسعد أيام حياتها
( للفتاة التي كنت أبحث عنها ........ حين أراها )
لم ترويه اجابتها ....فأوشك على السؤال مصمما
لكنها رفعت وجهها اليه أخيرا .تبتسم .... فضاع تصميمه مؤقتا ... ونظر الي عينيها الحمراوين ... ليهمس قبل أن ترحل
( لماذا كنتِ تبكين ؟............)
ابتسمت وعد برقة و هي تضم المظروف و الصينية الي صدرها هامسة
( سأعود الى عملي .......... بعد اذنك )
ثم انصرفت بسرعة ..... تاركة إياه يفكر عابسا ..... يفكر بها ...
و بالظرف الخاص الذي تريد الخروج من أجله ...
و بالهدية ...
و الفستان الجديد ....
الذي سيولد قريبا ليؤرقه و كأنه محتاج للمزيد من الأرق الخاص بوعد عبد الحميد العمري
.................................................. .................................................. ......................
دخلت ملك الى الشركة الأنيقة .... تنظر حولها بقلق ..... حاملة باقة ضخمة من الورد الغالي الثمن ....
تلك الباقة كلفتها راتبها للشهر الحالي كله تقريبا .... بعد أن أقنعت السيدة ليلى أن هناك طلبا خاصا لباقة ضخمة من الورد يجب أن يوصل الى هذه الشركة ....
في البداية اعترضت السيدة ليلى على أن تقوم ملك بتوصيل الى البيوت و الشركات ... لكن بعد اصرار ملك مبدية رغبتها في الخروج ....
وافقت على مضض .... فأعدت ملك باقة تليق , ..... ثم ها هي تدخل الى الشركة بعد عشرة أسئلة من عشرِ عاملين في المكان عن وجهاتها و سبب زيارتها ....
و بعد أن تمكنت أخيرا من اجتيازهم و الدخول .... سارت بسرعة الى أحد الأروقة , لتسأل أول شخص يقابلها عن غرفة السعاة ...... فأرشدها اليها ...
وقفت ملك أمام الغرفة ... تأخذ نفسا عميقا ....
انها على بعد خطوة من وعد ..... لا تستطيع تحديد شعورها تماما , لكن ما تعرفه أنها لم تتمكن من ترك اليوم يمر دون أن تراها .....
طرقت ملك الباب .... و دخلت بقلبٍ واجم ....
الا أنها أصيبت بالخيبة حين وجدت الغرفة خالية .....
زفرت ملك و هي تفكر في الإنصراف من هنا .... لماذا لم تفكر بأخذ رقم هاتفها ؟.....
لكن في الحقيقة ... شيء داخلي جعلها لا تفضل أن تخبرها بمجيئها , علها تقرر الهرب في اللحظة الأخيرة ....
سارت ملك مطرقة الرأس في الأروقة .... حاملة الباقة الضخمة ....
الى أن أوقفتها شابة جميلة أنيقة .... تنظر اليها بفضول ثم سألتها
( مرحبا ...... هل تبحثين عن أحد ؟؟ ..... )
نظرت اليها ملك بارتباك ..... لتقول بخفوت
( أنا من محل ورود ال*** .... و أحمل هذه الباقة للسيد المدير .... )
ابتسمت الشابة و هي تنظر الى الباقة بإعجاب ... ثم قالت
( أنا سكرتيرته .... يمكنني أن أوصلها اليه ..... )
تمنت ملك لو تتركها اليها و تهرب .... لكنها قالت بإحباط
( لا بد أن يوقع بالإستلام .... كي أوصل الفاتورة الى صاحبة المحل )
قالت علا بود
( تعالي اذن .... سأحاول ادخالك الى الإجتماع ثم تنصرفين بسرعة )
تبعتها ملك مطرقة الرأس ..... محبطة ...
طرقت علا باب مكتب أنيق .... ثم دخلت هي أولا ... تاركة ملك تتأمل المكان و أناقته .... حاملة الباقة منتشية برائحتها الجميلة كي تهدىء من روعها ....
خرجت علا مبتسمة .. لتقول لها
( ادخلي ليوقع لك السيد سيف على الإيصال .... ثم أخرجي سريعا , .... )
أومأت ملك بلا حماس ... ثم خطت الى مكتب معبأ بأدخنة السجائر ... و رأت مجموعة من الرجال جالسين الى طاولة يتحدثون في صوتٍ واحد ...
تلوث بيئي و سمعي !! .... ياللهي كيف لهم أن يعملوا في مثل تلك البيئة .!! ....
توجهت الأعين كلها الى تلك الشابة ذات الضفيرة التي تصل الي خصرها ... حاملة باقة ضخمة من الورود الرائعة الشكل
كان منظرها كمن خرجت من كتاب حكايات .... متناقضا بشدة مع توتر الإجتماع و أدخنة السجائر ...
قال سيف وهو ينظر اليها مقطبا باهتمام .....
( نعم ..... أنا سيف الدين فؤاد رضوان )
و كأنها تعلم من يكون !!!
لكنها استنتجت أنه المدير الوهمي الذي ادعت توصيل الباقة له .....
فاقتربت منه ببطء .... لتقول بصوت خافت واجم ... و شفتين متكورتين
( هذه الباقة لك ......... )
ومدتها له دون مقدمات أو ابتسامات .... فثارت القليل م الضحكات الخافتة من بعض الجالسين , حتى سيف نفسه ابتسم .... و هي تكاد تقذفه بالباقة في وجهه .....
حركة واحدة من آخر الغرفة جعلتها تنتبه ..... فرفعت رأسها لتنظر الي االزاوية البعيدة من الغرفة ....
و حينها رأتها .....
دققت ملك النظر اليها .... نعم , إنها هي صاحبة الصورة .... التي من المفترض أن تكون وعد ....
شهقت وعد داخليا ... و هي تحمل صينية كبيرة تحتوى على العدد الباقي من الأكواب التي كانت تقوم بتوزيعها ....
همست و عيناها تدوران
( ملك ........... )
نعم انها هي ..... انها هي تلك الواقفة في أول الغرفة ..... و كانت تنظر اليها بتدقيق و كأنها تحاول التاكد من هويتها بحاجبين منعقدين و رأسٍ مائل للأمام كالمخبرين ....
شهقت وعد مرة أخرى وهي تتنفس بصعوبة ... هامسة بداخلها
( ملك ......... )
انسابت الدموع من حيث لا تدري على وجهها ..... تنتفض للأمام و يرتد جسدها في شهقات مكبوتة غير قادرة على إخراجها ....
بينما قال سيف ناظرا الي ملك مبتسما
( حسنا يا آنسة ..... هل أوقع الإيصال أم غيرتِ رأيك ؟!! ...... )
نزعت ملك نظرتها من وعد لتنتبه الى سيف و كأنها قد نسيت وجوده ... فقالت عابسة
( ماذا ؟...... آه نعم .... لحظة واحدة ...... )
وضعت الباقة أمامه مباشرة و هي تقول
( امسك هذه ريثما أخرج الإيصال ......... )
صدرت بعض الضحكات و هو يعافر كي بعد الورود التي أحتكت بأوراقها في أنفه .... ثم أبعد وجهه جانبا كي يعطس عطسة ضخمة ....
لكن ملك وضعت أمامه دفتر ايصالات وردي منقوش بالزهور عليه اسم المحل ... لتقول
( وقع هنا ......... )
قال سيف بعد ان مسح أنفه و احمرت عيناه
( من من هي أولا ........ )
قالت ملك
( لا أعرف ........... )
ارتفع حاجباه , ليقول متسائلا
( الستِ تعملين في محل الورد الذي أرسلها ؟؟ ....... )
عقدت حاجبيها قليلا .... ثم قالت
( آآه آسفة .... انها هدية من المحل ....... )
و حين عقد سيف حاجبيه سارعت للقول
( إنها نوع من الدعاية لمحلنا ... نرسل بها للشركات الكبرى ..... )
ظل سيف ناظرا اليها بتوجس
( اذن لماذا يجب علي أن أوقع بالإستلام ؟!! ....... )
زفرت ملك قليلا .... وهي تبحث عن إجابة ثم قالت أخيرا
( صاحبة المكان ..... مرتابة قليلا , تخشى أن نستولى على عينات الدعاية و نبيعها لصالحنا ... )
ثم ابتسمت راضية عن سرعة بديهتها .... حينها هز سيف رأسه مبتسما و امسك بالإيصال يوقعه ... ثم سلمه لها قائلا بهدوء
( شكرا يا آنسة ..... وبلغي شكري لصاحبة المحل المرتابة .... )
قالت ملك بثقة و هي تتجه للباب
( سأفعل ...... سلام ..... )
لكن و قبل أن تخرج استدارت قليلا تنظر الى وعد التي وضعت الصينية من يديها على طاولة جانبية ... و تمسكت بظهر مقعد ... تنظر اليها باكية و جسدها يهتز ببكاء صامت ... فشعرت ملك بغصة في حلقها و هي ترفع يدا خفية .. تلوح لها دون حركة مبتسمة ابتسامة مهتزة قليلا .... ثم انصرفت لتهرب جريا ....
أوشك سيف أن يعود للملف أمامه .... الا أن نظرة أصبحت معتادة منه الي وعد ... جعلته يدرك في لحظةٍ واحدة أنها تقف متشبثة بظهر مقعد .... تبكي بصمت ... و تبدو على وشكِ الإغماء من جديد ...
حينها قال بقوة .. منبها
( وعد ....... .... )
الا أنها سقطت أرضا ترتجف بشدة .... و وعيها يصرخ بها راجيا أن تنهض لتلحق بملك .... لكن دون جدوى ............
.................................................. .................................................. .................
كانت نائمة كالقتيل ,...... أو الهارب من الحياة
الإسبوع الماضي كان اسبوعا قاتلا ... نفسيا و معنويا و ذهنيا .....
لم يعد عملها هو المهرب الذي تلجأ اليه ما أن يضيق بها الحال .... بل أصبح مكان ثقيل عليها , تضيق فيه روحها ....
فكانت تنكب به تقتل نفسها تعبا .... و ما أن يأتي المساء المبكر حتى تندس نائمة هربا من مشاكل محمد و هي تشعر بنفسها غير قادرة على التحمل حاليا ....
منذ أن رحل السيد عماد ... و قد أصبحت لقمة صائغة لكل زملائها على الرغم من ترقيتها التي نالتها , الا ان ذلك لا يمنع سوء المعاملة الخفية و الدسائس لدى المدير الجديد .... و الكل يحاول جاهدا نيل رضاه و كسب وده بستليمها له كأضحية
تأوهت كرمة قليلا و هي تشعربثقل رهيب أثناء هربها نوما .... ضغطا يكاد يقصم عظامها .. تأوهت مرة أخرى فازداد الضغط عليها أكثر و أكثر حتى كادت أن تفقد القدرة على التنفس ...
رمشت بعينيها بصعوبة و هي تحاول جاهدة فتح عينيها لكن دون جدوى ... و كأنهما مسمرتين ....
لكنها تمكنت أخيرا من فتحهما لترى شفتين جائعتين تنهشان منها .... و رائحة السجائر تكاد تتشبع بها رئتيها المتعبتين من ضغطه عليها ....
حاولت كرمة ابعاد وجهها عنه و هي تهمس
( لا ..... لا يا محمد لن أستطيع ..... )
لكنها شكت أنه لم يسمعها فقد تابع هجومه عليها باذن صماء .... أغمضت كرمة عينيها قليلا تحاول الهدوء و الإستسلام ... الا أنها كانت في حالة اختناق منعتها حتى من القدرة على التحمل لدقيقة زائدة ...
مشاعرها الحميمية كانت في حالة توقف تام ....
فهتفت و هي تتلوى منه
( لا يا محمد أرجوك ....... لا أريد ..... كفى )
لكنه أيضا لم يستجب لها و لم تسمع منه سوى صوت همهمات راضية تهدر بأذنها ..... حينها حاولت دفع كتفيه و هي تهتف مجددا
( لا أريد ....... توقف ....... لا أستطيع الآن )
الا أن محمد شدد قبضتاه على كتفيها حتى آلمتها فانتبهت الى عينيه القاسيتين المغلفتين بنظرة جوع شرسة ... فارتجف قلبها قليلا وهو يهمس بقسوة
( الم تشتاقي الي ؟!! ...... مرت فترة منذ آخر مرة ..... الم تشكي تكرارا من تقصيري معك ؟..... ماذا الآن ؟؟!! ...... )
حاولت كرمة التلوي منه مجددا .... الا أنها تنهدت هامسة بحزن
( أنا دائما في شوق لك يا محمد ...... الأمر فقط أني الآن , لا أشعر بأني قادرة على ذلك ..... أشعر بإختناق ..... أنا متعبة ..... متعبة جدا يا محمد .... )
الا أنه جذبها اليه و قد سيطرت عواطفه عليه بعد فترة طويلة ... يهمس بخشونة في اذنها
( و أنا أيضا متعب يا كرمة ... متعب من شوقي اليك ِ .... أين تلك الصغيرة المستسلمة ؟؟ ...التي كانت ترنو اليها بعينين متسائلتين دون أن تتجرأ على السؤال ..... لا تبادري الآن بشيء .... فقط ابقي ساكنة ..... )
شعرت بحنق هائل يهدر بداخلها فجأة و هي تدفعه في كتفيه بضربة قوية هاتفة
( لا أريد يا محمد ......... )
الا أنه كان اقوى منها ... فهيمن عليها مسيطرا , يحيطها من كل مكان .... يخمد كل مقاوماتها ,.... يسكت هتافها الغاضب و همهماتها بشفتيه التي بدت بقسوة فك أسد جائع ....
و بعد عدة دقائق ... علمت كرمة أنها معركة خاسرة , و أن الإستمرار في المقاومة سيزيد الوضع سوءا ... لذا أخذت تتنفس بغضب و هي تستسلم و تسكن تماما .... لكن دون القدرة على استجلاب أي مشاعر ....
و حين شعر محمد بأنها قد سكنت أخيرا .... بينما كان هو يغلي و جسده يشتعل نارا و حبات عرقه تتساقط على وجهها ... انحنى اليها هامسا بصوت أجش محموم ...
( لا تبادري بشيء ........ )
أغمضت كرمة عينيها بألم ..... غير قادرة على الهمس حتى ... و هي تفكر بأسى ...
" أنها لن تبادر .... حتى و إن طلب منها , لم تكن لتبادر بشيءٍ الليلة "
بعد وقت طويل استلقى محمد بجانبها .... يتنفس بسرعة ... دون أن ينطق بكلمة , بينما استلقت كرمة بجانبه محطمة الأطراف .... تشعر بألم نفسي يفوق الألم الجسدي الذي هو على الأغلب سيكون ظاهرا بوضوح في الصباح .....
بقت ساكنة و دموع غادرة تنساب على وجنتيها بصمت .... لا تعلم لماذا تبكي الآن !! .... فلقد اعتادت الأمر في بعض الأحيان حين يمتزج الغضب لدى العاطفة عند زوجها يتحول الى جرافة لا يستطيع أحد الوقوف أمامها .... و هي من حبها له كانت تستسلم للعاطفة و تترك الغضب جانبا ...
أما الآن فهناك ما تغير بها كأشياء كثيرة بدأت في التغير فيها .....
أصبحت أقل قدرة على التحمل .......
تنهدت كرمة بيأس و هي ترفع يدها لتمسح دموعها .... الا أن يد محمد قبضت على كفها قبل أن تصل الي وجنتها وهو يقول بقسوة في الظلام المحيط بهما ....
( ماذا بك ؟؟ ......... و كأني أثقل عليكِ برغباتي !! ..... لقد .... )
همست كرمة تقاطعه بقوة كي تمنعه عن المتابعة
( مرت فترة .... مرت فترة ....... أعلم ذلك يا محمد , أنا فقط أشعر بالتعب .... أترك الأمر أرجوك )
الا أنه قبض بكفه على ذقنها يرفع وجهها اليه ينظر اليها في الظلام ... و تنظر اليه ممتنة الى تلك الهوة السوداء الحائلة بينهما ....
و حين لامست أصابعه دموعها .... شعرت بيده تتشنج فوق وجهها , فأغمضت عينيها دون الجرأة على النظر اليه ... و مرت ثواني قليلة ... قبل أن يبعد يده بقوة لينهض مبتعدا عنها , فلم تفتح حتى عينيها و هي تشعر به يخرج من الغرفة صافقا الباب خلفه بعنف ...
حينها فتحت كرمة عينيها تحدق بالظلام .... و حتى أن دموعها توقفت و قد تبلدت و تعطلت كل مشاعرها ....
تذكرت كرمة ليلة زفافهما .... و كم كانت قاسية عليها ..... بناءا على نصائح متخلفة من أمه و أخوته ....
و هي للمرة الأولى تتعامل مع وضع مجهول بالنسبة اليها .....
ابتسمت كرمة و هي تتذكر كم بكت تلك الليلة .... و بدا أن محمد كان غير مدركا أي سبب منطقي يجعلها تبكي بتلك الصورة ....
لكنه صباحا راضاها .... حيث أخذها ليخرجا للتنزه معا في أول يوم من شهر عسلهما المحلي ....
بالغ في استرضائها و جلب الحلوى لها ... حتى أنه اصطحبها الى أرجوحات الميدان ..... و لم يتركها حتى أخذت تضحك عاليا و هو يؤرجحها كالأطفال ....
من يومها وطنت نفسها على احتمال بعض الظروف القاسية مع هذا الرجل ...سواء كانت عاطفية أو مادية ... أو حتى نفسية ..... لأنها تحبه ....
منذ اليوم الأول بزواجهما و على الرغم من بكائها الشديد , الا أنها اعترفت لنفسها بأنها تحبه بجنون .... و أنها قادرة على التحمل ....
صحيح أنها لم تكن تمتلك أي معلومات قيمة عن الحياة خارج الدار .... الا أنها كانت تعرف بأنه رجل .... و هذا في حد ذاته جعلها تسلم بفكرة واحدة .....
أنه صاحب المكانة الأعلى بحياتها ...... لذا ستتقبل أي شيء منه .... اليست تلك في نظرية الزواج السليم ؟....
لكنها على الرغم من ذلك لم تتنازل في أحلامها أبدا ..... وكأنها وضعت صفقة ضمنية بينها و بين نفسها ....
من تقبل كل ما يجود بها زواجها بنفسٍ راضية .... طالما أن أحلامها على الطريق ....
و الآن ....
الآن ها هي مستلقية بدموع جافة على وجنتيها .... تتذكر ليلة زفافها الصعبة دون أن تدري لماذا .... و تراضي نفسها المجروحة بذكرى أول يوم بزواجهما ....
فأغمضت عينيها بحزن دفين و هي تهمس في الظلام
( لماذا تحول كل شيءٍ الى خاطىء ؟؟ ......... لو فقط نعود ..... لو نعود ..... )
.................................................. .................................................. ......................
في الصباح و بعد أن ارتدت طاقمها الكلاسيكي و هي تتأوه قليلا .... نظرت الى نفسها في المرآة , فتأوت مجددا .... و همست بعنف مكبوت
( كيف سأذهب الى العمل الآن ؟!! ....... )
كانت شفتيها متورمتين لدرجة الإزرقاق .... بهما آثار هجومة هجومه المسنن ظاهرة بوضوح .... أما عنقها فكان ملونا بدرجات الأحمر الفاضحة .... بدمغاتٍ لا تقبل الشك في هويتها ....
زفرت كرمة بغضب و يأس .... تتمنى لو أن لها القدرة على التغيب اليوم , كيف ستواجه الناس بهذا الشكل .....
أحيانا بُعد فترات التقارب الحميمي بينها و بين محمد يصيبها بالشوق الرهيب اليه ....
لكن أحيانا أخرى حين تكون محبطة أو متعبة نفسيا فإن الأمر يصيبها بالإحباط الذي يتحول تدريجيا الى تبلد و رفض ...... كما حدث معها بالأمس ....
الأمر لم يكن بيدها .... و لم تكن لديها النية على تحديه و رفضه ....
الأمر كان شيء بمشاعرها خارج عن إرادتها ....
أغمضت عينيها للحظات تستعيد هدوئها ... ثم فتحتهما من جديد لتقترب من المرآة و مدت يدها تتناول علبة صغيرة من مسحوق التجميل الأبيض ... فأخذت تمسح به حول فمها بمهارة و دقة .... و ساعدها أنها بيضاء البشرة .... بيضاء لدرجة شاهقة و هذا هو السبب في ظهور الكدمات عليها بسهولة ... كما أنه أيضا السبب في امكانها المبالغة بوضع المسحوق الأبيض دون أن يكون ظاهرا وهو يماثل درجة بشرتها ...
بعد أن انتهت ... أمسكت بأحمر شفاه داكن , لا تضعه سوى بالبيت , .... لعيني محمد فقط ....
الا أنها الآن و بسبب محمد نفسه كانت مضطرة لأن تضعه صباحا بالعمل ....
أخذت تمرر به فوق شفتيها مرة و اثنتين و ثلاث .... بعينين شاردتين ....
و بعد أن أفاقت من شرودها .... تناولت وشاح صغير من أحد جواريرها القديمة ... ألوانه كألوان ريش الطاووس ... لفته حول عنقها بربطة انيقة .....
و بعد ان انتهت نظرت الى صورتها في المرآة ... ثم حاولت الإبتسام قائلة
( كوني قوية ...... فأنت ذاهبة الى مقر التماسيح المستعدة لإفتراسك )
خرجت كرمة من البيت بعد أن اكتشفت خروج محمد من الصباح الباكر .... و كان هذا أفضل بالنسبة لها فهي ليست بحالٍ يسمح لها بمواجهته في الصباح الباكر ....
لقد كانت بكل بساطة ...... مدمرة ......
.................................................. .................................................. .....................
أخذ حاتم يتذمر مختنقا من الزحام الصباحي المعتاد في البلد .... كل ما يريده هو أن يستدير يسارا ليدخل الى طريق المصرف ... و مع ذلك فان الطريق متوقف لأكثر من عشر دقائق ....
عشر دقائق ... لمجرد أنه يريد العبور و المرور يسارا لينجو من تلك الكارثة المرورية ....
تأفف مستسلما و هو يطرق على المقود بلحن روتيني ممل .... ناظرا حوله بملل .... الى أن شعر بذبذبات معينة جعلت حواسه تتنبه فجأة .... حينها أدرك أن يحدق بامرأة نزلت للتو من عربة الأجرة الصغيرة ذات المقاعد المتكدسة .... حتى أن الرجال كانو يخرجون أولا الى أن تنزل هي ثم يعاودون الركوب , و لا يحرمون أنفسهم من بضع نظرات مسترقة الى أناقتها و جمالها المتناقض مع تلك السيارة ....
أخذت عيناه تتابعها و هي تعبر الطريق برشاقة أمامه دون أن تلحظه .... فقد بدت واثقة , ذات أعين عزيزة ... لا تنظر لراكبي السيارات ولو من باب الفضول ....
شعرها الأسود المتماوج يتراقص حول ظهرها بنعومة ... و الوشاح الطاووسي يهفهف من حول جيدها ....
انها قوية و تسير كمهرة جامحة .... تماما كعملها ....
في الأسبوع الماضي كانت عبارة عن ماكينة عمل بلا توقف .... حتى أنه ذهل من تلك القوة التي لم يراها على امرأة من قبل ....
كان يظن أن النساء هنا لا يصلحن للعمل الجاد بكل صراحة .... بعد عدة مرات من الذهاب الي المصالح الحكومية لإنهاء بعض الأوراق و الإجراءات ....
كانت الموظفات قادرات بجعله يتمنى حشرهن في مدفع و طلقهن الى الفضاء الخارجي في ذهابٍ بلا عودة ...
لكنه ابتسم فجأة بشرود و هو يتذكر أنها تفطر مثلهن أثناء العمل ..... لكن شتان ما بين النوعين ....
فهي تأكل بشراهة تجعلها تبدو كماكينة تزود نفسها بالطاقة باستمرار كي تتمكن من مواصلة العمل ....
الحقيقة أن السيدة كرمة .... تثير اعجابه بالمرأة بشكلٍ لم يكن يتصوره من قبل ...
على الرغم من نفورها الظاهر منه بوضوح منذ أن علمت بمكانته ... و كأنما احتقرته ضمنيا رافضة التعامل معه بشكل خفي ....
خاصة بعد انهيارها الغير مفضل له .... في مكتب عماد و الذي تحول الى مكتبه الآن ....
و لقد اشتاق لصحبتها التي لم تتعدى المرتين !!!
هل هذا معقول !!!
هل يمكن للإنسان أن يشعر بالألفة لشخص من مجرد مرتين اثنتين فقط !!!
سمع حاتم أصوات أبواق السيارات نافذة الصبر من خلفه .... ليفاجأ بأن المرور قد فك زحامه و بدأ االسير بينما هو متسمرا مكانه معطلا حركة من خلفه ... أثناء شعوره المتناقض بالغيظ و الإعجاب ....
تحرك بالسيارة مسرعا ..... ليدخل يسارا ..... أخيرا !! ..... بينما المهرة على ما يبدو أنها قد سبقته للعمل متفوقة عليه .....
.................................................. .................................................. ................
جلست كرمة خلال اليوم بمكتبها الخاص الجديد .... تعمل على الحاسب بسرعة جبارة , لا تتوقف الى لتناول قضمة ضخمة من شطيرتها الممتلئة بكل العناصر الغذائية ....
سمعت طرقا على الباب ... لتقول بأدب دون أن ترفع عينيها عما تفعله ...
( أدخل ....... )
سمعت صوت أقدام بطيئة واثقة تقترب من مكتبها .... لكنها لم ترفع عينيها أيا كان المتوافد ... الى أن سمعت الصوت العميق المألوف اليها بقول بتهذيب به لمحة تسلية و مرح
( صباح الخير " مدام كرمة " ......... )
أخذت نفسا خفيا مكبوتا ..... قبل أن تخفض يدها الممسكة بالشطيرة لتضعها أسفل المكتب في الطبق المخفي بمهارة ....
ثم أخذت وقتها قبل أن ترفع وجها غير مقروء التعبير لتقول بأدب
( صباح الخير يا سيد حاتم ....... )
اقترب حاتم بهدوء و ثقة وهو يجلس في الكرسي المقابل لها و كأنه يملك المكان .... ثم نظر اليها بود ليقول هادئا
( لقد طلبت منكِ ملف عملاء القروض الأخير ...... )
ردت كرمة بهدوء
؛( لقد ارسلته لك ......... )
قال حاتم بنفس الهدوء
( لقد أرسلته مع الساعي يا مدام كرمة ..... و أنا كنت أفضل أن نتناقش به )
ردت كرمة دون أن تجفل
( آسفة جدا ..... كنت مشغولة جدا )
أخفض حاتم رأسه دون أن يظهر أي تعبير ... ثم قال أخيرا بتهذيب
( مدام كرمة ..... أتدركين بأنني رئيسك المباشر ؟ ... و أنكِ منذ اسبوع تقريبا ترفضين التعامل معي , و هذا اسلوب غير عملي أبدا ..... لذا لما لا نصفي الأمور الآن كي نتمكن من الوصول الي طريقة مثالية للتعامل معا بما يفيد العمل.... )
لم يظهر أي انفعال على وجهها و هي تنظر اليه قائلة ببرود
( أي أمور تلك التي يجب علينا أن نصفيها ؟!! .......... )
قال حاتم دون أن ينظر اليها
( حسنا أنت غاضبة لأنكِ تظنين بأنني ..... خدعتك في التعريف عن هويتي , بالرغم من أن هذا كان تصرفا عفويا لم أقصد منه شيئا أبدا .... لقد سارعت باستنتاج مركز وظيفتي هنا , و أنا انتهزت الفرصة للتعرف الى الزملاء من مسافة أقرب من منصب المدير ..... )
كانت كرمة تستمع اليه دون أبداء اي رأي أو تعبير .... و ما أن انتهى حتى قالت بهدوء
( أنت تتكلم بشيء لا يفيد العمل بأي شيء ...... هذا الحوار قد نتحدث به أثناء شرب القهوة في مقهى المكان بعد الراحة من العمل ..... من باب العتاب و المجاملة .... أما الآن فلا أراه مجديا ....
لكن إن أردت رأيي الخاص , فما اتبعته هو اسلوب ملتوى أنا لا أفضله في التعرف الى الزملاء كما تقول .... فهذا غير منصفا لهم ..... و الآن هل هناك شيئا آخر ؟ ...... )
أظلمت عيناه بجدية .... و هو يرفعهما اليها , ثم قال بهدوء دون أن يفقد سيطرته على نفسه
( و ماذا عن اسلوب انهيارك في مكتبي ؟!! .... إن كان هناك شيء وحيد أنا لا أفضله بل أمقته . فهو اسلوب الإنهيار العاطفي في العمل الذي بدا غير احترافي بالمرة .... بالإضافة الى خلطط بين المشاعر الشخصية و العمل .... و هذا أول خط أحمر تتعدينه منذ تسلمي العمل ..... )
هتفت كرمة بقوة صارمة قد تبدو مخيفة لغيره و هي تميل نحوه على الرغم من احمرار وجهها خزيا ما أن ذكرها بنوبة انهيارها
( أي مشاعر شخصية ؟!! ...... من فضلك وضح كلامك )
قال حاتم بهدوء دون أن ترهبه نبرتها
( رفضك التعامل معي لمجرد أنكِ تفضلين وجود عماد بدلا مني .... و اسلوبك المبالغ فيه في توديعه .,.... الحقيقة لولا أنني أثق برأي عماد ثقة عمياء حين أشاد بك لكنت وضعتك في خانة أصحاب الصوت العالي و التركيز الضائع ..... )
اتسعت عيناها و فغرت شفتيها بذهول يشوبه الغضب الناري الا أنه قال بهدوء به نبرة صرامة
( و أنصحك الآن أن تعدي حتى العشر بداخلك قبل أن تتهوري و تتجاوزي الحدود مع مديرك و حينها أنا سأضطر الا أمرر الأمر بسهولة ..... )
أغلقت فمها ببطىء ... و رغم أنها لم تعترف الا أنها بالفعل عدت الى العشر بداخلها .... الا أن الغضب بداخلها كان مسيطرا جبارا .... تود لو انفجرت بوجه أحدهم و أهانته .... أهانته بشدة .... بل تكسره أيضا ...
كان هذا كفيلا بأن يجعلها تهدأ فجأة .... حيث صدمها تفكيرها الشرير الغريب الأطوار ...
لم تكن أبدا من ذلك النوع المنفر المشاعر و الراغب في هدم و كسر من أمامه ..... ما بالها !! ....
شعور غريب يسيطر عليها بأنها لن تهدأ حاليا الا لو تمكنت من جرح شخصا ما و بشدة .... لتراه منهزما ضعيفا أمامها ....
شعرت كرمة بالخوف من نفسها و هي شاردة تماما .... أصابعها تتحرك بملامسة متوترة فوق سطح المكتب ....
بينما كانت غافلة عن حاتم الذي كان يراقبها بصمت و قد بدأ في الشعور بالذنب من قسوته معها على الرغم من أنها مبررة ...
انه الآن يراها كطفلة الدار الصغيرة الضائعة .... اخذ فرصته في مراقبتها أثناء صراعها مع نفسها ...
حتى وصلت عيناه الى شفتيها الحمراوين ... على الأرجح أن أحمر الشفاة الذي كانت تضعه ضاع أثناء أكلها الشره ... فبانت من تحته آثار لا جدال بها ..... لا يمكن لرجلٍ مثله أن يخطئها أبدا .... لكنها وحشية !!! ... شرسة !! ...
احمر وجه فجأة على غير توقع .... و هدرت بداخله مشاعر غريبة ذات طابع غريب على نفسه لا يذكر أن شعر به من قبل .... بل حتى يعجز عن تفسيرها ...
حتى أن أصابعه انقبضت بشدة و عيناه تطولان الى عنقها المخفي بالوشاح ....
فجأة نهض من مكانه و كأن عقربا قد لدغه .... و شعر بضرورة مغادرة هذا المكتب حالا بينما أعصابه ليست في وضعها الطبيعي دون تفسير ...
تفاجأت كرمة من عنف حركته ... فنظرت اليه بدهشة , لكنه قال بصوت غريب هادىء
( عامة مدام كرمة ........ أنا أتيت الى هنا لمجرد أن نبدأ العمل معا بصفحة بيضاء , فأرجوك اقبليها لصالح العمل .... و أنا آسف إن كنت قد خدعتك بأي صورة مهما كانت تافهة ..... أنتِ قيمة مميزة هنا في العمل و أنا أرغب كثيرا في الإستفادة من تميزك ...... )
ثم خرج من المكتب بسرعة دون أن ينتظر ردها .... بينما كانت تنظر بدهشة الى خروجه المفاجىء بعد أن كان مسيطرا على المكان بصرامة إدارية ....
أخفضت كرمة عينيها و هي تهمس لنفسها
( ماذا بكِ يا كرمة ؟!! ..... هل بدأتِ تخسرين الشيء الوحيد الذي عملتِ جاهدة من أجله ؟!! ... كيف حصل و تم توجيه تلك الملاحظة لكِ ؟!! ..... كان عملك دائما خطا أحمر .... كيف تركتِ لحياتك الخاصة أن تظهر للعيان بهذا الشكل المؤسف !! ..... )
منذ أن رحل السيد عماد و هي تشعر بأنها تحولت فجأة الى وضيعة الأصل بمكانٍ راقي ....
السيد عماد كان يشعرها دائما أنها موضع فخر ... لكن منذ أن رحل و الجميع يعاملونها بنظرة استعلاء واضحة , أثرت في نفسها بشكلٍ بالغ .... خاصة و أنها سمعت بنفسها همسة ابنة دار الرعاية من خلف ظهرها .....
نفس المشاعر السلبية كانت موجودة في وجود السيد عماد .... لكنه كان يطغى عليها بتشجيعه و دفعات الثقة بالذات التي كان يبثها فيها ....
رفعت كفيها و هي تغطي وجهها متنهدة بتعب ..... أنها مرهقة .... مرهقة جدا ..... محطمة .....
.................................................. .................................................. ......................
خرجت مساءا بعد أن استنزفت نفسها في العمل تماما .... كانت مرهقة تسير ببطء ...
و الجميع خارجون بنفس الساعة ... كان الحق أن مظهرهم جميلا .... راقيا .... بملابس كلاسيكية سوداء ...
رجال و نساء .... هيئتهم كانت دوما أنيقة .... و كانت تحب هي ساعة الخروج ... حين يخرجون بتلك الأناقة و كأنها ما عملت هنا الى بدافع طفولي ... من الرغبة في نظر الناس اليهم بإعجاب ...
رفعت كرمة وجهها لتتسمر مكانها فجأة ..... حيث وجدت دراجة صافة بين السيارات الفارهة ....
ليست المشكلة في الدراجة , و إنما المشكلة أن محمد كان يقف أمامها مطرق الرأس ... بهيئته الفوضوية المحببة لها ... قميصه المربعات المفتوح حتى مقدمة صدره ... ذقنه الغير حليقه قليلا ....
مظهره القريب الى قلبها .... الا أن خوفا مفاجئا غطى على مشاعر التقرب تلك لتتجه اليه مسرعة ... و ما أن رفع رأسه ورآها حتى استقام دون أن يبتسم ...
وصلت اليه كرمة بسرعة و هي تلهث ثم قالت بخوف
( ماذا حدث يا محمد ؟؟ ..... لماذا أنت هنا ؟!! ....... )
لم يبتسم ... الا أنه كان ينظر اليها بنظرته المتملكه , ثم قال بصوت خافت
( أتيت لأقلك للبيت .......... )
كانت كرمة تنظر اليه غير مستوعبة .... عاقدة الحاجبين , ثم همست
( هل هذا سبب مجيئك ؟...... فقط !! ...... )
أجاب محمد بخشونة
( نعم ..... هل عندك مشكلة في ذلك ؟!! ..... )
كان العديد من زملائها قد انتبهو لوقوفها مع الرجل الفوضوي صاحب الدراجة و الذي تظهر عليه صفة أنه عامل او ما شبه .... و من بينهم كان حاتم يقف من بعيد مقطبا بشدة ... يظنه شخصا يضايقها لكنه ما أن استعد لنزول السلم الرخامي الأنيق بسرعة ... حتى تسمر مكانه و هو يجدها تبتسم برقة ...
لتجلس بهدوء خلف ذلك الرجل على الدراجة ... محاولة الإتزان خلفه و ساقيها متلاصقتين بأناقة تتناقض مع الدراجة ... و ذراعيها تحيطان بخصره .... ووجنتها تستريح على ظهره ....
شعر حاتم بالوجوم و توقف مكانه لفترة طويلة يراقبهما... لكنه وضع نظارته السوداء لينزل الي سيارته دون النظر مجددا الى ذلك المشهد ...
بينما كانت كرمة تريح رأسها المتعب على ظهر محمد القوي .... تبتسم بحزن ... الا أنها تشدد من احتضانه وهو يتحرك بالدراجة ...
غير مبالية بنظرات زملائها المتعالية و المستنكرة الذاهلة .... بل أن بعضها وصلل لتقزز ذهولا وهم يغمزون لبعضهم .... فقد رأووا أخيرا زوج السيدة كرمة !!!!!! ...... و ياله من منظر سيتحدثون به طويلا !!!
بعد أن سار محمد عدة أمتار بالدراجة و كانت عينا كرمة توشك على الإنغلاق تعبا .... سمعته يقول فجأة بخشونة
( لقد قبلت العمل في ورشة السيد عبد الحفيظ ........ )
رفعت كرمة وجنتها عن ظهره و هي تهمس للهواء الضارب وجهها و شعرها هاتفة بلهفة
( حقا يا محمد ؟!! ............... )
رد محمد بخشونة دون أن يستدير اليها
( حقا يا كرمة ......... )
تنفست كرمة الصعداء و هي تغمض عينيها تكاد أن تبكي ... لتعود بوجنتها الى ظهر محمد ... و تشدد من احتضانها لخصره ... أثناء سيره بالدراجة .... و كأنهما يتنزهان ....
و للمرة الثانية تذكرت اليوم التالي لزفافهما .... حين أخذها محمد للأراجيح كي يراضيها بعد ليلة الزفاف !! .... فابتسمت و أبقت عينيها مغمضتين .....
.................................................. ................................................. .....................

جلست وعد على حافة سرير أبيض ... و ساقيها متقاطعتين تتأرجحان على بعد سانتيمترات من الأرض ... حافية القدمين ....
بينما كان هو يقف على بعد .... مستندا الى جدار الغرفة الأبيض , مكتفا ذراعيه و هو يتأملها صامتا ... مبتسما ....
وهي كانت تنظر الي قدميها واجمة بوجهٍ شاحب ... ثم قالت أخيرا بصوتٍ جاف دون أن ترفع عينيها عنهما
( هل يمكنني أن أعرف على الأقل في أية مرحلة فقدت حذائي ؟؟!! ...... )
لم يرد سيف على الفور بل التوت ابتسامته أكثر .... ثم قال بخفوت
( سنجده .... أعدك بذلك , حتى لو اضطررنا الى ارسال فرقة خاصة للبحث عنه )
لم تبتسم وعد ... بل مطت شفتيها و هي تقول بعد أن كسرت قشرة الهدوء التي تعمدتها حتى الآن
( هذا منتهى الحماقة ...... لا أعلم ما الذي أفعله هنا بالضبط !! ... )
استقام سيف من استناده ببطء .... متمهلا في رده ... ليقول بهدوء
( أنتِ هنا لعمل بعض الفحوص و التحاليل ..... و التي أمر بها الطبيب غير مسرورا ... و ليس بناءا على أوامري الخاصة ...... )
همست وعد بغيظ
( لكن أنت من أحضرتني الى هنا ...... و من المؤكد أن الطبيب سيقوم بتهويل الأمر لضع صورة هامة لتحليل المبلغ الذي سيتقاضاه هو و معمل تحاليله ....... )
لم يخبرها بحاله حين فحصها الطبيب مبدئيا .... ليخرج اليه قائلا بهدوء غير مبتسم ... أنه غير مطمئن لحالتها الجسمانية ..... و أنه لن يتأكد قبل أن يجري لها فحوصا و تحاليل كاملة .....
لم يرد سيف كلام الطبيب ... بل كان ينظر اليه بسكون و قتامة , متخيلا ضعفها و هزالٍ يتزايد يوما بعد يوم لو تركها لنفسها .... شعور غريب ذلك الذي تتسبب به وعد العمري في كل ما يخصها ...
قال بجدية بعد فترة
( لقد أصبت بالإغماء مرتين خلال شهر واحد يا وعد ... ألا يدعوك ذلك مشكورة للإحساس ببعض القلق !! )
رفعت وجهها اليه لتقول و كأنما تخاطب طفل صغير
( انه مجرد فقر دم ........ )
لم تلبث أن رفعت يدها و هي تحك جبهتها بعد أن أخفضت رأسها ... وهي تهمس و كأنها تحادث نفسها
( يجب أن أخرج الآن ........ )
قال سيف بإهتمام ...
( و لماذا التسرع ؟؟ ....... لن نخرج من هنا قبل أنتهاء الفحوص و التحاليل ... )
رفعت وعد وجهها اليه تقول بحرارة
( يجب أن أخرج يا سيف .... هناك أمرا ما يجب أن أهتم به ...... )
رفع سيف حاجبه ليقول ببساطة مخفيا بداخله الإهتمام القوى لمعرفة هذا السر الخفي
( ربما لو أخبرتني بما يشغل بالك لهذه الدرجة .... ربما ..... تمكنت من مساعدتك )
نظرت اليه وعد قليلا تتأمله .... ربما لو كان قد عرض هذا العرض منذ عدة أيام فقط , قبل أن يضفي صفة إهتمامه المبالغ بها , لكانت بالفعل قد لجأت اليه بدلا من لجوؤها الى الحقير رامي ....
و ما كان جرى ما جرى من البداية ....
لكن الأمر انتهى ....
لم تعد بحاجةٍ لأيٍ منهما الآن ..... لقد عثرت على ملك ....
انسلت ابتسامة شاردة من بين شفتيها و شردت عيناها بنشوى غريبة أمام عينيه المحاصرتين لها ....
و حين برقت عيناه انتظارا ... جذب كرسي صغير ... ليضعه أمامها مباشرة و جلس عليه مائلا للأمام ... مستندا بمرفقيه الى ركبتيه وهو ينظر الى وجهها الشارد ... الى أن انتبهت و نظرت اليه بدهشة ...
فمنحها الفرصة كاملة كي تستوعب انتباهه ثم قال آمرا و عيناه في عينيها
( لماذا كنت تبكين ؟؟ .......... )
تراجعت قليلا من تلك الهيمنة التي يفرضها عليها ... الا أنها رفضت الإنفعال و هي تجيب بعد لحظة ببساطة
( لقد سألت هذا السؤال مرتين اليوم ..... و هذه ليست من عادتك , .... )
ظهر طيف ابتسامة على شفتيه ليقول بهدوء
( و كيف تعرفين عاداتي بمثل هذا التأكيد ؟........ )
أجابت بهدوء
( أعرف على الأقل أنك لا تكرر السؤال مرتين .... بل تبحث عن الإجابة بنفسك قبل المرة الثانية ... )
ازداد الطيف قليلا وهو يأمل عينيها الجميلتين ... بشجنهما الذي يحوي بريق جديد ما ظهر الا اليوم ... بخلاف بريق عفرته حاليا تحاول كبته قدر إمكانها و لكنها لا تفلح ....
شيئا ما أبهجها اليوم ....
و بخلاف كل البشر بدلا من أن تسعد بطبيعية ..... بكت و بكت و هي تحاول كبت دموعها بالقوة الجبرية في غرفة مليئة بالموظفين الى أن سقطت مغشيا عليها حين فقد جسدها الضعيف قدرته على التحمل ....
كانت أعينهما قريبة جدا من بعضهما .... للحظة يشعر بأنها تشبه عينيه !! ... ابتسم بداخله بسخرية وهو يفكر
"لكن شتان ما بين الخشونة و الجمال !!! ..."
و في لحظاتٍ نادرة .... في بعض لمحات ... يعتقد أنه يرى عيني عبد الحميد العمري ....
فاختفت ابتسامته الداخلية .............
ثم قال بهدوء جاف
( لم تتركي لي الفرصة لأبحث ..... فقد سقطتِ باكية قبل السؤال الثاني ... )
تنهدت وعد و هي تدير عينيها عن عينيه بمحاولة مستفزة فاشلة ... ثم قالت بخفوت و هي تؤرجح ساقيها قليلا محاولة تغيير الموضوع
( هل كان شكلي مخزيا تماما ... و تناثرت أطرافي بكل مكان ؟؟ .... )
عاد سيف ليبتسم وهو يقول بهدوء
( حاولنا تجميع كرامتك بأكبر قدر نستطيعه ..... )
عادت لتتنهد و هي تقول بوجوم
( يا لروعة السقوط في غرفة تعج بعشر موظفين على الأقل ...... )
قال سيف ببساطة
( لقد أمرتهم بالخروج .......... )
التفتت رأسها اليه كالقذيفة و هي تهتف وقد احمر وجهها
( و بقيت أنت !! ....... )
لم يجبها وهو ينظر اليها بجرأةٍ مبتسما ابتسامته الملتوية ... فعقدت وعد حاجبيها و هي تهمس بصوتٍ أثار بداخله شيئا ما ... فقد بدا مقهورا ... مظلوما .... خرجت كهمسة حارة من روح كسيرة
( أنت تسيئ لسمعتي بكل شكل تستطيعه ..... فلماذا تفعل ذلك !! .... أي تبرير يمكنك اعطاؤه للجميع عن تصرفاتك !! .... )
كان ينظر اليها هادئا ... على الرغم من احساسه العالي بهتافها الخافت دون أن ترفع صوتها الا أنه خرج محترقا من قلبها
فقال بهدوء
( أولا .... أنا لم أعتد إعطاء تبرير لأيا كان عن تصرفاتي ....
ثانيا ...... من أين أتيت بالإستنتاج الفذ بأنني بقيت معك بعد خروج الجميع ؟!!! .... بل و متأكدة أيضا !! )
ازداد احمرار وجهها أضعافا ... و ارتبكت أمام نظراته الهادئة ...
بينما هو يهمس لنفسه .... " الخسارة .... كانت خسارتي في ضياع الفرصة .... فرصة حمل القطيطة ذات القلب المذعور ..... و الذي يرتجف فوق كف رجل ليثير به جنون العالم "
حين وجد أن ارتباكها يتزايد ووجهها يتلون بألوان الطيف ما بين احمرار الخجل و زرقة الشحوب المتناوب عليها ... قرر أن يرحمها أخيرا كي لا يرتفع ضغطها وهو يقول ببساطة
( حسنا ..... لقد اقتحمت علا المكان كمقدم أول .... تأمر بالخروج و تنهي عن البقاء ... حتى أنها هتفت بوجهي أنا شخصيا تأمرني بالخروج .... لو رأيت منظرها وهي عاقدة الحاجبين منتفخة الأوداج ... تنال فرصتها أخيرا في القيادة و معالجة الأمر ..... )
لم تستطع منع شفتيها من الأبتسام قليلا بارتجاف مرتبك .... لكنها قالت أخيرا
( حسنا لم يكن هناك داعٍ لتأمر بنقلي الى هنا بسيارة الشركة ..... ليس هناك من داعٍ حقا ... ووجودك هنا مثير للشبهات كذلك ..... )
ظل ينظر اليها .... بينما هي تتذمر داخليا ... " الا مكان آخر ينظر اليه !!! .... أنه من النوع المحدق بعيني الشخص لدرجةٍ مزعجة .... "
قال سيف بهدوء معطيا الكلمة الأخيرة
( الجميع يعلمون أنكِ قريبة لي .... و أنني تقريبا مسؤولا عنكِ .... )
اتسعت عينا وعد بصدمة ... و هي تنظر اليه ... جزءا منها ارتاح قليلا للأمر ... لكن جزءا آخر شعر بالرفض و الإستهجان
" مسؤولا عني !! ..... بأي حق !! .... و بأي دليل !! .... لم يكن أحدا يوما مسؤولا عني !!
هل هذه هي الحجة التي سيلتزم بها كي يبرر فرضه نفسه على حياتها منذ ذلك العهد الذي أنذرها به صباحا ... أنها تخصه !! ....
تنهدت وعد و هي تشرد بعينين جامدتين بعيدا عنه .... و كان هو يراقبها بإهتمام , يريد أن يرى الي أين ستصل بتفكيرها ....
نظرت اليه وعد مجددا لتهمس
( لما لا نعقد اتفاقا ؟........... )
لم تهتز عضلة في وجه سيف وهو ينظر اليها بشبه ابتسامة واثقة هادئة .... قائلا
( اتفاقا آخر ؟!! ............ )
أومأت وعد برأسها بصمت .... فأشار سيف بيده و كأنه يدعوها قائلا
( تفضلي ..... كلي آذان مصغية ...و كلي شوق ..... )
ابتلعت ريقها و هي تتجاهل الكلمة الأخيرة عمدا .... ثم قالت بخفوت دون أن تنظر اليه كي لا تتشتت شجاعتها
( لما لا أقص عليك كل ما مر بي ...... لتعرف أن الحياة كانت عادلة معك بكل كرم .... ثم بعدها .... )
صمتت وعد قليلا ... فقال سيف مهتما ... مبتسما
( تابعي ..... أنتِ تثيرين اهتمامي ..... )
رفعت وجهها اليه بعينيها الواسعتين في ملامح شاحبة قوية و هي تقول بهدوء
( ثم بعدها تتركني لحالي .......... )
التوت ابتسامته أكثر ... لكنها تابعت بقوة
( عندي خطة هرب .... لحياة أفضل , و ليس من العدل أن تعيقها بسبب الماضي الذي لم يكن لي أي ذنبٍ به ....أنا أبحث عن المستقبل , و أنت تتشبث بالماضي )
قال سيف بخفوت خطير و ابتسامة ...
( و من قال أنني أعيقك ؟؟........ أنتِ من أتيتِ الي بقدميك يا وعد .... و لست أنا من بحثت عنكِ ....
و إن أردت الدخول الى لعبة .... عليكِ إكمالها حتى نهايتها بروحٍ رياضية .... أنا فقط أجاريكِ و ليس من العدل إدعاء احساسك بالظلم حين أعترف باستمتاعي بقواعد اللعبة ..... )
اتسعت عيناها بصدمة .... ثم ذهول .... و هي تحدق بوجهه المبتسم .. و عينيه المستريحتين بثقةٍ فوق عينيها ... ثم همست مصدومة
( هل تظنني أتلاعب بك ؟!! ..... و أنني أتيت اليك من البداية لهذا الغرض ؟!! )
رفع سيف احدى حاجبيه ليقول ببساطة
( و هل تلومينني على ظني ؟!!!! .......... )
هتفت وعد بحرارة و هي تهز رأسها نفيا بقوة حتى أن خصلة من شعرها انسابت من رباطه المطاطي كي تسقط على وجهها بنعومة حزينة تهدىء من ثورة عينيها
( لم أتلاعب بك أبدا .... لم يكن لدي النية لا سابقا و لا الآن و لا في أي وقت ...... )
لم تتغير ابتسامته أو ملامح وجهه .... ثم سألها بهدوء
( هل أنتِ واثقة يا وعد ؟..... و لا حتى للحظة ؟!! ...... )
أوشكت على الهتاف بلا .... لكن للحظة ارتجفت شفتيها و هي تتذكر اللحظة الوحيدة التي اختلت فيها بنفسها في غرفتها ..... بينما هو في الخارج يفصل بينهما باب خشبي عتيق ... و ماضٍ عقيم ....
كانت ارتجافة شفتيها كفيلة بإعطاؤه الجواب الذي يحتاجه ...
فأبتسم ابتسامة قاسية تختلف عن ابتساماته السابقة .... ثم قال بهدوء
( هذا هو ما أتحدث عنه ........ )
لم تستسلم وعد و هي تقول بحرارة
( اذن لماذا لم تتقبل رحيلي و تنهى الأمر .... عوضا عن استبقاء متلاعبة دنيئة ... ابنة الرجل الذي دمرك )
لم يرد سيف على الفور ... بل اقترب منها أكثر و هو جالسا بمقابلها يحدق بعينيها .... ثم همس بصوتٍ عميق بعث رعشة في أطرافها بدءا من قدميها الحافيتين و حتى قمة رأسها ...رافعا يده الدافئة , ليبعد بها خصلة شعرها الناعم عن وجهها الى قمة رأسها محاولا تهذيبها
( لأنكِ تعجبينني يا وعد .... تعجبينني بدرجة أقوى من سنواتٍ لم أشعر فيها بمثل هذا الشعور القوى .... و بدرجة أكبر من أن أدعك ترحلين معها تاركا تلك القوة معلقة من حولي ..... بعد أن أتيت الي بنفسك .... )
كان يشعر بارتجاف وجهها تحت يده و حين سقطت خصلة شعرها مجددا ... أبعدها هذه المرة الى خلف أذنها رافضا أي حاجز بينه و بين عينيها في تلك اللحظة تحديدا .... ثم مد يده الأخرى ليحيط وجهها بكلتا كفيه يقربه منه ... متابعا
( من البداية و أنت تبدين استسلاما يلتف حول روح أي رجل .... بك من السحر ما لم أتنشقه من قبل ... و حتى اليوم صباحا و أنت تجمعين شعرك لي .... فكيف لا أقبل التحدي بشوق ... و كيف أدعك ترحلين ؟!!)
همست وعد ترتجف بشدة حتى باتت تهتز بقوة ملحوظة
( لست ........ لم أكن يوما ....... )
قاطعها سيف حين عجزت عن المتابعة
( و أنا لن أتسرع في الحكم عليك ...... لم أكذب حين قلت أنك قريبتي و أنكِ بتِ مسؤولة مني .... فإما أنك كنت تنوين استغلال ذلك بخطة طويلة ليست غريبة علي خاصة و أنني أعلم العقل المدبر و أحفظه عن ظهر قلب ..... و إما ....... )
سكت قليلا و هو يحدق بكل ملامحها يريد حفظها بحدقتي عينيه ... ليتابع هامسا
( و إما أن رابطا قويا ربطنا من اللحظة الأولى .... و أنا لن أدعي تجاهله ..... )
جذب وجهها الى وجهه ببطء شديد .... حتى أصبح على بعد شعرةٍ واحدة منه .... ليكرر ببطء .. حرفا حرف علها تستوعب
( أنت .... تعجبينني كثيرا ...... كلك .... تفاصيلك .... أدقها و أكبرها ..... )
همست وعد تتأوه بارتجاف وهي تحاول ابعاد وجهها عنه ....
( أريد أن أرحل ..... ليست لي الطاقة لأحتمال هذا الجنون ..... )
شدد على وجهها وهو ينظر اليها بقوة الصقر ليقول بشدة ...
( الى أين ستذهبين ؟ ....الى معرض الأدوات الصحية ؟؟ ..... مهما كانت وظيفتك عندي لا تلائمك , الا أنها أفضل .... لأنك من اليوم ستكونين تحت رعايتي . .......و سأساعدك لترقين من حالك ... )
همست وعد بحدة ذاهبة الأنفاس
( أخبرتك من قبل أنني لست للبيع ....... )
رد سيف بخفوت
( و من قال أنني أشتريك ؟!! .......... )
سكت قليلا وهو ينقر بأصابعه فوق وجنتيها بمداعبة شاردة كي يهدئها و يهدىء نفسه ثم همس
( الشيء الوحيد الذي أعدك به ..... أنني لن أؤذيك أبدا ..... ما دمت لا أرى عبد الحميد في عينيك
.... فقط ابقي .....ابقي و اعترفي بذلك الشيء بيننا ..... )
كانت تتنفس بصعوبة تحت كفه التي تغطي وجنتها .... تنظر اليه بنظراتٍ تائهة .... ثم همست بنبرةٍ ميتة
( لا أشعر بنفس الشيء ...... )
انقبضت عضلة في فكه .... و تجمدت عيناه المشتعلتين للحظة .... ثم قال بهدوء مفاجىء وهو يترك وجهها
( و أنا أقدر الصراحة ...... حتى و إن لم أصدقها ..... )
نهض سيف من مكانه ليبتعد عنها الى آخر الغرفة ليتابع بهدوء جليدي
( وعدتك الا أؤذيك ...... و الا أحاول شرائك ..... مادمتِ لستِ للبيع ..... )
صرخت وعد بغضب
( لست كذلك ....... و ليس هناك أي مخطط ... قام أي أحد بوضعه في رأسي .... حاول أن تستوعب ذلك )
استدار سيف اليها ليقول بخفوت
( اذن لم نختلف ... .... هذا أقصى ما أريده , ..... )
همست وعد بقهر و هي تنظر اليه من بعيد
( لما لا تدعني أقص عليك الى أي حال وصلنا ..... علك تتركني لحالي .... أنا متأكدة حينها , أنك س .... )
قاطعها سيف بقوة زلزلت كيانها
( لما لا أقص أنا عليك ما تسبب فيه والدك من دمارٍ لحياتنا .... و أترك لك حينها حرية اختيار الإنتقام الذي تتوهمينه منذ البداية ...... )
أخذت وعد تتنفس بسرعة ... ثم قالت بخوف
( و ما آخر ذلك الإنجذاب الذي تتحدث عنه ؟؟ ......أنا لن أكون سلعة أبدا ..... )
قال سيف محاولا الهدوء بعد تلك الحرب الكلامية بينهما بينما يحاول كذلك جاهدا الأنتصار في حربٍ أخرى كي لا يروى القليل من شوقٍ محرمٍ اليها ....
( صدقي أو لا ..... إن كنت سلعة , فثمنها يزداد بنظري يوما بعد يوم دون تفسير ... و لا أحتاج الى تفسير
كل ما أعرفه أنك أصبحت مهمة لي يا وعد و أنا لن أبخسك قدرك ابدا ...فلندع الأمور اذن تسير بطبيعتها
.....لقد كنت من الصراحة بحيث اعترفت لك كاشفا كل أوراقي أمامك ... فتعاملي معي بالمثل ... )

همست وعد بعد فترة ذهول ...تحاول ان تقحم الكلمات الى رأسه اليابس ....
( لم يكد يمر شهر .... ثلاثون يوما !!!....... )
هز سيف كتفيه ليقول ببساطة ...
( أحيانا يحتاج رجلا في مثل عمري لفترة أقل من ذلك .... لا فقط للإعتراف ... بل لمحاولة السيطرة على مشاعره الجامحة تجاه أنثاه ........)
عيناها الذاهلتان تنظران اليه بعدم تصديق ..... أنثاه !!! ..... و كأنها فرس عربية عثر عليها منتصرا ليضمها الى مجموعته !!........
حين كان ينظر الي ذهولها الساكن .... عاد ليقترب منها مجددا , الى أن وصل اليها , فرفعت رأسها اليه تلقائيا بتوجس .... فابتسم لها ببطء ليقول محاولا تهدئة صدمتها من اعترافاته المتوالية
( الا يشفع لك الكثير مما سأواجهه لاحقا ؟؟ ........... الا يرق قلبك لي ولو قليلا حتى ؟؟...... )
صدمة اخرى مرعبة .... ماذا يقصد من كلامه ؟؟!!! .... من سيواجه في سبيلها ؟!!! .....
و قبل ان تحصل على اجابة للسؤال المجنون .... انحنى اليها ليقبل وجنتها الباردة كي يبثها شيئا من دفئه .... وصلته شهقتها المرتاعة ..... الا أنه صم اذنيه عنها وهو يغمض عينيه لتلك اللحظة التي انتظرها طويلا ....
ارتجفت بشدة و هي تتسائل ان كان هذا هو الوقت الملائم لصفعه !!.... لكن كفيها كانا يرتجفان بشدة و هي تشبكهما معا في حجرها .... كحال ساقيها و هي تبدو كطالبة صغيرة تتلقى أول قبلة ذكورية على وجنتها دون ... حتى إن حاولت صفعه فستمس يدها المرتجفة وجهه فيجن جنونه أكثر مما هو .... و بينما هي في حالةٍ من الذهول و الصدمة .... سمعته يهمس في اذنها بخفوت
( .فقط .حاولي ألا تدعي شيطانك يغريك بالتلاعب بي يا وعد ..... لأني حينها سأنسى وعدي لكِ .... )
التفتت اليه بوجهها بسرعة تتأكد من تهديده ... وجهها الى وجهه حتى كادت شفتاهما أن تتلاقيا ... فابتسم يهددها بهجمةٍ من وجهه لا تتعدى السانتيمترات جعلتها تشهق مبتعدة برأسها بسرعة .... ليستقيم ضاحكا بخفة ... مما جعلها تسأل نفسها هل كانت تتوهم تهديده ؟؟ .... و الى أي مدى يثق بها .... أو بمعنى أصح الى أي مدى لا يثق بها لكن تحده قوة الإنجذاب التي يتحدث عنها تلك ؟!! .....
استمر الصمت بينهما طويلا .... في لحظات غريبة ... بينهما نظرات مفسرة من جانبه مشحونة المشاعر بدرجةٍ مخيفة ..بينما نظراتها ضائعة ... شبه رافضة لكل ما يندرج تحت مسمى الجنون المطلق ....
لذا قررت الإمساك بخيطٍ آخر فقالت ببأس
( و ماذا عن عملي ؟؟ ..... أليس عملي لديك كساعية فيه ابخاسا لحقي يتناقض مع كل ما ذكرته ؟!! ....... )
نظر اليها ليقول بهدوء
( أنا لا أراه كذلك ...... لكن حتى لو أردت إعلاء شأنك , فسأساعدك ما أن أرى أنكِ تستحقين ذلك .... )
" أولا أستحق ذلك ؟!!! ..... "
همسة بداخلها قفزت بغير حساب و في غير و قتها ....
و حين بان الصراع بداخلها على وجهها الشاحب .... مد سيف يده يعبث بشعرها قليلا وهو يقول بخفوت
( يكفيك كل هذا التوتر حاليا .... أمامنا كل الوقت فيما بعد , لندرس ما بيننا .... ولو أنني كنت دائما أكره الدراسة .... كنت أفضل القفز للإختبارات مباشرة ... متحديا لها .... )
شعرت بيده تلاحق شعرها الطويل ترسله الى كتفها ...... فنظرت الى كتفها رغما عنها لتجده يسحب الرباط المطاطي من قرب نهاية شعرها فانسدل ناعما حتى صدرها وهو يقول بخفوت
( لقد سقط رباطي من نعومة شعرك ..... ألم أخبرك أن تلك المناسبات تأتي وحدها دون تخطيط ..... )
لم ترد وعد و هي مسبلة جفنيها .... عاقدة حاجبيها قليلا ... تتمنى فقط لو يصمت قليلا .... لحظات فقط كي تتمكن من التفكير باتزان ..... لكن هيهات .... فقد همس مبتسما بخفوت
( قدميك صغيرتين للغاية ....... )
يا ألهي !! .... أغمضت عينيها و هي تحك جبهتها بيدها .... من أين سقط عليها ؟!! .....
لكن صوتا ما همس بداخلها " أنت من ذهبتِ اليه بنفسك ...... "
صوت نحنحة من عند الباب جعلتها ترفع رأسها شاكرة لهذا الانقاذ السريع .... فدخلت ممرضة ممتلئة مبتسمة تخبرها إن كانت جاهزة للفحوص و التحاليل ....
ابتلعت وعد ريقها و هي تومىء برأسها في صمت .... شاعرة بوجوده القوى حولها ...
الا أن الممرضة قالت بود
( حسنا ..... هيا بنا ........ )
نزلت وعد من على حافة السرير ... فترنحت قليلا , .... الا أن ذراعا قوية أسندتها وهو صوته الذي يعلو رأسها وصلها خافتا قلقا
( هل أنت بخير ؟؟ ......... )
أومأت برأسها و هي تشعر بقوة كفه تحتضن كفها بقوة ... و كأنه لا يرغب في تركها .... و حين مرت لحظتين و لم يتركها همست بخفوت
( سأذهب الآن ..... أرجوك .... )
و من المؤكد أنها لم تكن تترجاه للهفتها القوية في إجراء التحاليل .... بل كانت تترجاه كي يتركها لنفسها مؤقتا .....
لم تسمع منه ردا للحظات ثم ترك يدها أخيرا ليقول بهدوء
( سأنتظرك هنا ...... لن أذهب لأي مكان )
اغمضت عينيها للحظة ... قفالت الممرضة تبتسم
( لا تقلق .... دقائق و نعيدها اليك سليمة كما أخذناها ..... هل هي زوجتك ؟؟ ..... )
ارتفعت عينا وعد اليه كالرصاصتين المنطلقتين بغباء ... كان من المفترض أن تنظر للممرضة , لا إليه
لكن ابتسامته و عيناه سمرتاها و هو يجيب مبتسما دون أن يجفل أو يستنكر
( إنها لا تزال ابنة خالي حاليا ...... )
قالت الممرضة بمودة
( فليتمم الله بخير ............ )
اسندت وعد لتحثها على الخروج معها ... بينما كانت رأس وعد مستديرة اليه و هي تخرج من الغرفة ناظرة اليه بذهول .... فكافأها بغمزة ..... جعلتها ترتطم بإطار الباب أمامها ......
لكن و ما أن أوشك اللحاق بها مقطبا بقلق و الممرضة تملس لها جبهتها ... حتى كانت هي هربت خارجا
بقدميها الحافيتين الصغيرتين .... على الأرض المصقولة تمنعه من الإقتراب خلفها ......
بينما الرغبة بداخله تتزايد .... رغبة ملحة لأن يضمها اليه و يشبعها تقبيلا ... لكن العجيب أنها لم تكن مجرد
رغبة جسدية .... بل كانت رغبة في تهدئة روعها تجاه الكثير مما يحيط بها ... حتى و إن كانت النتيجة هي أن ترتاع من شغفه هو شخصيا ....
.................................................. ....................
.................................................. .................................................. .....................
اليوم تشعر بنفسها أفضل حالا ... و كأنها تستعيد سيطرتها التي قوتها كثيرا على مدى السنوات الماضية ... اليوم لا وجود للذكريات و لا للشعور بالقذارة ....
فقط ستمتزج بتلك الطبيعة و لا غير ... ما بين البحر و السماء ... و رمالِ حمراء تمتص بسخونتها شحنات جسدها الغاضب كل ...فتتركه منهكا , مخضب بصبغة ذهبية من الشمس ....
كم تستمتع بتقلبات الرمال .... بنفس الشاطىء ... منذ الصباح في وقت الشروق , حين تكون باردة ناعمة ,منداة بقطرات الطل لطوال الليل ... ترسل قشعريرة في جسدها كله حين تسير عليها وحدها ....
و ما بين احتراقها بلهيب الشمس لتصبح اكثر خشونة و هي تخدش قدميها بمداعبة ....
و مثل الآن .... مساءا ... بوقت الغروب .... حين تصبح في أفضل حالاتها.... لا باردة و لا ساخنة .... لا ناعمة و لا خشنة .... تصبح كغيمة دافئة , تغمر قدميها بحماية و رقة ....
ابتسمت شيراز و هي تقف على الشاطىء بالقرب من مجموعة تقدم رقصة فلكلورية فوق الرمال ....
كانت الجميع تعلو الضحكات شفاههم لهذه الفرقة التي تتراقص على لحن لاتيني ....
و كانت هي تراقب تلك الأعين المبتسمة و الأفواه الضاحكة .... فتسرب ذلك المرح اليها تلقائيا و كأنها تتمنى التقافه ....
و لم تشعر بأن جسدها بدأ في التمايل بخفة .... منحنيا مع التفافة ساري هندي أحمر ترتديه يجعلها ذات سحر متناقض ما بين الشرقي و الغربي ...
خصلاتها الشقراء تلامس وجنتيها الذهبيتين بنعومة ... و جسدها يلتف على النغم ....
فأغمضت عينيها لرائحة البحر الملونة بتلك النغمات ...
كانت تعيش سحرها الخاص ....محاولة التداوي قدر استطاعتها ....
الا أنها انتفضت فجأة حين شعرت بملمس حلزون لزج ... يزحف فوق الشريط الضئيل الظاهر من خصرها ... ففتحت عينيها شاهقة ... لتجد رجلا أربعيني ... أحمر البشرة و الشعر أو ما تبقى منه ... من الواضح أن أجنبي عن البلد .... يضحك اليها مشاركا في المرح و الرقص ...
الا أنه لم يكن يقف باتزان تماما .... مترنحا , و ترنحاته كانت الخطوات الوحيدة لرقصاته .....
و عيناه زائغتان ضاحكتان ....
حاولت شيراز الابتعاد خطوة .... الا أنه عاد ليحيط خصرها بذراعه متشبثا به و هو يطلق سيلا من الكلام الضاحك بلغة لم تفهم منها حرفا واحد ... لكنها استنتجت أنه يدعوها للرقص معه ...
تلوت شيراز منه بمهارة تلوي خصرها في الرقص و هي تقول بصوت منقبض
( لا أريد ..... شكرا ... )
الا أنه هو كذلك لم يفهمها و هو يعاود دعوتها للرقص جسديا , بيده التي تعاود الزحف على خصرها ...
فانتفضت منه مجددا و هي تقول بنبرة أكثر حدة ...
( لا أريد ..... لا أريد .... )
الا أن يده القابعة خلف ظهرها جذبتها الى صدره و هو يتبعها بيده الأخرى ... تمايلا بفخذيه رقصا ... بينما هو عاري الصدر لا يرتدي سوى رداء البحر فقط .... و سلسلة ذهبية ضخمة تحيط بعنقه ....
أخذ يتكلم بلغته ... ما بين دعوة و غناء مع باقي المغنين .....
فشعرت شيراز بالدوار و هي تشم رائحة مميزة تعبىء فمه و أنفاسه التي تلفح وجهها ... رائحة تستطيع تمييزها جيدا للسم المنقوع الذي كان زوجها رقم ثلاثة يتعاطاه ... لتتشبع بها أنفاسها في صراعهما الليلي ......
تلك الرائحة جعلتها تشهق طلبها لرائحة البحر من جديد ... كي تمحو ذلك العفن من الوصول الى رئتيها .. و ذاكرتها ....
صرخت شيراز و هي تدفعه في صدره كمن يدفع بقرة دنيماركية بيضاء سمينة
( لا أريد الرقص ...ابتعد عني ......... )
الا أن صرختها ذهبت هباءا وسط باقي صرخات الغناء الصاخبة ... و لم يلتفت اليها أيا من الراقصين على الشاطىء ....
و حين أوشكت على الصراخ بجنون و غضب ... شعرت به يُنتزع من التشبث بها .... فنظرت اليه لتجد أن ذراعا مفتولة العضلات و كف قويه تجذب كتفه ليستدير للخلف بسرعة .....
توقفت شيراز عن المقاومة و هي تتحرر اخيرا من الكفين اللزجتين ليلتفت ذلك الثور ليرى من يمسكه بتلك الطريقة ...
طارت عيناها المفتوحتان رهبة الى عيني وليد الغاضبتين و اللتين لم تكونا مصوبتين ناحيتها ... بل الى ذلك الرجل , ثم بدأ يحدثه بخشونة بلغته ... و الرجل يرد عليه غاضبا ملوحا بذراعيه ...
بينما شيراز تقف لتراقبهما بفمٍ مفتوح ... ... كمن صعد للمريخ مستمعا لكائنات فضائية تتحدث مع بعضها!!...
ظهر الرفض على الرجل للحظات ... الا ان جملة ختامية من وليد جعلته ينظر الى عضلاته الضخمة ... ثم ابتعد وهو يرفع ييده استسلاما ... مبتسما بسماجة ... مترنحا راقصا وكأن شيئا لم يكن ....
استدار وليد اليها بعد فترة .... يدقق النظر الي عينيها الخضراوين ...ثم قال بصوتٍ أجش
( هل أنتِ بخير ؟؟ .............)
للحظات لم تستطع فهمه جيدا و كأنه لا يزال يتحدث بلغة غريبة ... الا أن عقلها البطيء بدأ في استيعاب العربية ....لتهز رأسها قليلا , ثم تهمس
( ولما لا أكون بخير ؟!! ...... لم يحدث شيء ... )
رفع وليد أحدى حاجبيه سخرية ليقول بهدوء بعد فترة
( رد فعل متزن نموذجي بعد رد فعلك السابق تجاهي ........ )
عبست شيراز قليلا .... بينما احمر وجهها لتهمس وهي تبتعد خطوة
( كان أمرا مختلفا ..... و أنت تعلم ذلك ..... )
استدارت لترحل في صمت تشعر بالحاجة للهواء النقي ... الا أنه سار بجانبها , لتجد فجأة أن ذراعا ممتدة أمامها توقفها عن السير ... دون أن تلمسها .... رفعت شيراز عينين متسعتين جدا اليه تسأله عن هدفه .... الا أن الضياع كان ظاهرا بهما جليا ... فقال بعد لحظة نظر اليهما ...
( تعلمين جيدا بأنه لم يكن مقصودا ...... )
صمت قليلا مدققا بعينيها قبل أن يتابع بلهجة أكثر خفوتا
( اليس كذلك ؟؟ .............. )
ظلت شيراز صامتة .... وحاولت تجاوزه دون رد ... الا أنه كان مصمما فقال بهدوء
( أليس كذلك ؟؟ ....... )
وقفت أمامه ترفض النظر اليه ... مطرقة الرأس قليلا ...إنها تمقت ذلك الغريب .... تمقته بشدة ما مررها به خلال الأيام التي كانت لا تتمنى سوى أن تهدأ فيها بالا ...لكنها ومع ذلك ... أرادت انتهاز تلك الفرصة التي لم تتخيل أن تأتي .... و هي تقض مضجعها منذ عدة ليالٍ من الغيظ بما تسببت فيه لنفسها من امتهان .... لذا و بعد نضال عنيف مع كبريائها و مقتها له ... تمكنت من الإيماء نصف ايماءة فقط .... و ملامحها كانت باهتة دون حياة ...
و على ما يبدو أن تلك الشبه حركة قد أعطته بعض الرضا .... فقد ارتاحت ملامحه قليلا ... و ما أن حاولت تجاوزه حتى اعترض طريقها مجددا ... حينها رفعت رأسها تتأفف بغيظ واضح و هي تهتف بحدة
( ماذا تريد مجددا؟...... لقد سئمت منك .. حقا ... الا يمكن أن يمر يوم بدون امتاعي بطلتك البهية ؟.!! ... )
رفع وليد احدى حاجبيه ... لتقسو ملاحه أكثر من قسوتها الأولى ... و الغضب يبدأ و نفاذ الصبر يبدأ في الظهور جليا على وجههه ... ليقول بخشونة
( بما أنك أنسانة ناكرة للجميل .... مهووسة .... فهذا هو الرد المثالي الذي أتوقعه منكِ تماما .... )
عبست شيراز لتقول بحدة و الهواء يطير بعضا من خصلاتها فوق عينيها
( و من طلب منك الجميل ؟!! ...... كنت أستطيع الدفاع عن نفسي بنفسي ... )
أصدر وليد صوت استهجان ساخر مسرحي وهو يهتف عابسا
( آهاا ..... واضح جدا .... لقد كدت تتوسلين اليه كي تركك و أنت تذرفين الدموع ..... )
قالت بحدة و هي تركل الرمال فوق ساقه بجنون
( لم أذرف أي دموع ........ )
نظر وليد الى ساقه التي تغطت بالرمال من حركتها الطفولية الحمقاء ... ثم رفع وجها صارما اليها ليسألها بتهديد خافت
( ماهذا الذي فعلته للتو ؟؟ !! .......... )
هتفت و هي تستطيل علها تقارب نصف طوله
( ما رأيته ..... و إن لم تبتعد عني فأحشو فمك الأحمق بها المرة القادمة ....... )
اتسعت عيناه ما بين الغضب و عدم تصديق تلك الشعلة التي تنبعث من العدم في لحظة واحدة .... بعد أن كانت مسالمة وديعة ....
فتركها تبتعد عنه و هي تتذمر شامتة على الأرجح ... بكلام غير مفهوم .... حتى أنها استدارت اليه تهتف مع ابتعادها
( المرة القادمة ستكون شكواي لشرطة ال.........آآآآآآآآآآآآآى )
صرخت عاليا و هي تقفز فقزتين قبل أن تقع أرضا متأوهة بشدة ..... حينها وضع وليد يديه في خصره وهو يرفع عينيه الي السماء هامسا
( ماذا الآن !!!! ..... ما تلك المصيبة !!! ..... )
أوشك أن يتركها للجحيم .... لكن بكائها الشاهق جعله ينظر اليها عابسا بشدة .... وهي تجلس ممسكة بقدمها تعصره بقوة
حينها زفر بنفاذ صبر وهو يقترب منها هذه الخطوات ... و ما أن وصل اليها حتى انحنى القرفصاء أمامها وهو يقول بصوتٍ أجش
( ماذا بك الآن ؟!! ............ )
صرخت بغضب و هي تبكي
( ابتعد عني يا أحمق ..... أنت السبب ..... )
أخذ نفسا عميقا وهو يقترب برأسه من رأسها ليقول من بين أسنانه
( يوما ما سأقطع لك لسانك السليط هذا ..........يالهي !!... )
لم يتابع تهديده و هو يرى مدى سوء الموقف .... فقد داست على قاعدة زجاجة خمر مكسورة و ظاهر نصفها من بين الرمال ....
عبس وليد بشدة وهو ينظر الي الجرح القطعي في باطن كاحلها ... و الذي خضب الرمال الى حمراء من حوله ... ثم أمسك بقدمها يفحصها رغم ممانعتها و شتائمها
و ما أن ضغط على الجرح حتى صرخت بوجه أحمر متشنج
( لعنة الله على الخمر بكل ما يخصها ....... )
نظر اليها عابسا بملامح أهدأ قليلا .... ليقول أخيرا
( حسنا لا بأس .... اهدأي قليلا ...... )
ثم عاد لينظر الى قدمها و قال بهدوء
( لا بد من أخذك للطبيب ..... فعلى الأغلب ستكون هذه الزجاجة ملوثة .... أتستطيعين النهوض ؟؟ )
الا أنها صرخت و هي تدفن وجهها بين ركبتيها المرتفعتين باكية باختناق
( ابتعد عني و حسب ..... لقد تعبت .... أنا أريد العودة الي بيتي .... )
تنهد وليد وهو يجلس على الرمال مسندا ذراعه الى ركبته قائلا بخفوت
( ما تلك الكارثة يا ربي !! .......... )
رفعت وجهها الباكي المختنق و هي تقذفه بحفنة رمال بقدمها السليمة و هي تنشج باكية
( كل هذا بسببك .... لقد افسدت لي العطلة الوحيدة التي أخذتها في حياتي ..... )
نظر الى الرمال في حجره و على شعر صدره بصمت .... ثم دون مقدمات هجم يمسك بكاحلها ذو القدم المصابة ليرفعها بالقوة قليلا حتى سقطت للخلف وهو يقول من بين أسنانه
( من فضلك لا تختبري صبري طويلا .... أنا لا أجيد التعامل مع غضبي )
ثم وضعها ارضا لكن ليس بعناية كبيرة ... وهو يتنهد غضبا , بينما كانت تبكي و قد فقدت سيطرتها على نفسها ....
قال اخيرا بعد ان تحولت شهقاتها الى نشيج مكتوم قليلا ...
( هل يمكنك النهوض الآن ؟؟ .......... )
لم ترد للحظات ثم همست أخيرا بصوت باهت من شدة البكاء
( نعم يمكنني أن أحاول ........ )
نهض من مكانه , ليمد لها يده ... فنظرت اليها بعينين حمراوين و أنف اكثر انتفاخا ... لكنها مدت يدها في النهاية لتجد أنها ترتفع ببساطة ... و كأنها في وزن الريشة لتدعمها ذراع قوية حول خصرها ... ترفعها على أطراف أصابعها ببساطة .. كي لا يلمس جرحها الرمال ....
كانت ذراعه خشنة على الشريط المكشوف من خصرها ... اثارت فيها قشعريرة , لم تكن لتخفي عليه ...
فاخفض عينيه .... الى وجهها المنحنى دون غضب وهو يهمس لها كفرس هائجة
( اهدأي .... لن أفعل ما يسيئك ... ثقي بي .... لن أحملك إن كان هذا يضايقك , لكنى مضطرا لإسنادك .... لكن لو لم تستطيعي ذلك يمكن الانتظار هنا الى أن آتي لك بمحفة ..... )
أوشكت على أن تقول له أنها تفضل ذلك بالفعل ... لكنها شعرت بمدى غبائها في اللحظة التالية و مبالغتها المثيرة للشفقة .... فهمست مخفضة الرأس
( أنا بخير ..... أستطيع الوصول الي هناك )
شدد وليد على خصرها يرفعها قليلا عن الرمال ليقول بصوتٍ لطيف
( حسنا هيا بنا .............. )
و اثناء سيرهما على الشاطىء .... كانت تتعثر في كل شيء مهما كان بسيط , و كان وليد يشعر بالبغض الشديد لهذا الموقف ... فعلى الرغم من أنها شديدة الجاذبية بما يفوق المستوى العادي ..
دافئة و طفولية بدرجة تجذب النظر .... الا إنه كان شاعرا بالبغض من فرضه لمسته عليها ... تلك الشابة تعاني من عطبٍ ما .... و هو أدرى الناس بردات فعلها التي اخطأها في البداية مع من يكرههن ككرهه للمرض ....
هاؤلاء ممن تدعي التحرش بها لفظا أو فعلا دون وجه حق ... و هي تظنه نوعا من ارضاء الأنوثة ...
بينما لو ذاقت أحداهن الأمر بواقعه لبكت دموعا مرة كالعلقم ....
أما تلك التي يحيطها بذراعه الآن .... تعاني من ردات فعل مدروسة , قام بدراستها بنفسه ....
الآن يشعر بذلك .... بل تأكد منه ....
و من المحتمل أن تصاب بالإغماء أو الهيستيريا إن لزم الأمر .....
إنها فتاة بريئة .... لم يمسها رجل من قبل ..... لكنها مرت بسوء معاملة ذكورية في طفولتها أو مراهقتها ....
.................................................. .................................................. ......................
جلست شيراز على إحدى مقاعد مقهى الفندق المطلة على البحر ... و هي تتنهد بيأس , ناظرة الى قدمها المضمدة ذات القطبات و المرفوعة على مقعد آخر ....
يالها من أجازة !!.....
رفعت ذقنها و هي تنظر للبحر بعينين ميتتين كالأسماك ..... و هي تتسائل , إن كانت تلك العطلة قد أصابها أحد أعمال الأشرار ممن يبغضونها ....
اسندت مرفقها الى ذراع كرسيها وهي تتكئ بذقنها الى كفها , تنتقل بنظرها من البحر الى العائلات المنتشرة في المقهى ....
كانت أصوات الضحكات تملأ المكان و الأطفال يركضون هنا و هناك .... بينما هي تراقبهم بملامح ميتة , غير متأثرة ببرائتهم ....
الى أن توقفت عيناها عند أسرة معينة .... تحفظها كحفظها لإسمها ....
تلك السيدة الأربعينية الجذابة .... و الأبناء ما بين المراهقة و الشباب ... و الرجل ....
الرجل الأشيب الذي يجلس و ظهره لها ..... لكنها تستطيع تمييزه من بين ألوف
فغرت شيراز شفتيها بهمسة اسمه
إنه هو بالفعل .... زوجها الثاني .......
ذلك الرجل الذي منحها حلما من الاحلام ... منحها حضنا لم تذق مثله من قبل .... كان من أطيب الناس معها .... أذاقها من الرقة ما جعلها تبكي له كل ليلة ....
صحيح أنه كان يتمتع معها بكل شبابها المقترب من الطفولة و الذي أحيا به الرجولة من جديد ...
الا أنه كان رائعا بشكلٍ جعل مجرد ذكراه تجلب الدموع الى عينيها ....
لقد أعطاها الكثير .... لكن هو بالذات حتى لو لم يمنحها قرشا واحد , سيظل هو صاحب اجمل ايام عاشتها في حياتها ....
تلك الأيام التي انتهت سريعا وهو عائد الي أسرته التي بدات في التفكك بسببها بعد عشرين عاما ... لذا اضطر اختيار اسرته وودعها بعينين دامعتين رغم تقدم عمرهما عنها .... دموعٍ لن تنسى ذكراها أبدا ...
دموع انتهت بليلة قضاها معها بفراشٍ واحد ..... عيناه تتشربان للمرة الاخيرة من جمالها ... بينما كانت هي تسكب انهارا من فيض عذابها عله يحن اليها و يعود عن قراره .....
قامت باغرائه بشتى الوسائل كي يبقى على زواجهما .... لكن ما أن حل الصباح حتى رحل سريعا كطيف جميل عبر حياتها القاحلة .....
كان بمثابة أب أكثر منه زوج .... و مع ذلك أحبته بشدة ..... و كانت له الحياة و الشباب ...
نظرت اليها فجأة زوجته .... و تجمدت نظراتها عليها .....
فابعدت شيراز عينيها عنها سريعا .... و قلبها ينبض بعنف ....
و كم كانت ممتنة في تلك اللحظة حين صدر صوت مألوف من خلفها يقول
( جلبت لك القهوة معدة خصيصا .... ...... )
رفعت شيراز وجهها الى وليد لتقول مسرعة
( يمكنك الجلوس ............. )
رفع احدى حاجبيه وهو يحاول تذكر إن كان قد سألها ذلك ؟!!! .... لكن يبدو أن المسكينة تهلوس
و الحقيقة أنها تهلوس منذ اليوم الأول الذي رآها به .... لكنه تنهد وهو يسحب كرسيا ليجلس أمامها مضطرا نظرا لإصابتها .... فلم يرد أن يثير جنونها مجددا فربما قامت تجري خلفه في نوبة غضب لتقذفه بأكواب القهوة ....
نظر بصمت الى عينيها الخضراوين التائهتين كما عرفهما منذ فترة قصيرة .... ثم قال فاتحا مادة للحديث بدلا من تلك الجلسة البائسة المفروضة عليه ...على الرغم من مراقبته لها على رمال الشاطىء صباحا و مساءا ... .
( لما لا نتعرف من جديد بشكلٍ لائق ...... أنا وليد عابد ..... )
ثم مد يده اليها في بادرة صلح ..... نظرت شيراز الي يده قليلا ... ثم مدت يدها لتهمس بقلق
( شيراز ..... ....... )
عقد حاجبيه وهو يقبض على كفها بقوة .... ثم قال بخفوت
( أفضل بشرى أكثر ....... )
نظرت اليه بصدمة و هي تهمس
( هل تعرفني ؟!! ............... )
عقد حاجبيه من خوفها المبالغ به , ليقول بصوت خافت
( لا .... مجرد معرفة اسم السيدة التي تجرأت على صفعي من كشوف الفندق ..... )
ارتاحت ملامحها قليلا و نظرها يتيه من خلفه الي الأسرة الجالسة من بعيد ....ثم همست بشرود
( قاربت على نسيان هذا الاسم منذ زمن ....... الجميع يفضلون شيراز )
ثم عادت بعينها اليه , و كان هو ينتظرهما هذه المرة ... ليقول بخفوت اكثر
( آسف ...... لصفعك ........ لم أفعلها سابقا )
اخفضت شيراز عينيها من حرج تلك الذكرى ..... و لم تجد ما تهمس به سوى
( هل أنت من بعث الورود الي غرفتي ؟؟ ..... )
قال وليد مبتسما قليلا
( اي ورود ؟!! ........... )
عبست شيراز من حماقته لتقول حانقة
( ورود ردئية مجانية ... مقطوفة من الشارع الخارجي للفندق .... كان ينقصها ساعتين فقط لتسقط ذابلة كشخصية من أرسلها .....وقد كان مصيرها سلة المهملات التي تصلح أكثر لكي ..... )
قال وليد بذهول يقاطعها
( هذا ليس لسان بشر أبدا .........إنه لسان صنبور ملوث يحتاج الي تركيب سدادة جديدة !! .... )
جلس مكانه منتظرا ... مدققا بنفسه قبل أن يكون مدققا في الوقت الذي يمر , .....
لقد حسم الأمر و أعلن صك ملكيته لها تهدئة لحاله المختل منذ أن دخلت وعد العمري حياته .... كان يفضل لو ترك الأمور لوقت أطول .... وهو يلاعبها و يدرسها و يدرس نفسه معها .... الا أنه ببساطة لم يتمكن من ذلك ....
مرة تذهب و مرة يطردها .... تارة شخص يتحرش بها و تارة آخر معجبا بها ....
و ما بين كل ذلك .... يبقى انتباهه مشتتا بها وهو يكره هذه الحالة ... بل يمقتها ....
لذا لم يجد نفسه الا وقد وقع على صك ملكيتها حتى و إن كان الأوان مبكرا .....
لقد أمضى عدة دقائق ... عدة دقائق و هو يفكر في كل الخطأ المحيط بهما .... لكن سؤال وحيد طاف بذهنه ...
وهو .... هل مع كل ذلك الخطأ .... هل يمكنه أن يطردها كما طرد والدها ليتلقفها غيره في يومٍ من الأيام ؟!! ...
ولم تكد الدقائق تنتهى حتى وصله الجواب .... سيكون ملعونا لو تركها تذهب وهو على هذه الحالة ...
لم يكن يوما عاشقا مرهف الحس .... لكنه رجل يعرف ما يرده من اللحظة الأولى .... وهو لم يعتد الخسارة ...
هناك طاقة ما بعثت بوعد العمري الى حياته ..... إما والدها و إما هي من نفسها .... و إما شيىء أكبر منه و منها و من كل مخططات عبد الحميد نفسه ....
لكن كل هذا أدى الى نهاية واحدة .... سقوط وعد العمري بحجره .... وكم هو سعيد بذلك السقوط ... بل اكثر من سعيد ....
نوعا من الراحة تنتابه الآن ... بعد أن وضع النقاط فوق الحروف .... الآن لن يشغله شيء عن دراسة أدق تفاصيلها ... بدئا من أعمق أسرارها و حتى أصابع قدميها الصغيرتين ...
ابتسم سيف وهو يفكر أنه ما أن ينتهى قد يكون حينها قادرا على مناقشة رسالة دكتوراة بوعد العمري
ابتسم ابتسامة عابثة أعمق وهو يفكر متابعا
" و سوف ينالها بامتياز مع مرتبة الشرف .... "
و بعد أن قست عيناه قليلا ببريق انتصار ... همس بشرود
( و كم سأكون سعيدا بتقليم أصابع عبد الحميد منها ..... ليبقى وحيدا بين جدرانه العتيقة )
تنهد بقوة كي يجلي قليلا من ذلك الإحساس المنعش أخيرا بعد حيرة ثلاثين يوما ... ليركز على انتظاره لها , سيتأكد من اليوم أن تنال ما تحتاجه ... فهو يجيد الاعتناء بمن يقرر ادخالهم لمملكته الخاصة ...
لقد أطالت بتلك الفحوص .... هل الأمر به وجها من الخطورة بالفعل ؟!! ...
لم يشعر بأن ملامحه قد بانت عليها القتامة قليلا وهو يجلس واضعا كفيه في جيبي بنطاله شاردا بعبوس ....
سمع وقع أقدام بالرواق آتية تجاهه ... فنظر تلقائيا الى امرأة شابة ... تنظر يمينا و يسارا ... أنيقة و تبدو عليها مظاهر الرقي ....
مرت عليه بنظرة عابرة .... ثم تابعت التحديق فيما حولها , ... ثم قررت أخيرا التوجه اليه بسؤال رقيق
( سلام عليكم ..... أتعلم من فضلك أين تقع وحدة اجراء التحاليل ؟؟ .... )
أشار سيف برأسه الى الباب المجاور وهو يقول
( ها هو الباب الموصل اليها .... لو عبرته ستجدين غرفة عليها الاسم في آخر الممر )
ابتسمت الشابة لتقول بود
( جيد ............ )
ثم دون استئذان اختارت مقعد على بعد مقعدين منه لتجلس عليه ببساطة ... ثم بدأت بفتح حقيبتها و أخذت تقلب بها حتى أخرجت لفافة من الورق ... فتحتها لتخرج منها شطيرة أخذت تتناولها بنهم ....
بينما أخذ هو ينظر اليها .... انها تأكل بسرعة و كأن هناك من يلاحقها ..... إنها تأكل كالرجال! ....
بينما بيدها الأخرى كانت ممسكة بكتاب صغير الحجم باللغة الإنجليزية , .... كتاب كلاكسيكي قديم تعرف عليه من فوره ....
قرر تركها لحالها , الا أنه بعد قليل شعر بتوجب تنبيهها ... فقال بهدوء
( من فضلك سيدتي ..... الا يجدر بك التأكد من وجود من تنتظرينه ؟؟ .....)
التفتت اليه متعجبه تطفله , الا أنها ابتسمت بمودة و هي تقول
( آه .... قريبتي هنا في وحدة التحاليل , لقد هاتفتني منذ دقائق من الداخل ..... )
عقد سيف حاجبيه و هو ينظر اليها تعود ببساطة الى شطيرتها و كتابها ... , ثم قال بخفوت متسائلا
( وعد ؟!! ................. )
رفعت وجهها متفاجئا اليه , ثم قالت بتساؤل
( نعم وعد ...... هل أتيت معها ؟؟ ....... )
لم يرد سيف وهو ينظر اليها مقطبا , ثم قال بخشونة مكررا نفس الجملة المؤخرة
( وعد لا تمتلك هاتف ............ )
رفعت حاجبين قليلا .... ثم قالت و قد بدأت تتوجس منه
( آممممم حسنا هناك هاتف بالداخل , ..... لكن هل يمكن أن أتشرف بمعرفتك ؟؟ .... )
نظر سيف أمامه وهو يقول باقتضاب
( سيف الدين فؤاد ..... مدير وعد بالعمل ..... )
هتفت قبل أن تستطيع تمالك نفسها
( سيف الدين ...... أنت هو !! ...... )
نظر اليها سريعا ثم قال بهدوء مهتم
( على ما يبدو أن وعد قد كلمتك عني ......... )
عادت الى تحفظها و هي تشعر بأنها قد أطالت أكثر مما ينبغي .... فأخفضت رأسها الى كتابها تقول باختصار
( لا ............. )
ظل ينظر اليها بين الحين و الآخر بينما شغلتها الشطيرة أكثر و تاهت بين السطور أبعد ....
فلم يستطع منع نفسه من السؤال تدفعه الهيمنة
( هل أنت ....... أختها ؟؟ ..... )
رفعت اليه وجهها محدقا بلا تعبير و كأنها تتسائل عن موعد انتهائه من هذا التحقيق , فاجابت باختصار
( تقريبا .......... )
عبس سيف وهو يشعر بأن كل ما هو متعلق بوعد العمري يكون غامضا مبهما .... الشبه بينهما لا يمكن اغفاله .... لكنها تفتقد تلك العينين .... يشعر بأن الشبه بينمها صنعته الايام و ليست قوانين الوراثة
قال سيف بصوت مستفز و كأنه يحاول جرها الى الكلام فيجد بعض المعلومات
( لقد أصيبت بالإغماء اليوم ..... و هي ثاني مرة لهذا الشهر )
رفعت وجهها اليه تحدق بملامحه , ثم قالت ببساطة
( إنها ليست المرة الأولى ...... منذ أن كنا صغارا و هي تصاب بالإغماء حين ترهق أو تتوتر .... )
ثم عادت الى كتابها مجددا .... فقال بغيظ بعد فترة
( لا يبدو عليك القلق .......... )
عادت لترفع وجهها لتقول بعفوية
( آه .... انه لمجرد فقر الدم .... )
مط سيف شفتيه وهو يرفع حاجبيه مومئا متفهما , ليقول بهدوء
( الآن عرفت من أين أتت النظرية ..... )
ثم قال أخيرا بهدوء
( لم يكن هناك من داع لتقلقك ..... فأنا سأقلها في كل الأحوال )
نظرت اليه لتقول ببساطة
( ليس هناك من قلق , لقد هاتفتني لأن لدينا مشوار هام بعد أن تخرج من هنا .... )
أوشك أن يسألها الى أين ... لكنه أمسك نفسه في اللحظة الأخيرة و هو يفكر عابسا بن وعد تلك لديها مشوار هام كل يوم تقريبا و في النهاية تدعي أن لا حياة اجتماعية لديها
مرت عدة لحظات قبل أن تتكرم و تقول مبتسمة
( لطف منك أن تقلها الى هنا ..... يمكنك الذهاب الآن , لا تعطل المزيد من وقتك .... )
إنها تصرفه بلطف .... عقد سيف حاجبيه ليقول بايجاز
( سأنتظر ............. )
رفعت حاجبها قليلا ....الا أنها عادت الى كتابها , لكن بذهنٍ محتار هذه المرة ...
كان الفضول يشغله لمعرفة من تكون .... انها حتى ترتدي نفس ملابس وعد , لكن مع اختلاف أنها تضيف بعض اللمسات العصرية الى مظهرها ...
كوشاح شفاف معقود حول عنقها .... و شعرها الذي موجته في أمواجٍ انيقة .... و الحذاء الأنيق ذي الكعب العالي .....
إنها تبدو كوعد عصرية ...... و مع ذلك , لم يشعر تجاهها بنفس الإنجذاب القوي الذي يجمعه بوعد
توقف عن تفكيره فجأة حين رأى الباب الخارجي يفتح .... لتخرج منه وعد بوجهٍ شاحب كالجليد ... و شفتيها زرقاوين للغاية ...... تقترب حافية على الأرض اللامعة ... وهي تقبض مرفقها المشمر على لاصقة صغيرة
بينما الممرضة بجانبها تساعدها ....
همست وعد بضعف
( كرمة ......... أشعر بالدوار )
نهض سيف من مكانه مباشرة دون انتظار على الرغم من أنها لم تلتفت اليه تتبعه كرمة .... فأمسك بها بقربه , محنيا رأسه اليها وهو يهمس
( ماذا بك ؟ ....... ماذا حدث بالداخل ؟ )
قالت الممرضة مبتسمة
( إنها بخير ..... إنها تخاف من منظر الدم فقط لا غير , ....... )
أمسكت كرمة بوعد تجذبها من بين أحضان سيف الخادعة و هي تقول متعجبة
( ماذا حدث لكِ ؟ ..... آآمممممم و وعد ... لماذا أنت حافية بالمناسبة ؟؟ !! .... )
رفعت عينين مهتزتين قليلا ثم همست و هي تبتعد عن سيف خطوة أخرى
( أريد أن أخرج من هنا يا كرمة ..... ...... )
اقترب سيف تلك الخطوة التي ابتعدتها ممسكا بذراعها يقول بصوتٍ عميق للغاية
( هيا بنا ...... سأقلك الى بيتك )
الا أنها عادت لتندس أكثر بأحضان كرمة و هي تقول بتوتر
( لا ..... شكرا , سأخرج مع كرمة , .... لدينا شيء هام ..... )
رفعت وجها شاحبا الى كرمة التي بدأت أخيرا تشعر بالقلق من الوضع بأكمله ... فهمست
( هل أنت قادرة على ذلك اليوم يا وعد ؟؟ ....... اشعر بانكِ لن تحتملي المزيد من الإرهاق العصبي )
أصرت وعد بصوتٍ مهتز و عيناها تدوران
( بل سأذهب يا كرمة ...... لن أحتمل البقاء ليومٍ إضافي )
ابتسمت كرمة بتعاطف و هي تهمس
( هل هي بالفعل ؟؟ ............ )
همست وعد بحرارة ....
( لقد أتت بنفسها يا كرمة ........... )
افترت شفتي كرمة عن ابتسامة جميلة مرتاحة قبل أن تهمس
( اذن سنذهب ......... )
هنا تدخل سيف قائلا بقوة
( لن تذهبي لأي مكان ........ )
استدارت اليه زوجان من الأعين بحدة ..... احداهما تشبه عينيه بهما من القسوة و الحزن ... و أخرى رقيقة حالمه بهما من الدهشة و الفضول ما جعله يدرك أنه قد بالغ في صيغة الأمر ... خاصة في وجود من يحميها منه .....
أدخل يديه في جيبي بنطاله كي يمنع نفسه من جذبها الى أحضانه بالعنوة عوضا عن أحضان صديقتها , بينما قال بصوتٍ عميق لا يظهر شيئا عما بداخله
( كيف ستذهبين حافية الى أي مكانٍ كان ؟؟ ...... هل هذا طقس قبائلي خاص بكما ؟؟ )
نظرت كلا من وعد وكرمة الى قدميها الحافيتين فوق الأرض الباردة ... فرفعت وعد وجهها الي كرمة تتأوه بحنق
( ياللهي كيف نسيت أن أخبرك بأن تحضري لي أي حذاء ....... )
قال سيف راضيا
( اذن بعد اذنكما لقد ضيعتما الكثير من وقتي .... لذا سآخذ وعد و أنصرف .... )
كانت كرمة تنظر اليه بعينين متسعتين و كأنها تتسائل للمرة الألف عمن يكون مثل هذا الشخص غريب الأطوار و القافز االي الحديث بينها و بين وعد دون اذن ....
همست وعد بتوتر
( من فضلك اتركني لحالي .... و كفى ..... أنا لست في أفضل حالاتي الآن ... )
قال سيف بحزم قاطع
( و لأنك لست في أفضل حالاتك فستأتين معي ......... )
مد يده يقبض على ذقنها يرفع وجهها اليه .... ينظر الي عينيها الواسعتين المحدقتين بعينيه ليقول بصوتٍ أكثر ليونة
( لا تجادليني الآن يا وعد ..... لا أحب العناد فهو من أكثر الصفات غباءا .... )
و أثناء صمتها و هي تحدق بكلماته .... كان فك كرمة قد تدلى ببلاهة و هي تتابع ما يحدث ذاهلة ....
ترك ذقنها أخيرا مضطرا متبرما نظرا لوجود غيرهما هنا .....
ثم قال أخيرا بهدوء
( لذا و عليه ..... فأمامك الآن عدة حلول ..... إما أن اقلك الي البيت .... و إما أن أقلك لأقرب محل للأحذية كي أشتري لك واحدا .... و إما أن أقلك الى المكان الذي تريدين الذهاب اليه بشدة .... بعد أن تشتري الحذاء الجديد ..... )
كانت وعد و كرمة تنظران اليه كطفلتين مهذبتين متسعتي العينين ..... و وعد تفكر
" بأنه متواجد في كل الحلول !! ....... "
نظرت بطرف عينيها الي كرمة و همست بشفتيها فقط
( يجب أن نذهب من هنا ......... )
قرأت كرمة شفتيها .... ثم قالت وهي تنقل نظرها الى سيف
( حسنا ..... انتظرنا هنا , سآخذها لتغسل وجهها ثم نعود اليك ..... )
نظر سيف اليهما بريبة غير واثقا بهما , الا أنه قال في النهاية
( حسنا لا بأس ..... سأنتظركما هنا .... )
أمسكت كرمة بذراع وعد تجذبها برفق الي الباب الذي خرجت منه للتو ... و ما أن أغلقا الباب خلفهما حتى اسندتها كرمة الي الجدار لتقول بصرامة
( حسنا ...... أريد معرفة ما يجري و حالا ... دون إغفال اي تفصيلة )
تنهدت كرمة و هي تحك جبهتها لتقول بشرود
( أنا نفسي لا أعرف ما يجري ....... )
صمتت قليلا ثم رفعت وجهها الى كرمة و قالت بخفوت
( لكن ما أعرفه هو شيء واحد من اثنين .... إما أن سيف الدين فؤاد رضوان يدبر لمكيدة يكسرني بها .... و إما أن يكون ما هو الا مختلا تماما ..... )
عبست كرمة محاولة الإستيعاب ثم قالت من بين أسنانها
( احتفظي بخياريك لنفسك ..... و أخبريني عن صحة ما رأيت للتو ,, هل أمسك بذقنك للتو ؟!! ... )
احمر وجه وعد قليلا وهي تومىء برأسها ناظرة الى كرمة بشعور بالذنب , فقالت كرمة تستخرج الكلام منها
( و ....؟؟؟ ....... )
اخفضت وعد وجهها و هي تعض على شفتيها و هي تهمس برعب
( لقد تجاوز حده معي مرتين حتى الآن ...... آخرهما قبل أن تأتي ..... لقد قبلني على وجنتي .... )
اتسعت عينا كرمة بذهول و هي تقول هاتفة
( ماذا ؟!!! ...... كيف ؟ ؟...... هكذا من نفسه ؟!! ..... يبدو مختلا فعلا .... )
هزت وعد رأسها بارتباك و هي تهمس
( يقول أن بيننا أنجذاب ... و اننا سمنمنح هذا الإنجذاب فرصة .... )
شهقت كرمة ابتهاجا و هي تهتف همس طارقة الأرض بقدميها
( ياللهي !!! ...... لقد اسقطتِ مديرك من شهر واحد !!! ....... و أنا التي كنت أظنك ساذجة .... كيف تمكنتِ من فعلها بالله عليكِ ؟!!! ..... )
عقدت وعد حاجبيها و هي تقول بغيظ
( لم افعل شيئا ...... لم أفعل أي شيء و هذا ما يثبت أنه مختل من نوعٍ ما ..... )
قالت كرمة و قد بدأ عقلها الحالم في التخطيط لفستان الخطوبة من الآن .....
( اذن متى سيتقدم لكِ ؟......... )
نظرت وعد اليها مقطبة كمن تنظر الى مخلوق غريب ..... لقد أصاب الخلل عقل كرمة كذلك !! .... هل هي عدوى !!! ... فقالت أخيرا
( من يتقدم !!! ..... سيف الدين فؤاد رضوان ؟!! .... ابن عمتي ؟!! ..... هل نسيتِ أن بينه و بين والدي ماضٍ غير مشرف من كل النواحي و لكل الأطراف ؟!! ..... )
بهت ابتهاج كرمة قليلا و عقدت حاجبيها و هي تقول متعجبة
( نعم صحيح ...... لقد نسيت قرابته بكِ تماما في خضم الدقائق الماضية ..... بدا لي كعاشق ولهان ... )
اتسعت عينا وعد بشدة من كلمة عاشق ولهان ..... لقد اختل عقل كرمة بالفعل !! .....
قالت كرمة بحيرة
( اذن ماذا يريد منكِ ؟!....... و ما آخر هذا الإنجذاب ؟!! ....... )
قالت وعد بوجوم
( لقد سألته هذا السؤال .......... )
قالت كرمة
( و........؟؟ ...... هل يمكنك التحدث بدون أن أنتزع منك الكلام انتزاعا ..... )
قالت وعد مفكرة عابسة
( لقد تهرب من الإجابة ......و قال أنني مهمة لديه و أنني أشياء كثيرة لا أتذكر منها الكثير الآن ...... )
قالت كرمة مبهوتة
( لا أصدق هذا !!! ...... و مع ذلك , كل ما سمعته يجعلني أشك به و في نواياه ...... أنتِ في خطرٍ منه يا وعد )
عقدت وعد حاجبيها و هي تقول بخفوت
( لا أعتقد أنه من النوع الخطير ............. )
قالت كرمة بحدة
( و هل أنت مستعدة لتقبل المزيد من تجاوزاته الى أن يقرر متعطفا ماذا ستكون نهاية انجذابه بك ِ ؟!!! .... )
عبست وعد بشرود مجددا و هي تتلاعب بأصابعها ثم همست
( المرة السابقة أوقفته عند حده ....... أما هذه المرة أخذني على حين غرة .... كنت لا أزال تحت تأثير لقائي بملك و كان الدوار لا يزال ....... )
قاطعتها كرمة تقول بهدوء
( أنتِ تتلاعبين بالنار يا وعد ......... )
ازدادت وعد عبوسا و هي تقول
( و ماذا يمكنني أن أفعل إن كان الرجل مختل ؟!! ...... فليشفيه الله .... )
قالت كرمة بغيظ
( و ماذا لو تجاوز حدوده أكثر ؟!! ........ )
قالت وعد بحزم و هي تشد ظهرها
( لن يكون هناك أكثر أو أقل ..... أنا مستعدة له منذ الآن ..... )
قالت كرمة برجاء
( وهل موضوع الزواج هذا مستبعد تماما ؟؟ ........ )
نظرت اليها وعد بغيظ ثم قالت من بين أسنانها
( أنت تسألين عن شيء .مستبعد تماما ...... عدو أبي لم يعرضه علي من الأساس ..... )
سكتت قليلا ثم قالت ببرود
( و أريحي بالك ..... سيف الدين فؤاد رضوان هو آخر شخص من الممكن أن أقبل الزواج منه .... هذا إن عرضه ...... أنا لن أحرر نفسي من سيطرة رجل انتظرت سنوات طويلة حتى تخور قواه لأتمكن من التحرر منه ... لآتي بعدها و أسلم نفسي لمن هو في ريعان قوته و أمنحه السيطرة على حياتي مجددا ....
أنا لن أسلم السيطرة لأحد على حياتي مجددا .....
..... لذا ادعي الله الا يعرضه كي لا أضطر لترك العمل ..... فأنا في أمس الحاجة اليه خاصة الآن ... )
عبست كرمة و هي تقول
( أعتقد أنه من الأفضل أن تتركي العمل من الآن يا وعد طالما أنتِ ترفضيه .... هذا هو التصرف الصحيح )
عبست وعد و هي تهتف هامسة بحدة
( صحيح ؟!!! ...... ومنذ متى كان أيا ممن أعرفهم يتصرف معي تصرفا صحيحا ؟!!! ..... هذا العمل بدأ في تحقيق أولى خطواتي للهرب على الأقل ماديا ..... و أنا لن أتنازل عنه لمجرد بضع كلمات سخيفة لم أتحقق أصلا إن كانت صادقة أو هي البداية لمكيدة يريد أن يوقعنا بها ..... لكن إن كانت مكيدة فسيخيب ظنه كثيرا )
عقدت كرمة حاجبيها و هي تنظر اليها .... ثم همست
( أنا خائفة عليك يا وعد ..... إنه يبدو كشخص لا يُستحب التلاعب معه ولو من على بعد .... )
أخذت وعد نفسا عميقا و هي تقول
( لا تخافي ....... ليس الأول و لن يكون الأخير ممن أجيد وقفهم عند حدودهم .... المهم الآن .... دعي كل هذا جانبا ..... يجب أن اذهب الى ملك يا كرمة .....لن أرتاح قبل أن أتحدث معها وجها لوجه ... )
تنهدت كرمة عابسة و هي تهمس
( لكن كيف سنذهب اليوم ... و سيف الدين هذا قابعا بالخارج كشرطي المناوبة ..... )
تأوهت وعد و هي تهمس بغيظ
( أوووف .... لا أصدق هذا , لو لم أصاب بالإغماء لكنت خرجت خلفها ... أو على الأقل كنت لأذهب اليها بعد العمل ..... )
ظلت كرمة تفكر قليلا .... قبل أن تقول بهدوء
( حسنا اسمعي لما لا ندعه يقلنا الى هناك كما عرض .... بعد أن يشتري لكِ حذاء جديد .... )
نظرت اليها وعد بحنق و هي تقول
( و لماذا يشتري لي حذاء جديد ؟!! ..... أنا لن أقبل بهذا , خاصة و أننني قد تقاضيت راتبي اليوم , بإمكاني أن أشتري أي حذاء أريد ..... )
قالت كرمة بهدوء
( اذن لا مشكلة .... فلتدفعي ثمنه )
عبست وعد أكثر و هي تهتف
( و لماذا أشتري واحد ؟!! ...... حذائين في شهر واحد ؟!!! .... ربما لو انتظرت للغد فسيجده لي أحد ما )
تأففت كرمة بصوتٍ عالي و هي تهتف
( يا الله .... امنحنى الصبر ..... )
ثم نظرت اليها بحنق لتهتف غاضبة
( وعد ...... هذا ليس وقت بخل , كيف ستتمكنين من الذهاب سواء الى بيتك أو الى ملك ؟؟!! .... )
زمت وعد شفتيها بحنق .... ثم قالت أخيرا
( حسنا ..... هيا بنا , سنتصرف ..... )
هزت كرمة رأسها يأسا ثم خرجت مع وعد فوجدا سيف واقفا منتظرا , مستندا الى الجدار و يديه في جيبي بنطاله و ما أن رآهما حتى قال بصوتٍ قاتم
( و لما العجلة ؟!! ..... كان بإمكانكما البقاء للغد ..حتى كنا أخذنا نتائج التحاليل .. )
لم تستطع وعد من أن تمنع نفسها من القول بحنق
( لم يطلب أحد منك البقاء ...... )
صمتت فجأة حين قست عيناه عليها ترسلان اليها رسائل تهديد صامتة .... فأدركت حينها أنها قد تجاوزت حدها خاصة أمام كرمة .... وهو رجل لا يقبل بتجاوز الحدود معه .... هو فقط من يتجاوزها ....
فأخفضتت رأسها تزم شفتيها بحنق ....فقال بخفوت خطير
( ماذا قررتما ؟ .......... )
تطوعت كرمة للكلام بينما بقت وعد صامتة بعناد ... عاقدة حاجبيها ....
( يمكنك أن تقلنا مشكورا ....... بعد أن نشتري حذاءا مناسبا )
لم ترفع وعد رأسها اليه ,..... لكنها استطاعت الإحساس بنظرة اللإنتصار جلية تحوم فوق وجهها ....
و حين جاء صوته كان عميقا راضيا كما توقعت
( حسنا .... هيا بنا .... )
تبعته كرمة ووعد خلفه بكل وداعة ..... لكنه لم يترك الفرصة فما أن تأخر قليلا لتتجاوزاه ... حتى انحنى الى أذنها يهمس بخفوت
( بيننا حساب ....... )
ارتبكت وهي تبتعد خطوة عنه جاذبة ذراع كرمة كي تسرعان الخطا و هو يتبعهما ..... مبتسما .....
حين وصلوا الي سيارته بموقف المشفى .... دون مقدمات اتجهت وعد بحزم الي المقعد الخلفي لتفتح بابه و هي تنظر الى سيف رافعة ذقنها بتحدي اليه كي يتجرأ على الإعتراض أمام كرمة ....
و قد قبلت عيناه التحدي ..... وهو يومىء شبه إيماءة لم يراها غيرها و كأنه يهمس لأذنيها هي فقط
" انتظري عليّ ...... حسابك يزداد وزنا "
لكنها دخلت بهدوء و إباء لا يتناسب مع كونها حافية القدمين .....
بينما اتجهت كرمة الى المقعد الأمامي ذوقيا كي لا يكون بمحل سائق لهما إن هي جلست بجوار وعد بالمقعد الخلفي .....
و استمر الصمت بين ثلاثتهم بتوتر .... تمنع نفسها بالقوة من النظر الى المرآة الأمامية خوفا من أن تصطدم عيناها بعينيه ....
و لم تكد تمر عدة دقائق بعد خروجهم للطريق الرئيسي حتى توقف سيف بالسيارة أمام أول محل للأحذية مر بهم ....
نظرت كرمة نظرة ذات مغزى الى وعد في المرآة الجانبية .... فاحمر وجهها بشدة و ارتبكت ....
الا أن صوت سيف قال قاطعا
( هل ستخرجين ؟؟ ......... )
قالت وعد من بين أسنانها
( كيف سأخرج حافية في الطريق العام ..... كرمة هي من ستشتريه لي , هي تعلم مقاسي جيدا ...لا تتعب نفسك .... . )
الا أن كلامها الأخير ذهب هباءا و هي تحدث الهواء في مكانه الفارغ بعد أن نزل من السيارة بهيمنة .... تتبعه كرمة و هي تنظر اليها بعجز .... ثم لم يلبثا أن اختفيا في المحل بينما بقت وعد تتنفس بسرعة و غضب .... تتسائل عن آخر ما يفعله ذلك الشخص غريب الأطوار ....
بقت وعد عينيها على الباب ... تقضم أظافرها بتوتر ....و الدقائق تمر ببطىء ... الى أن خرجا أخيرا و كرمة تمسك بكيس أحذية أنيقة ... تعلقت به عينا وعد ....
الى أن فتحت كرمة بابها و انحنت اليها تضع الكيس بحجرها لتهمس في أذنها سريعا
( هو من اختارها و دفع ثمنها ...... دون حتى أن يسمع حرفا من اصراري .... )
فغرت وعد شفتيها و قد اشتعلت عيناها غضبا ... و أوشكت على الهتاف بحنق الا أن كرمة أسرعت بإغلاق بابها اتقاءا للفضيحة و هي تتجه سريعا الى مقعدها الأمامي بجوار سيف الذي جلس هو أيضا ......
لينطلق بالسيارة بقوة ........
كانت وعد تتنفس بحنق و دمها يغلي بعروقها من تلك السيطرة المفروضة عليها .... لكن و بعد بضع دقائق من املائها العنوان له بشفتين متيبستين من الغضب ....
كانت تتطلع من نافذتها و الهواء يتلاعب بوجهها و شعرها فيخفف قليلا من عمق حنقها ....
ثم لم تلبث أصابعها أن بدأت في تحسس الكيس اللامع .... لتخفض عينيها اليه ببطء ...... أصابعها الخائنة تتجه الى حافتيه .... تباعد بينهما قليلا ....
لون براق غشى عينيها ..... فتجرأت أصابعها على خيانةٍ أكبر .... لتندس في داخله تلامس جلدا ناعما مصقولا ..... لتقبض على قطعةٍ أكبرها قلبها أنها قطعة فنية ....
لم تلبث أن ارتكبت الخيانة العظمى حين أخرجت الحذاء ببطء .... ترى بين يديها حذاء أحمر قاني مفتوح الأصابع ذو كعب عالٍ رفيع .....
انه يشبه الحذاء الأحلام الذي تمنت شراءه قبل أن تقرر شراء حذائها الضائع ....
فغرت وعد شفتيها ببطء و عيناها تتعلقان بالحذاء عشقا ..... لا تصدق بأنه بين يديها ....
رفعت عينين شاردتين أمامها فاصدمت عيناها بعينيه في المرآة الأمامية .... لتأسرها نظراته الدوامية البراقة وهو يلتهم تعبيرات وجهها و كأنها تلقت للتو هدية العيد ....
أخفضت وعد عينيها بسرعةٍ و هي تعاود النظر الي نافذتها وقد احمر وجهها بشدة ... و من شدة ارتباكها لم تدرك أنها كانت تشدد من احتضان الحذاء الى صدرها بقوة .... تاركة أحدهم يتلوى تسلية و شوقا حاسدا ..... مجرد حذاء أحمر !! .....
وصل سيف سريعا الى مكان قرب محل الورود .... فنظرت وعد برهبة الي المكان ... بينما تولت كرمة الحديث قائلة بهدوء
( هذا هو العنوان .... شكرا جزيلا سيد سيف , لقد أتعبناك معنا .... يمكنك الإنصراف الآن و أنا سأتولى أمر أرجاع وعد الى بيتها سالمة .... )
لم يرد سيف للتو وهو يراقب ملامح وعد التي تحولت الي حزينة تحوي بعض الخوف .....
يريد أن يجذبها من رأسها اليه ليعرف الى من تتجه بمثل هذا الحزن و الرهبة .... هل هي تلك التي كانت تبحث عنها ؟؟ .....
أوشك على أن يرد .... الا أن رنين هاتفه قاطعه فجأة , لينظر الى الاسم الظاهر فعقد حاجبيه قليلا وهو يرد ....
( مرحبا مهرة ....... خير ما الأمر ؟!! .... )
ظل يستمع قليلا و حاجبيه ينعقدان أكثر ثم قال أخيرا بقلق و غضب
( كيف حدث هذا ؟!! ..... من المؤكد أنها قد حملت شيئا ثقيلا ..... دعيها تستلقي على ظهرها على الفور و امنعيها من الحركة , أنا آتي اليها الآن على الفور .... )
و ما أن أغلق هاتفه فوجىء بصوت وعد يهمس قلقا
( ماذا بها ؟!! ...... )
نظر سيف الى المرآة التي تطل بينهما .... بين عينيها و عينيه ..... دون أن يتخيل أن تترك التفكير ولو للحظة في مشوارها الهام لتسترق السمع و تسأل عنها ..... عن أمه ....
تابعت وعد حين وجدته صامتا
( إنها السيدة منيرة ...... اليس كذلك ؟؟ لقد أصابت ظهرها من جديد .... )
قال سيف بخفوت
( نعم ..... هذا ما يحدث كلما قامت بحركةٍ خاطئة ..... )
مالت عينا وعد أكثر و هي تنظر اليه في المرآة لتهمس
( اذن اذهب كي لا تتأخر عليها ....... )
حين بادلها النظر بقوة .... همست متابعة
( من فضلك .......... )
ذابت عيناه قليلا , قبل أن تستعيدا قساوتهما في لحظةٍ واحدة .... ليقول بصوت خافت
( نعم ..... يجب أن اذهب حالا ..... )
دون كلمة أخرى انحنت وعد لتدس قدميها في الحذاء الأحمر ..... و الذي بدا كحلم جميل فيهما ....
ثم خرجت مسرعة تتهادى مترنحة فوق الكعبين قبل أن تستقيم تتبعها كرمة ....و التي وقفت بجوارها تمسك بيدها .... تنظران الإثنتان الى سيف و الذي أدرك أنهما لن تتحركا الى أي مكان قبل أن يغادر كي لا يعرف وجهتهما على وجه التحديد .... و كان ليتحداهما بقوة حتى يعرف ...
الا أنه الآن يجب أن يذهب الى والدته على الفور .... فانحنى الى النافذة المقابلة للمقعد المجاور له ليقول بصلابة مخاطبا وعد
( هل ستتمكنين من العودة ؟........ )
فغرت وعد شفتيها قليلا ثم همست
( ككل يوم ...... لا تقلق ....... )
أومأ برأسه قليلا ... قبل أن تنحنى عيناه لتسرقا نظرة الى الحذاء الأحمر .... و الذي بدا أقل ما يقال عنه أنه رائعا في قدمي فتاة قديمة الطراز بفستانٍ سماوي ....
نزع سيف نفسه انتزاعا و هو يعيد تشغيل السيارة بقوة و ينطلق بها .... ناظرا في المرآة نظرة أخيرة الى صاحبة الحذاء الأحمر .... تقف بعيدا ناظرة اليه ..... الى أن اختفت عن ناظريه .....
رفعت كرمة عينيها الى السماء و هي تهتف
( الحمد لله ..... لم أظن أننا سننجح في التخلص منه ..... انه يبدو كالغراء المحلي الصنع ... لا ينتزع الا بترك بصمته ..... )
نظرت الى وعد الشاردة في نقطة اختفاء السيارة دون أن ترد عليها ... فقالت متسائلة
( وعد ..... ماذا بكِ ؟ ..... )
لم ترد وعد التي لم تسمعها من الأساس و هي شاردة في شيء واحد .....
انطلاقه بالسيارة ما أن كلمته أمه بعد أن كان فارضا نفسه بقوةٍ لا منطقية على يومها ....
لم يبدو لها في تلك اللحظة كشخص مختل ...أو غير منطقي ....
بل بدا ببساطة رجلا كان يحيا حلما لعدة لحظات .... لكن و ما أن يحين وقت استيقاظه حتى يلقي بالحلم جانبا بمنتهى الإقتدار ..... ربما الى وقت فراغ لاحق .... حين يكون متفرغا لهذا الحلم من جديد ...
إما ليعيشه لعدة لحظات ..... و إما ليتسلى به ..... أيضا عدة لحظات .....
ما بين الحلم و الواقع .... و ما بين الماضي و الحاضر .... تقبع هي عالقة مع انسان لا يعرف للمنطق عنوان .......
.................................................. .................................................. ......................
وقفت وعد أمام الباب .... تشعر بخوف مفاجىء ... فنظرت الى كرمة هامسة باسمها
فشددت كرمة على يدها تهمس
( لا تخافي .... أنا معك ...... )
تنفست بعمق ثم دفعت وعد الباب الزجاجي ... لتستقبلها نغمات اسطوانات الهواء الناعمة ... و تنبعث رائحة ورود خيالية لافحة وجهها بكل حب ... فابتسمت تلقائيا و هي تشعر و كأنها تفتح صفحة كتاب حكايات لتدخل قصة أميرة ذات ضفيرة عسلية طويلة تصل الى خصرها .....
و شاء القدر أن تكون تلك الأميرة هي أختها ..... بينما هي تصلح لأن تكون خادمة في حكاية أخرى ... ناسية أو متناسية أن الخادمة دائما في الحكايات ينتهي بها المطاف ساكنة قلب الأمير ....
دخلت وعد برقة .... و حذائها الأحمر يلامس الأرض الوردية ذات النقوش المماثلة لصفة لونها .....
لتجدها واقفة كوردة حزينة .... تستند بوجنتها الى كفها في صمت .... تلاعب هاتفها بشرود .....
اقتربت خطوة .... و أخرى .... الى أن همست من قلبها
( ملك ........ )
رفعت ملك وجهها مندهشا الى وعد ... ثم اتسعت عيناها و هي تهمس غير مصدقة
( وعد !! ..... )
ابتسمت وعد أكثر و هي تحارب ظهور الدموع بعينيها ..... لتهمس قائلة
( نعم وعد ..... هل ظننتِ أن أترك اليوم يمر دون أن أراكِ ؟؟ !!...... )
نظرت ملك الى وعد مليا .... ثم الى كرمة خلفها ..و التي كانت مبتسمة و عيناها دامعتان ... تهمس باسمها هي الأخرى ..... لا تصدق أنها استوت عروسا شابة بهذا الشكل الخلاب
نظرت ملك بطرفِ عينيها الي السيدة ليلى التي كانت تراقبهما باهتمام .... فارتبكت قليلا ثم اتجهت بخطوات متعثرة اليها وقالت بخفوت
( سيدة ليلى ..... هاتان قريبتان لي .... أتيتا اليوم .... من .... من سفرٍ بعيد .... هل يمكنني أن أصعد بهما الى غرفتي لفترة ... )
نظرت السيدة ليلى من فوق نظارتها الأنيقة الي وعد و كرمة طويلا و كأنها تتحقق منهما و لو أمكنها لكانت طلبت منهما بطاقتي هويتهما قبل صعودهما الى غرفة ملك معها بمفردها ...
لكنها اضطرت للقول أخيرا ...
( حسنا يا ملك ..... اصعدن و خذن راحتكن .... و لا تقلقي للمكان ... )
ثم نظرت الى كرمة ووعد و قالت مبتسمة
( مرحبا بكما ........ )
ابتسمت لها كل من وعد و كرمة .... فهمست ملك بخفوت
( هيا .... تفضلا ......... )
ثم تحركت أمامهما .... دون أن تنظر للخلف .....
وصلت ملك الى باب خشبي أعلى الxxxx .... ففتحته ثم وقفت جانبا و هي تمد يدها قائلة
( تفضلا ........... )
دخلت وعد برهبة تتبعها كرمة .....
الى غرفة جملية كجمال صاحبتها على الرغم من بساطتها .... حيث كانت الألوان الدافئة و المبهجة تشع من كل مكانٍ فيها ....
سرير خشبي رفيع ... عليه وسائد ملونة و مفرش يماثله ألوانا و زخرفة بالأحمر و الوردي و البرتقالي ....
و عدة أرفف متشققة .... تراصت عليها الكثير من الكتب ... و معظمها روايات عن الحب ...
حتى النافذة الصغيرة .... كانت تتدلى من اطارها العلوي عدة خيوط ... كلا منهم تضم مجموعة من الخرز الزجاجي الملون بنفس ألوان الورود المبهجة .....
و البساط !!!! .....
ابتسمت وعد بمحبة و هي تخطو عليه و قلبها يمنعها .... فالبساط كان عبارة عن وردة ملونة مقصوص حوافها لتصبح مستديرة بأوراقها ... و في قلبها وجه أصفر ضاحك !!! ....
ضحكت وعد لضحكة البساط ..... و هي تقاوم دموعها بالقوة ....
الا أن ملك سحبت كرسي قديم لكرمة و هي تهمس
( تفضلي ......... )
ابتسمت كرمة دامعة العينين و هي تقول
( ملك .... هل تتذكرينني ؟؟ ..... أنا ..... )
قاطعتها ملك مبتسمة و هي تهمس
( نعم أتذكرك ..... كيف حالك يا كرمة .... )
اتسعت عينا كرمة و هي تقول
( ياللهى لا أصدق أنك تتذكرينني ......... )
همست ملك بخفوت
( أنا أمتلك ذاكرة قوية للوجوه ..... كما أنك تركتِ الدار في وقتٍ أطول قليلا من ...... )
لم تستطع المتابعة ... فأخذتها كرمة بين أحضانها لتطبع قبلة عفوية قوية على وجنتها مما أشعل قلب وعد غيرة و لهفة الى مثل هذا العناق .... لكنها أرغمت نفسها على الثبات الى أن تندفع اليها ملك بنفسها
نظرت ملك الى وعد التي كانت لا تزال واقفة مكانها فأشارت الى السرير و هي تقول بأدب و خفوت
( تفضلي اجلسي ..... للأسف , ليس لدي غير كرسي واحد .... )
ابتسمت وعد بغصة في حلقها و هي تهمس
( لا بأس ....... لكن تعالي و اجلسي قربي ....... )
جلست ملك بهدوء بجوارها و يديها متشابكتين في حجرها .. بينما كانت وعد تروي نظراتها منها مليا , ثم همست برقة
( غرفتك جميلة جدا ..... )
ابتسمت ملك و هي تهمس
( شكرا لك ........ و حذائك جميل أيضا ..... )
نظرت وعد الى الحذاء الأحمر و كانت قد نسيته .... فابتسمت مجددا لتقول
( كان ليليق عليك أكثر ..... ما رأيك أن آخذ أحد أحذيتك و أبادلها به ؟؟ .... )
عبست ملك و هي تقول بوجهٍ محمر
( لا .... لا .... لم أقصد هذا ..... كنت فقط .... )
ضحكت وعد من بين دموعها الحبيسة و هي تهمس
( كنت أمازحك فقط .... اخبريني عن حياتك , أريد أن أعرف كل شيء عنكِ مهما كان صغيرا ... )
نظرت ملك بتردد الى أنحاء الغرفة و هي تهمس
( هذه هي كل حياتي ..... الغرفة و محل الورود .... لقد أكملت تعليمي بفضل الدار الذي انتقلت اليه , كان مميزا للغاية .... يشرف عليه مجموعة من المقتدرين ... فتعلمت تعليم فندقي .....و تدبرت صديقة لي العمل هنا في هذا الxxxx بالإضافة لتوفير تلك الغرفة ..... )
نظرت وعد معها الى أرجاء المكان و قلبها ينبض شوقا لمكان مثله .... لان تكون لها ولو غرفة واحدة لكن خاصة بها وحدها .... و كم تتمنى لو تترك حياتها و تأتي لتعيش هنا مع ملك
لكن من الواضح أن الطريق لذلك قد يكون طويل جدا ان لم يكن مستحيلا .... فملك تعاملها كغريبة تماما ....
تابعت ملك بخفوت و هي تنظر الي يديها
( أنا أقضي عالمي ما بين الكتب و العالم الافتراضي ... و ما بين الورود .... هذا هو ملخص حياتي ... و لقد قدر الله لي وقوف الكثير من البشر لمساعدتي ..... )
"لكنها لم تكن أحدهم ".... فكرت وعد بحسرة
لذلك تبدو وكأنها تحمل بداخلها عتاب لها .... و من يلومها بعد الطريقة التي أخذوها فيها تاركة طفلة صغيرة متعلقة بها أكثر من أمها .....
ابتلعت وعد غصة مسننة مؤلمة و هي تهمس بتحشرج مبتسمة ...
( تلك الباقة جميلة جدا ...... لكنها ذابلة , لا أظنك ممن لا يهتمون بالورود بعد اقتنائها .... )
نظرت ملك الى حيث تشير وعد الى الباقة الجميلة الذابلة بانكسار .... قابعة بإغماء فوق الطاولة تعلن احتضارها قبل أن تسعد قلب من جائت اليها ....
فهمست ملك بشرود
( كانت لشخص آخر ..... لم تكن لي , و الآن آن أوان رحيلها ...... أحيانا بعض الاشياء لا تستحق المحاربة لإحيائها .... )
عقدت وعد حاجبيها قليلا .... ثم همست برجاء و هي تقترب من ملك تمسك بيديها القابعتين في حجرها
( قلت أنكِ تمتلكين ذاكرة قوية للوجوه .... الا تتذكرينني .... أنظري الى عيني .... كان والدك دائما يقول مهما تغير شكل الانسان من مولده الى مماته .... تبقى عيناه هما نفسهما .... )
ابتسمت ملك قليلا و هي تحاول عبثا تذكر شكل والدها .... ثم همست
( بالطبع أتذكر يا وعد ........... )
قالت وعد برجاء أكبر و هي تقبض على كفيها
( اذن تصدقين أنني وعد ؟؟......... )
ابتسمت ملك و هي تنظر الي عينيها لتقول بمودة
( طبعا ...... و الا لما كنت أتيت اليك بنفسي .... )
همست وعد بحرارة
( اذن لماذا تعاملينني كغريبة ؟........... )
هتفت ملك قائلة
( أنا لا ................ )
سكتت ملك قليلا .... ثم أخفضت رأسها لتهمس
( الأمر فقط ..... أن شكلك تغير , و أنا أحمل بداخلي صورة .... ظللت مرتبطة بها طوال تلك السنوات .... وعد الصغيرة .... أنا أعيش معها .... أكلمها و تكلمني ... تضفر لي شعري و تسمع شكواي ليلا .... انها على ما يبدو كانت صديقة وهمية ..... على الرغم من أنني كنت أتخيل رجوعك بنفس الصورة ....
لكن الآن ..... اشعر أنني فقدت الأمل في العثور على تلك الصورة القديمة ....... و التي بقيت أناديها أياما و ليالي ..... أشعر أن ذلك الجزء المكسور مني لن يشفى بعد الآن ..... )
سكتت قليلا ثم رفعت عينيها الى وعد هامسة بغصة
( لقد اشتقت اليها ....... أنا حتى لا أتذكر الكثير مما تلى تلك الأيام , الى أن انتقلت الى دار آخر .... أرغب حتى الآن في عودتها ..... اشتاق اليها جدا ..... )
شهقت وعد شهقة مختنقة ..... لتهمس بقوة
( و كيف أجعلك تستعيدينها ؟ ...... أخربيني رجاءا .... )
ربتت ملك على كفها و هي تهمس و قد بدأت عينيها في تجميع الدموع
( لا بأس ....... أنا ..... أنا سعيدة جدا .... صدقيني .... أنا سعيدة جدا بالتعرف اليكِ .... من جديد .... )
انسابت الدموع من عيني وعد ... لكنها أومأت و هي تهمس بصوت يثير الشفقة
( هل يمكنني أن ...... أحادثك من وقت لآخر .... و أراك من وقت لآخر ...... )
هتفت ملك بحرارة
( طبعا ....... و إن لم تفعلي فسآتي اليكِ بنفسي ...... )
أومأت وعد بعينيها و هي تنهض واقفة لتقول بصوت مختنق
( يجب أن نذهب الآن ........ لقد أخرت كرمة معي جدا و قد يأتي زوجها في أي لحظة .... )
قالت ملك مبتسمة بسعادة
( هل تزوجتِ يا كرمة ؟؟....... و كم طفلا لديكِ ؟؟؟ ........ )
شحبت ملامح كرمة على الفور و نفر الحزن من عينيها الا أنها ابتسمت قائلة برقة و اختصار
( لم يأذن الله بعد ............ )
أمسكت وعد بكف كرمة و هي تقول بخفوت
( سنغادر الآن يا ملك ........ و سأحادثك كلما حصلت على هاتف , لأن الهاتف الذي حادثتك منه لم يكن هاتفي ........ )
أومأت ملك ببطىء و هي تنظر اليهما تغادران .... لكن و قبل أن تخرج وعد استدارت الى ملك و هي تشهق باكية
( لا أستطيع ....... لابد أن أفعل ذلك ..... )
ثم جرت اليها لتعتصرها بين ذراعيها بقوة و هي تتنشق رائحة شعرها و دموعها تبلل عنق ملك بغزارة ... التي اجفلت لفترة .... قبل أن تحاوطها بذراعيها .... محاولة التعرف الى رائحتها الخاصة من جديد ....
هامسة في موجات شعر وعد
( لقد اشتقت اليك ........... )
شهقت وعد مرة أخرى ترتجف بشدة بين ذراعي ملك و هي تهمس باختناق
( أما أنا ..... فالشوق لا يماثل ذلك الشعور حين يفقد الإنسان جزءا منه ........ )
.................................................. .................................................. ......................
وصل سيف مسرعا الى غرفة أمه ... و ما أن دخل حتى وجدها على الحال الذي يصيبها من آن لآخر ....
مستلقية على ظهرها ...فوق ألواح السرير و قد استبدلت فراشه الوثير بمجرد بساط سميك كي تبقى مستقيمة قدر الإمكان .....
تنهد سيف بأسى وهو يقترب منها ليجلس على حافة السرير ممسكا بكفها بينما هي تبتسم له بتعب ... فقال بحنق
( و الآن كيف تمكنتِ من إصابة نفسك مجددا ؟....... أي حركةٍ خاطئة فعلتِها ؟؟ ...... )
ابتسمت بتفكير عميق رغم الألم و هي تقول
( صدقني لا أعلم أي الحركات كانت هي الخاطئة ..... كل ما أعلمه أنني سمعت طقطقة ... لأجد ظهري قد توقف عن العمل بعدها تماما ...... )
قال سيف بخشونة و هو يتحسس كفها ...
( سأستدعي الطبيب حالا ........ لماذا لم يستدعيه أحدا حتى الآن ؟!! ...... )
الا أنها تشبثت بكفه و هي تهمس باعتراض
( لا أريده و أنا من طلبت ذلك ..... لن يكون أمامه الا ما يقوله كل مرة وهو اجراء الجراحة و هذا أمر مرفوض تماما ..... )
قال سيف بحنق بالغ
( و لما لا تجرينها يا أمي .... أنها مجرد تعديل في وضع الفقرات ... و هي تتم كل يوم .... )
عبست أمه و هي تقول
( لا أطيق لفظ الجراحة مطلقا يا سيف .......... )
ثم ابتسمت لتقول مغيرة الموضوع
( اترك هذا الموضوع الآن ...... أترى أن مهرة قد انتهزت الفرصة لتهاتفك بالرغم من عدم وجود ما يستحق حضورك على وجه السرعة ؟؟ ...... بعد أيام طويلة من البكاء و مقاطعتك .... تنتهز الفرصة الأولى كي تحادثك ..... لماذا تقسو عليها بهذا الشكل يا سيف .؟؟ .... )
تنهد سيف بغضب وهو يقول
( إن دلالها بدأ يفوق الحد ..... و أنا لم أعتد على منح مثل هذا الدلال لأحد .... )
قالت أمه عاتبة
( لكن هذه المرة لم يكن دلالا ..... الحق كان معها في الغضب منك .... )
نظر سيف الى أمه ليقول حانقا
( معها حق ؟ !!! ..... بعد كل ما أفعله !! .... حسنا لا بأس ..... أريد فقط أن أخبرك بأنني تدبرت أمر الشقة لها .... و ستكون مدفوعة الثمن ليسدده حسام وقت أن يستطيع .... )
عبست منيرة قليلا قبل أن تقول
( وما المشكلة في أن تقطن مع والدته مؤقتا يا سيف .... ليس ذنبه أن خُدع في شقته التي كان من المفترض أن يستلمها .... و طالما أنه لن يستطيع توريط نفسه بثمن شقة جديدة , فلما لا تسكن مع أسرته في البداية ..... المسكينة أمضت أياما و أياما تبكي بعد أن خرج حسام من هنا مكسور الخاطر ..... )
قست ملامح سيف أكثر وهو يقول بصوت قاطع
( أختي لن تسكن مع أحد ..... هذا أمر يجلب المشاكل منذ البداية , و أخت سيف الدين رضوان لا ينقصها شيء كي لا تحصل على سكن خاص .... )
عبست أمه قليلا من انفعاله ثم قالت بجهد
( و ماذا لو لم يرتضيها لنفسه ..... أن تشتري له سكن خاص , خطيب أختك حساس من تلك الأمور للغاية )
قال سيف بصوت لا يقبل الجدل
( هذا هو ما عندي .... وإن كان يريد أختي بحق فليثبت ذلك و يتنازل .... ثم أنني سأبحث معه أمر تسديدها كي يرضي كرامته ..... )
ظلت أمه تنظر الي عينيه القاسيتين طويلا ... ثم همست أخيرا
( منذ حداثة سنك و أنت تأخذ ما تريد قبل حتى أن تفكر ..... دائما كنت تتهور لتأخذ ما تريد ثم تفكر لاحقا ..... )
نظر اليها سيف بعتب ., الا أنها تابعت
( لا يهم إن كان ما تريده يناسب من حولك أم لا .... المهم أنك قررت ما تريده و ما تراه الأصلح ....أتتذكر حين سطوت على شقة خ .... خا.... خالك ؟؟ ...... لم تفكر بي و بشقيقتيك , فقد قررت و تصرفت كي تنال حقك .... لقد غضبت منك وقتها اكثر من غضبي ..... منه ... )
أخفضت عينيها أمام اشتعال عينيه المخيفتين , فقال بصوت شرس
( و لماذا هذه الذكرى الآن ؟...... )
صمتت قليلا ... ثم همست
( أنت دائما تأخذ ما تريد .... و هذا ما يقلقني عليك )
ربت على كفها ليقول بخفوت
( و ما المقلق في ذلك ؟؟ ...... أنسيت الأيام التي عشناها من قبل , لقد أقسمت ما أن اشتد عودي قليلا , أن أنال كل ما أريده و كل ما تحتجنه في هذه الحياة ما دمت أستطيع ..... )
صمت قليلا وهو يشرد بعيدا .... ليقول بصوتٍ خطير
( يبدو أنكِ قد نسيت بالفعل يا أمي ..... نسيت الى أين أوصلك الخضوع , ... من أجباره لكِ على طلب الطلاق من والدي .... ثم أرغامك على الزواج من غيره .... نازعا اياك مني بالقوة أنا وورد .... لو كنت وقتها لدي القدرة لفعل ما أريد , لما كان حدث ما حدث .... )
صرخت أمه فجأة
( لم تكن .... حتى و لو امتلكت قوة العالم كله .... لم أفعل ذلك مرغمة ... لقد فعلته بملىء ارادتي خوفا على والدك ..... )
ابتسم سيف بسخرية مريرة وهو يقول
( اليس هذا ارغاما ؟!!! ........ لو كنت تعلمين احساسي و قتها و أنا أعرف بأنك ببيت رجل غريب غير والدي ...... لكنتِ عذرتني حين قررت انتزاع ميراثك المسلوب منه انتزاعا حين مرض والدي ..... )
لم تشعر بأن الدموع انسابت على وجهها بصمت و هي تهمس
( و هل نجحت ؟؟ ..... أم أنك لم تنجح سوى نحر قلبي عليك بعد والدك ...... )
تنهد سيف بقوة وهو يضغط بين عينيه بقوة .... و يقول بصوت مكبوت ثائر
( كفى يا أمي ..... أنا لا أطيق هذا الحديث )
صمتت منيرة قليلا .... تود قول شيء ما بتردد , و ما أن وجدت الشجاعة حتى همست
( سيف ...... لقد سامحني والدك .... بعد أن ردني اليه ..... )
عاد سيف ليتنهد مجددا ثم قال بخفوت قاس
( بالطبع سامحك ..... أذكر جيدا أن عيناه كانت تشتعلان حبا بك حتى آخر يوم في حياته ..... )
ابتلعت ريقها ثم همست
( لكن لو كنت مكانه لما سامحتني أبدا ...... أنت لا تسامح بسهولة ..... )
انحنى اليها ليقبل جبهتها بعد صراع عنيف ... ثم همس لها
( أعرف أنكِ كنت مرغمة يا أمي ...... لذلك أكره هذا الشعور ......انسي هذه الأيام , فقط انسيها .... أنا نفسي قد نسيتها .... )
نظرت أمه اليه بشكٍ قابع في العينين الحمراوين منذ سنوات .... ثم همست
( هل نسيتها حقا ....... )
رد عليها و عينه في عينيها يقول بخفوت قوي لا يقبل الجدال
( حقا .......... )
ظلت أمه تنظر اليه طويلا الى أن همست أخيرا
( عدني الا تكسر قلبي مجددا خوفا عليك ...... ... )
ظل سيف ينظر الي عينيها ثم قال بهدوء
( لكِ وعدي ................ )
لكنها على الرغم من ذلك لم تشعر بالإرتياح الذي كانت تنشده
خرج سيف من غرفة أمه بملامح غير مقروئة ... فوجد مهرة أمامه تسير بملامح حزينة ... فقال لها بصرامة
( هاتفي خطيبك و حددي معه موعد كي يأتي لزيارتنا ...... )
اتسعت عيناها و هي تنظر اليه بقلق و صدمة ثم قالت بخوف
( لماذا ؟؟ ..... على ماذا تنتوي ؟؟ ..... )
رد عليها بخشونة و هو ينزل السلم دون أن ينظر اليها
( الا تريدين أن نحل مشكلة السكن ؟!! ...... اذن هاتفيه و اخرجي نفسك من الأمر بدون مطرود .... )
هتفت مهرة بابتهاج لم تشعر به من أيام
( حاضر .... حاضر ....حاضر ..... )
لكن ما أن استدارت خطوة .... حتى فقدت القدرة على المقاومة و هي تعاود الاستدارة و هي تنزل السلالم جريا حتى وصلت اليه لتقفز على ظهره متعلقة بعنقه و هي تهتف
( شكرا ..... شكرا .... شكرا ..... )
مد ذراعه خلف ظهره كي يحمل ثقلها ثم قال بخشونة
( الآن ابتهجت يا ناكرة الجميل .... يا صاحبة مصلحتك )
اخذت تقبل وجنته و هي تقول
( اشتقت اليك جدا ..... لن اخاصمك ابدا مجددا .... ابدا ... ابدا ... ابدا )
ابتسم سيف قليلا .... ثم انزلها ليقول وهو يتابع سيره
( أخشى أن تستبدلينا ذات يوم بحبيب القلب ....... .. )
هتفت من خلف ظهره بمرح
( إن فعلتها أنت ذات يوم ....... قد أفعلها أنا حينها ..... )
لم يرد سيف حينها و هو يتابع سيره مبتعدا ......
مرت أيام طويلة ....... ووجودها يترسخ أكثر..... أصبح يومه لا يبدأ الا بقهوتها
عينيها و قهوتها يبهجان صباحه ....... خاصة و أن عينيها بدأتا في التلاعب بمرح في بعض الأوقات ...... بعكس اليوم الأول الذي وصلت فيه الى هنا .......
ما أن سمع طرقتها حتى رسم العبوس على وجهه الى أن فتحت الباب و دخلت حاملة قهوته الصباحية ....... حينها تحول عبوسه الى حقيقي وهو يراها الفستان الجديد الذي خلق للنور
اقتربت تتهادى في ثوب صدره من قماش مطبع بالورود الوردية و البرتقالية ، بكمين قصيرين بينما تنورته تنحدر من قماش شيفون كريمي هفهاف يزيدها أنوثة و رقة فوق عذوبة و جمال
أما شعرها فقد التزمت بربطه بأدب ...... انتظر الى أن وضعت القهوة و هي تهمس بمودة
( صباح الخير .........)
أزداد عبوسه و هو يراها تستدير ببساطة لتغادر ، فما كان منه الا أن ناداها بخشونة
( لو خرجت من هنا الآن فلا أضمن ردة فعلي ........ )
استدارت تنظر اليه ببراءة و هي تسأل
(...........!! عفوا)
انعقد حاجبيه بشدة وهو يشير اليها باصبعيه آمرا
( اقتربي ......................)
عبست قليلا الا أنها اقتربت منه ببطء فوق البساط الى أن عادت اليه مجددا تهمس بأدب
( تحت أمرك ..................)
نهض من مكانه ببطء الى أن استند الي حافة المكتب أمامها كما فعل من قبل وهو يلتهمها بنظراته ..... قبل أن يقول بخشونة
( تلك الرسمية ستكون السبب في خلع رقبتك يوما ما ........)
لم تشأ أن يرهبها فقالت بحزم
(الرسمية مطلوبة.......... سيد سيف )
قال سيف عابسا
( ليس حين نكون وحدنا ..............)
قالت وعد ببراءة
( آهااااا .......... تماما مثل شعري المطلق ...... لقد نسيت )
أمسك بذراعها يجذبها اليه وهو يقول بخشونة جادة ردا على سخريتها
(بطريقتي اذن لا تنسي مجددا .......... كي لا أضطر لتذكيرك)
جذبت وعد ذراعها منه و هي تقفز للخلف خطوة قائلة بقوة
( إن لم تكن تريد شيئا آخر .... فسأنصرف الي عملي سيد سيف )
أمال رأسه قليلا ... ثم ابتسم و هو يتأملها ليقول بخفوت
( نعم أريد ........... )
أحمر وجهها لكنها لم تجرؤ على سؤاله عما يريده .... فهي متأكدة من أن الجواب سيصدمها ,,,, هذا إن كان الجواب مجرد قولا ......
لكن سيف لم يرحمها وهو يسألها ببراءة
( لم تسأليني عما أريده ........ )
ظلت تنظر اليه بعينيها الواسعتين المتشككتين بطبيعتهما .... و آآآآه كم يود لو يستبدل شكهما باليقين في نواياه الخبيثة ...... فابتسم لبعض تلك النوايا ....
حينها راقب أجمل الصور في احمرار وجنتيها و هي تسبل جفنيها و تخفض وجهها قليلا ....
انه يراقصها بعينيه و هي تستجيب له ببراءة ......
و كم يعجبه ذلك .......
انخفضت عيناه ...... الى صدر فستانها البذيء في جذب الأنظار اليه بلا خجل .... حيث الورود تتنافس في بروزها تجاه المفتونين بها .....
انفعال قوي ما بين الرغبة و الغضب يجتاحانه حاليا و هو يرى أعلى الفستان المحكم من حولها مظهرا روعة قوامها ..... و ذراعيها مرمريتين تحيطان بالصورة كإطار ليس أجمل منه إطار .....
أفاق من شروده على صوت تأفف عالٍ ... فرفع رأسه اليها ليجد أن الإحمرار قد تحول للون القرمزي و هي تراقب نظراته الجريئة ..... و ما أن قابل عينيها الغاضبتين حتى قال ببساطة
( هل ضايقتك ؟؟ .......... )
وضعت الصينية أمامها .... درعها الملازم لها كلما دخلت اليه .... ثم قالت بغيظ
( ماذا تظن ؟؟ ......... )
قال لها بجدية
( كما سيضايقك كل من ينظر اليكِ ...... )
ارتفع حاجبيها قليلا ... لكنها قالت بهدوء
( هل لديكِ ملاحظة جديدة على ملابسي ؟؟ ...... )
قال بخشونة
( سبق و نبهتك الى ذراعيك المكشوفين ......... و الآن تتحديني بهما من جديد بخلاف الفستان الشديد ال .... )
صمت قليلا صمت ذو مغزى .... بينما هي تنظر اليه رافعة حاجبيها .... ليتابع ببساطة
( الضيق ....... )
الفستان لم يكن ضيق الا في أعلاه فقط .... مما جعلها تتميز غضبا متحققة من جرأة نظراته السابقة وهي تقول بحنق بينما وجهها يكاد أن يتفجر بألوانه
( الفستان عادي جدا بالمقارنة لما ترتديه باقي الموظفات هنا ..... أنا الف بينهن كل يوم و أراقب ملابسهن التي تفوق ما أرتديه بمراحل و اتسائل ان كنت قد وجهت اليهن نفس الملاحظة .... )
قال سيف بمنتهى الهدوء وهو ينظر الي عينيها
( باقي الموظفات لا يخصونني بشيء ....... )
ألجمها كلامه كما يفعل دائما .... فتنهدت بصمت و هي تخفض وجهها ... الحقيقة أن كلامه يرضي أنوثتها بشدة .... سواء كان خادعا أو نيته تجاهها غير سليمة ...أو كان يتكلم بجدية و مشاعره صادقة ....
لكنها لا تستطيع أن تنكر ذلك الإحساس بالرضا الأنثوي الذي يدغدغها ......
انه ماهر جدا فيما يفعل ..... لذا فعلى الأرجح هو يتلاعب بها ...
كانت شاردة تماما و كان هو يراقب شرودها مبتسما ..... أنه يزلزل تفكيرها وهو يعلم ذلك ....
بهتت ابتسامته قليلا ..... وهو يتذكر كلام الطبيب بعد أن استلم نتيجة فحوصها ....
انها ضعيفة و جسدها ليس في حال جيدة ... انها تتجه ناحية الهزال بسرعة الريح .... و مؤشراتها الحيوية تنخفض .....
لا يزال التحذير من أن يؤثر الأمر على القلب لو تطور يرن في أذنه .....
حتى أنه قد طلب منه أن يجري لها رسم قلب .... لكنه لم يخبرها حتى الآن .... و لا ينوى أن يطلب الإذن منها ... بل ستفعله رغما عنها لو لزم الأمر .....
احساسه بأنها مريضة ... و قد تزداد مرضا يجعله يشعر بطعم المعدن الصدىء في فمه .....
نظر اليها حين تكلمت فجأة بخفوت
( سيد سيف ........... )
فرد عليها حين وجدها صامتة
( نعم يا سيدة وعد ....... )
مطت شفتيها لتضحك قليلا ضحكة أفلتت منها .... و هي تدير وجهها عنه قليلا , ثم همست بهدوء
( أنا لا أخص أحد ....... )
رد سيف مبتسما
( بلى يا سيدة وعد ...... )
هزت رأسها نفيا و كأنها تتعامل مع شخص مجاز له بشهادة يعامل معاملة الأطفال و هي تهمس بعطف
( لا .......... )
ابتسم أكثر و هو يهمس
( بلى ........)
تنهدت و قد بدأ الغضب أن يستبد بها .....حوار كل يوم ....انه يعيش حالة نكران للواقع الرهيب بينهما .... من حيث الماضي و من حيث الحياة الاجتماعية .....
يستفزها كل يوم ثم يبدأ معها بعض الحديث البسيط ..... اللطيف ... .. أحيانا يخدعها حدسها و يخبرها أن هذه المحادثات الصباحية أصبحت تعني له شيئا ما ......
لذا لا ضرر منها ..... لكنها تعود و تنهر غبائها بقوة ....
أفاقت من تفكيرها على صوته يسألها بمودة .....
( هل هي الخياطة الخاصة بك هي من فصلت لك هذا الفستان أيضا ؟...... )
أمومأت ثم قال بغيظ
( هل أنتِ الزبونة الوحيدة عندها ؟ ...... لا أتعجب ذلك نظرا للأزياء التي تنتقيها .... و لا أعجب أن صادفت اعجابا لديكِ .....فأنتِ حالة من ال ......)
صمت متقصدا وهو يتأملها .... فرفعت حاجبيها بتحدي و هي تمد ساقها واقفة وقفة التحدي الكبرى ..... احدى كفيها في خصرها ..... و الأخرى ممسكة بالصينية...و التي تبدو و كأنها تهدد بأن تطير كالطبق الطائر لتنزع رأس أحدهم .....
بينما هذا الأحدهم كان ينظر اليها مفتونا بوقفتها .... التي يجب أن ينحت لها تمثالا و يوضع في ميدان الزهور
تمثال " وعد و الصينية " ......
قال سيف بخفوت مبتسما
( حالة من الماضي ....... )
خفتت ملامح التحدي قليلا و هي تستمع الى صوته ..... فقالت بخفوت هي الأخرى
( عامة لقد تلقت عدة زبائن من شركتك ...... لقد عرضت على أحدى الموظفات سمعتها بالصدفة أنها تريد تنورة من شكل خاص ..... أن أوصي لها بالتنورة .... فإن لم تعجبها لن تتلقى خياطتي ثمنا لها .... و إن أعجبتها فستفصل عندها شيء آخر ...... )
رفع سيف حاجبيه مندهشا .... ثم قال
( أنتِ تستغلين العمل هنا من أجل منفعة صديقاتك ....... مرة الخياطة ... و مرة صديقتك التائهة )
ارتجفت ملامح وعد قليلا .... ثم ظهر عليها التردد , قبل أن تحسم أمرها قائلة بغير ترتيب
( كنت أريد ..... كنت أريد أن أسألك عن ..... السيد .... رامي ..... هل .... لأنه ينظر الي وكأن ..... )
قاطعها سيف بصوتٍ صلب و ملامح أشد صلابة
( لقد أفهمته ما هو واضح ......... )
عقدت حاجبيها و هي تريد أن تسأله عما هو واضح .... الا أن نظرة عينيه أوقفت السؤال في حلقها ...
أومأت وعد بغباء .... دون أن تركز على أن هذا يعد استسلاما جديدا بالنسبة له ....
و بعد عدة لحظات قال سيف بخفوت
( هل تتناولين أدويتك ؟؟ .......... )
عقدت وعد حاجبيها و هي تقول بصوت متذمر
( أنا لا أتناول أي أدوية عادة ......... لا أحب الأدوية )
قال سيف قاطعا بصرامة
( و مع ذلك ستأخذين الأدوية التي جلبتها لكِ ....... و سأتحقق من ذلك من نتيجة الفحوص المقبلة )
قالت بحدة الأطفال
( لن أذهب .......... )
رد سيف ببساطة ( سنرى ......... )
مد سيف يده ثم قال لها بلهجة أمر
( هاتي يدك ............ )
عقدت وعد حاجبيها بحذر لتقول متوجسة
( لا ....... لماذا ؟؟ .... )
لكنه لم يرد .... بل ظل فاردا يده منتظرا يدها أن تأتيه و عينيه صارمتين .... رفعت وعد يدها البيضاء الصغيرة لتضعها في يده .... فأطبق عليها للحظات ثم جذبها اليه خطوتين حتى باتت قربه .... فاحمر وجهها أكثر ....
لكن سيف فتح كفها و هو يمر بإصبعه ببطىء على باطن كفها كمن يقرأ لها المستقبل .... ارتجفت وعد .... لكنه قال بهدوء
( انظري الى هذا الكف ..... انه أبيض للغاية .... دون أي خطوط حمراء ..... و هذا دليل الخطر )
ابتلعت وعد ريقها لتقول بخفوت
( و ربما كان دليل العمر القصير ....... فانا أعرف أن هذه الخطوط هي خطوط العمر ... )
قال سيف بلهجة صارمة
( اصمتي يا جاهلة ........ )
الا أن كلامها أشعره بشيء يقبض صدره ..... لكنه تابع بهدوء وهو يقلب كفها ليمر على أظافرها المعقوفة قائلا
( و هذه الأظافر المعقوفة ......... دليل الخطر كذلك .... )
همست وعد
( سأنتزعها ........ او أطليها باللون الأحمر )
قال سيف بهدوء
( في حالة الخيار الأول فسأنتزع لسانك المتحاذق .... أما في حالة الخيار الثاني فأنا من سأنتزع أظافرك الحمراء إن جئت العمل بها ..... )
لم تستطع كبت ابتسامة .... بينما كان وجهه جادا تماما وهو يترك يدها لينظر الي عينيها باهتمام ليقول بجدية
( و عيناكِ .......... )
همست وعد
( ماذا بهما عيناي ؟!!! ....... )
رفع سيف كفيه فجأة ليغطي بهما عينيها ..... أصابعه الخشنة تلامس جمال و نعومة وجهها .... لكنها لم تلحظ اهتزاز أنفاسه .... و هي ساكنة برهبة , الى أن ابعد كفيه عن عينيها فجأة ... فرفرت فجفنيها الى أن فتحتهما متسعتين ..... فعاد ليغطي عينيها مجددا و انتظر لحظتين ... ثم أبعدهما ... لترفرف بجفنيها ثم تتسع عيناها كبدرين
كم هي جميلة تلك الرفرفة التي تنتهي بظهور القمر ..... نظر اليها و هي تهمس
( ماذا بهما عيناي ؟!! ...... )
نظر سيف متأملا وجهها مليا .... ثم همس بصوتٍ أجش
( بديعتي الجمال ......... )
شهقت وعد و هي تقفز بعيدا عنه ..... لتدور يمينا ثم تعود يسارا جريا الي الباب , لكن و قبل أن تفتحه ناداها سيف بهدوء
( وعد ......... )
استدارت اليه بوجهٍ احمر غاضب ... فقال بهدوء
( لا ترتدي هذا الفستان في العمل مجددا ......... لكن احتفظي به , قد يكون ذا نفعٍ يوما ما )
همهمت وعد غاضبة بقسوة ثم خرجت صافقة الباب خلفها .... بينما ضحك سيف بانفعال يلائم ذلك الذي يجيش في صدره ......
.................................................. .................................................. .....................
انحنت وعد على القماش الحريري المفرود فوق طاولة الطعام العتيقة .... و هي تمسك بالمقص في يدها لتفتحه و هي تهمس برهبة القص الأولى مغمضة عينيها
( بسم الله........ )
دائما لحظة قص القماش بالنسبة لها تمثل رهبة .... فهي تعرف أنها اللحظة القاطعة ...
التي ما أن تخطوها ... فلن تستطيع العودة الى الوراء مجددا .....
لذلك ستظل تلك اللحظة تحمل لديها شعور المغامرة مرتبطا بشعور الرهبة ......
ذلك الفستان ستراهن عليه .... القماش من الحرير المنسوج بخيطين أحدهما ذهبي و الآخر وردي أقرب للبنفسجي الفاتح ..... لذا فإن القماش في الضوء يعطي طيفين مختلفين ....
لقد نزلت بنفسها لإنتقاء القماش .....
انه فستان خطوبة داليا .... مدرسة انجليزية في المدرسة الإبتدائية الواقعة أول الشارع .... و هي رقيقة كاسمها ...فتاة حالمة , لكنها في ذات الوقت تبرق ببريق يشبه بريق الشهرة ....
تحب كتابة الشعر و القصص القصيرة حتى أنها نشرت عدة قصص انجليزية قصيرة في أحدى الجرائد ....
انها تسير خطواتها ببطء ... و تشع بريقا خاصا أثناء تلك الخطوات ..... كل هذا يساعد وعد في معرفة الفستان الذي يليق بها و بشخصها .....
لذا كم سعدت حين أوكلت لها داليا مهمة انتقاء القماش .... انها من الأشخاص اللذين تحب وعد التفصيل لهم .... لأنها تترك العمل كله لوعد ....
تنتقي ما يليق بما ستفصله ....
لكن أكثر ما تبغضه أن تنتقي أم قماش ذهبي مزركش .... و تطلب من وعد أن تفصل منه فستان واسع ذو كسراتٍ و كشكشات ... بدعوى أن الفرح يحتوى على عدة خطاب محتملين لابنتها و يجب أن تبدو فخمة المظهر .....
و أجمل ما تحبه ... هو أن تكون حرة .... ترسم لوحتها الخاصة ... بدءا من الخطوط الأولى و حتى لمسات اللون النهائية ....
هذا القماش ما أن رأته .... حتى اشترت منه ضعف المساحة المطلوبة .....
لملك .......
ستفصل لها فستان أكثر روعة .... فستان أميرة هاربة من كتاب الحكايات ......
ابتسمت وعد و همت بالقص ..... الا أن صوت خطوات ثقيلة خلفها جعلها تتوقف ... و تغمض عينيها لحظة قبل أن تترك المقص مكانه .... لن يفلح القص الآن ....
و بالفعل وصلها الصوت الخشن من خلفها
( وعد ....... تعالي لتدلكي لي قدمي ..... )
زمت شفتيها قليلا ... ثم قالت بفتور
( أنا مشغولة الآن ............ )
سمعت صوت زمجرة الأسد التي كانت ترتعب منها في صغرها ... أما الآن فباتت خشة أجشة لأسد مسن ... لا يقوى على أذيتها الا اذا سمحت له .... هذا إن صح تلقيبه بلفظ الأسد ....
عادت الزمجرة ليقول بعنف
( تعالي يا فتاة حالا ........يبدو أنكِ نسيتِ العصا المركونة خلف باب المطبخ منذ زمن )
زمت وعد شفتيها و فردت ظهرها و هي تستدير اليه بذقنٍ مرفوع و عينين جامدتين كالزجاج البارد .... ثم قالت ببرود
( لا لم أنسها يا أبي ..... لكنها لم تعد تخيفني كما كانت تفعل حين كانت تماثلني طولا ..... و كنت أنت أقوى و أعنف ..... )
صمتت قليلا .... ثم نظرت الى عمق عينيه و هي تتابع بهدوء
( أما الآن ....... حين تريد مني أي طلب ,.... فرجاءا لا تلجأ الى التهديد ..... لأن هذا يستدعي ذاكرتي السيئة و ميولي السوداوية في رد المعروف ..... لقد كبرت يا أبي ....و كبرت أنت .... خاصة و أنك قد انجبتني في عمر كبير ... أي أنك الآن تصلح لأن تكون في عمر جدي ... لذا التهديد بالقوة الجسدية لا يبدو مجديا في هذه الحالة .... )
ظل ينظر اليها بعينين متغضنتين تشعان غضبا أسودا .... بينما ذاكرتها السيئة بالفعل قد استدعت أول يوم لها في هذا البيت بعد أن جاء بها من الدار .... حين أخبرها بصوته الأجش النافذ الصبر أن تذهب لتغسل الأطباق في المغسلة .... حينها وقفت بطرف باب المطبخ تارقبه من بعيد وهو يجلس على كرسيه الضخم يدخن سيجارته و يبدو غاضبا و كأنه أحضرها الى هنا مرغما .....
دخلت الى المغسلة و بدأت في غسل الأطباق المتكومة ذات الرائحة العفنة التي جعلتها تشمئز و تصاب بالغثيان من هول الإهمال و عدم النظافة المنتشرة في كل مكان ...
لكن لحظها السيء وقع منها طبق و انكسر فوق ارض المطبخ .... وحين كانت تنحني تجمع القطع المكسورة في حجرها لم تدري الا و يد تقبض على شعرها لتجذبها واقفة .... و صوته الجهوري يصرخ غضبا بها ....
لقد نسيت فحوى صراخه .... لكنها لم تنسى قوة عصاه التي التقطها من خلف باب المطبخ و هي تهبط على ظهرها مترافقة مع لقب واحد
( ابنة صفا ...... )
نعم .... هي لم تنسى العصا القابعة خلف باب المطبخ .... و لم تنسى وصمة الانتساب لصفا ....
عادت الى العينين الرماديتين اللتين مرا بهما الزمن و أهلك زواياهما كصحراءٍ جافة متشققة تنتظر بعضا من قطرات الماء علها تذيب القليل من قسوتهما .....
قالت وعد أخيرا بصوتٍ جاف لا حياة به ....
( اجلس على كرسيك ...... ريثما آتي باناء الماء الساخن .... )
مشت وعد ببطىء تحمل أناء ماء ساخن .... يتصاعد بخاره أمام عينيها و هي تراقب جلسته المخيفة التي لم تتغير على مدى الأعوام ....
و ما أن وصلت اليه حتى انحنت عند قدميه و هي تضع الإناء .... لترفع قدمه ببطىء و تشمر رجل بنطاله ... ثم تضعها في الماء ... لتفعل المثل مع الأخرى ....
استمرت بدعك قدميه بقوة ... صعودا الى ساقيه .... ثم قالت بفتور
( لقد ازدادت العروق الزرقاء بساقك بدرجة مخيفة .... و هذا مؤشر غير جيد , كما أن كاحلك متورم ...... , لا بد أن تذهب للطبيب )
لم يرد عليها ... فتابعت دون أن تنظر اليه ....
( سأترك لك مبلغا بسيط .... لو أردت الذهاب للطبيب , من ثمن الفستان الجديد .... لكن لا تعتاد الأمر )
الحقيقة أنها سلمته من الراتب القدر الذي كان يتقاضاه من عمله مع سيف ... أما الباقي فاحتفظت به لنفسها دون ذكر أنها تتقاضى أكثر ... و هذه المرة حرصت على أخفاء المال جيدا .....
لم يرد عليها لفترة .... الا أنها شعرت فجأة بيدٍ خشنة تلمس أعلى رأسها ..... فرفعت وجهها اليه متفاجئة , لتراه ينظر اليها بحدة ... ثم لم يلبث أن قال بجفاء
( أنت تشبهين أمك كل يومٍ أكثر من اليوم الذي يسبقه ....... )
لم ترد عليه و هي تنظر الي عينيه .... و ينظر اليها كلها ...
أخفضت وجهها تتابع عملها .... لفترة ... ثم لم تلبث أن همست بفتور
( أذكر أنها كانت رائعة الجمال ...... لا أعتقد أنك تتمتع بذاكرة جيدة )
قال بخشونة
( تمتلكين روحها ............ )
لم تنظر اليه وعد و هي تزم شفتيها قائلة
( أمتلك روحها ... و أمتلك عينيك .... من الأفضل للمجتمع أن أقتل نفسي كي لا تتكاثر فصيلتي .... )
رد عبد الحميد بخشونة
( و بذائتها ............ )
ابتسمت وعد رغما عنها قليلا لكنها عادت و ابتلعت تلك الابتسامة سريعا ... و هي تتابع ما تفعله بصمت ... ثم لم يلبث أن سألها بخشونة
( هل تشتاقين اليها ؟؟ ........ )
ظلت صامتة لفترة ثم مطت شفتيها قائلة
( و لا لذرة ........... )
ضحك بخشونة و هو يقول
( ربما تنتظرينها كي تأتي و تنقذك مني ........ )
أمالت رأسها و هي تقول ببرود دون أن تنظر اليه
( عمري الآن ستة و عشرون عاما ..... أي أنني كبرت قليلا على انتظار أمي كي تأتي و تأخذني منك ... )
صمتت قليلا ثم تابعت بهدوء مستفز
( لكن لا تقلق .... فالأمر بات وشيكا , .... رحيلي من من هنا بات وشيكا ....)
لم يرد على الفور ... بل اصدر ضحكة خشنة أخرى ... ثم قال بسخرية
( و ربما لو طلبت أمك رؤيتك ذات يوم ..... قد تقبلين المساعدة المادية منها لو عرضت ... )
هزت وعد كتفيها بلامبالاة و هي تنهض من مكانها حاملة الوعاء بين يديها قائلة بهدوء
( ربما ..... ولما لا .... فرغم كل شيء أستحق تعويض على تركها لي و أنا طفلة .... و إن أرادت تكفير ذنبها ببعض النقود فلن أمانع ...... )
ابتعدت عنه تتجه الى المطبخ .... الا أن صوته جاء خشنا ساخرا من خلفها
( للأسف ...... لن تسنح لكِ الفرصة , ..... فوالدتك توفيت )
تسمرت وعد مكانها ..... دون أن تستدير اليه .... و اتسعت عيناها دون تعبير محدد ... بينما فغرت شفتيها قليلا .... تشعر و كأن شيء ما قد اغلق مسار التنفس لديها فجأة ....
و مرت عدة لحظات قبل أن تقول ... بحشرجة مختنقة
( متى حدث ذلك ؟؟ ......... )
قال بهدوء بطيء
( منذ عامين ............. )
همست وعد بضياع
( عامين !! ............ )
ظلت تتنفس قليلا بصعوبة ... ثم التفتت اليه ببطىء تنظر اليه دون تعبير محدد , ثم همست بصوتٍ غير صوتها
( و كيف عرفت ؟؟ ........ )
هز كتفيه ليقول هادئا
( بعثت الي تطلب رؤيتكما أنتِ و أختك ....... الحمقاء .... كانت تظن بأنني أربي ابنتها كل هذه السنوات .... و بعدها علمت أن احتضارها لم يستغرق وقتا طويلا ..... )
فغرت شفتيها تحاول التقاط أنفاسها بعد أن فشلت رئتيها في المساعدة .... لكن ملامحها تجمدت ... تبلدت ... و قست عيناها ترفض أن ترضيه بدموعها .... كما ترفض أن تشفق على من لا تستحق ....
ترفض البكاء .... ترفض أن ترضيه .... ترفض البكاء ..... كلاهما لا يستحقان ..... .
استدارت ببطى مجددا .... ثم أسرعت الخطا الى المطبخ ..... تسكب الماء بعنفوان ... ثم تنحنى لتمسح الماء الرائق على سطح الأرض .....
لتنهض بعدها ناظرة حولها ..... عن شيء .... أي شيء .... ثم خرجت مسرعة الخطا الى قماشها الوردي الذهبي المنتظر ببهاء مفرودا فوق سطح المائدة .....
تمسك بالمقص تنوي ان تدبه في قلب القماش .... الا أنها فوجئت بشفرتيه تهتزان ... ترتجفان .... تعلنان عجزهما عن الثبات بكبرياء مهمته ....
كسلاحٍ مرتعش في يد عجوزٍ مسنة ..... و هي تنظر اليه طويلا , غير قادرة على تطويعه ....
ثم أعلنت استسلامها و هي تغلقه و تضعه مكانه بأدب .... بتهذيب ....
ثم تنصرف الى غرفتها بهدوء .... خوفا من أن أي تهور زائد في حركاتها قد تجعلها تنفجر ....
ساعات بطيئة تمر .... و الساعة القديمة تدق .... بينما هي مستلقية تحدق في الظلام ....
ممسكة بهاتفها الجديد في يدها ...... هاتف العمل الذي أحضره سيف لها مصمما ... آمرا بخشونة الا تجادل أوامره .... كي يجدها حين يحتاجها .... لكنها لم تصر على الرفض .... فهو وسيلة الاتصال بملك يوميا دون الحاجة الى اقتراض هاتف علي ...
... تحاول فتح الرسائل ,....... تحاول أن تكتب ....
" ملك ..... هل أنت موجودة ؟؟ ....
أتمنى الا تكوني موجودة ...... أريد أن أخبرك بشيء ثم أهرب من ردك ....
كما هربت سابقا ......
ملك ...... أمنا ..... لقد علمت اليوم أن أمي قد ..... ماتت ....
لكنها كانت تود رؤيتك .... لكن لم يتسنى لها الوقت ..... "
ظلت وعد تنظر طويلا الى الكلمات المضيئة في الظلام ..... عيناها قاسيتان لدرجة أنهما تشبهان عيني عبد الحميد و كأنهما قد استنسختا من عينيه ....
و اصبعها يحاول الى زر الإرسال ..... لكنه في اللحظة الأخيرة عدل مساره و اتجه الى زر المسح ....
لتنزلق وعد أكثر و أكثر .... تهمس في الظلام ...
( كفاكِ فراقا يا ملك .... كفاكِ حزنا على من لا يستحق )
أغمضت عينيها .... و أبتلعت غصة حادة جرحت حلقها بشدة ..... تريد النوم .... بل ستنام ....
لكن فجأة صوت حشرجات مختنقة .... و أصوات مكتومة جعلتها تفتح عينيها متسعتين ... تحاول التأكد مما تسمعه ....
و ما أن أوشكت على اغماض عينيها حتى فوجئت بصوت شيء يسقط بقوةٍ على الأرض ... حتى أن ذبذبات السقطة وصلت عبر الغرف الى أرض غرفتها ...
نهضت وعد من سريرها بسرعة .... تشعر بالخوف من شيءٍ لا تعلمه ....
كانت تريد الحركة بسرعة الا أن خطواتها ارتجفت و تعثرت و هي تخرج حافية القدمين ... تتفقد المكان الظلم في أرجاءه ...
حتى لم تتبقى سوى غرفة والدها ....
و كان الضوء منبعث من أسفل الباب ... فمدت يدا مرتجفة و فتحت الباب ببطء ...
و ما أن خطت خطوة و هي تقول بجفاء
( أبي ........... )
حتى شهقت عاليا و هي ترى عبد الحميد ملقى على الأرض .... بعينين متسعتين ... و جسده يرسل تشنجات مرعبة .... و زبد أبيض يخرج من فمه دون أن يستطيع السيطرة عليه ...
اتسعت عينا وعد برعب و هي تراه على هذا المنظر ....
ذلك الرجل الضخم المرعب منذ طفولتها .... الذي كانت خطواته وحدها كفيلة بأن تلقي الرعب في قلبها ما ان تسمعه مقبلا ....
ها هو يصارع الموت أمامها .....
كان واعيا ... عرفت ذلك من نظرات عينيه المتسعتين و المتربصتين بها تطلب النجدة ....
الا أن شيئا ما بداخلها جعلها تتسمر غير قادرة على مد يد المساعدة له ....
تراجعت ببطء حتى التطقت بدولابه القديم و هي ترفع يدها الى صدرها المرتجف و هي تراقب هذا المنظر لعدة لحظات ....
هاجس ما قفز الى رأسها ....
جعلها تتخيل نفسها ترتدي السواد .... و المعزين رغم قلة عددهم جالسين في الخارج يقدمون واجب العزاء ... ساعة أو اثنتين على الأكثر
لينصرف الجميع .... و تبقى هي وحدها هنا في تلك الشقة الواسعة .... التي ستصبح ملكها .....
و التي لن تكون وحدها فيها .... بل ستجلب ملك لتعيش معها .... و تبدآن حياة جديدة حرة .... أخيرا ....
اللحظات تمر و تلك الأفكار تتمكن منها أكثر .... و أكثر ....
حتى آلمها صدرها من شدة الإنفعال .....
عيناها متسعتان بلا قطرة دمع ...... و أطرافها باردة .....
و فجأة .... لا تعلم من أطلق صرخة بواسطة شفتيها المتيبستين و قوة ما جعلتها تقفز من مكانها كي تنحني اليه بسرعة صارخة برعب
( يالهي ...... ياللهي ...... )
أخذت تضرب على صدره و هي تمسك بكفه صارخة
( أبي ..... أبي ...... لا تخف , سأطلب مساعدة حالا ...... ابقى معي قليلا .... )
ثم تركته لتنهض راكضة تطلب المساعدة و هي تصرخ لنفسها برعب
( أبي يموت ...... أبي يموت ........ )
.................................................. .................................................. ......................
نظر سيف الى علي الذي كان يضع القهوة أمامه مرتبكا ... متحاشيا النظر اليه ...
فما كان من سيف الا أن قال بإيجاز يحمل شرارة غضب و غيظ
( لم تأتِ اليوم مجددا ..... اليس كذلك ؟؟ ..... )
رد علي مسرعا ....
( بل هاتفتني و أخبرتني أنها في الطريق ... لولا أن هناك مقطورة واقعة على جانب الطريق أحدثت جلبة و اختناق ........ انها تمتلك هاتفا الآن .... )
صمت بعد أن احمرت أذناه بشدة مرتبكا .... بينما يزداد احمرار عيني سيف من الأحمق الصغير المدله في حب سندريلا .....
سندريلاته هو .....
قال سيف باقتضاب
( حسنا ..... اذهب من هنا الآن ..... )
ابتعد علي مسرعا .... يتسائل عن السبب الذي يمنع وعد من أن ترد على اتصالاته ... بينما بقى سيف مكانه غاضبا منها بشدة ... فالتقط هاتفه ليطلب رقمها بغيظ ....
استمر الرنين طويلا .... وهو يهمس بصوتٍ أجش
( ردي و الا فوالله سيكون حسابك ......... )
لكن قبل أن يتابع .... سمع صوت الخط يفتح و استطاع تمييز صوت تنفسها دون أن تتكلم ...
فقال بصرامة
( أين أنت ؟ ............ )
لم ترد على الفور ... بل ازداد الصمت بينهما مما جعل الصرامة تتراجع و القلق ينتشر في داخله , ليقول بخشونة
( وعد !!.......... )
استمر الصمت مجددا الى أن سمعها تهمس بخفوت
( سيف .............. )
اشتعلت أعصابه في لحظة واحدة .... الى ان تابعت بخفوت
( أبي في المشفى ...... أعتقد أنه يموت ..... )
تجمدت ملامحه في لحظة .... و ظن أنه لم يسمع جيدا ..... عبد الحميد يموت ؟!!....
لماذا كانت العبارة غريبة على أذنيه ....
و دون مقدمات قال بصلابة قاطعة
( في أي مشفى أنت ؟؟ ...... أنا قادم اليكِ .... )
.................................................. .................................................. ......................
وجدها أخيرا ......
تجلس آخر الممر ... أمام غرفة العناية المركزة ..... تجلس على حافة الكرسي ... كما أن يديها متشبثتان بالحافة على جانبي وركيها كطفلة تنتظر حضور ولي أمرها في موقف لا تستطيع التصرف به .....
رأسها منحني و قد أخفى شعرها المنساب وجهها عنه .....
كانت قدميه تقتربان منها ببطىء ..... و عيناه لا تفارقانها ....
الى أن رفعت وجهها تنظر اليه فجأة و كانها استشعرت وجوده في المكان .... فابتسم لها ...
حينها نهضت اليه ... تقترب منه بسرعة ... و ثوبها البسيط يطوف من حولها ....
سيأخذها بين أحضانه .... لا قوة ستمنعه في تلك اللحظة .... سيلتقطها بين أحضانه ليمحو نظرة الضياع تلك من عينيها ...
يحثها بصمت وهو يمد يده اليها ..... و هي تقترب .... و كأن الممر أصبح كطريق سفر طويل يأبى أن ينقضي .....
وهو يهمس اليها
( تعالي الي ........... )
ووصلت بالفعل ... ووقفت على بعد خطوة منه ..... ثم .... لا شيء ....
رفعت وجهها تنظر اليه بهدوء ....عيناها مجهدتان ... ضائعتان .... جميلتان بعذاب ....
قالت بخفوت ....
( لماذا أتيت ؟؟ ..... لم يكن هناك داعِ لأن تعطل نفسك..... مجددا )
قال سيف بإيجاز و ملامح متجمدة
( اخرسي يا وعد ......... )
ثم نظر الي الغرفة البعيدة ليسألها بهدوء
( كيف حاله الآن ؟ ....... )
أخذت وعد نفسا عميقا .... ثم قالت بخفوت
( كما هو ..... لقد أصيب بجلطة في المخ , و من وقتها وهو في العناية المركزة ..... )
نظر سيف الي أرجاء ذلك الجزء من المشفى والمهترىء قلبا و قالبا .... ثم قال بخفوت
( لا أرى أي عناية مركزة من أي نوع ........ )
ارتجف صوت وعد و هي تهمس مديرة وجهها عنه
( ذلك أقصى ما استطعته حاليا ..... الأمر كان مفاجئا بالأمس و .... و أنا ...... )
ذهب صوتها تماما و كأن أنفاسها هي التي ذهبت .... فاستدارت عنه و هي تبتعد نفس الطريق الطويل الذي أتت منه لتجلس على كرسيها محنية رأسها كما رآها ما أن أتى .....
فذهب اليها ببطىء ... بينما صدره ينتفض رغبه في تسكين انتفاضته بضمها اليه ....
جلس بجوارها في هدوء دون أن ينظر اليها و كأنه يحاول التحكم في انفعالاته بما يليق بالمكان ....
ثم قال أخيرا بخشونة
( لماذا لم تهاتفيني بالأمس ؟؟ ...... )
نظرت اليه بوجوم غير مستوعبة ... ثم همست بخفوت
( و لما ؟؟!! ........... )
نظر اليها بعينين قاسيتين ليقول بخشونة خافتة
( و لماذا برأيك ؟؟ ...... لأكون قربك .... لأساعدك ... )
فغرت شفتيها قليلا و هي تنظر اليه .... يساعد عبد الحميد العمري ؟؟!! ..... انه غريب الأطوار للغاية !! ....
لم تجد سوى أن تهمس بخفوت
( لم أحتج لمساعدة ........ )
انعقد حاجباه , فأحست بمدى فظاظتها في الرد ... فتابعت تقول
( كان الوقت متأخرا ..... و قد ساعدني الجيران )
ظل سيف ينظر الى عينيها الى أن أخفضتهما بصمت , بينما قال بخشونة
( لكنهم على الأغلب رحلو بعد الساعة الأولى ...... )
صمت ينظر الى رأسها المحنى ..... ثم تابع بجفاء
( من الواضح أن الأمر لم يطرأ على بالك من الأساس ..... )
عادت لتنظر اليه بحيرة و هي تهمس
( أي أمر ؟!! ........ )
فازداد انعقاد حاجبيه لينظر أمامه دون أن يرد .....
استمرت الدقائق بينهما طويلة صامتة ... بطيئة ..... و كأن الكلام لا يجد محلا بينهما ....
نظر سيف الي يدها التي رفعتها الى فمها كي تعض على أظافرها .... فمد يده ببطىء يقبض على كفها و ما أن همت بأن تستعيدها ..... حتى شدد عليها يستبقيها بحجره بقوة وهو ينظر اليها متحديا إياها أن تتحداه ...
أخفضت وعد عينيها من عينيه الى كفها القابع في كفه القوية .... و عاد الصمت مجددا ....
الى أن همست بعد وقت طويل .... بخفوت لا تعبير به
( لقد توفيت أمي ........... )
نظر اليها متفاجئا .... ثم سألها بخفوت
( متى ؟؟ ............. )
همست وعد بلا حياة
( منذ عامين ......... لكنني عرفت بالأمس فقط .... أبي أخبرني )
سمعت صوت أنفاسه الخشنة ... ثم سأل أخيرا بصوتٍ أكثر خشونة كتقرير أمر واقع
( و بالطبع كان يعرف من وقتها ....... )
أومأت برأسها دون ان ترد ....... فتمتم بشيء مكبوت لم تستطع أن تتبينه .... وهي لم تهتم , بينما كانت تتابع بهمس
( كانت تريد أن تراني ......... )
نظر سيف اليها بحدة ..... لا يعرف الكثير عن علاقتها بأمها , لكن من الواضح أنها قد آذتها كثيرا ... لذا فضل أن يستمع اليها .... فتابعت تهمس
( كنت دائما أضع مشهدا في خيالي عن اليوم الذي ستأتي فيه باكية تطلب السماح مني .... كتبت من قبل مرارا العديد من القصائد الحادة التي سألقيها على مسامعها.. ثم أطلب منها بكل تشفي الا تعود مجددا .... )
صمتت قليلا ... ثم همست بصوتٍ أكثر خفوتا
( لكنها رحلت قبل أن أنال تلك الفرصة ......... هي تأخرت كثيرا ... ووالدي قضى على الفرصة قبل أن تأتي ..... و كانت النتيجة ...... )
عادت لتصمت شاردة أمامها .... ثم تابعت بعد فترة
( كانت النتيجة ...... أن تلك القصائد المتشفية ستظل سجينة بداخلي دون أن تجد لها متنفسا )
عبس سيف بشدة و قد تحولت ملامحه الى حجر ..... ثم قال بصوتٍ أجش
( القسوة ليست من طباعك ........ )
رفعت وجهها اليه و هي تبتسم فجأة قائلة
( و ماذا تعرف أنت عن طباعي ؟!! ....... )
رد سيف قاطعا بجفاء
( الكثير ............... )
ردت وعد ببرود ( اذن على الأرجح أن هذا الكثير ما هو الا من وحي مخيلتك ..... )
ظل ينظر الي عينيها .... و هي تنظر الي عينيه ببرود بينما تنفسها يتسارع بالتدريج ....
تنفسها غاضب ..... غاضب .... يستطيع أن يستشعر سخونته من تلك المسافة اللعينة بينهما .....
ثم دون كلمة ترك يدها فجأة ليغطي عينيها بكفيه برفق .... ليبعدهما عنهما بعد لحظتين ... فرفرت بجفنيها و هي تهمس بغضب
( لا أحب تلك الحركة ........ )
الا أنه عاد ليغطي عينيها بكفيه .... ثم أبعدهما بعد لحظتين , فعادت لترفرف بجفنيها مجددا ... و بدأ بريق في الظهور بهما ....
فهمست باختناق
( توقف ............... )
الا أن نظرة عينيه الغريبة أسرت عيينها قبل أن تخفيهما كفيه مجددا بلمسة كأجنحة الفراشات على الرغم من خشونة اصابعه فوق وجهها ..... و حين أبعدهما ... كانت الرؤية قد تشوشت لديها بغشاء زجاجي أخفى ملامحه الواضحة عنها ....
غشاء بدأ يتثاقل في عينيها و هي تكبته بصعوبة .... بينما هو ينظر اليها منتظرا .... منتظرا ....
و ما أن غطاهما بكفيه مجددا حتى انساب الدمع ملامسا أصابعه بدفىء ....
فأبعد كفيه عن و جهها وهو ينظر اليها بنظرةٍ عميقة جعلتها تنهض من مكانها بسرعة و هي تمسح وجهها .... تكاد أن تجري و هي تلامس جدار الممر الطويل ....
لكن يدا قوية قبضت على ذراعها تديرها اليه وهو يقول بخفوت قوى
( انتظري يا وعد ....... )
لكنها أحنت وجهها عنه و هي تهمس بصلابة ماسحة طرف عيينها بيدها
( أريد البقاء بمفردي ....... من فضلك أريد ..... )
صمتت فجأة حين شهقت باكية بعنف و هي تغطي وجهها بكفيها .... بينما تأوه سيف بعمق ... ليفكر بعنف
" سأضمها الي صدري و ليحدث ما يحدث .... "
و قبل أن يكمل وعده .... كانت ذراعاه قد جذبتاها الى صدره القوى بشدة .... يحتضنها .... يريحها على صدره .... و يحيطها بذراعيه بقوةٍ تكاد تطبعها على ضلوعه ......
و ذقنه تستريح فوق رأسها الناعم .... هامسا باسمها
( لا بأس يا وعد ..... ابكي قدر ما تشائين )
و لم تكن تنتظر الأمر منه ..... بل كانت تشهق باكية بعنف و هي تتشبث بقميصه مخفية وجهها في صدره , تكاد أن تنزلق جالسة لولا ذراعيه اللتين تشعران بأقل حركةٍ لها فتعاودان رفعها .....
أغمض سيف عينيه .... مستشعرا كل ذرةٍ من تلك الجنة التي تسبب بها والديها .... ليلقيا بها في بحرٍ أسود متلاطم ... بينما تلقاها هو ممتنا فوق شاطىء صدره النابض بعنف ... كعنفِ بكائها .....
.................................................. .................................................. ....................
بعد فترة طويلة .... و حين تمكن أخيرا من الدخول اليه .... وجد نفسه ينظر الي رجلٍ غريب ... مسن بشكل يثير شفقة أي انسان ... الا شفقته هو ...
كان ينظر اليه بملامح رخامية ... قاسية باردة .....
يتذكر عنفه ..... و قسوة ضرباته ... و التي لا تقارن بقسوة امتلاك رجلا غير أبيه لأمه ... بسبب ذلك المسن الطاعن في السن و الذي يرقد حاليا بين الأجهزة و الأنابيب .....
بينما كان وقتها بشوارب تخيف الأشداء ... و يقف عليها الصقر ......
اقترب سيف منه ببطء ..... الى أن انحنى اليه ليهمس في أذنه بلا حياة
( لقد قبلت عرضك ....... ووعد أصبحت ملكي , ...... تعويض بسيط على كل ما اقترفته في حقي , حياتك الآتية يا صديقي لو تمكنت من النجاة .... لن تكون سهلة أبدا بدونها ..... )
تنهدت ببطىء و هي تتطلع الى الغروب الممتد أمامها ... تسير بتعرج قليلا على طريق ضيق ممتد الى داخل البحر .... مسور بإطار خشبي .. تتشبث به أثناء تطلعها للغروب و كأنها متجهة اليه ....
أجفلت سمعت صوتا يقول من خلفها
( لم أرى مثالا للعناد أفضل منك من قبل .... )
استدارت بسرعة لتجده يقف خلفها بهيئته الضخمة متكئا الى السور الخشبي ناظرا اليها ... فقالت بحدة غير مقصودة
( هل يمكنك التوقف عن الظهور بهذا الشكل المفجع ....... )
نظر الى نفسه .... في وقفته الهادئة المتكئة نظرةٍ ذات مغزى ... ثم أعاد نظره اليها ليقول رافعا حاجبيه
( سأنزع أنيابي و مخالبي المرة المقبلة لأضعها في جيبي قبل أن أفاجئك ..... )
مطت شفتيها امتعاضا .... ثم استدارت و هي تتابع طريقها الى داخل البحر دون أن تعيره انتباها , الا أن صوته القريب أخبرها أنه يتبعها
( ألم ينبه الطبيب ... الا تسيري طويلا و لا تلوثي قدمك بالرمال .... )
لم ترد و كأنها لم تسمعه .... بل تابعت طريقها بصمت .... عله يذهب , لكن رجاءها راح هباءا و هو يقول مجددا بصوتٍ أكثر قربا منها ...
( أنت ِ يا من ما اسمك ..... أنا أكلمك .... )
تأففت شيراز بصوتٍ حرصت على أن يصله واضحا ثم استدارت اليه , الا أنها فوجئت بوقوفه خلفها مباشرة فتراجعت خطوة و هي ترفع ذقنها علها تصل بعينيها الى نهاية طوله الفارع ....
ثم قالت عابسة
( أولا اسمي شيراز يا من ما اسمك ..... هل تذكرته أم أقحمه في رأسك المرة المقبلة بجانب حوافرك و أنيابك ...... ثانيا هلا ترتكتني اليوم فقط .... رجاءا اليوم فقط اتركني فيه لحالي ..... و بعدها يمكنك أن تعاود نشاطك المستفز ..... )
استدارات منهية الحديث و هي تتابع طريقها بتعب .... فقال بصوت متسليا
( و لماذا اليوم تحديدا ..... يا سليطة اللسان ... )
قالت بحدة قاذفة بكلماتها دون أن تتوقف أو أن تستدير اليه
( لأنه يومي الأخير هنا ......... )
لم تسمع ردا فظنت انه قد امتثل و ابتعد ..... لكن و قبل أن تتنهد ارتياحا , وجدته يتجسد أمامها يسد طريقها , فتوقفت و هي تستعد لمهاجمته بأقذع الألفاظ مجددا ... الا أنه سبقها قائلا وهو عاقد حاجبيه
( هل هو اليوم الأخير لكِ بالفعل ؟؟ ...... عجبا كم تمر الأيام سريعا !! )
تصنعت شيراز ابتسامة غبية و هي تميل لتستند بمرفقها الى السور الخشبي ... تسند ذقنها الى كفها و هي تقول بمودة مصطنعة
( آآآآه نعم .... كم تمر الأيام سريعا , و كأنه الأمس حين كنت تجري على الرمال صغيرا .... غبيا )
ثم عادت لتستقيم و العبوس يرتسم على وجهها من جديد لتقول بحدة
( هل هناك المزيد من الأحاديث الودودة الغبية ..... المضيعة للساعات الأخيرة من رحلتي !! )
أوشكت على أن تتجاوزه ... الا أنه عاد ليسد طريقها قائلا عاقدا حاجبيه
( ماذا كانو يرضعونك و أنتِ صغيرة ؟!! ..... حقا !! .... أحماض كاوية !!.... )
مدت رأسها تقول بحدة
( نفس ما كانو يرضعونك منه ........ ابتعد عن طريقي )
سد طريقها للمرة الثانية ... لكن و قبل أن تبدأ في الصراخ رفع يده و كأنه يأمرها بالصمت , ثم قال بخشونة
( لا أنصحك بالتطاول أكثر ..... فألفاظ الفتيات مهما كانت لن تقارن بألفاظ الرجال ما أن يتم استفزازهم )
رفعت حاجبيها بشراسة ... ثم قالت
( شكرا على النصيحة القيمة ...... و الآن ابتعد و جد لنفسك شيئا تفعله ....استلقي على الرمال لتحصل على لون ذهبي .... سيليق بك كالقريدس المسلوق .... )
هذه المرة ضحك قليلا بخفوت وهو يقول
( أنتِ كارثة حقيقية ...... أتدركين ذلك .... )
عقدت حاجبيها و هي تقول بلهجة سخيفة
( سمعت ما هو أفضل من قبل ..... و الآن ... و على الأرجح للمرة الألف , هي يمكنك أن تتفضل بتركي أنعم بالساعات الأخيرة في رحلتي ...... شكرا ... )
همت بأن تنصرف الا أنه قاطعها قائلا بتفكير ....
( اسمعي ............ )
رفعت شيراز عينيها الي السماء و هي تتراجع لتستند بظهرها و كفيها الى السور الخشبي من خلفها هامسة
( الصبر ........ )
قال وليد بجدية
( لما لا تمدين أجازتك لعدة أيام ...... يمكنني مساعدتك في تجديد حجز الغرفة على الرغم من ازدحام هذا الوقت من العام ..... )
رفعت وجهها اليه لتقول بفتور و ايجاز
( ميزانيتي لا تتحمل أكثر من هذا ........ )
لكن جوابه صدمها وهو يقول بجدية
( بما أنني ممن ساهمو في افساد رحلتك ... فاسمحي لي بأن أعوضك ببضع أيامٍ أخرى ... )
اتسعت عيناها و هي تقول
( من تظنني ؟!! ...... لن أقبل هذا العرض بالطبع , اذهب لتضحك به على غيري .... ستجد منهن الكثيرات هنا ...... )
عقد حاجبيه وهو يقول بجفاء
( هل عدنا الى بذاءة اللسان و سوء الظن من جديد ؟......... )
عقدت حاجبيها هي الأخرى و هي تقول بتلقائية
( و متى تركناهما ؟!! ......... )
أخذ فترة في تأملها عن قرب .... و هي تنظر اليه بنظراتٍ ناريةٍ كقطةٍ شيرازية منتفشة الشعر , تستعد للهجوم دفاعا عن نفسها ....
في البداية كان يظنها صغيرة في السن .... ملامحها طفوليةٍ بشكلٍ غريب , لكن ما أن تشابك معها الأيام الماضية حتى بان العمر على وجهها و نظرات عينيها و حدة صوتها الذي تستخدمه في الدفاع عن نفسها ان لزم الامر .....
تعلقت عيناه بانعقاد حاجبيها المتحفزين بطبيعتهما ... أسفلهما عيني طفلة متمردة مستعدة لأن تخدش عيني من يهاجمها بمخالبها ....
داهمته فجأة الرغبة في أن يمد إصبعه كي يزيل ذلك التقطيب بين حاجبيها و يخبرها بأن ما فات قد فات ....
عبس فجأة و هو يشعر بنفسه و قد رسم قصة من وحي خياله .... لمجرد أن الفتاة عابسة ...
لكن ربما لأنه عاش مع تلك النظرة من قبل ... و يعرب أبعادها جيدا ... فهو متأكد داخليا من إحساسه ....
خفف من عبوسه ليرسم على وجهه ابتسامة رزينة وهو يقول بهدوء
( اسمعي ..... ربما لن نتقابل مجددا , لذا فإن فكرة سفرك و أنتِ محبطة تزعجني ... خاصة و أنكِ تحملينني الذنب في كل البلايا التي حدثت معك منذ أن أتيتِ الى هنا ..... )
قالت شيراز بحدة
( ليست بلايا .... بل هي بلوى واحدة تسلطت علي منذ أن أتيت الي هنا ..... )
سحب نفسا عميقا وهو يغمض عينيه للحظة ... ثم فتحهما وهو ينظر اليها ليقول من بين أسنانه
( صدقيني ..... لو تعرفتِ الي جيدا , لأدركتِ بأن استفزازي ليس من الحكمة أبدا .... )
شعرت بأنه يحاول السيطرة على غيظه ... حتى أن عضلات صدره الضخمة تهتز و كأنه يسيطر على نفسه , فتراجعت خطوة ... ثم قالت بصوت أقل حدة و هي ترفع يدها الى وجنتها
( شكرا على النصيحة ...... لقد جربت النتائج من قبل )
شحبت ملامحه فجأة الى الرغم من عدم تحركها .... و عيناه تتعلقان بلمسة يدها على وجنتها و شعر بشعور مقيت في داخله .... الحقيقة انه حتى الآن لا يصدق بأنه صفع فتاة ...
من يومها و هو يشعر بالدناءة غير قادر على محو هذا الشعور
لكن ماذا يفعل ...... للأسف أنه يتهور في حالات غضبه قبل أن يستطيع السيطرة على نفسه
لذا همس فجأة
( لقد سبق و اعتذرت لكِ ........ )
نزعت يدها من على وجنتها ..... لكن حاجبيها المنعقدين و عينيها العاتبتين بشرود اكثر منهما غاضبتين جعلتاه يشعر بالندم اكثر و اكثر .... متسائلا بذهول كيف تمكن من فعلها !!
همست شيراز كذلك بوجوم
( حسنا سيدي ... شكرا على كرم الأخلاق ..... هل يمكنني الآن الاستمتاع بساعاتي الأخيرة هنا ؟؟ ...... )
قال وليد محاولا جرها الى الحديث
( ألم تنسي شيئا ؟؟ ............. )
عقدت حاجبيها و هي تقول بحيرة
( ماذا ؟!! ..................... )
قال وليد ببساطة
( أنكِ لم تبادلينني الإعتذار ........... )
راقب بتسلية ارتفاع حاجبيها ببطء ... ثم اتساع عينيها بذهول ... ليبدأ الذهول في التحول لحممٍ بركانية ... لتتغضن أنفها باستنكار ... وها هو فمها يفتح أبوابه استعدادا لإلقاء المزيد من وحل الكلمات ...
كم هي شعلة متوهجة على الرغم من مظاهر الطفولة و البؤس المحيطان بها ...
رفع وليد يده مجددا قبل أن تتنازل برمي المزيد في وجهه و سبقها قائلا
( الإعتذار الوحيد الذي أقبله ... هو قبولك بعرضي .... )
هتفت شيراز بحدة
( من قال أنني أنوي الإعتذار من الأساس ...... فلتذهب لتتوهم اعتذاري في مكانٍ آخر بعيدا عني .... لكن لا تنسى أن تتدثر بالغطاء جيدا أثناء ذلك ...... )
ثم تحركت مبتعدة تعرج قليلا و هذه المرة تركها تتجاوزه ... لكن ليس قبل أن يقول بخفوت
( فقط ......... فكري بعرضي ..... سأكون ممتنا لكِ إن سمحتِ لي بتعويضك ... )
لم ترد عليه و هي تبتعد .... لولا جملته المهذبة الرسمية الأخيرة لكانت رمته باللفظ الأخير الذي تحتفظ به في نهاية صبرها ....
لكن أسلوبه المستفز الراقي .... جعلها تصمت لتبتعد ...
بينما هي تهمهم غاضبة ..... أن هذا الراقي الأسلوب .. عاري الصدر ... لم يتورع عن صفعها في أول موقف لهما سويا ......
من الواضح أن رُقيه ينبت له أجنحة ما أن يستفزه شيء .....
وصلت شيراز أخيرا الى نهاية الطريق الخشبي الذي وصل الى عمق مناسب في البحر .... فجلست أرضا ببطء .... تضع قدمها المصابة تحتها .... بينما مدت الأخرى لتداعب بها الماء ....
شردت شيراز بالبحر أمامها و الشمس تودعها ككل يوم ... على الرغم من أن الحلة كانت فاشلة من جميع النواحي .... الا أنها بالفعل تشعر باختناق من فكرة العودة غدا
لا تصدق أنها بعد كل ما حدث لها .... تريد أن تبقى هنا ...
هل هو جمال المكان ؟؟ .....
أم مقابلة زوجها الثاني هن بالصدفة .... بعد أن كانت قد طوت تلك الصفحة من حياتها ... عادت رؤيته لتثير فيها الجوع للعاطفة التي كان يمنحها لها .....
أم هو الخوف من المجهول الذي يواجهها ....
الحقيقة أنها تستطيع أن تتكفل بمد هذه الرحلة .... بل و برحلتين مثلها أيضا ...
زواجها الأخير لم يتركها خالية اليدين .... بل على العكس .... لقد خرجت من هذا الزواج محملة بغنائم لا بأس بها ....
لكن على الرغم من ذلك ..... المستقبل ليس مضمونا
و الخوف بداخلها يتزايد .... الغنائم مهما كانت ستنفذ ذات يوم .... و ماذا ستفعل حينها ... أو حتى قبلها كي لا تنفذ .....
هل تعود لتعمل كسكرتيرة من الدرجة الثالثة مجددا ؟!! ..... و التي لا تطلب مؤهلات سوى عنجها و جمالها لتصطاد بهما صاحب العمل أم تستقطب العملاء ....
نعم ... مهما كانما قابلته هنا .... الا أنها شعرت و كأنها تحيا في عالم طفولي خيالي ... من المشاحنات ... و القفزفي البحر صباحا .... و ..... الاستمتاع بذكرى ايام زواجها الثاني ....
الرعشة الحزينة التي تصيبها و هي تتذكر ذلك الصدر الدافىء الذي كانت تسكن فوقه كل ليلة .... مبتسمة ... و هي تشعر بأنها بأمان .... و أن لا أحد قادر على أذيتها مجددا ......
كان من المنطقي أن تسعد بالفرار هاربة من تلك الذكرى .... الا أنها و ياللعجب .... لا تريد سوى ان تسترق بعض النظرات الى تلك الأسرة .... مستحضرة ذكرى شعورها الدافىء السعيد معه ....
تنهدت شيراز و هي تطرق برأسها ..... متسائلة بوجوم عن خطتها المقبلة .... بعد العودة الى العالم الشرس من جديد .... الى الغجرفة و الصلف اللذين ما عرفتهما سوى أخيرا .... بعد أن ارتاحت معيشتها و عرفت طعم الشبع .....
كم تود لو قبلت عرض المدعو وليد ..... الذي حول رحلتها الى مستنقع ....
لكن على الرغم من ذلك .... القبول بعرض من شخص معين , أسهل من البقاء هنا وحيدة من نفسها ... و بلا هدف .....
لقد منحها العذر المناسب لتبقى ,..... وهو أن تريح ضميره المثقل !! .....
ليست من القسوة كي تجعله يعاني مع ضميره المتعب ..... لذا العذر قوى و الحجة ساطعة للبقاء .....
لكن الى متى ؟!! ....... الى متى تعيش تلك الأيام الحرة ؟!! ..... الى متى .....
.................................................. .................................................. ......................
جلس قربها ... قريبا منها جدا .... لأول مرة يكن ممتنا لمقاعد المشفى في التصاقها الشديد ....
لو اقترب منها خطوة أخرى فستكون على ساقيه .... وهو لن يمانع في الواقع ....
ابتسم بعبث و هو يراقب هيئتها الأنثوية الضعيفة .... المنحنية , ترتشف العصير الذي جلبه لها بشرود ....
تبدو كطفلة في انتظار والديها ....
و على ما يبدو أنها كانت من الشرود بحيث لم لتحظ أن أن العصير قد نفذ حتى أصدرت الماصة البلاستيكية صوت أنذار معلنة خلو العلبة أخيرا ...
انتبهت وعد الى الصوت ... فنظرت الي سيف بطرف عينيها , فوجدته يراقبها عن قرب مبتسما ...
فاحمر وجهها و هي تقول بخفوت
( هلا توقفت عن مراقبتي بهذا الشكل ......... .. )
رد سيف ببساطة مبتسما
( و لماذا أفعل ذلك ............. )
ردت وعد عابسة قليلا دون أن تنظر اليه
( لأن هذا من باب الذوق ......... )
قال سيف بهدوء دون أن يرحمها من عينيه المفترستين
( آآه ..... باب الذوق عندي ضاع مفتاحه منذ زمن .... )
مطت وعد شفتيها بامتعاض ... و هي تنظر اليه , لكنها عادت و أخفضت عينيها أمام عينيه المتربصتين بأي لمحة منها .....
وجوده هنا يخفف الكثير من برود المشفى ...... لا يمكنها سوى أن تكون ممتنة .... لكن استسلامها له يمنحه السلطة عليها أكثر و أكثر .... و هذا ما لا تريده ....
كي ترحل بسهولة عندما يحين الوقت .....
انهيارها فوق صدره .....كان أحمق شيء من الممكن أن تقوم به , ترى ما نوع السيطرة التي منحه هذا التصرف ليفكر على أساسه ...
كل ما تعرفه أنها كانت قريبة من الانفجار .... بل أن مشاعرها انفجرت كلها دفعة واحدة ....
لتجد نفسها أسيرة تلك القوة الدافئة المسماة بذراعيه .....
أغمضت عينيها و هي ترغب لو أن هناك أداة مسح لتلك اللحظة الغير محسوبة العواقب ....
نظرت الى الأرض حين أحست بشيء يلامس قدمها فوجدت قدمه الكبيرة ملتصقة بقدمها ..... ابتسمت حين لاحظت الفرق الشاسع في الحجم ...
رفعت اليه عينين مبتسمتين ... فاستقبلها بابتسامة و نظرة حارة جعلتها تخفض عينيها , بينما قال بصوت هادىء
( ها قد وجدنا الحذاء سالما ...... ألم أعدك أن نجده ..... لحسن الحظ واحدة كانت تقبع تحت طاولة الإجتماعات ..... و الأخرى في أرض سيارة الشركة , وحيدة شريدة .... )
ردت وعد بخفوت مبتسمة
( آه نعم ...... كنت لأحزن بشدة إن ضاع ..... )
قال سيف مبتسما
( لأنه مني ؟.......... )
عبست و هي ترفع وجهها اليه , ثم قالت بحدة
( لأنه من عرق جبيني يا سيف ..... )
لم يفقد ابتسامته وهو يقول بهدوء
( على الأقل استفزازك يجعلك ....تنادين اسمي مجردا ..... )
نظرت وعد اليه بصمت ... فتابع بصوت أكثر خفوتا
( في الواقع ليس استفزازك فقط ...... بل تنادين اسمي مجردا كلما سلمتِ حصونك دون أن تدركين .... مثل اليوم صباحا حين هاتفتك .... لن أنسى نبرة صوتك و أنتِ تنادينني باسمي )
اخفضت وعد رأسها لتقول بهدوء خافت
( ربما رابطة الدم تحيط بنا رغم كل الفوارق ......... )
سألها سيف بخفوت
( رابطة الدم فقط ............... )
أومأت وعد ببطء و هي تنظر اليه .... و همست
( نعم يا سيف ...... رابطة الدم , التي تتحكم .... تربط و تفرق .... دون أن تمنحنا حق الاعتراض )
لم يظهر تعبير معين على ملامحه القاسية مما جعلها تخفض عينيها أمام عينيه الحادتين ...
فهمست بارتباك كي تغيير الموضوع محاولة تصنع المرح
( لم يتسنى لي المجال كي أشكرك على الحذاء المسرحي الذي ابتعته لي ..... .. ربما سأحتفظ به لعرضي المقبل على خشبات مسارح باريس ...... )
لم يبادلها المرح وهو يقول بهدوء
( من يرى مدى شوقك اليه ...... لا يصدق سخريتك الفظة منه الآن )
رفعت وجهها الي و هي تقول بخفوت
( من قال أنني كنت أتمناه .......... انت تتخيل ذلك )
قال بثقة
( بل كنتِ تموتين شوقا لامتلاك مثله ............ )
عقدت وعد حاجبيها و هي تقول
( من أين عرفت ذلك .؟؟ ....... أنت تستفزني فقط كي انطق اسمك مجردا مرة اخرى .... اليس كذلك ؟؟ )
ضحك سيف عاليا من مدى برائتها .... و هي تتكلم بجدية و حاجبيها الصغيرين معقودين , فقال بهدوء مستفز
( بل أنا متأكد من أنكِ كنتِ تريدينه بشدة ..... ذلك الأحمر ذو الكعب العالي .... )
عبست وعد أكثر و هي تتطلع اليه ... الى أن همست أخيرا
( كيف عرفت ؟!!........... )
ابتسم سيف بفخر وهو يكتف ذراعيه مرجعا ظهره للخلف متشاغلا عنها وهو يقول برزانة
( هذا سر ........... )
الا أن فضولها كان أقوى و هي تقول مترجية
( اخبرني يا سيف ....... كيف عرفت بذلك ؟؟ .... )
ابتسم وهو يربح اسمه مجردا مجددا ... دون أن تدري بأنها تسلم حصونها واحدا تلو الآخر ....
لكنه قال بخفوت
( اخبريني بسرك .... و أنا أخبرك بسري )
عقدت حاجبيها تقول بخفوت
( لا أسرار عندي ......... )
اقترب منها سيف ... يميل الي ركبتيه مستندا بمرفقيه ... كما تجلس هي ... حتى بات وجهه قريبا من وجهها ... يتشرب ضباب عينيها الآسرتين .... و كأنهما الشتاء ... و كم يعشق الشتاء !! .....
فهمس مجددا
( أخبريني بسر و أخبرك بسر ........... )
فجأة شعرت بأن الحذاء الأحمر يتضائل مبتعدا ..... و يبقى هو بقربها ... يسألها ... بل يأمرها بأن تبوح بسرها .....
و كم شعرت برغبة في الكلام ..... سحر البوح لغريب .....
القريب الغريب ..... سيف ..... ذلك الواقف على الحافة ما بين الماضي و الحاضر ....
لم تشعر من قبل في الرغبة في افشاء أي أمر يخصها لأيٍ كان ..... لكن في تلك اللحظة و هي تتطلع الى عينيه .... و بعد أن ارتاحت على صدره منذ فترة .....
داهمها شعور مؤقت خادع ....... راااااائع .... بوجود شخص بقربها ...
لا يفعل شيء سوى أن يمسك بيدها .... يستمع لها .... لا يرحل سريعا .....
حتى و إن كانت نيته غير سليمة تماما ..... لكن شيئا آخر به يجعله القريب المؤتمن .....
تنهدت وعد و عينيها بعينيه ..... ثم همست أخيرا
( سأخبرك بسر ....... و تخبرني بسر )
ابتسم ببطىء لعينيها .... و هو ينال مراده , ولو كان الطريق لا يزال طويلا على ذلك المراد .... لكنه سينتظر .... كما هو منتظرا الآن أن يسمع سرها .... فأخفضت وجهها و هي تتلاعب بأصابعها ...
و كم ود لو أزاح شعرها بيده الى خلف أذنها كي يتمكن من رؤية وجهها .... و هي تبوح بسرها ....
همست وعد أخيرا ....
( لقد ...... عثرت على الفتاة .... التي كنت ابحث عنها )
لم يكن هذا هو السر الذي ينتظره , و مع ذلك ..... امسك بطرف الخيط ليحصل على سرٍ آخر مهدئا من إحباطه المفاجىء
( ليس هذا هو السر يا وعد ..........)
نظرت اليه بدهشة و توجس .... تلتقط ذبذبات ما يريدها أن تنطقه , فينقبض قلبها .... الا انه أخلف ظنها حين تابع بهدوء
( السر هو من تكون تلك الفتاة ....... )
ظلت تنظر اليه بعينيها الحزينتين ...... بعد أن اتجه بها مما تخافه الى منطقتها الخاصة , يدعوها للكلام ... فقط الكلام ... يخبرها أن مستعد أن يسمعها .... تماما كما هو تارك عمله الآن ليبقى بجوارها ....
حينها وجدت أن الكلام ينساب من فمها بسهولة لم تعتدها ....
( انها أختي .......... )
حينها ارتسمت الدهشة على ملامحه بوضوح و هو ينظر اليها متفاجئا .... ثم عقد حاجبيه متسائلا بقوة
( أختك ؟؟ ...... و لماذا كان أمر العثور عليها صعبا الى تلك الدرجة ...... )
عادت وعد لتخفض وجهها ... و هي تهمس
( إنها قصة طويلة ...... لا أحب أن أقص بدايتها , .... أبغض بدايتها .... )
صمتت بعد أن أختفى صوتها .... و صمت هو ينظر اليها ... بداخله رضا من أنها همست له بتلك الكلمات ... و كأنها بتلك الكلمات البسيطة أعطته السر الذي يريده .... وهو أن الإذن بدخول حياتها ... حتى و إن لم يكن منطوقا ..... الرضا بداخله طغى على المزيد من الفضول .... فصمت قانعا بالقرب منها ....
علها تمنحه المزيد من الأسرار فيما بعد .... و كل سر منهم هو درجة تقربه منها ...
مر الوقت ... قبل أن تنظر اليه مبعدة شعرها عن وجهها لتقول بصوت مهتز تحاول جعله طبيعيا ...
( كيف حال والدتك ؟؟ ...... هل تحسن ظهرها ؟؟ ..... )
نظر سيف اليها ليقول بخفوت
( أنها تتحسن ........ لكن الوضع سيظل قائما )
همست وعد بصدق
( سيف ....... يمكنني اذا وافقت أن أساعدها في أي يوم تريده )
نظر اليها بطرف عينيه .... ثم قال بصلابة
( أتظنين بأنني قد أرضى بذلك ؟؟ ...............)
نظرت اليه بقوة .... لتقول بخفوت
( لقد رضيت به من قبل ...... فما الذي اختلف ؟؟ .... )
لم تتغير ملامحه و هو ينظر اليها .... لكن خطوط وجهه اشتدت و هو يقول بجفاء خافت
( الا ترين أن شيئا قد اختلف ؟؟!! .......... )
رفضت أن تخفض عينيها و هي تنظر اليه .... ثم قالت بهدوء
( الشيء الوحيد الذي تغير هو أنني لن آخذ منك مالا ........ )
رفع حاجبه ليسألها متحديا
( و لماذا تفعلين ذلك ؟؟ ............. )
قالت وعد ببساطة
( لأنها ...... سواء أعجبك ذلك , أم لا .... فهي عمتي .... و أنا حقا أرغب في رؤيتها مجددا .... و لا أمانع أبدا في مساعدتها ...... )
قال سيف بخفوت جاد
( لن أقبل بذلك .............. )
همست وعد برقة
( و اذا أخبرتك أنني أريد ذلك ........ و لا سبيل آخر لرؤيتها كما تعلم ..... )
تنهد سيف وهو يعود ليميل الى ركبتيه بذراعيه ..... قائلا
( لا أستطيع القبول بذلك ............ لن أقبل أن تعملي بالبيت مجددا ... )
نقطتان استوقفتاها ..... أولهما أنه لم يعرض أبدا أن يُعرِفها بها ... و يخبرها من تكون .... و الثانية ... اليس عملها كساعية معه ليس أفضل بكثير ؟!!! و مع ذلك فهو يقبل به دون اعتراض ..... بل على العكس , يبدو سعيدا مبتهجا بدخولها مكتبه كل صباح ....
قالت وعد بقوة .... هادئة
( صدقني أنا مصرة ....... ..... )
نظر اليها متحديا ليقول باستفزاز كي تتراجع
( لو أصريتِ سأوافق لكن ستتقاضين لقاء ذلك ........ )
ردت وعد بتحدي أكثر قوة
( و لا قرش واحد ............ ... )
ظل التحدي بين أعينهما طويلا ..... الى أن همس مبتسما بخفوت
( ربما يوم عطلتي ....... )
امتعضت وعد و هي تنظر بعيدا عنه .... فاقترب منها ليقول بخفوت
( هل أغضبتك ؟؟ ........ كنت أمزح معك ...... )
لم تنظر اليه و هي ترد بفتور ....
( لم تغضبني ..... أعتدت الا آخذ كلامك على محمل الجد .... )
عبس سيف فجأة و اشتدت ملامحه .... وهو يقول بصلابة
( ما المقصود من ذلك بالضبط ؟؟ ..........)
عادت لترفع شعرها عن وجهها بتلك الحركة التي تثير جنونه ..... ثم قالت بهدوء
( لا شيء ..... حقا , لا تهتم ........ )
قال سيف بهدوء يشد على كلماته
( شيء واحد يجب أن تعرفيه ..... ليس هناك ما يغضبني أكثر من كلمة لا تهتم تلك .... إن كان هناك ما تريدين قوله , قوليه مباشرة ...... )
نظرت اليه ..... و قررت أن تقول شيئا آخر , ألح عليها منذ فترة .... لا تزيد عن الساعة , لذا همست بتردد
( سيف ........ الا ترى , أن ....... أنه يجب أن تخبر والدتك عن وضع أبي ..... ربما رغبت في أن ... )
أجفلت بل انتفضت حين قاطعها سيف صارما بلهجة قاتمة
( انسي الأمر ......... )
رمشت عيناها للهجته القاسية .... لكنها شجعت نفسها حين لم تجد المزيد فقالت بخفوت
( حين علمت أن أمي ماتت يا سيف ...... )
نهض سيف من مكانه ليقول بخشونة
( وعد , ..... انسي هذا الأمر كي لا نختلف , .... أنا مضطر للذهاب الآن , تعالي لأقلك الى بيتك ... وجودك هنا لن يفيده بشيء ...... و سترجعين مجددا )
كانت تنظر اليه رافعة رأسها .... وهو يعلوها و كأن حجمه قد ازداد ضخامة و تجبرا .... بينما كانت ملامحها باهتة .... تراقبه بصمت و هو يتكلم ...
و ما أن انتهى حتى أنزلت راسها .... تنظر أمامها بصمت للحظات قبل أن تقول بخفوت فيه أصرار
( اذهب أنت من فضلك ...... لا داعي لأن تعطل نفسك , ...... أنا باقية .... لن أتركه أبدا )
زم سيف شفتيه .... وهو ينظر الى رأسها المنخفض الذي أغلق ستائر عينيها أمام عينيه ... فقال بجفاء
( سأعود اليكِ ....... )
لم تنظر اليه و هي تهمس
( لا تشغل بالك ........ )
سحب سيف نفسا خشنا .... ثم استدار مبتعدا بسرعة , .... بينما التقطت أذنيها صوت خطواته القوية التي تقطع الأرض الناعمة غضبا .....
بينما كانت تنظر أمامها .... بخواء ......
بعد عدة ساعات ..... أخبرها الطبيب بأن حالة والدها بدأت في الإستقرار .... إن لم يكن في أمانٍ تام .... لكنها سمح لها برؤيته مجددا ..... بعد أن دخلت مرة .... و دخل سيف مرة ....
خطت وعد عدة خطوات الى والدها ....كان مغمض العينين ... يبدو و كأنه قد كبر عشر سنوات فوق عمره الأصلي ....
ظلت تنظر اليه بلا تعبير .. ثم اقتربت منه لتنحني اليه تلمس كتفه و هي تهمس
( ابي ......... )
لكنه لم يرد عليها ..... نظرت نظرة غير مفهومة لمؤشراته على الأجهزة ... و طبعا لم تفهم منها أي شيء , لكن من الواضح أن وضعه مستقر ....
استقامت وعد لتقف الى جواره تنظر اليه طويلا ..... ثم همست مجددا
( أبي ...... أنا آسفة لأنني تأخرت للحظة في طلب المساعدة , .... قد تكون تلك اللحظة غير ذات أهمية ... لكن مع ذلك أنا آسفة لأنني تأخرتها ...... )
لم يرد عليها .... و لم يفتح عينيه ..... فتابعت تتكلم بخفوت
( أبي ...... لقد آذيتني كثيرا ...... و حملتني ذنب قوانين الوراثة التي جعلتني أشبه صفا ..... لكن و مع هذا أنت أخذتني معك ...... أعرف أنك ما فعلتها الا لأنك احتجتني وقتها ..... لكن على الأقل احتجتني ..... لذا ...... أنا آسفة لأنني تأخرت تلك اللحظة ..... فقط من أجل ذلك السبب ..... لكن أنا أيضا آسفة .... لأنني لا أظن أنني قادرة على مسامحتك على كل ما فعلته بي و بأختي ...... أنا سأرحل يا أبي ... يوما ما سأرحل ..... لكن اليوم , اكتشفت أنك من الممكن أن ترحل قبلي .... و هذا ما جعلني أخاف الا أخبرك بأسفي لمرة واحدة على الأقل ...... )
صمتت وعد و قد شعرت بأنها غير قادرة على المتابعة .... و حين نظرت اليه وجدت أن عينيه مفتوحتين ... فأجفلت رغما عنها .... الا أنها همست حين وجدته لا ينظر اليها
( أبي ..... هل أنت مستيقظ ؟؟ ...... )
لم يرد عليها .... بل عاد لإغلاق عينيه .... فتنهدت و هي تربت على ذراعه مرة واحدةٍ بلمس .... ثم استدارت لتخرج ..... متثاقلة الكتفين ....
.................................................. .................................................. ..................
جلست كرمة على الأريكة بنفسية منقبضة ... تنظر للجميع بعينين واجمتين ... يحدقون بها و تحدق بهم ... ككل مرة .... و الجميع ينظرون بنظراتٍ ذات معنى ممتعض الى تنورتها التي تنخفض عن ركبتيها قليلا ... فمدت يدها لتنزلها أكثر دون جدوى .... ما الذي دهاها كي ترتدي تلك التنورة اليوم تحديدا في زيارة أم محمد العائلية و التي يجتمع فيها إخوته ....
كانت من قبل شديدة الحرص في انتقاء ملابسها أمامهم .... لماذا بدأت تتهاون الآن .... و كأنها تتحدى نفسها قبل أن يكون تحديا لمحمد نفسه ....
تبرعت كبرى شقيقات محمد بالبدىء بالكلام ... و هي امراءة بسيطة ممتلئة القوام ترتدي عباءة تكبرها بخمس عشر عاما .... لا تعلم من الحياة سوى حدود بيتها و محيط سوق الخضروات .....
( كيف حالك يا كرمة ؟؟ ..... إن كنا لا نسأل عليكِ , لا تتبرعين أنتِ برفع سماعة الهاتف للسؤال علينا )
تنهدت كرمة داخليا ... قبل أن تقول بابتسامة دبلوماسية
( التعب يا دلال ..... ما أن أعود من يوم عمل طويل حتى أنهمك في أشغال البيت , لكني أتطلع كل اسبوع لرؤيتكم أكثر من الهاتف .... )
مطت دلال شفتيها و هي تضرب يدا فوق أخرى
( و لماذا التعب يا بنت الحلال ؟!! ..... لما لا تبقين ببيتك معززة مكرمة ...بدلا من القفز في المواصلات و تعريض نفسك للمضايقات و القيل و القال .... خاصة بملابسك تلك ... )
التفتت الأعين اليها و نزولا الى تنورتها .... فبرقت عينا كرمة و هي تقول بقوة
( ماذا بها ملابسي يا دلال .... أنا أعمل بمصرف , أي أن الأناقة مطلوبة ... كما أنني أستطيع الدفاع عن نفسي تجاه أي مضايقة .... )
عادت دلال لتمط شفتيها ... بينما تنهدت أم محمد بصوتٍ عالٍ ثم قالت بخفوت
( عيني عليك يا محمد يا ابني ..... من في مثل عمرك الآن عندهم من الأطفال ثلاث و أربعة ... و أنت زوجتك لا تفكر سوى بأناقتها و جمال جسدها ... )
انحنى حاجبا كرمة ألما و هي تلتفت الى أم محمد .... لكنها رفضت اظهار ضعفها و هي تقول بصوت حازم لكن منخفض
( لم أذكر شيء عن جمال جسدي يا أمي ..... و موضوع الأطفال هو رزق من رب العالمين ..و الله لم يأذن بعد ..... )
عادت ام محمد تتنهد و هي تنظر من النافذة التي تعلو الأريكة ....بينما تطوع زوج الأخت الوسطى و الذي كان متربعا أرضا يأكل شرائح البطيخ بعد الغذاء
( امور الإنجاب الآن تطورت جدا ..... لربما لو ركزتِ لفترة مع الأطباء لاستطاعو وضع يدهم على المشكلة ... المسألة تحتاج التفرغ و المتابعة ..... و عملك هذا لا تؤاخذيني ليس اهم من بيتك .... )
عقدت كرمة حاجبيها و هي تقول
( من فضلك يا سيد .... هذا أمر خاص جدا , و لا أعتقد أن محمد سيرحب حديثك به ...... )
تدخلت زوجته لتقول بحدة
( ما بالك يا كرمة تحرجين الرجل !! ..... وهو الذي يتكلم في مصلحتك .... )
التفتت كرمة اليها وهي تقول بغيظ
( انه امر نسائي خاص ..... و لا أرى كيف تتكلمن به أمام الرجال ... )
رفع زوج الأخت الكبرى ذراعه من فوق عينيه و هو ممدد على الأريكة الأخرى بعد الغذاء ... ليقول ضاحكا
( ربما يجب علينا أخذ الاذن قبل الكلام أو دخول البيت يا ام محمد ..... )
ردت أم محمد تقول بحدة
( البيت بيتكم و من لا يعجبه الكلام لا يسمع ....... )
احمر وجه كرمة احراجا ..... لكنها آثرت الصمت الى أن يأتي محمد ... فقد بدأت تشعر بإختناق بينما الأخت الكبرى تعدل من وشاحهها فوق شعرها بفوضوية .... و هي تقول
( و هل المصرف الذي تعملين به يا كرمة يدر دخلا معقولا ؟؟ ....... )
اجابت كرمة من بين شفتيها بايجاز
( الحمد لله ......... )
الا أنها أصرت بالسؤال
( كم تتقاضين يا كرمة ؟ ........... )
اخذت كرمة نفسا و هي تشعر بالإختناق يتزايد أكثر و أكثر ..... فقالت بهدوء و هي تتعمد انهاء الحوار
( يختلف ........... )
مطت دلال شفتيها و هي تدرك أن كرمة تأبى أن تذكر راتبها .... بينما تظاهرت كرمة بأنها لم تلحظها من الأساس ....
بصراحة .... لقد أصبح هذا اليوم العائلي من أبغض الأيام على قلبها ....
حين دخلت كرمة و هي صغيرة الى عائلتهم كانت سعيدة و متشوقة ... لأن القدر كتب لها عائلة و بيت لم يكن لها في الحسبان ...
كانت في غاية الإمتنان .... فأقصى ما كانت تتمناه هو أن تكمل تعليمها .... لكن فوق ذلك رزقت بعائلة كاملة و سيدة تناديها بأمي ...
لكن من أول يوم بدأت تلك السعادة تطير من النافذة .... فلقد لاحظت رفضهم من البداية ...
كونها خريجة دار رعاية .... و كانت تسمع بعض الهمسات أمامها دون مراعاة لمداراتها ....
و كانت تعرف أن أمه و شقيقاته دائما ما يللححن عليه ..... أن يتريث قبل الزواج منها , فما الذي يعيبه كي يتزوج واحدة ليس لها أصل أو فصل ....
لقيطة ......
أوشكت الكلمة على أن تخرق أذنها ذات يوم .... فانربت تصرخ بما رسخته الأستاذة نوال في عقلها و كيانها الا تسمح لأحد أبدا بأن يدعوها بتلك الكلمة ..... فهي معروفة الأصل .... بنت حلال .... و لتقطع لسان كل من ينطق غير ذلك ....
الا أنها حتى الآن لا تزال تتذكر قبضة محمد على معصمها الهش الصغير ... و هو يمنعها عن التفوه بشيء .....
و أصر محمد على التمسك بها ..... و على الرغم من أنه أحضر لهم بيناتها و بيانات عائلتها التي راحت ضحية يوم واحد .... الا أنهم مع ذلك لم يرتاحوا للأمر تماما ....
و لهذا لم تستطع كرمة أن تكون صافية النفس معهم من يومها ..... لقد أحدثوا بها شرخ قوي .... لم تستطع اصلاحه حتى اليوم ...
بخلاف ليلة الزفاف ..... ليلة الزفاف ... التي انتظرن فيها دون أن يغادرن كي يتأكدن من شرفها .....
لا .... لن تستطيع كرمة أبدا أن تندمج معهم ..... لقد أحدثوا بها الكثير من الجروح و هي كانت في غنى عنها .....
استدارت قليلا .... تستند بمرفقها الى النافذة ... تتطلع الى الطريق بصمت و شرود .... لكن كان وجه حماتها يقابلها و هي تستند الى نفس النافذة
فنظرت كرمة اليها بصمت ....ترى عيناها لا تنطقان الا برسائل الحسرة على ابنها ..... و سؤال خفي صامت ... عما تفعله كرمة بينهم ......
أبعدت كرمة نظرها عنها الى الطريق .... و هي تجيب .... نعم .... أنا لست منهم , و لن أكون ....
ذاكرتي ترسم لي بعض الأطياف .... صحيح أنها كانت من أسرة بسيطة الحال , الا أنها كانت مختلفة تماما عن أسرة محمد .... في الثقافة و العادات ....
نعم لن تكون منهم أبدا ..... و لن تسمح لدار الرعاية أن يوصمها أبدا..... لقد وصلت الى مكانة لم يصل اليها أيا من رجالهن .....
وقعت عيناها على محمد يقترب من أول الطريق ..... فتنفست الصعداء .... لقد وصل أخيرا ....
لقد كان يصلح سيارة في الجوار .... و تركها بين براثنهم وغادر .....
ظلت كرمة تنظر اليه يقترب ... و الشرود بادي عليه .... لا يراها ... يدخن سيجارته ....
ابتسمت بشرود هي الأخرى و هي تراقبه يركل كرة أطفال قفزت عند قدمه ليعيدها اليهم ... هذا الآن استرعى انتباهه .... بل أسقط السيجارة ليدهسها بقدمه في الأرض و يركض معهم عدة خطوات ليسجل هدفا بين حجرين موضوعين ارضا ....
و نشب نقاش حاد عن أي الفريقين سيحتسب له الهدف .... بينما تركهم محمد مبتسما .... ليرفع رأسه مع اقترابه فتقابله عينا كرمة .....
توقف مكانه للحظة .... فابتسمت له .... فيعاود السير باتجاه البيت القديم في صمت .....
و حين دخل من باب الشقة ..... نهضت كرمة تتجه اليه و ما أن اقتربت حتى وضع يده على خصرها تلقائيا ... فقالت بخفوت
( لقد تأخرت ...... و تناولنا طعام الغذاء بدونك ... )
ابتسم قليلا لعينيها ثم قال
( شغلتني السيارة ...... .و سرقت الوقت مني ..... )
ربتت على ذراعه و هي تقول بخفوت
( اجلس ريثما أحضر الطعام لك ............ )
ثم استدارت الى والدته لتقول بهدوء
( بعد اذنك يا أمي ........... )
لم ترد عليها و هي تجذبه ليجلس بقربها ..... بينما تنفست كرمة الصعداء مجددا لإبتعادها عن هذا المحيط ... و الذي لا يحرره منها سوى وجود محمد .....
هي و محمد كيان واحد ..... هي و محمد كيان واحد ......
كانت تعد الأطباق الخاصة بمحمد ... و هي تردد تلك الكلمة ... لم تغفل عن نظرات الحقد التي شيعتها بها شقيقاته حين وضع يده على خصرها و قربها منه ....
عجيب حال البشر ..... كيف يمكن أن يفقدوا السيطرة على أخفاء حقد أعينهم لمجر حركة بسيطة ..... بينما هي لم تنظر يوما الى عدد أطفالهم المهول مثلا الا و قالت في سرها ماشاء الله .....
رفعت عينيها تنظر الى عصفورٍ صغير حط على نافذة المطبخ الصغيرة .. و أخذ يشدو بحزن مماثل لحزنها ...
تلك الحركات البسيطة ... و دفاع محمد عنها , هما السبب الوحيد الذي قد يجعلها تتقبل الحضور الى أهله ....
و كم أن المظاهر خادعة .... ففي بيتهم لا يبقى بينهما عادة الا ضرب النار .... ماعدا مناسبات نادرة ....
لكن حين يتطلب الأمر دفاعا عنها .... محمد لا يتأخر .... لذلك دائما ما يذكرها هذا بمحمد القديم .....
و إن يكن ... منذ أن بدأ عمله الجديد ... حتى بدأ قليلا في الاقتراب منها ... فلقد أتى لاصطحابها من العمل على دراجته عدة مرات .....
من داخلها .... يفرحها هذا و يشعرها و كأنها فتاة صغيرة مخطوبة .... شيء بسيط يهون عليها مرارة الواقع ... لكن من جهة أخرى عقلها يتدخل و ينبهها الى نظرات الاستنكار التي بدات تتزايد من زملائها ...
و كأن محمد يتعمد استفزازهم .... بمكان وقوفه ... بطريقة جلوسها خلفه بزيها الرسمي ....
المنظر غريب و متناقض .... و عقلها ينبهها ان مركزها لا يسمح بذلك ..... لكن قلبها لايجرؤ على أن ينقل الامر الى شفتيها كي تنبه محمد بملحوظة .....
تنهدت كرمة و هي تضع آخر طبق في الصينية الكبيرة ...... تستعد للخروج الى الحرب الصامتة بالخارج .... تاركة الحرب ما بين عقلها و قلبها هنا في المطبخ الضيق ......
.................................................. .................................................. ..................
عادت وعد الى عملها بعد عدة أيام .... و لازال والدها تحت الملاحظة ...
و في هذه الأيام .... لم يتركها سيف , كان يأتي يوميا بعد انتهاء العمل ..... كي يبقى معها , محضرا لها العديد من الأطعمة و فيتميناتها .....
حتى أوشكت على التصديق ..... تصديق أن معجزةٍ ما قد تحطم عجز واقعها .....
كيف يتصرف الإنسان حين يحاص بكل هذا القدر من الإهتمام .... الرعاية ..... الإستماع .....
لم تعلم يوما مدى روعة أن يكون لديك مستمعا ...... من كان مستمعا لها من قبل .....
حتى كرمة ..... فإن العلاقة بينهما مختلفة ..... تتكلمان لكن دون أدق التفاصيل .... دون متلقي و مستقبل ....
كرمة ووعد .... مكملان لبعضهما في مواجهة الحياة .... حين تتقابلان تتفنن كلا منهما في جعل الأخرى تنسى مرارة ما تعيشه .... و ليس تذكره ....
و كأنهما تعاهدا على نبذ الميل للكآبة ..... و الإنطلاق الى كل ما لا يخص حياتهما .... المهم أن كل واحدة تعرف الخطوط العريضة المستجدة في حياة الأخرى .....
لكن الإستماع باهتمام ... لمجرد غرض الإستماع ......
لم تره سوى من سيف .... حتى بدأت أن تتسائل عن علاقته بشقيقتيه ... هل تتلقيان نفس المعاملة منه كالتي تتلقاها هي ؟؟ .... سؤال غبي ... من المؤكد أنه يغدق عليهما أكثر و أكثر ... حتى بدأت أن تحسدهما ....
حكت له أشياء كثيرة ... عن وظائف عملت بها .... عن والدتها و ما تتذكره منها .... عن ملك و مدى روعتها ....لكنها لم تتطرق الى موضوع دار الرعاية ......
كانت محرجة منه ..... و أمام سيف بالذات ..... شعور غريب يجتاحها .... أنها بدأت في محاولة تقليص كره سيف لأسرتها ... بإخفاءالمزيد من فائحهما ....
لا يجرؤ عقلها على سؤال من كلمة واحدة ...... لماذا ؟!!! ....
لم تعد ترغب في أن تعيب أمها .... و أن تذكر كيف تركتها و أختها الى جدتهما المسنة ... ما أن حصلت على فرصة زواج ببلد آخربشرط أن تذهب بلا طفلتيها ....
و حين توفيت الجدة .... لم تمر فترة طويلة قبل أن يتم ايداعهما دار رعاية .... لم تخبره بتفاصيل علاقتها بوالدها ... من اهانة و ضرب ... و تشكيك في شرف والدتها ...
لم تخبره أن ملك الى الآن تعاملها كزميلة .... أو انسانة تعرفها من بعيد ......
لم تخبره بكل ذلك ....و عقلها يرفض السؤال .... لماذا ؟!! ....
لماذا تروين أنصاف حقائق ..... على الأرجح أنه يعرف بالكثير من غسيل والديها الغير نظيف .... لكن لماذا تحاولين أنتِ تجنب الصورة السيئة أمامه ......
لم تحصل على جواب معين ..... سوى أنه ما من سبب منطقي يجعلها تقلل من قدر نفسها أكثر من قلته الطبيعية ..... و خاصة أمام سيف !! .......
طرقت وعد الباب صباحا .... ثم دخلت اليه ....
و ما أن رفع وجهه اليها .... علت وجهه علامات مختلفة , للحظة واحدة ثم عادت لهدوءها ... لكنها لن تخطىء أبدا بريق عينيه لرؤيتها ...
ابتسمت وعد و هي تقول برقة مقتربة منه ....
( صباح الخير ........... )
لم يرد سيف للحظة واحدة ثم قال بخفوت
( لم تخبريني انكِ ستعودين اليوم !! ........ كنت معك بالأمس )
ابتسمت أكثر و هي تقترب لتضع قدح القهوة على سطح المكتب .... ثم تلاه كوب الماء فوق وردتها التي كانت في انتظارها دون أن ترحل الي سلة المهملات .....
ثم قالت
( هل أعود ؟؟ ............. )
مد سيف يده يزيح الكوب عن الوردة ليضعه فوق سطح المكتب ببساطة .... مبقيا وردته ظاهرة للأعين ...
ثم قال بخشونة
( تجرأي على ذلك ................)
أرجع ظهره الى الكرسي ناظرها اليها بقميصها الوردي .... و شعرها المرتب ... مظهرا قسمات وجهها بوضوح.....
الإرهاق تحت عينيها .... و الشحوب على وجهها ... يزيدانها جاذبية .... و يجعلان روحه تهفو اليها ....
حين تكلم مجددا قال بجفاء
( كم يوم مر لم أجد للقهوة طعما !! ........ )
ازدادت ابتسامتها عمقا و هي تقول
( ألم يحسن علي صنعها ؟!! ...... لقد أوصيته عليك )
عقد سيف حاجبيه .... "علي " مجددا , ها قد عادت الى الصبي العاشق في غرفة لا تزيد مساحتها عن مترين في مترين .....
قال سيف بجفاء
( لم تعد تطيب لي قهوة سوى قهوتك ........... )
أخفضت وجهها قليلا .... ثم قالت بخفوت
( شكرا ........ عامة ها أنا قد جئت .... )
قال سيف بجفاء أكثر خفوتها
( ووالدك ؟!! .................. )
نظرت اليه وعد ..... لم يكن ذلك سؤالا .... بل كان مجرد رغبة في معرفة بتقرير بارد لآخر ما حدث في الأمر ....
فقالت وعد بهدوء
( كما هو ......... وضعه مستقر ... لكن سيظل تحت الملاحظة لفترة .... )
أومأ سيف برأسه بحركةٍ ليس لها معنى ..... فارتجفت وعد قليلا ..... الا أنه عاد ليرفع وجهه اليها وهو يقول بهدوء مبتسما ناظرا الي عينيها
( و كيف حالك أنتِ ؟؟ ............)
أومأت برأسها نفس ايمائته ..... ثم حانت اللحظة البائسة .... التى كانت ترغب في أن تؤجلها الى مالانهاية ...
فقالت بخفوت و هي تخفض وجهها قليلا .... متذكرة المرة الأولى التي خطت فيها الى هذا المكتب
( كنت أريد أن أطلب منك شيء .......... )
ابتسم سيف قائلا بهدوء ... يناقض ما بداخله من بدئها بالطلب منه ما تريد
( أي شيء .............. )
أخذت وعد نفسا مرتجفا ..... و كم هي صعبة تلك اللحظة
(هل يمكنني ...... طلب سلفة ........ )
عضت على شفتيها و هي تخفض و جهها .... و حين ساد صمت متوتر همست مبررة الوضع بسرعة
( من أجل المشفى ...... أنت تعرف ..... )
و ياليتها لم تبرر ..... لم تحتاج أن ترفع وجهها كي ترى تعبير وجهه القاتم .... لكن لا سبيل آخر ...
قال سيف أخيرا بصوت جاف
( السعاة غير معينين بعقود ثابتة ..... لذا فإن السلفة لن تنفع .... )
شعرت بصدرها يتجمد صقيعا .... و رغبت من الخروج من هنا على أسرع ما يمكنها .....فقالت تتلعثم و قد احمر وجهها .... و أظلمت عيناها ... ثم همست ..
( حسنا ..... شكرا لك .... بعد اذنك ..... )
استدارت وعد بصمت تتجه الي الباب ... وهو يراقبها بنفسٍ مكبوتة و يدين مغلولتين ... تصارعان لفك القيد بينما قلبه رافضا تماما .... الى أن حسم الصراع في النهاية ليقول بصوتٍ ملبد
( وعد ............. )
توقفت مكانها للحظة .... ثم استدارت اليه ببطىء ترفع اليه عينين تشبهان تلك العينين اللتين أتياتا اليه اول مرة ... في انحناءة حزنهما ....
هز رأسه قليلا .... يحاول مقاومة رفضه , الى أن نجح أخيرا في القول بصوتٍ مكبوت و ملامح جامدة
( سأعطيكِ ما تريدين ........ )
فغرت شفتيها قليلا ... ثم همست بحرج
( لكنك قلت .... أن ذلك ....... )
قاطعها سيف بصوتٍ جاف ...
( أنا من سيعطيكِ ما تريدين .......... )
هزت وعد رأسها رفضا بسرعة و دون تفكير ... فعقد سيف حاجبيه ليقول
( و ما الفرق ؟؟ .......... )
لم تعرف بماذا ترد .... لكن موقفها كان بغيض بشكل مرهق و مؤلم لاعصابها ..... فقالت اخيرا بصوت مختنق
( الفرق ضخم ......كنت أظن أن عملي له ..... مثل باقي الموظفين .... لا أعلم ..... لكن مستحيل أن آخذ منك مالا بصفة شخصية ..... )
رد سيف بجفاء و هو ينظر اليها
( و هل لديكِ حلا آخر ؟........... )
ردت وعد بصوت مهتز و هي تريد الهروب من هنا بأقصى ما تستطيع
( لا بأس ..... سأجد حلا , لا تشغل بالك ..... )
رد سيف بقوةٍ قاطعا
( ليس أمامك حلا آخر الا أن تقترضي من غيري .... لذا أعتقد الإقتراض مني أفضل .... اليس كذلك ؟؟ )
رفعت عينيها اليه لتقول بعد فترة طويلة
( ليس و أنت كاره للأمر بهذه الصورة المهينة ..... أعتقد أن غيرك أفضل )
قال سيف بقوة
( وعد ..... الا ترين أنكِ تضغطين علي أكثر من اللازم ؟!! ....... )
قالت وعد بصوت عالٍ قليلا لكن مجروح و بشدة
( و الا ترى أنت ضغط هذا الموقف الذي أقع تحته ؟!! ...... الا يمكنك أن تضع نفسك مكاني و أنت واقف تمد يدك لشخص رافض أن يعترف باسمك كاملا ...... )
صمتت تخفض وجهها .... وهي تشعر باختناق شديد و حين سمعت صوته ينادي اسمها خافتا ... رفعت رأسها لتقول بإباء
( أعتذر على أني عطلتك ..... سأذهب الآن , و انسى الأمر ..... )
استدارت مرة أخرى لتبتعد .... و ما أن أمسكت بمقبض الباب حتى وجدت كفه القوية على الباب تمنع فتحه ... و هو من خلفها وجوده يحيط بها بقوة ....
لكنها لم تلتفت اليه و هي تقول بخفوت
( أرجوك يا سيف ...... أريد أن أخرج من هنا .... )
سمعت كلمة واحدة بصوتٍ عميق
( لا ............. )
أخفضت رأسها دون أن ترد أو أن تستدير اليه ... فقال سيف بنفس الصوت العميق لكن بنبرة أكثر خفوتا
( أتظنين أن الأمر سهل علي ؟!! ...... )
انتظرت عدة لحظات ... ثم هزت رأسها نفيا دون أن تجيب , فتابع من خلفها وأنفاسه تلفح بعض خصلات شعرها بجانب أذنها ....
( تظنين أنني لست أفضل من نذل .... لأنني تركتك دون أن أبادر بدفع رسوم المشفى ..... )
رفعت وعد وجهها قليلا دون أن تستدير اليه .. سابحة في عروق الباب الابنوسي أمامها و الذي يقيدها به .... ثم همست بلا روح
( بل أظنك فعلت ذلك و أنت تتمنى أن أتركه و أرحل بلا عودة اليه ....... )
رد سيف بصوتٍ جاف
( لم أظن أنكِ قد تقفين هذا الموقف من أجله ......... )
قالت وعد ببساطة حزينة
( أنه أبي ....... أتظن أنني قد أتخلص منه بإلقائه في سلة المهملات وهو في حالة عجز !! ..... )
رد صوته خافتا بالقرب منها
( لا أظنه كان أبا صالحا ........... )
ردت بأمرٍ واقع ( لكنه أبي ........كان يمكنه أن يتركني .... لكنه أخذني معه رغم كل شيء )
عقد سيف حاجبيه وهو يقول
( يتركك أين ؟ ......... )
لم ترد وعد و هي ترى أنها قد أخطأت و أفصحت عن كلام لم تكن تريد البوح به الأيام الماضية .....لكنه لم يكن ليتركها ..... بل ألح هامسا
( يتركك أين يا وعد ..... تكلمي , لا تصمتي الآن ..... )
لتجد للمرة الثانية أن الكلمات تنساب منها و هي تهمس مغمضة العينين
( بدار الرعاية ........... )
صمتت بينما عقد هو حاجبيه بحيرة مرددا كلمتها ...فأدارت وجهها جانبا اليه قليلا هامسة بحزن
( نعم يا سيف ...قضيت فترة من طفولتي بدار رعاية ..... )
انتظرت منه ردا ..... الا أنه لم يرد .... فأشعرها ذلك بغصة في حلقها
فاستدارت اليه ببطىء تستند بظهرها الي الباب ... رافعة وجهها اليه بصمت و بلا تعبير سوى عينيها اللتين تنطقان بكل ما بداخلها .... ثم قالت أخيرا بخفوت
( أرأيت الآن أن الأمر مستحيل ........ )
ما لم تتوقعه هو ابتسامته البطيئة و تغضن زوايا عينيه ... و هو ينظر لعينيها قائلا بخفوت يكاد يكون همسا
( أي أمر هذا الذي هو مستحيل ؟؟ ...... )
أي أمر الذي هو مستحيل ؟!!! .... ما هذا الذي نطقته للتو !! ..... ياللغباء !! .....
مد يده يرفع ذقنها لأعلى كي تنظر في عينيه ... الا أنها أسبلت جفنيها تلقائيا , فهمس لها برفق
( انظري الي يا وعد ....... )
لم تستطع مقاومة الأمر الخافت فعادت تشرق بعينيها الى عينيه ... ليرتوي منهما طويلا ... قبل أن يهمس
( لو كنت أعرفك وقتها لكنت أتيت و أخذتك قبله ..... و لما كان هناك أي مستحيل الآن .... )
ضحكت وعد قليلا ... بينما عيناها دامعتان ببريقٍ يأسره .... فتابع سيف بصوت اكثر خفوتا
( كنتِ لتكبرين تحت سقف بيتي ...... لينمحي اسم عبد الحميد العمري بالتقادم , حتى يصبح مجرد حبر على ورق ...... )
همست وعد بخفوت
( لن يكون ...... لن يكون أبدا مجرد حبر على ورق و تعلم ذلك جيدا ...... سيظل والدي , دمائه تجري بعروقي ... و جيناته مدونة بخريطتي الوراثية ..... )
لم يستطع الرد ..... و لم تنتظر منه الرد .... فكان هذا مستحيلا آخر .... لذا شدت ظهرها و رفعت وجهها و هي تقول بهدوء
( يجب أن أخرج الآن يا سيف ..... لقد مكثت هنا أكثر مما ينبغي , و هذا لا يليق ..... )
ظل ينظر اليها قليلا .... قبل أن يبعد يده عن الباب .... و يبتعد عدة خطوات ناظرا اليها ... ثم همس أخيرا
( لا تقلقي لأمر المشفى ....... )
كلمة الشكر حتى لم تستطعها ..... لم تتمكن من همسها من بين شفتيها و الخزي يملأها ....
استدارت ترتطم قليلا بالباب قبل أن تفتحه و تغادر تغلقه خلفها بتهذيب .... بينما شعورها كان بعيدا تماما عن التهذيب .... و هي تتسائل عما تفعله!! ... و عن بدء خط الاستسلام المخزي ....
و شعورها الجديد العالي بأسهل الحلول .... حين يكون للإنسان ظهر يعتمد عليه ... خرجت و هي تشعر بأنها تركت وعد التي تعرفها بمكانٍ آخر ..... فهل هو شقاء السنين الذي يجعلها تتخاذل بهذا الشكل ؟!! ....
لم تحصل على الجواب ..... أو أنها لم تشأ أن تحصل عليه .....
دخلت كرمة الي البيت ... لتقذف بحقيبتها على اقرب اريكة بعنف .... ثم تستدير الى محمد الذي صفق الباب خلفه بغضب , لتقول بحدة
( لقد تعبت من اسلوبك هذا .... كم مرة رجوتك كي تتفضل و لا تناقش ما يغضبك في الشارع و بصوتٍ عالي ...... )
صرخ محمد بحنق
( و أنا كم مرة حذرتك من أن تتحدثي معي بتلك الطريقة ..... ملخص الحوار هو أن أوامري تنفذ ... و دون جدال ..... )
هتفت كرمة بغضب ....
( أي أوامر تلك ؟!! ..... أن أطيل من ثيابي و أنا ذاهبة لزيارة أمك و أخواتك ؟!! ..... و لماذا لم يظهر هذا الغضب و نحن في طريقنا الي هناك ؟!!.... أم أن هناك من استلم اذنك ليملي عليك ما تأمرني به .... )
مد يده يصفعها دون تفكير ....
فتراجعت للخلف و هي تنظر اليه بهياج ... ثم صرخت
( لا تضربني مجددا يا محمد ..... اياك .... أقسم أنني لن أسكت المرة القادمة ... )
صرخ محمد و قد أفلتت أعصابه منه
( و ماذا ستفعلين ؟!! ............. )
تلجمت للحظة ... ثم عادت للهجوم من جديد و هي تهتف
( أنت تكسر كل ما بيننا بتصرفاتك تلك ...... )
صرخ محمد
( و ماذا عن تصرفاتك أنتِ ؟ !!...... أنتِ أنانية ... لا تراعين المكان الذي تذهبين اليه ... أو الناس اللذين تتعمدين استفزازهم بملابسك أو بأسلوبك المتعالي ..... )
و ضعت كرمة يدها على صدرها و هي تهتف
( أنا أسلوبي متعالي ؟!! ..... منذ متى ؟!! ..... أنت الذي تنقلب علي كلما عدنا من عندهم .... )
صرخ محمد مجددا
( لا أفهم لماذا تظنين نفسك مختلفة عنهم ؟!! .... لماذا لا ترتدين الحجاب مثل شقيقاتي ...... كلما أقنعت نفسي بألا ألح عليكِ في الأمر كلما ازدادت ملابسك استفزازا .... )
هتفت كرمة من بين أسنانها
( أي حجاب هذا الذي تتكلم عنه يا محمد ؟!! ..... أهو وشاح أختك الساقط عن شعرها طوال الوقت أمام زوجي شقيقتيها الممددين على الأرائك ؟!! ...... أم أكمام العباءة المشمرة حتى المرفقين طوال الوقت !!
... أم ذلك الذي لا يمنع تحدثهم علنا في أدق الأمور الخاصة دون حياء ؟!! .... )
صمتت لحظة واحدة قبل أن تقول أمام عينيه اللتين ازداد سوادهما من الغضب
( أنا آسفة يا محمد ..... أنا لا أشعر بأنهم أفضل مني بشيء , ............. )
لم يشعر بنفسه الا وقد صفعها مجددا ... لكن هذه المرة كانت صفعة حقيقة ... قوية ... آلمتها بالفعل ....
فارتدت للخلف واضعة يدها على وجنتها تنظر اليه بصمت ... بينما كان هو يصرخ عاليا
( إياك و التكلم عنهم بتلك الطريقة مجددا .......... )
صمت محمد أخيرا وهو يلهث بتعب ..... فهمست كرمة أخيرا
( لست أنسانة مثالية و لم أكن يوما ..... لكنهم ليسوا بأفضل مني ..... )
عاد محمد يستدير اليها وعيناه تبرقان .... ليقترب منها ببطء و هي تتراجع ... الى أن وقف أمامها .... فأبت أن ترفع يديها كي تحمي وجهها منه ... ووقفت تنظر اليه بنظرةٍ مكسورة ... بينما هو ينظر اليها ثم قال بصوتٍ ميت
( و أنا منهم ...... فهل تظنين نفسك أفضل مني ؟... )
همست كرمة بألم
( أنا و أنت كيان واحد يا محمد ..... لطالما ظننت ذلك .. )
قال محمد بصوت أجوف
( و أنا كنت أظن ذلك ..... لكن من الواضح أن لا شيء من حياتي أصبح يليق بكِ .... )
هتفت كرمة بألم
( أنت غير منصف ........ و أنت تعرف ذلك ..... )
هتف محمد كذلك
( بل أنتِ الغير صادقة مع نفسك ..... انظري اليكِ .... لقد أصبحتِ انسانة لا أعرفها ... شكلك ..أسلوبك ... طريقة حياتك .... تتعمدين أن تكوني انسانة لا تليق بالحياة التي تعيشها ... )
صمت قليلا ينظر اليها بجمود ... ثم قال
( و إن أردتِ تغيير تلك الحياة .... فيجب عليكِ تغييري أنا أيضا .... فأنا جزء منها ... )
ساد صمت مؤلم بينهما ..... و كلاهما ينظر للآخر ....... و إن كان ينتظر أن تخر عند قدميه طالبة الصفح كي لا يعيدها مجددا ... فقد خاب ظنه ..... وهي تقف ناظرة اليه بلا روح ....
فتراجع رأسه للخلف قليلا ... ثم قال بصوت ميت
( أنا خارج ....... لا تنتظريني الليلة ..... )
ردت كرمة بخفوت
( و ما الجديد في ذلك !! ....... اخرج يا محمد , علك تجد ما يبهج قلبك و لا تجده هنا .... )
نظر اليها طويلا قبل أن يخرج صافقا الباب خلف بقوة ..... بينما هي تقف تنظر الي مكانه الفارغ بلا حياة ....
.................................................. .................................................. ......................
تعالت الضحكات و المزاح بين أعضاء فريق الفرع .... في قاعة الإجتماعات الكبيرة التي تم تجهيزها لهذا اليوم ....
وهو يوم الاجتماع الودي الذي يعقده حاتم .... كل فترة يقوم بحجز قاعة الاجتماعات خارج ساعات العمل ... كي يقضي الفريق وقتا وديا معا ..... و يقوم هو بطلب الطعام على حسابه الخاص ....
كانت في البداية ترفض الحضور .... لكنها مرة بعد مرة وجدت أن منظرها أصبح ملفتا للأنظار و التساؤل ... لذا أصبحت تحضر على مضض ..... و كانت تبقى مكانها صامتة و هي تأكل دون الاشتراك في الحديث ....
هذه المرة ليست استثناء في بدايتها .... لكنها تدريجيا بدأت في المشاركة بالحوار ...
و سرعان ما وجدت نفسها في نهمٍ للضحك .... على أي مما يقوله اي أحد .... مهما كانت مزحة ثقيلة ... لذا تسابق الرجال منهم في القاء المزيد من النكات .... فلا يرضي الرجل اكثر من امرأة جميلة تضحك على مزحة يقولها ....
كان يشارك في الكلام و يضحك مع الجميع ... لكن شيئا فشيئا بدأ حواره يقل ... و عيناه ترتطمان بها رغما عنه جيئة و ذهابا ....
يتكلم مع أحدهم ... و تلتقط اذنه صوت ضحكها العذب ... فتحيد عينيه اليها قليلا ....
كم يوم مر و هو يتجنب النظر اليها ؟ ...... بعد أن عاد التعامل بينهما الى طبيعته لكن دون ود حقيقي .... اصبح يتحاشى النظر اليها على الرغم من بساطة تعامله ....
على عكس بداية تعارفهما .... كان ينظر اليها معجبا دون احساس بالخطر ....
أما مؤخرا .... بدأت مؤشرات الخطر لديه تتحرك ... و بدأ مخه في اعطاء الاشارات .. بأن يتوقف ... فأمامه منطقة خطرة ... محظورة ....
لكن اليوم .... حاول أن يعطل تلك المؤشرات ولو لدقائق .... يختطف نظرة الى تشوقها للضحك ... تبدو ملهوفة لأن تضحك ..... و كأن الضحك بالنسبة اليها أصبح عملة نادرة في الأيام الأخيرة
و على حسب بدء معرفته بها .... ان انسانة ذات طاقة عالية مثلها , لا تقبل الخمول و الكآبة و لا تتكيف معهما .....
تاهت عيناه اليها قليلا وهو يحدث موظفا جالسا بقربه ....
تلك المرأة مختلفة .... بها طاقة جمال مشعة تفوق طاقة الجمال المحسوس .... بها عنفوان و قوة ... و عذوبة لا تضاهى ....
أرغم عينيه بالقوة على الذهاب الى زميله الأقرع محاولا التركيز بالإجبار على ربطة عنقه ذات اللون الجرجيري ... علها تعيد اليه بعضا من تركيزه ....
فقط لتتوقف عن الضحك ..... و الإبتسام .... فلتتوقف عن كونها حالة نادرة ......
بعد فترة .... و بعد أن هدأ الحوار قليلا .... استدار حاتم بكرسيه الدائر واضعا يديه على سطح طاولة الإجتماعات ... ثم قال بصوتٍ ودود
( حسنا يا سادة ..... لقد جمعتكم اليوم .... ليشكو كلا منكم زميله .... )
سادت بعض الضحكات .... بينما ابتسم حاتم ليقول بجدية لطيفة
( حسنا ..... قليل من الجد , هل هناك خلاف بين أي اثنين .... او ربما يمكنكم كتابة أوراق صغيرة كالمرة الأولى ..... )
تعالت الضحكات مجددا ..... في الحقيقة أن المرة الأولى ... تلك التي لم تحضرها ... كرمة ....
كانت في الواقع عبارة عن مهذلة .... فقد طلب من الجميع أن يكتب كلا منهم ما يضايقه من زميله ... دون كتابة اسمه ..... ثم جمع الورق ليقرأه بصوتٍ عالٍ ....
و قد كانت مهزلة ..... كانت الشكوات حادة و فضائحية ... حتى أنه لم يتصور أن تكون تلك هي نهاية الإجتماع الودي ....
بالإضافة الى أن اثنتين من الموظفات ... تركتا القاعة و خرجتا باكيتين ......
لكنه لم ييأس ... و مرة بعد مرة بدأت حدة الخلافات تهدأ .... ليتحول الأمر الى مهني أكثر منه شخصي ... و أستبدلوا الأوراق الصغيرة بشفاههم و مواجهتهم ما يضايقهم ..
قال حاتم متابعا
( و تذكروا ..... مسموح لكل منكم الشكوى من الجميع ..... عاداي طبعا ..... فأنا المدير هنا )
عادوا ليضحكوا .... بينما طافت نظراته اليها , فوجدها واجمة لا تضحك .... فشعر بحنق لأنها تستثنيه من رؤيتها مرحة ضاحكة ....
لكنه صرف تركيزه عنها بالقوة ... عندما بدأت احدى الموظفات في الكلام .... فنظر اليها مرغما
فبدأت كلامها بهدوء و أناقة تماثل اناقة ملابسها
( اولا ..... أعرف أن ما سأتحدث عنه هو أمر سيجلب لي الكثير من الذم .... لكن و بما أننا قررنا أن نكشف عما يقلقنا في صالح العمل .... لذا ارجو منكم الصبر حتى أنهي كلامي للنهاية ... )
بدأ الجميع في النظر اليها باهتمام .... فقالت مبتسمة بهدوء
( كلامي يخص " مدام " كرمة ............. )
استدارت الوجوه الى كرمة التي أجفلت .. و رمشت عيناها مرة ... الا أنها التزمت الهدوء و الإبتسامة الرزينة .... تلك التي ترسمها في بيت أم محمد ....
ثم قالت بهدوء
( أنا ؟!! ........ لا بأس تفضلي ..... )
قالت الموظفة بهدوء مماثل
( أولا أعتذر عن الأمر يميل الى الشخصية .... لكنه يمس العمل .... )
انقبض قلب كرمة .... و عم الصمت المكان تماما ....... بينما كان حاتم ينقل عينيه بينهما ....
لكن كرمة همست بقلق
( تفضلي ............ )
أخذت الأخرى نفسا عميقا ثم قالت بوضوح
( في الآونة الأخيرة ...... هناك من يقلك من أمام باب المصرف مباشرة , خلفه على دراجة ...... )
سادت عدة شهقات خافتة و الجميع مذهول من قدرتها على فتح الأمر بجرأة .... الا كرمة التي قست ملامحها و تصلبت .... و تجمدت عيناها و هي تقول بقوة
( انه زوجي ......... )
قالت الموظفة بلهجة ممطوطة قليلا ... لم يخف مغزاها عن كرمة
( نعم ... استنتجت ذلك , المسألة هي ... الا ترين أن هذا المظهر قد .... يضر ولو قليلا بهيئة المصرف ؟)
عادت بعض الشهقات ... لكن كرمة لم تسمعها و هي ترد بقوة حادة
( ماذا تقصدين بيضر ؟؟ .... من فضلك وضحي ... )
ردت عليها و قد شجعتها لهجة كرمة الحادة ان ترد بثقة ...
( المصرف هنا له هيئة خاصة .... لطالما كان يتباهى بها كل من يعمل به و أيضا عملاؤه ... المظهر جزء لا يتجزأ من عملنا ..... بدئا من دخولنا من بابه و حتى الخروج منه .... لذا الا ترين أن مظهر واحدة من المديرات و هي تركب دراجة خلف . بزيها الرسمي .... قد ... و اعذريني للفظ ... يسيء قليلا لهيئة المصرف ؟؟ ..... )
هبت كرمة من مكانها بقوة و هي تهتف
( أنا لن أسمح بالمزيد من تلك الإهانة .... أنتِ تتحدثين بأمورٍ شخصية لا يحق لكِ التحدث بها .... مظهر المصرف الذي تتحدثين عنه يبقى داخل جدرانه .... أما خارجه فلن أسمح لكِ أو لأحد بالتحدث عنه ... )
نهضت الموظفة هي الأخرى و هي تقول بتبرير حاد
( طالما أن هذا المظهر مرئي للجميع خارج أبواب المصرف فهذا يخصه .... الهيئة لدينا تمثل الكثير , و الا فلماذا نرغم أنفسنا على ارتداء زي رسمي متأنق ؟!! ......و حلاقة الذقن يوميا للرجال .... و المحافظة على كل مظهر حتى نبرة الصوت ......لو كلا منا قال أن اموره الشخصية تخصه ... اذن لا أحد يمانع إن خرجت من باب المصرف لأخلع حذائي و أرحل راكضة بقدمين حافيتين من باب الحرية الشخصية )
هتفت كرمة بغضب و هي تضرب سطح طاولة الإجتماعات بقبضة يدها
( أنا لا أسمح لكِ ...... ... )
هتفت الموظفة تقول
( كل ما قصدته أن ......... )
( كفى ............ )
انطلق صوت حاتم قويا صارما .... جعلها تنتفض مكانها و تصمت ناظرة اليه .... و كان وجهه مكسوا بقناع غاضب وهو يقول آمرا
( هذا الحوار قد انتهى بالفعل ..... و أنا لن أسمح بمناقشة أمور شخصية هنا , ..... خارج حدود هذا المصرف تنتهي قيوده .... و انتهى الأمر عند هذا الحد ..... )
احمر وجهها بشدة و ارتبكت من الإحراج .... أما كرمة فاندفعت بعنفوان تغادر المكان بكرامة .... بينما ساد صمت مشحون المكان ...
.................................................. .................................................. ......................
دخلت الى مكتبها سريعا ... متجهة بقلبٍ أعمى الى حقيبتها ... تفتش فيها بهياج عن منديل ورقي ... الى أن وجدته ... فرفعته كي تمسح زاويتي عينيها قبل أن تتساقط دموعها ....
هي لن تسمح لنفسها بأن تُهزم بتلك الطريقة المهينة .... أبدا ... أبدا ....
سمعت صوت طرقة خافتة على الباب الذي تركته مفتوح .... ثم صوت حاتم يأتي هادئا من خلفها
( أعتقدت أنكِ قد تكونين منهارة الآن ..... فقد خرجت تاركة طعامك و هذه ظاهرة غير مسبوقة )
أخذت كرمة نفسا عميقا ثم استدارت اليه بقوة و هي ترتب حقيبتها و تضعها على كتفها قائلة
( شكرا لأنك دافعت عني ........ )
قال حاتم بهدوء و هو يسمح لنفسه أن ينظر اليها عن قرب بعد عدة أيام من منع نفسه
( لم أدافع عنكِ ....... دافعت عن مبدأ ... )
قالت كرمة باندفاع
( لكنك غير مقتنع في قرارة نفسك ...... )
عقد حاتم حاجبيه وهو ينظر الى ثورتها ... ثم قال بهدوء
( و كيف تعرفين ما بقرارة نفسي ؟!! .... )
اندفعت مرة أخرى تقول
( هذا واضح و لا يحتاج لذكاء ....... )
وضع كفيه في جيبي بنطاله وهو يقول بصوتٍ رزين
( اذن لقد خانك ذكائك للمرة الأولى ........... )
عقدت حاجبيها و هي تهتف
( الجميع هنا لا يهمهم سوى المظهر العام .... دون مراعاة لشعور البشر )
قال حاتم بهدوء و هو مقطب الجبين
( كرمة .... لقد شكرتني للتو على الدفاع عن مبدأك . فما بالك ؟؟ .... )
ارتجفت قليلا امام قوة نظراته ... فأخفضت وجهها و هي تتنفس ببطىء الى أن قالت أخيرا بخفوت
( اعذرني ..... يبدو أنني عصبية قليلا , و يجب أن أغادر في الحال )
ابتسم حاتم ليقول
( لقد اكتشفت من خبرتي معك .... انك لا تكونين رزينة التصرفات الا في حالتين ... التركيز في العمل ... و الأكل .... )
مطت كرمة شفتيها بسخافة و هي تقول
( ظريف جدا ...... و نصيحة مني , لا تحاول الإستظراف مجددا ... لا مع أحد و لا في الإجتماعات الودية تلك )
عقد حاتم حاجبيه وهو يصدر صوت تألم ليقول بعتب
( أنتِ حقا منسفة لغرور الرجل يا سيدة كرمة ............ )
قالت كرمة و هي تتجه للباب
( أنا راحلة الآن .......... )
قال حاتم قبل أن تخرج ...
( كرمة ..... سأوقف تلك الإجتماعات الودية , لقد أثبتت فشلها .... )
صمتت كرمة عدة لحظات تنظر اليه ...... ثم قالت بخفوت
( لا تدع وجودي يحبطك .... فبها أو بدونها ... سيكون للجميع ألف نقطة ضعف ليجرحوني بها ...)
استدارت لتغادر ... الا أنه ناداها بقوة
( كرمة ........ )
التفتت اليه .... فقال بحزم و عينيه في عينيها
( لا تدعي أحد يهزمك ..... )
ظلت تنظر اليه قليلا ... ثم أومأت مودعة دون أن ترد و خرجت .... خرجت متعبة مهزومة ... و لسان حالها يقول
( ماهذا التناقض الذي أحياه ؟!! ..... هل أنا أنتمى للبحر أم السماء .... هل أنا طائر أم سمكة .... )
الخوف كل الخوف أن تختار ما يناسب محمد .... فتفاجأ به على البر ........
أما حاتم ... فإن مؤشرات الخطر عنده ازدادت انحدارا حتى كادت أن تحطم شاشة الجهاز العاطفي ... و هو على ما يبدو عالما ثالث ما بين البحر و السماء ....
.................................................. .................................................. ..............
بعد عدة أيام :
دخلت وعد الى مكتب علا حاملة لها مشروبها الساخن ... و كانت الأخيرة منهمكة للغاية في اعداد بعض الأوراق .... فوضعت وعد القهوة على سطح المكتب و هي تقول مبتسمة برقة
( صباح الخير يا علا ....... )
رفعت علا وجهها اليها مبتسمة تقول بتعب
( صباح الخير يا وعد ....... عذرا , أنا مشغولة لدرجة أنني قد أنسى اسمي يوما ما ... )
ابتسمت وعد و هي تقول
( لا بأس ...... أردت فقط أن أخبرك أن الفستان جاهز لتقيسيه ... )
اتسعت عينا علا و هي تقول بدهشة
( بهذه السرعة ؟!! ...... لا يمكن ... لم تستغرقي فيه أكثر من أربع أيام !! )
قالت وعد برقة
( كان ليأخذ أكثر لو كان معه قطعة أخرى ..... لكن حظك حلو ... تفرغت له حتى انتهى )
قالت علا مندهشة
( هل هو معكِ هنا ؟!! ........... )
ردت وعد ببساطة
( نعم ..... مغلفا مكويا .... لا ينقص سوى أن تقيسيه , لكن يمكنك أن تأخذيه البيت معك و تقيسينه براحتك طالما أنتِ مشغولة بهذا القدر ...... )
قالت علا و هي تعقد حاجبيها و تحك رأسها بظهر القلم
( و كيف سأركز في عملي بعد أن استفززتني بوجود فستان يخصني .... قابعا في الظلام ينتظرني كالطفل اليتيم ...... اسمعي تعالي الى الحمام كي أقيسه )
قالت وعد و هي تشير الى باب غرفة سيف
( و ماذا لو خرج أو طلبك و لم يجدك ....... )
هتفت علا بغيظ
( سأقول له أنني كنت في الحمام .... الا يحق للفرد دخول الحمام أيضا !!! .... لقد أوشك على استعبادي في هذا المكان .... و ما ينقصه فعلا هو أن يمنعني من دخول الحمام ..... )
صمتت فجأة ليحمر وجهها و هي ترتبك قائلة
( آآه .... يا للمصيبة ... لقد نسيت أنكِ قريبة له و لو من بعيد ..... آآممم وعد إياكِ أن تكوني من النوع الدنيء .... )
ضحكت وعد و هي تقول
( خذي راحتك ..... قريب على نفسه و ليس علينا )
تنفست علا الصعداء ضاحكة ... بينما احمر وجه وعد قليلا و هي تفكر برد فعل علا لو علمت ان رئيسها المباشر لا يعتبرها مجرد موظفة ... و لا حتى مجرد قريبة يعطف عليها .... بل وضعها مع سبق الإصرار في خانة ال ...... ماذا ؟!! ...
توقفت وعد طويلاعند هذا السؤال .... الى أن قالت علا
( وعد ..... هيا بنا , فيما أنتِ شاردة )
أفاقت وعد لتقول بسرعة مبتسمة
( لا شيء ..... هيا بنا ....... )
و في حمام السيدات .... وقفت علا مذهولة أمام المرآة الواسعة ... تختال يمينا و يسارا بفستان من الجيرسيه الكحلي ... يلامس ركبتيها .... يحيط بصدره سترة من الشيفون الكحلي لتنسدل كذيل يحيط بالتنورة الضيقة من الجانبين و الخلف و يطير من حولها أثناء الحركة
و تحت الصدر الشيفون المبطن ... توجد على الخصر حلية رقيقة من الؤلؤ الأبيض ....
الحقيقة أنها جميلة و جسدها متعاون جدا ... لذا بدا الفستان عليها رائعا , ولو أن وعد كانت تفضله طويلا ... لكن هذا الطول كان طلب علا وفق تصميم معين ...
قالت علا و هي لا تزال مذهولة
( انه رائع ..... بل مذهل , لم أصدق نيرة حين أخبرتني باتقان تفصيل التنورة رغم صعوبة مقاييس جسدها )
احمر وجه وعد و هي تبتسم لكنها قالت بحرج
( صدقيني يا علا أنا لا زلت عند كلامي ...... إن لم يكن عند حسن توقعك , يمكنك الإحتفاظ به كهدية دون ثمن )
هتفت علا
( كيف لا يعجبني يا حمقاء ..... الا ترين صورتي ؟!! .... انه رااااائع .... )
ابتسمت وعد و هي تأخذ نفسا متحمسا ... ثم قالت بحرج و ارتباك
( اذن .... لو أمكنك أن توصين بي لدى صديقاتك و معارفك , سأكون ممتنة للغاية )
قالت علا بكل تأكيد
( لا تقلقي ..... اعتبري الأمر مقضيا , حين اتحمس لأحد لا أتركه الا بعد أن أمتص دمه أنا و صديقاتي .... ثقي بي )
أخرجت علا حافظتها .... لتخرج منها مبلغا ماليا و هو ما اتفقا عليه من البداية .... و أعطته لوعد التى احمر وجهها أكثر و ازداد ارتباكها .... حتى الآن لا تزال تحرج و ترتبك في مرحلة أخذ النقود ...
تود لو كان التفصيل عندها مجرد فن أو هواية .... لكن متطلبات الحياة تقتضي ذلك .....
قالت وعد أخيرا بحذر
( هيا يا علا ...... لقد تأخرتِ كثيرا , قد يغضب السيد سيف ..... )
تنهدت علا مغمضة عينيها و هي تقول بتعب
( آآآه لقد تعبت ..... العمل لا يرحم ... آآآآه نسيت يجب أن أحضر ورق مفردات وظيفة المحاسبة الجديدة .... آآه لا أريد أن أخلع الفستان الآن .... )
مدت يديها تمسك جانبي التنورة الشيفون الخلفية لتفردهما و هي تتمايل بإغراء ... قائلة بلهجة تماثلها إغراءا بطريقة مسرحية كالأفلام الخارجة
( ربما لو ذهبت الى المكتب بهذه الصورة لتمكنت من إغراءه ...... )
احمر وجه وعد بشدة و هي تضحك .... بينما تسائلت بخجل أنثى للمرة الثانية , لو علمت علا بأن ذلك الإغراء الذي تتحدث عنه علا ... يحمله سيف تجاهها هي ....
احمر و جهها أكثر و أكثر و هي تعض شفتيها موهمة نفسها أنها لا شأن لها بالجنون الذي يشعر به ....
قالت وعد بارتباك مغيرة الموضوع
( هل سيعين السيد سيف محاسبة جديدة ؟!! ....... )
قالت علا و هي تختال أمام المرآة ....
( نعم لكن بمواصفات خاصة .... تجعلها تدير الحسابات بصفة عامة .... )
شردت وعد حين تذكرت أنه بالأمس أخبرها بأنه يحمل لها مفاجأة .... برقت عيناها فجأة و هي تفكر
هل يمكن ؟!! ..... هل يمكن ذلك ؟!! ..... هل سينقلها أخيرا لمكان تستحقه ؟!! .... و مثل هذه الوظيفة ؟!!
أغمضت وعد عينيها و هي تتنفس بسرعة ... تحاول تهدئة ضربات قلبها .... يا ربي ... هل ستتوظف بالفعل ؟!!
ياللهى متى سيخبرها ؟..... متى سيخبرها .... ستنهار قبل أن يحدث ذلك .....
و مرت ساعات اليوم و هي تنتظر ..... الى أن طلبت علا من مكتبها قهوة سيف و عصير ....
فحضرت وعد الطلبات سريعا و هي ترتجف ... لتنهر نفسها , بالتأكيد لن يعرض عليها الأمر و لديه ضيف ... فلتكف عن تلك الحماقة ....
حملت وعد الصينية و اتجهت الى مكتبه ..... و بعد أن طرقت الباب و دخلت ... توقفت للحظة عند رؤية فتاة شقراء تجلس في الكرسي المقابل له ... تضع ساقا فوق الأخرى .... بتنورة قصيرة تظهر ساقين لا نهاية لهما ....
تبتسم لسيف بأناقة ...... بينما هو ينظر الى ملف مفتوح أمامه مبتسما .....
اقتربت وعد بأناقة لتضع المشروبات من الصينية الى سطح المكتب ... لم يرفع سيف عينيه اليها ولو لمرةٍ واحدة ... بل رفع وجهه الى الفتاة الجالسة أمامه ليقول بتهذيب
( سيرتك الذاتية مشرفة جدا آنسة ميرال ..... عامة لقد انتهينا و لو تكرمت بإنتظار مكالمة مني سأكون ممتننا ..... )
شلت الصدمة أطراف وعد و تسمرت مكانها بينهما .... ترفع الصينية الى قلبها و هي تنظر اليه مبهوتة ....
بينما ميرال الشقراء كانت تنزل ساقها من على الأخرى لتنهض بطول يفوق طول وعد بحوالي عشر سانتيمترات تمد يدها .. و التي تلقاها سيف بأدب .....
ابتعدت وعد في اتجاه الباب و هي شاحبة تشعر بجمود في جميع أطرافها لكن ما أن أمسكت بمقبض الباب حتى استدارت تنظر اليه بوجوم يكاد يكون ذهول ....
فوجدته ينظر اليها مبتسما و في التفاتة ميرال بعيدا عنه ... انتهز الفرصة ليغمز لوعد بطرف عينيه....
استدارت بسرعة لتخرج مغلقة الباب خلفها .... و اسرعت الخطا الى غرفة السعاة ...
دخلت وعد .... و هي تقريبا تدور حول نفسها .... الحقد و الغل يملآن قلبها في تلك اللحظة بطريقةٍ شريرة لم تعرفها من قبل ...
الصدمة .... و الغضب من تلك الصدمة ....
كيف وضعت الأماني الحمقاء في لحظةٍ خادعة !! ..... كيف !!!
و كيف يجعلها تدخل اليهما بمشروباتهما !! .... لمجرد أن يذلها ؟!! ......
أخذت تتنفس بسرعة و جنون .... و عيناها تشتعلان بتهور جديد عليها ... حتى أن علي اقترب منها قائلا بقلق
( ماذا بكِ يا وعد ؟!! ...... هل أنتِ بخير ؟)
نظرت اليه وعد مقطبة الجبين و كأنها لا تراه .... فهزت رأسها لتهمس بصعوبة
( ماذا ؟!! ..... لا ... لاشيء يا علي .... لا تقلق ... )
قال علي مبتسما
( حسنا اذن ..... أريد أن أستشيرك بأمر هام ....... اتظنين أن قصة عرف الديك أفضل أم احلق شعري كله أفضل مع ترك لحية خفيفة ..... )
الا أنه كان يكلم نفسه فجأة وهو يراها تخرج باندفاع من الغرفة .... و على ما يبدو من ملامحها أنها سوف تتهور .... و بحماقة ....
مرت وعد سريعا بعلا ... لتقول لها بلهجة مقلقة
( علا أريد السيد سيف في أمرٍ هام .....لقد أخذت منه موعد قبل لحظات ..... قبل أن تغادر تلك الشقراء ....)
نظرت علا اليها عاقدة حاجبيها ., الا أنها لم تجد الوقت للسؤال و هي ترى وعد تندفع كالقذيفة طارقة الباب ... لتدخل ما أن سمعت صوت سيف من الداخل ثم اغلقت الباب خلفها ....
رفع سيف رأسه مندهشا من منظرها الغريب و هي تتجه اليه مندفعة ... وجهها محمر و عينيها مشتعلتين و شعرها ثائر ....
كانت تبدو شهية بدرجة مُعذِبة ..... الا انه لم يبدي رأيه و هو يراها في حالةٍ غريبة ... تقف نافرة الأعصاب ... تفرك أصابعها بتوتر ....
انتظر قليلا و حين لم تتكلم ... قال مبتسما
( هل أفهم من هذا الدخول المسرحي ..... أنك أتيتِ الى هنا فقط لأنكِ اشتقتِ لرؤيتي ؟!! .... و أنا أيضا اشتقت اليك بالمناسبة .... )
احمر وجه وعد الا أن توتره لم يخف ... فقالت بعصبية
( أريد أن أتحدث معك في أمرٍ هام .......... )
تراجع سيف في مقعده لينهض من مكانه مبتسما ... ليقترب منها , الا أنها قالت بسرعة
( ابقى مكانك لو سمحت ....... )
ارتفع احد حاجبي سيف بخبث و هو يقول بخفوت
( اهدئي ...... لم أكن لألتهمك , مع أنك تبدين لذيذة مع القهوة التي لم تبرد بعد ..... )
ازدادت سرعة تنفسها بغضب و هي تنظر اليه بصمت .... ثم قالت بصوت مجوف
( أنا ..... أردت أن أسألك عن شيء ...... )
اقترب منها ببطىء ليقول بخفوت
( حسنا الا ينفع ذلك السؤال عن قرب ؟؟ ...... )
ردت وعد بقوة و هي تفرك أصابعها بشدة ...
( لا لن ينفع ........... )
قال سيف وهو ينظر الى توترها الشديد ... فرق قلبه لها و قال مبتسما بهدوء
( حسنا اهدئي ...... لا داعي للتوتر , و اخبريني عما يزعجك بهذا الشكل .... )
أخذت وعد نفسا عميقا و هي عاقدة الحاجبين .... ثم قالت بخفوت
( تلك الفتاة التي كانت هنا ....... )
صمتت و هي تسأل نفسها عن التهور الذي تفعله ....
الا أن سيف كان له رأي آخر وهو يبتسم ليقول بخبث الرضا به واضح
( هل هذه غيرة ؟! ........ )
رفعت وجهها اليه عاقدة حاجبيها لتقول بحدة
( ماذا ؟!! ....... اي غيرة .... هذه الفتاة هل هي موظفة جديدة هنا ؟؟ .... )
كان سيف ينظر الي حدتها في الكلام معه .... عاقدا حاجبيه وهو يرى أن الأمر لم يعد مزاحا ... فقال بجدية
( احتمال كبير ..... لكن لماذا هذا السؤال الحاد ؟!! ..... )
لم تستطع وعد السيطرة على نفسها أكثر و هي تقول بحدة
( لأن هذا معناه أن هناك وظيفة شاغرة .... و كنت دائما تتعلل بأنك لست في حاجة الى أي موظفين حاليا ... كما وعدتني أن ترقيني الى وظيفة تليق بمؤهلي ما أن تأتي الفرصة المناسبة .... )
كان سيف ينظر اليها بملامح جامدة غير مقروءة .... ثم قال أخيرا بخفوت جاف
( هل تقصدين أنكِ تطلبين تلك الوظيفة ؟!! ..... هل تعلمين ما هي أصلا ؟!! .... )
لم تشأ وعد أن تورط علا معها .... فقالت بتوتر
( لا ..... لا أعلم تحديدا , لكن عامة أي وظيفة مكتبية هنا سيكون لها علاقة بمؤهلي .... )
ظل سيف ينظر اليها طويلا نظرة وترتها ... ثم قال اخيرا بهدوء
( هل تطلبين وظيفة ؟...... استنادا الى ماذا تحديدا ؟...... )
اشتعل الغضب بداخلها و هي تقول بحدة غير مقصودة
( استنادا الى مؤهلي الجامعي ......... )
استدار سيف ليجلس خلف مكتبه مجددا ثم نظر اليها بملامح عادية ليقول
( مثلك مثل الآلاف من الخريجين ..... لماذا أمنحك وظيفة أنتِ غير مؤهلة لها .... حين اضع اعلانات لطلب موظفين .... اطلب الكفاءة و الخبرة ... و عدة شهادات عالية تفوق الشهادة الجامعية .... و أنتِ لا تملكين كل ما هو مطلوب ..... )
كانت تنظر اليه بوجهٍ شاحب و عينين متسعتين ألما ..... قالت وعد بخفوت و بصوتٍ باهت
( لكن أنت أعطيتني وعد أن تخرجني من تلك الوظيفة ..... )
قال سيف بهدوء
( أكملي العبارة يا وعد .... حين أجد أنكِ تستحقين الفرصة , و حتى الآن أنتِ غير مؤهلة تماما للعمل بشكرتي ..... )
أخفضت وعد وجهها قليلا و هي تومىء برأسها ببطىء .... و كأنها تفكر مع نفسها , الا أن سيف قال بهدوء
( ما معنى تلك الإيماءة ؟؟ ..... قولي ما ببالك , لقد أتيتِ الى هنا كي تتكلمي .... و أنا أسمعك )
ظلت وعد تنظر اليه بنظراتٍ جامدة .... ثم همست أخيرا بصوتٍ صلب
( ظننت أننا ............ )
لم تكمل عبارتها .... و لم تتغير ملامح سيف , أم أنها قد اشتدت قليلا ... لا تعلم في هذه اللحظة ...كل ما تعلمه أنه قال بهدوء
( هل تطلبين الوظيفة بناء على ضوء علاقتنا الجديدة ؟؟ .......... )
عقدت حاجبيها و هي تهمس بغضب و قهر
( ليس بيننا أي علاقة ............ )
لم يرد لفترة .... ثم قال أخيرا بصوتٍ جاف
( هل ستعودين لمثل هذا الكلام من جديد ؟!! ...... لو لم تكن بيننا علاقة لما دخلت مقتحمة المكان تطلبين حقك بمثل هذه الجرأة .... غير مترددة من ردة فعلي ..... )
شعرت بغصة حادة في حلقها ...... لكنها قالت بهدوء ميت
( لكنك تقبل أن يكون لك علاقة بساعية مكتبك !! ...... اليس كذلك ؟!! .... )
قال سيف بملامح جامدة
( سألتني هذا السؤال من قبل ..... و أجبتك أنني لا أرى في عملك ما يعيب .... )
همست وعد بشدة
( ليس به ما يعيب من وجهة نظرك أنت ..... من موقعك هذا و أنت جالس خلف مكتبك الأنيق .... مرتاح من التعب و المذلة ...... )
كان سيف يراقب بوادر الشتاء بعواصفه على عينيها .... لكنه قال بخفوت لا يحمل تعبير
( سأسألك للمرة الأخيرة يا وعد ....... هل تطلبين الوظيفة على ضوء علاقتنا الجديدة .... لأنه قد يختلف الأمر حينها ..... )
عقدت حاجبيها و هي تقول بخفوت بلا روح و بعينين ميتتين
( كيف سيختلف ؟؟ .......... )
اظلمت عيناه قليلا ... و اشتد ضغط شفتيه ..... ثم قال بخفوت
( قد أمنحك ما تريدين ......... )
امالت وعد رأسها قليلا ... ثم همست بملامح قاتمة
( و ما المقابل ؟؟؟ ........... )
لم يرد عليها على الفور.... لكنه ابتسم بلا مرح وهو يقول بهدوء
( و منذ متى أخذت منكِ مقابل يا وعد ......... )
أطرقت برأسها قليلا ..... دون أن ترد عليه .... دون أن تخبره أنه كان يأخذ المقابل بطريقته , حتى و إن اعتبره ثمنا بخسا .... لكنه كان فوق طاقتها .... الاستسلام لموجاته كان فوق طاقتها ....
لم يعد هناك مجالا للكلام بينهما .... و كأنها لعبة دومينو ... أقفلت طرق حلها .....
لذا خرج سيف من تلك الأحجية ... ليقول بصوتٍ هادىء لا يحمل اي تعبير ... سوى التصلب
( سترين أمي غدا ........ )
رفعت وجهها اليه .... عاقدة حاجبيها بدهشة ... ثم قالت عابسة
( سأنظف بيتكم غدا ؟؟ ....... )
للحظة أجفل و فتح فمه ليقول شيئا .... لكنه عاد و أغلقه يتطلع اليها فترة .... ثم قال بخفوت جاف
( نعم ...... غدا .......... )
كانت انفاسها الهادرة مسموعة لديها .... لكنها لم تصله ... فقال متطلعا اليها
( إن كنتِ قد غيرتِ رأيك فلا بأس ........... )
رفعت وعد ذقنها و هي تقول
( لم أغير رأيي ..... سأذهب .... حاضر .....هل من أوامر أخرى ؟؟ .... )
قست ملامحه .... لكنه لم يمتلك الطاقة ليدللها حاليا فقال بجفاء
( اذهبي من هنا يا وعد ....... )
ارتجفت شفتيها و هي تنظر اليه بقسوةٍ تعادل قسوته ... بعينين شبيهتين بعينيه .... ثم دون كلمة واحدة استدارت لتغادر المكتب .....
تاركة سيف جالسا مكانه ... بملامح كالحجر ... وهو يهمس بداخله بثورة و هياج
" لو كانت تأخرت ساعة ...... فقط ساعة , لما كنت لمحت عيني عبد الحميد تنبعثان من عينيها "
.................................................. .................................................. ....................
فتحت منيرة الباب ...لترى وعد واقفة أمامها ... مبتسمة برقة .... فابتسمت منيرة تلقائيا و هي تقول بسعادة
( ياللهذه المفاجأة ...... لقد أخبريني سيف بمجيئك هذا الصباح قبل أن يخرج.... تعالي )
دخلت وعد من الباب مبتسمة ابتسامة جميلة و هي تقول بتهذيب
( كيف حالك الآن سيدة منيرة ؟........... )
اقتربت منيرة منها .... تجذب ذقنها اليها كي تتمكن من تقبيل وجنتها ... تماما كما فعلت المرة السابقة ...
فارتعشت وعد قليلا .. لكنها حين رفعت رأسها حافظت على ابتسامتها و هي تقول برقة
( سعيدة أنني رأيتك بخير ....... )
قالت منيرة بحبور
( و أنا أسعد .... أتصدقين أنني كنت أريد رؤيتك من يوم أن أتيتِ الى هنا )
ضحكت وعد بخفة و هي تفرد ذراعيها قليلا قائلة
( و ها أنا هنا .......... كنت أتطلع لرؤيتك أنا أيضا )
قالت منيرة و هي تجذبها من يدها
( تعالي ..... سنشرب شيئا أولا .... )
امسكت وعد بمعصم منيرة الممسك بيدها ... لتقول بحزم
( لا سيدة منيرة من فضلك ..... دعيني أنهي عملي أولا .... أرجوكِ هكذا أفضل ثم سنجلس بعدها )
نظرت منيرة اليها بعطف .... ثم قالت بهدوء
( حسنا كما تحبين ..... أنا سأساعدك )
قالت وعد و هي تشد على معصمها اكثر
( اقسم أنكِ لن تفعلي شيء .... لماذا أتيت اذن ؟!!.... )
ابتسمت منيرة و هي تربت على وجنتها قائلة برقة
( جزاكِ الله خيرا يا حبيبتي ...... حسنا , سأريكِ أغراض التنظيف )
بدلت وعد ملابسها بجلباب بسيط ... و بدأت حملة هجوم على البيت كالمرة السابقة ... لا ... ليس كالمرة السابقة ... بل كانت الحملة أشد شراسة ....و عنفا ...
لم تترك ذرة غبار الا و قهرتها .... في منتصف اليوم كانت تلهث بعنف .... الا أنها لم تستسلم , بل دفعها ذلك للعمل بعنف أكبر و مقدرة أعلى ....
كانت تنتقم من الغرف بتنظيفها .... و كانت تعرف طريقها جيدا بكل غرف البيت ... الى أن وصلت لغرفته ... فدخلتها ببطء و رهبة كما تدخل مكتبه .....
تنظر في ارجائها .... تطوف بها بملامح جامدة .... قبل أن تلتقط صورة من على الطاولة الجانبية للسرير
صورة لطفل شديد الملامح رغم صغر سنه ووسامته .... يقف امام والده الذي يضع كفه على كتف ابنه بكل فخر .... كانت عيناهما تتلألأن برباط واحد ....
تركت وعد الصورة ببطىء ... لتبدأ الحملة الأخيرة في هذا البيت و التي تركتها للنهاية ... كي تنتقم منها شر انتقام ....
و في النهاية كانت تلهث بصورة أكبر عنفا ...... فلم تمنع نفسها من الجلوس ببطء على حافة السرير و هي ترفع يدها الى صدرها اللاهث .... تغمض عينيها قليلا علها ترتاح .....
و بعد عدة دقائق .... فتحت عينيها تنظر حولها بجهد .... قبل أن تنهض ببطء كي تهبط الدرج ... ولحسن الحظ البيت كان خاويا اليوم الا منها و من منيرة ....
نظفت وعد نفسها ... و مشطت شعرها لتتركه حرا طليقا منسدلا حول كتفيها ... و ارتدت تنورتها المنتفشة قليلا و التي تشبه التنورة الإسبانية .بألوان دافئة متنوعة .و قميصها البسيط ذي الكمين المنتفخين لونه أسود ... و حاولت جليا أن تعيد بعض اللون الى وجنتيها .... و شفتيها ....
دخلت وعد الى المطبخ ببطىء .... كانت قد أنهت التنظيف كله بوقتٍ قياسي ..... أبكر بكثير من المرة السابقة .... ربما لأنها اعتادت البيت ....
نظرت الى منيرة التي كانت جالسة .... ترتدي نظارة رقيقة مثلها .... تقرأ جريدة ما ....
فما أن لمحتها حتى تركت الجريدة جانبا و خلعت نظارتها لتضعها برقة فوق الجريدة .... ثم نهضت مبتسمة و هي تقول متطلعة اليها
( بسم الله ماشاء الله ... من يتخيلك أنكِ انتهيتِ للتو من تنظيف بيت بأكمله .... )
ابتسمت و عد و هي تقول برقة
( الحقيقة أن البيت كان نظيفا و لم يتطلب مجهودا عنيفا ..... )
عقدت منيرة حاجبيها مبتسمة و هي تقول
( حسنا ..... سأصدقك هذه المرة , لكن تعالي اجلسي لأعد لكِ ما تشربيه .. )
قالت وعد بخفوت
( ما رأيك أن أعده أنا ....... )
قالت منيرة بحزم لا يقبل الجدل
( بل اجلسي ..... فرصة البيت هادىء و نحن وحدنا , لتعرفيني بنفسك )
جلست وعد بحذر .... تتطلع اليها و هي تعد الشاي ... و تضع أمامها طبق من حلوى مختلفة ...
و ما أن انتهت حتى جلست أمامها تصب فنجانين لهما .....
أخذت وعد فنجانها تحيطه بيديها عله يدفىء برودتهما .... و شردت في الدوامة الصغيرة التي تطوف على سطحه الداكن كبحر في ليلةٍ غير مقمرة ...
قالت منيرة برقة و هي تربت على كف وعد
( اذن ........ اخبريني عن نفسك و عن أهلك .... أحب الحديث ... )
هل تجيدين الإستماع كابنك ؟!! ...... الا أن وعد لم تنطق السؤال ... بل ابتسمت قليلا و هي تزيد من ضغط يديها حول الفنجان ....
رفعت وعد عينيها الى وجه منيرة تتطلع الى عينيها العسليتين ....ثم همست مبتسمة
( الحقيقة أنني كنت أتطلع منذ زمن الى التعرف اليكِ .... و ما أن رأيتك المرة السابقة حتى شعرت برابط قوي يربط بيننا .... )
عقدت منيرة حاجبيها و هي تبتسم بحيرة لتقول
( كنتِ تطلعين لمقابلتي ؟!! ..... هل كنتِ تعرفينني سابقا ؟!! .... )
قالت وعد بخفوت
( بالطبع أعرفك ..... و أتعجب من أنكِ لم تتعرفين الي و لو من باب الشبه على الأقل )
ازداد انعقاد حاجبي منيرة كثيرا ... و ابتسامتها تهتز بحيرة أكبر حتى كادت أن تختفي ... لكنها قالت بصوتها الرقيق الذي يشبه هديل الحمام ...
( عفوا يا ابنتى .... لست متأكدة أنني رأيتك من قبل ..... )
ابتسمت وعد و هي تمد يدها تمسك بيد منيرة الموضوعة على سطح الطاولة , ثم همست تنظر في عمق عينيها
( يجمع بيننا رابط الدم ...... معقول لا تشعرين بذلك ؟؟ ... )
ارتجف كف منيرة في كف وعد بصورة واضحة و هي تهمس بعبوس و خوف
( ما ..... لست .... من ........ )
ابتسمت وعد بعمق أكبر لتقول وضوح
( أنا وعد يا عمتي ......... )
شهقت منيرة دون أن تستطيع أن تمنع نفسها .... لتنهض قافزة ... نازعة يدها من كف وعد و كأن حية قد بثتها من سمها ....
اخذت تهز رأسها نفيا .... و هي غير قادرة على الإستيعاب ... بينما أومأت وعد برأسها تقول برقة و ثقة
( بلى يا عمتي .... أنا ابنة أخيك ...... لقد انتظرت أن يخبرك سيف ,. لكنه تردد كثيرا .... )
اتسع عينا منيرة بذهول ... بينما انعقد حاجبيها بعدم فهم فقالت وعد بخفوت
( نعم ...... سيف يعرف من البداية , .... في الواقع الأمر أعمق من ذلك ... الا أنه لم يعرف كيف يخبرك ..... أنا و سيف .... )
صمتت و هي تطرق بوجهها قليلا و ان احمرارها طبيعيا .... بينما كانت منيرة تنتظر الكلمات من شفتيها بذهول ... الى أن رفعت وعد وجهها تبتسم بخجل لتلقي القنبلة الأخيرة
( أنا و سيف مرتبطان منذ فترة ........ )
شهقت منيرة عاليا و هي تضغط صدرها بكفها ..... بينما قالت وع بقلق حقيقي
( عمتي هل أنتِ بخير ؟ ...... لم أعلم أن الصدمة ستكون بتلك الشدة عليكِ)
كانت منيرة تهز رأسها نفيا و هي تهمس
( كيف غفلت عن تلك العينين ؟!! ...... كيف ؟!!! ...... )
لم ترد وعد و هي تنظر الى عمتها ..... بملامح باهتة شاحبة .... ثم همست بخفوت
( يبدو أنني أخطأت في المجىء الى هنا .... و قد كان سيف محقا في أن يتردد )
أغمضت منيرة عينيها شاهقة ... علها تصحو من ذلك الكابوس .... فهمست وعد بلا تعبير
( الى اللقاء يا عمتي ..... أو ربما ... وداعا ..... )
استدارت وعد تنوي الخروج من المطبخ .... الا أنها وجدت سيف واقفا ببابه ... مذهولا ... بملامح مخيفة ... مرعبة .....
فبادلته النظر بهدوء .... بينما كان صدرها على وشك التمزق رعبا منه ....
رفعت منيرة وجهها و نظرت الي سيف لتهمس بذهول و بصوتٍ معذب مرتعش
( الا هي .... أقسم بالله الا هي ..... كيف استطعت .... كيف .... )
كيف ستمر بجانبه و تتجاوزه .... سيف الدين فؤاد رضوان ... كان صفحة وانطوت للأبد ... كي تغلق هذا الطريق الذي طال بلا نكهة ..
لكن كيف تتجاوزه .... هل تقصد المرور من باب المطبخ ؟؟ .... ام كيف ستتجاوزه .... عامة ....
هي نفسها لا تعرف .....
كانت تنظر اليه كساحرة صغيرة ... بقميصٍ أسود و شعرٍ أسود حر ... ووجهٍ ابيض شديد الشحوب ... و عيني الشتاء ..... تنظران اليه بقسوةٍ كالجليد .....
مرت كطيفٍ هارب ... تركض بسرعة و هي تتجاوزه الى البهو .... الا انها شهقت عاليا حين شعرت بفك كماشةٍ حديدية .... تقبض على ذراعها ... لتديرها اليه بقسوةٍ حتى ان تنورتها دارت من حولها و كأنهما راقصين محترفين ..... ليدفعها الى الجدار المقابل قابضا على ذقنها ... يرفعه لأعلى ... وهو ينظر الي عينيها المتسعتين بذهول لم يستطع السيطرة عليه بعد ....
شعرت بنفسها تختنق ... بينما هو يهمس بصوتٍ لا يكاد يسمع , لكن يرسل الرجفة في الأوصال
( كيف تمكنتِ من فعل ذلك !!!!........ )
لم تدري من أين انبعثت فيها قوة مفاجئة .... لتدفعه بكلتا قبضتيها صارخة
( ابتعد ............ )
للحظةٍ خفت قبضته من على ذقنها ففرت كغزالٍ بري شرس .... لتبتعد عنه لكن ليس بعيدا جدا.... بل الحد الذي مكنها من مد رأسها بشراسةٍ و هي تنطق كل حرفٍ من بين شفتيها
( إياك أن تلمسني مجددا ..... إياك ....... )
ثم انطلقت تجري الي الباب .... و هو لا يزال تحت تأثير الصدمة ... و كأن نفس الحية التي بثت سمها في عروق والدته .... هي نفسها التي خرجت من بين يديه ....
و استدار ببطء ليجد ورد و مهرة واقفتين عند باب البيت ... ينظران الى ما حدث بنفس الصدمة ... بينما تجاوزتها وعد جريا بينهما لتخرج من باب هذا البيت للأبد ....

تعليقات