📌 روايات متفرقة

رواية بعينيك وعد الفصل الثاني 2 بقلم تميمه نبيل

رواية بعينيك وعد الفصل الثاني 2 بقلم تميمه نبيل

رواية بعينيك وعد الفصل الثاني 2 هى رواية من اجمل الروايات الرومانسية السعودية رواية بعينيك وعد الفصل الثاني 2 صدر لاول مرة على موقع التواصل الاجتماعى فيسبوك رواية بعينيك وعد الفصل الثاني 2 حقق تفاعل كبير على الفيسبوك لذلك سنعرض لكم رواية بعينيك وعد الفصل الثاني 2

رواية بعينيك وعد بقلم تميمه نبيل

رواية بعينيك وعد الفصل الثاني 2

كان يدور مثل أسد حبيس عاجز في أنحاء غرفة أمه ... التي ترقد في فراشها , تعطيه ظهرها .... لا تتكلم ولا تنظر اليه ...
حالة من الصمت الرهيب ... جعلته يتذكر ردة فعل أمه حين اقتحم شقه خاله كي يسرق ما يوازي الميراث الذي استولى عليه من قبل ...
و بعد أن تم القبض عليه .. و أثناء زيارات و اجراءات عديدة ... كانت أمه بنفس الصمت البارد و هي تنظر اليه و كأنه خذلها ....
و حين اختلت به لعدة دقائق .... همست بها من بين شفتيها المتيبستين
( لقد خذلتني يا سيف ..... و خذلت شقيقتيك )
و كان وقتها لم يسامحها بعد على زلة جبنها و استسلامها لتترك أباه و تتزوج بآخر خوفا من بطش عبد الحميد ... لذا احتدمت بينهما النظرات ... و ازدادت برودة الخلاف ...
مراهق ثائر متمرد .... غاضب دون محاولة لتفهم تصرف أمه الذي بدا له في منتهى السلبية الجبن وقتها ...
لكن العجيب ... أنه الآن يشعر و كأنه قد عاد الى ذلك المراهق المتمرد الذي خذل أمه ....
حتى الآن لا يستطيع استيعاب تلك الصدمة ..... تلك الأفعى التي بخت سمها في بيته لتنطلق هاربة زحفا بجلدها الناعم .... البراق ... ذلك البريق الذي أغشى بصره ....
غرز أصابعه بخصلات شعره وهو يقول بصوتٍ أجشٍ قوي
( لا تبقي صامتة بهذه الصورة يا أمي ...... قولي ما شئتِ .... لكن توقفي عن هذا الأسلوب )
الا أنها لم تعيره انتباه بل ازدادت قسماتها تجمدا و عيناها ألما ..... فتنهد بنفاذ صبر و هو يدور في الغرفة مجددا ....
ثم هتف بقوة
( لم أعد ذلك المراهق كي تتجنبيه ما أن يتصرف تصرف لا يرضيكِ ..... تكلمي بالله عليكِ )
ساد الصمت عدة لحظات ... ثم نظرت اليه بطرفِ عينيها لتقول بعد فترة بصوتٍ شاحب النبرات مع برودها
( هل تسمي هذا تصرف لا يرضيني ؟!! ......... )
هتف سيف بقوة
( أنتِ لا تعلمين كل أبعاد الموضوع كي تحكمي عليه من اللحظة الأولى .... )
ردت منيرة بألم
( هل أنت من أدخل تلك الفتاة الى حياتنا و أنت تعرف هويتها أم لم يكن أنت ؟!! ........ )
صمت سيف للحظات ثم قال بصوتٍ لا تعبير له
( لأنها نظفت البيت لمرتين ..... ليس معناه أنني أدخلتها الى حياتنا ... )
استدارت اليه منيرة بكليتها و هي تنظر بقوةٍ في عينيه لتقول بعنف
( اذن انظر الي عيني و أخبرني أنها لا تعني لك أكثر من ذلك ..... و أنا سأصدقك ... )
رفع عينيه الي عينيها ..... ثم ساد الصمت مجددا ... الا أنه هذه المرة كان صمتا قاتلا .... فتأوهت منيرة بذهول رغما عنها لتهتف بقوة
( لماذا ؟!! ....... لماذا هي من بين كل البشر ؟!! ...... من تكون تلك الفتاة التي نظفت البيت منذ ساعة ؟!!! ....... من تكون سوى أنها ابنة الشخص الذي قررت اخراجه من حياتنا للأبد ..... من تكون و منذ متى عرفتها كي تصل الى مثل تلك المكانة لديك.... )
أدار وجهه عنها و هو يهدر بأنفاسه ... يكاد أن يحطم البيت بجدرانه فوق الجميع , لا يتخيل ذلك الموقف الذي هو فيه الآن !! ...
انه يحاول جاهدا التمسك بآخر ذرات السيطرة على النفس .... لا يستطيع تخيل ذلك الموقف الذي يحياه ... خاصة بعد الرعب الذي انتابه مع سماع صوت تكسر في المطبخ .... فجرى اليه وهو يتخيل أن أمه قد سقطت أرضا ... أو أصيبت بالإغماء ....
لكن نظرة الى القدح المكسور أرضا كان هو الخسارة الوحيدة الظاهرة ... بينما تقف امه ناظرة اليه باتهام رغم عينيها الميتتين ... و ما ان اتجه اليها ببطء كي يمس ذراعها هامسا بتعب
( هل أنتِ بخير ؟..... )
الا أنها نزعت ذراعها منه بقوة كي تصعد الى غرفتها بخطواتٍ متعثرة .... و كأنها لا تبصر ما أمامها ...
لولا جريه الى أمه .... لكان لحق ب ..... بابنة عبد الحميد كي يزهق روحها قبل أن تخطو حدود هذا البيت الذي أحرقته قبل خروجها ....
نظر سيف الي امه بصمت .... ثم قال بصوتٍ خافت أجش
( لم يحدث الأمر بتلك الصورة ...... لقد ..... )
صمت وهو يلعن نفسه على ذلك الموقف الذي هو فيه الآن ... ثم رفع وجهه اليها مجددا ليجد أن الإتهام في عينيها قد زاد ...
فقال بقوة وهو ينظر اليها
( لم أشأ لذلك أن يحدث بتلك الصورة ...... )
هتفت أمه بهياج
( أي أنه صحيح !!! ....... أنت تريد تلك الفتاة !! .... )
صمتت و هي تلهث ناظرة اليه .... بينما قال هو بعد فترة صمت
( نعم ....... أريدها , و لقد توقفت عن أخذ الإذن فيما أريده قبل أن أحصل عليه .... )
فغرت شفتيها و اتسعت عيناها قليلا ... كانت تتمنى لو ينكر و لو حتى بالكذب علها تقتنع .... الا أن نظرة عيناه صدمتانها ....فهمست بذعر
( لا أصدق هذا !! ....... من تكون !! .... هل ألقت عليك سحر ما مما ورثته من أبيها و أمها !! .... )
قال سيف بدرجةٍ أقوى مما ينتويها
( دعي أبيها و أمها خارج الموضوع تماما ....... فهما ليسا في الصورة الآن )
هتفت منيرة بغضب
( بل هي صورة واحدة عندي للثلاثة ...... صورة واحدة و أنا لا أقبل بها ..... هل سمعتني )
هتف سيف هو الآخر ...
( لم أقبل منكِ سابقا صورة مماثلة و على الرغم من ذلك لم تهتمي و فعلتِ ما تريدينه ...... فكيف تحاسبيني الآن على أمرٍ لا يخص أحد غيري !!.... )
اتسعت عيناها أكثر و اكثر و هي تصرخ
( اخرس يا ولد ......... )
فصرخ سيف هو الآخر
( لست ولدا ....... لقد تحولت بعض شعرات رأسي الى الأبيض ..... فقط توقفي عن النظر الي بمثل ولد صغير تقومين بتقوييمه لأن تصرفا لا يعجبك .... )
صرخت هي الأخرى
( لا بل الطبيعي أن تقوم أنت بتقويمي !!..... بعد كل تلك السنوات يا سيف .... بعد كل تلك السنوات لازلت تعاقبني في قرارة نفسك لأنني كنت أدافع عن والدك ..... )
ضحك سيف بسخرية مريرة ثم قال بصوتٍ خافت و كأنه يكلم نفسه
( تدافعين عنه !! ...... لقد كنتِ السبب في مرضه بسبب فعلتك .... )
ذهلت مما سمعته و هي تقول هاتفتة بصدمة
( أنا يا سيف !! ..... انا كنت السبب في مرض والدك !! ... )
قال سيف بصوتٍ فاتر و هو يستدير اليها ليقول
( لم يمرض الا بعد أن تركتهِ لتتزوجين بآخر خلال ثلاثة أشهر ....... )
اتسعت عيناها ... بينما نبع منهما الألم أنهارا كي تنساب على وجنتيها , فأفاق سيف على ما نطق به للتو ... كيف وصل الي هذه النقطة ؟!!
كيف عاد من جديد الى مقاطعة طويلة بينه و بينها .... بعد أن كان قد رمى الماضي وراء ظهره ما أن بدأت الحياة في التبسم ابتسامة حزينة لها ...
لقد أقسم في داخله الا يغضبها أو يقاطعها مجددا .... و يعوضها عن سنوات تحميلها الذنب ....
و قد كانت مهجة حياته لسنوات طويلة بالفعل حتى هذه اللحظة .... فكيف عاد مجددا الى ذلك المراهق المتمرد الناقم على الجميع ..... المؤذي لكل من يواجهه ....
تنهد بقوةٍ كبخار أتون مشتعل ليقول بعد لحظات بصوتٍ مكبوت
( لا تحاسبيني ..... و لا أحاسبك ..... فقط حاولي تقبل قراراتي .... كما تقبلت أنا قراراتك من قبل و قومت نفسي معها بصعوبة .....)
ظلت أمه تنظر اليه مجروحة ... بنظراتٍ قاتلة له ... ثم همست أخيرا بعذاب
( هل تنتقم مني بها ؟؟ ...... أم تنتقم منه فيها؟؟ ...... )
استدار سيف حول نفسه يتنهد هادر ... ثم قال أخيرا بعنف مكبوت
( لا أنتقم منك .... و لا أنتقم منه .... لو أردت الإنتقام لفعلتها منذ زمن بعيد ...... أنا فقط أريدها لي و أنا لم أعتد ترك ما أريد قبل أن آخذه ..... لم أعد أستطيع ذلك .... )
هنا صرخت منيرة بعذاب و قد بدأت تبكي
( اذن اختار ما بيني و بينها .... لأن هذه الفتاة لن تدخل الى هذا البيت في وجودي أو في وجود شقيقتيك ... )
تنهد سيف بغضب و هو يرمي بذراعيه هاتفا
( توقفي عن مثل هذه الدراما ........ بالله عليك يا أمي التهديد هو أكثر ما يثير حنقى خاصة حين يتعلق بحياتي الخاصة .... )
هتفت أمه تبكي
( ليست حياتك الخاصة ..... ليست حياتك الخاصة ..... انها حياتنا معك ... ليست لي القدرة على تحمل المزيد من الصدمات .... و الصدمات كانت دائما مرافقة لإسمه و كل ما يخصه .... )
صمتت تنشج بقوة و هي تحاول السيطرة على أحزان الماضي .... ثم نظرت الى سيف تقول بصرامةٍ مهتزة
( نحن أو هي ....... نحن أو هي يا سيف .... )
نظر سيف اليها بصمت مخيف طويلا .... ثم قال أخيرا بغضب
( لن أقبل هذا المنطق ..... ضعي هذا الأمر ببالك .... )
ثم اندفع مغلقا هذا الحوار خارجا من الغرفة بعنف .... لكنه وجد ورد و مهرة تقفان خلف الباب تستمعان ... و لم يكن في حاجةٍ الى النظر الي عيني ورد المتجمدتين ببريقٍ مخيفٍ بارد .... و ملامحها متشبعة بالإدانة ... بينما هو واثق من أن روحها مجروحة حد النزيف كروح أمه ..
بادلها النظر بصمت ... دون أي تعبير ظاهر على ملامح وجهه الجامدة التي تشبه ملامحها في جمود تعبيراتهما ....
ثم حانت منه نظرة الي عيني مهرة المتسعتين و المائلتين على وشك البكاء بذعر .... فتأوه بداخله دون أن يظهر شيء وهو يمد يده ليداعب وجنتها ... فأمسكت مهرة بكفه و هي تهمس بذعر
( اترك هذه الفتاة يا سيف ..... أنا لا أعلم من تكون , و لا أعرف الكثير من تفاصيل ما تحكون عنه ... لكن تلك الفتاة ستخرب حياتنا و تبعدك عنا ..... ستبعدك عني .... اتركها يا سيف أرجوك .... )
أظلمت عينا سيف قليلا ... لكنه ربت على وجنتها قليلا قبل أن يسحب يده تاركا المكان بأقصى سرعته دون أن يغفل ألقاء نظرة أخيرة على عيني ورد المظلمتين كعينيه ....
.................................................. .................................................. ...................
خلعت ملابسها ببطء ... لترتدي قميص نومها القديم .. نفس القميص الابيض ذو الورود الوردية ... و الذي تملكه من حوالي عشر سنوات حيث كانت بنفس الجسم تقريبا ... لم يزد وزنها الى طولا ببضع سانتيمترات
كانت الشقة تصفر ليلا من شدة خوائها وهي وحيدة فيها بصورة مؤقتة ... منذ عدة أيام و هي تبيت وحدها في الشقة و كانت صامتة مخيفة .... لكنها الليلة تبدو أكثر وحشة و غربة ....
ياللغرابة .... لطالما تخيلت يوما تقضيه في هذه الشقة وحدها ... و تخيلت مدى الجنون الذي ستعيشه من رقص و غناء و أكل .... و دوران حول نفسها ببهجة بعض الحرية المؤقتة ....
لكن حين تحقق الحلم ... كانت مجهدة النفس و الروح .... عليلة القلب .......لا تقوى حتى على الإبتسام ...
جلست على سريرها ... لتستلقي للخلف ببطء شديد ... حتى استقرت ناظرة الي سقف الغرفة العتيق بعينين متسعتين فارغتين كعيني السمك الفارغة ..... ذات النظرة الفاقدة للروح ....
عقلها يحاول جذبها بالقوة الجبرية الى ذكرى ما فعلته من ساعات .... الا أنها تقاوم ... و ذاكرتها تمحو أحداث ما قامت به ...... و لسانها يردد شيء واحد و كأنه يفض النزاع
" لقد فعلتِ الشيء الصحيح ...... و انتهى الأمر "
" لن تكوني مستسلمة بعد الآن ....... لن تكوني سلعة بعد الآن .... ستعودين الى كيانك و الي خطتك البطيئة التي وضعتها لنفسك في الهروب لحياة أفضل .... لن يعوقك شيء و لن يستغلك أحد بعد الآن ...
ظلت تنظر الى السقف طويلا .... و قشوره ترسم لها أشكالا و صورا لعيون ذاهلة دامعة ... و أخرى غاضبة مجنونة ... و أخرى خائفة مصدومة ....
كلها أعين قالبلتها منذ ساعات قليلة .... و الذكرى وحدها تجعل تنفسها يتسارع قليلا ... و أصابعها تنقبض .... فيعود عقلها ليجذبها ليذكرها بما فعلته .... و هي تقاوم لا تريد العودة الى هناك .....
أوشكت على أن تغمض عينيها عن الحياة ... الا أن صوت طرق على الباب جعلها تفتحهما من جديد ...تأوهت بعذاب قبل أن تنهض من فراشها ببطء ... تتجه الي باب الشقة بتعب .... بالتأكيد هو عم صلاح في الدور الأول و الذي يصعد اليها كل فترة كي يسألها عن حال والدها على الرغم من أنه قد سمع من والدها من قبل ما لا يسر .... الا أنه يعيش وحيدا متمتعا ببعض أصول اللياقة القديمة في نبذ الخلاف ما أن يسقط الخصم مريضا ....
تنهدت وعد و هي تهمس بخفوت
( ليس الآن يا عم صلاح ..... لا أقوى على استضافة أحد و لا التكلم مع أحد .... )
وصلت للباب ... تفتح شراع الباب الزجاجي و هي تسأل بخفوت غير متبينة هوية الطارق من ظلام السلم ...
( عم صلاح ؟؟ ......... )
الا أنها فوجئت بذراع تمتمد من بين فتحات الحديد الواسعة لتقتحم الباب و تفتح المزلاج بكل سهولة و يسر ...
شهقت وعد من الصدمة و هي ترى الباب يدفعها لتتعثر للخلف عدة خطوات .... لكن و ما ان وجدت حنجرتها تساعدها كي تبدأ في الصراخ ... حتى أوصل لها عقلها اشارة التعرف على الهيئة المألوفة الضخمة ..... لتراه وهو يدخل ببساطة , مغلقا الباب خلفه بكل هدوء !! ....
اتسعت عينا وعد بذهول و هي تتراجع عدة خطوات ناظرة الى ملامحهه الحجرية .. و هي تهمس بكلمات غير مفهومة
( ماذا ؟؟ ....... كيف ؟!!!.....)
رد بهدوء خطير سيف مبتسما دون اي قدر من المرح حين وجدها تعجز عن المتابعة
( كيف دخلت ؟؟ ....... كما بإمكان أي غريب أن يدخل بسهولة ....أكل..... كعكة ....صغيرة ...)
كانت عيناه تنهشانها و هو ينطق كلماته بالتدريج... و كأنها تهديد شخصي لها ....
عدّت وعد بداخلها و هي تلتقط أنفاسها لتسيطر على ذعرها منه ... ثم تمكنت من القول بشجاعة تثير الإعجاب
( أخرج من هنا يا سيف ...... حالا ... )
ابتسم سيف وهو ينظر اليها متابعا تقدمه منها ليقول بهسيس مخيف
( أكثر ما يعجبني بكِ ......... )
صمت قليلا ... ثم راح يتأملها كلها بتدقيق شره من رأسها و حتى أصابع قدميها الصغيرتين ... حتى احمر وجهها ... ذعرا .... ليتابع متمهلا
( لهجة الأمر الصارمة تلك ..... التي تلجأين اليها للدفاع عن نفسك .... )
سرت رجفة في اعماقها .. الا انها اخفتها بمهارة و هي ترفع ذقنها لتقول بصوتٍ حاد
( لست في حاجةٍ للدفاع عن نفسي ....لأنك لن تستطيع فعل شيء , و الآن اخرج يا سيف قبل أن أصرخ و أتسبب لك في فضيحة ..... )
ضحك سيف قليلا و هو يتقدم مرة أخرى ... ليقول بخفوت مادا ذراعيه
( اصرخي ........ خذي راحتك , البيت بيتك ...... )
برقت عينا وعد غضبا ....و خوفا .... لكنها في لحظةٍ واحدة , قفزت كغزالٍ مذعور تنوي الإتجاه الى شباك المنور الصغير كي تصرخ طلبا للنجاة ... ففي تلك اللحظة لم تكن واثقة من نواياه تمام الثقة ....
خطوتين .... فقط خطوتين تمكنت منهما , قبل أن تعتقل ذراع قوية خصرها لترفعها عاليا .... فصرخت بقوة و هي تلوح بساقيها كمهرة جامحة ... و مذعورة في نفس الوقت ...
الا أن صوتها لم يكن من القوة المطلوبة كي يصل للجيران ... حين تمكن من خنق شفتيها بعنقه بقوة ... أما شفتاه فكانت تلامس جبهتها المنخفضة و هو يهمس بعبث زائف ... يخفي في أعماقه غضبا جامح
( أهدئي حبيبتي ..... لا يزال الوقت مبكرا على ادعاء الخجل في اللحظة الأخيرة )
وصل ذعرها الى منتهاه و هي تستشعر حرارة كفيه على جسدها من قميص نومها المتهالك ... فقاومت بشراسة يدفعها الأدرينالين المنبعث في عروقها .... لكنها كانت كمن يقاوم جدارا صلبها ...
و كان صوتها المختنق يهتف بجنون
( أبتعد عني ..... أقسم أن اقتلك .... ابتعد عني ..... )
أخذت تتلوى بوحشية .... حتى مكنها في لحظة واحدة من السقوط من بين ذراعيه بهدوء ... فسقطت أرضا بقوةٍ , لكنها لم تبالي بتأوهها و هي تنهض متألمة مذعورة كي تركض بإتجاه الباب ... الا أنها توقفت تلهث بخوف و هي تراه واقفا في منتصف الطريق الي الباب .... ناظرا اليها بنظرات غير مفهومة ....
مبهمة .... و كأنه أحباط أو خيبة أمل .... يطل من بين غضبه الناري ....
و قفت مكانها بعينين متسعتين .... بينما هو يشير اليها بكلتا يديه أن تقترب منه ...
تحركت حدقتاها يمينا و يسارا .... تحاول أكتشاف أي مهرب .... لكنها لم تفكيرها المذعور لم يسعفها للحل ....
حينها وصلها صوته الهامس .... همس قاتم ... على الرغم من ابتسامة شفتيه المتيبستين
( سمعتك اليوم .... منذ ساعات .... تصرحين بكل قوة و شجاعة عن ارتباطنا ..... )
أخذت تلهث بعنف و قد وقع قلبها عند قدميها .... بينما تابع هو بهدوء
( لا تتخيلي مدى شغفي بسماع صوتك .... تهتفين بها أخيرا ..... متحدية العالم )
نطق كلمته الأخيرة و قد فقد ابتسامته .... و اشتدت شفتيه .... فوجدت الشجاعة لتهتف بصوت مهتز رعبا
( اليس هذا ما كنت تمليه علي دائما ؟...... لماذا أنت غاضب الآن ؟! ..... )
حتى و هي تنطق الكلمات كانت تشعر بمدى السوء الذي تزيده بوقاحتها ...فصمتت و عيناها تنحنيان بخوف ...
الا أن سيف قال بخفوت
( و من قال أنني غاضب !! ....... بل على العكس أنا هنا لأحقق أحلامك ... و أحلامي ... )
صرخت وعد بذعر
( أخرج من هنا يا سيف ........ و كفاك جنونا , عامة لقد انتهى الأمر ..... لقد سبق و اخبرتك بذلك ... )
أصدر صوت نفي مستهزىء ..... ثم قال بخفوت وقد بدأ يقترب منها مجددا
( لا ... لا يجوز ذلك .... مرة تعلنين ارتباطك بي .... و مرة تنهين الأمر ...... الا رأي لي في الأمر !! .. )
ارتجفت وعد بقوة ..... ثم قالت بخفوت و اهتزاز ...
( أخبرتك من قبل بأنني لا أملك أي وعود أقدمها لك ...... و أنني لست سلعة للبيع )
ابتسم قليلا ... ليتوقف مكانه خطوة ... ثم قال بهدوء بطيء
( ليس هذا ما سمعته منذ ساعات .......... )
رفعت عينين مترجيتين رغما عنها .... لتجد ذراعه ترتفع فجأة لتطيح بمصباح صغير موضوع على طاولة خشبية ... فطار ليحط على الأرض متحطما الي شظايا بصوتٍ عالٍ جعلها تشهق بعد أن حل ظلام جزئي للمكان ... فجعل وجهه المغطي بالظلال أكثر قسوة ... فرفعت كفيها المرتجفتين الى وجهها .. بينما قال بهدوء لا يحمل أي ذرة أسف
( عذرا ...... لقد ارتطمت يدي بالمصباح رغما عني .... )
أخذت تتنفس بسرعة .... ثم همست بخوف و تصلب
( أخرج من هنا يا سيف ...... أرجوك ..... أخرج و أنسى هذا البيت .... و أعدك الا تراني مجددا ... )
ضحك و هو يهز رأسه يأسا منها .... ثم رفع وجهه المغطى بالظلال اليها , ليقول بخفوت
( الا تيأسين ؟!! ....... لكن من ثاني الأشياء التي أحبها بكِ هي القدرة على المقاومة ..... حتى النهاية .... )
ابتلعت ريقها بخوف .... لكنها همست بقسوة
( أنا لست خائفة منك .............. )
قال سيف بشدة .. بددت ابتسامته
( يجب عليكِ الخوف ....... ...لأنني حذرتك سابقا )
انتهى وقت العبث وها هو يظهر أوراقه امامها .....نظرت اليه وهو يقترب مرة أخرى .. ناظرا الى عينيها بقوة .. الا أنها لم تتحقق من طبيعة نظراته ... لذا لم تجد أمامها سوى الحل الأخير على الرغم من مدى سوء الموقف و مبلغ حقارة موقفها .. الا أنها في هذه اللحظة لم تكن واثقة من شيء .. و ليس من المستبعد أن يفعل بها شيئا سيء .... حيث تصلها ذبذبات غضبه بقوة من على بعد تلك المسافة الفاصلة بينهما ... لذا هتفت بتهديد أخير
( سأصرخ يا سيف ........... )
الا أنه كان أسرع منها مرة أخرى .... ليسرع اليها بينما تحاول الهرب منه يمينا أو يسارا ... وهو يلاحق خطواتها الى أن تلقفها أخيرا كطفلٍ صغير يعصرها بين ذراعيه فصرخت بأعلى ما تستطيعه و قد ارتعبت من هول هذا الهجوم ....
لكن هذه المرة ..... كتمت صرختها شفتان قويتان ... جعلتا عيناها تتسعان بذهول و هي تنظر الى منابت شعر رأسه المنحني اليها ,.....
أغمضت عينيها ببطء بينما أرتخت أطرافها ... و تلاشت قوتها و هي ترتجف بعنف الى أن تساقطت ساقيها .... و تلقى هو وزنها ببساطة بينما يعيش هوى جامح جعله ينسى المكان و الزمان ...
و كأن ذراعيه قد أدركتا وظيفتهما قبل أن يأمرهما عقله ....
فرفعها بين ذراعيه بقوة .... يضمها الى صدره .... مغمضا عينيه لقوة تلك اللحظة التي لم يختبر مثلها في عمره كله ....
كان يعرف سحر تلك اللحظة من قبل أن يختبرها .... كان يعلم على الرغم من جنون مشاعره منذ اللحظة الأولى التي رآها بها ...
كان يعلم على الرغم من خبث نفسها ... و جيناتها الفاسدة بالوراثة ....
لكنه بالتأكيد لم يكن غرا ليتجاهل تلك الومضة بينهما منذ أن خطت الى مكتبه في المرة الأولى ....
رفع وجهه ببطىءشديد ... يتطلع الى ملامح وجهها المختفية بالظلام و رأسها متساقط على كتفه ... صدره يضرب صدرها بعنف .... و أنفاسه تلفح بشرتها ... فهمس باسمها ...
همسة خشنة .... نابعه من داخل حمم بركانية متضاربة بتضارب مشاعره في تلك اللحظة ....
الا أنها كانت تبدو وكأنها لا تنتمي الى عالم الأحياء في تلك اللحظة .... فسار بها ببطىء الى الأريكة ليضعها عليها برفق , ثم انحنى ليجلس على حافتها وهو يهمس مجددا بخشونة ...
( وعد ....... )
و حين لم تستجب اليه .... مد يده ببطء يلاحق ملامح وجهها الهشة بأصابعه .... عينيها المغمضتين ... حاجبيها الرفيعين .... و جنتيها الناعمتين بأوراق الورد ... ليطيل التغزل بهما قليلا .... شفتيها ....
هاتان الشفتان الممتلئتان الكاذبتان .... و اللتان اطلقتا نيران هوجاء بعروقه منذ لحظات و لازالت تسري بها حتى الآن .....
عنقها .... عنقها الطويل الممتد أمامه و هي مستلقية بلا حراك ... تلاحقه أصابعه باصرار نهم ...
الى أن شهقت عاليا و هي تستقيم جالسة صارخة
( توقف ...... )
الا أنه دفعها من كتفيها بقوة كي تستلقي مجددا فارتمت على الأريكة بعينين مذعورتين و هي تراه منحنيا اليها .. ممسكبا بكتفيها يثبتها و يحول دون مقاومتها ....
فتحت فمها لتصرخ عاليا الا أن يده كممت فمها ... فاتسعت عيناها أكثر و هي تنظر اليه غير مصدقة ما تمر به من رعب تلك اللحظة ...
همس سيف أخيرا بخشونة ...
( حين تدعين الإغماء ..... عليكِ أولا تدبر طريقة تخفين بها ارتجاف جسدك )
هل هي غبية بالكامل ... للدرجة التي صور لها غبائها أنه لن يشعر بارتجاف جسدها له ... كما يرتجف لها !! ...
الا أن ملامحه لم تظهر ما يشعر به وهو ينظر الى ملامحها المذعورة تحت كفه المكممة لفمها ... فقال أخيرا بصوتٍ أجشٍ هامس
( لقد منحتكِ الفرصة لتتأقلمي مع الوضع .... منحتك الفرصة لأتقرب منكِ بكلِ رقةٍ تتنافى مع كل ما أشعر به ... لكنك في لحظة نفاذ صبر غبية أحرقتي كل شيء بخطوتك الغبية ... ظنا منكِ أنكِ قد تورطيني بهذا الشكل .... سهل لكِ جشعك خطتك الدنيئة ..... ففعلتِ احقر و أقذر تصرف قد تتصرفه انسانة تمتلك ذرة شعور ... و الآن يجب عليكِ التحلي بالشجاعة لتحمل نتائج جشعك الفطري ..... )
كانت يداها على صدره تحاول دفعه بذعر و هي تتلوى .بقوة مصدرة همهمات مكتومة .... بينما انسابت دموعها أخيرا على وجنتيها واصلة كفه الحديدية ... فقال سيف بجفاء وهو يقاوم مشاعره و يكافح كي يستعيد سيطرته على نفسه ....
( على الرغم من أنكِ تملكين نفس دناءة والدك ... الا أنكِ لا تملكين نصف ذكاؤه ... فأنتِ مجرد غبية صغيرة كما قال من قبل ..... ... و فعلتك أكبر دليل على ذلك ... )
توقفت عن المقاومة للحظة و هي تنظر اليه بعينين حمراوين ... تنساب منهما دموع الخوف و نظرة أسى ... نظرة ضربت أعماقه رغما عنها ....
اللعنة عليها .... بعد كل ما حدث لا زالت تزلزل كيانه بنظرةٍ من هاتين العينين ....
شعر بها تتكلم من تحت كفه .... شفتيها تتحركان ملامستان لباطن كفه مرسلة رعشة قوية الى كيانه حتى كاد أن يفقد ما تبقى لها من ذرة تحضر .. مقتربا من ارتكاب جريمة .... و ليست القتل ....
فأبعد كفه عن وجهها بقوةٍ و كأنها تبدو كصفعةٍ أمالت وجهها قليلا ... فاخذت تتوسل همسا
( أرجوك ....... أرجوك ...... )
ابتسم قليلا وهو يحاول جاهدا التحكم بنفسه .. ثم قال من بين اسنانه
( خائفة ؟!! ..... من مصيرٍ أسوأ من الموتِ ربما ؟!! .. صدقيني و أنا في طريقي الى هنا فكرت بكل الطرق التي أجعلك بها تزحفين فيها حتى بيتي مجددا كي تعتذرين عن كل اهانة و دمار تسببتِ بهما لأمي .. )
ثم فقال بخشونة منذرة بالشر و هو ينظر اليها
( كيف استطعت في سبيل تحقيق غايتك جرح انسانة لم تتسبب لكِ بأي ضرر ..... حقا كيف تمتلكين كل ذلك القدر من الدناءة ..... أنا حتى هذه اللحظة أحاول استيعاب مقدار التلوث الذي يشوه روحك و جعلك تتصرفين على هذا النحو ..... )
ظلت وعد تنظر اليه ثم همست أخيرا بصوتٍ ميت
( هل ذِكر هويتي ..... و ذلك الإرتباط الذي أقتحمت به حياتي بصفة الأمر .... يعد اهانة بالغة ؟!! .... )
نظر اليها سيف بوجهٍ قاسٍ مخيف ... الا أنه لم يجبها , فتابعت و هي تنشج همسا
( كل تلك الدناءة لأنني برزت الى النور ؟!! ......خارجة من موقعٍ مظلم كنت تريد ابقائي به ..... موقع يناسب ابنة عبد الحميد العمري .... )
لم يرد عليها و هي تهمس ببكاءٍ ناعم و عينين قاتلتين
( من أنت لتحدد لي أن أصمت أو أن أتخفى ؟!! ...... من تكون .... و ما هي سلطتك على حياتي كي تفرض علي دور الحبيبة السرية ؟!! ..... انتقامك من والدي لا يمنحك الحق في امتلاكي .... شرائي و بيعي )
اخذت نفسا باكيا مختنقا
( انظف بيتك .... لتأتي مساءا ربما لتحظى بفرصة ضمي الى صدرك أو تقبيل وجنتي .... و تمد يدك الى حافظتك تراضيني ببعض الأوراق المالية .... تبهر بها عيني كي أتغاضى عن تصرفاتك .... )
اخذت نفسا آخر و هي تتابع أمام عينيه العابستين بشدة
( لم تدخر طريقة لإذلالي بها منذ اليوم الأول ..... تقربني و تبعدني .... تغريني بمالك و بيتك ..... و أمك .... تلك المرأة التي تقبلني كلما رأتني , على الرغم من أني لست أكثر بكثير من خادمة ....
و أنا حتى لا أتذكر قبلة من أمي ..... ذاكرتي لا تسعفني لقبلة .... قبلة واحدة منها .... او ضمة الى صدرها ... بينما أنت و أمك ... المشاعر لديكما فياضة بكرم و سخاء )
صمتت قليلا تبكي باختناق .... لترفع اصبعا و هي تهتف باكية مما جعل وجهها ينتفخ احمرارا
( بشرط ...... أن أبقى في ذلك الموقع المظلم الذي رسمته لي ..... أحقق لك الصورة المثالية عن انتقامك ممزوجٍ بشغفٍ ما لم أستطع فهمه .... )
شعرت في تلك اللحظة بأنها على وشك الإنهيار .... إن لم تكن قد انهارت بعد فتركت صدره الذي نست كفيها عليه .... و الذي كان من القوة بحيث يضرب كفيها تنفسا و نبضات ...
فغطت وجهها بكفيها و هي تبكي بعنف ..... فظل سيف ينظر اليها بعبوس شديد ....
ثم نهض واقفا كمن سمه عقرب ... فقال بخشونة وهو يتحاشى النظر اليها
( اجلسي ........ )
ظلت تبكي عدة لحظات قبل أن تستقيم ببطىء تنزل ساقيها من على حافة الاريكة ... تعدل من قميص نومها بخزي ... تغطي وجهها بكفيها ... ثم تهمس بصوتٍ ميت من تحتهما
( أخرج من هنا من فضلك ........ يكفي ما فعلته , و لقد نلت عقابي .... و صدقني , لن أنسى هذا الدرس ما حييت ...... بينما أنت لم تخسر شيئا في الواقع .... )
رفعت كفيها و هي تمسح وجهها المتورم .... لتهمس دون أن تنظر اليه , ناظرة الى ارض الغرفة بضياع , متابعة بهمس
( ستسامحك أمك على تلك ال ....... النزوة الصغيرة ..... و ربما ستضحكان عليها بعد فترة و أنتما تتذكران الخادمة التي اتت لتؤدي عرضا مسرحيا ببيتكم ذات يوم .... و على الأغلب ستنسيان اسمها ... لكنكما ستتذكران بفخر .... النهاية المنطقية لتطاول ابنة عبد الحميد العمري على أسيادها ..... )
كانت ترتجف بشدة على الرغم من هدوئها الظاهر .... كان جسدها ينتفض بعنف و هي تكتف ذراعيها علها تهدىء جسدها المسكين من هول ذلك الطوفان الذي ألم به من لحظات ... تنظر الى الأرض بعينين متجمدتي الدموع .... تود لو أن تصرخ ... تصرخ عاليا و تنتقم منه بكل قوتها ... لكن قدرتها انتهت ... و طاقتها نضبت عن تحمل المزيد ....
سيف الدين فؤاد رضوان ..... كان الشخص الخاطىء للتلاعب معه .... و قد أدركت ذلك للتو كما ذكر ...
الا أنها خرجت من تلك القصة بعاهةٍ مستديمة .... تشك في امكانية تجاوزها .... ابدا ....
وضع سيف كفيه المضطربين في جيبي بنطاله .... ناظرا الى رأسها المحني بشعرها الهائج من أصابعه الخائنة .... تلك الصورة التي عاش يتخيلها لأيام ... لكنها كانت أروع من تخيلاته ... و لكن تلك الروعة خلفت طعما صدئا بحلقه فور انتهاءها ....
حين تكلم أخيرا .... قال بصوتٍ جاف صلب , خالي من أي مشاعر
( كالعادة .... اتخذتِ القرار ... و تصرفتِ بناءا عليه ...... )
رفعت وجها خائفا متورما من البكاء اليه ... و هي تنظر اليه بخوف ممتزج بعدم الفهم .. فبادلها النظر بقوة
ليقترب منها خطوة ... ثم ينحنى ليجثو أمامها ... مستندا بكفيه على جانبي ركبتيها ... يتحداها كي تتهور بأي تصرف ... فنظرت بعينيها الحمراوين الي عينيه الصلبتين .... و لم تدرك تلك اللحظة الدقيقة التي يأخذها كي يسبح بشتاء عينيها أولا قبل أن يتكلم ..... و حين فعل قال بلهجة صلبة بطيئة
( حين تقررين اتخاذ طريق .... فاسلكيه للنهاية يا وعد .. عبد الحميد العمري .... الذي قد أنسى أسمه ذات يوم ... لكني لن أنسى اسمها يوما ...... )
فغرت شفتيها قليلا و هي تنظر الي عينيه بصدمة ... و تلقى عينيها القدر الذي تريده ... مشبعا الصدمة التي تعيشها من كلمة .... ليتابع أخيرا بهدوء
( خاصة و أنني .... سأرث معها تلك الشقة .... بعد عمرٍ ...... طويييل ... )
اتسعت عيناها أكثر و أكثر .... و كأنها قد تلقت صفعة للتو ... و كأنه قد سكب عليها دلو من الماء البارد بعد الصفعة ....
فهمست بغباء و ضياع
( ما ....ذا .... ؟!! )
قال سيف مبتسما بهدوء و هو يلاحق عينيها
( أو بمعنى أصح تلك التي جرحتِها منذ فترة .... و أنا و هي واحد بالمناسبة ... )
عقدت حاجبيها قليلا ... ثم همست باختناق يكاد يكون هذيان
( و من يضمن لك أن يكون عمرك أطول من عمره ؟!! ..... )
رفع كفيه قليلا مستسلما ليقول ببساطة
( لا شيء أبدا ..... لذا ادعي من قلبك أن يكون عمري أقصر من عمره ..... لكن و حتى هذا الوقت ... )
أعاد وضع كفيه على حافتي الأريكة على جانبيها .... ثم تصلبت ملامحه ليتابع بقساوة
( حتى هذا الوقت .... سألتزم الطريق الذي اخترتهِ بنفسك ....... )
همست بخوف و هي تبتلع ريقها
( ماذا ..... تقصد ؟!! ......... )
ابتسم ليقول بهدوء و كأنه يقص عليها حكاية
( أقصد ..... أننا .... أنا ... و أنتِ .... مرتبطان رسميا منذ هذه اللحظة ... .. )
عقدت حاجبيها بقوة .... بينما الذهول يظهر على عينيها لتهمس بنفس الغباء
( ماذا ؟!! ........ ماذا ؟!! .... )
رد سيف همسا بصوتٍ أجش بينما عيناه تحيطان بها من كل اتجاه ..
( هل أشرح لكِ ببطءٍ أكثر ؟؟ ....... سنتزوج ... أنا و أنتِ ..... )
فقزت وعد واقفة في مكانها بينما ذراعاه تحاصرانها وهو يجثو أمامها و كأنه فخ .... نعم أنه فخ و قد سقطت به بكل غباء ...
الا أنها هتفت بخوف
( أنت تتلاعب بي ....... توقف ..... فقط توقف .... لقد نلت عقابي .... أرجوك ابتعد عني .... )
نهض ببطء حتى أصبح مواجها لها تماما ... يعلوها ... كما كانت تعلوه منذ لحظات ... ثم قال بصوتٍ خافت لكنه قاطع ...
( أنا لا أعرف التلاعب .... و هذا ما كان يجب على عقلك الغبي أن يدركه من البداية .... لكنتِ وفرتِ على نفسك هذا الموقف الذي تقفين به الآن بسبب جشعك ..... و فراغ صبرك .... )
أشتعلت عيناها و هي تفغر شفتيها قليلا .... ثم صرخت بجنون
( أنت آخر انسان قد أتزوج به ............ )
همس سيف ببساطة
( هشششش .. أخفضي صوتك , أتريدين للجيران أن يستمعوا الى صوتك و يأتون كي يشاركون فرحتنا ... )
ارتجفت وعد و هي تقول بصوت أقل علوا ...
( أنا لن أهرب من سجن حياتي ... لأدخل نفسي بنفسي في سجنٍ أشد منه ظلمة .... و قيدا ... )
ربت سيف على وجنتها وهو يقول بجفاء
( كان عليكِ التفكير بذلك قبل أن تتجرأي و تتحديني ..... )
هتفت وعد و هي تدفعه بقوةٍ في صدره
( كنت أبعدك عني ........... )
الا أن قبضتيه أمسكتا بمعصميها بقوةٍ و ضغط عليهما حتى اتسعت عينيها ألما .... و هي تحدق بوجهه الصلب الغاضب ... و هو يقول بجفاء مخيف
( اذن فقد اخترتِ الطريق الخاطىء في سبيل ذلك ...... و مع هذا ستلتزمين به ... )
هتفت وعد و كأنها تبصق بالكلمة في وجهه
( لا ............ )
ظل ينظر الي عينيها الكارهتين طويلا دون أن تتبين ما يشعر به في تلك اللحظة ... لكن أيا كان ما كان يشعر به فهي متأكدة أنه لن يعجبها .... لن يعجبها إطلاقا ....
لم يتخلى سيف عن معصميها وهو يقربها منه قائلا بهدوء
( بلى يا وعد ........ أنا أريدك و أنا لم أعتد ترك ما أريد ..... و قد سهلتِ لي المهمة للغاية )
ابتلعت ريقها مرة أخرى على الرغم من تظاهرها بالشجاعة ... ثم قالت بكره يائس
( هل تسمح لك كرامتك أن تفرض نفسك على من تريدك ؟؟ ....... )
انتظر سيف قليلا ينظر اليها .... متفحصا لها بقميصها الرقيق ... حتى احمرت خجلا وودت لو تهرب من أمامه أو تدفن نفسها تحت الأرض ... ثم قال أخيرا بنبرةٍ لا تخلو تماما من الإزدراء
( بما أنها كانت خبيثة النفس بما يكفي ... لتجعلني أشعر بأنها تماثلني أحساسا ... حتى مع كلمات تمنعها الرقيقة الساحرة ..... لذا فالإجابة هي نعم ... أمتلك ما يكفي لأفرض نفسي على حياتها كلها .... )
كانت عيناه تتحديانها للرفض .... و قد قبلت التحدي قائلة بخفوت
(؛ لن يحدث ..... لن أكون عمري الخادمة و أداة الإنتقام لكم .... )
ابتسم سيف وهو يقول بهدوء
( حقا ؟!! .......... )
أومأت وعد برأسها و هي تنظر اليه ببأس على الرغم من ارتجافها و تورم وجهها من البكاء ...و همست
( نعم ..... و هذا آخر كلام لدي ....و الآن أخرج من هنا قبل أن أطلب لك الشرطة )
قال سيف بجفاء وثقة
( لكنني لم أقل آخر ما لدي بعد ............ بيننا ميراث لم ينتهي بعد ووالدك مدين لي بالكثير )
قالت وعد بقوة
( اذهب و خذ ما يخصك منه .... هذا أمر لا يخصني )
قال سيف بهدوء قاسي و هو يطرق رأسها بإصبعه و يداه لا تزال ممسكتان بمعصميها
( أنتِ ما تخصيني من كل ما يملكه .... لذا ضعي ذلك بالك .... و اقتنعي به ... )
صمت قليلا و هو ينظر باستهزاء الى عينيها الخائفتين ... ثم قال ببساطة
( غدا أريدك في العمل ...... في موعدك تماما دون تأخير , ... طبعا هذا أمر بديهي ... لكن وجب تحذيرك )
اتسعت عيناها قليلا و هي تهتف بجنون
( مستحيل ...... كيف أستطيع العمل لديك بعد ..... بعد ..... بعد اللذي .... ؟)
لم تستطع إكمال جملتها .... لكنه لم يبتسم و لم يجاريها , لكنها توهمت أن رأت عيناه تتألقان عمقا حتى كاد أن يغرقها ... فأخفضت عينيها غير قادرة على سبر أغوارهما ...
فتطوع هو متابعا بهدوء ....
( لقد وصلتِ اليوم معي الى طريق مسدود يا وعد .... فأنصحك ألا تتحديني أكثر , فقد لا أستطيع التحكم بردة فعلي المرة المقبلة ....)
سكت قليلا ثم تابع ببطىء
( هذا بخلاف أن والدك ليس الوحيد المدين لي ..... بل في الواقع , انت أيضا مدينة لي , و أنا لن أترك دينا لي بعد الآن .... )
همست وعد بغصة و هي ترفع عينيها اليه
( هل تبتزني بسبب النقود التي اقترضتها منك ؟!! ...... )
رفع ذراعيه الممسكتين بمعصميها ... ليقول بلهجة الأمر الواقع المقيتة
( فقط أذكرك ...... كي لا تسرقك الوقاحة أكثر .... )
كانت تنظر اليه بعينين متسعتين براقتين بغضبٍ لم يطغى على الخوف بعد تماما ... لكن كل ما كانت تريده في تلك اللحظة هو أن يخرج من هنا و بأي طريقة ... لكن و قبل أن تكررها ... كان قد قذف معصميها بعيدا عنه ... لينظر اليها بقساوة ... قبل أن يستدير في اتجاه الباب ....
نظر اليها أخيرا نظرة أخيرة .... غريبة .... اختفت منها السخرية و حل محلها شيء آخر ... مع استمرار غضبه ... شيء ك .... عتاب .... حزن ....
لكنه حين تكلم ... قال بصوتٍ خافت خشن
( لا تعاودي فتح الباب بهذه السذاجة ..... قد يكون أي من الأشرار ينتظر الفرصة كي ينقض عليكِ )
كان يتحدث عن نفسه و كانت تعرف .... نبرة صوته أخبرتها بذلك ...
الا أن صوت اغلاق الباب رغم هدوؤه جعلها تستفيق منتفضة و كأنها كانت تعيش في كابوس ... فكتفت ذراعيها بقوة و قد بدأت ترتجف بصورةٍ أكبر ... ناظرة حولها و كأنها تتأكد مما حدث للتو من عدمه ... و حين رفعت يدا مرتجفة تغطي بها شفتيها
عيناها المائلتان ما بين الأسى و الذهول و الخوف تنظران الي البعيد ... و عقلها يخبرها أنها أخطأت خطأ فادحا ....
شهقت شهقة مصدومة ... و هي تشعر بأن جسدها يرتعش بأحاسيس مختلفة متضاربة ... و روحها تكاد تنتفض أعنف من انتفاضة جسدها ...
هل حقا كان هنا ؟!! ........ و هل قال ... سنتزوج ؟!! .....
انحدرت ببطىء حتى جلست أرضا مسندة ظهرها الي الأريكة .... تنظر بضياع الي المكان المظلم من حولها ... و بقايا المصباح المكسور كانت الدليل الوحيد ...
.................................................. .................................................. ...................
دخلت بساق تعرج قليلا الى حمام السيدات الملحق بالمطعم ...
كانت قد أنهت عشائها للتو ... و كم كان شهيا و كأنها تودع حتى الطعام الشهي ....
رفعت وجهها الى المرآة المضيئة الجميلة أمامها و هي تتفحص شكلها ... فهي ليلا تعود الى شيراز المنمقة الأنيقة .... ترتدي أفخر أثوابها .... و تعيد لتصفيف شعرها بالمجفف الساخن في اللفائف التي تصفيفها جيدا لتجعلها تشبه أنيقات الأربعينات ...
أخرجت أحمر شفاهها لتصبغ شفتيها باللون القرمزي القاني ... و ما أن أنتهت حتى أخرجت القلم الأسود لتميل الى المرآة قليلا و هي تخط تحت عينيها الخضراوين ...
صوت الباب يفتح من خلفها لم يجعلها تهتم أو تلتفت .... حتى وقع الحذاء العالي الكعبين لم يجعلها تلتفت , الى أن برزت صورة من خلفها جعلتها تتسمر مكانها و القلم على حافة جفنها السفلي ...
امرأة .... أنيقة بوقار .... تجمع شعرها في كعكة مرتبة ... بدأت علامات العمر في الظهور على وجهها على الرغم من جاذبيتها ...
كانت تمر من خلفها .... و عيناها مثبتتان على عيني شيراز في المرآة .... و ملامحها صلبة قاتمة ....
الى أن وقفت أمام المغسلة المجاورة لها .... و عيناها لا تزال في عيني سيراز ... تقيدها بقسوة ...
ابتلعت شيراز ريقها و هي ترتجف و قد هبط قلبها ... لكنها حاولت التظاهر بالهدوء ... و أكملت خط عينيها الا أنه بدا مهتزا بفظاعة ... و قد جعل اللون الأسود الواضع التعوج واضحا ... فبدت كطفلة كانت تلهو بقلم تزيين والدتها ....
وضعت شيراز القلم بأصابع ترتجف في حقيبتها الصغيرة ... و هي مصرة على الا تلتقي عينيها بعينين تلك المرأة مهما حدث ....
و ما أن استدارت تنوي الخروج ... حتى سمعت صوتها يقول بهدوء بارد كالجليد
( ماذا تترجين من وجودك هنا ؟........... )
تسمرت شيراز مكانها للحظة متسعة العينين ... لكنها حاولت بمعجزةٍ ما تدبر وجه متحير ودود و هي تستدير الي السيدة ببطىء .. متعمدة النظر حولها قليلا قبل أن تقول بابتسامة مهزوزة ..
( عفوا !! ..... هل تقصديني ؟!! ..... )
مطت السيدة شفتيها بإزدراء و هي ترمق شيراز بنظرات طويلة متفحصة .... لا تخفي الألم بها .... و كأنها تتفحصها ... و كأنها تحاول تبين السبب .... ثم همست أخيرا بقسوة مجروحة
( هل تتصورين أنني لن أسعى لمعرفة شكلك من قبل ؟!! ....... و كل ما يخصك !! ...... )
سكتت قليلا تتباع ملامح شيراز المصدومة ... ثم تابعت بهمس قاتم
( معرفة السبب .... ادراك النقص الذي ألم بحياتي فجأة .... محدثا ذلك الصدع الذي لن يلتئم أبدا .... )
ابتلعت شيراز ريقها و هي تهمس بعذاب
( عذرا ..... أنا .... لا أعرف عما ..... )
الا أن السيدة قاطعتها و كأنها لم تسمعها ... و كأنها تعيش عالما خاصا موجعا , لا تبذل الجهد كي تخفيه ...
( لم أحظى بالفرصة من قبل كي أسألك سؤال واحد ..... لماذا ؟ ..... ماذا استفدتِ من تلك الفترة القصيرة ؟...
هل يوازي الثمن الذي تقاضيته تدمير أسرة مترابطة منذ أكثر من عشرين عاما ؟!! ...
هل ظننتِ أنه سيكون زواج دائم ؟؟ ..... هل صور لكِ خيالك ذلك ؟؟! ..... )
كانت عينا شيراز متسعتين بألم كاد أن يعصف بها .... الا أنها لم تجد القدرة على النطق بحرف واحد و هي تقف متضائلة أمام تلك السيدة المهيبة ... و التي تابعت بصوت خافت , لا يكاد يعلو عن الهمس
( لم يكن لدي ذرة شك في عودته لبيته و لأسرته .... و لا للحظة لم ينتابني الشك .... مثيلاتك لهن مهارة احداث الشرخ ... و ليس الكسر .....
لقد مرت بأسرتي عواصف أعنف من وجودك الضئيل ... و ربما من قبل أن توجدي بهذه الحياة ...
لم تمثلي ذلك الخطر أبدا .... و مع ذلك , أردت من كل قلبي أن أسألك .... لماذا ؟؟ .....
ماذا جنيتِ ؟؟ .... و هل كان يستحق ؟!! ....... )
فغرت شيراز شفتيها .... لا لتتكلم ... و لكن لتتنفس ... لتصرخ .. لتفعل اي شيء يرحمها من هذا الموقف الذي لا تحسد عليه في تلك اللحظة .... لكنها لم تستطع الايتان بحركة ... فوقفت امامها صاغرة ... مصعوقة داخليا ...
فقالت السيدة بقساوة
( أستطيع تفهم احتياج مثيلاتك ... لبيت ... لكيان .... لإسم ...... لكنني لن أريحك و أمنحك العذر , و الذي حتما لن تطلبيه .... و أنتِ تسعين اليه مجددا ربما !! .... )
كلمة لقيطة ..... لم يكن ينقصها سوى تلك الكلمة التي يفوح بها كلام تلك السيدة , و كأن الفعلة كانت لتصبح أهون لو لم تكن لقيطة !! .... الا أنها لم تستطع سوى أن تهز رأسها نفيا بضياع على الجزء الأخير حين استوعبته ...
فرفعت السيدة الأنيقة حاجبها لتقول بفتور
( لا ؟؟ ....... هل هي صدفة أن أجدك أمامي في عطلة لم شمل أسرتنا ؟!! .... تتجسدين لي مجددا و كأنك الشبح الذي سيسطر على حياتي دائما ؟؟ ..... )
عادت شيراز لتهز رأسها قليلا ... و كأن قد أصيبت بالخرس التام .... أين لسانها السليط ؟!! .... أين اختفت بذاءتها ؟!! ..... أين همجيتها في الدفاع عن نفسها و نهش من يؤذيها ؟!!
من تلك التي تقف ذليلة صاغرة لا تجد حرفا يصعد الى حافة شفتيها ....
قالت السيدة أخيرا بعينين كالحجر
( على قدر الألم الذي سببه لي لقياكِ , الا أنني ممتنة للغاية لتلك الفرصة التي كنت أتمناها منذ زمن طويل ... في أن أراكِ وجها لوجه ..... أنظر في عينيكِ .... أخبرك بأنكِ الخاسرة على الرغم من الألم الذي سببته لأسرتي ..... )
استطاعت شيراز الهمس أخيرا باختناق
( أعلم ذلك ..... عن اذنك , يجب أن أخرج ....... )
لكن ما أن استدارت حتى قالت السيدة بقسوة
( انتظري ......... )
التفتت شيراز اليها بصمت تنتظر ... فاقتربت منها السيدة خطوة لتقول همسا أجشا
( بيني و بينك دين ..... منذ فترة طويلة .... )
عقدت شيراز حاجبيها قليلا ... و هي تنظر اليها بحيرة , ... الا أنها لم تتوقع الصفعة التي هبطت على وجهها
صفعة أنيقة .... مجروحة في نفس الوقت ... نقلت لها جرح من صفعتها ... و مع هذا رفعت شيراز يدها الى وجنتها بذهول و كأنها تلقت مطرقة على وجهها .... فتراجعت خطوة أمام العينين الثلجيتين ...
و ساد الصمت بينهما .... و كأن لا مجال للحديث بعد الآن ...
التفتت شيراز نصف التفاتة و يدها لاتزال على وجنتها .... الا أنها عادت و استدارت مرة أخرى تقول بخفوت
( سيدتي ......... هل تلقى زوجك صفعة مماثلة منكِ ؟؟ ..... )
أجفلت السيدة قليلا و كأنها لم تكن تتوقع مثل هذا السؤال الخافت الهادىء .... لكن و قبل أن تجيب كانت شيراز قد استدارت لتبتعد .... و هذه المرة لم تنظر مجددا للوراء ......
.................................................. .................................................. ................
احست أنها في حاجةٍ الى هواء نقي بصورةٍ ملحة ... و الا فستختنق ... تموت ....
خرجت من قاعة الطعام الى البهو و منه للخارج ...
الى الممر الطويل الى الشاطىء المظلم الأسود .... سواد يحيط بها يكاد أن يبتلعها ... يغرقها ....
خلعت صندالها العالي الكعبين و خطت الى الرمال الباردة بقدمٍ حافية و أخرى مضمدة ....
كان المكان موحشا مخيفا .... على الرغم من وجود بعض الأضواء البعيدة .... الا أنها لم تشعر سوى بالوحشة ....
وصلت أخيرا بألم حتى حافة الماء المجمد من البرد ... فخطت اليه غير مبالية بضمادتها التي ابتلت ...
و سرعان ما أطلقت العنان الى شهقاتها .... شهقاتٍ عالية .... مختنقة في ذات الوقت ... و كأنها طائر مذبوح يرفرف في لحظاته الأخيرة ....
ظاهر يدا واحدة تضغط بها على إحدى عينيها بقوة ...بينما الأخرى ممسكة بصنداليها كطفلة منهارة في البكاء بكتفين منحنيتين ...
لماذا لم ترد ؟!! .... لماذا لم يسعفها لسانها بالرد عليها ....
أين ذهبت قبضتها التي سلطت شفرة منتقمة على عنق زوجها الأخير ... ما أن وصلت الى مرحلة الخلاص منه !! .....
كيف استسلمت أمامها صاغرة بهذا الشكل المخزي ؟!! ..... لأنها كانت تشعر بالخزي .....
هذه هي الإجابة .... أنها كانت تشعر بالخزي ..... ببساطة ....
تتابعت شهقاتها .... حتى سقطت على ركبتيها فوق الرمال الرطبة .... دون أن يفلح صوت تكسر الموجات الناعم عند ركبتيها في تهدئتها ...
( أنتِ تجرين بسرعة عالية ..... بالنسبة لشخص ذو قدم مقطبة حديثا )
علا الصوت الرجولي من خلفها فوق صوت شهقاتها .... فصمتت فجأة و هي ترفع وجهها الى البحر دون أن تستدير اليه .... لم تجرؤ على مواجهة أي انسان في مثل هذه الظروف ...
أغمضت عينيها بيأس .... فعاد ليقول ببساطة
( و ها أنتِ تبللين قدمك بمنتهى الحماقة !! ...... )
لم ترد شيراز و لم تلتفت اليه .... من المؤكد أنه قد سمع شهقاتها المجنونة , ومع ذلك يتحدث بمنتهى البساطة دون أن يشير الى الأمر ....
فقال بصوتٍ آمر .... لكن به من اللطف ما جعلها تبكي بنعومة مجددا
( تعالي ........ سنذهب الى الطبيب كي ينظف لكِ الجرح من جديد ... )
التفتت بوجهها قليلا ... فرأت يده منخفضة في استدعاء رقيق اليها ... حينها رفعت وجهها المظلل بضوء القمر الى وجهه المبتسم بتعاطف .... فمدت يدها الي كفه ببطء حتى قبض عليها ليجذبها واقفة بيدٍ واحدةٍ و كأنها في وزن الريشة .... و ما أن استقامت على قدمها السليمه .. ساعدها كي تسير عدة خطوات ثم قال بخفوت
( أنا سعيد أنكِ أطلتِ عطلتك ...... )
همست بعد عدة خطوات أخرى
( لكني نادمة على ذلك ........... )
همس هو الآخر ... يسير بجوارها على مهل , ممسكا بذراعها
( لا تسرعي في الحكم ...... قد يبدو لكِ الشيء مريعا في بدايته , ثم تتسائلين ذات يوم ... بعد فترةٍ طويلةٍ ... كيف كنتِ ... و أين أصبحتِ ..... فقط استمري في النهوض بعد كل وقعة , كما فعلتِ من لحظة .... )
همست بلا وعي
( تقصد بعد كل صفعة .......... الوقعات تكسر الظهر و قد تتعافى , لكن الصفعات تكسر الروح و لا تزول أبدا ... )
نظر اليها مقطبا و على شفتيه ابتسامة ... ثم همس
( أنتِ فيلسوفة الليلة ........ أعتقد أنني أفضلك سليطة اللسان أكثر )
توقفت للحظة ... ثم رفعت اليه عينين خضراوين طفلتين و هي تهمس بضعف يثير العطف
( كنت في حاجة اليه .......... )
عقد حاجبيه و هو يقول بحيرة
( ماذا تحتاجين ؟!! .......... )
همست بعدم ثقة
( لساني السليط .....)
رفع حاجبا متوجسا و هو يسألها مستفسرا
( لتشتميني ؟!! ............ )
هزت رأسها نفيا بشرود .... ثم همست بصوتٍ ضئيل مختنق
( كنت أريد أن أسلطه على أحدهم , لكن شيئا ما ألجمني ... أوقفني ... و الآن أرغب في القتل )
نظر اليها طويلا بصمت ... لكنها لم تتبين ملامحه تماما الى أن وصل بها الى الطريق الرخامي ... فصعد و جذبها اليه بذراعه كي لا تصعد بقدمها المضمدة ... ثم تركها تستقيم بعد أن شعر بها تتوتر ...
ثم قال بخفوت ..
( أحيانا يسعفك العقل برد الفعل المثالي.. و ربما كان من الأفضل لكِ بالفعل أن جنبتِ المسكين شفرة لسانك )
صمتت و هي مخفضة الوجه .... تقف أمامه لا يكاد طولها يتعدى صدره , يقفان في الظلام و يطير الهواء خصلات شعرها القصيرة مرسلة عطر شعرها الى أنفه الحساسة ... فتساعد في جذبه أكثر بخلاف الرغبة المتأججة في الحماية ....
فقال بخفوت أكثر
( و ربما من الأسهل أن تخبريني بمن أغضبك لأتصرف معه ..... و صدقيني مهما كان ما سأفعله به سيكون أهون من لسانك ..... )
لم ترد عليه و لم ترفع وجهها .... فقال بجدية
( لو ابتسمتِ فلن يفرضوا عليكِ ضريبة .........)
رفعت وجهها اليه دون أن تبتسم .... ثم همست بلا مبالاة حزينة
( و لماذا تهتم ؟؟ ....... )
انتظر فترة ... ثم همس
( ألم أقل لكِ أنني سعيد ببقائك ..... اذن فمن المؤكد أنني أريدك .... مبتسمة ... )
شهقت شهقة قصيرة صامتة ... شاردة ... و هي تنظر الى البحر الأسود البعيد من خلف كتفه , لتهمس بلا تعبير
( لا أستطيع ........حاولت , لكنني لم أنجح )
قال وليد بهدوء به قوة لطيفة
( اذن ستكون مهمتنا في هذه العطلة .... أن نجعلك تبتسمين قدر الإمكان , و ربما حينها ستعودين الى حياتك و أنتِ تحملين ذكرى طيبة .... قد تطغى على الذكريات السيئة )
رفعت اليه ملامح مندهشة قليلا .... فقابلها بوجه مبتسم ... جعلها ترتبك قليلا و تشعر بوجوده للمرة الأولى الليلة ...
لكنها عادت و أخفضت وجهها و طال الصمت بينهما , فقال بهدوء
( هيا بنا الى الطبيب ..... )
تبعته بطاعة ... و هي تشعر بأن قواها قد استنزفت و فقدت القدرة على المقاومة ... و بعد حوالي ساعة من انتهاء عمل الطبيب ... أصرت على الصعود الى غرفتها , فأصر هو الآخر على مرافقتها ...
صعد معها في المصعد الذي استقلاه مرة من قبل , و قد ألحت الذكرى على كليهما ...
فبقى هو صامتا مبتعدا عنها قدر الإمكان ... بينما كانت تقف صامتة مستندة الى مرآة المصعد بكتفها و كأنها تريد لتلك الدقيقة أن تمر سريعا ...
مما جعله يعقد حاجبيه .... و كأنه نادم .... أو يشعر بالذنب ....
فتح المصعد أبوابه أخيرا .... فراقب ملامحها الشفافة و هي تعبس قليلا .. و تتوتر ... ثم تبدأ في التشكل على حالة الهجوم تحسبا لأي تصرف ..... أو عرض غير لائق ... حتى أن قبضتها انقبضت مستعدة لكي تلكمه في أي لحظة ...
لا يعلم إن كان يشعر بالتسلية أو بالغضب في تلك الحظة .... لكن من المؤكد أن غريزة الحماية لديه تتزايد ...
لذا مد قبضته يحكم بها امساك باب المصعد المفتوح ليمد يده الأخرى بإتجاه الممر قائلا بهدوء
( تفضلي ........ )
تجاوزته شيراز بإرتباك .... و ما أن خطت خطوتين خارج المصعد حتى استدارت بسرعة لتجده لا يزال داخل المصعد ... فنظرت الى وجهه بعينيها الخضراوين الكبيرتين بصمت ...
فقال بجدية دون أن يبتسم
( أراكِ غدا ...... )
هزت رأسها نفيا .. ثم همست
( لن أخرج من غرفتي غدا ...... لا أشعر بالرغبة في ذلك ....سأنام طوال اليوم ... . )
قال وليد قاطعا
( بل ستخرجين ..... استريحي و نامي حتى المساء ثم أراكِ وقت العشاء )
عادت لتهز رأسها نفيا بصمت
الا أنه ترك باب المصعد ليقول بثقة
( الساعة الثامنة .... بمطعم الفندق ..... )
قالت بسرعة
( لن أخرج من غرفتي ......... )
الا أن الباب بدأ في الإنغلاق .... و وجه يتضائل امامها قبل أن يقول في اللمحة الأخيرة
( الثامنة ..... لا تتأخري , فأنا أكون كالدب حين أجوع )
و كانت نظرتها المنحدرة الى عضلات ذراعه الضخمة هي آخر ما رأته منه قبل أن ينغلق الباب تماما ... فوقفت شيراز وحيدة بالممر .... تفكر بتلك العطلة التي لن تعود منها كما كانت أبدا
صفعتين .... و حبها الأول ....
.................................................. .................................................. ...................
جلست أمامه ببطىء و هي تتجنب النظر الي عينيه الغاضبتين ... الا أنها وعت اليه ينظر الي ساعة معصمه ثم قال بخشونة
( عشرون دقيقة ...... عشرون دقيقة و أنا جائع في انتظارك , وكأن العالم كله يدور من حول سيادتك كي تنهين تلك اللوحة المرسومة على وجهك .... و تصنعين من شعرك ملفوف ورق العنب بدلا من أن نتناوله في المطعم الذي أمكث به .... من واحد و عشرين دقيقة ... )
عبست بشدة و نسيت حرجها البالغ من الرجوع في كلامها امامه و نزولها اليه ... و دبت فيها نيران الغضب و هي تقول بحدة
( و من طلب منك أن تنتظرني ؟!! .... لربما لو كنت سددت فمك بعشر وحدات من ملفوف ورق العنب لكان فمك مغلقا الآن و عقلك مطموسا عليه بالسمن البلدي .... )
عبس بشدة وهو يقول بحدةٍ تماثل حدتها
( من الواضح أنكِ ستضيعين المزيد من الدقائق و أنتِ تمتعيني بباقة مختارة من ألفاظك العطرة ... رجاءا احجمي لسانك الآن كي لا أتغابى عليكِ فأنا لا أضمن نفسي وقت الجوع .... )
هتفت بحدة
( لا .... لا تقلق , لن تتغابى لأنك من الأساس .... )
سكتت حين رأت عيناه تشتعلان تهديدا بطريقة مرعبة ... ثم قال بخفوت خطير
( أنصحك بلجم لسانك و إخفاض صوتك كي أزين لفائف شعرك بمرق الدجاج .... و فرع نعناع )
كانت تناطحه النظر بعينين حمراوين ... لكن ليس من الغضب ... بل في الواقع حين امعن النظر الي عينيها في تلك اللحظة أدرك تورمهما و انتفاخهما بشدة بحيث لم تستطع أدوات التجميل أن تخفي قضائها ليلة كاملة في البكاء ....
هدأت ملامحه وهو يبادلها النظر .... ثم قال بخفوت
( الا يمكننا أن نبدأ من جديد ؟........ )
اتسعت عيناها بشدة و هي تهتف
( أنت حقا كتلة مصمتة من العضلات أتعلم ذلك ؟!! ....... يجب أن تتعالج صدقني )
ابتسم فجأة و هو يقول
(لما لا نأكل أولا ثم تمتعيني بنصائحك الذهبية ...... )
كانت تنظر اليه عابسة بشدة , ثم قالت بصوتٍ خافت قليلا غير راضٍ
( يجب علي أن أذهب و أتركك تعض في الأرض ..... )
ابتسم ليقول بثقة
( لكنك لن تفعلي ....... )
أمالت رأسها بتحدي رافعة حاجبيها , فأضاف مبتسما
( لأنني لا أريد أن اتناول طعامي بمفردي اليوم ....... )
ارتبكت قليلا و قد أحرجها بصوته اللطيف المفاجىء ... فأخذت تتلاعب بشرشف الطاولة و هي مخفضة وجهها ... فقال مبتسما برضا
( هل يمكننا أن نطلب الطعام الآن ؟......... )
رفعت وجها متذمرا اليه كالأطفال ثم همست بتمرد
( حسنا ........ )
ضحك قليلا ... و أشار للنادل كي يأتي فأحضر لهما قائمتي طعام ....
أمسكت شيراز بقائمتها تتطلع الى الأسماء الأجنبية عنها بحيرة .... فلم تفهم كلمة واحدة و قد بان التعقيد على ملامحها ... و ارتبكت أصابعها ... و بدأت تتلاعب في الشرشف بتوتر ...
و دون أن تدري ارتفع اصبعها يحاول اللحاق بالأحرف التي تعرف بعضا منها لربما استطاعت تكوين كلمة مفهومة ...
الأيام السابقة كانت توصي النادل أن يختار لها شيئا ظريفا ... لأنها لا تستطيع التعامل مع قوائم الطعام , اما و هي جالسة مع وليد ... فشعرت بالحرج خاصة وهو ينتقي ما يريده بثقة و ينتظر منها ان تفعل بالمثل
لكن ما لم تعرفه هو أنه ترك قائمته منذ فترة طويلة ... وهو ينظر اليها بتركيز عاقدا حاجبيه ... يلاحق اصبعها المسكين فوق الأحرف ... و منه الى وجهها الخائف المرتبك .. و شفتيها اللتين تتهجئان بصعوبة صامتة ...
شعر فجأة دوامة ساخنة تطوف بداخله ... عيناه ترقان ... ثم قال فجأة بهدوء
( هل تعتبر اساءة أدب مني لو اخترت لكِ طعامك على ذوقي اليوم ؟..... )
رفعت وجها مرتاحا يكاد أن يتنفس الصعداء ... و أصابعها الخرقاء تتلاعب بدلال في خصلات شعرها الملفوفة ... ثم ابتسمت بمرح يناقض غضبها منذ لحظة و هي تقول كاذبة
( ليست اساءة أدب ..... فأنا محتارة فيما أختار و لا عقل لدي كي أدقق في شيء ... )
ابتسم لها بصمت و هو يتطلع الى عينيها الخضراوين ... ثم اختار لها وجبة لكن بعد أن شرح لها مكوناتها بالتفصيل و كأنه يستشيرها ... فأومأت برأسها موافقة على الفور ..
ابتعد النادل بعد ان أخذ قائمتي الطعام ... فكتفت شيراز ذراعيها براحة فوق المائدة و هي سعيدة بإنتهاء تلك المحنة الصغيرة ... فقال وليد بهدوء
( اذن ..... و بما أننا في انتظار الطعام الميأوس في مجيئه , لما لا تخبريني عن نفسك قليلا ..... )
بهتت ملامح شيراز و هي تسمع المحنة الجديدة ... الا أنه شحب تماما حين تابع وليد يقول
( بداية ..... لماذا أنتِ في عطلةٍ وحدك ؟..... الا يخشى عليكِ والديك .... )
ارتبكت و شحب و جهها .... ثم قالت بخفوت
( والداي متوفيان ........... )
طال التفهم عيناه ... ثم قال بتعاطف
( اليس لديكِ أخوة ؟ ...... )
ردت بعد لحظة صمت و هي تتلاعب بخصلات شعرها متجنبة النظر اليه
( لدي شق.... شقيقتين .... متزوجتين و تعيشان بالخارج .... )
رد وليد بدهشة خافتة
( و أنتِ هنا تعيشين بمفردك ؟؟ ......... )
أومأت بصمت ... ثم قالت و هي تنظر من نافذة المطعم
( نعم ...... اعيش بمفردي , الكثيرات يعشن بمفردهن ... لا ضرر في ذلك ... )
ظل وليد يراقب وجهها الشارد المبتعد ... ثم قال برقة
( و لماذا تسافرين في عطلة بمفردك ؟؟ ....... )
نظرت اليه و قد بدأ غضبها من تطفله يتزايد ... فقالت بحدة قليلة
( و لماذا لا أسافر بمفردي ؟!! ..... هل تنقصني ذراع أم تنقصني قدم ؟!! ... )
أمال وليد وجهه و هو يقول باستفزاز
( في الواقع ... حاليا ينقصك قدم .... لكن ليست هذه هي المشكلة , أتدرين مخاطر سفر شابة مثلك بمفردها ؟!! .... العالم أصبح سيء بما فيه الكفاية )
ارتبكت أكثر و أخفضت وجهها و شحبت ملامحها .... فأساء فهم ارتباكها , و شعر بأنه قد ذكرها بما يسوءها ... فشعر بالندم على الفور .... الا انها همست و هي تتلاعب بالشرشف
( أستطيع الدفاع عن نفسي ..... أنا ..... والدي كان .... لم اذهب في رحلة من قبل ... كان والد بسيط طيب و يخاف علينا .... لذا الآن قررت أن ..... )
سكتت و مخيلتها تعجز عن المتابعة .... فتابع هو بخفوت
( أن تتحرري ؟!! .......)
لم ينسى بعد خروجها من تحت الماء صارخة بأنها حرة ..... أخيرا حرة ....
لا يظن أنه سينسى هذا المشهد أبدا .... وهو لا يريد أن ينساه في الواقع .....
نظرت الي عينيه بوجوم ... ثم همست
( نعم ..... أردت أن أشعر بالحرية .... )
قال وليد بصوتٍ غامض
( أحيانا .... لا يحمينا الكبت من المخاطر اليس كذلك ؟..... فتجدين أن الحرية ليست مخيفة الى هذا الحد بالمقارنة بما فات .... فقد تتعرضين لما قد يؤلمك و أنت أكثر حرصا مما تتخيلين ... بينما تستطيعين المواجهة و أنتِ حرة طليقة .... )
عقدت حاجبيها و هي تشعر بأنها لا تفهمه تماما .... لكنه تابع بصوتٍ أكثر خفوتا
( لكني رغم ذلك أستطيع تفهم موقف والدك رحمه الله ..... و ربما لو كنت والدك لأخفيتك و أبعدتك عن كل خطر ممكن ..... )
ارتبكت اكثر ... حتى أنها أوقت المعلقة من على الطاولة ... و ما أن أوشكت على الإنحناء لإلتقاطها حتى منعها بصوتٍ هادىء حزين
( اتركيها ..... سيأتي النادل بغيرها )
استقامت جالسة في مقعدها و هي مرتبكة تتجنب النظر اليه ... فقال بعد فترة و هو يرتشف رشفة ماء
( هل تشتاقين الى والديكِ ؟؟ ...... )
عضت على شفتها و هي تتلاعب بالسكين الرفيعة .... ثم همست
( نعم بالطبع ..... أشتاق الى جلسة أبي و أمي وقت الغروب أمام النافذة يلعبان لعبة الورق ... و أنا أجلس أرضا عند أقدامهما ... أحكم بينهما و أنا أعد القهوة ضاحكة .... بأمان .... )
قال وليد بصوتٍ أجش متعاطف
( كم كان عمرك حين توفيا ؟......... )
أستمر لعبها بالسكين ..... لكنها همست
( توفيت والدتي و أنا في العشرين ..... و توفي والدي بعدها بعدة أشهر , ..... لم يحتمل فراقها .... )
مد يده يضعها فوق السكين التي تدور ..... فرفعت وجهها اليه لتجده ينظر اليها بعمق ليقول بخفوت
( ستجرحين نفسك .......... )
تاهت عيناها بوجهه للحظات الى أن استقرت على عينيه .... و أدركت للمرة الأولى أنهما عسليتين ... عميقتين للغاية على الرغم من شفافيتهما ....
أخفضت وجهها على الفور .... ثم همست دون أن يسأل هذه المرة
( والدي كان موظفا بسيط الحال ...... )
همس وليد بهدوء
( و أنا لم أسأل ........ لكنني سعيد أنكِ أخبرتني بذلك )
رفعت وجهها لتقول متحدية
( شقيقتي هي من أرسلت الي ثمن الرحلة ..... و شقيقتي الأخرى هي من دفعت ثمن المدة الزائدة )
ابتسم بعمق ليقول
(هذا رائع ..........يا بشرى )
التقطت كأس الماء لترتشف منه رشفة بإرتباك و هي تقول بفظاظة
( افضل شيراز ........ )
قال بهدوء وهو يتأملها بوقاحة مستفزة
( لم يطلب منكِ أحد أن تنطقيه اذن ..... أما أنا فسأناديكِ بما يحلو لي .... )
نظرت اليه بعبوس لكنه قال مبتسما
( و بالمناسبة يا بشرى ..... لقد شربتِ من كأسي ..... و ستركضين خلفي )
نظرت بذهول الى كأس الذي ارتشفت منه للتو ... فتأكدت أنه كأسه فاحمر وجهها و ارتبكت بشدة ... الا أنها كانت في حاجةٍ الى ماء ترتشف به سيل كذباتها ....
حانت منها التفاتة .... لتراها جالسة على بعد مع زوجها .... مع زوجهما ...الذي كان زوجها .... و للمرة الثانية كان ظهره اليها و كأنه يضنى عليها برؤية وجهه للمرة الأخيرة .... اما هي فكانت تنظر اليها بإزدراء ... تنقل نظراتها بين وليد و بينها .... و كأنها تخبرها بعينيها أن هذا هو مقامها الحقيقي .... التنقل بين الرجال ....
تصلبت ملامح شيراز .... لترفع ذقنها بثقةٍ لا تملكها ... محاولة تناسي صفعتها التي لم ترفع لها اصبعا يقتص لكرامتها ....
نظرت الى وليد .... ثم قالت بهدوء مزيف
( اذن و ماذا عنك ...... ماذا عن أسرتك ؟؟ ..... )
هو من أخفض وجهه هذه المرة ليقول بعد فترة طويلة
( لا أختلف عنكِ كثيرا ..... فأنا لا أمتلك حاليا سوى خالة واحدة ..... و أخت )
همست باهتمام
( لديك أخت ؟!! ........ حقا ؟؟.... و لماذا تتركها بمفردها اذن .... )
ظل صامتا لفترة , يتلاعب بسكينها , ثم قال بهدوء .... خالتي معها ..... و أنا أتنقل بين هنا و هناك ... )
قالت شيراز بوجوم و عينيها على زوجة زوجها ..... الذي كان زوجها ... " هل فقد بعض الوزن ؟؟" ...
هل حزن على فراقهما ؟؟ ..... هل يفكر بها ؟؟ ....... الا تزال أحضانه دافئة كما تتذكرها ؟؟ .....
( هل هي تشبهك ؟؟ ......... )
رد وليد بخفوت
( ربما ..... لكنها تبدو كابنتى اكثر منها أختى ..... إنها قصيرة القامة , ذات عينين عسليتين و شعرٍ ناعم .... خريجة جامعة عريقة ..... رقيقة و هشة للغاية ..... قابلة للكسر بكل سهولة )
عادت شيراز بعينيها الى عيني وليد ثم همست بوجوم
( إنها محظوظة بك ............لا بد أنك فخور بها ... )
رفع عينيه اليها ينظر الي عينيها .... ثم همس
( أنا فخور بها , و هي ليست محظوظة بي ............. )
رفعت حاجبيها قليلا .... تنظر الي عينيه و ينظر الي عينيها ..... الا أن النادل كان قد وصل كي يفصل بينهما ..... قاطعا ترابطا عميقا أوشك على يتوهج ..... لكنه عاد ليخمد و النادل يتسبب في أن تعود بلمحةٍ الى ظهر الرجل الذي أذاقها الأمان .... و الذي كانت تجلس عند قدميه تعد له القهوة ضاحكة ....
لينتزعها كل مرةٍ الى احضانه مرتشفا من شبابها الغض ......
أسوأ احساس قد يمر به الإنسان ... هو أن يقف في تلك المنطقة المعلقة ما بين أن يكون ظالما أو مظلوما ...
أن يشعر بالقهر و الإنتهاك ... دون أن يجرؤ على الدفاع عن نفسه أو محاولة نيل حقه , ممن انتهك كرامته و روحه ...
أن يكون هو السبب في هذا الإنتهاك .... بتنازله و استسلامه ... أو باقترافه خطأ لا يغتفر....
و هذا هو ما كانت تشعر به حاليا و هي تخطو الى عملها بساقين ترتعشان و بوجهٍ لا يزال شاحبا مما حدث بينهما في الأمس ....
كيف ستواجهه بعد ما كان .... كيف ستتمكن من رفع الخزي عنها و قتل الخجل ... و منع نفسها من محاولة اقتلاع عينيه على انتهاكه لها بتلك الصورة السافرة ,
خاصة و أن رعبها منه و خوفها من الفضائح ساهم في كبت صرخاتها فانزلقت مرة أخرى الى بئر الاستسلام الخادع ....
و الآن ها هي تخطو لوكره الخادع .... فإن لم تأتي اليه فسيعود اليها ... و هي تحتاج لفترةٍ للتفكير قبل عودته التي ستكون أقوى و أعنف ...
خطت البوابة ... و منها الى عدة ممرات .. تظن أن الجميع ينظرون اليها و يعرفون ما حدث .... فارتجفت و تعثرت , لكنها ابقت وجهها ثبتا و هي تتوجه الى غرفة السعاة ببطىء خطواتها في اليوم الأول ... نفس الإرتباك و القلق ... لكنٍ بنفسٍ أكثر انهيارا .... لقد عبثت بصاحب المكان و هذا لن يمر مرور الكرام ...
حتى و ان كان هو الآخر قد عبث بها , لكن القانون مع الأقوى .... وهو الأقوى ... لذا لن يحاسبه أحد , ... أما هي ....
دخلت وعد الى الغرفة ... و تلقائيا ابتسمت شفاهها في وجهها الشاحب لرؤية علي و كأنها في حاجةٍ لأن تبتسم لوجهٍ ودود كي يمنحها الطمئنينة .... وهو لم يتأخر في رد ابتسامةٍ متشوقةٍ لها ... و عيناه تتألقان , الا انها أخذت منه الأمان الذي تحتاجه و هي تهمس متجاهلة تألق عيناه
( صباح الخير يا علي ..... )
رد مبتهجا
( صباح الخير يا سندريلا ..... )
ابتسمت باهتزاز و هي تهمس عاقدة حاجبيها ...
( سندريلا ؟!! ........ )
فرد علي بثقة
( نعم ..... انتِ هي سندريلا ..... تلائمينها شكلا و شخصا .... )
أخفضت رأسها واجمة من نظرته المتفائلة لها ..... و ما أبعدها عن تلك الجميلة الرقيقة المظلومة .... قد تكون مظلومة مثلها , الا أن الواقع يجعل الظلم يدق عظامها فيجعلها قاسية القلب و الروح ....
لكنها لم ترد و هي تبتسم ابتسامة جافة ... ثم جلست على حافة الأريكة الصغرة مرتبكة ... شاحبة .... تتلاعب بأصابع يديها ... تنتظر أن يطلبها كما يفعل .... و حينها كيف ستواجهه ... و كيف سيكون تصرفه معها و هما بمفردهما ...
هل سينزل بها المزيد من العقاب ؟ .... و كيف ستدافع عن نفسها ,... إن لم يكن الحل الأخير بالصراخ ....
عضت وعد على شفتيها و هي تفكر أنه ربما من الأفضل لو غادرت بهدوء و أختفت .... لكن تعود الى نفس الدائرة المغلقة .. سيأتي اليها ....
تنهدت وعد بتوتر و هي تشعر بنبضات قلبها تتقافز و القلق يتزايد .... انه انتظار بطي لحكمٍ بالإعدام ....
دوى صوت رنين الهاتف الداخلي فجأة فجعلها تنتفض في مكانها .... إنه موعد طلبه بالدقيقة ..... ها قد حانت المواجهة .... الا أنها تسمرت مكانها غير قادرة على الرد , فاتجه علي الى الهاتف الداخلي ليرد بكلمات مقتضبة ...
( نعم ..... حاضر .... أنا ؟!! .... حاضر .... حالا )
وضع السماعة ... فنظرت وعد اليه بتوجس , لكنه كان مبتسما وهو يلتفت اليها قائلا
( يبدو أن السيد سيف قد قرر اعتاقك من تعنته ... و على ما يبدو أنه قد قرر تركك الى عملك بعد فترة الإختبار الطويلة , إنه يطلب القهوة مني أنا شخصيا كما كنت أقدمها له سابقا .... )
ظلت وعد تنظر الي علي بملامح فاترة ... غير مستوعبة قليلا ... ثم همست بكلمة واحدة
( حقا ؟!! ........ )
رد علي وهو يبدأ في تحضير القهوة مبتسما
( نعم سيدتي .... أبشري ....أعتقد أنك سترتاحين منه أخيرا ..... )
أومأت وعد برأسها قليلا بعدم تفكير .... لكنها لم ترد ... الى أن انتهى علي حاملا الصينية و هو يقول مبتسما بشوق
( سأعود اليكِ سريعا ....... )
عادت وعد لتومىء برأسها بلا تفكير .... الى أن خرج ... و تركها تفكر بذلك العذاب البطيء من الإنتظار ... ترى الى ماذا يرمي بالضبط ؟!! ....
نهضت وعد من مكانها ببطىء و هي تتلقى طلبا آخر ... فبدأت بتحضيره تلقائيا و هي تشعر بأن العمل أفضل لها في الساعات المقبلة ... الى أن يتحدد موقعها هنا ...
و مرت الساعات و هي تتنقل فاترة الملامح بين المكاتب ... عيناها تدوران رغما عنها في المكان ...شاعرة بالخطر ... لكن على ما يبدو أنه قرر تجاهلها , خاصة و أنه طلب قهوتين خلال اليوم من علي مجددا ....
هزت وعد رأسها و هي تبعد عنها تلك الأفكار .... مقتربة من مكتب موظفة شابة , لتضع قهوتها على سطح المكتب ... فقالت الموظفة بإبتسامة ودودة
( وعد ...... لقد رأيت الثوب الذي قمتِ بتفصيله لعلا , .... و بصراحة لم أصدق ... عملك رائع )
رفعت وعد وجهها الشاحب و هي تهمس بلا حماس
( شكرا لكِ ...... هذا من ذوقك )
ردت الموظفة مبتسمة
( هل تمتلكين معرض ..... أو مشغل خاص ؟؟ ... )
ابتسمت وعد دون أن ترد ... فتابعت الموظفة بحرج بعد فترة
( عذرا .... بالتأكيد لا تمتلكين مادمتِ تعملين كساعية ..... )
لم ترد وعد .... لم تجد القدرة على الرد رغم معرفتها أن تلك الشابة لم تقصد ضررا .... الا أنها تابعت بود
( أريدك أن تفصلي لي بعض الأشياء .... و إن أعجبتني سأطلب المزيد )
رفعت وعد وجهها تقول بخفوت و تهذيب
( تحت أمرك ..... بما أنها المرة الأولى فلن تدفعي شيئا قبل أن يعجبك , و إن لم يعجبك سأتحمل أنا كل التكلفة )
أومأت الموظفة برأسها مبتسمة و هي تقول برقة
( اتفقنا ....... أنا معجبة بكِ جدا بالمناسبة )
همست وعد و شفتيها تبتسمان شبه ابتسامة لكن الإبتسامة لم تستطع الصمود أمام فتور مشاعرها و تبلد روحها فاختفت سريعا ... الى أن ألح عليها هاتفا يأمرها أن ترفع وجهها ....
يخبرها أنها مراقبة .... من مكانٍ ما بنظراتٍ تكاد تكون قاتلة , فنظرت أمامها مباشرة لتجده واقفا من بعيد .... يتحدث مع أحد المدراء , ...
الا أن عينيه عليها .... تثبتانها مكانها بملامح كالحجر ....
نظرت اليه وعد و قد بهتت ملامحها فجأة بشدة .... و تسمرت مكانها .... دون حتى أن تجد القدرة على أن تحيد بوجهها عنه .... و عن عيناه ....
عيناه اللتان على الرغم من تحجر وجهه الا أنهما تنظران اليها بنظرةٍ غريبة ... غريبة جدا ....
هل بها عتاب و ألم ؟!! ..... هل يجرؤ على أن يعاتبها ؟!!
ربما هي تعاتب نفسها منذ الأمس حتى أوشكت على أن تتهالك من شدة العذاب ... لكن أيجرؤ هو على أن يعاتبها ؟!!
أم أنها ببساطةٍ تتوهم !! .....
أبعد سيف وجهه عنها و هو ينظر الى محدثه .... و لم تدرك و عد أنها واقفة مكانها ممسكة بالصينية كالدرع الواقى أمام صدرها خوفا من أن تصيبها سهام عينيه في مقتل ....
الى أن قالت الموظفة بقلق
( هل أنتِ بخير يا وعد ؟!! ...... تبدين شاحبة للغاية !! , هل تريدين الجلوس قليلا ؟؟ ,,,,)
نظرت وعد اليها مجفلة , الا أنها اسرعت تهز رأسها نفيا و هي تهمس بقلق
( لا شكرا لكِ ..... أنا بخير , ..... عن اذنك ,, ..آآآ .. غدا سآخذ مقاساتك و تخبريني بما تريدين )
أومأت الموظفة اليها بينما استدارت وعد تنصرف ... و شيئا ما يخبرها بأن النظرات اللائمة القاتلة عادت لتحرق ظهرها ... لكنها قاومت الرغبة العنيفة في الإلتفات ...
فأكملت طريقها مطرقة الرأس ....
و استمر اليوم على هذا الموال .... و هي لا تعرف هل تستمر أم لا .... تعاود عملها بصورة طبيعية معتبرة أن ما حدث لم يحدث .... أتعتبره مجرد كابوس.... خاصة و أنه على ما يبدو قد قرر أن يتركها لحالها
جلست وعد على الأريكة ... أو بمعنى أصح ارتمت بكآبة تقضم أظافرها .... تراقب علي يجهز القهوة الرابعة للمدير ..... يدندن و كأن لا شيء يشغله .... فقالت وعد بتلجلج
( علي ..... ألم .... ألم يسأل السيد .... احم .... سيف عني ؟؟ .... )
التفت اليها علي رافعا إحدى حاجبيه ... ثم مط شفتيه ليقول بعفوية
( لا ..... لم يسأل عنكِ , لماذا يسأل ؟!! ..... أي مصيبة ارتكبتِ مجددا ؟!! )
لم ترد و هي تقضم أظافرها مجددا .... و التوتر و الخوف ينهشان منها .... نعم الخوف .... كيف تعتبر أن ماكان لم يكن .... كيف ..... الذكرى تسيطر عليها و تشل حياتها منذ أقل من أربعٍ و عشرين ساعة ....
لقد عرض عليها الزواج !!! ..... لا لم يعرضه في الواقع ... بل فرضه فرضا !!!
هل نسي ؟!! .... أم أنه مجرد تهديد كي يرعبها و ينزل بها المزيد من العقاب !! .....
حمل علي الصينية ..... و خرج غامزا لها قائلا بمرح
( اطمئني و لا تقلقي بهذا الشكل ........ لقد أخرجك من رأسه أخيرا ... )
خرج علي و تركها تفكر برهبة في العبارة .... لقد أخرجك من رأسه أخيرا ......
مر أسبوعان على هذا المنوال
.... تتجه يوميا الى عملها , دون أن تجد الجرأة على تركه .... خاصة أن الفواتير تتراكم عليها , و الراتب السابق انتهى في نصف الشهر مع مرض والدها ... و حتى الآن لا يزال في حاجةٍ الى عدة اشياء تطلبها المشفى بالإضافة الى ما دفعه سيف .... و بالأمس جاءها ايصال الكهرباء الذي ازداد في الآونة الأخيرة على الرغم من اقتصادها في استخدامها لأقصى الحدود .... و عينيها .... عينيها تقتلانها وجعا مع الخياطة على ضوء المصباح الكهربي الصغير .... الجديد .... بعد أن تحطم القديم بيد أسود القلب ....
في عدة أيام كانت أحوالها تزداد سوءا بسرعةٍ غريبة ... و كأنه أطلق عليها لعنة ما تجعلها تتخاذل عن قرار ترك العمل و الذهاب اليه صاغرة بعد ما فعله ... خاصة بعد أن تلقت طلبا بخياطة عدة أشياء من تلك الموظفة الودودة ...
كل ليلة تعكف على خياطة عدة أثواب دفعة واحدة على أمل أن يسد ثمنهم القليل من الأعباء الملقاة على عاتقها ... لكن الثمن كان كنقطةٍ تُرتشف أولا بأول ....
حتى ملك أهملتها مؤخرا منذ أن دخل والدها المشفى .... فأصبحت لا تقوى على الحديث معها طويلا كي لا تنفجر بالبكاء ..... مجرد محادثة مهذبة لا تشعرها بأن ملك في توقٍ حقيقي لرؤيتها ...
و في العمل الضغط النفسي جراء انتظار عمل أهوج من جانبه يوترها .... سكونه يوترها .... و نبذه لها يثير خزيها .....
لقد أصبحت تدور من أول اليوم لآخره ما بين المكاتب .... أما مكتبه فأصبح منطقة محظورة لها بأمرٍ ملكي غير منطوق ....
الى أن جاء اليوم الذي اضطر علي فيه الى المغادرة بعد أن هاتفته أحدى الجارات تخبره أن والدته متعبة قليلا ...
لذا أصرت وعد أن يغادر و هي ستحل محله .....
أصرت .... و بشدة ....
و في النهاية بقت وحدها تنتظر المواجهة .... جلست على احدى مقاعد غرفة السعاة بتوتر ... يدها دون وعي على شفتيها و عينيها شاردتين ...
ربما لم تكن المواجهة في صالحها , لكنها لم تعتد تحتمل ذلك الانتظار البارد ... و جاء الطلب من علا شخصيا ... أن المدير يطلب من علي قهوته و كوب عصير ...
وضعت وعد سماعة الهاتف الداخلي بقنوط و هي تدرك أنه ليس وحيدا .... لكن هذا أفضل من لا شيء ... لذا أعدت القهوة و العصير و اتجهت الى مكتبه ....
وقفت عند الباب بعد أن ابتسمت لعلا بإهتزاز ... ثم طرقت طرقة واحدة قبل أن تأخذ نفسا و تفتح الباب ...
و مع أول خطوة لم تستطع منع عينيها من النظر اليه مباشرة ...
و تسمرت مكانها حين رأته ينظر اليها .. عينيه القاتمتين آسرتي عينيها ......بينما تقف بجواره تلك الدمية الشقراء التي اسمها ميرال منحنية اليه تشير الى شاشة حاسوبه و تشرح له شيئا ما ... لقد استلمت العمل بالأمس
و قد حملت اليها قهوتها صباحا بنفسها ... لها مكتب خاص رائع شديد الفخامة ....
لكن تلك ميرال لم تنظر اليها نظرة واحدة و هي تشكرها برسمية .... ترى هل ستكون نفس الصلافة حين تعلم أن رئيسها المباشر قد عرض الزواج على تلك التي تجاهلتها !! ....
لم يعرض عليكِ الزواج ....كان مجرد عقاب ليخيفك و حتى وإن فعل , لم تكوني لتقبلي به , تعطيه الفرصة السهلة كي يتحكم بكِ ... يذلك كلما مل من شحناته العاطفية معك ...
أجبرت وعد نفسها على التقدم بخطواتٍ ثابتة ... مهتزة ... و هي تقول بفتور
( صباح الخير ...... )
جاءها الرد جافا فظا
( أين علي ؟ ........ )
وقفت أمام المكتب بشعور بالدونية و هي تقول بخفوت متجنبة النظر الي عينيه المتغلغلتين الى أعماقها
( أمه مريضة ..... ذهب ليطمئن عليها )
سكتت و هي تنظر الى البساط الراقي تحت قدميها , بينما هي موقنة كل اليقين أنه يتفحصها كعادته ذرة ذرة ... الى أن قال أخيرا بجفاء
( ضعي القهوة و تفضلي الي عملك ...... )
رفعت عينيها الي عينيه ببطء شديد .... تمتلك الجرأة الكافية كي تنقل له احساسها في نظرةٍ واحدة ... صلبة لكن ميتة ... و ربما لم تدرك أن القلم الذي كان يتلاعب به قد توقف على سطح المكتب بفعل نظرتها اليه ...
لكن ملامحه كانت قاسية , متحجرة .... لا تعرف معنى اللين ....
كانت ميرال قد استقامت تراقب الموقف .... إنها تقف في الجانب الذي اعتادت وعد أن تتجه الي كي تضع قهوته , و انحدرت عينيها الى سطح المكتب ... و توقفت عند وردتها المختفية ....
على الأرجح لقد ألقاها في سلة المهملات .... لا بأس ... و فيما يهمها ذلك !! .... لقد كسرت كعبي الحذاء الأحمر ....
اتجهت الى الجانب الآخر ... الغير معتاد اليها و كأنها تتجه الى منطقة غريبة , فوضعت فنجان القهوة ... ثم كوب الماء و تبعتهما أخيرا بكوب عصير المذكورة ....
مد سيف يده و يدها لا تزال على كوب العصير ليلتقطه ... فمست أصابعه أصابعها في لحظةٍ خاطفة أرسلت رجفة الى جسدها فرفعت عينيها لتجده ينظر اليها ....
الا أن النظرة لم تطل و هو ينقل كوب العصير الى المذكورة على الجانب الآخر قائلا بابتسامة مهذبة
( تفضلي ........ )
هل تنوي البقاء في ذلك الحيز الضيق طويلا ؟!!! .... حتى انه نقل لها كوب العصير !!! .... لما لا يجلب لها كرسي في تلك الزاوية ....
تداركت وعد عينيها الصلبتين فأخفضتهما و ابتعدت ببطء .... خافضة صينيتها التي تدلت الى جانبها و هي تجر ساقيها ....
قالت ميرال بصوتها الموسيقي
( سيف ..... لقد ذكرتها مرتين و أنت لم تسمعني )
رفع سيف عينيه عن الباب المغلق خلف وعد .... ناظرا بتبلد الى ميرال التي بدأت بالفعل في مناداته باسمه مجردا ,
تذمر سيف بداخله , انها بالفعل مميزة للغاية و شديدة الذكاء و الطموح و الخبرة ....
لكنه لا يحب التساهل في التعامل ......
حقا !!! .........هتف صوت غادر بداخله بتلك الكلمة الخبيثة ....
تنهد سيف بكبت ثم قال بصوتٍ جاف
( عذرا يا ميرال ..... كنت شاردا بشيءٍ ما )
ابتسمت له بنعومة و هي تهمس
( لا بأس ........... هل أنت بكامل تركيزك معي الآن ؟؟..... )
أومأ سيف شاردا .... و إصبعه يدور على دائرة حافة الفنجان ......
.................................................. .................................................. ..............................
اتصل علي بها بعد فترة يخبرها أنه لن يتمكن من العودة اليوم , فأخبرته واثقة ألا يقلق ... ستكون مكانه ...
أغلقت وعد هاتفها .... ثم نظرت اليه قليلا بوجهٍ باهت ....أرادت مكالمة كرمة , أرادت الصراخ .... أرادت لقوةٍ جبرية تأمرها أن تخرج من هذا المكان بكرامتها و لا تسمح لسلطة المال أن تتحكم بها الي تلك الدرجة ....
لقد استمرت هنا أسبوعين .... و لو استطاعت الصمود لاسبوعٍ آخر ستتقاضى حينها راتبها الشهري ....
اعادت الطلب و أغلقت اسم كرمة ....
ثم طلبت رقم ملك ..... نفسيتها المدمرة تحتاج لسماع صوت ملك ...
انتظرت قليلا قبل أن تسمع صوت ملك الخافت الرقيق ترد عليها فقالت وعد بلهفة
( ملك ...... كيف حالك حبيبتي , لقد اشتقت اليكِ )
سمعت صوتها الخافت يقول بهدوء ودود
( و أنا أكثر ........ )
قالت وعد بشك ( حقا ؟؟ ........ )
ردت ملك همسا ( طبعا ........ )
صمتت وعد قليلا مبتئسة بحزن ... ثم قالت بصوتٍ مكتوم
( لقد انشغلت كثيرا منذ أن دخل والدي المشفى ...... و .... ممرت بالكثير )
ردت ملك بخفوت
( شفاه الله .... أتمنى أن يعود اليكِ سريعا )
انقبض قلب وعد من شدة تهذيب ملك , حتى و هي تتحدث عن الرجل الذي جاء ذات يوم ليأخذ أختها الوحيدة منها ...
لا تزال بعيدة ..... بعيدة جدا ....
قالت وعد أخيرا و هي تهتف تعبا
( تعالي و ابقي معي بالبيت يا ملك ..... اكتشفت .... اكتشفت أنني أخاف الوحدة )
ساد صمت قليل ثم همست ملك بارتباك
( تعلمين أن ذلك مستحيل يا وعد .......... )
قالت وعد بلهفة
( ليس مستحيلا أبدا ...... أنا وحدي حاليا )
ردت ملك بنبرة أكثر حزما قليلا
( عملي هنا .... و بيتي هنا .... هذا بالإضافة أن بيت والدك لن يكون بيتي أبدا .... )
صمتت وعد و قد أجفلت قليلا .... لكنها همست بعد فترة صمت
( حسنا يا ملك ...... لا بأس )
همست ملك بأسف
( لم أقصد إيلامك ............ )
ردت وعد بخفوت
( لا .... لا عليكِ , أنا فقط ..... اشتقت اليكِ )
ساد الصمت مجددا قبل أن ترد ملك بخفوت
( و أنا أيضا ........ )
أوشكت وعد على أن تغلق الخط ... الا أن صوت ملك جاءها أكثر خفوتا
( وعد ...... أنا أيضا ..... أحتاجك و أحتاج أن أحكي معك .عندي ...... أنا أعيش في حالة .... ...عندي كلام كثير ربما يوما .... )
ابتسمت وعد بعمق ... ابتسامة لم تبتسمها منذ فترة طويلة على الرغم من أن روحها حاليا في أقصى درجات الإستنزاف لكنها همست من قلبها
( أنا موجودة يا ملك ..... ما أن تطلبيني أنا موجودة .... )
سمعت صوت ضحكة خافتة فاتسعت ابتسامتها لتغلق عينيها بعد أغلقت الخط ..... تنهدت بقوة و أبتسامتها تشرد قليلا .....لتختفي أخيرا ...
للأسف كرمة أقرب لها من ملك ... و على الأرجح ملك تمتلك أشخاص في حياتها أقرب لها ...
استدارت وعد لتنظر الى المرآة الصغيرة المعلقة في غرفة السعاة ... و نظرت مليا الى عينيها المتعبتين ....
الصداع يتزايد معها بصورة فظيعة ... و الإرهاق ينهشها نهشا ....
و مع ذلك لا يزال اليوم في بدايته ... بعد أن تنتهي من العمل ستذهب الى والدها في المشفى ككل يوم ... ثم تتركه و تعود للبيت حتى تنكب على الأقمشة المكدسة عند ماكينة الخياطة ...
رفعت وعد أصابعها الى ما بين عينيها و هي تغلقهما قليلا .... لا بديل عن شراء نظارة .... لقد ضعف نظرها و هي تعلم ذلك , فقد كان ضعيفا من البداية .... أما الآن فالصداع المتزايد هو أقوى دليل على تزايد الوضع سوءا ...
اليوم ستتجه الى المستوصف لعمل كشف نظر ... و لربما كان الأمر بسبب فقر الدم فتوفر ثمن النظارة ....
نظرت الى هاتفها مرة أخرى بوجوم .... ثم طلبت رقم كرمة بيأس حتى قبل أن تسمع صوتها و ما أن ردت حتى قالت وعد بترجي يكاد يكون توسلا ...
( كرمة ..... أريد عمل .... ارجوكِ يا كرمة ساعديني , لم أترجاكِ من قبل .... أرجوكِ )
هتفت كرمة بقلق
( ماذا حدث يا وعد ؟!! ..... انطقي بالله عليكِ , لقد أفزعتني )
دارت وعد في الغرفة الصغيرة و هي تتخلل شعرها بيدها بتعب قائلة بيأس
( يجب أن أترك هذا العمل يا كرمة .... اليوم قبل الغد .... )
قالت كرمة بحزم
( اهدئي و أفهميني جيدا .... ماذا فعل لكِ ؟؟ ....)
صمتت وعد تماما .... لم تكن قد قصت ما حدث على كرمة أو أي مخلوق ... كيف تحكي ما حدث ؟؟ .. و من أين تأتيها الجرأة ....
حتى الآن .. في هذه اللحظة ... لم تستطع ... لكنها ذكرت عوضا نصف الحقيقة بصوت منخفض و كأنها تحدث نفسها بشرود
( انه يتعمد اذلالي يا كرمة ..... انه يريد كسري .....)
قالت كرمة بصوت حاد أقوى مما كانت تتخيله و كأنها تحدث نفسها هي الأخرى
( اذن اتركيه .... اتركي العمل على الفور .... اتركيه يا وعد .... لا تسمحي لأحد أن يكسرك و يحط من شأنك )
فوجئت وعد بقسوة كلمات كرمة المفاجئة ... فصمتت تنظر الى الهاتف قليلا .... ثم همست بقنوط
( أنا أحتاج للمال بشدة يا كرمة .... علاج أبي لا ينتهي ... والمشفى لا يرحم ... بخلاف ما أنا مدينة به لسيف من البداية ..... )
هتفت كرمة
( و لماذا يفعل بك ذلك ؟؟!! ....... هل يتلاعب بكِ ؟!! ... ألم يكن رقيقا يكاد يذوب من نظرة منكِ ؟!! )
صمتت وعد و هي تطرق برأسها ... وجهها شاحب و ملامحها قاتمة صلبة و هي تهمس بعد فترة
( لقد تهورت و تصرفت ..... تصرفا حقيرا )
ساد الصمت بينهما .... ثم قالت كرمة بجفاء آمر
( ماذا فعلتِ يا وعد ؟؟ .........)
أدارت وعد عينيها و هي تهمس تغطي جبهتها بيدها
( ليس الآن يا كرمة ...... رجاءا ... لا أملك الشجاعة .... )
عاد الصمت .... لتقطعه كرمة قائلة بهدوء
( و هل هذا التصرف الحقير .... كان صحيحا من وجهة نظرك ؟؟ ... )
استمرت وعد في تدليك موضع الصداع ... ثم قالت بخفوت بعد فترة طويلة و هي تنزل يدها باستسلام
( أعتقد ذلك ..... كنت قد بدأت أن أفقد نفسي شيئا فشيئا )
قالت كرمة بعد فترة
( جيد ........ اذن تصرفك الحقير كان في موضعه , و عليه لا تخشي شيئا .... انت هي من تضع قوانين نفسك و على الآخرين احترامها مجبورين .... )
صمتت كرمة قليلا .. ثم قالت بأمل
( اذهبي الى صاحب المعرض ....... قد ..... )
قاطعتها وعد بوجوم
( ذهبت اليه اليوم صباحا قبل أن آتي الى هنا ..... فطردني , لأني تركت العمل لديه دون سابق انذار )
تأففت كرمة بيأس ....ثم قالت بحسم بعد فترة صمت
( اتركي العمل لديه يا وعد ......... و سنتقاسم راتبي الى أن تجدين عملا آخر )
هتفت وعد بقسوة
( مستحيل ...... لم أهاتفك كي أتسول منكِ )
قاطعتها كرمة تهتف بحنق
( اسمعي يا غبية ..... محمد يعمل الآن , و لفترة طويلة كنت أعيل البيت بمفردي .... لذا نستطيع أنا و أنتِ أن نتشارك الراتب بعد أن خف عني العبء قليلا )
قالت وعد بحنق هي الأخرى
( هل تدركين حتى ما تقولين ؟!!! ..... أنتِ تتفوهين بالحماقات .... أريد عملا يا كرمة , هلا ساعدتني .... )
تنهدت كرمة بصوت مسموع ... فشعرت وعد بتأنيب الضمير لأنها تثقل عليها بهذا الشكل و تضغط على أعصابها , الا أن كرمة قالت بخفوت
( سأحاول مجددا ..... أعدك يا وعد سأفعل المستحيل و أجد لكِ عملا بقربي )
همست وعد بأسى
( أنا آسفة حقا يا كرمة ..... لقد اصبحت كالمجنونة مؤخرا )
قالت كرمة برقة
( ما تعيشينه ليس بالهين ..... لا بأس حبيبتي , فقط انتظري , لن تكون كل الأيام صعبة .... عسى ان يكون الفرج قريب )
همست وعد بروح متعبة ( يا رب ...... )
أغلقت وعد الهاتف و تنهدت بيأس قبل أن تجلس على أحد الكراسي ببطء لتغطي وجهها بكفيها سامحة لبعض دموعها بالتحرر و هي تنشج بنعومة
لقد تعبت ..... لقد تعبت جدا .....
الغريب في الأمر أنها الآن أصبحت تخشى موت والدها في أي لحظة .... أكثر من أي وقت آخر .....
وجوده كان يمنحها القوة و الصلابة حتى في مجابهته ... لكن و منذ أن سقط و هي تعيش كقشة في مهب الريح ....
لا شيء يمنحها القوة .... كل قواها تسلب منها و تنتهك واحدا تلو الآخر ....
رفعت وجهها المغطى بالدموع و هي تفكر بأكثر عملية ...
ماذا لو مات والدها .... سيرث سيف و والدته البيت معها ....
هل سيكون من حقهما أجبارها بيع البيت كي يأخذان نصيبهما ؟!! ...... و ما الذي سيمنعهما ؟!! ...
رفعت وعد كفيها تغطي شفتيها المرتجفتين و هي تنظر أمامها بعينين فارغتين حمراوين .... ماذا الآن ؟؟!! ......
دق الهاتف الداخلي فنظرت اليه بخواء ... ثم نهضت بتعب كي تتابع عملها .... حتى إشعارٍ آخر ....
جف بكائها بمرور الوقت و هي واقفة تغسل بعض الأكواب ... و قد ساعدتها على الهدوء بعض أغاني فيروز المنبعثة من هاتفها و هي تضعه في جيب تنورتها الرمادية الضيقة ... بينما ارتفعت سماعاته الحرة الى اذنيها ...
كانت تتدندن اللحن بشجن وجهها شارد حزين ... لا تعلم الى متى ستظل الحياة تلقي بها من مرتفع الى هوة .ثم تعود للصعود بها مجددا ....
أغمضت عينيها و اللحن يؤثر بها و صوتها بات كآهاتٍ حزينة ....
غافلة عن عينين مسحورتين من خلفها تنظران اليها ... تكادان تلتهمانها التهاما .... تتشربان رقتها رشفة رشفة .... تثملان من ضعفها و حزنها ....
بهما بريق غاضب مسحور .... قاسٍ و مشتاق ....مشتاااااااااااق ... و يدين انقبضتا فأدخلهما في جيبي بنطاله ....
منذ أن رآها لأول مرة وهو يعلم أن الأمور لن تسير بطبيعتها ... هو نفسه لن يكون بطبيعته التي تعب في رسمها على مر السنوات ...
لقد عبثت بنفسه و شتتته ... دخلت الى أوردته دون سبب مقنع , و كأنه شيء أقوى من الجمال و الجاذبية ....
لكنها صدمته .... حتى الآن لا يستطيع التصديق ....
ربما كان خطأوه هو أن بدأ سريعا يضع ثقته في انسانة وضيعة التربية و النشأة ... بمنتهى السذاجة ....
كان يقنع نفسه أنه لا يثق بها تمام الثقة .... لكنه في الواقع كان قد بدأ ..... بدأ يثق بها ولو قليلا ....
لكنها بحركةٍ جشعةٍ واحدة دمرت بذرة الثقة ... و أظهرت وجهها الحقيقي .... لقد كان فقط يحتاج الى الوقت , الوقت الطويل كي ينشيء هيئة مقبولة و يتحدى بها ما سيواجهه ....
الا أنها سارعت بتدمير كل شيء ... و تدمير تلك العلاقة مع امه و التي حارب خلال سنوات الاتزان الماضية في تحسينها و ترسيخها ليلقيا ما فات ... و يعوضها على تمرده عليها و غضبه منها حين كان مراهقا عنيفا غير قابل للسيطرة .....
فأتت وعد العمري في لحظةٍ واحدة لتدمر ذلك الإستقرار الذي استمر لسنوات .... بعد أن نجح في أن يكون كل شيء لأمه .... فارسها كما تقول له دائما ....
و مع ذلك يشعر بنوع من الإحتقار لنفسه فعلى الرغم مما فعلته الا أنه لن يقصيها من حياته ... لم تكن حركتها كافية كي تنزعها من أوردته .... هو يريدها و سيحصل عليها ...
ليس مجرد جسدها الضعيف الذي يشعل نيرانه بضعفه كما يفعل الآن .... و إنما ذلك الكيان الصلب ... الرقيق ... المخادع .... كلها دفعة واحدة تمثل له هاجسا قويا .... و دافعا لأن يمتلكها ويبقيها بقربه ...
مر أسبوعان على تلك الليلة التي تحفر تفاصيلها في ذاكرته ....
من اشد اسباب نقمته عليها حاليا هي انه جعلته يتدنى الى هذا المستوى في مهاجمتها ....
كان كالأعمى في غضبه .... و في لحظةٍ غادرةٍ أفرغ غضبه كله بها , الا أن الغضب سرعان ما تحول الى رغبةٍ جائعة ... لها كلها .... لضعفها و حزن عينيها ... تضائل جشعها امام عينيه و عادت وعد الرقيقة التي اخترقت جداره السميك ...
و حتى الآن لا يشعر بالندم الكامل تماما ... تلك اللحظات القليلة كانت .... كانت بمثابة اكتشاف لما تمثله تلك الفتاة له ...
لكن كلامها فيما بعد جعله يتسمر ....
" من تظن نفسك لتجعلني حبيبة سرية لك !! .... ما سلطتك على حياتي !!"
حبيبة سرية !!
لقد نطقتها بدونِ خجلٍ أو حياء ..... نطقتها بمنتهى الصراحة ... و القهر .....
هل هكذا كان ؟!!...... كان يحتاج للوقت
الا أنه نسي أن يسيطر على نفسه تمام السيطرة في هذا الوقت , فجعله ذلك مستغلا بشكلٍ لم يعتده في نفسه مع اي امرءة ٍ قبلا .... أو حتى مع اي أحد .....
لقد نجحت في اشعاره بدناءةٍ لم يشعر بها سابقا ...... وهذا ما يجعله خائفا !! .....
لأول مرة يشعر بالخوف من أن يتدنى لمستوى أكثر دنوا لو استمر به الحال على هذا الشكلِ معها ......
سحب سيف نفسا عميقا ملتهبا و تأوهاتها تزيد من لهيبه فصرخ بعنف
( وعد ........ )
اخترق صوته سحابة الألحان بدويٍ شديد ... جعلها تنتفض و تستدير بسرعةٍ و هي تستند الى المغسلة بكفيها المقطرتين ماءا على جانبي تنورتها ....
أنه هنا بالفعل !! ....ينظر اليها بعينين ملتهبتين نارا ... و ألحان فيروز بينهما .... تتناقض مع ملامح وجهه الهمجية ...
بينما هو كان ينظر اليها تتنفس بخوف .... قميصها الأبيض يتحرك أمام عينيه الجائعتين ... و هاتفها مشدودٍ الى ذلك الجيب المائل اللعين ...
عيناها ترتجفان .... أيمكن للعينين أن ترتجفان لتزلزلا تلك السيطرة المسرحية التي يتحلى بها ....
لقد ازدادت نحافة على مر الأسبوعين ... و ازداد شحوبها ... و أزدادت الهالات تحت عينيها الحمراوين ... و ازداد غباؤه على ما يبدو ....
قال سيف بصوته المدوي
( انزعي السماعات من أذنيك ...... )
أسرعت يداها ترتجفان و هي تنزع السماعات لتلقيها حول عنقها و هي تنظر اليه بصمت .... فقال بقسوة
( لقد طلبت أحد السعاة ثلاث مرات حتى الآن و لم يجب أحد .... )
ردت وعد بجفاء خافت
( علي اعتذر عن باقي اليوم ...... و أنا وحدي هنا , لذا لم أسمع ... )
أشتعلت عيناه أكثر وهو يهتف
( لأنك تضعين السماعات في أذنك و كأنك تتنزهين أو تلعبين ...... )
تجرأت وعد على النظر الي عينيه بصمت جليدي .... ستتقبل منه أقصى ما يمكنه , لعله يرتاح و يذهب الي الجحيم بعدها ...
حين ظلت صامتة تحاربه بعينيها الجميلتين .... اللعنة !! ....
مد كفه القوية ليقول آمرا و قد نفذ صبره
( أعطني الهاتف ......... )
ظلت تنظر اليه للحظات قبل أن تدس يدها في جيبها و تخرج منه الهاتف بصعوبة مع ضيق التنورة التي سيمزقها شر تمزيق على ما يبدو ذات يوم ... ثم أزاحت السماعات عن عنقها لتدس الأثنين في قبضة يده المفرودة مرسلة نفس الرعشة الي جسده بتلامسهما ....
لكنها تراجعت سريعا و هي تلهث حنقا ... و ظلما .... ها قد ضاعت وسيلة اتصالها بملك و كرمة بسهولة ... الا أن سيف قال بخشونة
( هذا الهاتف أعطيته لكِ لأغراض العمل ... و ليس للعب ... )
ردت وعد بهمس أجش
( ها هو عندك ..... خذه .......... )
لم يصدق تلك العنجهية التي تنظر بها اليه ....الا أنه قال بلهجة تهديد
( اسمعيني جيدا يا وعد .... خلال الفترة الآتية و ما بعدها ستراعين أسلوبك و تعاملاتك و تلتزمين التحفظ مع الجميع ... الى أن يتم زواجنا .... و بعدها سأكون أنا من يضمن ثبات تلك القواعد )
فقدت ملامحها تصلبها ... و أتسعت عيناها ... ها هو عرض الزواج المفقود .... إنه يعيده مجددا ...
لم تجد سوى أن تهمس بدون تفكير
( هل أنت جاد ؟!! ...... أي زواج !! )
تجمدت ملامح سيف و هو يهدأ قليلا من غضبه ... ليقول بجفاء
( زواجنا ...... أعتقد أنني سبق و أخبرتك )
هتفت وعد تقول
( و أنا سبق و أخبرتك أن ذلك من رابع المستحيلات .... لما لا تجد لنفسك لعبة أخرى ؟!! )
ابتسم قليلا و هو يقول بجفاء
( وجدت و أنتهى الأمر ..... أنتِ لعبتي ... )
بهتت ملامحها قليلا .. ثم أخذت نفسا متعثرا لتقول بعد فترة بتوتر
( أنا سأترك العمل يا سيف .... سأنتظر أسبوع واحد لأحصل على راتب هذا الشهر ثم أرحل )
اتسعت عيناه و ارتفع حاجباه بدهشةٍ حقيقية هذه المرة .... ثم لم يلبث أن ضحك عاليا ... الى أن أنتهى تماما أمام عينيها المتوترتين ... ثم قال أخيرا بعجب
( أتعلمين أنكِ تمتلكين وقاحة لم ارى مثلها أبدا ...... أنتِ تخبريني بمنتهى البساطة أنكِ في انتظار الراتب .....الذي ستتقاضينه مني ..... ثم ترحلين !!! ......بعد كل ما فعلتهِ )
قالت بصوتٍ أجوف
( أنا لا أتسول منك ...... أنا أعمل هنا بناءا على أمرك لي بالعودة , و الراتب من حقي )
نظر اليها سيف بهدوء به لمحة استهزاء خفية ... ثم سألها
( و هل أنتِ مطيعة للأوامر بتلك الصورة المتفانية !! ........ )
رفعت ذقنها و هي تواجهه على الرغم من خوفها الداخلي منه .. ثم قالت بخفوت
( أنا تركت عملي الأول من أجل هذا العمل .... لذا أنا أعتمد عليه , و أنت لا تتمنن علي .... )
رفع احدى حاجبيه و هو ينظر اليها صامتا و هي تحاول مجابهته .... و رغما عنه وخزته نزعة الحماية القديمة التي كان يشعر بها تجاهها ... و على ما يبدو أنه لا يزال يشعر بها حتى الآن ...
رفعت وعد وجهها تقاطع أفكاره الخائنة لتقول فجأة
( لقد نبذت الأمر لأكثر من أسبوعين ..... لماذا تعيده الآن فجأة !! )
نظر اليها يتأملها ... ثم قال بهدوء
( من قال أنني نبذته ............بصراحة أنا لا أثق بك , خشيت أن تتهميني بالتحرش إن اقتربت منكِ )
أحمر وجهها بشدة من رده الفظ الساخر ..... لكنها قالت بعنفٍ لم تستطع السيطرة عليه قبل أن تتهور
( و هذا أقل ما تستحقه بعد ما فعلته .......... )
تصلبت ملامحه .. و زالت السخرية عن عينيه و حل محلهما قسوة مفاجئة ... ثم قال بعد فترةٍ طويلة بخفوت
( لهذا سأتزوجك ..... كي لا تكون لديكِ حجةٍ ترفعينها ضدي حين ....... )
عاد وجهها ليحمر بشدة مبددا الشحوب ... لكنها هتفت بقسوة
( ألا تساوي الحياة لديك أكثر من نزوةٍ تلهو بها قليلا !! ..... الى أي حد تتحكم بك نزواتك !! )
نظر اليها مليا ثم قال بجفاء
( هل هكذا ترين نفسك ؟!! ...... مجرد نزوة ! .... )
صمتت قليلا ... ثم قالت أخيرا بخفوت
( و هل لديك وصف آخر لي !! ....... )
رفع سيف عينيه قليلا وهو يضع يديه في جيبي بنطاله متشبثا بهاتفها متظاهرا بالتفكير .. وهو يقول
( ما هي الكلمة التي استخدمتيها من قبل ؟...... )
عاد لينظر اليها قائلا بخشونة
( حبيبة سرية .......... )
لم يغادرها الإحمرار ... لكنها وقفت ثابتة مكانها ترفض أن يذلها أكثر ... لكنه تابع بهدوء ناظرا الى عينيها بثبات كان ان يخترقها
( و أنتِ أردتِ جعلها علنية ...... لم تتحلي بالصبر , خفتِ أن تضيع منكِ الفرصة ... لماذا ترفضين الآن اذن و قد نلتِ ما تريدين ؟؟ ..... لجعل نفسك أعلى ثمنا أم لأنني رأيت وجهك الحقيقي ؟؟ ..... )
صرخت وعد
( لا تكلمني بتلك الطريقة ........ )
الا أن صرخة سيف كانت أعلى وهو يقول رادعا
( اخرسي ........ )
ألجمت لسانها و هي تنتفض داخليا .. تلهث قليلا و هي تنظر اليه بغضب ممتزج بالخوف , الا أنه تراجع عدة خطوات وهو ينظر اليها ... ثم توقف ليقول بجفاء
( لا أريد تنبيهك مجددا لتصرفاتك يا وعد .... فقد لا أكون تساهلا المرة المقبلة )
خرج سيف أمام عينيها المتسعتين , و تركها تقف مكانها غير مصدقة لما قاله للتو .... تحركت وعد من مكانها ببطىء ... تنظر حولها الى شيء غير محدد ... أنه يبدو عازما على ذلك .... على الزواج بها ....
أكثر من المرة السابقة التي كان الغضب فيها يعمي عينيه .... أما الآن فيبدو هادئا ... واثقا ....
رفعت يدا مرتجفة الى شعرها تتلمس جبينها و جانب وجهها .... كيف تتخلص منه ؟؟ ..... و هل بعملها هنا بعد ما كان بينهما هو السبيل المثالي للخلاص منه ؟!! .... أم أنها تتحامق كل يومٍ أكثر .....
كانت تدور حول نفسها ببطىء يمينا ... و يسارا ... و كأنها تبحث عن شيء ٍ وهمي بينما عقلها شارد بعيدا ... لكنها فجأة رفعت وجهها و هي تنظر الى الباب الذي خرج منه سيف ...
فشدت ذقنها و برقت عينيها بشدة ... لتخرج من نفس الباب و هي تعلم أنها ستتهور .... لو كان علي موجود لطلبت منه أن يمنعها على الفور .... لكنها ستتهور تماما كما اقتحمت مكتبه المرة السابقة ...
الا أنها كانت ممتنة لعدم وجوده .... فأعصابها توشك على الإنهيار بفعل الأيام الشاقة التي تعيشها و ما يزيده ذلك المدعو سيف من العبء عليها .... كانت غبية حين ظنت أن انتقامه هين ....
حين ظنت أنها لن تتأثر بتقديم القهوة له .... و أنه لمجرد ساذج ان ظنه انتقاما عادلا .....
لكنها الآن عرفت و أقسمت بأنه يعذبها على نارٍ هادئة ....
وصلت وعد الى علا .... و عيناها تتطاولان الى الباب المغلق لمكتبه .... فقالت
( هل يمكنني الدخول الى السيد سيف يا علا ....... )
نظرت علا اليها محتارة بعد أن ظلت بعيدة عن مكتب المدير لأسبوعين كاملين ... ها هي تعاود زيارته بشكلٍ مريب لا يتناسب مع وظيفتها و مكانتها البسيطة هنا ....
الا أن علا لم تفصح عن أفكارها و هي تقول متمعنة فيها ببطء
( لحظة أخبره يا وعد ..... لكن اعذريني إن لم يوافق .... فهو مشغول جدا اليوم )
أومأت وعد دون رد ... و ظلت تنظر اليها و هي ترفع سماعة هاتف داخلي لتقول بأدب حرج
( سيد سيف .... وعد هنا و تقول أنها تريد رؤيتك في موضوع هام )
نظرت اليها تتأكد متسائلة , فأومأت وعد مؤكدة و هي تفكر بداخلها أن الموضوع أخطر مما تظن علا ....
لحظة توتر مرت قبل أن تقول علا بأدب
( حاضر ....... )
وضعت السماعة لتنظر الى وعد بإهتمام قائلة
( تفضلي يا وعد ..... انه .... في انتظارك )
قالت وعد بعزيمة
( شكرا .......... )
دخلت وعد و عينيها على عينيه المنتظرتين .... كان جالسا في هيئةٍ ملوكية ... مستندا بظهره الى مقعده ... رافعا اصبعا الى فكه وهو ينظر اليها و كأنه ينظر الى أحد راعاياه ....
أغلقت الباب خلفها و هي تقترب منه بهدوء .. الى أن وقفت على مسافةٍ قريبه من سطح مكتبه لتقول بخفوت دون أي مقدمات
( لماذا تريد أن تتزوجني ؟؟ ........ )
قال بهدوء قاتل دون مقدمات كذلك
( لأني أريدك .............. )
أجفلتها الكلمة و ارتبكت .... حتى سابقا كان كلامه منمقا أكثر .... لا تزال تذكر ذلك اليوم في المشفى حين كان رقيقا معها بشكلٍ يدمي القلب الجاف ... وهو يخبرها بصوتٍ عميق خافت عن انجذابٍ لا يمكن انكاره بينهما ....
لكنه أيضا حذرها من أن تتلاعب به .... و ها هي قد فعلت ....
و كم كان الجواب مختلفا عن هذه الكلمة الباردة كالجليد .... لكنها قالت بثبات قليلا
( لا تهين ذكائي من فضلك ....... ماذا ستنال من زيجة كهذه ؟؟؟ ..... و أي انتقام ستحققه لك ؟؟ .... هل تنتابك نوازع شريرة في أن تضربني بشكلٍ مستمر مثلا ؟!! .... )
لم تهتز ذرة في ملامحه ..... الا أنها أقسمت أن رجفة زلزلت كيانها من جراء نظرة عينيه فارتعشت شفتيها قليلا .... لكنه حين تكلم قال بهدوء
( هل تأملين في أن أكون ضعيفا .... جبانا ؟!! ..... اذن يؤسفني أن أخيب ظنك , فأساليبي أكثر قوة .... و فعالية )
لقد أخافها هذا أكثر .... حتى أنها عضت على شفتها قليلا دون و عي و عينيها تهتزان أمام عينيه القويتين و اللتان لا تحيدان عنهما ...
لكنها افاقت و هي تسأل باهتزاز
( و ماذا سيكون شكل هذا الزواج ؟؟ ..... سري ؟؟ .... )
لم يتحرك من جلسته الملوكية وهو يقول مبتسما
( مجددا !!..... أصبحت أشك أن هذه الكلمة تشكل لديكِ هاجسا ..... ممن سأخاف لأجعله سريا ؟!! ..... من يمتلك السلطة كي يحاسبني ؟؟ ....... )
عقدت حاجبيها قليلا بقلبٍ مرتجف و هي تقول
( و كيف ستبرر للناس زواجك من ساعية مكتبك ؟؟ ............ )
مط شفتيه ليقول ببساطة
( مجددا ..... من يمتلك السلطة كي أحتاج أن أبرر له زواجي من ..... ابنة خالي .... )
لم ترد هذه المرة .... بل بقت صامتة ترتجف و هي تنظر اليه باهتزاز عاقدة حاجبيها .. بينما هو يبادلها النظر بثباتٍ صلب ... الى أن همست بجفاء
( أريد أن أعرف تحديدا عواقب رفضي ........... )
لم يرد على الفور و هو ينظر اليها متمعنا بصلابة ... ثم قال أخيرا
( هل تحبين حياتك الحالية ؟؟......... )
ألجمها السؤال و ظلت تنظر اليه بحاجبين أكثر انعقادا ..... ثم قالت بغضب
( أيا كانت الإجابة فهذا ليس معناه أن أتزوج هربا منها ....... انه مجرد نوع آخر من بيع النفس )
ابتسم بخشونة تفتقر الي المرح ثم قال
(تلك الصيغ الرنانة لا تفلح جذب انتباهي ...... فكري جيدا بما عرضته عليكِ , و فكري بما تمتلكينه حاليا .... ستجدين أنكِ كنتِ محقة في خوفك على ضياع الفرصة .... لكن تصرفك جاء أكثر جشعا و غباءا .... أما الآن فأنا أوفر عليكِ المزيد من المخططات في سبيل تحسين صورتك ..... لما لا نلتزم الصراحة ...
أنا أعرض عليكِ عرض كنتِ تتوقين اليه ..... تعطيني ما أريد و أمنحك ما تحتاجين .....
لا داعي لكل تلك الانهيارات الدرامية ...... )
احتقنت عيناها بفعل الذل و الغضب معا .... و ظهر ذلك في بريقهما الحزين , لكنه قال أخيرا بجفاء
( الآن عودي الي عملك ...... و فكري حينها )
اطرقت وعد برأسها قليلا و هي تعض على شفتيها الساخنتين قهرا ... ثم استدارت و قد فقدت القدرة على تحمل المزيد ... اتجهت سريعا الى الباب تحت أنظاره ..... الا أن صوته قال آمرا
( وعد .......... )
وقفت مكانها قليلا قبل أن تستدير اليه بصمت .... فوجدته يضع هاتفها على سطح المكتب أمامه ثم قال بجفاء
( خذيه ........ أعتقد أنكِ تعلمتِ درسك ..... )
قست ملامحها الشاحبة و تصلبت ..... فقالت بجمود خافت
( لا أحتاج اليه ............... )
فقال بهدوء
( و مع ذلك ستبقينه معك ........ لكن دون غناء , فأنا لا أطيقه ...... )
اتجهت اليه بعد فترةٍ بخطواتٍ ثقيلة الى أن وصلت الى حافة مكتبه المقابلة .... فمدت نفسها و هي ترتجف كي تصل الى الهاتف , تخشى أن ينقض عليها في أية لحظة .... و كم كانت أفكارها شفافة حين قال و هي تميل أمامه
( لا تخافي ..... فلن أنقض عليكِ هنا في المكتب ...... )
استقامت سريعا و هي تقبض على الهاتف بقوةٍ كادت أن تحطمه ... بينما أحمر وجهها بشدةٍ و أهتزت حدقتاها أما ملامحه فكانت قاسية جامدة .... فابتعدت عنها و عن عينيه و هي تهرع الى الخارج تحت نظراته القانصة لكلِ حركةٍ منها ....
أغلقت وعد باب مكتبه خلفها بقوةٍ و هي ترتجف ... فأغمضت عينيها للحظةٍ تلتقط أنفاسها المبعثرة .. ناسية وجود علا التي كانت تراقبها باهتمام فقد دهشته بعد تكرر المواقف المريبة ...
الا أن وعد سرعان ما فتحت عينيها لتصطدم بعيني علا المحدقتين بها فارتبكت على الفور و تلجلجت ... و ابتسمت ...
و حين لم تجد ما تقوله ... تحرجت للخروج بخطواتٍ متعثرة , الا أن صوت علا أوقفها بهدوء
( وعد ...... أريد اوراقك و عدة صور شخصية لكِ من أجل التدريب )
نظرت اليها وعد بعدم فهم ... فقالت علا توضح
( التدريب الخاص بتعيين الموظفين الجدد .... الذي تأخر تقديمه قليلا ... )
عبست وعد و هي تشعر بأنها أصبحت غبية فجأة ... فاقتربت من علا ببطء و هي تقول بحيرة
( أنا لا أفهم شيء يا علا !! ...... أي تدريب ذلك ؟!! ..... )
نظرت اليها علا قليلا قبل أن تسألها بخفوت
( ألم يخبرك السيد سيف أنه أدرج اسمك في التدريب القادم من فترة ؟!! .... ظننتك أنتِ من طلب منه ! )
ارتجفت وعد قليلا و هي تسألها بفتور
( و ما هو هذا التدريب ؟............ )
قالت علا
( انها نوعا ما كمنحة تدريبية معتمدة دوليا .... نقدمها كل فترة لعدد من المتقدمين حديثا للعمل , و لو نجحوا في المرور منها , يتم تعيينهم فورا ..... )
فغرت وعد شفتيها قليلا ...تنظر اليها و كأنها آتية من عالم غريب ثم سألت بملامح باهتة قليلا
( متى أدرج اسمي ؟؟ ........ )
ردت علا تقول
( منذ فترة طويلة ..... لن التدريب تأخر قليلا ..... ألم يكن لديك علم به ؟!! .... )
تذكرت وعد اليوم الذي أخبرها أنه يعد لها مفاجأة ... أهذه هي المفاجأة التي يقصدها قبل أن تقتحم مكتبه مطالبة بوظيفة ميرال بكل سفاقة ؟!! ....
و من أين لها أن تدري ؟!! ..... فسرعان ما قرر معاقبتها و صرفها من مكتبه يومها .....
أطرقت وعد بوجهها بوجوم .... حلم حياتها بوظيفة ثابتة تناسب مؤهلها يلوح في الأفق ... و مع ذلك تشعر بغصةٍ بائسة في حلقها ...
تمتمت وعد بخفوت
( حاضر يا علا ..... بعد اذنك ....)
هتفت علا قبل أن تخرج وعد
( وعد ...... أنا أريد تفصيل تنورة طويلة )
أومأت وعد بصمت ثم همست بفتور
( حاضر ............. )
ثم خرجت و هي ترغب في الإختلاء بنفسها .... كي تبكي حزنا على فرحتها بالوظيفة المنتظرة !!......
.................................................. .................................................. ................................
أمسكت براتبها اخيرا تدسه بحافظتها الصغيرة ... و تخبئها في الحقيبة القديمة ...
تنهدت وعد بتعب و كأنها في سبقٍ طويل لا ينتهي .... ذلك الشهر كان من أقسى الشهور ماديا و عصبيا بالنسبة لها .. و قد بدأ ذلك يؤثر عليها صحيا ....
حتى حال والدها يتأرجح لذلك لا يزال محتجزا بالمشفى ... أحيانا يكون مستقرا ... و أحيانا أخرى يدخل بغيبوبات قصيرة .... و كأنه يعاندها في اراحتها من المصروفات ببقائه في المشفى ....
حتى في ضعفه يشقيها !! .......
خرجت وعد برأسٍ منكس من عملها مساءا كي تبدأ رحلة الجزء الثاني من يومها ....
وقفت تنتظر الحافلة بشرود ... تسند رأسها الى العمود الحديدي لمحطة الإنتظار ....
لقد قدمت أوراقها ... و ستبدأ التدريب الشهر المقبل .....
و كيف لها أن ترفض مثل هذه الفرصة ؟!! ..... خاصة بعد أن سمعت برقم الراتب الإبتدائي في هذه الشركة ...
قدمت أوراقها على الفور .. دون امعان في التفكير ....
التفكير أن هذه الوظيفة ستطير منها إن هي رفضت الزواج منه , حينها أبسط رد فعل له سيكون طردها من العمل و نسيانها ....
لكنه لم يذكر لها الموضوع حتى الإن مطلقا .... لأنه لم يخاطبها منذ اليوم الذي خرجت به من مكتبه و علمت بالتدريب ... و هي كانت ممتنة في الواقع .... فهي غير قادرة على مواجهته بعد أن علمت بما كان يحضره لها ...
لكن و مع ذلك لا تستطيع أن تكون حسنة الظن لدرجة السذاجة .... ممكن أن تكون خطوة في خطة طويلة وضعها للسيطرة عليها ....
المهم أن الأمر كان يحتاج الى بطل أسطوري كي يقاوم العرض و يترك الفرصة .... و هي لم تكن بطلة أبدا ....
وصلت الحافلة المكتظة ... فرفعت رأسها لتقترب من الباب و تحاول جاهدة الدس نفسها بالقوة بين الجموع ... لا تميز ان كانو رجالا أو نساء
فالقوانين في الحافلات تختلف و تختفي كلمة العيب ...
عصرها الزحام عصرا و هي توشك على الإختناق من شدة الدوار و الإعياء .... تتأرجح يمينا و يسارا الى أن تمكنت أخيرا من الوصول الي الباب قرب محطة نزولها ... و بالفعل تمكنت من النزول بقوة الدفع و الهتاف و لحسن الحظ اليومي خرجت بقميصها مغلقا بعد تلك الطاحونة العمياء ...
استقرت وعد واقفة بعد أن بدأت الحافلة في التحرك ببطىء ... بينما كانت وعد تضع يدها تتحسس حقيبتها المنتفخة ... الا أنها لم تشعر بالإنتفاخ المتوقع فعقدت حاجبيها و هي تسرع لفتح الحقيبة الخفيفة ... فذعرت بالأمر المحتوم
حين وجدت أن السحاب مفتوح و أن الحافظة قد اختفت .... شهقت وعد عاليا و هي تنظر الى الحافلة التي كانت قد أسرعت فصرخت عاليا و هي تركض خلفها ... لكنها لم تستطع اللحاق بها و هي تبتعد الى أن اختفت ...
بينما تعثرت وعد بحجرٍ ناتىء فسقطت أرضا .... و حينها لم تستطع نفسها من البكاء على الراتب الذي لم تهنأ به ساعة واحدة ...
أخذت تضغط عينيها بكفيها و هي تلعن غبائها .... كيف نست انتشار السارقين في الحافلات أول الشهر في أيام قبض الرواتب !! .... كيف نست ذلك و لم تأخذ احتياطها ...
معظم الموظفين يستقلون سيارات أجرة أيام القبض كي يتفادو خروج السارقين من جحورهم في هذه الأيام ....
أخذت وعد تبكي بصوتٍ عالٍ الى أن تجمع الناس من حولها ... و بعض النسوة ساعدنها في النهوض و بعضهن يواسيها .. و البعض الآخر يدعين على السارقين
قالت احداهن بعطف
( عوض الله عليكِ يا ابنتي ..... لستِ الأولى و لن تكوني الأخيرة , منهم لله ... )
بينما قالت الأخرى و هي تربت على ذراعها
( هل تمتلكين حق الوصول الى البيت ؟؟ ....... )
أخذت وعد تمسح وجهها و هي تنشج هازة رأسها نفيا ثم تمكنت من القول ببكاء
( لقد وصلت ...... بيتي بعد شارعين فقط من هنا .... )
تجمع المزيد من الناس ... و قام كل منهم باخراج .. خمس جنيهات ... و عشر جنيهات ... و جنيها واحدا ...ثم عدة جنيهات معدنية ووجدت وعد أن أحدهم يفتح يدها و يضع بها تلك المبالغ الزهيدة ...
فحاولت الرفض و هي لا تزال تبكي ... الا أن سيدة منهن نجحت في قبض يدها على يد وعد لتقول بحزم ...
( ابقيهم معك و لا تجادلي ..... قد تحتاجين لشراء شيء و أنتِ في طريقك للبيت )
بدأ الناس في التفرق بينما نظرت وعد الى الثمانية عشر جنيها في يدها و هي تبكي بصمت ... ثم تحركت أخيرا في اتجاه الطريق الموصل الي بيتها ....
لكنها سرعان ما وقفت و هي تظر الي ساعة معصمها .... لن تستطيع اللحاق بزيارة والدها ان صعدت للبيت أولا خاصة و ان اليوم موعد قياس لسيدة تسكن على بعد نسبيا ...
تنهدت وعد تنهيدة بكاء صامتة و هي تضغط أنفها بين عينيها المرهقتين .... لابد أن تذهب ... لن تحتمل خسارة ثانية بخلاف تلك الكارثة التي تمر بها في هذه اللحظة ....
استدارت للطريق مرة أخرى بصمت تشعر بإعياء بالغ .... ثم نظرت الى الثمانية عشر جنيها بعينين متورمتين
ثم هتفت همسا ببكاء
( أقسم أن أستقل بهم سيارة أجرة ...... لا أشعر بالقدرة على الوقوف , سأنهار ...... )
بعد أن استقلت سيارة أجرة بالفعل جلست تستند برأسها الى زجاج السيارة تاركة للنسيم البارد قليلا محاولة افاقتها و إبعاد شباك العنكبوت عن وعييها .... و قد نجح بالفعل الى حدٍ كبير ... بينما أخذت تمد ساقيها قليلا و هي تشعر بقدميها تحترقان تعبا ....
ابتسمت بسخرية مريرة و هي تتذكر المقابلة الأولى مع سيف في مكتبه .... حين سألها عما تكرهه في عملها .... فأخبرته صادقة أن الوقوف طويلا أضناها .... فقال حينها بصوتٍ لن تنسى مدى عمقه " بأنه سيضع ذلك في باله "
و ها هي لا تزال البطلة الأولى في سباق الوقوف على قدميها المسطحتين و عظامها الهشة ....
وصلت وعد أخيرا الى بيت السيدة كريمة .... إنها المرة الأولى التي تأتي الى بيتها .... و قد أخبرتها أنها لن تستطيع الذهاب الى خياطات في بيوتهن لأن زوجها لا يقبل .... لذا كان على وعد أن تمتثل صاغرة في الذهاب اليها كما تفعل مع بعض زبائنها ....
وصلت وعد الى باب الشقة فدقت الجرس و انتظرت الى أن فتح باب الشقة ووجدت رجلا طويلا يقف أمامها ينظر اليها متسائلا ....
فتنحنحت وعد تقول بخفوت
( أنا لدي موعد مع السيدة كريمة اليوم .... من أجل خياطة فستانها )
عقد الرجل حاجبيه قليلا ... ثم قال بلامبالاة
( لم تخبرني ..... لكن لا بأس ,. تفضلي ....... )
ابتعد عن الطريق قليلا ..... ليدعها تمر , فدخلت وعد عدة خطوات و هي تمسك بحقيبتها , ثم استدارت اليه لتقول بخفوت وهو يغلق الباب
( هل يمكنك أن تخبرها من فضلك لأنني لن أستطيع التأخر ..... )
قال الرجل بهدوء و بطء
( حسنا لا بأس ...... تفضلي اجلسي قليلا )
أومأت وعد برأسها ثم اتجهت الى مقعد كي تجلس عليه لترتاح قليلا ... بينما اختفى الرجل بالداخل ,
كانت وعد تنظر الى المكان بعينين مرهقتين تحتهما هالاتٍ تكاد أن تكون بحيراتٍ زرقاء تسع العالم للغرق ...
توقف نظرها عند الطاولة الموضوعة أمامها .... فوجدت مطفئة سجائر تحتوى على العديد من أعقاب السجائر ... لكن ليس هذا ما لفت نظرها ... ان تلك السجائر ملفوفة يدويا من الأوراق و مادة لا يمكنها اغفال رائحتها بعد أن انتبهت قليلا ... استقامت وعد قليلا بتوجس و هي تنظر من حولها
" انه حشيش ..... "
نهضت ببطء و أعصابها تنتفض ... هل تنتظر السيدة كريمة أم ترحل ؟؟ .... لم تحتاج الى التفكير مرتين فاتجهت سريعا الى باب الشقة لكن فجأة شعرت بيدٍ ثقيلة على ذراعها فاستدارت بعنف لتجد الرجل الغريب ينظر اليها بعينين زائغتين و يده على الباب و اخرى على ذراعها ليقول بعدم تركيز
( الى أين أنتِ ذاهبة ؟؟ ........... )
تشنجت وعد تتشبث بظهرها الى الباب بينما نفضت يده عن ذراعها بالقوة , لتقول بقسوة
( تذكرت شيئا ...... يجب أن أخرج حالا ... )
ابتسم الرجل ابتسامة دائخة وهو يقول
( هل تأتين ثم تخرجين هكذا دون أت تشربي شيئا ؟!! ..... )
ارتجفت وعد لكنها أخفت ارتجافها و هي تصرخ بقوة
( أين السيدة كريمة ؟؟ ........... )
ابتسم الرجل مرة أخرى وهو يربت على ذراعها بهدوء
( لا تقلقي ..... لقد ذهبت لأمها و ستعود على الفور , لن تتأخر )
حتى هذه الحظة كان عندها أمل , لكنها دفعته و هي تقول بقوة
( ابتعد عني ....... يجب أن اخرج حالا )
الا أنه أمسك بذراعيها ليقذفها الى الداخل مجددا و هو يقول بخشونة
( اهدئي يا صغيرة ...... لا أحب تلك العروض بخلاف الباقين , سأراضيكِ جيدا بعد أن ننتهي )
صرخت وعد بأعلى صوتها , فامتزج صراخها بضحكته و هو يقول زائغا
( نحن الشقة الوحيدة المسكونة في هذا الxxxx ..... لكن أنا متأكد أنك تعرفين ذلك , يا فتاة أخبرتك أنني لا أحب تلك العروض , فلنبدأ مباشرة .... أتريدين سيجارة ملفوفة أولا ؟؟ ..... أنا لا أفرط في احداها الى للأحباب فقط )
كانت وعد تنتفض رعبا و أطرافها تتشنج و هي على وشكِ الإغماء ... الا أنها أمرت نفسها بالقوة أن تستفيق و الا فستضيع في طريق بلا عودة ...
أخذت تلتقط أنفاسها ثم قالت بخفوت ترتعش
( و ماذا لو أتت زوجتك في أي لحظة ؟؟ ........... )
ابتسم الرجل بخبث ليقول ببطىء
( لا تخافي يا أوزة ...... قائدة الحرس زوجتي ستبيت الليلة عند أمها , عسى الا تعود هي أو أمها أبدا .... )
وقع قلب وعد بين قدميها و شعرت بأن القفز من النافذة سيكون وسيلة الفرار الوحيدة لها خاصة وهو يقف ظهره لباب الشقة , لكنها تمكنت بمعجزةٍ من تصنع ابتسامة مذهلة و هي تهمس بارتجاف
( اذن لقد طمأنتني ..... هل يمكنني ...... الدخول للحمام ؟؟ ..... )
عبس الرجل وهو يقول بخشونة
( و لما تضيع الوقت و المزاج يا فتاة ..... دعي الحمام فيما بعد )
تشبثت وعد بحقيبتها و هي تقول بدلال مصطنع
( س .... سأرتدي لك شيئا رهييييييييبا ...... )
ابتسم الرجل بعدم تركيز , ثم قال بخشونة
( حسنا اذهبي .... انه الباب الثاني في الرواق خلفك ..... لكن لا تتأخرى يا أوزتي البيضاء الشاحبة , لكن اطمئني , بعد أن أنتهى منكِ لن تكوني بيضاء أو شاحبة لفترة طويلة .... )
ابتسمت وحد بشفتين زرقاوين ... لكنها أسرعت الى الرواق ثم دخلت للحمام فأحكمت غلقه و أستندت بظهرها الى الباب مرجعة رأسها الى الخلف و هي تلهث برعب هامسة
( ما هذا اليوم ؟!!! ..... ما هذا اليوم ؟!!!! .... ماذا أفعل ؟!! )
أغمضت عينيها للحظة .... ثم دست يدها في جيب تنورتها لتخرج الهاتف و هي تحمد الله ألف مرة أنه لم يسرق منها هو الآخر ... اخذت تعبث بالأزرار بأصابع مرتجفة و هي تفكر بعشوائية
" بمن تتصل ؟؟ ..... بمن تتصل ؟!! ..... الشرطة ؟؟ ستأتي بعد عام .... كرمة ؟؟ و ماذا ستفعل المسكينة ؟؟ قد تصبح ضحية ثانية ... .... "
دون تفكير تقريبا وجدت نفسها تتصل بمن سيفصل رأس ذلك الثورعن جسده ان شاء الله ما أن يعلم ...
انتظرت ترتجف و هي تضع الهاتف على أذنها حتى وصلها اسمها بنبرته العميقة القوية
( وعد ؟!! ........... )
همست وعد بخفوت و رعب و هي ترتجف مبتعدة عن الباب
( سيف ..... سيف .... أنا في مصيبة ..... )
في لحظةٍ كان صوته القوي يقصف
( ما الأمر ؟.... أين أنتِ ؟؟ ...... )
همست وعد و هي تنظر الى الباب
( أنا محتجزة في حمام بشقة أحدى زبوناتي ..... حين أتيت لم اجدها و زوجها موجود وهو شارب حشيش حتى أوشكت عيناه على الخروج من وجهه .... و أنا ......)
صرخ سيف بصوتٍ كاد أن يخرق أذنها
( هاتي العنوان حالا ......... )
أملته وعد العنوان بهمسٍ مرتجف , فصرخ و هي تسمع صوت مكابح سيارة عالٍ
( ابقي الباب مغلقا و اياكِ و الخروج ..... أتفهمين ؟؟ ..... إياكِ و الخروج .... خمس دقائق و اكون عندك )
أومأت وعد برأسها و هي ترتجف , .... فتنبهت وهو يصرخ عاليا
( وعد أسمعتني ؟؟؟ ........ )
همست ترتجف
( نعم ..... نعم سمعتك ........حاضر )
أغلقت وعد الخط .... و أغلقت عينيها و قد بدت لها ان الخمس دقائق هي بمثابة خمس ساعات ... حتى أنها بدأت في عد الثواني همسا ... تعالى الطرق فجأة لتسمع صوت يقول بسماجة
( لماذا تأخرتِ هكذا يا أوزتي ؟...... دعيني أدخل معك )
أغمضت عينيها و ساقيها تهتزان بعصبية وهي تهمس برعب
( فلتنهشك أوزة مسعورة يا متخلف ......... )
ثم رفعت صوتها تقول بدلال
( انتظر لحظة يا .... يا جميل ..... اذهب و اشرب سيجارة أخرى و انا آتية اليك , لكن ادخر لي واحدة )
سمعت صوت ضحكته الأجشة و خطوات قدميه تبتعدان .....
تعالى فجأة طرقا عنيفا مع رنين الجرس على باب الشقة .... فأغمضت وعد عينيها و هي تكاد تبكي ارتياحا .... لقد وصل ..... كانت تعرف أنه لن يترك أسيرته تتعرض لإنتقامٍ بيدٍ شريرةٍ أخرى ...
فتح الرجل الباب وهو يصرخ بعينين زائغتين ....
( ماذا ..... ماذا ..... من أنت و لماذا ؟!!! .........آآآآآآآآه )
لم يكمل جملته الغير مترابطة و سيف يقبض على مقدمة قميصه كي يضربه بجبهته ... بسرعةٍ لم يتداركها فتطوح الرجل ثم سقط أرضا كالثور ....
فدخل سيف الى المكان باشمئزاز الى ان وصل الى باب الحمام المغلق فطرق عليه بعنف كاد أن يحطمه وهو يصرخ
( افتحي يا وعد ..... انه أنا ....)
فتحت وعد الباب .... لتبكي بالفعل ارتياحا ما أن ابصرت الملامح المتحجرة المتوحشة أما عيناه العاصفتان القلقتان كانتا تتفحصانها سريعا قبل أن يقول بخشونة
( هل أنتِ بخير ؟.........)
كانت تستند بكفها الى إطار باب الحمام بملامح كالأموات و الدموع تنساب على وجنتيها ... و ساقيها تتخاذلان , فهتف سيف يقترب منها أكثر حتى كاد أن يمسك بها لكنه أبعد يده قبل أن يفعل قائلا بخشونة قلقة
( أجيبي بالله عليكِ ..... هل فعل بكِ شيئا ؟؟ ..... لأنني أقسم أن ... )
هزت وعد رأسها نفيا و هي تهمس بضعف
( لا .... لم يحدث شيء .... أريد فقط أن أخرج من هنا ..... أرجوك )
ذهب همسها الضعيف بعقله المشوش و هو يراها منسدلة الشعر بوجهٍ أبيض بلون قميصها و عينين تحتها بشرةٍ رقيقة زرقاء كشفتيها .... و عنقها الناعم يتحدى سلطة اي رجل ان يقاوم انجذابه لضعفها و هشاشتها ....
أوشكت أعصابه أن تنهار و هو يتخيل أنها تكذب و أن ذلك الحقير قد لامسها أو أكثر .... هذه المرة لم يستطع ان يمنع نفسه وهو يمد يده ليقبض على كفها يجذبها خارج هذا الحمام الذي اصابه بالغثيان وهو يقول بلهجة آمرة
( هيا بنا ......... )
جذبها خلفه و هو يندفع بها الى أن مر بالرجل الذي كان يحاول الإستقامة من سقطته الا أن سيف ركله في جانبه ليسقطه أرضا مرة أخرى وهو يبصق  ثم جذب وعد خارج المكان العفن قبل أن يحرقه هو وصاحبه ....
ضرب على المقود بعنف و هو يصرخ هاجئا
( كفي عن البكاء و أخبريني كيف كنتِ محتجزة في شقة رجل يتعاطى مخدرات بمفرده ..... ماذا كنتِ تفعلين هناك ؟؟)
كانت وعد تنشج ببطىء و هي تضغطي أذنيها بكفيها من صوته الرعدي الذي يزلزل كيانها الضعيف ... فصرخ سيف بهياج
( كفي عن البكاء و أخبريني ماذا كنتِ تفعلين هناك ..... ردي قبل أن أفقد الجزء الباقي من سيطرتي على نفسي )
أخذت تبكي بشهقاتٍ خافتة بينما جسدها يرتجف بشدة و قد بدأت تشعر بالبرد يتحول الى صقيع ....
فصرخ سيف بحنق وهو يضرب المقود بعنف مرة أخرى ...
دوى صوت هاتف وعد فجأة ... و ما أن أمسكت به بأصابع مرتجفة حتى اختطفه سيف منها بعنف وهو يضعه على أذنه ليرد بقسوة
( نعم !! ............ )
سمع صوت سيدة مرتبكة من خشونته ثم قالت
( عفوا .... أليس هذا رقم وعد ؟؟ ..... )
رد سيف بخشونة
( نعم ..... أنه هو, من حضرتك ؟ ... )
قالت السيدة
( أنا السيدة كريمة ...... كان معي موعدا لتفصيل ثوب اليوم , لكنني نسيت تماما , هل يمكنك أن تخبرها أن تعود أدراجها و أنا سأنقدها ثمن المواصلات لاحقا لأنني لست بالبيت الآن ..... )
ظل سيف مقطب الجبين بشراسة قبل أن يجيب بصوتٍ مرعب
( ثمن المواصلات يمكنك أن تحتفظي به لنفسك كي تشتري به ضمادة لأنف زوجك .... الذي اذا رأيته ولو على بعد أميالٍ من وعد فسأرسله لكِ مقطعا على أربع أجزاء )
أغلق الهاتف بعنف ليلقيه في حجر وعد التي تشبثت به و هي تبكي بصمت حتى تورم وجهها بشدة ...
فقال سيف بخشونة وهو يستدير بالسيارة بشكلٍ جعل اطاراتها تصدر صوتا عاليا كالفحيح
( أريد تضيح و حالا ..... هل تعملين بالخياطة ؟؟ .... )
أومأت برأسها و هي تبكي دون أن ترد ... فهتف سيف بجنون
( و تذهبين الى زبائنك ببيوتهم ؟!!!!!! ...... )
همست وعد و هي تنشج بخفوت تصحح له
( زبوناتي ..... كلهن من النساء ..... )
صرخ سيف بقسوة وهو يعاود ضرب المقود
( غبية ....... غبية ...... حمقاء و معتوهة بالكامل ....... ماذا كان الحال لو لم أرد على اتصالك لأي سبب من الأسباب ؟؟....... ماذا كان ليصبح مصيرك الآن ؟!! ..... )
نظر اليها و بكائها يتزايد فجن جنونه ليصرخ أعلى
( لماذا تعملين بعملٍ كهذا ؟!! ..... ما الذي يجبرك عليه ؟؟ ...... )
رفعت وعد وجهها لتصرخ في وجهه بعنفٍ من بين البكاء القوي
( لأنني أحتاج الى المال ....... و لأي سبب آخر قد أذل نفسي لمن يسوى و من لا يسوى !!!!! .... )
صمت سيف وهو يشعر أن الكلمة قد ضربت في وجهه بقسوة ... و كأنه هو المقصود بالفعل ... فأخذ يشتم بصوتٍ خافت
قبل أن ينظر اليها قائلا بعنف خفف من حدته القلق
( هل لامسك بأي طريقة .......... )
ارتبكت وعد و هي تعاود بأن تطرق رأسها من جديد , فاشتعل القلق اكثر وهو ينظر اليها بعنف تاركا الطريق قائلا بقلق
( وعد ..... اجيبي هل فعل ؟؟ ..... )
همست وعد و هي تبكي دون ان تنظر اليه
( أخبرتك أنه لم يفعل ............ )
لم يخف قلقه وهو يقول بخشونة
( الا تكذبين علي ؟؟ .............. )
هزت رأسها نفيا و هي مطرقة دون ان ترد ... و دون ان يتوقف بكائها ...
فزفر سيف بعنف وهو يسرع بسيارته ... ثم قال بعد فترة
( لن أتركك بمفردك ..... ستجلبين أشيائك و تأتين الي بيتي )
رفعت وعد وجها متورما و هي تقول بذهول
( هل سمعت نفسك أصلا قبل أن تتكلم ؟!! .... أي بيت هذا ؟!! ... عند امك و شقيقتيك ؟!! .... )
تنهد سيف بكبت .... وهو يشعر بنفسه مقيدا ... ثم قال بعد فترةٍ بلهجة الأمر
( هذا العمل .... الخياطة , ستتوقفين عنها نهائيا ..... مفهوم ؟؟ ..... )
نظرت اليه بعينين متورمتين ثم همست ببكاء ناعم
( لن أذهب لبيت أحد بعد الآن .......... )
صرخ سيف وهو يضرب المقود للمرة الرابعة
( و لن يدخل أحد الى بيتك ....... ستتوقفين عن الخياطة نهائيا ...مفهوم أم أقحم الكلام برأسك الصلب ؟.,,,,. )
صرخت وعد هي الأخرى
( أنا أحتاج الى المال .......... )
رد سيف صارخا بقوة
( ألم تتقاضي راتبك اليوم ؟!!! ....... )
صمتت وعد فجأة لتبدأ في بكاءٍ بصوتٍ عالٍ و هي تغطي وجهها بكفيها ... فصمت سيف فجأة و هو يرى انهيارها الأقوى ليسأل بعنف
( ماذا بك ؟!! ...... هل فعل بكِ ذلك الحقير شيئا و تخجلين من أن تخبريني .... تكلمي يا وعد !! )
هزت رأسها نفيا ....ثم هتفت من بين كفيها باكية
( لقد سرق مني راتبي اليوم .......... )
ثم عادت للبكاء عاليا .... فصمت سيف وهو ينظر اليها بوجوم و ملامحه قاسية كالحجر , ثم قال بعد أن أوقف سيارته أمام بيتها
( لقد وصلنا ......... )
رفعت وجهها الباكي تنظر الي البيت وهي تنشج بشهقاتٍ ضعيفة تحاول السكوت عن البكاء ... ثم نظرت اليه لتهمس باختناق
( يجب أن أذهب الى والدي ......... )
قال سيف بشراسة
( لن تذهبي لأي مكان اليوم .........)
قالت وعد تعترض بضعف و تخاذل
( لا استطيع تركه يومان كاملان .... قد يستيقظ و يصيبه القلق , كما أن المشفى تحتاج الى بعض المصاريف )
قال سيف بخشونة
( لن تذهبي اليوم ..... ستسقطين ما أن تقفي لوقتٍ أطول على قدميك , أنا سأذهب الى المشفى و أتكفل بكل شي ء)
ثم أخرج حافظته من جيبه ليخرج منها عددا من الأوراق المالية مدها اليه يقول بصوتٍ أجش
( خذي هذه النقود قد تحتاجين شيئا ....... )
هزت رأسها نفيا و هي تقول بغصة جعلت صوتها مختنقا
( لا .... لا ..... لن أستطيع )
قال سيف من بين أسنانه
( وعد ...... نصيحة مني , لا تجادليني في هذه اللحظة )
مدت وعد يدا مرتجفة تعلن استسلامها , فأخذت النقود صاغرة و هي مطرقة الرأس .... فقال سيف بجفاء
( سنعقد قراننا في أقرب فرصة ......... )
رفعت وعد وجهها المذهول اليه لتهمس بتعجب
( أفق من أوهامك من فضلك ....... أنا لست في حالةٍ تسمح بذلك )
قال سيف بلهجة الأمر
( هل فكرتِ أن والدك من الممكن أن يموت في أي لحظة ؟ ..... صحيح أنه ليس بمثالٍ يعتمد عليه , لكن هل تتخيلين ان تصفين بمفردك فجأة ..... )
قالت وعد بلهجة هجوم خفية هامسة
( الشقة ....... انها الشقة , اليس كذلك ؟..... أنت تنوي الإستيلاء عليها كما أخبرتني من قبل .....لكنني لن أمكنك منها أبدا ..... )
قال سيف بعد فترة بصوتٍ غير مقروء
( اخرجي يا وعد ...... لن أحاسبك الآن .... و جهزي نفسك سنعقد قراننا خلال أيام , لن أتركك هنا بمفردك )
اتسعت عيناها بذهول أكبر ..... خلال أيام !!! .... هتفت وعد
( والدي في المشفى .... يفيق يوم و يغيب عن الدنيا يومين ...... )
قال سيف بقسوة
( لن ننتظر الى أن يتحسن الوضع , فقد يطول الأمر ..... جهزي أنت نفسك و اخبريني بكل ما تريدين .... هل تأخذين أدويتك بانتظام ؟؟ ......)
أجفلت حين حول الحوار فجأة الى طريق آخر فهمست بحيرة
( ها !!! ......... )
زفر سيف بغضب وهو يقول
( هذا ما ظننته ........ غدا سأحضر لك أدويتك معي ,خذيه أجازة ..... و الآن أخرجي )
خرجت وعد تتعثر من السيارة الى أن استندت عليها بضعف ... و صدر سيف ينبض بقسوة الى أن استقرت واقفة و هو يحاول منع نفسه من الخروج اليها و حملها .... و تساءل بعنف عن امكانية صعودها السلم في مثل حالتها ....
مال بجسده ينظر اليها من نافذتها ليقول آمرا
( لا تفتحي بابك لأي مخلوق ... و أحكمي غلقه جيدا .... مفهوم ؟؟ ....)
كانت لا تزال مستندة بكفيها الى جانبي النافذة فشعرت أنها قريبة منه على الرغم من أنها لم تكن بمثل هذا القرب ... فاحمر وجهها مما أراحه قليلا ... فابتعدت و هي تومىء برأسها قبل أن تستدير مبتعدة ... مطرقة الرأس منحنية الكتفين ....
و تابعها هو بعينيه الى أن دخلت من باب الxxxx بمعجزة .... حينها أطلق نفسا متعبا و عنيفا ....
حسنا .... أمامه حرب عاتية في البيت ..... لكن لا فرار منها !! ..... فما أختبره اليوم منذ قليل كان فوق احتماله ...
تحرك سيف بالسيارة بسرعةٍ مصدرا صريرا عاليا ... قبل أن يقوم بعملٍ أهوج كالصعود اليها مثلا محددا صك ملكيتها و عليه بصمته ....
.................................................. .................................................. ................................
و كما توقع .... اندلعت النيران بالبيت .... و أمه تصرخ بغضب ممتزجا بالذهول
( و لماذا تخبرنا ؟!!! ....... أنت اتخذت قرارك و انتهى الأمر .... فلماذا تخبرنا ؟!! .... )
رد سيف بهدوء واضعا يديه في جيبي بنطاله و ملامحه كانت قد ارتدت قناع التجمد دون تعبير معين ....
( اهدئي يا أمي ..... الأمر لا يستحق كل ذلك الغضب , مشكلتك لم تكن مع وعد .... )
صرخت أمه و هي تضرب الأرض بقدمها بينما عيناها تنزفان ألما و غضبا
( لا يستحق ؟!! ..... لا يستحق ؟!! ..... لا أريدها ببيتي ..... لا أريدها ببيتي يا سيف , انها نذير شؤم .... ستخرب البيت الذي ظللت أبني به سنواتٍ طويلة بعد أن نهضنا مجددا .... )
نظر سيف بجمود الى مهرة التي كانت تبكي بعنف من هول الموقف الذي لم تعتده أمامها قبلا ... بينما كانت ورد ساكنه و عيناها تفيضان شرا ....
فعاد بعينيه الى أمه التي تحولت ملامحها من الرقة الى الغضب و الإحساس بالغدر و الظلم فقال سيف بهدوء
( لا أريدك أن تكوني غاضبة كل هذا القدر يا أمي ..... أعلم أن الوضع لا يعجبك و أنكِ لا تريدينها هنا , لكن أنا أريدها .... الا يمثل ذلك عندك اعتبار ؟؟ .....)
هتفت منيرة و هي تضرب صدرها بقبضتها المضمومة
( و أنا لن اقبلها هنا .... إما أنا و إما هي في هذا البيت .... الا يمثل ذلك لك أي اعتبار !! ....)
أخذ سيف نفسا قويا وهو يتطلع الى السقف قليللا قبل أن ينظر الي أمه ليقول
( لن تخرجي من هنا يا أمي .... هذا بيتك أنت و إن لم تريدينها هنا فهذا حقك .... )
صمتت أمه و هي تتنفس بسرعة لتقول ذاهلة بخفوت
( بمعنى ؟!!! .......... )
صمت سيف قليلا قبل أن يقول بهدوء
( بمعنى أنني سأبحث عن مكانٍ آخر و أنتِ تبقين ببيتك معززة مكرمة ..... )
همست منيرة بذهول و صدمة
( هكذا يا سيف ؟!! ..... هل هذه هي مكانتي لديك ؟!! ...... بهذه البساطة تتخلى عني لأجل خادمة ؟!!! ....)
قال سيف مقاطعا بقوة
( إنها ليست خادمة يا أمي ........)
صرخت تقول
( المرتان الوحيدتان اللتان رأيتها بهما كانت تنظف بيتي بأمرٍ منك ...... )
قال سيف بخشونة وهو يستدير عنها
( كانت تلك مرحلة و انتهت ..... وعد فتاة جامعية و ستعمل بوظيفةٍ عندي عما قريب , هذا بخلاف أنها لن تعمل أصلا بعد الزواج ...... لذا انسي ما فات .... )
همست منيرة بعينين تدمعان
( أنسى ما فات ..... بهذه البساطة يا سيف ؟!! ...... بهذه البساطة !! )
استدار اليها سيف يقول بقوة
( لقد استسلمتِ لمن ظلمك بشكلٍ أكثر رأفةٍ مما تفعلينه الآن مع وعد يا أمي .... هل هذه مقاومة متأخرة ؟!!! ... )
صمتت مذهولة مطعونة .... بينما صرخت ورد بقسوة
( لا تكلم أمي بتلك الطريقة يا سيف ..... من أجل تلك ال .....)
قال سيف بصوتٍ عالٍ قاسي
( لا تتابعي يا ورد ...... ستكون زوجتي و لن أقبل بذلك )
هفت ورد دون أن تخاف
( بالرغم من أنك تعلم أن ما كنت سأقوله سينطبق عليها تمام الإنطباق .... و مجرد لقب زوجتك هو ما سيمنحها قيمة )
صرخ سيف بعنف
( اخرسي يا ورد .... أخبرتك أنني لا اقبل أن يتحدث أحد عن زوجتي بتلك الطريقة ..... )
صمتت تنظر اليه بعينين تقدحان شررا ثم استدارت لتغادر بعنف و خطواتها تكاد أن تحفر الأرض و هي تصعد الدرج بعنف
نظر سيف الي امه ليقول بخفوت
( أمي ......... )
ردت منيرة تقول بصلابة حزينة
( لن يحدث يا سيف ...... لن يحدث ... لن أحضر عقد قرانك )
لم يرد على الفور وهو ينظر اليها ..... لقد طلبت سماحه فيما سبق و بدأ معها صفحة جديدة طوى بها ألمه منها , و ها هو يطلب المثل الا انها ترفض ....
قال سيف أخيرا بخفوت
( حسنا يا أمي ........ لن أضغط عليك أكثر )
ابتعد عنها ليخرج من البيت بعنف , بينما وقفت منيرة مكانها ترفع يدا مرتجفة الى فمها و هي تبكي بصدمة متسائلة عما حدث فجأة و زلزل كيان أسرتها الصغيرة .....
و كل ذلك بسبب تلك الفتاة التي تمتلك غدر الxxxxب ...... و نعومة الأفاعي
.................................................. .................................................. ...........................
دخلت ورد الى غرفتها صافقة الباب بعنفٍ خلفها .... ثم اتجهت بجنون الى طاولة الزينة فأزاحت كل ما عليها أرضا بغضب و هياج .... قبل أن تستند الى الطاولة ناظرة الي عينيها الشرستين في المرآة و هي تلهث قليلا ...
ثم همست اخيرا بخفوت
( لا بأس ...... المهم أنها ستأتي الى هذا البيت .... خادمة او زوجة أو عفريته حتى ..... المهم أنها ستأتي الى هذا البيت بقدميها ............ )
.................................................. .................................................. ............................
ذهب الي بيت عبد الحميد .... صف سيارته و نزل في الظلام يراقب الطابق الذي تسكنه و ارتاح قليلا حين رآه مضاءا .... ظلت عيناه معلقتان بالخيالات التي تتحرك من خلف الستائر ....
إنها فوق .... بخير ....
جشعته الصغيرة بخير .......
اليوم أوشك على أن يفقد أعصابه التي انهارت خوفا ..... لأول مرة يعرف الخوف و على آخر انسانة من المفترض أن يخاف عليها .....
سمع صوتا خشنا أجشا يقول من خلفه بصرامة
( من أنت يا ولد ..... و ماذا تفعل هنا ؟؟!! ...... )
أخفض سيف وجهه ليستدير و يرى رجلا أقصر منه .... ينظر اليه غاضبا رافعا عصاه التي يتعكز عليها و كأنه يهم بأن يضربه في أي لحظة ....
قال سيف بهدوء مستفز
( من حضرتك ؟؟ .......... )
ضرب الرجل الأرض بعصاه وهو يقول
( أنا جار الفتاة التي تلاحقها يوميا في غياب والدها .... أتظن أن لا أهل لها و أن بإمكانك فعل ما تريد ؟!! )
قال سيف ببساطة شديدة ممتنا للفرصة وهو يدس يديه في جيبي بنطاله ...
( أنا ابن عمتها ...... و خطيبها ..... )
عبس الرجل قليلا و ارتبك من المعلومات الجديدة .... ثم قال مفكرا
( وعد لم تخطب بعد ........ )
رد سيف بملل قليلا
( لأن خالي مرض و دخل المشفى فقمنا بتأجيل الخطبة .......... )
عبس الرجل مرة أخرى .... ثم بدأ يفكر بينما سيف ينظر الي السماء مللا و كبتا ... فقال الرجل أخيرا
( ابن عمتها ؟!! ...... ليس لعبد الحميد سوى شقيقة واحدة لها ابن واحد ..... ذلك الذي أمسكناه يسرق بيت خاله ذات يوم ..... كانت أمه تصرخ عاليا و تبكي أنه ابنها الوحيد و تقبل قدمي أخيها كي يتركه فلا يضيع مستقبله ..... )
سكت الرجل قليلا وهو يرفع وجهه الى وج سيف الشرس الصلب .... ثم سأل بدهشة
( هل أنت هو ؟!!! ........ اللص ؟!!! ..... )
لم يرد سيف وهو ينظر الي الرجل في الظلام و كأنما سيتحول الى مصاص دماء سيمتص روحه في أي لحظة ...
بينما تابع الرجل بدهشة
( هل ستخطب وعد فعلا ؟!! ...... كم هي أيام دوارة !!! .... )
ثم لم يلبث أن عبس ليقول صارما
( أيا كان ..... لا تأتي الى هنا يا ولد قبل اي ارتباط رسمي ..... حتى ولو كنت ابن عمتها ... ابن أختها .... ابنها هي شخصيا .... أنا لا اهتم بالمسميات .... لا تأتي الى هنا قبل أن ترتبطا رسميا .... هذه الفتاة أمانة برقبتنا .... )
قال سيف بهدوء وهو يستدير ليذهب الى سيارته
( اذن من الأفضل أن ترعاها بصورةٍ أفضل .... فمن ايام كنت عندها أطمئن عليها و لم يسألني أحد الي أين أتجه او أذهب !!! ....... )
عبس الرجل بشدة وهو يهدد بعصاه
( ابتعد هي ....... لا تأتي الا بوالدها أو بالمأذون ..... هيا ابتعد )
قال سيف بهدوء مبتعدا ....
( ابق عينك عليها جيدا الى أن آتي بالمأذون ............. )
ثم لوح مستقلا سيارته مغادرا بقوة .....
.................................................. .................................................. ............................
رفعت وعد شعرها بفوضى لطيفة فوق رأسها و هي تعدل من ياقة قميصها الأبيض النظيف المحكم حول خصرها ... إنها اليوم أفضل حالا الا أنها بروحٍ ميتة .... و ملامح فاترة مجهدة فقدت القدرة على الشعور بأي مشاعر معينة من اي نوع ....
رتبت عدة أقداح على الصينية ثم حملتها و استدارت لتخرج من غرفة السعاة ... الا أنها تسمرت مكانها فجأة و اتسعت عيناها بصدمة حين وجدت منيرة تقف عند الباب بكل هيبتها و رقتها في آن واحد ... تنظر اليها بنظرةٍ صلبة باردة لم تعتدها وعد منها ... ظلتا تنظران الى بعضهما بصمت الى أن تمكنت وعد من النطق باهتزاز
( سيدة منيرة ..... أهلا بكِ تفضلي .... أرجوك ... )
لم ترد منيرة على الفور ثم قالت ببرود
( سيدة منيرة ؟!! ...... آخر مرة ناديتني بعمتي !! .... )
ابتلعت وعد ريقها و هبط قلبها بين قدميها و هي تقف أمامها ترتجف حاملة صينية القهوة ... بينما وجوه تلك القهوات تهتز فاضحة أرتجاف أصابعها و قلبها ....
أخذت نفسا مرتجفا ثم همست ....
( سيدة منيرة ...... ما فعلته كان ....... )
قاطعتها منيرة بلهجةٍ قاطعة
( ما فعلتهِ كان تصرفا مثاليا من قبلك .... بما أنني أصبحت أعرف جيدا سجلك العائلي )
تجمدت ملامح وعد و تصلبت نظراتها .... بينما تابعت منيرة بهدوء و هي تخطو الى داخل المكان ... ثم قالت دون مقدمات
( لكن لا يزال السؤال ...... لماذا فعلتِ ذلك ؟؟ ..... )
لم تجد وعد ردا ترد به و هي تقف أمامها مدانة ... فقالت منيرة بهدوء
( تصرفك كان تصرف فتاة تحاول ابعاد رجلا عنها .... و ليس العكس كما حاولتِ إقناعنا ... )
ازداد ارتجاف يدي وعد و مع ذلك تعجبت من ذكاء تلك السيدة الذي لا يمتلكه ابنها و الذي فهم الأمر بصورةٍ عكسية تماما ......
فاستدارت ببطء لتضع الصينية على الطاولة قبل أن تسقط منها ... ثم عادت لتلتفت الى منيرة ... و قالت بخفوت
( سيدة منيرة ..... مجيئي الى هنا كان خطأ و كان علي أن أضع حدا لهذا الأمر .... )
قالت منيرة ببرود
( لكني أراك لازلتِ هنا ........ )
أطرقت وعد برأسها و هي تفكر
ليس العمل .... و إنما انجذاب ابنك الي بطريقة تسعى للحب و الإنتقام معا ... لكنها لم تجرؤ على النطق بهذه الأفكار , فرفعت وجهها الى منيرة تقول بخفوت
( أنا في أصعب ظروف مررت بها يوما ..... و أنا أحتاج الى هذا العمل بشدة , لكني على استعداد لأن أتركه بعد ما تسببت به لكِ , على الرغم من أنكِ كنتِ طيبة و كريمة معي للغاية ... )
قالت منيرة بقوة
( كنت كريمة معك .... و فتحت لكِ بيتي ... و هكذا تكون المكافأة .... أنت لا تريدين أبني , فلماذا تتزوجينه اذن ؟!! ... الى أي مدى تسعين الى تدميره و تدمير بيته .... )
هزت وعد رأسها نفيا بصدمة و هي لا تجد القدرة على الكلام .... فتابعت منيرة بقسوة
( هل والدك هو من حثك على فعل ذلك ؟؟ ..... )
قالت وعد بخفوت
( والدي في المشفى .... تقدم عمره بينما تأخرت صحته للغاية , لا أعرف إن كان سيخرج من هذه الوعكة سليما ... )
اهتزت ملامح منيرة قليلا ... لكنها عادت و قست ملامحها تقول ببرود
( لقد قطعت صلتي بوالدك منذ سنوات طويلة .... حين أوشك أن يفقدني ابني و ابنتي .... و أرى الآن أنك تسلكين نفس الطريق في افقادي ابني الوحيد .... )
هزت وعد رأسها نفيا بقسوة و هي تقول مدافعة
( لم يخطر هذا ببالي إطلاقا أقسم لكِ ........ )
الا أن منيرة قاطعتها بلهجةٍ قاسية
( لما لا نلجأ لأبسط الطرق يا وعد ...... كم تريدين و تبتعدي عن حياتنا ؟؟ .... للأبد .. )
بهتت ملامح وعد لكنها قالت بخفوت رافعة رأسها
( أخبرتك أنني على استعدادٍ للابتعاد دون هذا العرض الكريم ...... )
قالت منيرة بقسوة
( أتظنين أنني قد أصدقك بعد ما رأيت منكِ ؟!! ..... كم يكفيك يا وعد لتبتعدي ..... )
كتفت وعد ذراعيها و رفعت ذقنها أكثر و هي تقول بخفوت لكن بصلابة جافة
( اذن .... يؤسفني أن أخبرك أن الأمر بيني و بين سيف لأقرر ما اذا كنت سأقبل بعرضه أم لا ... )
اتسعت عينا منيرة قليلا و هي تنظر اليها و كأنها تنظر الى كائن مخيف مرعب ... مما أوجع قلب وعد من تلك النظرة التي أشعرتها بأنها من أحقر البشر .... فأوشكت على أن ترد بهدوء تعيد صياغة كلماتها ...
الا أن منيرة أمسكت بحقيبتها تفتحها بعنف و هي تخرج منها عدة أوراق نقدية تمدهم الى وعد لتقول بقسوة
( اذن على الأقل اقبلي ثمن تنظيف البيت في المرة السابقة .... فقد خرجت سريعا دون أن تتقاضيه )
تشنجت وعد .... و أخفضت ذراعيها المكتفتين و هي تتلقى اهانتها و كأنها قد تلقت صفعة ... فأخذت تتنفس بهياج ... ثم قالت أخيرا بصوتٍ كالجليد
( لا تتعبي نفسك سيدة منيرة ..... سيف يحاسبني دائما )
انقبضت شفتي منيرة ... و تجمدت أصابعها فوق الأوراق المالية , قبل أن تقذف بهم في وجه وعد بقوةٍ لم تصبها بضرر لكن على الرغم من ذلك أغمضت وعد عينيها و كأنها طعنت للتو ... ثم سمعت صوت أقدام منيرة و هي تخرج من الغرفة و على الأرجح من المكان كله ....
فتحت وعد عينيها بألم و هي تنظر للغرفة الخالية من حولها .... ثم جلست بعينين مجروحتين الى أقرب كرسي و هي تنظر الى الأوراق المبعثرة أرضا ....
رفعت هاتفها بيدٍ مرتجفة .... ثم طلبت رقما , لتقول بعد فترة
( هل يمكنك أن تقلني اليوم ؟؟ ...... أحتاج لأن أتكلم معك ... )
استمعت قليلا ... ثم أومأت قائلة
( حسنا ...... لا بأس ..... )
.................................................. .................................................. ................................
أوقف سيارته في نفس ذلك الموقف على البحر الذي وقفا به سويا ذات يوم ... حين أعادها اليه بالقوة ...
أما الآن فلا قوة .... لقد هاتفته تخبره بصوتٍ فاتر أنها تريد لقاءه ... و الكلام معه ... إنها المرة الأولى , و لكل شيء بداية ....
استدار اليها ... ينظر الي جانب وجهها الكلاسيكي الرقيق و هي جالسة بجواره في السيارة ... و الذي تحيط به تلك الهالة الناعمة من الشرود و الضعف و الحزن ...
كانت تنظر الى البحر هائمة في أفكارها .... رافعة شعرها عن عنقها في شكلٍ عشوائي جعل منها أشبه بمضيفة أنيقة مهذبة .... كم يتوق اليها ... و كم يحب ذلك التوق الخائن ...
يشعر بالرغبة في العض على عظامها الهشة حتى تتوجع لربما شعر بها حينها تنتمي لعالم الأحياء و ليس ذلك العالم الجليدي القاسي الذي تحياه ... تخطط و تدبر دون أن تنجح في جني أي شيء لمدة ستة و عشرين عاما ....
ليست ذكية تماما في خبثها ... و هذا ما يمنحه بعض الأمل في تهذيب تلك النفس الخبيثة ... ربما استطاع ذات يوم جعل نفسها مهذبة رقيقة ضعيفة كمظهرها الخارجي ...
لكن سواء نجح أم لا ... فهي له في كل الأحوال , و لن يستطيع أحد كبح رغبته في الحصول عليها ... تحت حمايته أو تحت أسره .... أيا كان ما ستختاره ....
همست وعد بخفوت و هي تنظر الي البحر
( هل يمكن أن أطلب منك طلب ؟؟ ......... )
رد سيف بهدوء وهو يتطلع الي شفتيها الراغبتين .... لكن راغبتين في شيءٍ من المؤكد أنه ليس نفس الشيء الذي يرغبه في تلك اللحظة
( اطلبي ...... كلي آذان مصغية )
قالت وعد بخفوت مستمرة في تحديقها للبحر
( أيمكننا أن نبدأ بفترة خطبة أولا ؟؟ ............... )
مجرد طيف ابتسامةٍ زين شفتيه ... لا يقارن بقرع الطبول العنيف في صدره .
لقد حصل عليها ....
, لكن طيف الابتسامة الصغيرة يلائم الكلمة الوحيدة التي نطق بها
( لا ......... )
استدارت اليه بوجهها الشاحب تنظر مجفلة الى وجهه الصلب , فهمست بخوف من تلك اللحظة المجنونة التي تحياها
( لماذا ؟؟ ...... الا يحق لي ؟!! ... )
تجاهل السؤال الثاني و رد على السؤال الأول
( لن تبقين بمفردك فترة أطول ....... )
همست وعد تقول بانقباض
( لن اكون بمفردي طويلا .... سرعان ما سيخرج والدي من المشفى ... )
ضحك سيف بخفة ليقول ساخرا
( طمئنتني ............ )
همست وعد
( من فضلك ..... الا ترى أن الأمور تربكني !!! .... أحتاج أن أتأقلم مع الوضع )
قال سيف بهدوء
( لا ترهقي نفسك بالتفكير الطويل أو محاولة التأقلم .... اتركي الأمور للقدر كي يسيرها ,, فالأمر المحتوم لا مهرب منه .... )
اهتزت ضحكة خالية من اي مرح في حلقها و هي تقول بتوتر
( يا له من تعبير مريح في تلك اللحظة !! ..... )
قال سيف ببساطة
( اخبرتك الا تقلقي .... الم تعتمدي علي حتى الآن في كل شيء ؟!! .... اذن يجب عليك اخيرا أن تتعلمي الثقة بي )
رفعت وعد وجهها بسرعةٍ اليه , ثم قالت دون ان توقف نفسها
( و هل تثق بي ؟؟ ........... حتى الأمس كنت فاقدا الثقة بي )
لم يرد سيف على الفور لكن ملامحه الجامدة اعطتها الجواب ... ثم قال بخفوت
( علي أن أتعلم الثقة بكِ .......... )
ابتلعت ريقها و هي تخفض وجهها .... لقد تصرفت و قررت و أتت اليه تخبره دون أن تخبر كرمة .... لأنها تعرف أنها ستمنعها و أن اقتضى الأمر بالقوة ....
همست وعد بقلق
( لا أستطيع أن أتزوجك الآن ..... والدي ووالدتك ... و بيتي ... و بيتك .... المشفى و العمل و التدريب .... )
رفعت وجهها تقول بعفوية و كأنها تخاطب غريب عنها تماما
( بالمناسبة شكرا على التدريب .... و الفرصة .... )
لم يرد عليها و هو ينظر اليها بصمت ... تجمد ملامحه يوترها و يخبرها رأيه بها بصراحة , فعادت لتخفض وجهها بعد أن تذكرت هجومها بسبب الوظيفة ....
ظلت تنظر الى أصابعها المتلاعبة ببعضها على حجرها ... ثم همست
( لن أستطيع أن أتزوجك الآن ....... فإن كان هذا لا يناسبك ... فانا ..... )
قال سيف قاطعا
( ما رأيك أن نعقد قراننا لفترة شهر مثلا .... الى أن نقوم بتسوية أمورنا ... )
رفعت وجهها اليه و هي تقول بأمل ضعيف
( اذن ما الفارق بين عقد القران و الخطبة ..... لنرتدي الخواتم فقط الى أن .... )
صمتت فجأة و ارتبكت بخوف و هي تقول برعب ووجهٍ أحمر
( لم أقصد أنني أريد خاتم .... لا أريد طبعا .... أقصد ... لم أذكر ذلك بسبب .... )
قاطعها سيف قاطعا
( سنرتدي خواتم و نخبر الجميع ..... هل هذا يرضيك ؟؟ .... )
احمر وجهها و تجاهلت السؤال ثم همست برجاء
( اذن هل وافقت على الخطبة ؟؟ ..... )
رد قاطعا
( لا ............)
هتفت وعد بتوتر
( و ما الفارق ؟!! ........ )
قال سيف بهدوء
( كي أستطيع أن أتقرب منك ...... )
ذهب الإعتراف الهادىء بأنفاسها فهمست دون وعي و هي تنظر من النافذة
( ياللهي .......... )
ساد بينهما صمت مخيف ... و سيف يتطلع الى صدرها اللاهث و الذي يثير جنونه مع كل خفقة توتر تربكها ... فقال يبعد عنه فقدان السيطرة
( هل أربكتك ؟؟ ...... )
لم ترد على الفور ... و لم تنظر اليه و هي تهمس ناظرة من نافذتها
( و ماذا تظن ؟؟ ....... )
قال سيف بهدوء
( حسنا أستطيع أن ألطف الأمر قليلا ... و أخبرك بسبب اضافي في مروري عليك كل حين ... جلب ما تحتاجين و الإطمئنان عليك بما أنك بمفردك حاليا .... )
كانت تسمع صوته و ياللعجب نجح في طمأنتها قليلا .... و هدأت دقات قلبها قليلا , قبل أن يتابع بخفوت
( و أثناء ذلك سأتقرب منك .... و حينها تجرأي على ذكر لفظ الحبيبة السرية ذلك مجددا .... لأريكِ معناه على الطبيعة )
لم تنظر اليه ... بل بالغت في ادارة وجهها عنه لكنه رأى احمرار أذنها بشدة ... فابتسم رغما عنه ...
شيء ما يرجعه بالقوة للبداية ... شيء يترجاه أن ينسى من تكون و ماذا فعلت و ماذا تخبىء ... و يستمتع فقط بكونها معه .... و كونها ستكون له .... أخيرا له .....
اشتعلت مشاعره بلحظة ... و احتقن صدره بالكثير من الصور المقبلة ... لذا قال بصوتٍ أجش
( هل هناك طلبات أخرى ....... )
همست وعد بقنوط دون ان تنظر اليه
( انت لم تقبل بالطلب الأول .......... )
قال لها بخفوت يكاد يكون همسا
( لقد وصلنا الى حل وسط ..... وهكذا ستسير الامور فيما بعد )
عضت وعد على شفتها لتقول بفتور
( شيء واحد بعد ........ )
قال سيف رافعا حاجبه بسخرية
( تفضلي ..... طلباتك أوامر ............ )
عضت على شفتها أكثر حتى كادت أن تدميها ... و هي تقول متجاهلة سخريته
( التدريب و العمل من بعده ..... هما مهري الذي لن أتنازل عنه ....لقد تعبت كثيرا حتى حصلت على هذه الفرصة ....)
ضحك سيف عاليا بطريقة جعلتها ترتجف ... ثم قال أخيرا بجفاء لا مرح فيه
( هل ستخبرينني ؟!! ........ انا اتذكر دخولك المكتب بشراسة و كأنك سترثينني بالحياة مطالبة بوظيفة قد تتطلب خبرة تساوي سنوات عمرك لمن هو بطيء قليلا .....و ما فعلته بعدها )
بهتت ملامحها و ارتجفت شفتيها ... و شعرت بخزي فظيع مع شعور بالإهانة في نفس الوقت .....
لكنها قالت متابعة بقسوة
( و ذلك الأمر السابق عن منعي من الخياطة ..... اعتبره ملغيا و لا نقاش فيه ... الخياطة هي حياتي , هي الشيء الوحيد الذي احبه و اخترته بنفسي ..... و لن أتوقف عنها ابدا )
اشتدت ملامحه و قست بشدة وهو يتذكر ما كادت أن تتعرض له .... فقال لها بصرامة
( اسمعيني جيدا الآن .......... )
وجدت نفسها تصرخ بهيستيرية في وجهه
( اسمعني أنت ....... انا لن أتوقف عن الخياطة في سبيل نزوتك ...... أبدا .... )
صمت تماما بعد أن صرخت بعبارتها المجنونة .... فارتجفت و صمتت هي الأخرى تنظر الى ملامحه برهبة .... و أخذت سرعة تنفسها تتزايد و خافت ان يتصرف تصرفا أهوجا فجأة كما اعتادت منه ...
الا أنه حين تحرك في مقعده .... تراجعت بسرعة تلصق ظهرها بباب مقعدها و هي تنظر اليه بخوف واضح .... لكنه قال بصوتٍ فاتر
( هل أنتِ من تخيطين ثيابك ؟؟ ....... )
لم تتوقع منه رده الخافت الهادىء على الرغم من عينيه اللتين تحولتا الى مخيفتين بعد ان نطقت كلمة نزوة بتلك الهيستيرية ....
الا انها ابتلعت ريقها و هي تومىء برأسها دون ان تنطق بحرف ..... فأومأ هو الآخر متفهما ... ثم قال أخيرا بصوتٍ غامض
( هل لديكِ أوامر أخرى ؟........... )
هزت رأسها نفيا و قد انقبضت روحها من كلمة أوامر ... فقال بصوتٍ حاسم
( عقد قراننا سيكون بعد الغد ..... مساءا ببيتك ..... )
فغرت شفتيها بذهول و قد ادركت للتو حجم التهور الذي ألقت نفسها به .... لكنها همست برعب
( من سيكون وكيلي ؟؟ ....... )
قال سيف ببساطة و كأنه يتكلم عن الطقس
( امام الجامع في الحي ....... )
همست وعد بعدم تركيز
( جيد .............. )
فقال سيف بهدوء
( جيد ........ أما أنا فليس عندي غير شرط واحد )
همست وعد بخوف
( ما هو ؟........................ )
نظر الي عيينيها مباشرة ليقول بصوتٍ هادىء لكن أرعبها في نفس الوقت
( عائلتي ....... خط أحمر , المرة المقبلة التي سأذين فيها احداهن , سيكون حسابك معي عسير .... يختلف كليا عما حدث بالمرة السابقة ..... فأنا لا أبقى هادئا مرتين ..... )
فغرت وعد شفتيها .... هل يرعبها ؟!!! ...... و هل كان هادئا في المرة السابقة ؟!!! ... اذن ماذا سيفعل ان هي تجرأت و أخطئت مجددا لا سمح الله !!! .........
قال سيف بصرامة يقاطع أفكارها
( هل أنتِ موافقة على الشرط ؟؟ .......... )
أومأت برأسها دون رد .... فقال أخيرا
( جيد ........... من تحبين أن يكون معك في عقد القران ؟؟ ........ )
كانت تحاول قراءة شفتيه ... محاولة اللحاق بسرعة دوامته التي ألقت نفسها بها دون جدوى .... ثم استوعبت أخيرا ... ففكرت بعدم تركيز في
كرمة ؟!! ..... كرمة و حبها الأسطوري لمحمد الذي يتحدى كل صعاب !!!
ملك ؟!! ..... التي لم تكد تتعرف عليها بعد لتفاجىء بزواجها بتلك الطريقة البخسة !! .... أتجرؤ على أن ترفع وجهها اليها فيما بعد !! ....
همست أخيرا حين وجدته نافذ الصبر
( لا أحد ............ )
عبس سيف وهو يسألها يتأكد
( متأكدة ؟!! .......... )
همست وعد أخيرا بخفوت
( من سأحب أن يرى تلك الهزلة ؟!! ......... )
اشتد ضغط شفتيه و قست عيناه من قسوتها .... لكنه لم يفعل شيء سوى تحريك السيارة بسرعةٍ قصوى منطلقا بها بعد أن قال بهدوء
( جيد ............ )
.................................................. .................................................. .............................
الليلة التالية كانت جالسة بجوار والدها .... تنظر اليه بفتور ... ينام قليلا و يستيقظ قليلا ....
و حين يستيقظ فانه يتأملها طويلا و كأنه يتعرف عليها من جديد .....
انتظرت وعد الى أن فتح عينيه .... فظلت تنظر اليه قليلا ... ثم قالت بخفوت
( أنا سأتزوج غدا يا أبي .......... )
لم يظهر رد فعل على وجهه المغضن وهو ينظر اليها من عينيه الرماديتين و قد زاد الزمن من رماديتهما , فتابعت بهدوء
( سأتزوج سيف الدين فؤاد رضوان ..... كما رغبت دائما )
أيضا ينظر اليها بصمت , فتابعت
( لكن لا تطمح كثيرا ...... فعلى الأغلب لن يدوم هذا الزواج طويلا , على الأرجح ستكون نزوة ... و حتى إن لم تكن فأنا لا أنوى أن أستمر به كثيرا ..... لأنني تعبت .... أنا تعبت .... و أنا أرغب أن أرتاح ولو قليلا ....
أحتاج لمن يحملني قليلا يا أبي .... فقد تورمت قدماي ..... )
تنهدت بقوة و كأنها تزيح حملا ثقيلا عن ظهرها ... ثم نهضت قائلة بخفوت
( لن أستطيع زيارتك غدا ... لأني سأتزوج في هذا الوقت .... لكني سآتي اليك بعد غد )
اتجهت الي الباب و هي تقول بخفوت
( الى اللقاء يا أبي ..... لقاء غير اللقاء ..... ووعد غير كل الوعود .... )
.................................................. .................................................. ................................
جلست وعد على أريكة بيتها و هي تنظر اليه ينهي بعض الإجراءات مع المأذون ... و قد أحضر معه اثنين لا تعرفهما من الشهود .... و الأستاذ صلاح يقف معهما مبتسما ودودا على الرغم من أن علاقتها به ليست بمثل تلك القوة ... الا أنه يبدو سعيدا و كأنه والد العروس بالفعل ....
لم تدري لماذا قررت أن ترتدي ثوبا رغم أنه لا مناسبة حقيقية كي تحتفل بها ... الا أنها صممت ان تبدو نوعا ما كعروس
فارتدت فستان خاطته بنفسها ذات يومٍ تجلت فيه .... كان ذا صدرٍ محكم و تنورة بسيطة منسدلة من الشيفون تعلو الخصر ....
كان سر جماله في بساطته ... و لونه الكريمي الشاحب
اما شعرها فتركته طليقا .... و جمعت جانبيه بمشبكين بسيطين من الؤلؤ رخيصي الثمن ابتاعتهما من احد الباعة الجالسين على أحد الأرصفة ....
لكن حين انشبكا في شعرها لم يظهر عليهما مصدرهما .... بل بديا جميلين للغاية ....
لم تكن تمتلك ادوات تجميل و لم تهتم .... بل تركت نفسها شاحبة و بدت تليق بلون الفستان بدرجةٍ رائعة ..... و اما قدميها فكانت ترتديان حذاءه الارضي الكريمي .... أول حذاء اشترته بنقود تنظيف بيته ....
كان يتحدث مع الرجال ... و عينيه مثبتتين عليها ... تشتعلان من حينٍ لآخر بدرجةٍ عنيف تجعلها تنتفض بداخلها ...
الى أن قال مأذون فجأة ...
( هيا لنبدأ ..... توكلنا على الله ........ )
مر عقد القران امام عينيها و كأنها تشاهد فصلا من مسرحية .... و ما أن شعرت بأنها على وشك الإنهيار حتى رفعت عينيها الى عيني سيف تطلب الثقة ..... فتلقتها عيناه بقوةٍ و أسرتها بقربه ... الى أن شعرت بدقات قلبها تهدأ قليلا ...
استمر عقد القران الى ان انتهى امام عينيها و فجأة سمعت الجميع يلقون بتهنئاتهم ... نظرت الى باب الشقة المفتوح فوجدت ان الكثير من ساكني الxxxx كانو ينظرون من الباب المفتوح ... و اكوابٍ حمراء لا تعلم مصدرها في ايديهم ... حتى ان بعضهم دخل و جلس و كأنه حفل افتتاح احد المحلات التجارية و الدعوة عامة !!!.... لكن لا زغرودة واحدة حتى .... صمت و بعض الهمهمات ...
رفعت وجهها حين شاهدت سيف يقترب منها بعينين مفترستين جعلتاها ترتجف اكثر الى ان وصل اليها فرفع وجهها اليه و هي جالسة .... تنظر اليه بعينين كبيرتين للغاية , اشعلتاه كمفرقعات العيد ...
فانحنى اليها ببطىء ليهمس امام وجهها
( مبارك يا لعبتي ....... )
همست بشيء ما بدا كسعلة مختنقة .... فانحنى اكثر ليطبع شفتيه على وجنتها ... اليمنى ... ثم اليسرى ... و أطااااال في اليسرى حتى همست بتشنج
( الناس .......... )
قال سيف بهدوء يهمس في اذنها
( تبا لهم ............. )
ابتسمت قليلا بارتباك بينما أحمر وجهها خجلا ... ثم رأته ينسحب من أمامها ليتجه الى المأذون و الشهود و بدأ الجميع في الإنصراف واحدا تلو الآخر و دقات قلبها تتزايد مع كل منصرف ...
ترى هل سيصدق في كلمته لها ؟!! .... يالهي ... لقد تزوجت دون أن تخبر كرمة و ملك ... لديها شعور بالخزي كان أكبر من أن تخبرهما .... و كأنها تبيع نفسها لقاء نزوة عابرة ....
هل تعترف لنفسها أنها أبدا ما حدثت نفسها بأمور الزواج ... و أنها ما تخيلت هذا الوضع أبدا ....
و الآن فقط علمت أهمية الأم في موقف كهذا .....
ماذا لو أصر ؟!! .... ماذا لو كسر وعده ؟!! ... هل تمتلك الحق في صده أم ماذا ؟!! .... و هل الصراخ هو الحل الأمثل ؟!! .... إن كانت قد فشلت في الصراخ المرة السابقة .... فهل تنجح وهي زوجته ؟!! ...
انتهى الجمع ... و بقي الأستاذ صلاح ... ينظر بتذمر الى سيف , وكأنه ينتظر أن يغادر قبله .... الا أن سيف كان واقفا بعناد البغال ينظر اليه عله يستأذن و يرحل أخيرا ....
تذمر الأستاذ صلاح ليقول بخشونة
( ألن تغادر يا ولد ؟!! ...... )
كتف سيف ذراعيه وهو يقول بتحدٍ صلب
( سأبقى قليلا يا سيد صلاح .... أريد وعد بشيء هام ..... التي تصادف أن تكون عروسي بالمناسبة ..... )
احمر وجه وعد بشدة ... الا أن ضحكةٍ مرتجفة أفلتت منها رغما عنها .... ياللهي أنها تضحك كالمهووسة على الرغم من أن هناك دموعٍ خائنة تخز عينيها ....
تحرك الأستاذ صلاح أخيرا خارجا متذمرا غير راضيا .... ثم أغلق سيف الباب خلفه أخيرا متنهدا بنفاذ صبر ... ثم لم يلبث أن استدار اليها ووقف .....
وقف مكانه يلتهمها بعينيه كما يشاء ... يأخذ وقته كاملا ... يشبع نظرته بطرقٍ لم تتعرف عليها قبلا ....
ثم شاهدته يخلع سترته ببطء ليتركها تحط على مقعد قريب بينما عيناه مثبتتان عليها دون حركة .... فانتفضت وعد قليلا تقول باتزان أكثر مما رغبت
( ارتدي سترتك و اخرج من فضلك ..... )
توقف مكانه ليميل برأسه مستمعا و كأنه يتأكد مستفهما
( ماذا ؟!! ................. )
أخفضت وعد وجهها و هي تحمر خجلا و تعض على شفتها التي جرحتها دون شك ... فقالت
( سيف ... سيف ...... )
كان قد وصل اليها حتى شاهدت ركبتيه أمامها .... فتجرأت و رفعت وجهها اليه , لتجد لا ينظر اليها ..... بل ينظر حوله بشرود و نظرة عميقة قليلا .... و بدا ... بدا .... مرتبكا ....
ثم نظر اليها فانتفضت قليلا من ملامحه الحزينة نوعا .... ايعرف الحزن ؟!!! .... لا تظن ... انها تتوهم بلا شك ....
اقترب سيف ليجلس بجوارها .... ثم أمسك بيدها ارتعشت وعد و هي تبتعد عنه قليلا في جلستها الا أنها تركت ذراعها ممتدة و يدها الصغيرة في كفه السمراء القوية ...
نظرت الى كفها بوجهٍ محمر وهي تراه يفردها اصبعا اصبعا فوف كفه و كأنه يقيس حجمهما و يقارن بينهما ...
كانت مفتونة نوعا ما و هي ترى اصبعه يسير فوق كل اصبع من أصابعها ....
فهمست وعد بخفوت شديد
( لم يأتي أحد من أسرتك ......... )
قال بهدوء وهو مستمرا في رسم كفها .... و بدا غير راغبا في التكلم بهذا الموضوع ... فهمست وعد بأسف
( أنا آسفة ..... لكنني حذرتك من قبل .... )
قال سيف بعد فترة ... بهدوء
( ربما لو كنتِ تريثتِ قليلا قبل فعلتك الشنيعة لكان الأمر بدا طبيعيا أكثر ........ )
حاولت سحب يدها الى أنها اكتشفت انه يدس حلقة ذهبية بسيطة في اصبعها ... ثم تلاها بخاتم رقيق جميل ...
نظرت وعد بذهول الى المحبس الذهبي و الخاتم في اصبعها و الذي بدا أكثر جمالا .. فهمست غير مصدقة
( سيف !!! ..... ما الذي ؟!!! ......... )
مد اليها حلقة فضية وهو يقول بخشونة مقاطعا
( البسيني ايها ............ )
مدت يدا مرتجفة و هي تمسك المحبس الفضي منه , الا أنها من شدة ارتباكها أسقطت المحبس أرضا .... فانحنت تجلبه الا أنها شعرت بيده تنزلق على ظهرها بنعومة فاستقامت جالسة بوجهٍ احمر و هي تلهث قليلا ... ممسكة بالمحبس هامسة بلهجة أمر خشنة خارجة عن السيطرة
( ها هو ...... هات يدك )
مد اليها كفه القوية وهو يقترب منها في جلسته حتى لاصقها تماما قائلا بطاعة
( تفضلي .............. )
تناولت يده بين يديها و أخذت تدس الحلقة في اصبعه بالقوة ... بكلتا يديها و هي تفشل ... حتى ساعدها أخيرا فأفلحت ...
لم تترك يده على الفور وهي تتأمل الخاتم في اصبعه .... فهمست أخيرا
( لم نخبر أحدا بعد ...... هل ستذهب العمل بها ؟؟ ..... )
لم يرد فرفعت وجهها اليه لتجده ينظر اليها بشوقٍ سافر .... فتركت يده و كأنها أحرقتها ... ثم انتفضت واقفة بقوة و هي تهتف
( أتريد أن تشرب شيئا ؟؟ ........... )
نهض سيف هو الآخر مندفعا ليعتقل خصرها بين ذراعيه في حركةٍ واحدة يرفعها عن الأرض كالدمية
وهو يقول بخشونة و صوتٍ أجش بدا كزمجرةٍ خشنة
( نعم يا لعبتي ......... أريد أن أشرب )
و قبل أن تصرخ و هي تتلوى بساقيها مطوحة بفستانها الهفهاف من حول ساقيه ... كانت قد انقض على شفتيها كاتما كل صرخاتها و اعتراضاتها
أخذت وعد تصرخ صرخات مكتومة و هي عاجزة طائرة فوق الأرض ... ذراعيه تكادان أن تقسمانها الى نصفين ... بينما هو يرتوي و يرتوي و يرتوي .... دون توقف حتى تاهت عنها الصرخات و ذهبت أنفاسها في مهب الريح ... و ارتفعت ذراعاها لتدعم نفسها بلفهما حول عنقه بينما أغلقت عينيها تعيش تجربة لم تحيا مثلها من قبل ... تجربة متاحة لها تماما و مشروعة .... لا تحتاج الى سؤالٍ او تعليم .... بل فقط الى الفطرة في التعرف الي شريكها ....
أنزلها سيف أرضا أخيرا دون أن يحرر شفتيها ... ثم مد يده ينزع المشبكين و يرميهما أرضا ليبعثر شعرها بكلتا يديه ... ثم يحيط بهما وجنتيها كي يعمق قبلته بها أكثر بينما يدور معها وحولها و هي كذلك ....
حررت شفتيها قليلا تهمس بعذاب و خوف ... بصوتٍ يثير شفقة الحجر
( سيف ......... أرجوك .... أرجوك ...)
همس بخشونةٍ بين شفتيها
( ماذا ؟؟ ........... ماذا تريدين ؟؟ .... )
همست بعد فترة جنون بلا صوت تقريبا و كأنها تطفو فوق سحابةٍ تطوف بسرعة البرق
( ق .... قلبني مجددا ....... )
جذبها اليه بقوة ينفذ طلبها بإخلاص و بجنون أكبر حتى كادت أن تفقد وعيها بصدق هذه المرة و ليست كالمرة السابقة ... لم تعش تلك اللحظات في أي حلم من قبل .... لم تتخيل ذلك العمق الذي قد تصل اليه ....
لم تعش أي نوع من المشاعر من قبل .... حياتها كانت جافة و قاسية بدرجةٍ تنخر العظام .....
أما هذه المشاعر و هذا الدفء لم تعرف مثله قبلا .......
شعرت بيده تفتح سحاب فستانها ببطء و تتلمسها بمحبة رقيقة تكاد تحرق بشرتها .... فاستطالت على أطراف قدميها كي تصل اليه أكثر ..... و هي تشعر بنفسها تلتهم حلوى لم تذقها من قبل ....
اغمض سيف عينيه أخيرا !!.... حتى الآن لم يكن قد أغمضهما .... لتدرك فجأة أنه قد سلم حصونه و كل دروعه حينها ... و ما أن جذبها اليه أكثر ..........
حتى ارتفع طرق رقيق على الباب ..... لم يسمعاه للوهلة الأولى .... لكن مرة بعد مرة رفع سيف رأسه بعنفٍ أدار رأسها بقسوة وهو يتمتم بجنون
( لو كان السيد صلاح هذا فسأقتله .......... سأقتله ..... انه يتعمد ذلك )
احمرت وجنتاها حتى بدت كشعلتين صغيرتين وهي تبتعد عنه خطوة .. متعثرة في فستانها الطويل بينما تلهث بصورةٍ اعنف من لهاثه .... تنظر اليه عاقدة حاجبيها بصورة مضحكة ....
فهمس سيف يلهث بقلق
( هل أنت بخير ؟؟ ...... إياك و الإغماء الآن .... فأنا لن أكون مسؤولا عن النتائج .... )
تعالى الطرق مجددا قبل أن ترد ... فهتف بخفوت و الشياطين تتلاعب في عينيه الشرستين
( تبا لذلك .... تبا ..... تبا ....... )
مد يديه يعدل من خصلات شعره الثائرة و من قميصه .... ثم اتجه الي الباب كي يفتحه بعنفٍ مقصود اهتز له زجاج الشراعات و كاد أن ينكسر .....
الا أنه ما أن فتح الباب حتى توقف عابسا بحيرة و جنون وهو يرى فتاة شابة فزعة تتراجع مع منظره و طريقة فتح الباب العنيفة ...
كانت فتاة جميلة ذات ضفيرة طويلة عسلية الون تصل الى خصرها ... تنظر اليه برعب ثم تهمس قلقا
( أنا آسفة يبدو أنني أخطأت في العنوان ...... )
صمتت تتحقق من ملامحه قليلا .... ثم همست بعدم فهم
( ألست أنت ...... السيد سيف !! ..... أليس هو هذا بيت وعد عبد الحميد العمري ؟!! )
كانت مالوفة اليه لكنه لم يتعرف اليها وهو يقول بخشونة
( من أنتِ ؟!! ............ )
الا أن سحابة شيفونية اجتازته كالبرق من خلفه لتتجاوزه و تقف أمامه بخطوةٍ هامسة بفزع
( ملك ؟!! ...... ماذا تفعلين هنا في هذا الوقت ؟!! ..... هل أنتِ بخير ؟!! ..... )
كانت ملك تنظر الي هيئة وعد المشعثة .... و تنظر الي سيف الذي يماثلها هيئة من خلفها .... برعب و ذهول و كل معاني الرفض .... متشبثة بحقيبتها البسيطة من الجينز الملون .. و التي تحتوي على بيجامتها الوردية ...
ثم همست باختناق
( لقد ... لقد أتيت لأبيت معك الليلة كما طلبتِ مني من قبل ..... لكن على ما يبدو أنني قد أتيت في وقتٍ غير مناسب )
ارتجف فم وعد و غامت عيناها بسحابةٍ من الدموع.... بينما استغل سيف فرصة سانحة ليمد يده و يغلق سحاب فستانها بحركةٍ خاطفة .... وهي تهمس مبررة باختناق
( سيف ..... إنه ..... لقد تزوجنا الليلة ..... )
اتسعت عينا ملك أكثر .... و هي تهمس
( تزوجتِ ....... الليلة !!! ...... أنا ...... أنا .... )
أطرقت برأسها قليلا و بدت تائهة عن أمها ... و هي تهمس عدة كلمات لنفسها ... ثم همست بصوتٍ مسموع
( كم أنا غبية ...... أنا ...... )
رفعت وجهها لتقول لوعد بلهجةٍ باهتة
( مبارك ...... مبارك ....... كم أنا .......... )
ابتلعت كلمة غبية ... لتهمس أخيرا
( سعيدة من أجلك ....... لقد سعدت بالتعرف اليك يا وعد .... ووداعا مجددا ... )
ثم استدارت لتهبط الدرج جريا ..... بينما هتفت وعد و هي تخرج الى رأس الدرج منادية و هي تبكي
( ملك ..... ملك انتظري أرجوك .............. )
استدارت الى سيف و هي تشهق باكية بعنف .... فضمها تلقائيا الي صدره بقوة وهو يقبل شعرها ... ثم أبعدها عنه قليلا ليقول بخشونة
( سألحق بها ربما تمكنت من أن أقلها .......ادخلي أنتِ و لا تفتحي الباب لأحد الا أنا ... )
لم ترد وعد وهي تدخل الي البيت جريا مغطية وجهها بكفيها تبكي بعنف ... بينما وقف سيف مكانه ناظرا الي الجهتين ... ثم قال يشتم بصمت نازلا السلالم يزرر قميصه شاتما ... شاتما ... شاتما
( حسنا .... يوم عقد قراني على ابنة عبد الحميد ... في بيت عبد الحميد .... مع أخت ابنة عبد الحميد ...ماذا توقعت أفضل من ذلك !!! )
كان ينظر اليها بين الحين الآخرأثناء فترة الصمت الطويلة المحيطة بهما بعد أن أفلح أخيرا في اجبارها على البوح بعنوانها و الركوب معه ....
ابتسم قليلا رغم الكبت و الحنق الذي يشعر بهما ... فطريقة تشبثها بحقيبتها المشغولة يدويا ذات الألوان الحمراء و البرتقالي ... قريبة للغاية من نفس حركات وعد ...
تذكر طريقة تشبثها بالكيس البلاستيكي الذي كان يحتوى على جلباب التنظيف الرقيق حين أقلها أول يوم نظفت به بيته ... رغما عنه شعر بغصةٍ غير مرغوب بها من تذكر هذا اليوم ...
أما المرة الثانية فلم يشعر تجاهها سوى بالغضب و الإحباط .....
أعاد تفكيره بالقوة من وعد الى ملك الجالسة بجواره .... و على الرغم من رغبته في خنقها و بشدة , الا أن شعورا رقيقا انتابه تجاهها ... شعورا بالعطف من ذلك الموقف الذي لا تحسد عليه و الذي وضعتها به وعد ...
الى متى سيظل يكتشف منها من القسوة ما لم يعرفه بعد ......
زم شفتيه و هو ينظر الي الشابة الصغيرة المرتبكة و التي هي بالكاد أكبر قليلا من مراهقة ...
تتشبث بحقيبتها و تفرك أصابعها مطرقة برأسها ....
قال سيف أخيرا بهدوء
( هل أنتِ بخير ؟؟ ....... )
انتفضت مكانها و هي تنظر اليه و كأنما قد نست وجوده تماما ... و أخذت تنظراليه بضعة لحظات بحاجبين منعقدين و شفتين ترتجفان ... ثم همست و هي تعيد وجهها الى حقيبتها
( نعم ...... شكرا لك ..... )
عاد سيف ليبتسم قليلا .... إنها تقريبا وعد .... وعد في ولى مرات رؤيته لها ....
تمتلك الكثير من حركاتها بحكم الوراثة .... على الرغم من عدم وجود أي تشابه شكلي بينهما ....
قال سيف مجددا يبدأ الحوار
( لا تبدين بخير تماما ........... )
لم ترد على الفور .... ثم همست بتوتر يكاد يخنقها حتى أنه استشعر سخونة وجهها الأحمر المسكين المرتبك
( أنا ..... أنا آسفة ...... أنا آسفة أنك الآن هنا تقلني بينما الليلة ...............الليلة .... .... )
همس بداخله متذمرا محتقنا بكبت
"نعم ..... الليلة .. الليلة ..... و ياله من توقيت !! .... "
لكنه سحب نفسا خشنا وهو يقول محاولا التكلم بصوتٍ هادىء
( لا بأس هوني عليكِ ...... الليلة كانت ليلة عقد قراننا ليس الا .... )
من يحاول أن يقنع ؟!! ..... اندفع هذا السؤال هادرا بداخله في موجات ساخنة وهو يتذكر تلك اللحظات المجنونة له مع خلابة العينين ....
اغمض عينيه لحظة و رجائها له كي يقبلها من جديد لا يزال يعصف بكيانه و كأنها ..... و كأنها كانت تتلهف الحب .... ليس منه بالضرورة .... لكنها كانت تتلهف تلك المشاعر التي بدت جاهلة بها كلية ...
كيف كان سيكبح جماح نفسه في مثل تلك الحالة ؟؟ !!.... كيف !!
غضب غامض مختلف كان يهز نقطة عميقة بداخله .... هل كانت لتتلهف الحب من سواه في نفس الموقف ؟؟؟ .....
و بنفس الدرجة ؟؟ ...
تحول الغضب الي استياء حارق كالأسيد أوشك أن يتآكل به صدره ....
هل يكون ممتنا لتلك الصغيرة ذات الضفيرة .... أم حانقاعليها ؟!! ... هو نفسه لا يعرف !!
نظرت اليه ملك بطرف عينيها و هي تعض شفتيها تحاول بصعوبة أن تكتم عبارة
" لم يكن هذا هو ما لاحظته ..... "
لكنها همست باختناق تحاول ابعاد احتراق الخجل عنها ....
( لم أكن أعلم ذلك ..... و لو علمت أن اليوم يوم عقد قرانكما لما أتيت متطفلة بهذا الشكل المخزي )
شعر سيف بالحرج بسبب فعلة وعد القاسية في إخفاء الأمر عن أختها .... ثم قال بخفوت محاولا التسرية عنها وهو يشعر بغرابة الوضع الذي يحياه حاليا
( لقد حدث كل شيء بسرعة ..... لم نتقصد الإخفاء .... لكن الظروف كانت معقدة قليلا .... )
نظرت اليه ملك بصمت ثم همست تسأله بفتور
( هل أخفيت الأمر عن عائلتك كذلك ؟؟؟ ......... )
نظر اليها نظرة خاطفة .... ثم أعاد نظره الي الطريق قائلا باختصار لا مفر منه
( لا ........ )
أومأت ملك برأسها في صمت لم يكن يحتاج الى ذكاء كبير ليعرف منه أنها قد أدانت وعد و انتهت ... و الحقيقة أنه لا يلومها ....
سألها محاولا التخفيف من حدة الموقف
( لماذا أتيت متأخرة هكذا على كل حال ؟؟ ....... )
همست ملك و قد اشتعلت وجنتاها خجلا
( لا أستطيع أن آتي قبل ذلك ...... أنا أعمل و كان لا بد لي أن أغلق المحل أولا ..... )
سألها سيف مبتسما
( و ماذا تعملين ؟؟ ............ )
همست ملك بخجل
( بائعة في محل ورود ......... )
ابتسم سيف يقول
( يليق بكِ .......... )
اخيرا ابتسمت كما يريد .... و هي تهمس بخجل
( شكرا ............ )
عاد الصمت بينهما ثقيلا .... قبل أن تقطعه ملك فجأة تهمس بفضول خجول متعثر
( هل ..... هل كانت قصة حب ..... بينكما ؟؟.... )
" هل كانت قصة حب بينكما ؟؟ ..... " يا له من سؤال بريء من فتاة حالمة !! .... و مع هذا تاه السؤال بداخل سيف طويلا ....
لكنه أجاب أخيرا بتلك الإجابة المحفوظة المختصرة التي ادخرها للجميع
( ربما لا تعلمين ..... لكن وعد تكون ابنة .... خالي ... لكننا تقابلنا مؤخرا )
اتسعت عينا ملك و ارتفع حاجبيها بدهشة بالغة .... لكنها قالت متفهمة
( حقا !! ....... ظننت .... ظننت أن لا أقارب لها مطلقا بخلاف والدها )
ابتسم سيف بهدوء ليقول
( و لماذا ظننتِ ذلك ؟؟ .......... )
قالت دون تفكير
( لأن الدار كانت لتبعث الى أقاربها ...... )
صمتت فجأة و هي تعض على شفتها برعب ... وهي ترى ملامح سيف التي اكتست غموضا و قتامة ... مفكرة برعب أن وعد ربما لم تخبره بموضوع الدار و الذي فضحته هي للتو ...
قال سيف بهدوء حين لاحظ صمتها
( لماذا توقفتِ ؟..... أنا أسمعك ...... )
ارتجفت ملك و هي تفكر كيف تهرب من هذه الكارثة ... الا أن سيف أنقذها سريعا حين قال بهدوء
( تابعي ..... أنا أعلم أن وعد كانت ضيفة دار رعاية في طفولتها .... )
تنهدت ملك ارتياحا قليلا ..... ثم نظرت من نافذتها قليلا ....... فقال سيف بخفوت و اهتمام
( و لكن كيف حدث أن انفصلت عنكِ و عن والدتك من الأساس ؟؟ ....... )
نظرت اليه ملك لفترة ثم همست مرتبكة
( ربما يجب أن تحصل على الإجابة منها ...... و ليس مني )
قال سيف محاولا كبت اهتمامه
( لا بأس حدثيني عن التفاصيل .... أنا أعرف المعلومات الرئيسية , أنا فقط أجهل ما يخصك )
زمت ملك شفتيها و هي تهمس باقتضاب
( نعم ..... أكيد ....... )
شعر سيف بالدناءة لأنه كان يستحثها بتلك الطريقة كي تبوح بما يريد .... لكنه قوى مشاعره رغبة منه في معرفة كل ما يخص وعد عبد الحميد العمري .... و التي تصادف أن تصبح زوجته اليوم ....
شعور عامر بالرضا غمر صدره .... الا أنه أجله قليلا ليقول لملك
( حدثيني عن افتراق وعد عنكما...... كيف حدث ؟؟ )
همست ملك بتردد
( لم تفترق وحدها ...... لقد كنت معها ؟؟ ..... )
عقد سيف حاجبيه قليلا بعدم فهم
( كنتِ معها ؟؟ ..... أين ؟؟ ...... )
قالت ملك بخفوت
( كنت أنا و هي نعيش عند جدتي ..... و قد سافرت أمي مع زوجها الجديد .... و بعد وفاة جدتي ... تنقلنا أنا ووعد لدى الجيران .... الى أن طالت الفترة , فأرسلو بنا الى دار الرعاية بعد أن فقدو كل أثر لأمي .... )
نظر سيف اليها مقطبا بشدة .... ثم أعاد نظره الي الطريق بقوة , ليقول بخشونة بعد فترة
( و بعد ذلك ؟؟ ........... )
ترددت ملك مجددا .... ثم همست بخفوت
( مكثنا في الدار عدة سنوات ... الى أن جاء والد وعد و اصطحبها معه ...... )
ازداد عبوس سيف بدرجة مخيفة ... ثم همس بلهجة خطيرة
( و تركك هناك ؟؟!! ....... )
ترددت ملك أمام نظرات غضبه ... ثم همست بعفوية حزينة
( لم أكن أخصه في شيء ...... الحقيقة أنني لا أستطيع لومه .... )
تمتم سيف شيئا ما بدا كشتيمة .... وهو ينظر غضبا ما بين نافذته الي الطريق أمامه ....
قال سيف بعد فترة بصوتٍ جاف
( و كم سنة بقيتِ هناك ؟؟ ........... )
ردت ملك بخفوت
( بقيت حتى سن الثامنة عشر ...... لقد تم نقل الأطفال من الدار القديم الي عدة دور , و لهذا لم تستطع وعد الوصول الي بسهولة لعدة سنوات .... لكنها كانت دار رائعة و نظيفة .... لقد أمضيت هناك سنوات سعيدة .... )
عبس سيف أكثر وهو يسأل
( تلك التي كنتِ فيها مع وعد ؟؟ ....... )
هزت ملك رأسها نفيا بصمت .... ثم همست باختصار
( قصدت الجديدة ........ )
قال سيف بنفس الاختصار
( و تلك التى كنتِ فيها مع وعد ؟؟ ......... )
نظرت ملك من نافذتها طويلا قبل أن تهمس
( لا أتذكر منها الكثير ...... و بعد رحيل وعد , لم أتذكر أي شيء من هذه الفترة مطلقا ... و لا أريد أن أتذكره ... )
كانت لهجتها الخافتة قاطعة ... و صادقة في نفس الوقت .... حينها ارغم سيف نفسه بالقوة على التوقف
من الواضح أن تلك الفتاة قد تعرضت للكثير .... لذا لم يرغب في أن يزيد الأمر سوءا اليها ... لذا صمت و صدره مثقلا من شيء ما ..... شيء أسود و كئيب ....
أفاق على صوت ملك تهمس أخيرا
( ها هو بيتي ..... لقد وصلنا .... )
نظر سيف بعد أن أوقف السيارة الى xxxx عريق أسفله محل ورود مغلق .... ثم نظر اليها بتفحص ليقول مؤكدا
( هل أنتِ بخير ؟؟ ........ )
أومأت خجلا دون أن ترد .... ثم قالت بخفوت و ضياع
( أنا آسفة جدا على ما سببته لك و تركك عروسك ليلة زفافك ..... لو كنت أعلم لما ..... )
قاطعها سيف مبتسما
( هيا اخرجي ..... لقد تأخر الوقت , هل الصعود آمن في هذا الوقت ؟؟ ..... )
ابتسمت ملك تهمس برقة
( آمن تماما ..... شكرا لك ...... )
أومأ سيف ... ثم قال بهدوء
( سأبلغ سلامك لوعد ......... )
اختفت ابتسامة ملك تماما .... و هي تهمس بقنوط
( الى اللقاء ............... )
خرجت بهدوء تحت أنظار سيف وهو يدرك بوضوح أنها خصته بكلمة " الى اللقاء " .... بينما خصت وعد بكلمة واحدة " وداعا .... "
لقد جرحتها وعد ..... و بشدة .....
ظل سيف مكانه الى أن أبصرها تدخل من باب الxxxx ثم حرك السيارة و ابتعد بها ...... عائدا .... بشوق .....
.................................................. .................................................. .......................
مدت ملك يدها بالمفتاح تحاول فتح باب غرفتها الصغيرة ... لكنها شهقت مرتعبة فجأة حين قبضت يد قوية على ذراعها تديرها اليه بالقوة ملصقا ظهرها الى الباب الخشبي ...
رفعت وجهها برعب تنوي الصراخ .... الا أنها أبصرت وجهه على ضوء شعاع القمر في تلك اللحظة الوحيدة التي شل فيها الخوف حنجرتها ... فتوقفت الصرخة في حلقها و هي تنظر اليه بعينين متسعتين و صدرٍ يلهث ...
بينما بدت على وجهه معالم شيطانية مخيفة .... و أنفاسه الهادرة تلفح بشرة وجهها بقسوةٍ مؤلمة ... تنبئها بأنه متهور غاضب ....
كانت تحاول النطق الا أن الرعب كان يصيبها بالخرس تماما , بينما تطوع هو قائلا بهمسٍ خطير مهدد
( من هذا اللذي نزلتِ للتو من سيارته ؟؟ ........ )
فغرت شفتيها قليلا بذهول ... ثم همست بخوف
( أترك ذراعي ......... )
شدد على ذراعها قليلا أكثر .... فاتسعت عينيها خوفا , قبل أن يحررها بقسوة ليحاوطها بذراعيه و هو يستند على الباب من خلفها بكفيه مكررا بقسوة
( من هذا الذي نزلتِ من سيارته يا ملك ؟؟ ....... )
همست تتظاهر بالدهشة على الرغم من خوفها منه
( عجبا .... الازلت تتذكر اسمي ؟!! ........ )
همس بحدةٍ وهو يميل عليها فأبعدت وجهها عنه بعمد و هي تتنفس بسرعة , فقال آمرا مخيفا
( من هو يا ملك ؟؟ ...... و أين كنتِ لتعودي معه في سيارته في مثل هذه الساعة ؟؟ ..... )
لم ترد على الفور و هي تتنفس خوفا ... مبعدة وجهها عنه قدر الإمكان .... ثم همست
( ابتعد من هنا قبل أن أنادي على سكان الxxxx و لن تغادر حينها المكان حيا ....... )
قال لها يميل بوجهه أكثر و هي تلصق رأسها الي الباب أكثر
( نادي عليهم .... هيا , فقد نعرف حينها مع من كنتِ حتى هذه الساعة ...... )
مدت كلتا يديها فجأة تدفعه في صدره دفعة قوية مفاجئة و هي تهتف
( أبتعد من هنا ...... أنا لا أكلم أغراب , و هم لا يملكون حق استجوابي ... )
وقف مكانه ينظر اليها بعينين حمراوين من السهر .... مخيفتين , على الرغم من أنها لم تخافه من قبل ...
ثم همس فجأة مترجيا
( من هو يا ملك ؟؟ ...... أجيبيني )
ظلت تنظر اليه في الظلام طويلا قبل أن تهمس من بين أسنانها بحرارة
( لطالما كنت طفلا متهورا أحمقا .............. )
أجفل قليلا وهو يتراجع برأسه للخلف ... الا أنها كانت قد هدأت قليلا , ثم قالت بلهجة حازمة
( ابتعد من هنا ...... و توقف عن مراقبتي , أتظن أنني لا أراك و لا ألمح سياراتك الفارهة الصافة في زاويةٍ مختلفة كل مرة ؟!! ...... )
صمت تماما و استطاعت أن تلمح صدمته في الظلام
فهزت رأسها مبتسمة بسخرية قاسية و هي تقول
( من يريد مراقبة أحد متخفيا لا يتعمد تغيير سيارة فارهة في كل مرة ..... و الآن عد الى حياتك و ابتعد عني ... )
همس أخيرا بوجوم بينما عيناه الحمراوان تتابعان ضفيرتها المنساب آخرها على خصرها النحيف .... و خصلاتٍ ذهبية تداعب وجنتيها الورديتين .... كم بدت جميلة !! .... بل أجمل .... أجمل بكثير .....
( ملك ..... أريد أن أراك ..... أريد أن أتكلم معكِ , أتعرف اليكِ ..... لم تمنحيني الفرصة )
قالت بشدة و هي تميل نحوه
( بل منحتك الفرصة ....... و أنت اخترت , اذن أنا أيضا اخترت الا أثق بالغرباء ..... )
قال بشدة و قد بدأ يفقد أعصابه مجددا
( من هو ذلك الرجل ؟؟ ...... و الذي جعلك فجأة متنمرة شرسة على مايبدو !! .... )
رفعت يديها و هي تنظر للسماء ذهولا ثم اسقطتهما على وركيها تقول بحنق بالغ
( إنه زوج أختي يا أحمق ...... و الآن ابتعد من هنا ..... للأبد ... أنت تخيفني بتصرفاتك تلك )
همس بترجي و هو يقترب منها قليلا ... الا أنها رفعت يدا تصد صدره و تحول دون تقدمه أكثر و هي تستند بحزن الي الباب من خلفها
( أحتاجك بشدة يا ملك .... بشدة )
كانت تستمع الى رجاءه الحار و قلبها يعطف على الصغير الانطوائي المتمرد .... ثم همست أخيرا
( و فيما حاجتك الي ؟!! .... عد الي حياتك و اصدقائك , لقد رأيتهم الا تذكر ؟؟ ..... انت تشبههم و هم يشبهونك.... ابتعد و اتركني خلف ظهرك ..... )
همس بقسوةٍ تغلب عليها الحرارة و الأسى
( ليتني أستطيع ...... أنا أغامر ... أجازف .... )
ظلت تنظر اليه بوجوم .... يدا خلف ظهرها تستند للباب .. و يدا توقف تقدمه أكثر ... بينما عيناها تحنان و تشتاقان اليه ... ثم همست أخيرا بحزن و الظلام يستر ملامحها الا من بصيص من شعاع قمر يماثلها بهاءا ..
( و لماذا المجازفة ؟؟ ....... لا شيء يستحق , ابتعد و عد الي حياتك و تخلص من مخلفات غرفتك القديمة ... لا تحتفظ بشيء .... )
همس بأنين
( لا أستطيع ..... ليتني أستطيع .... منذ أن رأيتك للمرة الأولى , شعرت و كأن شيئا ما قيدني ... يسحبني ببطء )
أوشكت على أن تسأله و متى كانت تلك المرة الأولى ؟!! .... منذ شهر .... أم منذ عشر سنوات ....
الا أنها همست بدلا من ذلك
( لا تسمح له ........ حطم قيودك و لا تفكر سوى بحياتك .... لا شيء يستحق أن يختل من أجله نظام حياتك ... لقد تعبت من أجله على ما يبدو )
همس بعذاب و هو يقترب أكثر
( لا تكوني قاسية بهذا القدر ...... )
همست و يدها الصغيرة تترك صدره كي تلمس صدرها بدهشة
( أنا قاسية ؟!! ....... أنا فقط أخبرك بما تتمنى سماعه كي تمضي بطريقك ... )
همس بخشونة
( لو كان الأمر كذلك لما صرتِ شغلي الشاغل في الأيام السابقة ..... أصبحت أمر بالطريق و أنا مقسم الا أراكِ , لكنني أحنث بقسمي كل يومٍ على التوالي .... لأحظى بنظرةٍ منكِ يا أميرة ... )
ابتسمت بحزن و هي تهمس بسخرية مريرة
( أميرة !! ............ )
همس بحرارة و عيناه تلتهبان
( كأجمل من رأيت ..... مرت بحياتي فتياتٍ بكل أنواع الجمال , لم أتوقف عند أحداهن كما توقفت عندك .... لقد استويتِ ...... )
صمت فجأة و شفتاه ترتعشان ... فهمست من بين أمواج الخجل التي تحرقها و تدوخها
( استويت ماذا ؟؟ ...... و ماذا كنت من قبل ؟؟ ....)
كانت تجبره اجبارا لأن يقر و يعترف ..... أن يخبرها عنه و عنها .... ليس الآن .... بل منذ سنوات .... حين كانت أقصى مشاكلهما هي الهروب من المشرفين بين الأروقة كلما تسلل اليها من قسم البنين الى قسم البنات ....
همس أخيرا متعبا ... مستسلما
( كنتِ جميلة ..... و صرتِ حلم .... حلم من أحلام الأساطير )
ابتسمت أخيرا مغمضة عينيها ..... و كأنها وصلت الى نهاية طريق طويل ......
همس لها بصوتٍ مبحوح
( افتحي عينيك ..... و انظري الي ..... )
فتحت عينيها و هي تستند بكلتا كفيها الى الباب من خلفها .... و رأسها متراجع للخلف ... تنظر الى القمر بابتسامة خجولة دون ان تجد الجرأة على النظر الي عينيه الملهوفتين ... ثم همست بخفوت حالم
( كيف ظننت أنني لن أتعرف على وجهك يا أحمق ؟!! ......... )
تنهد بقوةٍ ليقول مستندا الى الباب بجوارها
( تمنيت ...... تمنيت و صدقت التمني بكل غباء , عل السنوات الطويلة تساعدني ..... )
ابتسمت دون أن تنظر اليه و هي تهمس
( أحمق .......لم يكن وقتا طويلا كي تتغير بتلك الصورة التي تتمناها )
استند بظهره الي الباب بجوارها وهو ينظر معها الى القمر الشاحب ثم همس
( ليس الوقت ..... انما طبيعة الحياة تغير الشكل كليا )
نظرت اليه بطرف عينيها ... نعم ... لم يعد هو نفسه ذلك الفتى النحيف لدرجة الهزال و الشعر الطويل الأشعث الذي يرفض التمشيط و التنظيف رغم نعومته ....
عقداته كانت أكثر من عقدات صاحبه .... و هروب صاحبه أضنى مقص حلاق الدار الغاضب ....
ابتسمت ملك و هي تنظر الي البشرة البيضاء الناعمة التي اختفت منها الخدوش و التشققات ..... لم يبقى سوى جرح قديم يزين حاجبه و يزيده وسامة ....
لقد أصبح شابا مرفها شديد الوسامة ..... من كان ليتخيل !! .... نعم لقد غيرته طبيعة الحياة ......
عادت ملك تنظر الي السماء بصمت ....
أما هي فكما هي .... لم تتغير كثيرا ..... نفس الشكل و التهذيب و الضفيرة .... لذا كان من السهل عليه التعرف عليها و هو يظن أنها ستنخدع بمظهره الراقي .....
همست ملك أخيرا متنهدة
( أنا سعيدة من أجلك ......... كنت دائما تتمنى الهروب الى الفضاء الرحب و قد نجحت أخيرا )
همس بخشونة
( لكن شيء ما عاد ليجذبني للأرض بكل قوة ....... )
ضحكت برقة و هي تهمس مستفسرة
( حصاة صغيرة ربما ؟!! ............... )
نظر اليها وهو يقف بجانبها الى الباب الخشبي ثم همس بلوعة
( بل أميرة ...... أميرة ألقت علي تعويذة سحر جعلتني غير قادر على الابتعاد و التحليق .... )
نظرت اليه فتقابل وجهاهما بشدة لتهمس مرتجفة
( من الواضح أن قدراتك الغزلية قد تطورت كثيرا ....... )
ابتسم ليقول
( كنت اطورها من أجلك ........ )
مطت شفتيها و هي تعاود النظر الي السماء ثم همست بقنوط
( هذا كلام لا يناسب أختك ........ )
ضحك بخشونة دون أن ينظر اليها وهو يقول
( كم كرهت تلك الكلمة !! ..... كانت مجرد لفظا محفوظا لإضفاء صفة معينةٍ لعلاقةٍ فرضت علينا جميعا .... )
ضحكت هي الأخرى و هي تقول برقة
( كنت تصرخ بغضب دائما ..... ليست أختى .... ليست أختي ..... )
ضحكت بخفوت وهو يهمس
( و أنتِ كنتِ تبكين دائما ...... على الرغم من معرفتك أنكِ تعنين لي أكثر من ذلك .... )
رفعت كتفيها بطفولية و هي تهمس
( وكيف لي أن أعرف !! ..... كنت ترفض حتى الكلمة )
عاد لينظر اليها بصمت ... ثم مال اليها يستند بكفه الى اطار الباب ووجهه يعلوها ثم همس بخشونة
( لكني شرحت لكِ المعنى ذات يوم ..... الا تتذكرين ؟!! ..... )
أمالت وجهها جانبا بعيدا عنه و هي تهمس بسرعة و قد احمر وجهها بعنف
( لا ..... لا ... لست أتذكر شيء ...... )
مال عليها أكثر ليهمس
( بل تتذكرين ..... اعبثي قليلا في ذاكرتك .... الى صباح العيد مثلا .... )
ظلت صامتة مبعدة وجهها بعناد .... ثم انهارت فجأة و هي تضحك بقوة مغطية وجهها بكفيها
( ياللهي ..... كان عبث أطفال , أنت لا طالما كنت مثال الجنون في الدار , حتى احتار بك الإخصائي النفسي )
ابتسم بشغف و هو مصمما على تذكيرها
( كان صباح العيد .... و قد وقفنا في طابور طويل كي نهنىء أخوتنا الفتيات في الطابور المقابل و نسلم كلا منهن لعبة و حلوى ..... كنت مغتاظا من التحمم و حلاقة الشعر و عرفت انني سأقوم بعملٍ متهور .... )
احمر وجهها بشدة .... و هي تهمس بجدية
( كفى ........ )
الا أنه تابع بخفوت
( ما أن وصلت اليك ووقفت أمامك .... برائحتك الجميلة و شعرك المهذب في ضفيرة معقودة بربطة وردية ... تماثل وردة في فستانك الأبيض ... و بشرتك الأنظف من الصابون نفسه .... شعرت بالجنون حين قال المشرف آمرا
هنىء أختك بالعيد و أعطها هديتها ....... حينها امتثلت لأمره بكل قوة .... )
عقدت حاجبيها و هي تغمض عينيها هاتفة
( ياللهي ..... فضلت الموت في تلك اللحظة ..... )
تلك اللحظة حين هجم عليها الفتى الصغير الذي تدعوه اخيها بأمرٍ من المشرفين .... لتجد أن شفتيه الصلبتين على عكس حداثة سنه قد التصقتا بشفتيها لتسقط اللعبة عند قدميها .....وهو يقيدها بذراعيه القويتين بسبب تسلق أنابيب الماء ...
لم تدري ماذا حدث بعدها بالضبط ..... صوت صرخات من المشرفين و المشرفات .... و يدين تنزعانه بالقوةِ عنها ... و ما أن تمكنت من فتح عينيها حتى أبصرت صفعة قوية من المشرف هبطت على وجهه لترديه ارضا .... ثم تكابل عدد من المشرفين على تقييده و كأن جسده الهزيل يحتاج الى كل تلك القوة !! .....
بينما كانت هي تتراجع مذهولة بفعل أيدي المشرفات ... و هن يربتن عليها خائفات مرتعبات .... بينما هي لم تكن بمثل هذا الرعب في الواقع .... لم تكن تدرك أن الأمر خطير الى تلك الدرجة !! .....
تذكرت فقط أنها تسائلت لماذا قبل شفتيها و لم يقبل وجنتيها كما كان يفعل دائما !! .... طالما أن قبلة الشفتين بمثل تلك الخطورة !! .....
بعدها لم تره لفترة طويلة ... و علمت أنه تم احتجازه في معالجات نفسية و اجتماعية منفردا ....
و كم أمضت فترة طويلة في البكاء لشعورها أنها السبب في احتجازه .....
و بعد تلك الفترة استطاع التسلل اليها مجددا .... مرة بعد مرة في قسم الفتيات ليلا ... و الجميع نيام ....
ليعلمها بعدها أن قبلة الشفتين ليست مخيفة كما أوهمها الجميع .... و أنها شيء طبيعي بين الأصدقاء ... الأصدقاء المقربين فقط .... بينما كانت هي تشعر بشيءٍ ما خاطىء دون أن تستطيع تحديده ...
الى أن تم ضبطه ذات ليلة .... و عم الصراخ و الجنون .... و كان ذهول عينيها يخبر الجميع أنها ليست مذنبة و أنه هو السبب كالمرة السابقة ....
من بعدها أخذوه بالقوة ..... و لم تره مجددا ..... الى أن عاود الظهور بحياتها مؤخرا .......
فتحت عينيها ببطىء و هي تشرد بتلك الذكريات .... كيف تغاطت عنها ؟!! .... و كم كانت صغيرة و بريئة !! .... و كم كان مجنونا ..... مجنونا بها .... لذا لم تحمل ضده ضغينة قط ... خاصة و أنه دفع الثمن .....
لم تشعر بذلك الاحساس الذي تتحاكى عنه الروايات في قبلاته ... كان مجرد طفلا يخبرها أنها تخصه و أن هذا هو الرابط بينهما ..... لذا لم تترك تلك القبلات أي طابعا حسيا لديها ... مجرد تعاطف مع ذلك الصبي الذي كانت تمثل له الحياة كلها ....
أما الآن .... فالصبي قد كبر ... و أصبح أميرا يخبرها أنها أميرة .... و شغفه أكثر اشتعالا في عينيه ... يجعلها تعيد النظر في خيالٍ عن كيف أصبحت قبلاته الآن ؟!! ..... و هل ستكون مثل ما قرأت عنه في الروايات ؟!! .....
أبعدت ذلك الجنون عن تفكيرها و هي تنظر الي عينيه المتأججتين .... لتجد ان المسافة بين وجهيهما تتضائل شيئا فشيئا .... فنظرت تلقائيا الى هاتين الشفتين اللتين تحولتا الى شهوانيتين بعكس ما خبرته منهما في طفولتها ....
لذا دب بها الخوف أكثر .. بل أضعاف ما شعرت به قديما , فحاولت الهرب الا أن يده امتدت تمسك بخصرها تسندها الى الباب بقوة حتى تأوهت و هي تنظر اليه بعينين متسعتين ... لتجده يهمس بانفعال جياش
( أريد أن أقبلك الآن يا ملك ..... أريد أن أرى إن كان هو نفس الشعور المتدفق بكياني كله ما أن ألامسك ....)
همست ملك بقوة و هي تبعد يده عن خصرها
( ابتعد عني يا شادي ...... لقد كبرت و تغيرت أمور عدة , و لم أعد تلك الطفلة نفسها .... تلك التي كانت حقل تجارب لمشاعرك ...... )
عقد حاجيبه و اشتعلت عيناه أكثر وهو يميل اليها يتنشق رائحتها العذبة هامسا
( بل أنتِ هي ..... رائحتك ... صوتك .... شعرك ..... مشاعري لم تعد تحتاج الى حقل تجارب , لقد تعرفت اليك و انتهى الأمر ..... )
دفعته ملك و هي تقول بقوة على الرغم من أوردتها المتنفخة بقوة اندفاع الدم في عروقها
( ابتعد يا شادي ...... لست بمثل تلك السهولة كما اتهمتني سابقا , و لم أعد تلك الطفلة الساذجة كما كنت بين يديك ... اذهب الى احدى فتياتك ..... أعتقد أنك لم تعد تفتقر التجربة ..... فلا حاجة لك بي ... )
همس يهدر في اذنها
( انتهت كل تجاربي بعودتي اليكِ ..... و كأنني كنت أطوف بحثا عنك طوال حياتي , نبضاتي تتعرف اليك , و صدري يلهث لهفة عليك ..... لم أعد أقوى على انكارك في حياتي .... أنتِ جزء مني يا ملك كما أنا جزء منك ... )
تنهدت بقوة وقد اشتعلت وجنتاها ... تحاول التملص من بين يديه و هي تهمس بعنف
( انها مشاعر هوجاء ... لمجرد أن جددت لقائك بجزءٍ من ماضيك , لا تستسلم لجنون تلك اللحظة .... و ابتعد عني .... عد الى حياتك ...)
هتفت بصوتٍ حارق خافت و هو يكبل خصرها بكلتا يديه
( لقد اخترقتِ دفاعاتي و جعلتني اعترف بشيءٍ أقسمت أن أدفنه ..... شيء لم يعد يخصني وحدي , بل يخص عائلة كاملة معي ... و الآن تطلبين مني الرحيل بمنتهى البساطة ؟؟ !! ..... لا ليس من حقك يا ملك ..... )
وضعت يديها على كفيه المتشبثتين بخصرها تحاول ان تبعدهما و هما تحفران في لحمها الهش ... مبعدة وجهها في كل اتجاه .... هاتفة بصوتٍ تعمدت ألا يرتفع عاليا مؤقتا عله يثوب الى رشده
( كان ما فات هو جنون أطفال ..... و كنت أظنك قد نضجت حين قابلتك للمرة الأولى مجددا ....)
قال بعنف وهو يستند بجبهته فوق جبهتها موقفا هروب وجهها
( كاذبة ......... كنتِ تحثيني بعينيك للإعتراف بمن أكون , للعودة الى تلك اللحظة التي تركتك بها .... تلك اللحظة التي كانت السبب في ابعادي عنك لسنوات ..... )
هتفت ملك بغضب و قد بدأ الخوف يتزايد في داخلها
( تهورك و عبثك كانا السبب ..... كنت طفلا أهوج جامح تريد ارتداء حلة الكبار دون حتى أن تنضج رغبتك التي كنت تدعيها ..... كنا أطفالا و لو كنت أعرف أنك لازلت على نفس التهور و الغباء لما وافقت على رؤيتك مجددا ...)
اشتعل الغضب في عينيه القريبتين من عينيها وهو يهمس بشراسة و يهز خصرها بيديه بقوة
( أتعبثين بي ؟!! ...... الا تعرفين من أكون ؟!! ..... )
نظرت اليه لتصحح مشددة على الأحرف
( من أصبحت ......... )
الغضب تضاعف و تعاظم والسواد يعلو وجهه قبل أن يهبط به الى عنقها مقتنصا منه قبلة مسننة بقوةٍ جبارة تختلف عن قبلات الطفل الإنطوائي الذي عرفته من قبل .... و بعد أن أغمضت عينيها ألما للحظة ... فتحت عينيها الدامعتين بسرعة لتميل بوجهها و تطبق بأسنانها فوق أذنه بقوة الى أن صرخ متألما وهو يبتعد عنها منتفضا واضعا يده على أذنه الدامية ...ناظرا اليها بذهول بينما هي الأخرى تضع يدها فوق القبلة المسننة الدامية على عنقها ناظرة اليه بصدمة و الدموع تنساب من عينيها ....
ظلا ينظران الي بعضهما طويلا و كأن الصدمة قد شلت كلا منهما تجاه الآخر و تجاه نفسه ....
و كان هو أول من همس بعذاب
( ملك ..... لم أقصد ..... لا أصدق ما فعلت .... لكن الأيام الماضية كانت .... )
قاطعته هامسة ببكاء مرير خافت
( ابتعد من هنا ....... أنت لم تعد طفلا كي تفعل ما تريد هاربا من العقاب ... و أنا لم أعد طفلة لأستسلم بعينين متسعتين ....... لا أريد أن أراك مجددا .... )
كان ينظر اليها و تنظر اليه ...... و كلا منهما يلامس جرحه ....
الى أن همس أخيرا بصوتٍ متحشرج
( أنا آسف ......لكني لن أبتعد ...... لأني لن أستطيع بعد الآن ..... خاصة بعد الآن ..... أنا و أنت يا ملك لن يفرقنا شيء مجددا ..... لن أسمح بذلك ..... )
استدار أخيرا ليبتعد باندفاع .... تجاه سلم الxxxx المظلم , الى أن اختفى أمام عينيها الباكيتين و كأنه مصاص دماء مص روحها ثم اختفى قبل أن يحل الفجر ....
دخلت ملك الى غرفتها و هي ترتجف و يدها لا تزال على عنقها .... فأشعلت الضوء و هي تنظر حولها و كأنها تتعرف على غرفتها ببكاء صامت ثم أخذت تهمس
( أنه هو ..... أخبرتك أنه هو ..... لم يتغير ..... بل تغير ....تغير كثيرا ... )
سقطت على حافة السرير و هي تبكي بخفوت مغمضة عينيها تتلمس جرحها المؤلم هامسة
( لم يتغير ...... لا تزال نفسي تجد له العذر بعد كل تلك السنوات ..... الا أنه لم يعد طفلا .... )
رفعت وجهها تنظر الى صورتها المقابلة في مرآة قديمة رديئة .... ثم أخذت تهمس بخوف
( و أنتِ لم تعودي طفلة ........ و العذر لم يعد له محل الآن ...... )
منذ سنوات و هي تتعمد مخاطبة صديقة وهمية لها ..... كانت نفسها و شخصها .... لكنها كانت تضع وجه وعد فوقها ....
طوال السنوات الماضية كانت كلما تخاذلت في اتخاذ قرار مقتنعة به في قرارة نفسها كانت تلجأ اليها و تخاطبها ... فتتخذ عنها القرار ....
و كأن الضمير لديها متكلم .....
لكنها اليوم صامتة .... تائهة ما بين العذر و الإتهام .... و الضوء التحذيري الأحمر في الإبتعاد .... سريعا !! ...
رفع هاتفه ينظر الي الرقم المتصل قبل أن تتقافز نبضاته في إيقاعٍ أصبح مألوفٍ لديه ...
فوضع الهاتف على أذنه قائلا بصوتٍ عميقٍ أجش
( وعد ....... )
لم تخطىء أذناه حشرجة بكاء كانت تحاول كبتها ... و صوت تنفسها المتحشرج يكاد أن يزيد نيران صدرها اشتعالا ...
لم يتكلم لفترة .... مسمتعا بذلك الصمت من الموجات الساخنة بينهما , وكأن الكلام كفيلا كي يبددها ...
الى أن همست تحاول بث اتزان كاذب الي صوتها
( سيف ........ )
عاد الصمت بينهما عدة لحظات قبل أن يسمعها تلتقط نفسا عميقا و تتابع بخفوت
( هل هي بخير ؟؟ ....... )
قال سيف بهدوء وهو يقود سيارته
( إنها بخير .... لقد أوصلتها الي بيتها ... )
همست وعد بترجي
( هل كانت تبكي ؟؟ ..... هل كانت غاضبة مني ؟؟ ..... )
قال سيف
( غاضبة منكِ نعم .... لكنها لم تبكي , بعكسك أنتِ الآن ...... لماذا تبكين ؟؟ .... ألستِ أنتِ من فضلتِ اخفاء تلك المهزلة عن اختك ...... )
قالت بصوتٍ أجش لكنه ضعيف
( أنا لا أبكي ..... كما أن أمر زواجي هو شيء يخصني , و لا يحق لأحد أن يحاسبني ...... )
صمتت بعد أن خفت صوتها ثم اختفى .... بينما تصلبت ملامحه قليلا ... لكنها تابعت بصوتٍ أكثر همسا و ضعفا
( هل قالت لك شيء عني ؟؟...... هل أخبرتك أنها لن تراني مجددا ؟؟ ....أقصد هل طلبت منك أن تبلغني بألا أهاتفها ؟؟ )
زم شفتيه وهو يسمعها و قد نست اللحظات التي عشاها معا منذ فترة قليلة ... و لا تفكر سوى بخلاف بينها و بين أختها !! .....
يود لو يصهرها صهرا فتنسى كل شيء عاداه .... على الأقل في وجوده .....
قال سيف باختصار
( أنا آتٍ اليكِ ............ )
ساد صمت قليل قبل أن تقول بذهول متلعثمة
( آتٍ الي أين !! ....... أنا لست بالبيت .... )
أوقف السيارة على جانب الطريق بمكابح مفائجة ذات صريرٍ عالٍ ... جعلها تهتف باسمه خوفا , الا أنه صرخ بذهول غاضب
( لستِ بالبيت !!! ...... أين أنتِ ؟!! ..... )
سمع صوتها الخافت المتلجلج من ثورة غضبه
( اهدأ يا سيف ..... أنا في بيت احدى الجارات ........ )
كان سيف يهز رأسه من تلك الثرثرة العميقة صرخ سيف بغضب أعلى
( و ماذا تفعلين ببيت احدى الجارات ؟!! ..... الآن !! ....هل هذا وقت زيارات !! .... .. )
صمت قليلا وعيناه تتسعان ذهولا ... ثم همس بصوتِ قاتل مأجور
( هل تخيطين شيئا ما لإحدى الجارات !! ..... الآن !! ... و في بيتها !! ....و بعد أن حذرتك ؟!! .... بل في ليلة عقد قرانك ؟!! .... هل أصابك الجنون و الهلوسة !! ... )
لم يسمع صوى صدى ضحكة خافتة من بين دموعٍ صامتة هو متأكد من انسيابها على وجنتيها
كانت تلك الضحكة كفيلة بإحراق صدره .... فاشتعلت عيناه و هفت روحه اليها .... الا أن غضبه كان مسيطرا عليه و هو يهمس بجنون
( لا تخبريني أن هذا هو ما تفعلينه الآن ..... لأن لو كان الأمر كذلك أقسم أن آتي اليك و أنتزعك من عند بيت الجارة بشكلٍ يجعلك لا تفكرين في الإمساك بإبرة مجددا طوال عمرك .... )
ضحكتها الثانية المختصرة كانت ما بين خوف و توتر .... و ذهولٍ من حماقته فهمست بخفوت
( لماذا تصرخ ؟ ...... لقد صعد الي الأستاذ صلاح و تلك الجارة بصينية عشاء لنا لكن حين علم أنك قد رحلت , أصر هو علي أن أبيت عندها الليلة ..... )
هتف سيف متسع العينين بغضب ناري
( تبيتين !! ..... دون اذنٍ مني !! ..... هل هكذا سنبدأ من أول يوم ؟!! .... و لماذا الليلة تحديدا ؟!! .... لم ألحظ تلك المودة سابقا بينك و بين الجيران من قبل !! ..... )
كانت وعد تفكر في كلمة " اذن مني !! " .... اذن ؟!! ..... لم تعتد أن تأخذ الإذن قبل أن تتصرف من قبل .....
لكنها أدركت أن عبارة كهذه كفيلة باشعال فتيل غضبه ..... إن لم يكن قد تم إشعاله بالفعل ......
فهمست بخفوت
( لم يكن هنالك سابق مودة بيني و بين أحد ... حتى أن الأمور كانت تتطور أحيانا الى تطاول بالأيدي و التقاذف بالقمامة ..... لكن جارتي تلك لم يكن بيني و بينها عداء مسبق .... و قد أصرت اصرار شعبيا خانقا الا أبيت الليلة وحدي و أنا .... احم .... عر.... عروس ..... )
زفر سيف بغضب هادر وهو يقول باتهام
( و أنتِ وافقتِ على الفور بالطبع ........ )
همست وعد بتلعثم
( على العكس ...... لكنها ظلت تقسم ... تقسم .... تقسم .... حتى انتابني الدوار في النهاية , خاصة أنها ظنتني أبكي بسبب وحدتي في هذا اليوم ..... )
قال سيف بعنف
( و ماذا عن زوج تلك الجارة !! ..... كيف ستبيتين في بيتٍ به رجل غريب ... اصعدي حالا )
قالت وعد بخفوت
( زوجها متوفي ...... فقط هي و بناتها , و قد وافقت على الفور حين رأت عيناي الحمراوين )
سكن غضب سيف قليلا قبل أن يرجع رأسه للخلف قليلا و هاتفه على أذنه
( هل بكيتِ كثيرا ؟؟ ............. )
ساد صمت طويل بينهما .... لم يقطعه كلاهما ... و كأن كلا منهما يستشعر وجود الآخر , الى ان قال سيف أخيرا مكررا بتصميم عميق خافت
( اصعدي الي بيتك يا وعد ..... )
همست بخفوت
( أتمنى ذلك .... لكنهم لن يتركوني الليلة أبدا .... )
قال سيف بهمسٍ أجش قاسي ...مذيب للعظام في ذات الوقت
( أنا سأبيت معك ......... )
كانت الضحكة الثالثة عبارة عن سعلة متحشرجة و كأنها غصت في شيء ما من الذهول !! ....
ثم سعلت مجددا .... ثم همست تتأكد مما سمعت للتو
( ماذا ؟!! ......... )
قال سيف بنفس الصوت
( سأبيت أنا معك ....... من يستطيع منعي ؟؟ .... )
ساد صمت بينهما , أدرك فيه أنها ترتجف بشدة .... و احساس غريب بالرضا أخبره أنه ليس ارتجاف رفض ...
لكنها همست باختناق خجول
( كن جديا يا سيف ........... )
قال ببساطة
( أنا أتكلم بكل جدية و اخلاص حاليا ...... )
منتهى الإخلاص في الواقع ..... فهمست وعد همسا مختنقا جعله يشفق عليها رغما عنه
( لا يا سيف ...... لم يكن هذا هو اتفاقنا ..... )
قال سيف بصرامة
( ليس بيننا أي اتفاقات ....... اكتشفت أن جيرانك معهم حق , لا يصح أن تبيتين وحيدة و أنتِ عروس .... و أنتِ زوجتي ...... )
همست وعد بخوف
( انه عقد قران يا سيف ...... هل .... هل نسيت ؟؟ ..... )
قال سيف بشكلٍ قاطع
( على ما يبدو أنكِ أنتِ ما نسيت أن هذا ما أوشك على الحدوث منذ قليل لولا المقاطعة .... )
سمع صوت شهقة مصدومة ..... ثم صمت ...
لطالما كان أبسط الحلول لديه هو القطع أو البتر ..... ما يريده يأخذه .... كان مبدأه لا داعي للف و الدوران حول شيء يعلم حق اليقين أن لن يهدأ قبل أن يحصل عليه ....
ليس التفكير قبلا من فضائله كما قالت أمه ....... و مع هذا كان قطعه في الكثير من الأمور هو الأفضل غالبا ....
لذا تابع بهدوء حين علم أنها لن تستطيع الرد
( كنت تذوبين بين ذراعي يا وعد ..... هذا ما حدثتك عنه طويلا , ما بيننا لا يقبل الإنكار ..... فلما التأجيل ؟؟ ماذا تنتظرين ؟؟ ....... )
على الرغم من كلامه الهادىء .... الا أن صدره كان يجيش بذلك الهاجس ... هل كانت لتتلهف لغيره بهذا الشكل ؟!!
صوت بداخله كان يخبره أنها تبدو متلهفة جائعة للحب و لمشاعر جديدة عليها تبدد قسوة واقعها .... لكنه أخمد هذا الصوت بعنف ....
سمع حشرجة تنفسها و هي تهمس
( توقف عن هذا ...... ماذا تريد بالضبط ؟؟!! ............ )
قال سيف بخفوت خشن
( اصعدي الي بيتك و أنا سأتي لأشرح لكِ قصدي ....... )
همست تلقائيا همسة دفاع
( لا ........... )
همس بهمسة خشنة ذات هدير ساخن
( بلى ........ )
همست برعب مجددا
( لا .......... )
فرد عليها مبتسما عاقدا حاجبيه في نفس الوقت
( بلى ........ أنا آتٍ اليكِ حالا .... )
سمعت وعد صوت حركة السيارة من جديد , فقالت تنادي برعب
( سيف ........ )
كان الهاتف لا يزال على أذنه و هو يقود بسلاسة فرد بهدوء
( نعم ..... أنا لازلت معك .... )
قالت وعد سريعا بصوتٍ مرتجف
( ألم نتفق على حل وسط ؟؟ ...... هل ستتراجع عن كلمتك ؟؟ ... )
قال سيف ببساطة
( لا حلول وسط بين الرجل و زوجته ....... لا بد و أنكِ قد علمت ذلك منذ ساعة مضت ... )
قالت وعد بقوة
( أنا غير موافقة ......... )
لم ينفعل و لم يحتد عليها ... فقط قال ببساطة
( و أنا لن أجبرك على شيء .... سآتي اليكِ و إن بقيت على موقفك خلال دقائق فسأمتثل لإرادتك حينها )
هتفت وعد بخوف
( لا ....... )
ابتسم سيف ..... لقد اعترفت ضمنيا أنها غير حصينة تجاهه .... كم يعشق هذا الشعور ..... أنه ببساطة يتلذذ بكل ما يخصها .... يتشربها مستمتعا ببطء ...
قالت وعد بترجي
( لقد وعدتني .......... )
قال سيف دون تأنيب ضمير و الطريق بينهما يتضائل مع مرور دقائق المكالمة بينهما
( لقد أخبرتك بكل صدق أنني أنوي التقرب منكِ بكل الأشكال ..... و أنا عند وعدي و كما أخبرتك لو بقيتِ على رفضك فسأتركك حينها ..... )
همست وعد بترجي يكاد يكون باكيا
( أرجوك ......... )
قال بعمق أرسل رعشة الى أطرافها
( مما أنتِ خائفة ؟!! ........ لن أؤذيكِ أبدا .... كان هذا وعدا آخر مني .... أنسيتيه ؟!! ... )
سمعها تسحب أنفاسها بصعوبة ... فهدرت به دمائه تشتعل و هو يستشعر تأثرها به من مجرد كلمة ....
كم كانت واجهتها الجافة تخفي تعطشا !! ..... بل جوعا !! .... و سيكون أكثر من سعيد بأن يشبعه ....
ابتلعت ريقها بوضوح حتى أنه سمع صوت حنجرتها فابتسم بعمقٍ أكبر .... على الرغم من أن مقاطعة أختها أوشكت على أن تصيبه بهاجس عقلي ... الا أنه الآن يتلذذ بكل لحظة من لحظات ترقبها و انفعالها به و هي معه على نفس الخط .....
سألها بهدوء
( هل صعدتِ الى شقتك ؟؟ ....... )
همست بحدة
( لا ....أنا أتكلم من غرفة ابنتهم , و أنا لن أصعد الى هناك ..... عد الي بيتك يا سيف و هذا قراري النهائي )
قال سيف بمنتهى الهدوء
( اذن سأتي لأصطحبك بنفسي .... سأكون عندكم خلال دقائق )
هتفت وعد بصوتٍ مختنق
( توقف عن افتعال الفضائح يا سيف .... بما أبرر عودتك الآن .... )
قال لها بهدوء (اذن اصعدي الي بيتك حالا .... لأنني على بعد شارع واحد منكِ حاليا ... الي اللقاء )
سمعت وعد صوت اغلاق الخط ... فنظرت الى الهاتف بذهول ... وهي تهمس
( يا للكارثة !! ..... و أنا التي ظننت أنني سأنجو منه الليلة !! )
قفزت من على السرير بسرعة لتخرج جريا الي باب الشقة .... فقابلتها السيدة رحمة و هي سيدة طيبة تقطن في الطابق الثاني ... لا تفتعل مشاكل هي و بناتها ...فلم يفلح عبد الحميد أبدا في اشعال غضبها ...
كانت من النوع الملقب ب " أنه في حاله " ... لا يضايق أحد و لا يستسلم لمضايقات الغير ....
لكنها كانت المرة الأولى التي تبدي فيها بادرة تدخل .... حين عرض عم صلاح أن تستقبل وعد الليلة عندها كي لا تستسلم لبكاء الوحدة في ليلةٍ كهذه .....
قالت السيدة رحمة
( الي أين يا وعد .... سنحضر العشاء حالا .... )
التفتت وعد اليها تتعثر في خفٍ بيتي كبير ثم قالت بارتباك و هي ترتدي بيجامتها الوردية
( نسيت شيئا أحتاجه في شقتي سيدة رحمة ..... سأصعد جريا لأحضره )
قالت رحمة و هي تضع الطبق على المائدة
( حسنا اذهبي ..... لكن لا تتأخري , أنتِ لم تأكلين شيئا من الصباح .... و البنات سيهجمن على الطعام و لن يتبقى منه شيء .... انهن بناتي و أنا أعرفهن جيدا.....)
أومأت وعد مبتسمة باهتزاز ..... ثم خرجت جريا تصعد السلالم و هي تتعثر في خفها الواسع ...
و ما أن وصلت الى طابقها حتى شهقت عاليا و هي تضع يدها على فمها .... حين رأته يقف عند باب شقتها ... مستندا بيده على إطار الباب ... و يده الأخرى في جيب بنطاله ....
كان مظهره مهلكا ... وهو يقف محنيا رأسه بهيئته الضخمه ... و قميصه المفتوح الصدر حتى المنتصف ... ووقفته شبه العدائية و عيناه على ما يبدو أنهما قد اتخذتا قرار النزول و احضارها قسرا ...
وقفت وعد ترتجف على السلمة العليا بينما ارتفعت عيناه ببطء من خفيها مرورا ببيجامتها الوردية الطفولية الفضفاضة ... و حتى شعرها الأهوج فوق كتفيها بعد أن نزع مشابكه بنفسه ...
ابتسم ببطء من هيئتها التي على ما يبدو قد زادت من بريق عينيه اشتعالا ....
أزاح يده ببطء من على إطار الباب وهو يقول بثقة
( لحظة واحدة و كنت سأنزل اليك .....لقد نسيتِ سترتي بالداخل .... ها أنا أمتلك الحجة القوية , أترين كم أنا مراعٍ لموقفك أمام الأستاذ صلاح حبيبي .... )
همست بغضب و قلق
( هششششش ........ )
أسرعت الي باب شقتها تخرج المفتاح و هي تحاول أن تدسه في الباب بارتجاف مرة بعد مرة بفشل تام ... الى أن شعرت بفمه يلمس أذنها هامسا بنفسٍ لافح زاد من قشعرتها
( هل أساعدك ؟؟ ............ )
انتفضت قليلا و هي تستدير اليه تبعده بيدها قليلا هامسة بصرامة
( لا شكرا .... ابتعد فقط قليلا , كي تسمح للضوء بالمرور .....لا أستطيع أن أرى )
ضحك بخفوت أجش ... فابتعد عن جانب الضوء... لكن ليس عنها .... مما زاد مرات فشلها مرة اضافية خاصة وهو يضع يده على خصرها يساعدها ... مرتفعة قليلا تحت سترة بيجامتها ...
شهقت وعد عاليا و هي تتمكن أخيرا من فتح الباب لتدخل بسرعة تتعثر في شيء وهمي ... و قبل أن تستدير اليه كان قد دخل من الباب و أغلقه خلفه ....
و في ظلام الشقة الذي لا يتخلله سوى ضوء شاحب من الشراع الزجاجي للباب ... رأت ظله يقترب منها ببطء و هي تتراجع للخلف هامسة بضعف
( سيف ..... كفاك , لقد صعدت اليك كي نتكلم و نضع النقط فوق الحروف )
غطى ظله على ضوء الشراع من خلفه ... لتجد فجأة ذراعاه تحيطان بها تجذبانها اليه بقوةٍ منعتها من النطق خاصة بعد أن أسكتتها شفتاه .... و ما أن حاولت الإعتراض حتى شعرت به ينحني ليضع ذراعه تحت ركبتيها ليرفعها الي صدره ....
حاولت الإعتراض .... حاولت ... الا أن كل اعتراض منها كان يزيد عمق شعوره و كأنه يريد أن يجعلها تسلم له روحا قبل جسدا ....
يده على خصرها كانت توهنها ... و مضخة قلبه فوق قلبها كانت ترعبها ...
فتمكنت من الأنين بضعف من بين قبلاته المنهمرة في كل مكانٍ من ملامحها الشاحبة
( توقف يا سيف .... لا أستطيع ... )
ذهبت آخر حروفها في ضياعٍ جميل و هي تغمض عينيها مستسلمة لموجةٍ بعد موجة ...
مغرقا وجهه بين موجات شعرها ليقبل عنقها الناعم ... عائدا الي شفتيها مجددا و كأنه لا يستطيع تحديد طريقه ...
كانت تتوق لقبلة من قبل .... كانت تؤثر بها قبلة من أمه بدافع العطف ....
أما هذا الطوفان لم تحلم به و لم تتخيله يوما ...... كيف لها أن تقاوم متعة القفز من أعلى جسرٍ في العالم ممتزجة بحنانٍ يكاد يصهر عظامها .....
فاستسلمت لتلك العذوبة قليلا .... تعد نفسها أنها ستتوقف ما أن تشعر بالخطر ....
الا أن الدقائق المجنونة مرت بينهما و تفاقم الوضع حتى شعرت أن مجرد التفكير في تلك اللحظة يعد كمعاناة خلع الضروس ......
الا أنه هو من تمكن من الهمس بصعوبةٍ من بين شفتيها المنتفختين
( الا زلتِ عند رأيك ؟؟ ...... أتريدين مني التوقف ؟؟ .....)
كانت تسمع صوته و كأنه آتيا من بعيد .... من بعيد جدا .... لكن حين استشعرت بطء جنون عواطفه انتظاره ردها ... همست بدون تركيز
( أنا .... أنا .... لا أعرف ...... )
استطاعت رؤية ابتسامته ... أم أنها تتخيل أنها قد رأتها في هذا الظلام ؟!! ..... لكنها لم تتوقف طويلا عند الإجابة حين قبلها مجددا بنعومةٍ رقيقة تناقض عنف عواطف اللحظات السابقة ...
ثم أحست بنفسها تتحرك وهو يتجه بها الى الرواق .... الى غرفتها .... و التي يعرفها جيدا ....
فأغمضت عينيها .....
حين توقفت خطواته أخيرا .... فعل آخر شيء كانت تتمناه في تلك اللحظة ... حيث انحنى قليلا وهو يحملها و ضغط مفتاح الضوء ....
فغمر الضوء القوي عينيها و جمد أوصالها برعب ... ففتحت عينيها ترمش عدة مرات قبل ان تواجه عيناه الملتهمتان لها ..... بينما ذراعاها تعلقتا بعنقه في مرحلةٍ ما ....
احمر وجهها بشدة ... حتى بدا و كأنه يحترق فأخفضت وجهها تمنحه الإذن كي يخفض وجهه مقبلا فكها و جانب عنقها بحنان .... و آه من ذلك الحنان الذي لم تعرف مثله أبدا .... من أين امتلكه و كان يخفيه عنها من قبل .....
شعرت به يتحرك مجددا بتجاه سريرها .... ثم أنزلها على قدميها ببطء عند حافته ... فوقفت أمامه ترتجف مطرقة الرأس ....
مد سيف يديه يبعد موجات شعرها عن وجهها المنحني .. ثم أطبق على وجنتيها بكفيه يرفع وجهها اليه الى أن أرغمها على النظر الي عينيه ... و ابتسم لها .... حينها ارتجفت شفتيها قليلا و كأنها تحاول الإبتسام ... و كان هذا كافيا له ...
بل كان أكثر من كافي .....
فهمس بخشونة بقرب أذنها
( تبدين كطفلة ......... )
رفعت يدا مرتجفة تضعها على صدرها اللاهث ... فغطاها بكفه يستشعر جنون نبضاتها , حينها همس بعطفٍ حقيقي
( لا تخافي ........ )
ابتلعت ريقها بصعوبة و هي غير قادرة على الإمتثال لأمره ... فهمست ترتجف
( ماذا ..... ماذا سيحدث الآن ؟؟ ..... )
ابتسم بخبث وهمس بعد فترة
( سأريك ِ .......... )
رمشت بعينيها بصعوبة و انتفضت قليلا .. ثم همست بصوتٍ مختنق
( قصدت ..... قصدت .... فيما بعد ..... هل سنتزوج هنا ؟؟ ..... كنت قد أخبرتني أنك ستدبر أمورك ثم .... ألن يكون لدي سكن ؟؟ ....... )
و كأن سؤالها المرتجف كان كدلو ماء بارد سقط على رأسه مباشرة ......
صوتها بدا مستفسرا إنما بدون رفض فعلي و كأن مشاعرها قد طغت على رجاحة عقلها ....
اتسعت عيناه وهو ينظر الي وجهها الأحمر المنحني .....
و على الرغم من معرفته بسعيها لمثل هذا الزواج ..... الا أن طغيان مشاعرها على جشعها بدا و كأنه قد ضربه في الصميم ....
ارتجفت كفاه فوق وجنتيها .... فترك وجهها ببطء و عيناه تحدقان بغرفتها البسيطة للمرة الأولى ... و توقفت عيناه عند سريرها المرتب الضيق الذي كان حتما لينهار تحت حرارة أشواقه في اللحظة التي سبقت دلو الماء البارد ...
تنهد بكبت وهو يرفع يده الي شعره المشعث قليلا .... و حين أخفضها وجد عينيها الخلابتين تنظران اليه بقلق و خوف ... غير قادرة على استيعاب تغيره المفاجئة .....
فأخذ وقته في الارتواء من جمالهما .... ثم مد يديه يجذبها اليه برقة و انحنى مقبلا وجنتها ببطء جعلها ترغب في البكاء طويلا ... حتى أغمضت عينيها و هي لا تشعر بالقدرة على متابعة انفعالاته ....
رفع سيف وجهه ليقول أخيرا بصوتٍ خافت
( لا تقلقي يا لعبتي ..... سيكون لكِ سكن و حينها سأنسف كل الحلول الوسطى )
ارتجفت شفتاها و اتسعت عيناها و هي لا تصدق أنه قد تراجع عن موقفه من نفسه دون مقاطعات .... ماذا فعلت كي تغيره بهذا الشكل ؟!!
رغما عنها تملك منها احباط خبيث .... مرسلا موجات من الصقيع الى أوردتها ....
رفعت يدا مرتجفة الي فمها المرتجف تريد تهدئته ... و هي تراه يتجول في الغرفة و كأنه يحاول جاهدا السيطرة على عواطفه و تهدئتها .... إنه بالفعل سيتركها .....
انحنى حاجباها قليلا في خيبة أمل و هي تعدل من هيئتها المشعثة ....
تنظر اليه وهو يلامس ماكينة الخياطة ... و التي ينحدر منها قماش حريري أرجواني ... أخذ ينظر اليه شاردا وهو يلامسه بنعومةٍ كما كان يلامس بشرة ظهرها من قليلا ... فارتعش قلبها ...
ثم وجدته يستدير اليها ... يدس يده في جيب بنطاله يخرج حافظته ... ثم أخرج منها ورقة مالية كبيرة ... و بحث حوله الى أن وجد قلما حبريا .... فانحنى على الطاولة الصغيرة الوحيدة في الغرفة و أخذ يكتب شيئا على الورقة المالية ... ثم طبقها و استقام ينظر اليها بعمق قبل أن يمدها اليها قائلا بخفوت
( خذي ..... هذا مهرك المذكور لدى المأذون , ..... )
اتسعت عيناها قليلا و هي تمد يدا لتأخذ الورقة المالية متحاشية لمس اصابعه .... كانت ورقة كبيرة جديدة لكنها لا تصلح بالتأكيد لأن تكون مهرها ....
قال سيف قبل أن تفتحها
( لا تصرفيها .......... )
أطبقت قبضتها عليها بقوة و هي تنظر اليها تأسر عيناه عينيها ,......
خرجت من أمامه بسرعةٍ و كأن جدران الغرفة أوشكت على أن تخنقها .... لكنه تبعها الى الخارج ليجذب ذراعها اليه مديرا إياها اليه ..... لينحنى اليها مجددا مرتويا بقبلةٍ أخيرة .... قبل أن يرغم نفسه بمعجزةٍ ما على الخروج من هنا ...
و بعد لحظتين كانت قد استسلمت لقبلته الرقيقة ....
تعالى صوت طرق على شراع الباب الزجاجي .... و صوت رحمة يقول مرتفعا
( لماذا تأخرتِ هكذا يا وعد ؟!! ...... العشاء سيبرد .... يااا وعد .... )
شهقت وعد تبتعد عنه بسرعة و هي تنتفض ....بينما هتف هو همسا بلفظٍ نابي تسمعه فقط من سائقين الحافلات ...
ابتعدت خطوة اخرى ناظرة الى ملامحه التي كان يتناوب عليها الإحمرار و السواد للمرة الثانية هذه الليلة ... وهو يشتم داهسا شيئا ما بقدمه ...
فهمست وعد بخوف بصوتٍ غير مسموع
( يجب أن أخرج ...... أرجوك , انتظر قليلا ثم أخرج بعدي .... )
اتجهت الى الباب و هي تقول بصوتٍ عالٍ مرتجف
( أنا آتية حالا يا سيدة رحمة ....... )
لكن قبل أن تفتح الباب وقفت لحظة .... ثم عادت اليه سريعا تستطيل و هي تهمس باهتمام
( أحكم غلق الباب خلفك ..... ثم مد يدك تأكد من أن الشراع الزجاجي مغلق , .... أحيانا يتسبب غلق الباب بقوة في فتح الشراع الزجاجي .... )
همس سيف بشراسة و يديه على وركيه
( أخرجي من هنا قبل أن ألقيك خارجا ....... )
تعالى الطرق مجددا و صوت رحمة يقول
( هيا يا وعد ..... البنات سيقضين على الفطائر كلها .... )
جرت وعد الى الباب ... و قبل أن تفتحه نظرت الي ظل سيف الأسود في الظلام .... لكنه لم يكن مخيفا ...
ثم فتحت الباب و خرجت .... ثم أغلقته و هي تقول
( ها أنا ذا يا سيدة رحمة ....... كان هناك فأرا في المطبخ فخشيت أن يتلف المكان ... )
قالت السيدة رحمة تهتف
( اذن انتظري كي آتي بالمقشة ...... سيخرب لك كل شيء )
قالت وعد بسرعة
( لقد قتلته ....... لا تخافي أنا معتادة على ذلك ... )
شتمها سيف وهو يراقب ابتعاد ظلها من خلف الشراع .... مثرثرة مع تلك السيدة و كأنها بالفعل تقتل فأرا ....
أحيانا تكون كالحلوى الذائبة .... و أحيانا أخرى تعود كلوحٍ من الثلج !! ....
أما هو فلا سبيل له حاليا سوى أن يفكر كيف سيمضي المتبقي من تلك الليلة ثنائية الإحباط .....
.................................................. .................................................. ...............................
تلك الليلة نامت وعد على السرير الغريب عنها و هي تتذكر كل لحظة من لحظات تحليقها بسماء المشاعر و جمالها ... فابتسمت قليلا و هي تعض شفتها بخجل من تهورها ....
كانت تريد ان تنهر نفسها ... و تصب نقمتها عليها .... لكنها قررت ان تستمتع بذكرى التفاصيل لعدة لحظات قبل أن تنهر نفسها و تنقم عليها .....
اختفت ابتسامتها قليلا و هي تدس وجنتها في الوسادة الصلبة .... مفكرة ... إنه الأمر المحتوم كما قال حتى و إن كانت لا تأمل كثيرا في استمرار هذا الزواج أو مدى جدية سيف ....
لكنها ارتضت بهذا الوضع ..... فلماذا تحمل نفسها عناء التظاهر بالكرامة و التمنع ....
لقد ارتضت بوضعٍ يريحها قليلا بعد أن لاح لها اليأس جليا من كل الجهات ... فلماذا لا تنهل من عذوبة ما يقدمه لها دون استعراض ....
التنازل قد تم بالفعل .... فلا يلومها أحد إن كانت تتنعم قليلا بثمن تنازلها .....
ظلت صامتة بعينين متسعتين واجمتين في ظلام الغرفة .... قبل أن تدس يدها داخل سترة بيجامتها و تخرج الورقة المالية التي كانت قد خبئتها من قبل ..... ثم أخرجت هاتفها لتقرأ على ضوءه ما خطه لها فوق الورقة
فاتسعت عيناها قليلا و فغرت شفتيها الملتهبتين بقبلاته و هي تقرأ
" لا وعود .....
احجبي عني عينيكِ اذن .... فلربما استطعت حينها أن أغفل عن الوعد فيهما ... "

طبقت وعد الورقة ببطء و أطبقت عليها قبضتها بقوة و هي تضع رأسها على الوسادة مجددا.. متسعة العينين بشدة ....
إنه مهرها !! .... لقد خط مهرها بقلمه !! ......
أي عبث ذلك الذي يقذفها فيه !! ......
.................................................. .................................................. ................................
دخل سيف بيته في وقتٍ متأخر حاملا سترته على احدى كتفيه ... لكن و قبل أن يصعد السلم سمع صوت أمه و كأنه نشيجا باكيا هاتفة
( هل فعلتها يا سيف ؟..... هل تزوجت ابنة عبد الحميد ؟؟ .... )
توقف سيف مكانه دون أن يستدير اليها , ثم قال أخيرا بصوتٍ جاف
( نعم يا أمي ..... لقد تزوجتها .... )
شهقت أمه باكية بغير تصديق حتى الآن و هي تهتف
( تخسر أمك و شقيقتيك يا سيف و تذهب بمفردك .... و تحرمني من هذه اللحظة التي انتظرتها طوال حياتي و من أجل من ؟!!! ...... كيف طاوعك قلبك على أن تفعل ذلك بي ؟!! .... كيف ؟!! )
قال سيف بخفوت جاف صلب
( أنتِ من رفضت الحضور بإصرار يا أمي .... و مع ذلك لا شيء في الكون قادر على أن يجعلني أخسركن , فقط تقبلن رغباتي ..... كما أنا أحوال جاهدا تلبية كل رغباتكن .... )
هتفت أمه باكية من خلفه تضرب بقبضتها حاجز السلم
( رغبتك .... رغبتك ان تحرمني من لحظة كنت احلم بها طوال السنوات الماضية .... و انا اتخيلك قد ارتبطت بمن تليق بك .... ثم في النهاية تتزوج من ساعية .. خادمة .... خريجة دور الرعاية !! ... و فوق هذا كله ابنة اكثر شخص آذاني في حياتي و خرب بيتي .... )
تسمر سيف مكان قليلا ... و سمع ما ظنه قبل حتى أن يسأل ... فاستدار اليها ... يحدق في وجهها الباكي المتورم بتعبير غير مقروء
ثم قال أخيرا بخفوت
( كيف علمتِ أنها خريجة دور رعاية يا أمي ؟!! .... أنا لم أخبرك بذلك من قبل ... )
صمتت منيرة و هي تنظر اليه بنظره مصدومة قليلا .... لكنها لم تنطق بحرفٍ واحد , فتابع سيف بنفس الخفوت الجاف
( لقد أبلغك الدار بها قديما يا أمي .... الي كذلك ؟؟ .... بما أنك من أولى أقاربها ... كنت تعلمين و رفضتِ استلامها )
فغرت منيرة شفتيها قليلا و اتسعت عيناها الباكيتان .... فما كان من سيف الا أن قال بخفوت مصدوم و هو عاقدا حاجبيه
( ياللهي يا أمي ...... كيف تمكنتِ ؟!! ..... كانت مجرد طفلة !! ....... و أنتِ تعلمين مقدار المخاطر المرعبة في مثل تلك الدور ..... )
هز رأسه بغضب وهو يقبض لى حاجز السلم ... ليقول بخفوت غير مصدق حتى هذه اللحظة بعد أن نبهته ملك بصلة الأقارب ....
و كان شكه هو المنقذ الأساسي لها الليلة بعد أن كان مقررا أن ينالها في بيت عبد الحميد ... الذي قيد فيه ذات يوم و تم جلده و ضربه ثم القبض عليه .....
رغبته فيها و عطفه عليها شيء .... و كرهه لهذا البيت شيء آخر ....
لكن كلمة اختها العابرة التي بعثت فيه شكا غير متوقع .... جعلته ينسى البيت و يهزم رغبته فيها مقاوما طوفانا حارقا كان يحياه و يتمناه ....
سؤال وعد البريء عن السكن جعله يفيق لنفسه محتقرا ... منتفضا على الرغم من صعوبة تلك المقاومة ....
و الآن بعد أن رأى التأكيد بنفسه .... يشعر بطعمٍ صدىء في حلقه .... وهو يتخيلها قابعة هناك تنتظر اي مخلوق يعترف بها و يأخذها من هناك ......
نظر سيف الي امه المرتجفة الباكية طويلا ... ثم قال بخفوت
( تصبحين على خير يا أمي ... و ..... شكرا على التهنئة .... )
ثم صعد بتثاقل تاركا إياها تبكي بصمت مغمضة عينيها عن رؤيته مبتعدا عنها ......
.................................................. .................................................. ................................
رفعت كرمة رأسها ببطء من كتابها و هي تنظر بوجوم اليه وهو يدخل الى الغرفة ....
لقد اقترب الفجر .... و ها هو يدخل ملقيا تحية باردة و كأن شيئا لم يكن .....
راقبته يجلس على حافة السرير رافعا ساقا فوق الأخرى ليخلع حذاءه ..... ثم تبعه الآخر ....
كانت أعصابها على وشك الغليان منه ومن تصرفاته ....
كانت تظن أن بعد عمله في الورشة سينصلح حاله و يبدأ في الإهتمام ببيته و أسرته ....
انحنت عيناها ألما عند هذه النقطة ....
أسرته !! .... أين هي تلك الأسرة التي توجب عليه أن يهتم بها ؟!! .....
كانت تشعر بشوقه للأطفال ... و انكسار خاطره ....
لكن و ما ذنبها هي في الأمر ؟؟
ثم اليست هي أسرته ؟!! ..... الم يكن دائما يخبرها في بداية زواجهما أنه سيرعاها كابنته ؟!!...
تنهدت كرمة بألم و هي تخفض وجهها تنظر الى كتابها المسجى على حجرها .... فأخذت تلامسه بأصابعها ذات طلاء الأظافر الأحمر ....
لقد تزينت من أجله اليوم ... و انتظرته آمله أن يحمله الشوق اليها .... و ارتدت له الفستان الأسود الكلاسيكي الذي خاطته وعد لها .....
لم تكن تدري وقتها أن تعبها سيضيع هباءا ..... و ها هي جالسة متدثرة بغطاء سميك يغطي الفستان ... رفيقها الليلة كتاب نفسي زادها اكتئابا و زاد النظارة التي تنظر بها الى الحياة سوادا ....
انسابت دمعة من عينها على وجنتها في خطٍ أسود بفعل الكحل الأسود لتسقط فوق صفحة الكتاب .... بعد أن مرت على زاوية شفتها مذيبة جزءا صغيرا من طلاء شفاهها الأحمر ...
رغم كل اهماله لها الا أنها لاتزال تحبه من كل قلبها ....
رفعت وجها حزينا بشرود ... لتتسمر فجأة متفاجئة به جالسا على حافة السرير كما كان لكن ناظرا اليها بصمت و عيناه تتبعان دمعتها السوداء ... بتعبير حزين أوجع قلبها
أقل نظرة حزن منه تجعلها تحن اليه و تنسى غضبها
همست بعتاب
( لقد تأخرت .......... )
ابعد وجهه عنها وهو ينظر بعيدا بشرود .... فهمست تعيده اليها بحنان
( لقد تأنقت من أجلك ......... )
عاد بنظره اليها يتبع خط ياقة الفستان المفتوحة ... ثم يعود بنظره الي وجهها ذو الزينة المتلفة .... و مع ذلك لم يقلل من جماله السخي ...
جمالها كان سخيا كريما من النوع الدافىء ... الذي يريح القلب و يبهج الروح دون بهرجة ....
وصلت عيناه الى حافة الغطاء على حجرها فرمت كتابها بعيدا ببطء لتبعد عنها الغطاء واقفة على ركبتيها أمامه تختال بقوامها المكتنز و الذي يعبث بمشاعره ما أن يتفرغ لها ولو قليلا .... لكن ساعات البعاد تكون أطول ...
همست بعد ان تركته يستوعب مظهرها بنظرةٍ اعادت اليها الثقة بنفسها ...
( ما رأيك ؟؟ ......... )
همس بصوتٍ متحشرج قليلا
( تعرفين دون الحاجة للكلام ......... )
تأوهت بعذاب و هي تقترب منه بسرعة على يديها و ركبتيها الى ان جثت ملاصقة له ....
( بل أنا في أشد الحاجة للكلام ..... أنا في أشد الحاجة لكلمة منك تعيد الي احساسي بنفسي .... )
التوت شفتيه في ابتسامة ساخرة قليلا قبل ان يقول
( أراهن أنك تنالين من المديح و الثناء ما يكفيك و يفيض يوميا ..... )
مد يديه يفتح أزرار قميصه وهو يتجاهل وجودها ظاهريا , فهتفت بحرارة
( لكن أنت من تعنيني يا محمد ..... انت من احتاج لسماع كلامه , ثم إنني لا أحتاج الى ثناء أو مديح ... أنا فقط أحتاج الي اخباري ما تشعر به تجاهي باستمرار .... )
مد يدها تلامس صدره القوي و هي تريح رأسها على كتفه هامسة بحزن
( هل لازلت تحبني يا محمد ؟؟ ....... )
صمت قليلا فسقط قلبها رعبا ... الى أن همس بخشونة
( أكثر من الأول ..... أحبك لدرجة الرعب من فقدك .... )
تأوهت مجددا بابتسامة ملتاعة و هي تندس بقربه تضعف من مقاومته بلمساتها المحبة هامسة
( و لماذا تفقدني يا محمد ؟؟ ... أنا هنا أنتظرك بشوقٍ كل ليلة و أنت تخبرني بكل بساطة أنك تخشى أن تفقدني !! .. )
زمجر بخشونةٍ و هو يستلقي على ظهره ليسحبها فوقه من خصرها بينما ضحكت عاليا متناسية غضبها منه و كسر خاطرها ....
مصممة أن تعيد لأيام الزواج الأولى حتى ولو لبضع ساعات ... فأوقفت هجومه العاطفي لتسألة مسفزة بعينين تبرقان
( انتظر أولا .... أخبرني هل يعجبك الفستان ؟؟ ...... )
مرر يده الخشنة على طول الفستان فأغمضت عينيها مبتسمة تتأوه بحب .... لكنه صدمها حين قال
( أحب أن أراكِ بجلبابك اللامع أكثر ....... )
فتحت عينيها على أقصى اتساعهما و هي تنظر اليه بذهول ..... ثم لم تلبث أن ضحكت عاليا و هي تتذكر ذلك الجلباب الذي اشترته في لحظة تهور ....
جلباب ضيق طويل ... بشقٍ طويل و الكثير من الحلقات الذهبية التي تزينه و تتراقص مع كل حركة ....
و معه وشاح للرأس بنفس الشكل .....
ضحك محمد هو الآخر وهو يراقب عينيها الدامعتين من شدة الضحك .. حتى أن دمعة منهما سقطت على وجنته ...
شهقت كرمة تسعل من شدة الضحك و هي تقول
( ما الذي ذكرك به الآن ؟؟ ......... )
ضحك وهو يتحسسها بحبٍ قائلا
( أنا لا أنساه أبدا ..... أنه أكثر ما أحبه عليك ِ )
أغمضت عينيها من شدة الضحك ... و هي تقول بتعثر ضاحك
( لن أنسى اليوم الذي اشترتيه ..... حين اصطحبتني أختك وزوجها كي ترغمني على شراء عباءة واسعة و كنت أنا متذمرة و زامة فمي أمامي بشبرين من شدة الغيظ .... ثم افترقنا قليلا و بعد أن عادت طمأنتها أني اشتريت عباءة واسعة و مناسبة .... لكنها لم تبتعد الا وهي مصممة أن تراها كي تفاصل مع البائع الذي من المؤكد قد خدعني في ثمنها ...فاختطفت الكيس منى بالقوة كي تراها رغما عني )
ضحك محمد عاليا .... بينما هي تتابع شاهقة بسعال
( لن أنسى نظرتها المذهولة و نظرة زوجها السمج و هي تخرج الجلباب اللولبي الراقص .... لقد ظلت فاغرة فمها و هي ترفعه بيديها لمدة لا تقل عن دقيقتين .... و ما أن تمكنت من النطق حتى قالت بذهول
" فيما ستستخدمين شيئا كهذا ؟!!!! ....... " ..... )
كان محمد يضحك عاليا و كأنه طفلا صغيرا متناسيا همومه ..... بينما تابعت كرمة و هي تسعل
( و قبل أن أجد لها وصفا مناسبا لهذا الجلباب .... كان لبائع قد أحضر أشياء صغيرة ذهبية تناسبه و هو يسألني إن كنت أريدها مع الجلباب ..... حينها ارتأيت أن الصمت هو أفضل جواب ... )
كانت تتأرجح فوق صدره بسبب علو ضحكاته ... وهو يقول من بين ضحكاته
( كم أنت حالة من قلة التهذيب ميؤوس منها ......... )
اخفت كرمة وجهها في صدره و هي تضحك حتى آلمتها معدتها .... ثم قالت من بين شهقاتها و هي تميل بوجنتها فوق صدره
( لكنك ضربتني يومها ...... )
خفت ضحكاته قليلا ... ثم قال وهو يلهث بها صعودا و نزولا و هي فوق صدره كقطة صغيرة وديعة ...
( أتلومينني ؟!! ..... كيف تبتاعين شيئا كهذا من بائع رجل و يراه زوج أختي ..... )
همست بعتاب و هي تزم شفتيها
( هما ارغماني على الذهاب معهما .... و أصرا على فتح أغراضي الخاصة .... و بعدها جرت اليك كي تشي بي و أنت ضربتني أمامهما ......)
كانت يده تلاعب شعرها بحنان بعد أن هدأت ضحكاته ... فهمست برقة
( يومها ظننت أنني لن أسامحك أبدا .... لم أتخيل أن يأتي اليوم الذي نضحك فيه من تلك الذكرى ... و الآن أنا واثقة من شيء واحد ... وهو أنني سأسامحك على أي شيء ... و أنت كذلك ستسامحني على أي شيء ....)
تنهد محمد عاليا و هي تبتسم لارتفاعها عاليا و كأنها تتأرجح كطفلة ....
ثم قال محمد أخيرا بخشونة
( ظننتك أدركتِ ذلك من قبل ..... حين جعلتك ترتدينه عشرات المرات )
عادت كرمة لتضحك و هي تقول
( نعم كنت قد بدأت أشك في أنه قد سبب لك عقدة نفسية من كثرة ما كنت تطلب مني ارتداءه ....)
قال محمد بجدية
( نعم سبب لي عقدة من شدة جمالك فيه ..... كحورية من حوريات البحر )
ضحكت كرمة عاليا مجددا و هي تقول من بين ضحكاتها
( لو سمعنك حوريات البحر .... لانتحرن قبل يرتدين جلباب راقص بحلقاتٍ ذهبية و وشاح رأس بكريات لامعة )
همس محمد ضاحكا في اذنها ....
( حسنا لما لا ترتدينه الآن لنحكم على الوضع بايجابية ..... )
رفعت كرمة وجهها اليه عاقدة حاجبيها بينما عيناها تلمعان شقاوة و هي تقول
( من المفترض أن أذهب للعمل بعد ساعتين .......)
عبس محمد وهو يقول بخشونة
( أنتِ تتهربين لأن وزنك قد زاد و أصبح لا يتسع لك ......)
صرخت كرمة و هي تنتفض قافزة بحنق
( نعم ؟!!... نعم ؟!! .... نعم ؟!! ..... دقيقة واحدة و سنرى من ازداد وزنه .... و بطنه ... )
ضربت بطنه بقوة و هي تركض من أمامه لتبحث عن الجلباب كي تبخس اتهامه ... الرائع ...... بأكثر الطرق تشويقا ..........
بعد فترة طويلة .... و قبل أن تستعد منهكة القوى و العواطف للعمل ....
انحنت اليه تقبله برقة و هو مستلقي في السرير لتهمس و عيناها تتألقان
( لن أتأخر اليوم ..... )
استقامت لتغادر .... الا أنها ترددت و عادت اليه تهمس بضغط رهيب على اعصابها خوفا من ان تضيع تلك السعادة المؤقتة بينهما
( محمد ..... كنت أريد أن أطلب منك طلب , .... لا داعي لأن تقلني من العمل .... لأن .... لا أريد أن أتعبك و ركوب الدراجة اصبح قاسيا علي .... )
ثم تعمدت المرح و هي تميل كي تقرص انفه قائلة بمزاح عاتب
( نظرا لزيادة وزني ها ...... هذا شيء قد لا أسامحك عليه مجددا )
استقامت لتغادر مرسلة له قبلة في الهواء قبل أن يبدأ في الحساسية انفعالا من طلبها ....
بينما بقى محمد مكانه ينظر الي الباب عابسا ... وهو يتسائل عن السبب الذي يجعلها فجأة ترفض أن يقلها ... لم تكن طبيعية أبدا و هي تطلب منه هذا الطلب .... كانت متوترة و مرتبكة
ماذا هناك و لا تريده أن يراه ؟!! .....
عبس محمد أكثر ووساوس مجهولة تعبث في رأسه بعدم راحة ......
بعد فترة طويلة ... نهض من مكانه بتثاقل ... مثقل الصدر وهو يتجه الى بنطاله الملقى أرضا ... ثم انحنى ليفتش جيبه قبل أن يخرج منه خاتم زواج من الفضة ...
نظر اليه مهموم ... وهو يقرأ الاسم المدون بداخله .... " علياء " ....
و دون تفكير طويل ... فتح النافذة ليقذف به هامسا
( لا داعي للمجازفة ..... )
.................................................. .................................................. ................................
دخلت كرمة مسرعة و كعبي حذائيها يطرقان الأرض الى قاعة الإجتماعات ... اليوم اجتماع لعميل مهم مع حاتم و معها كمدير ائتمان في المصرف ....
باقي على موعد الإجتماع دقيقة واحدة ... لكنها لا تحب أبدا أن تتأخر عن الحضور ولو لدقيقة واحدة
ابتسمت بخجل و هي تفكر أن سبب التأخير كان يستحق ....
رفع حاتم وجهه عن الملف بيده ما ان دخلت ... لتتسمر عيناه عليها ...
عيناه لا تتحملان جمالها اللعين المتزايد يوما بعد يوم و كأنها تغيظه .... تتوهج كوردة جوري حمراء دافئة ....
تدخل القاعة مبتسمة تلقائيا ..... و شاردة و كأنها تتذكر شيئا ما يدفىء قلبها
اللعنة ....
إنه يمر بحالة مراهقة متأخرة .... و هذا ليس الوضع المناسب لها أبدا ....
قالت كرمة بحيوية
( أين العميل ؟؟!! ......... )
رفع حاتم كتفيه وهو يطرق بظهر قلمه على سطح طاولة الإجتماعات قائلا بوجوم
( لم يأت بعد ....... )
جلست كرمة تدور بالكرسي كي تصل لسطح الطاولة واضعة ملفها و تفتحه استعدادا .... مما منحه الفرصة كي يلقي نظرة على شكل وجهها الجانبي الأبيّ ....
حركات اصابعها تتحرك على موجات شعرها كي تتمكن من الإطلاع على بعض التفاصيل ...
شفتيها تتحركان قراءة .... تأفف حاتم بصوتٍ عالي غير مدرك لذلك
فرفعت كرمة عينين متسعتين مندهشتين اليه و هي تسأله بحيرة
( ماذا بك ؟!! ........ )
انتبه حاتم فجأة الى ما فعله , فقال بسرعة متظاهرا بالغضب
( لا أطيق من لا يحترمون مواعيدهم ........ )
نظرت اليه بدهشة ... ثم ضحكت برقة و هي تنظر الي ساعة معصمها قائلة
( هون عليك يا حاتم ... انهم فقط دقيقتين .... )
ابتسم بحرج وهو يقول
( حسنا ..... ربما تحاملت على الرجل قليلا )
تراجعت كرمة تضع ساقا فوق الأخرى و هي تنقر بأصابعها على الأوراق في رتمٍ بطيء .... بينما عيناه المخادعتان تغافلان عقله كي تسرقان منها بضعة لمحات ...
و حين أوشك الصمت على أن يخنقه قال بهدوء
( كرمة ...... أردت أن أخبرك أن سيارة بسائق خاصة بالمصرف سوف تتكفل بنقلك منذ اليوم لو أحببتِ )
رفعت كرمة وجها مندهشا اليه ... ثم فجأة أظلمت عيناها و هي تهمس بجمود
( كل هذا بسبب زوجي ؟!! ...... هل لهذه الدرجة تتحكم المظاهر في كل شيء , يبدو أنني أصبحت واجهة لا تليق بالفعل ....و ان )
اتسعت عينا حاتم هو الآخر بدهشة ليقول غاضبا
( توقفي عن استنتاجاتك الانفعالية تلك رجاءا ..... انه أمر طبيعي للمدراء و هي ليست سيارة فارهة أبدا أنها مجرد سيارة خاصة بالمصرف ... و كان يمكن أن أستقلها لولا أنني لا اسمح لأحد بأن يقود سيارة أنا أستقلها ... أنا أحب أن أقود بنفسي ..........و كل ما في الأمر أنكِ الوحيدة تقريبا التي لاتمتلك سيارة ... )
أظلمت عيناها أكثر ... فقال محتدا بسرعة
( و لا أقصد شيئا سئيا من أنكِ لا تمتلكين سيارة بالمناسبة قبل أن تتهوري ..... لكن عامة يمكنك الرفض بلطف و لا داعي لنظرة الإزدراء تلك ... )
لانت ملامحها قليلا على الرغم من توترها الظاهر على عضها لباطن خدها .... ثم قالت باختصار
( آسفة ........... )
رفع حاجبيه بدهشة ليقول متفاجئا
( هل اعتذرتِ للتو ؟!! ...... يا له من يوم سيشهد له التاريخ !!)
ابتسمت بحرج ثم قالت بخفوت بعد فترة
( هذه المواقف حساسة بالنسبة لي ..... الأمر خارج عن ارادتي للأسف )
ابتسم ليقول بهدوء
( الإعتراف بالمرض نصف العلاج ........... )
رفعت حاجبا و هي تقول
( و جعلتني مريضة أيضا ؟!! ............. )
قال بوجوم
( كنت أعلم أنكِ لن تتعافي من مرض التشكك سريعا .... )
مطت شفتيها و هي تقول بلهجة مغيظة
( أنت حقا مستفز على فكرة ...... )
ابتسم ليقول يقلدها
( هذا ما يقوله ابني دائما على فكرة .... )
نظرت اليه بدهشة و هي تسأله
( هل لديك ابن ؟!! ..... لم أكن أعرف أنك متزوج )
قال بهدوء
( كنت متزوجا ...... .الآن أنا منفصل ... )
ردت كرمة باختصار
( آها ..... عذرا ...... )
ابتسم قائلا
( لا بأس ....... )
قالت كرمة بعد فترة صمت ثقيلة
( كم عمر ابنك ؟؟ .......... )
رد مبتسما
( عشر سنوات ............. )
ابتسمت قائلة
( انه على مشارف الشباب ماشاء الله ...... )
ابتسم حاتم قائلا
( نعم انه سن غباء الذكور ........ )
ضحكت كرمة و هي تقول
( لماذا تقول ذلك ؟؟ ................. )
قال موضحا رافعا احدى كتفيه
( العلاقة بيننا اسوأ من علاقته بطبيب أسنانه ........ )
اتسعت عيناها قليلا ثم سألته
( الا يعيش معك ؟!! ..... اظنه اصبح في عمر الحضانة )
قال بهدوء
( لا ليس في عمر الحضانة بعد.... و مع ذلك هو يعيش معي , لأن أمه ليست متفرغة لرعايته حاليا )
أومأت كرمة برأسها متفهمة لكنها كانت مهتمة بالموضوع فقالت
( و كيف اذن تكون العلاقة بينكما سيئة ؟!! ..... من المفترض أنه أصبح في عمرٍ يؤهله أن يصبح صديقك )
أصدر صوتا ساخرا
( هااااا ..... من يده في الماء البارد ليس كمن يده في النار .... أنه في عمرٍ يؤهله كي يتمنى قتلي بحربة صيد )
قالت كرمة مندهشة
( ياللهي !! ....... أنت متخاذل جدا )
عبس وهو ينظر اليها ليقول
( هذا ما آخذه اضافيا من علاقتي المتوترة به ...... الإهانة المستمرة )
قالت بجدية
( أنا لا أمزح الآن ......... لما أنت مستسلم هكذا ؟!! )
تنهد حاتم وهو يقول
( كرمة ..... أنتِ لا تعرفين ابني , لذا لا يحق لكِ ابداء رأيك ..... شكرا )
قالت كرمة مصممة
( تتكلم و كأنه السبب!! ..... أي حالة يكون فيها الطفل , يكون الأهل هم المتسببون بها ... فلا تلقي اللوم عليه , لا طفل يولد بعيوبٍ سلوكية الا إن كانت حالة مرضية ..... و في حالة ابنك أنا متأكدة من انك السبب .... )
قال ضاحكا بسخرية
( آهااا ..... كم هذا نموذجي ........ )
نظر اليها بجدية ليقول ناظرا الي عينيها مباشرة
( الأمر أبسط من ذلك يا كرمة ...... زوج زوجتي السابقة المصون يعامله و كأنه ملكا متوجا حين يذهب لزيارته .... يغرقه بكل ما لم تحلمين به يوما ...... يمنحه ما يفوق عمره و كل اصول التربية ..... )
عقدت كرمة حاجبيها و هي تقول
( و هل هذا سيء ؟!! .... ظننتك ستخبرني انه يسيء معاماته !! .... )
قال حاتم بكبت و قد بدأ يفقد قناعه الهادىء
( أنا أراها كإساءة معاملة .... انه لا يفعل ذلك حبا فيه , هذا نوع ردىء من الاستعراض الرخيص ليستقطبه ... بينما حين يأتي الي أبدأ أنا دوري في تربيته كأب .... أشدد في معاملتي قليلا حين يخطىء , لا أمنحه كل ما يأمر به ... كأي أب عادي ..... لكن بالمقارنة أبدو أنا الشخص الشرير ... )
كانت كرمة تنظر اليه بعجب ... تستمع باهتمام , ثم ما أن انتهى حتى قالت أخيرا بخفوت
( كلامك جميل و مقنع ..... لو كان الوضع طبيعيا , لكن أنت تغاضيت عن أن وضع ابنك غير طبيعي ... من المؤكد أن طلاقك من والدته قد أثر عليه .... و زواجها من آخر .... و تشتته بين بيتين .... و محاولة اختيار أب و التفضيل بين اثنين .... )
هتف حاتم عند هذه النقطة بغضب ناري ...
( اختيار اب ؟!! ..... و التفضيل بين اثنين ؟!!! .... اسمحي لي بأن أخبرك أنه لا خيار في ذلك ... أنا فقط والده و ليس أي مخلوق آخر .... سواء أعجبه هذا أم لا ..... )
صمتت كرمة قليلا تحتوي غضبه و تتفهمه ... ثم همست بعد فترة
( ليس ذنبه أنكما فرضتما عليه التنقل بين بيتين ....... )
نظر اليها حاتم بوجهٍ غاضب و هو يتنفس بحنق ..... إنها المرة الأولى التي تراه فيها على هذا الشكل , لكنها تعذره بالفعل .....
تابعت كرمة حين لاحظت صمته
( أنه أصغر من أن يتفهم فائدة التقويم و الشدة أحيانا .... بينما هناك آخر يشعره أنه الفرد المميز في البيت , فماذا تظن غير ردة فعله تلك ؟!! ...... أنت في حرب الآن من أجل استعادة ابنك .... و الا فلا تلم الا نفسك حين تخسره تماما ...
تلك الحرب ليست باجباره على المكوث عندك رغما عنه ..... انما باستقطابه كما يفعل الطرف الآخر ...
أجعله صديقا أولا قبل أن يكون ابننا تقوم بتربيته .... اشعره بأنه أشرف على أن يكون رجلا ..... و أنه جدير بثقتك ... عوضه قليلا عن نتائج الطلاق .... هل فكرت للحظة في تأثير وجود أمه مع رجل آخر حتى و لو كان يحبه ؟!! .... الا تتخيل صعوبة ذلك على أي طفل خاصة الذكور منهم نظرا لتعلقهم الشديد و غيرتهم على أمهاتهم ؟!! .... فكر في الأمر قليلا يا حاتم .... يحزنني جدا أن أرى شخصا يفقد ابنه بيده هو لا بيد شيء آخر ..... )
كان حاتم يستمع الى كلماتها و بداخله هدير غضب خرج عن السيطرة .... ابنه ... أمر حساس جدا , عمل جاهدا على تجنب تدخل المزيد من الأطراف فيه ....
لا يعلم كيف استدرجته بمثل هذه السهولة حتى أفضى اليها بأشد ما يرهق نفسيته حاليا ... أم أنه هو من سمح لها ؟!! ....
قال حاتم أخيرا بخفوت عابس
( أنتِ جيدة جدا .... على ما يبدو .... هل .... لديكِ أطفال ؟؟ .... )
علا الحزن عينيها في لحظة و هي تطرق قليلا بوجهها ....
و صدمه ذلك الشعور الدنيء براحة مجهولة السبب ... صدمه ذلك بالفعل فسحب نفسا خشنا متوترا من دواخله ...
همست كرمة مبتسمة بالجملة التي ترد بها على هذا السؤال يوميا
( لم يأذن الله بعد ....... )
أراد أن يقول بحق " فليرزقك الله ... " ... لكن الدعاء لم يخرج من بين شفتيه ... شيئا ما أوقفه .. منع خروجه ...
و بدلا منه سأل بجرأة
( متى تزوجتِ ؟؟ ........ )
رفعت كرمة وجها عابرا اليه ثم قالت بهدوء
( منذ عشرة أعوام ............... )
حينها علت صدمة أكبر وجهه وهو يعبس مستفهما
( عشر سنوات ؟!! ..... أنها نفس السنوات منذ أن تزوجت أنا تقريبا أو أقل عاما ..... لكن كم كان عمرك ؟!!!
من معرفتي بتاريخ مولدك أقدر أنك قد تزوجتِ في السادسة أو السابعة عشر على الأكثر ؟!! .....)
أومأت كرمة برأسها في صمت و هي ترسم بقلمها خطوطا و دوائر عشوائية في ورقة من ملفها ...
حينها قال حاتم بذهول
( ستة عشر عاما ؟!!! ..... لقد كنتِ طفلة !! ..... )
ابتسمت و هي ترفع وجهها اليه لتقول بمرح مرتبك
( ليس الى هذه الدرجة ..... لطالما كنت أنضج من عمري ..... )
ظل ينظر اليها بذهول غاضب حتى عادت و اطرقت بوجهها من جديد قائلة بحزم و جدية
( ليست ظروف الجميع كبعضهم .... قد يبدو هذا اجرام في حق بعض الفتيات , بينما يكون نعمة من الله و انقاذ في حالة البعض الآخر ...... )
صمتت قليلا ثم ابتسمت قائلة
( المهم هو أنني فزت بعدد بضع سنوات اضافية من السعادة مع زوجي ..... )
ضربته تلك العبارة في الصميم .... ضربته و آلمته بشكلٍ لم يتوقعه ....
همست كرمة أخيرا محاولة تغيير الموضوع
( ما اسم ابنك بالمناسبة ؟؟ ............... )
قال حاتم بصوت مكبوت .... قاتم ...
( محمد ............... )
ابتسمت كرمة بحب و هي تهتف
( و زوجي اسمه محمد ....... .. )
مد يده فجأة يفك الزر الأول من قميصه وهو يقول بحنق
( المكيفات هنا معطلة أم ماذا ؟!! ..... كل شيء أصبح خانقا في هذا المبنى المتهالك ... ثم أن قرض هذا الشخص مرفوض قبل أن أراه .... إن كان لا يستطيع أن يلتزم بموعد ... فهل سيتمكن من سداد قرض ؟!! ... تبا له ... )
كانت كرمة تنظر اليه بتوجس و كأن عفريتا قد التبسه !! .... ربما كوب من ال" عناب " سيهدئه .... الساعي يعده بنفسه رائعا ... و ربما طلبت معه شطيرتين لهما ....
عادت لتنظر اليه مرتابة ... ثم همست لنفسها ....
" ربما بعد قليل ..... لا أضمن في حالته تلك أن يقذفني بالكوب في وجهي ... "
.................................................. .................................................. ...............................
حاول جاهدا التركيز معها أثناء كلامها اللبق و المستفيض .... كانت رائحة عطرها المركز تخنقه و تشوش على ذكرى عطر آخر طبيعي برقة الياسمين ... و كم رغب في أن يطلب منها الا تضع ذلك العطر مجددا و هي في حضوره ... لكنه طبعا لم يستطع ذلك ... و اكتفى بتمني انتهاء حديثها سريعا كي ينفرد قليلا بذكرى بعضٍ من لمحات ليلة أمس ...
ابتسم رغما عنه شاردا ... لكن صوتها الواثق قال يقاطع شروده
( اذن ما رأيك يا سيف ؟؟ ......... )
أخذ نفسا وهو ينظر الى وجهها الجميل المزين باتقان و شعرها الأشقر المنحدر على كتفٍ واحدة ... و هي تنظر اليه مبتسمة بشفتين حمراوين جذابتين
ابتسم قائلا بهدوء
( رائع يا ميرال ....... حقا )
ابتسمت بثقة و هي تتراجع في مقعدها المقابل لمكتبه واضعة ساقا فوق أخرى ثم قالت بصوتٍ رنان
( كنت أعرف أن البرنامج سيعجبك .... لقد صدمت من مدى الفوضى في مكانٍ ناجح كهذا , لذا لم أدخر برنامجي الذي كان موضوع دراستي في سبيل المكان هنا .... )
قال سيف مبتسما بهدوء
( حقا أنا منبهر ......... )
تعمقت ابتسامتها الفخورة ...فتابع سيف قائلا بصدق
( على الرغم من أننا أكثر من محظوظين بانضمامك الينا .... الا أنني أتسائل عن سبب تركك العمل بالخارج و رغبتك في العمل هنا .... صحيح أنني مديرك الآن و لا ينبغي أن أذكر ذلك , لكني متأكد من راتبك هنا أقل بكثير عن راتبك في الخارج ...... )
ابتسمت ميرال برقة ...ترجع خصلة شعر الى الوراء بأناقة ... ثم قالت بثقة
( نعم ..... في الواقع الفرق كبير , لكن الغربة لها ثمن .... و الإستقرار له ثمن كذلك .... لقد ابتعدت عن أهلي طويلا ..... و أعتقد أنني قطعت طريقا لا بأس به في تحقيق طموحي .... أريد الآن أن أستقر بين أهلي و في بلدي ...... تعبت من الوحدة حقا ...... )
قال سيف مبتسما
( و هو حظنا الحسن بالتأكيد ........... )
احمر وجهها قليلا .... و ابتسمت له ابتسامة جميلة مدروسة بأناقة
ثم بعد فترة ظهر عليها بعد التردد , لتقرر بعد لحظة الكلام ., فقالت مبتسمة بحرج
( لو سألتك سؤال فضوليا .... هل تجيبني أم تعتبرها اساءة أدب مني ؟..... )
رد سيف ببساطة
( أبدا ....... تفضلي .....)
ترددت و فمها يفتر عن ابتسامة قصيرة .... ثم قالت باتزان حاولت أن تجعله مرحا
( أنا اليوم أجدك ترتدي خاتم زواج ...... لم يكن بيدك في الأمس , هل أنت متزوج ؟؟ ..... )
نظر سيف تلقائيا الى خاتم الزواج في اصبعه ... و تحرك ابهامه عليه مداعبا بشرود .... لكنه رفع رأسه اليها أخيرا قائلا بابتسامة صغيرة
( هذا صحيح ...... لقد تزوجت ليلة أمس )
لم تستطع منع شفتيها من الإنفراج قليلا ... ثم قالت بدهشة باهتة
( حقا ؟!! ....... لم أره في يدك اليمنى حتى !! ..... و لم أسمع أحدا من العاملين يهنئك !! .... )
التوت ابتسامته قليلا , ثم رفع رأسه قائلا بهدوء
( الأمر جاء سريعا .... و لم يعلم أحدا بعد , و على الأغلب سيعلم الجميع اليوم ..... , إنه عقد قران في الواقع فأنا لا أحبذ الخطبة دون روابط .... )
أومأت ميرال برأسها ببطء ... ثم همست بفتور
( مبارك ....... كم هذا رائع !! .... )
ابتسم سيف ممتنا .... بينما يعود تفكيره رغما عنه في غير الوقت المناسب الي عروسه النحيفة شاحبة الوجه ذات العينين الخلابتين ...
تلك التي تثير به مشاعر لم تثرها به من هنا أكثر جمالا منها بمراحل شاسعة ....
كم كان قريبا منها ليلة أمس .... و مع ذلك تنتابه نشوة الإنتظار متلذذا بكل لحظة من لحظات استسلامها الذي يبدو و كأنه خارج دون وعيٍ أو تركيزٍ منها ....
سمع طرقا رقيقا على الباب ... جعل أذنيه المرهفتين تتخيلانه طرقها ....
الا أنه نفض عنه ذلك التخيل سريعا ... ساخرا من ذلك فكرة قدومها للعمل اليوم بعد أن أصبحت رسميا زوجة المدير ....
لكن الثقة تبخرت من عينه سريعا و هي تبصر اليد البيضاء الصغيرة الصينية المعتادة و فنجان القهوة يزينها ... رائحته الطيبة تخبره بوضوح أنها من صنع تلك اليد الصغيرة التي جرت على صدره تثير جنونه منذ ساعات قليلة ....
لم تكد تمر اللحظة حتى برزت كلها بالفعل ... مرتدية ثوبها ذو الصدر المحكم المطبع بالورود و التنورة الهفهافة من الشيفون ... تحمل قهوته و وجهها الشاحب .. قبل أن ترفع عينيها الى عينيه ....
حينها تسمر الوقت حولهما للحظة ... فاحمر وجهها بشدة و هي تطرق برأسها سريعا ... ثم تقترب أمام عينيه المندهشتين .... الى أن وصلت الى حافة مكتبه فتوقفت و انتظرت لحظة قلقة ... ثم قالت بخفوت مرتبك
( صباح الخير ...... )
لم يكن قد أفاق من دهشته و أختلاجة أنفاسه الشرسة ... وهو يقول بصوتٍ أجش
( وعد !! ....... ماذا تفعلين هنا ؟!! .... )
توقفت أمامه و قد فقدت دفعة الثقة القليلة التي أخذت تختزنها لساعات طويلة قبل أن تأتي و تواجهه من جديد ... طارت عيناها الى الشقراء مذهلة الأناقة في ثوبها القصير بلون القهوة ... و حذائها عالي الرقبة و الكعبين ...
هل كلما دخلت اليه ستجدها عنده ؟!! .......
عادت بعينين واجمتين اليه لتقول مترددة بخفوت
( فكرت ...... فكرت أن أحمل اليك قهوتك .... )
وقفت ترتجف قليلا ثم مالت لتضع قدح القهوة أمامه و هي تتوقع كل ردود الأفعال ... مثل حدة كحدته منذ عدة أيام ... أو أن يصرفها ببرود ....
الأمر الذي يختلف تماما عنه حين يكونان بمفردهما ....
لكن طالما أن تلك الشقراء موجودة فمن المؤكد سيعاملها بطريقته المهينة الفظة .... و انتابها شعور فظيع بأنها لا تريد أن تُهان الآن .... في تلك اللحظة بالذات .... و أمام تلك الشقراء الأنيقة التي كانت تراقبها بصلف ...
همست وعد بداخلها
" يا رب لا تجعله يحرجني أو يهينني الآن .... يااارب "
لكن كل أفكارها تطايرت حين رفعت عينين مهتزتين قلقتين اليه لتصدم برؤية ابتسامة عميقة منه ... لم ترها منذ فترة طويلة ...
تقريبا منذ ان فعلت فعلتها السوداء تجاه والدته ....
ابتلعت ريقها و هي تمسك درعها الواقي أمام خصرها ... عيناها مأسورتان بقوى عينيه ...
الى أن قال أخيرا بصوته العميق النبرات
( هذه ....... حركة رائعة منكِ )
طال صمت متوتر بين ثلاثتهم ... و عيني ميرال تدوران بينهما بحذر ... بينما سيف ووعد كانا في عالمٍ آخر ... عالم لهما وحدهما ....
ثم قال سيف بهدوء عفوي وهو ينظر الي ميرال
( ميرال ...... أنتِ تعرفين وعد طبعا , لكن مالا تعرفينه أنها أصبحت زوجتي )
كان ليضحك في ظروفٍ أخرى من مرأى فمين أنثويين انفتحا أمامه بدهشة ....
دهشة ميرال كانت طبيعية .... الا أن عيناه كانتا مهتمتان بدهشة وعد التي تقارب الصدمة ...
و كأنها تسأل نفسها عن الخدعة التي ينتويها .... و كيفية تلاعبه بها ....
الا أنه أدار وجهه حين قالت ميرال قبل أن تستطيع أن تمنع نفسها
( سيف أنت تمزح ..... لقد أحرجت الفتاة !! ...)
اختفت الإبتسامة من وجه سيف ... الا أن ملامحه لم تكن قاسية وهو يجيبها بهدوء
( لا لست أمزح ..... لقد عقدنا قراننا ليلة أمس ..... وعد قريبتي بالمناسبة .... )
تركت عيناه وجه ميرال المصدوم لينظر الى وعد الأكثر صدمة وهو يتابع بنبرة عميقة للغاية و عينيه بعينيها
( لذا كان من الطبيعي أن أكون الأولى بها ....... )
ارتجفت مكانها و تعقدت أصابع قدميها في مكانها بتوتر .... حتى الآن لا تصدق أنه فعلها !! ....
لقد أتت و هي متأكدة أنه سيحنث بوعده و سيبقى أمر زواجهما طي الكتمان .... أي لعبة يلعبها ؟!!
يبدو و كأنه يتسلى ليرى من يجرؤ على تحديه !! ....
فقالت ميرال بالفعل دون خوف
( ياله من وضع غريب !! ......... )
رفع سيف احدى حاجبيه ليقول بجدية منتظرا .... بخطورة
( ما وجه الغرابة ؟؟ ........ )
صمتت ميرال قليلا و هي تنظر اليه بتحدي خفي ..... ثم قالت أخيرا بجرأة
( أنت تكسر الفارق الإجتماعي بتحدي يثير الدهشة ....... و الإعجاب )
استطاعت وعد أن تلمح في صوتها الرفض التام للكلمة الأخيرة التي أضافتها مرغمة كنوع من الذوق على كلامها الفظ .....
الحقيقة أن كلامها لم يكن فظا ...... بل كان حقيرا ....
شعرت وعد و كأنها صفعتها للتو ..... على الرغم من عدم وجود أي معرفة سابقة بينهما كي تجرحها بهذا الشكل القاسي .......
عضت وعد على شفتها بقلق .... بينما نهضت ميرال من مكانها برشاقة ثم قالت لسيف ببرود لم يلتقطه سوى أذني وعد
( مبارك يا سيف ........ لقد .... أبهرتني ... حقا )
ثم انصرفت متجاوزة وعد و كأنما لم تلقى القدر أو المكانة المناسبة كي تستحق التهنئة كما استحقها سيف للتو ....
سمعت وعد صوت إغلاق الباب من خلفها ... فأخفضت رأسها لتنزلق خصلة من شعرها على وجهها بصمت , حتى حين سمعت صوت نهوضه من مكانه و دورانه حول المكتب كي يقترب منها ببطء
لم تستطع أن ترفع وجهها .... فمد هو يده الي ذقنها يرفع وجهها اليه ....
نظرت الى وجهه و على الرغم من قساوة قسماته الا أن عينيه كانتا تبتسمان لها ..... فابتسمت باهتزاز
قال سيف بخفوت قوي
( حسنا سيدة وعد ...... ماذا تفعلين هنا اليوم ؟!! ...)
ارتجفت بين يديه احداها على ذقنها و الأخرى تتلمس ارتجافة خصرها .... انه ليس غاضب ... ليس تماما ....
فقالت بخفوت
( أنت لم تخبرني بما سأفعله الأيام المقبلة ...... التدريب سيبدأ الشهر المقبل , لذا حين استيقظت اليوم ... لم اعرف بالضبط ما تتوقعه مني , لذا قررت المجيء بصورة طبيعية ..... )
اتسعت ابتسامته أكثر قليلا ... ثم قال بخفوت
( أحيانا تتصرفين بغباء ... يزيد من شكي في مستوى ذكاءك العام )
عبست وعد من الإهانة و هي تنظر اليه لتقول بتذمر
( أنت لم تخبرني بالأمس ..... ماذا كان عليا أن أفعل , خفت أن تغضب و تلغي التدريب إن انقطعت عن العمل .... )
التوت ابتسامته هذه المرة بشكلٍ عبثي وهو يقول بلهجةٍ ذات مغزى
( آآه ليلة أمس ..... أعذريني , كنت مشغولا بأشياءٍ أخرى .... )
أحمر وجهها و هي تحاول الابتعاد عنه , الا انه لم يسمح لها بذلك ... تاركا ذقنها محيطا , ليأخذ الصينية من بين يديها مزيلا ذلك الحائل بينهما .. وهو يقول بصوتٍ أجش
( أتحتاجين هذه في شي ؟!! ...... لقد بدأت تستفزني فعلا .... انها تعوق الرؤية و الإحساس ... )
وضعها على المكتب بعد أن تركتها بسلاسةٍ أكبر من كونها تتخلي عن درعها الواقي ....
ثم التفت اليها , ليحيط خصرها بكلتا ذراعيه يجذبها الي صدره بقوة ... فذعرت و هي تصد صدره بكلتا كفيها هاتفة همسا
( سيف ....... ابتعد , لو دخل أي شخص الآن ستصبح كارثة , لم يعلم الجميع بعد بالأمر ..... )
ضحك بخفوت وهو يقربها أكثر و أكثر حتى كادت أن تنصهر من حرارة صدره الذي بدا كمرجل مشتعل .. ثم قال مندهشا
( هل هذه هي المشكلة الوحيدة ؟!! ..... أي لو أخبرت الجميع , فلا مشكلة حينها !! ..... ربما سأقبلك أمامهم عندئذ .....)
هتفت بقوة و ذعر
( أنت تهذي .......... )
عقد حاجبيه وهو يقول بجديةٍ مصطنعة
( أهذي !! ....... أتحبين الدخول معي في تحدي ؟؟...... )
هزت رأسها نفيا بسرعة و تحولت عيناها الى وديعتين و هي تقول
( لا .... لا .... حسنا سحبت كلامي )
قال سيف باتزان
( حسنا هذا جيد ...... و الآن هل يمكنك قول صباح الخير بكل أدب بعد أن ضيعتِ كل هذا الوقت في ثرثرةٍ لا فائدة منها .... )
همست بتهذيب تلقائيا
( صباح الخير ........... )
عقد حاجبيه ضاحكا .... ثم قال بنفس الإتزان
( هذا جيد كبداية ..... لذا اسمحي لي أن أرد .... )
همست بخوف تلقائيا و يديها تتصلبان تميل بوجهها
( لا .......... )
عقد سيف حاجبيه قائلا ببراءة
( ماذا !! ...... لم أفعل شيء بعد .....)
كانت تحاول الهروب , الا أن الأمر بدا مستحيلا من بين ذراعيه القويتين و المغريتين .... ثم بدأ يميل برأسه تجاهها ببطىء شديد و كأنه يمنحها فرصة لإستيعاب ما يحدث
ياللهي .... إنها في ورطة !! ......
انها غير قادرة على مقاومة ذلك المد البطيء و المذيب لها ..... خبرته تكاد تهلكها و دون حتى مشاعر حب !!
هل هذا ممكن الحدوث فعلا ؟!! ..... أن يصهر كيانها بتلك الصورة دون مشاعر حقيقية بينهما ... الا اذا كانت مشاعر العداء في الواقع ....
لقد سمعت من قبل أن مشاعر العداء تثير نفس التأثير كمشاعر الحب تماما ....
اكتشفت فجأة أنها تهذي مثرثرةٍ بداخلها بينما توقفت مقاومتها ... و أغمضت عينيها منتظرة .....
لكن القبلة التي انتظرتها لم تتجه الى حيث انتظرتها ..... بل أحست بشفتيه الصلبتين تلامسان وجنتها برقة ثم صوته يهمس بأذنها
( صباح النور ........ )
شعرت بإحساس غادر من خيبة الأمل .... لكنها لم تفتح عينيها خوفا من أن تفضحان تلك الخيبة ...
الحقيقة أن أفضل وصف يمكن أن تتصف به حاليا هي أنها " خيبة حقيقية "
توقفت ثرثرتها الداخلية حين مال الى وجنتها الثانية يقبلها برقة اكبر ... هامسا بخفوتٍ اقوى في اذنها الاخرى
( صباح النور ....... )
حينها تبددت خيبة الأمل و ارتجفت بين يديه و هي تريح يديها على صدره ... بينما عاد وجهه لينخفض وهو يمس شفتيها بشفتيه بلمسةٍ كالنسيم وهو يهمس بينهما
( صباح النور ....... )
أغمضت وعد عينيها على " صباح النور الأخيرة " .... و استسلمت ... فزاد من صباحه عمقا .....
مرت عدة لحظات كانت تحلق بها معه ... الى أن أبعد وجهه عنها أخيرا ببطء ... فاضطرت لأن تفتح عينين متألقتين كالنجوم .... و قد تشابكت عدة شعرات من شعرها الناعم بشعرات ذقنه الحادة النامية ...و كأنها ترفض أن يبتعد وجهه عنها و تحاول اعادته متوسلة ....
حينها لاحظت أنه غير حليق الذقن على غير العادة .... عيناه حمراوان .... و ليلةٍ سيئة تلوح على ملامحه ....
مد يده ببطء يبعد خصلات شعرها عن ذقنه وعينيه تنظران الى عينيها و قد اختفت ابتسامته .....
أسبلت جفنيها ونبضاتها تتقافز بقوة .... محاولة التأقلم مع أن ذلك الشخص المهيب أصبح زوجها ... و لو اسما فقط حتى الآن .....
سيف الدين فؤاد رضوان أصبح زوجها !! .....
صدرت منها شهقة صامتة و هي تنظر الى نقطة مجهولة خلف كتفه و كأنها تحاول الإستيعاب من صدمة متأخرة ....
همس سيف أخيرا بصوتٍ أجش جاد
( بماذا تفكرين ؟؟ ......... )
رفعت عينيها اليه , ثم لم تجد القدرة على ملاقاة عينيه طويلا فأخفضت وجهها و هي تبتلع ريقها بارتباك هامسة بتعثر
( لا أصدق انني فعلت ذلك ...... )
أخذت نفسا عميقا ثم تابعت برهبة
( هل هذا منطقي ؟!! ...... .. )
صمت سيف قليلا و هو يدقق النظر بملامح وجهها ... ثم قال بصوتٍ عميق جدا
( هل يهمك كثيرا أن يكون منطقيا ؟؟ ........ )
رفعت وجهها الشاحب اليه ثم عادت لتخفضه مجددا و هي تجد عيناه تنتظران عينيها في كل مرة ... ثم همست
( لقد اعتدت ان يهمني ذلك طوال حياتي ...... )
ترك خصرها ببطء ليقبض كفه على يدها ... ثم تراجع خطوة للخلف مستندا الى حافة مكتبه وهو يسحبها معه ...
الآن أصبحت اقرب .... الآن أصبحت ملكه .... و قريبا ستصبح ببيته ...
مد يديه يحيط بوجنتيها كي ترفع وجهها اليه ... و حين اضطرت رغما عنها على أن تنظر الي عينيه ... انتظر لحظة ثم قال بجدية
( لم أسألك قبلا ......لماذا قبلتِ الزواج مني أخيرا ؟؟ ........ )
ارتبكت بشدة ... و تلون وجهها , ثم قالت بتوتر
( أنت تقريبا هددتني ....... )
رفع حاجبيه دون رد ... فعلمت مدى غباء حجتها , فترددت ثم همست
( لم يكن لدي أي حل آخر ...... كنت ..... أحتاج المساعدة .... )
هذا هو ما كان يعرفه ... و قد استغله تقريبا , ... لكن سماعه منها كان بغيضا على نفسه جدا و بصورة غير متوقعة ...
أخذ يتأمل ملامحها بصمت .... وهو يتخيل كل الأيام الباردة كالصقيع التي عاشتها في طفولةٍ متنقلة بين دار رعاية ... و بين أم و أب لا يستحقان اللقب ...
لكن أكثر ما كان يثير غضبه بشدة هو أن تلك الشابة التي تقف بين يديه الآن و التي حدث أن اصبحت زوجته ... كان من الممكن أن تتفادى كل ذلك و تبقى ببيته ... تحت عينيه منذ طفولتها ...
لو كانت أمه فقط قد ارتضت بذلك ....
لو كانت أخذتها و هي طفلة , لما كان سمح لأحد أن يأخذها من بيتهم أبدا .... و لما كانت حينها ستتصف بصفة ابنة عبد الحميد العمري .... تلك الصفة التي تخنقه و تقف بحلقه ....
لما كان أنشأها على تربيته و مبادئه المنعدمة .....
ليلة أمس ... أمضاها دون أن يغمض له جفن ... ما بين احباط أهوج لتركه لها و ما بين شعورٍ بالعطف عليها وهو يتخيلها طفلة صغيرة هزيلة تقبع في الدار منتظرة كل ليلة أن يأتي من يأخذها من ذاك المكان ....
و الآن على الرغم من احباطه بسبب صراحتها الفجة .... الا أن عقله كان يأمره بأن يصدق أن شابة مثلها من حقها أن تطمح في حياةٍ أفضل بعد كل ما عاشته سابقا ....
كان ينظر اليها شاردا و متأملا في نفس الوقت ... غارقا بأفكاره و يده تتلمس ملامح وجهها الهشة بصمت و تطيل التجول فوق شفتيها المنفرجتين قليلا ....
أوشك أن يخبرها بشيء الا أن شفتيها تكلمتا تحت أصابعه بخفوت و هي تقول
( يمكنك الإنسحاب في أي وقت ...... )
عقد حاجبيه قليلا بعدم فهم ليقول بعدها بصوتٍ جاف
( الإنسحاب ؟!! ..... من ماذا تحديدا ؟!! ...... )
قالت وعد بحذر و هي تتجرأ على النظر الي عينيه
( لو كنت تشعر بأنك قد تسرعت فيمكنك تتراجع في هذا الزواج من الآن ...... )
تصلبت ملامحه فجأة .... ثم صمت صمتا متوترا لعدة لحظات قبل أن يقول أخيرا بجفاء
( أنتِ متساهلة جدا !! .............. )
فغرت شفتيها قليلا و ترددت .... ثم قالت أخيرا بعفوية
( ليست مسألة تساهل ..... لكننا لازلنا على البر , لذا فأهون الضرر سيقع الآن لو انفصلنا و ليس بعد .... )
لم تتغير ملامحه مطلقا ... لكنها شعرت بأنها تشتد و تتصلب أكثر مع كل لحظة تمر ... و حين تكلم أخيرا جاء صوته صلبا لا تعبير به
( لازلنا على البر !! ........ حسنا , لكن بعد ليلة أمس لا أظن أننا لا زلنا على البر بخلاف نظرتك التقديرية للأمور ...... )
عقدت حاجبيها و هي تقول بسرعة دون تفكير
( لم يحدث ............ )
صمتت و عيناه تنفذان بتحدي الى داخل أعماقها ..... فاحمر وجهها من مدى جرأتها المفاجئة فحاولت أن تخفض عينيها الا أنه لم يسمح لها حين أعاد رفع وجهها اليه بإصرار ...
فنظرت اليه مضطرة ..... و قد احمر وجهها بشدةٍ من هذا الموضوع الغير منطوق بين أعينهما حاليا ...
نعم هو محق .... إنهما لم يعودا على البر بعد ليلة أمس .....
ليلة أمس لم تكن مجرد إجراء توقف قبل أن يصل لنهايته لذا يتم حذفه بسهولة .... لكنه كان بمثابة التسليم بملكيتها له ..... و قد خطت إمضاء اسمها بيدها .....
بينما كان هو يحترق بذكراه الخاصة .... مشتاقا , محبطا , متسائلا نفس السؤال الذي لن يحصل على جوابه أبدا .... " هل كانت لتسلم لغيره ؟!! ...... "
تنحنح أخيرا يتنفس بخشونة .... مبددا بعضا من احتراقه الداخلي , ثم قال بصوتٍ أجش
( حسنا سيدة وعد ...... أحب أطمئنك أنني لن أنسحب لا في البر أو البحر ..... و حين تسحبنا الأعماق ذات يوم ستدركين استحالة ذلك حينها ..... )
وجهها يحمر أكثر و أكثر من تلميحاته المتلاحقة .... الا أنها لم تصدقه .....
ببساطة و صراحة لم تصدقه ...... سيأتي اليوم الذي سينسحب به لأن الأمر كله ليس منطقيا ... و هو يتخيل أنها من السذاجة بحيث تصدق ذلك ....
تصدق أنها قد جرحته الآن حين ذكرت كلمة الإنسحاب ..... بينما هي تعرف أنه لن ينسحب من هذا الزواج قبل ان يتمه ..... مثله مثل أي رجل في مكانه .....
و خاصة هو ...... لن ينسحب قبل أن يحصل دينها له كاملا .... و قد يتطاول حتى يحصل دين والدها كذلك ...
تنهدت وعد بشرود و هي تفكر بأنها قد ارتضت بتلك الصفقة ..... فلا يجب عليها الآن تمثيل دور الضحية ...
الحياة تنازلات .... رفضتها بقوة حين كانت تمتلك قوة الشباب و حماسه .... أما الآن .... فهي تتنازل بصمت فلا داعي للتفكير طويلا و تحميل نفسها أكثر من اللازم .....
كان سيف ينظر اليها مسحورا ببشرتها الشاحبة الشفافة و هي تتورد و تتماوج في احمرارها حتى الاذنين مع كل كلمة منه .... لم يرى فتاة من قبل تتفاعل بشرتها مع كلام رجل بتلك السهولة و الوضوح !!
لم يظن أن ذلك ممكنا قبلا ......
وعد عبد الحميد العمري ...... فتاة متناقضة للغاية , حصلت على النشأة و التربية الخاطئة من كل الجهات ... الا أنها على الرغم من ذلك لا تزال تحتفظ بفطرة تحسدها عليها أجمل و أرقى النساء ....
أومأت وعد برأسها بسذاجة ... ثم حاولت الابتعاد و قد بلغ منها التوتر و الخجل أقصى حد , الا أنه عاد ليجذبها من كفيها اليه فتسقط على صدره ...
قالت وعد أخيرا باختناق خجول
( سيف يجب أن أذهب الآن ...... أرجوك )
قال سيف بصوتٍ أجش
( لن تذهبي الى أي مكان الآن .... خاصة بعد أن أتيت الي بقدميكِ ..... مرتدية ثوبك ذو الورود و قد أطلقت شعرك .... أي أنكِ تتحديني في كل ما حذرتك منه سابقا .... )
كانت عيناه تلتهمانها بقوة ... و قد امتلك الحق أخيرا دون الشعور بتأنيب الضمير , مع الشعور بالرغبة فيها و الرغبة في خنقها من امتلاك تلك الجاذبية دون محاولة اخفائها ....
على الأقل لقد امتثلت قليلا و تكرمت بارتداء السترة القطنية البيضاء المفتوحة من فوقه ... لكنها لم تجدي نفعا بالنسبة اليه .....
ارتبكت وعد قليلا و هي تمسك بخصلة شعر منسدلة من احدى مشبكي شعرها تنظر اليها بشرود ... ثم قالت بخفوت
( بما أنني عروس ..... فكرت أن التأنق يحق لي اليوم .... )
اشتعلت عيناه بنيران هوجاء وهو يهمس بصوتٍ متحشرج
( التأنق خلق من أجلك ........... )
و قبل أن ترد كان قد انحنى اليها يقبل وجنتيها بنعومة الورد .... و أصابعه تتخلل شعرها بنعومته التي تسلبه القدرة على تركه دون أن يشعثه بفوضى ناعمة ....
كل مرةٍ يجد بعضا من شعراتها بين أصابعه ما أن يبتعد عنها .... كان ذلك يجعله يريد أن يطعمها بنفسه و في نفس الوقت تزيد من شوقه الي شعرها أكثر و أكثر ....
ابتعدت وعد منتفضة و هي تعدل من سترتها القطنية .... و هي تقول بتعثر
( حسنا .... ماذا أفعل اليوم و غدا ... و الى أن يحين موعد التدريب ؟؟ ... )
أخذ سيف نفسا عميقا وهو يراقب احمرار وجهها الساحر ... ثم قال أخيرا باتزان مزيف
( يمكنك المجىء وقت تشائين .... على الرحب و السعة ... و يمكنك تقديم قهوتي كما تفضلتِ اليوم .... لكنك ممنوعة من العمل نهائيا ..... )
عقدت وعد حاجبيها و هي تقول بغباء
( لكنني في حاجة الى راتب هذا الشهر .......)
ظل سيف ينظر اليها يائسا ... صحيح أنها قد مرت بظروف صعبة , الا أن تفكيرها لا ينصب سوى على الرواتب و الحوافز و الإعانات و المساعدات .... لقد بدأ فعلا يشعر بأنها حالة من البؤس ميؤوسا منها ...
لقد نست أصلا أنها أصبحت زوجة مدير هذا المكان ... و تفكيرها أقتصر في لحظةٍ واحدة على راتب الشهر الذي قد يضيع منها !! ....
كم يعشق تلك اللحظات التي تستسلم فيها لهواه الجامح .... حينها يشعر أنها أخيرا قد انتمت الى عالم البشر ...
قال سيف أخيرا بخفوت
( لا حاجة بكِ الى الرواتب بعد الآن ..... لقد أصبحتِ زوجتي إن كنتِ قد نسيتِ )
ارتبكت وعد قليلا و هي غير مستوعبة اللقب بعد .. ثم قالت أخيرا بحذر
( لم أعتد أن ......أكون مسؤولة من أحد .... لقد ارتضيت المساعدة منك لكن ليس بالكامل و دون أن أفعل شيء في المقابل .... )
استقام سيف من مكانه ببطء فتراجعت خطوة تلقائيا ... الا أنه قال بلا تعبير
( أنتِ زوجتي ........ )
و كأنه بذلك قد شرح مقصده لها .... همست وعد بتوتر و حرج
( لكن ........ )
اعاد سيف بنبرةٍ أشد صلابة قليلا علها تفهم أخيرا
( أنتِ زوجتي .......... )
صمتت و هي تنظر الى ملامحه المتصلبة ... و رمشت بعينيها ....
بماذا تفكر !! .... هل كانت تتخيل أن تقدم زوجة المدير المشروبات و الطلبات الى العاملين هنا !! و يقبل المدير بذلك !!! ..... ربما هي فعلا من الغباء بحيث لم تدرك وضعها الحقيقي الآن .....
قالت وعد أخيرا بارتجاف
( أنا .... أنا .... لن أعطلك أكثر من ذلك , ..... سأذهب الآن ..... )
الا أن سيف ظل ينظر اليها بتصلب .... ثم قال أخيرا بجفاء
( اذهبي لكن لا تغادري المكان ...... سأقلك معي ... )
هزت رأسها نفيا بسرعة و هي تقول
( لا داعي حقا ..... أنا س ..... )
قال سيف بنبرةٍ جليدية
( اذهبي يا وعد ....... و أخبري الجميع عن زواجنا )
اتسعت عيناها قليلا ..... تخبر ماذا ؟!! ...... تخبر من ؟!!! .... هل سيتركها في وجه المدفع وحدها ؟!!
انها حتى تشعر بالرعب من تخيل الموقف .... مرعوبة من تخيل نظرة الذهول على وجوه الجميع ...
موقف غير مرغوب .... و مهين .... مهين للغاية ......
ظلت تنظر اليه متسائلة عن هدفه بخوف .... الا أن وجهه القاسي لم يظهر تعبير وهو يقول بصوت خافت آمر
( هيا اذهبي ........... )
ظلت واقفة لحظة .... ثم اقتربت منه بتعثر حتى وصلت الي حافة المكتب التي يستند عليها فمالت كي تأخذ الصينية من خلفه ...
ثم استقامت لتتراجع و هي تنظر الي عينيه المحدقتين بها ... ثم استدارت لتخرج و نظراته تلفح ظهرها ...
أغلقت الباب خلفها و هي تضع يدها على صدرها اللاهث .... ما ذلك الذي رمت نفسها به ؟!! ....
خرجت من غرفة علا الفارغة الى الممر ببطىء شاردة و صينيتها تتأرجح في يدها .... الى أن وصلت الى مجموعة من الموظفات كن يتضاحكن معا و من بينهن علا .... التي ما أن رأتها حتى نادت باسمة بعفوية
( وعد ..... أريد قهوة بالحليب من فضلك .... )
ثم نظرت الى زميلتها لتتابع ماكانت تتناقش به .... بينما قالت أخرى
( و أنا يا وعد من فضلك أريد شاي أخضر .... لكن رجاءا يا وعد ... رجاءا ... تذكري أنني لا أشربه بسكر ... كل مرة تنسين و تحضرينه محلى ..... )
بينما هتفت واحدة و هي تخرج حقيبتها
( اسمعن ..... أنا أتضور جوعا حيث لم أتناول عشائي بالأمس .... لما لا نفطر سويا ؟؟ ..... أنا أتضور شوقا الى كعكات المقهى المجاور ..... ما رأيكن ؟؟ ....نرسل وعد سريعا )
برقت أعينهن و قد لاقت الفكرة الرضا كاملا ... ثم هتفت علا
( آآآه أنتِ مصدر الفساد دائما .... كل هذه السعرات في الساعات الأولى من الصباح !! ... ماذا سنترك للباقي اذن !! .... لكن من يستطيع المقاومة .... )
ثم نظرت الى وعد تقول بابتسامة عريضة
( لكن قهوتي قبلا يا وعد من فضلك ..... فأنا لم أستجمع تفكيري بعد .... )
بينما قالت الأخرى و هي تخرج حافظتها
( خذي المال يا وعد ...... هل معك ورقة و قلم لتكتبي ما نريد ؟؟ .... )
بينما وعد واقفة مكانها متشبثة بصينيتها و هي تستمع اليهن بنفسٍ منقبضة .و أعين منطفئة ... لم يكن ذلك يشكل لها اهانة من قبل ... كان عملها .... لكنها الآن كانت تشعر بمزيج من الرهبة و الحرج و الإهانة ....
لم تدري ماذا تفعل .... لا تجد القدرة على النطق .... النطق بماذا ؟!! .... ماذا ستقول ؟؟ ....
قررت في لحظة أن تمتثل لهن و تحضر ما طلبنه ثم من بعدها تختفي كي لا يطلب منها أحد أي شيء ...
كانت ميرال في تلك اللحظة تقترب منهن برشاقة و قد التقطت أذنيها نهاية الحوار , فتوقفت لتقول محذرة بشكل مازح
( احذرن يا فتيات ...... أنتن الآن ترتكبن خطأ فادحا ووعد توقعكن في الفخ .... )
وقع قلب وعد بين قدميها و هي تنظر اليها متوسلة الا تنطق بكلمة ... لكنها تابعت متجاهلة نظرتها
( وعد الآن أصبحت زوجة السيد المدير ..... رسميا .... )
لم يصدر أي رد فعل للحظة ثم بدأت الضحكات في الإرتفاع واحدة تلو الأخرى ... و بعض المزحات مثل
( تخيلي لو كان هذا صحيحا ..... )
( حينها كان سيكون لدينا عين جاسوسية في مكتب سيف الدين فؤاد رضوان )
( هذا هو آخر رجاءه عقابا على أنفه المرفوع دائما .... عذرا يا وعد لا أقصد إهانة هههههههه )
( اخفضن صوتكن كي لا يصل هذا الكلام لسيف الدين ...... و تصبحن في عداد الأموات ... )
قالت علا محذرة على الرغم من ضحكها
( انتبهن يا بنات ..... وعد قريبة المدير رغم كل شيء , قد تشي بنا ..... )
( وعد هل أنتِ بهذه النذالة ؟!! ...... هل ستشين بنا حقا و تخبريه أننا نروج اشاعة زواجكما ؟!! ههههههه )
ظلت وعد واقفة تستمع اليهن بصمت .... و قد تبلدت ملامحها ... و صدرها يتسارع بتنفسه ...
تريد لو تهرب من هنا .... تريد لو ..... لو تتلاشى من هذا المكان و تعود لحياتها المضنية .... اهون عليها من كل ذلك الضغط المهين ....
تطوعت ميرال لتقول بثقة و هي تبتسم
( أنا لا أمزح على فكرة ....... لقد أخبرني سيف بنفسه للتو ... لقد عقد قرانهما بالأمس ... انه يضع خاتمها و هي كذلك ..... )
اغمضت وعد عينيها للحظة ....
بينما بدأت الضحكات في الإنحسار .... لتبدأ النظرات في اتخاذ الذهول ...
فتحت وعد عينيها على هذا الكابوس .... لتجد مجموعة من أكثر الفتيات أناقة يتفحصنها بذهول .. بدءا من صينيتها ... لتتوقف اعينهن على صدر فستانها المطبع بالورود .... و حذائها البسيط ...
على الرغم من انها تقريبا قد خاطت شيئا او اثنين لمعظم الواقفات ... و اثنين على عملها بشكل رائع ....
لكن مجرد أن سمعن بهذا الخبر الصادم ... بدأن في الحكم على ملابسها و انتقاد ذوقها البخس بذهول
و السؤال الغير منطوق يهز الجميع ...
كيف تزوجها ؟!!!..... و لماذا ؟!!! ......
و ملامح عدم التصديق تحيط بوجوههن ... ففكرت وعد انها لو ارتدت الخاتم الغالي فوق المحبس لربما صدقن بشكلٍ اسرع .... لكنها خافت ان يتم تثبيتها و سرقتها في الشارع ....
كانت علا اول من تكلمت بذهول قائلة
( هل هذا صحيح يا وعد ؟؟!! ........ )
اخذت وعد نفسا مرتجفا .... قبل أن تومىء برأسها ببطىء ... فقالت علا بذهول
( كيف ؟!! ........ )
تصلبت ملامح وعد قليلا ..... ثم قالت أخيرا
( كيف ... ماذا ؟؟ ...... لقد عرض علي الزواج و أنا وافقت و عقدنا قراننا ليلة أمس ..... )
كان منظر تعبيرات وجوههن ليكون مضحكا في مواقف اخرى .... لكن ليس في هذه اللحظة وهي تحاول فرد ظهرها و رفع ذقنها مواجهة لهذا القدر من الذهول و الرفض .....
لقد حدثت المصيبة و انتهت .... لذا من الأفضل أن تواجهها بذقنٍ مرتفعة حتى و لو كان بداخلها العكس ...
همست احدى الموظفات قبل أن تستطيع منع نفسها
( لكن ..... هناك شيء غير صحيح .... )
لكزتها زميلتها في مرفقها فصمتت مرتعبة .... حينها قالت وعد بإباء
( تلخيصا لأي أفكار غريبة .... سيف هو ابن عمتي ..... و عملي هنا كان مجرد مرحلة مؤقتة أنا لا أخجل منها ....... هل هناك مشكلة بذلك ؟؟ .... )
لم تستطع احداهن النطق بكلمة ... و هن ينظرن اليها بمعالم الذهول ماعدا ميرال التي كانت تقابل تحديها مبتسمة بأناقة .... ثم ابتسمت لهن بدبلوماسية و هي تشدد من الإمساك بصينيتها الحامية ... تقول برقة
( أتمنى لكن المثل يا فتيات .....و الآن بعد اذنكن )
استدارت لتسير خطوتين ... ثم عادت لتلتفت اليهن قائلة برقة
( آآه عذرا .... لن أستطيع احضار طلباتكن , اليوم هو آخر يوم عمل لي كساعية ... انا الآن في فترة استعداد للتدريب بأمر السيد سيف ..... )
استدارت لترحل .... الا انها عادت لتلتفت مرة ثانية قائلة برقة و حرفية
( اما طلبات التصميم و الخياطة لاتزال قائمة لا تخشين ذلك , سأنهي ما بيدي و أبدا بأخذ طلبات جديدة ..... إنها هواية لن أتوقف عنها أبدا و على فكرة ... بمناسبة زواجي ... أول ثلاث فتيات سيطلبن تفصيل شيئا ما ... سيكون كهدية مني بلا مقابل .... و كنوع من الدعاية أيضا ......سلام ... )
ثم استدارت لتبتعد أخيرا و هي مبتسمة تهنىء نفسها .... بعينين بهما دمعتين محتجزتين قهرا ... تعافران للخروج , الا أنها مدت يدا سريعا تمحوهما سريعا قبل أن يلحظهما أحد ....
.................................................. .................................................. ......................
جلست ببطء على الأريكة تتطلع الى غرفة السعاة من حولها بوجوم ....
كيف تحولت الى مثل هذا الحال ؟!!
إنها تعلو في المقام .... لكنها مع ذلك تشعر بنفسها تهبط الى مستوى أكثر دنوا .....
رفعت رأسها حين شعرت بدخول علي الغرفة ... فابتسمت له بضعف , ترغب أن تضفي روحه الحلوة عليها و تزيل ذلك السواد بداخلها ...
الا أنه للأسف .... كان شاحب الملامح ... الحزن يحفر نظرة غريبة عليها في عينيه .....
لكن و قبل أن تسأله .... رأته ينظر الى اصبعها الذي به محبس الزواج ....
ثم نظر اليها أخيرا و قال بخفوت
( اذن الأمر صحيح !! .......... لقد تزوجتِ ... )
أومأت برأسها مبتسمة بحزن .... فقال بصوتٍ باهت
( لكن كيف ؟!!! ....... )
انحنت عيناها و هي تقول بخفوت
( حتى أنت يا علي ؟!! ........ حتى أنت تظنني وضيعة المقام الى هذا الحد ؟!! .... )
لم يرد عليها و هو ينظر اليها بعينين متألمتين ... ثم قال أخيرا بصوتٍ ضائع
( وضيعة المقام ؟!! ....... وضيعة المقام ؟!!! ..... وعد أنا .... )
نهضت وعد من مكانها ببطء تقترب منه و هي تنظر اليه مبتسمة , لتهمس قائلة و هي تهز رأسها نفيا
( لا تقل شيئا يا علي ..... لا تقل شيئا ستضحك عليه كثيرا فيما بعد ... )
اقترب منها أكثر .... ثم قال بترجي
( وعد ....... أنا ...... )
قاطعته وعد تقول بقوة
( توقف يا علي ....... صدقني انت من أغلى الناس عندي و أنا لا أريد أن أجرحك .... لكن يوما سيكون هذا الأمر مضحكا للغاية .... )
هتف علي بقوة
( ليس من حقك أن تحكمي على مشاعري بتلك الصورة المستهزئة ....... )
تنهدت وعد تغمض عينيها .... ثم همست باختناق
( أرجوك يا علي ....... العمر لا يزال أمامك طويلا .... و ستعرف الحب وقتها , لكن ما تقوله الآن ليس منطقيا أبدا و أنت تعرف ذلك ..... )
ليس منطقيا أبدا !! ..... لقد نطقت بالعبارة منذ فترة قصيرة , في موقف مختلف تماما ... لا ليس تماما , بل مشابه قليلا ....
لذا فتحت عينيها و نظرت اليه بعطف ... ثم قالت برقة
( أنت شاب رائع ....... و ستنضح بالرجولة يوما بعد يوم .... أما أنا .... )
قال علي بخفوت يقاطعها
( أنا أحبك ......... )
اتسعت عيناها بذعر ..... و هي تهز رأسها نفيا بسرعة كي يصمت
الا أنه اقترب خطوة أخرى وهو يمد يده كي يمسك بكفها بقوة قائلا
( أنتِ لا تحبينه ...... أنتِ فقط تحتاجين مساعدته , أتظنين أنني لا أعرف ذلك ؟!! ... )
كانت وعد قد سحبت يدها بذعر و هي تهتف كي تنبهه
( أخرس يا غبي ........ )
توقف علي عن الكلام .... ثم استدار خلفه بسرعة , ليجد سيف يقف خلفه كالطود بملامح شرسة غاضبة ... و قبل أن ينطق بكلمة كان سيف قد قبض على ياقة قميصه بكلتا يديه بقوة كادت أن تخنقه ...
صرخت وعد و هي تغطي فمها بكفيها ... بينما رماه سيف بأقصى قوته تجاه الباب وهو يهتف بقسوة
( أخرج من هنا ....... ليس لديك عمل عندي بعد الآن ..... )
كان علي يلهث وهو ينقل نظره بين وجه سيف المتوحش و بين ملامح وعد المذعورة .... ثم خرج مسرعا دون ترجي أو توسل ....
لكن وعد هي من ترجي سيف بعد أن خرجت من ذهولها وهي تتشبث بذراعه بأظافرها هاتفة
( أرجوك يا سيف أعده الى عمله ..... أرجوك , ..... لا تفعل ذلك .... )
نظر سيف اليها بقسوة , ثم جذبها من ذراعها بقوة وهو يقول بصوتٍ غاضب و هو يحاول جاهدا السيطرة على قوة غضبه
( اصمتي يا وعد ..... أنتِ من شجعته على ذلك بتساهلك معه , أنتِ السبب في قطع عمله و ليس أنا )
نظرت اليه بعينين مذهولتين , ثم صرخت بجنون
( لا ...... لا لم يحدث ...... )
هتف سيف بصوتٍ خافت محذر
( اخفضي صوتك ....... كي لا يسمع أحد بهذه المهزلة ...... )
ثم جذبها اليه حتى ارتطمت بصدره وهو يقول بخشونة
( تعالي معي ...... الجميع يريدون المباركة لنا ..... )
دمعت عيناها دون أن تسمح لنفسها بالبكاء , الا أنه شدد على خصرها بخشونة ليقول بصوتٍ مكتوم
( اغسلي وجههك و تعالي ...... لا أريد المزيد من الفضائح )
مسحت عينيها بكفيها , ثم اتجهت المغسلة و انحنت تغسل وجهها بصمت .... ثم التقطتت عدة مناشف ورقية و جففت بها وجهها ... و اتجهت اليه مطرقة الرأس و ما أن وصلت اليه حتى أمسك بكفها يجذبها خلفه كي يخرجا من الغرفة .... فهمست وعد من خلفه تترجاه بصوتٍ مختنق
( أرجووك يا سيف ....... )
قاطعها سيف بخشونة
( هشششش .... و لا كلمة .... )
خرجت وعد معه بصمت .... تسير خلفه بنفسٍ شاعرةٍ باليأس , لا تتخيل أن تكون السبب في قطع عمل علي هنا ....
وصلا الى مجموعة كبيرة من الموظفين ... فارتدت وعد قناعا هادئا صامتا أمام كلمات التهنئة و المباركات و تقديم المشروبات ....
كانت التهنئة مبالغ فيها نظرا الى نظرات الدهشة في أعينهم ....
و كانت عند وعد فكرة سليمة الآن عن نظرتهم للأمر
أن سيف الدين فؤاد رضوان , تزوج من قريبته من الفرع الفقير في العائلة كي يعينها ......
أخذت وعد نفسا مرتجفا و هي تنظر اليهم مبتسمة بلا تعبير و ذراع سيف تحيط بخصرها تجذبها اليه بخفة ...
وهو يتقبل المباركات بابتسامة متزنة و قناع صلب .....
بينما كانت عينا وعد على عينين هازئتين بعيدتين ..... عينين المدعو رامي الذي كان يقف بعيدا ينظر اليهما باستهزاء و على ما يبدو أنه كالعادة قد كون فكرة قذرة عن سبب ارتباطهما الهزلي ....
تشنجت ملامح وعد و ظهرت القسوة عليها و هي تجابه نظراته الدنيا .....
ذلك الحقير لا يزال في عمله ..... بينما "علي" فقده بسببها ...... أي عدلٍ هذا ؟!! ....
لأن علي من فئة المساكين في هذا العالم ..... و خطأه يعد كجريمة ....
أما الكبار فجرائهم تعد كأخطاء غير مقصودة صغيرة ..................
انتهت تلك المسرحية أخيرا و انفض الناس من حولهم ..... فرفعت وعد وجهها البارد القسمات اليه تقول بفتور
( أنا يجب أن أذهب الي بيتي الآن ........ من فضلك )
لم يتخلى سيف عن خصرها وهو يجذبها معه في اتجاه مكتبه فتبعته مرغمة بصمت مجبرة ....
و ما أن دخلا اليه حتى تركها دون كلمةٍ .... فراقبته بصمت جاف وهو يتجه الى كرسيه , الا انه لم يجلس كما كانت تتوقع , بل التقط سترته و رماها على كتفه قبل أن يتجه اليها مجددا بملامح متجمدة , ثم قال بجفاء
( هيا بنا ............ )
علمت أن لا بديل سوى الإنصياع حاليا ..... على الرغم من أنه لم يكمل نصف يوم عمله حتى ....
.................................................. .................................................. ................
جلست بجواره صامتة في السيارة ... و هو ايضا لم يكلف نفسه عناء الكلام , بل كانت ملامحه تزداد قساوة مع كل لحظة تمر
نظرت اليه نظرة جانبية .... و سألت نفسها
" هل يستحق اعجاب مراهق كل هذا الغضب ؟!! ..... "
انه يبدو كطفل عنيد يسيء الى الآخرين ....
أعادت نظرها مجددا الى النافذة و هي تقوي نفسها بأن تترك الأمر حاليا .... الا أنها لن تدعه يمر بسهولةٍ أبدا ...
انتبهت بعد أن توقف سيف بسيارته أنهما يقفان امام المشفى الذي كان قد أخذها اليه من قبل .... فالتفتت اليه بسرعة لتقول
؛( ماذا نفعل هنا ؟!! .............)
قال سيف بجفاء وهو يخلع حزام الأمان ....
(؛ لقد حجزت لكِ موعدا لاستكمال باقي التحاليل التي طلبها الطبيب المرة السابقة ..... )
هتفت وعد بحنق
( ماذا ؟!!! ....... إنه لشيء في منتهى السخافة .... ما اللذي احتاجه بعد ؟!! ..... من فضلك أعدني الي بيتي و توقف عن اتخاذ مثل هذا الدور الذي تمثله ..... )
نظر اليها بغضب ليقول مهددا بصوتٍ خطير
( اخرسي يا وعد و لا تستفزيني حاليا ....... اخرجي من السيارة دون جدال )
نظرت وعد اليه بحنق .... لكنها خرجت بعنف ثم صفقت الباب خلفها بقوة دون أن تأبه لغضبه ... بينما تبعها و ينفث نارا حارقة ......
استسلمت وعد بحرج و رفض لإجراءات طويلة ... لم تفهمها تماما , الا أنها كانت تتعجب في كل دقيقة تمر و هي تخلع ملابسها ... لتستلقي و يتم تركيب أسلاك موصلة بالأجهزة و بصدرها ....
نظرت اليه بحرج و هي تشير اليه كي يخرج الا أنه تجاهلها تماما .... بينما كان وجهها يحمر خجلا و كأنه يحترق بشدة ....
لا تعلم كيف استدرجها الى أن ينتهي بها الحال في هذا الوضع .....
و لم يخرج الا حين اضطر الطبيب لطرده بلباقة ....
لم تكن تعلم تماما ما يجري الا أنها فهمت أنها تقوم بما يسمى برسم القلب .....
ظلت تنظر الي الطبيب وهو يراقب شاشة حاسب مستغرقا بها ..... بينما حانت منها التفاتة فوجدت سيف لا يزال واقفا عند نافذة الباب المغلق و هو ينظر اليها بوجه متجمد ..... فاحمر وجهها بشدة و هي تود لو يبتعد عن هنا .....
لا تصدق هذا !! ...... لقد كانت تموت حرجا و خجلا من كلمة جريئة منه .... و من لمسة ....
أما الآن , فلقد أجبرها اجبارا على نبذ الحرج و الخجل جانبا .... الا أنها لم تنبذهما في الواقع ووجهها يشتعل مع وجوده خارجا ....
كم تتمنى لو كانت أحدى تلك الاجهزة صاعقة لتضعها على صدره و تصعقه و ترتاح منه ....
اغمضت عينيها أخيرا و عقدت حاجبيها و هي تتنهد بصمت .... فقال الطبيب بهدوء
( لماذا يرتفع ضغطك ؟؟ ....... )
همست بتحشرج دون ان تفتح عينيها
( لا شيء ........ هل بقى الكثير ؟؟ ..... )
قال الطبيب بهدوء و كأنه يتكلم عن الطقس
( فقط اهدىء و لا تفكري بشيء يغضبك ......... )
فكرت وعد بحنق ... " كيف ذلك وهو يقف هناك !! ..... " .....
فتحت عينيها رغما عنها لتنظر الى النافذة ... رغما عنها شعرت بالخوف من اغماض عينيها و هي وحيدة ... رغما عنها كانت شعرت بحاجةٍ لحظية ملحة في أن تراه ينظر اليها ...
الا أنها فوجئت بأنه لم يعد موجودا .... إطار النافذة خالٍ منه .....
شعرت وعد بالإحباط .... و بالتأكيد انخفضت نبضاتها الآن .....
جلس سيف في كرسي خارج المساحة المخصصة لرسم القلب .... وهو يشعر بطعمٍ مر في حلقه ....
كم كانت نحيلة و بيضاء للغاية ... تحتاج الكثير و الكثير ....
كان يعلم أن وجودهما هنا سيزيل شحنة غضبه الجبارة التي أتى بها
زفر بعنف وهو يتذكر بأنه أوشك على أن يقتله ...... الحقير القذر .... لقد أوشك على أن يفقد سيطرته على نفسه علنيا و يسحقه بقدميه ....
الحقير القذر رامي ..... لقد لمحه و لمح نظرته القذرة اليها ..... نظرة تحمل الكثير من المعاني .... لم يترك ذرة في جسدها الا و وطأها بنظره عن قصد ..... و كأنه يتحداه ....
هذا القذر نهايته في العمل اليوم و حتى لو كلفه ذلك خراب العمل كله ...... أنه لا يأمنه و خاصة وهي متواجدة في نفس المكان .....
هو لن ينسى أبدا ما ناله من تقريع و تحقير غير مباشر منه شخصيا بعد ما فعله .... لذا من المؤكد أنه يحمل ضغينة لوعد .......
انتفض من أفكاره على رؤية وعد و هي تخرج مقتربة منه ببطء ... تضم جانبي السترة البيضاء بحرج
ترفض النظر اليه ... فنهض اليها من فوره ثم رفع وجهها اليه يقول بخشونة
( هل أنتِ بخير ؟؟ ....... )
نظرت الى عينيه القلقتين ....و ملامحه الخشنة و فجأة ذاب غضبها و حتى خجلها ... فأومأت برأسها بصمت
فقال سيف بصوتٍ أجش
( هل تألمتِ ؟؟ ........ )
عقدت حاجبيها قليلا ثم همست
( لا لم أتألم أبدا ........ )
قال سيف بخفوت ,
( لقد رأيتك تغمضين عينيك و تعقدين حاجبيكِ و كأنك تتألمين ....... )
الحقيقة أن منظرها تتألم جعله غير قادرا على المتابعة أكثر .....
لكنها قالت بخفوت
( لا لم أتألم ....... هل يمكننا الذهاب الآن ؟؟ .....)
نظر خلفها ثم قال بخفوت
( حسنا انتظريني هنا قليلا ....... سأكلم الطبيب , ثم آتي اليك , لن أتأخر ..... )
أومأت وعد دون أن ترد , ثم اتجهت ببطء الى أحد المقاعد كي تجلس بصمت .... ظل سيف واقفا مكانه ينظر اليها طويلا بوجوم .... ثم تركها أخيرا ليذهب الى الطبيب ...
.................................................. .................................................. ......................
جلس امام الطبيب بملامح الحجر .. ثم قال أخيرا بصوتٍ أجوف
( لا أفهم تماما ........ هل تعاني من مشكلة بالقلب ؟؟ ...... )
رد الطبيب بهدوء
( اسمعني جيدا .....نتيجة رسم القلب و صورة الأشعة تظهر تضخما بسيطا بنصف القلب و القليل من عدم الكفاءة في عملية ضخ الدم ..... و هذا ما يجعلها مرهقة باستمرار .... و في نفس الوقت فقر الدم الحاد الذي تعاني منه يؤثر سلبا على الأمر ..... )
عقد سيف حاجبيه بشدة ... ثم فرد يده مستفهما دون كلام وهو يشعر بصدره ينقبض ... الا أنه عاد ليقبض يده بقوة ... ثم قال بصرامة
( و ما مدى خطورة الأمر ؟؟ ................... )
قال الطبيب بهدوء
( ليس في الأمر خطورة اذا لم نهمله ..... الإلتزام بالعلاج , و تجنب الضغط و الإرهاق ..... )
تحشرج صوت سيف بشدة و بدا مختنقا وهو يقول
( هل الأمر يتطلب جراحة ؟؟ .......... )
قال الطبيب بهدوء وهو يعدل من نظارته
( هناك جراحة ممكنة , لكن أنا شخصيا لا أحبذها الا لو تطور الأمر ...... لكن لو بقى الوضع على ما هو عليه فلا أفضل تعريضها للمشرط دون حاجة ..... )
قال سيف بنبرةٍ قوية
( لكن ماذا لو كانت تحتاجها ؟؟ ........ )
مد الطبيب يديه وهو يقول ببساطة
( هذا يرجع اليكما ..... لو رغبتما في اجراء الجراحة من الآن , فهذا ممكن .... أنا فقط أقول رأيي الطبي ... انها في السادسة و العشرين .... و على الأغلب أن الوصول بسلام لهذا السن يدل على أن المشكلة لا تكون بتلك الخطورة طالما أن أعراضها طفيفة .... )
عاد سيف يقول بقوة
( لكنك لا تضمن ذلك ؟؟ ........ )
قال الطبيب ببساطة
( لا أحد يضمن شيء سيد سيف .... حتى الأطباء .... )
انقبضت كف سيف أكثر .... و اكثر .... ثم قال أخيرا بصوتٍ أجش
( و .... الزواج .... و الإنجاب ........ )
قال الطبيب بهدوء
( فلتحيا حياتها بطبيعية ..... أنا فقط أحذر من الشيء المبالغ فيه و الذي قد يكون خطيرا حتى على الشخص الطبيعي ...... )
" الشخص الطبيعي !!...... "
هل أصبحت تعد الآن كشخص غير طبيعي !!! .......
نهض سيف ببطء بعد حوار طويل لم يزده الكثير ..... وهو يشعر بأنه غير قادر على الإيتان بتصرف أو نطق كلمة عملية واحدة ....
خرج ببطء الى وعد التي كانت جالسة مكانها بصمت ... وحيدة ... ممسكة ورقة و قلما أخرجتهما من حقيبتها الصغيرة و أخذت ترسم خطوطا معينة .... بملامح مهتمة .... و حزينة في ذات الوقت ....
اقترب منها ببطء حتى وصل اليها .... فوجدها ترسم فتاة ترتدي فستان ... كان تصميم
صحيح أنه لم يكن تصميم احترافي أبدا التصميمات المرسومة التي يراها على الشاشات غالبا ... و أن الفتاة كان مرسومة بملامح و عينين و فم و أنف .... و نسبها مختلفة قليلا ....
الا أنه استطاع رؤية الفستان واضحا .... بخطوط بسيطة أظهرت مدى أناقته و جماله ....
قال سيف بصوت منخفض
( ماذا تفعلين ؟؟ ........ )
رفعت وجهها اليه بسرعة .... حيث كانت مستغرقة تماما و لم تشعر باقترابه ....
نظرت الي الورقة ثم اليه .... ثم قالت بخفوت
( لا شيء ..... مجرد فكرة فستان طرأت على بالي .... )
قال سيف بخفوت و كأنه يشاركها الإهتمام
( هل هو لكِ ؟؟ ............ )
عادت لتنظر الى الورقة .... كان فستانا حديث الطراز ...طويل .. ضيق و بسيط بفتحة عنق متسعة و اكمام متسعة طويلة مضمومة عند الرسغين .... و له حزام خصر ذهبي معدني
انها تحب وضع تصميمات قريبة لمجلات الموضة التي تطالعها .... و تمزج معها بضع افكار من فساتين الموظفات و النساء الراقيات في الطريق ....
لكن حين يصل الأمر الى ملابسها هي ..... فهي تميل الى ذوق بسيط محدد قديم الطراز ... و هي متأكدة انه يليق بها .... لكن الجميع ينتقد طرازه القديم .....و يحكم على ثمن خاماته الرخيصة .....
قالت وعد بخفوت
( لا .... ليس لي ..... أنها احدى الموظفات , طلبت مني رسم تصميم يناسبها كي أعرضه عليها ...لكن أنا لن يلائمني ..... )
قال سيف بخفوت
( احدى موظفاتي ؟!!! ....... )
ردت وعد بصوت خشن و هي ترفع وجهها اليه
( لا يطلق عليهن " موظفاتك " ....... )
ابتسم فجأة ابتسامة طفيفة , الا أنها بددت الكثير من غضبه البادي على ملامحه منذ الصباح ... و ازاحت خوفها قليلا ....
مد سيف يده يسحبها كي تقف , ثم نظر اليها من رأسها حتى قدميها بتفحص وهو يمد ذراعها مفرودة , مما جعلها تخجل قليلا , ثم سأل بخفوت
( و لماذا لا يليق بكِ ؟! ....... )
قالت وعد بخفوت و نبرة مسلم بها
( انظر الي ................)
قال مؤكدا مبتسما بتعبير حنون للغاية أثار قلبها
( أنا أنظر ...................)
سحبت يدها من كفه ثم قالت بتوتر
( حسنا لا يليق بي و كفى ...... هلا خرجنا الآن من فضلك )
ظل ينظر اليها قليلا ..... ثم قال بخفوت أجش
( هيا بنا ..................... )
.................................................. .................................................. ........................
استدارت اليه و قلبها ينبض بخجل بعد أن أغلق الباب خلفه .... لقد أصر على الصعود معها طبعا و لا يحتاج الأمر لذكاء كبير كي تدرك ما يريده ....
كانت غاضبة منه و مقهورة مما فعله مع "علي" .... لكنها لا تستطيع انكار تأثيره بها على الرغم من كل ما حدث ...
كانت تعض شفتيها بارتباك ... تود لو تفتح معه موضوع "علي ", لكن تخشى غضبه مجددا ...
اكتشفت انها لا تخاف منه ... لكنها بالتأكيد تفضل دفقات الحنان التي يغدقها بها بين الحين و الآخر على نوبات غضبه .....
كان ينظر اليها بعمق شديد ... وهو يقترب منها ببطء ...
بينما كانت تعض على شفتها بخجل , تتمنى لو تحلت بالغضب الكافي كي تعاقبه على ما فعله .... ثم تفتح الموضوع مجددا ....
" اووووف هل الطريق طويل الى هذا الحد بينهما ؟!! ... "
وصل اليها أخيرا فانتفض قلبها بعنف .... حينها جذبها اليه ببطء دون مقدمات يمنحها قبلة عميقة أودعها الكثير و الكثير مما يخنقه و يقبض صدره ...
الا إنها كانت من الغباء العاطفي بحيث لم تستوعب أي معنى آخر سوى قربه المهلك الجديد عليها ....
ارتفعت على أطراف قدميها و هي تلف عنقه بذراعيها برقةٍ خجولة كادت أن تصيبه بالجنون ...
الا أنه في لحظةٍ واحدة أزاح ذراعيها بما يشبه القسوة , يبعدها عنه وهو ينظر اليها متنفسا بصعوبة و هي مثله تنظر اليه بوجل ....
وضع يده على مؤخرة رأسها يجذبه اليه بقوة وهو يطبع شفتيه على وجنتها بقوةٍ دامغة كي يهدىء من نفسه ...
و بعد فترة طويلة رفع رأسه يقول بصوتٍ عميق أجش للغاية
( وعد .... أريدك معي , أمام عيناي في كل لحظة )
احمر وجهها و عضت على ابتسامة خجولة رغما عنها .... و هي تخطىء تفسير لهفته ...
ثم همست أخيرا
( لقد تكلمنا سابقا .......... )
قال سيف بقوة
( اليوم الوضع يختلف ......... )
رفعت وجهها اليه عاقدة حاجبيها قليلا و هي تنظر اليه بحيرة , ثم قالت
( ما وضع الإختلاف ؟!! ........... )
لم يرد ..... بل أخذ نفسا عميقا و هو يرجع شعره للوراء بقوة ...مستديرا بعيدا عن عينيها الشفافتين النافذتين اليه .... ما هذا الشعور بالتملك و الخوف كونها أصبحت زوجته !!
ما هذا الرباط السحري المقدس الذي يجعله بكل هذا القدر من الخوف و الذي لم يشعر به منذ زمن بعيد ....
نعم .... انه يخاف عليها و قد تضاعف شعوره تجاهها ما أن أصبحت زوجته ... و كأن هذا الصك قد أسبغ عليه شيئا قويا غير مرئي ربطه بها يفوق أي اعتبار آخر .....
سمع صوتها هادىء رقيق من خلفه يقول
( هل الأمر يتعلق بزيارة الطبيب اليوم ؟؟ ...... )
استدار ينظر اليها بقسوة .... لم يعتد الرقة و الحنان .... ليس من النوع الذي يجيد الإخفاء من اجل مشاعر الغير .....
لذا حصلت على الجواب الذي تنتظره .... فأومأت بهدوء متفهمة .... مبتسمة ...
ثم لم تلبث أن ضحكت بخفة و هي تضغط أعلى أنفها بين عينيها بأصابعها مغمضة عينيها ....
تزايدت ضحكاتها قليلا شيئا فشيئا .... الى أن هتف سيف آمرا بقساوة
( توقفي عن ذلك .............. )
رفعت وجهها و هي تضحك حتى دمعت عيناها .... ثم وضعت يدها على صدرها و هي تعتذر قائلة
( أنا آسفة حقا ..... لكن .... لكن .... كل ما كنت أفكر به الأيام الماضية هو كيفية جعل أبي يوقع عقد بيع الشقة باسمي كي لا ترثها معي عند موته ...... )
بهت قليلا وهو ينظر اليها بملامح شاحبة .... لا يصدق ما سمعه للتو ...
لكنه لن يحاسبها الآن , ... كلامها لم يستطع أن يثير حنقه ضدها في تلك اللحظة كما تفعل دائما ....
فقال بلجةٍ آمرة
( الأمر ليس بمثل تلك الخطورة ..... فقط يجب عليك الا تستهيني به و تبدأي في الإهتمام بنفسك )
عادت لتغمض عينيها ضاحكة بصورةٍ أكبر أثارت حنقه حقا هذه المرة .... فاندفع اليه بتهور يمسكها من كتفيها وهو يهزها بقوةٍ صارخا
( توقفي عن ذلك يا وعد ....... حالا ... )
أخذت تسعل بقوةٍ من بين ضحكاتها .....
أيقول أن الأمر ليس بمثل تلك الخطورة ؟!! .... اذن ما هذا الرعب الذي انتابه وهو يشاهد احمرار وجهها أثناء سعالها الحاد ....
فقال بهجةٍ أقل عنفا وهو يدلك لها ظهرها ببطىء
( اهدئي قليلا ........ اتفقنا ؟؟ ....... )
اخذت ضحكاتها تخف تدريجيا و تحولت الى شهقاتٍ ضعيفة ... فمسحت دموع الضحك من عينيها ... لترفع رأسها اليه أخيرا تنظر اليه بصمت طويلا .... ثم قالت ببساطةٍ وهي تبتسم بارهاق
( لماذا أنت خائف لهذه الدرجة ؟!! ....... سينتهي نسل عبد الحميد المسمم للأبد ..... لا بد أن يفرحك ذلك )
صرخ سيف وهو يهزها بقوة
( تبا لكِ ............ .. )
الا أن صرخته كتمتها قبلته القوية و هو يجذبها اليه صدره يكاد يصهرها بعنف بين ضلوعه ...
أغمضت عينيها مستسلمة .... لكن ليس لحرارة العواطف هذه المرة .... بل شعرت بفطرتها احتياجه الشديد لهذه الراحة حاليا .... مما جعلها تتسائل بغموض عن مكانتها لديه ..... أتجرؤ على الأمل ؟!! ....
أبعد وجهه ليريح شفتيه على وجنتها متنهدا تنهيدة هادرة .... بينما كانت تربت على شعره بنعومة .. و هي تبتسم و كأنما تبتسم لطفل صغير ..... يحتاج الى حماية ...
ضحكت قليلا بحزن ..... سيف الدين فؤاد رضوان يثير بداخلها تلك الرقة و الرغبة في ازالة ألمه .....
رفع رأسه اليها ينظر بعينين قاتمتين بينما يتنفس بصعوبة ... و هي كانت تذبحه بعينيها الخلابتين الدامعتين المبتسمتين .... ثم همست أخيرا
( لا تخف الى هذه الدرجة .... لكن حقا أنا ممتنة لمشاعرك ... صدقني لقد أحدث شعورك فارقا كبيرا معي )
التهبت عيناه كحمم بركانية مشتعلة ... بينما تابعت برقة كلها عذوبة أوشكت أن تهلكه
( شكرا .............. )
زفر سيف بعنف ... ثم قال أخيرا
( وعد ..... أريدك أن تأتي معي للبيت , ستكونين زوجتي من الليلة و كفاكِ عنادا .... )
ارتجفت وعد قليلا , ثم همست برهبة
( لقد مضى يوم من الشهر ....... هانت ... )
صمت لحظة ينظر اليها بوجوم ... ثم لم يلبث أن ضحك بصوتٍ عميق رغم كل الإنفعالات التي يشعر بها حاليا ....
و مد يديه يجذبها الى صدره بقوة .... فأغمضت عينيها على صدره و هي تبتسم ....
و تابعت بصدق
( أنت ساعدتني كثيرا ...... و لازلت أحتاج مساعدتك , و أعلم أنك لم تنال شيئا بالمقابل ... لكن فقط دعنا لا .... نتعجل ..... )
كم أصبح الآن يخشى التعجل ..... لو فقط تعرف , كم أصبح يخشاه .......
أبعدها عنه قليلا .... ثم نظر الي عينيها قليلا ليقول بلهجةٍ آمرة
( وعد ...... ستلتزمين بكل التعليمات , مفهوم ؟؟ ..... و أنا لن أعتمد على الثقة بكِ لأكن صريحا معك ... و إنما سأتأكد من ذلك بنفسي منذ اليوم ..... )
ابتسمت وعد لتقول بخفوت
( اذن لا مشكلة ............. )
تنهد سيف باختناق ...ثم قال آمرا
( لا خياطة مؤقتا ...... و الا سأحطم تلك الماكينة اللعينة شر تحطيم أمام عينيكِ )
لم تجد سوى أن تومىء برأسها بطاعة كي تريح نفسها من عناء الجدال ....
ثم همست أخيرا برقة
( ألن تخبرني الآن بطبيعة ما أمر به من قبيل العلم بالشيء ؟؟ ...... )
قال سيف بفظاظة
( شيء لا يخصك ............. )
ابتسمت ..... و شعرت بأنها بالفعل لا تهتم .... لقد أثقل كاهلها الكثير من قبل , و هي غير مستعدة لتحمل قلقا فوق قلق .... لذا لما لا تترك له ادارة دفة هذا الشيء المجهول أيضا ......
رائع أن يكون هناك من تلقي عليه بهمومك فيتصرف بها دون علمك ..... حقا رائع ......
.................................................. .................................................. .....................
تلك الليلة نظرت وعد الى الشقة الخاوية ... فانتابتها رجفة ضعيفة و هي تلف نفسها بذراعيها ... توجهت الى أضواء الصالة الخارجية كي تطفئها ....
لقد مكث معها طويلا .... منحها من اشواقه الكثير حتى ذابت منهارة .... لكن كان به شيئا مختلفا و كأنه كان يحاول جاهدا السيطرة على نفسه .... كان يقيم بينهما حاجز قوى من الإرادة كي لا يتمادى معها ....
لم تعرف أيفرحها هذا ام يثير حنقها تجاهه و تجاه نفسها الخائنة .....
هل هي خائفة ؟؟؟ ..... نعم .... هي الآن خائفة و هي وحيدة في هذه الشقة ....
ماذا لو حدث لها شيء و هي وحيدة ؟؟......
نعم إنها خائفة رغم أنها ودعته مطمئنة ...... لكنها خافت ما أن أغلقت الباب من خلفه ....
اتجهت وعد الى غرفتها الوحيدة المضاءة في البيت ....
ثم وقفت أمام ماكينة الخياطة تنظر اليها بوجوم .....
كان بجوارها أطنان من القماش النبيذي الحريري ..... قماش يكفي سبع فتيات .....
انهن وصيفات عروس .....
لقد فعلتها من قبل مع بنات صغيرات ....حين خاطت لهن فساتين بيضاء متماثلة ...
أما الآن فقد أتت اليها فتاة متعجلة تخبرها أنهن في مأزق و في حاجة لتفصيل سبع فساتين لوصيفات العروس ...
و الحقيقة أنها ستتقاضى مبلغا لم تنله قبلا من الخياطة .....
نظرت الى الجانب الآخر فوجدت قماشا مرصوصا بترتيب خاص بموظفات الشركة ....
لديها عمل يكفيها لشهر كامل ......
ماذا عن فستان زفاف ؟؟ ..... كانت مصممة على تفصيل فستان زفاف لها .... مهما غضب سيف , الا أنه كان حلما وعدت نفسها به ...
لكن ما فائدته الآن ؟!! ........
عادت وعد لتنظر الى تلال العمل الذي ينتظرها ....
هل تستلم و تنتظر المصير المجهول كما يأمرها سيف ؟؟ ...... و ماذا بعد ؟؟ ....
رفعت وعد ذقنها ... ثم أخذت نفسا عميقا و هي تتجه بكل حزم الى الماكينة ..... تجلس لتبدأ العمل رغم الصداع .... غدا أول ما ستفعله هو أن تقوم بكشف نظر ثم تقوم بعمل نظارة ...
لا يزال معها مبلغا كافيا للنظارة من المال الذي أعطاه سيف لها .....
حركت وعد عجلة الماكينة بهمة .... بينما وضعت سماعة هاتفها في أذنها و هي تطلب رقما ....
فانتظرت الى أن رد صوت يائس حد الموت ....
فقالت وعد برقة و هي تعمل
( هل أنت ناقم علي جدا ؟؟ ...... )
رد عليها بعد صمت طويل
( ماذا تريدين الآن ؟؟ .......... )
ابتسمت وعد لتقول برقة
( أنت بالفعل ناقم علي ..... الا سبيل للصلح ؟؟ ..... )
رد عليها بوجوم
( ماذا تريدين يا وعد ؟؟ .......... )
قالت مبتسمة
( أحتاج مساعدتك ....... هل ستخذلني ؟؟ ..... )
صمت طويلا ثم قال بخفوت
( لن أخذلك أبدا ......... )
اتسعت ابتسامتها و هي تقول برقة
( اذن أحتاجك لكي تعمل معي ...... احتاج لمن يعاونني , و أنت خير من يفعل ذلك دائما .... الى أن تعود الى عملك مجددا ..... و ستعود باذن الله ... ثق في وعدي .... )
ضحك هازئا ليقول بمرارة
( طبعا ..... لأن زوجة المدير أمرت بذلك .... )
ارتجفت ابتسامتها قليلا ...لكنها قالت بحزم
( لا تفعل ذلك ...... أنت تعلم بداخلك أنك أخطأت ..... و تعلم أن ما قلته كان جنونا , حتى لو كنت تشعر به بالفعل ....... انها مشاعر شباب جامحة .... رااااائعة يا " علي " ... رغما عني أشعر بالغرور .... )
صمت ليقول بصوتٍ مختنق
( هل مررتِ بمثل هذه المشاعر الجامحة من قبل ؟؟ ....... )
ردت مبتسمة ابتسامة عريضة و هي تقول بكل ثقة
( لا إطلاقا ......... )
سمعت همسة كئيبة ( رائع ...... )
ابتسمت وعد لتقول برقة
( اذن هل تعمل معي مؤقتا ؟؟ .......... )
قال بخفوت و ثقة
( أفعل أي شيء لأكون بجوارك ......... )
قالت وعد باتزان و هي تتجهال المعنى العاطفي للجملة
( اذن أنت الجاني على نفسك .......... )
.................................................. .................................................. ......................
مدت معلقة بها السائل الهلامي الى فم والدها الملتوي قليلا ... و هي تقول بخفوت
( افتح فمك يا أبي ........ )
كان نصف جالس على سرير المشفى ..... وهو يحاول جاهدا أن يلتقط ما بالمعلقة ....
تنهدت وعد و هي تفكر أن رعايته صعبة جدا .... رعبها الحالي هو أن الطبيب قد أمر بخروجه أخيرا ....
كان الوضع سهل جدا حتى الآن طالما أن الرعاية موجودة .... و سيف يدفع .....
لكن ها هو والدها سيخرج و يعود معها ... عاجز عن المشي ... ثقيل الكلام ... و أحيانا يبتعد تركيزه تماما , فلا يدرك من يكلم ....
لقد عاد كطفل صغير .... و هي مسؤولة عن كل تفصيلة صغيرة تخصه , حتى تغيير ثيابه و تحممه ....
كانت تطعمه و هي تنظر اليه بخوف و رهبة مما ينتظرها ...
و أثناء شرودها و هي ممسكة بالملعقة سمعته يقول بصوتٍ ثقيل غير مفهوم تقريبا
( هاتي............ )
نظرت اليه متفاجئة .... ثم مدت المعلقة سريعا اليه و هي تهمس بجمود
( آسفة تفضل ......... )
و بعد أن أكلها قال بأحرف ثقيلة و عين ترف بقوة
( طيب ...... )
اتسعت عينا وعد و هي تقترب منه قليلا هامسة باستفسار
( ماذا ؟؟ .......... )
فأعاد بصوتٍ ثقيل
( طييييييب ..........)
قالت وعد ناظرة الي عينيه
( أعجبك ؟!! ....... حلو أعجبك ؟؟ .... أتريد واحدا آخر ؟؟ ..... )
أومأ بحركةٍ مرتعشة .... فنهضت وعد من على حافة السرير و هي تقول
( حاضر ..........)
قال ينادي بعدها
(؛ ماء يا صفا .......)
تنهدت وعد و قررت الا تجادل .... فقالت بخفوت ( حاضر .........)
.................................................. .................................................. ......................
بعد يومين :

كانت منيرة تنظر الي بعض الصور القديمة و هي تبكي بصمت ....
فؤاد ..... الرجل الوحيد الذي أحبته , بل عشقته .... لقد آلمته حد الموت ...... من شدة حبها له ...
و الآن أتى سيف ليذيقها نفس الألم .....
سيف رجلها الثاني و حبيبها .... أميرها ..... الذي تعبت من أجله طويلا .... تخلى عنها ببساطة ...
سمعت طرقة على الباب ... ثم دخلت ورد الى الغرفة بصمت و هي تنظر بجفاء الى دموع أمها ... فقالت منيرة و هي تمسح وجهها
( هل تناول سيف عشائه ؟؟ ........... )
قالت ورد بجمود
( لا ...... كالعادة ......... )
فهمست منيرة باختناق و هي تتلمس صورته و هو طفلا ...
( هل هكذا هنت عليك يا سيف ؟؟ ..... تتخلص مني من أجل فتاة مثل تلك !! ..... )
اقتربت ورد لتجلس بجوار أمها على حافة السرير .... ثم همست بقسوة
( لا تفعلي ذلك يا أمي ..... لا تكوني بمثل هذا الضعف )
قالت منيرة بإباء حزين
( سأرحل من هنا يا ورد ...... لقد خيرت سيف و هو اختارها , و أنا لن أقبل بها هنا للحظةٍ واحدة )
ضحكت ورد بقسوة ... ثم نظرت الى أمها بغضبٍ يبرق في عينيها قائلة
( هل تمزحين يا أمي ؟!!! ..... هل ستتركي بيتك لفتاة مثلها ؟!! ..... هل فعلا تمزحين ... )
صمتت قليلا , ثم قالت بعزم
( دعيها تأتي يا أمي ........ انا متأكدة أنها مجرد نزوة و سيمر منها سيف سريعا ... لكن قبل أن يخرج من تلك النزوة سنعمل على جعلها تندم على اليوم الذي استغلت به سيف أو ظنت أنه سيكون خاتما في اصبعها )
نظرت اليها منيرة قائلة بأسى
( لن أستطيع يا ورد .... كيف أستطيع , أنها حية مخادعة .... كانت تتقرب منها و تدخل البيت لتصبح صاحبته في وقت قياسي ......أكلت من طعامي و و ربتت على يدي ... ثم تلذذت باللحظة التي طعنتني فيها .... كانت من القسوة مما ذكرني ب ..... بأبيها سامحه الله على كل ما فعله بي ....
إن كانت قد فعلت ذلك و هي لم تدخل البيت رسميا بعد .... فماذا ستفعل حينها ؟!! ..... )
قالت ورد بعينين تشعان جمودا و جليدا
( دعيها تأتي يا أمي ...... اليوم قبل الغد , و أنا سآخذ حقك منها , .... وعد مني )
رن جرس الباب فجأة .... فعقدت منيرة حاجبيها و هي تهمس
( من سيأتي ليلا ؟؟!! ........ )
قالت ورد بلامبالاة
( من المؤكد أنه حسام ....... تعلمين أنه يأتي دائما بلا موعد حتى يخنقنا أكثر من خنقتنا الطبيعية )
نهضت منيرة من مكانها بتثاقل تجمع صورها و هي تهمس
( كفى يا ورد .... لا تدعي مهرة تسمعك كي لا تبكي مجددا , و أنا لم أعد أحتمل ....هيا لننزل ... لا يصح أن نتركه ... )

.................................................. .................................................. ..................
كانت مهرة تبكي في الهاتف و هي تهمس مستندة الى الجدار
(أريد أن أقدم موعد الزفاف يا حسام ..... لم أعد أطيق هذا الوضع الكئيب القائم في البيت ..
منذ اليوم الذي قرر فيه سيف أن يتزوج تلك الفتاة و البيت أصبح مغمورا بغيامةٍ سوداء ... لقد كرهتها ... لقد كرهتها من أجل كل ما تسببت به ....
حتى سيف لم يعد هو نفسه .... أشعر و كأنه يحبها اكثر مني .... و كأنها سحرته لدى الدجالين ... دعنا نتزوج لأخرج من هنا ..... و ليشبع هو بها ... )
سمعت فجأة صوت رنين الجرس فرفعت رأسها تقول بلهفة
( هل هذا أنت ؟!! ....... أخبرني أرجوك أنك أنت من بالباب ... )
.................................................. .................................................. ..................
كان سيف هو من وصل للباب و هو يتسائل عن هوية القادم في هذا الوقت ...
فتح الباب ليتسمر مكانه مندهشا بقوة وهو يقول
( وعد !!! .............. )
كانت تقف بالباب مكتفة ذراعيها ترتجف بشدة ... ترتدي كنزة فضفاضة صوفية ناعمة تكاد تبتلعها مع تنورةٍ أكثر اتساعا ....
و جهها شاحب و شعرها منسدل خلف أذنيها .... و هي تنظر اليه بعينين كبيرتين تهتزان ...
وصلت منيرة وورد و مهرة في نفس الوقت .... و فجأة تحول المكان الى طاقة جبارة من شرارات الغضب ...
الا أن سيف لم يشعر بكل ذلك .... فقط كان قلقه اللذي يكاد يكون خوفا مسيطرا عليه وهو يهتف بقوة
( مالذي جاء بكِ الآن يا وعد ؟!! ...... هل أنتِ بخير ؟!! ... )
أومأت وعد برأسها و هي ترتجف و تكتف ذراعيها أكثر .... فجاءه تصور آخر وهو يقول عاقدا حاجبيه بتوجس
( والدك ؟!! ................ )
همست بخوف
( إنه نائم في سريره ........ لقد خرجت بعد أن نام .... )
مد سيف كلتا يديه يمسك بذراعيها المكتفتين يسحبها اليه ... الى داخل البيت ....
" ياللهي .... انها ترتعش بقوة .... هل هي مريضة ... هل بدأ الوهن يتزايد معها ؟" ....
قال سيف أخيرا بحدة
( تكلمي يا وعد ..... ماذا بكِ , أكاد أن اجن .... )
همست وعد باختناق
( أنه يخيفني ......... يتصرف بغرابة ..... لا أريد البقاء معه وحدي ..... لا أريد يا سيف )
اقتربت منه أكثر حتى التصقت به ... ثم رفعت ذقنها لتهمس بصوتٍ أرسل رعشة مفاجئة الى جسده
( أنا موافقة يا سيف ...... لن أنتظر أكثر , لقد أتيت لأبقى معك إن كنت لا تزال تريدني )
" إن كنت لا تزال تريدني !! ... "
ماذا يفترض به أن يفعل حين يسمع هذه الجملة ؟!! .....
كانت تقف أمامه رافعة وجهها الشاحب اليه تخبره أنها ملكه .... الآن و في هذه اللحظة بالذات ...
قالت أمه بحدة من خلفه
( ماهذا الهراء ؟!! ....... تكلم يا سيف , إنها مهزلة ... )
استمع سيف الى أمه بصمت بينما صدره يلتهب كالمرجل ... ثم نظر اليها بقوة ... ليقول بهدوء ...
( لا خيار يا أمي ...... وعد زوجتي ... و ستبقى الليلة معي طالما هي تحتاج ذلك .... )
هتفت أمه بغضب و ذهول بينما ازدادت شراسة عيني ورد
( أين ستبيت يا سيف ؟!! ....... توقف عن رفع ضغط دمي , لن تقبل شقيقتاك أن تبيت معهما ...)
ارتجفت وعد أكثر و شحب وجهها بخزي .... الا أن سيف أحاط خصرها بذراعه يجذبها بالقرب منه ... وهو يقول بحزم
( لا داعي لتكلف العناء يا أمي ..... وعد ستبيت معي .... في غرفتي ... )
تجاهل شهقاتهن ... و نظر الي وعد يسألها بخفوت و جدية و كأنه يخيرها
( ستبيتين معي ..... اليس كذلك ؟؟ ....... )
ظلت تنظر مأسورة الى عينيه ... ثم أومأت برأسها في صمت و رهبة ... فاشتعلت عيناه ...
حينها مد يده يفك ذراعيها ليلتقط كفها في يده .... ثم جذبها معه وهو يقول بخفوت
( تعالي ....... لا تخافي , أنتِ معي ..... )
سلمته كفها و هي تصعد خلف بصمت ... ناظرة بطرفِ عينيها الخائفتين الى منيرة التي كانت تنظر اليها بملامح محترقة عذابا و احساسا بالخيانة و الغدر ... و عيني ورد الشرستين
حاولت منيرة الصراخ الا أن ورد أمسكت بذراعها بقوة و هي تقول
( دعيهما يا أمي ....... دعيهما , فليفعلا ما يشاءا ..... )
.................................................. .................................................. ....................
وقف سيف أمام وعد ..... في غرفته ....
لا يصدق أنها هنا .... أخيرا .... حيث أرادها أن تكون ....
حيث تخيلها تزين سريره ووسائده .... و حلم بها مرارا ....
لكنه على الرغم من ذلك كان مترددا بشدة .... يحاول قمع نفسه بأعجوبة ....
كانت مطرقة ترتجف بشدة و قد عادت لأن تكتف ذراعيها من جديد .... فسأل مجددا بخفوت أجش متحشرج كزمجرةٍ جائعة
( هل أنتِ واثقة الآن ؟؟ ........... )
أومأت برأسها دون أن ترفعه اليه ..... فسحبها أقرب اليه وهو يحترق بلهيبها ... ثم همس الى رأسها المنكس
( اذن سأطلب منكِ طلبك القديم ..... قبليني مجددا )
أصبح ارتجافها كانتفاضة ... لكنها ظلت واقفة لعدة لحظات دون استجابة , وهو لم يحاول المبادرة ...
الى أن تحركت ببطء ... ثم ارتفعت على أطراف أصابعها تحيط عنقه بذراعيها و هي تمس شفتيه بشفتيها المرتجفتين الزرقاوين ....
حينها عرف معنى السحر وهو يغمض عينيه مزمجرا بكبت .........
جنته الخاصة هي ما كان يحياه في تلك اللحظة ... انعدام للوقت و تجاهل للمكان و الظروف ....
كل القوانين تداعت بداخله وهو يضمها مشبعا ذلك الشوق الأحمق لها منذ أن عرفها .... وهو نفسه يكاد يموت لأن يعرف السبب !! ....
لكن حتى السبب تضائلت أهميته وهو يخر صاغرا أمام تلك اللحظة ....
و هي بين يديه ... تكاد أن تذوب بخجل , يكاد ان يستشعر خجلها من حرارة وجهها الناعم على فكه الخشن ...
شتان ما بين برودتها التي عرفها جيدا و بين ذلك الإستسلام الناعم ما أن يضمها اليه!! ....
كان صدره يخفق بعنف محاكيا صدرها .... و يداه تعرفان طريقهما الي ظهرها من تحت كنزتها الفضفاضة التي تكاد أن تبتلعها رغما عنه ... يزيد من ضمها اليه مع كل تأوه منها ....
تكاد تصيبه بالجنون بشكل يتخطى سنوات عمره الطويلة و كأن الرغبة في تلك الفتاة الهزيلة تكاد أن تخرج له لسانها متحدية أن يقاوم ..... يقاوم نفسه قبل أن يقاومها ....
زمجراته و تأوههاتها كانا فقط ما يتبدد بهما صمت الغرفة المهيب ... بينما الشوق بينهما يستعر كل لحظةٍ تمر بينهما وهما في عالم غير العالم .....
يحارب مع كنزتها التي كتبدو كخيمة السيرك لا يعرف أولها من آخرها .... و هو يحارب ذرة تردد تأمره بأن يتراجع .... متمنيا أن تسانده الكنزة في حربه ضد المقاومة ...
صوته بدأ في الهمس لاهثا باسمها مناديا بدون تركيز .... فتأتيه همستها المرتجفة نابعة من دقات قلبها العنيفة
( نعم ........ )
نعم ؟!! ....
إنها تجيب نداء اسمها بكل تهذيب و عذوبةٍ لاهثة .... و كان الرد المنطقي أن يرد عليها قائلا
" أنعم الله عليكِ حبيبتي ..... كنت فقط أجرب أسمك "
لكنه أشفق على برائتها الميؤوس منها بشكل يظهر له في كل لحظة يشعره بضميرٍ مختنق على الرغم من أن كل الظروف تأمره أمرا أن يأخذ حقه فيها و منها ...
قلبها ينتفض بذعر و لوعة تحت كفه و كأنه يصرخ ألما .... لكنه استسلم لهواه الجامح عدة لحظات مضنية , بينما العقل يصرخ به أن يتوقف
" توقف حالا ..... توقف حالا ..... ستندم العمر كله "
أخمد الصوت بقوةٍ ينهل من رقتها بكل عنف اشتياقه .... الا أن الصوت بدأ في التحول الي صراخ عالٍ يهدر و يطوف بأذنيه يكاد أن يصمهما .....
" توقف ...... توقف ...... توقف .... "
انحنى بقوةٍ عله يتخلص من الصياح العنيف ... ليحملها الى صدره دون أن يحرر شوقهما ... فاتجه بها الى حافة السرير ليجلس اليه وهو يجلسها على ركبتيه .... شعرها يغطي وجهيهما عما حولهما و قد كان ممتنا لهذا الستار الحريري الضعيف و الذي رغم تساقط بعضا منه بين أصابعه الممشطة العنيفة الا أنه كان يمثل حجابا عن العالم هو في أشد الحاجة اليه في تلك اللحظة ....
لقد تبدد خوفها تحت يديه و تحول الى رقةٍ و استسلامٍ خالص .... فماذا يريد بعد ؟!!
"خوفها ...... "
صوتها كان ينبع من ذاكرته و هي تهمس مبتسمة برقة
" أنا ممتنة لشعورك هذا ....... لقد شكل هذا فارقا كبيرا معي ... حقا ... "
ممتنة .... تلك الكلمة الخبيثة التي تثير اختناقه و تتعب ضميره في ذات الوقت ....
صرخ بداخله يهدر
" لماذا يتوقف الآن ؟!! ..... أي سببٍ منطقي يجعله يحررها من حلمٍ عنيف يحياه معها بكل تلك القوة التي لم يعرفها من قبل مثلها تماما .... "
و كأنهما يكتشفان معا ذلك العالم الذي تسجل باسمهما فقط ... و أي اسم آخر سيكون دخيلا فيه ....
صراع عنيف يجذبه و يلقيه مهدود القوى ... بينما تلك القوى كلها يوجهها اليها علها تعيدها اليه أشواقا فتشجعه أكثر .... و أكثر ... و أكثر ...
و هي في الحقيقة لم تكن مقصرة .....
إن كانت هي موافقة ! فلما يتوقف هنا عند تلك النقطة معرضا نفسه لخطر الإصابة بأزمة قلبية ؟!! .......
و ماذا عن قلبها هي ؟!! ..... هل كان كلام الطبيب مطمئنا بدرجةٍ كافية له ؟؟ .....
حتى الطبيب موافق .... و لو سأل شرطي المرور فسيوافق .... حتى لو سأل الطيور في أعشاشها و النجوم في عليائها فستوافق ... ... فلماذا اذن يجتاحه ذلك التردد يغذيه ضمير مثقل يأمراه بأن يتراجع حالا و قبل أن يندم .....
زفر فجأة متأففا بعنف فوق عنقها الذي كان يقبله بشغف ....
فانتفضت قليلا و هي ترفع له وجهها الأحمر بضراروةٍ و أنفاسها تتسارع بجهد و تعب حتى أنها زادت من خوفه بحق هذه المرة ...
كانت عيناها متسعتان و هي تنظر اليه بخوف من زفرته نافذة الصبر .... و كأنها تسأله إن كانت قد ارتكبت شيئا ما خاطئا !! .....
تنهد سيف بقوةٍ وهو ينزع كفاه عنها انتزاعا .... غارزا أصابعه في شعره محاولا استعادة ثبات أنفاسه عبثا ....
مبعدا وجهه عنها وهو يحاول جاهدا السيطرة على نفسه , بينما كانت هي جالسة على ركبتيه بكل أدب تنظر اليه بوجهٍ ممتقع من الخجل و الإحراج و التردد ....
استمرت بينهما لحظاتٍ خانقةٍ لا تقارن بتلك التي سبقتها و أغرقتهما معا ..... و حين شعرت بأنها لن تتحمل لحظةٍ واحدةٍ أخرى من ذلك الإحراج .... حاولت النهوض , الا ان كفاه قفزتا في لحظةٍ واحدةٍ تقيدان خصرها تبقيها حيث كانت و عيناه تهددانها بقسوة .... الا أنها كانت قسوةٍ مختلفة .... قسوةٍ خائفة ...
قسوةٍ تتابعان نبضاتها و لهاثها و شحوب وجهها البادىء في الظهور فوق بشرتها الشفافة بعد أن بدأ الإحمرار في الإنحصار عن شاطئ وجهها ... تاركا اياها مستلقية بجهد و تعب ....
مد يده أخيرا يداعب وجنتها الناعمة المنحنية اليه بضعف ...ثم أعاد سؤاله مجددا بصوتٍ خشن شديد التحشرج ...
( هل أنتِ بخير؟؟ ....... )
نظرت اليه وعد بعدم فهم .... و هي لا تعرف نوع الإجابة التي ينتظرها .... و لا تعرف حتى خطوته التالية .... و ما هو متوقع منها !! ....
كانت تفضل لو تركها في هذا العالم السحري الذي جرفهما معا منذ لحظات , فهي تنسى نفسها فيه و تكون منقادةٍ و لا يتطلب منها الأمر حينها معرفة أو قرارات ....
لكن أن يبدأ في المناقشة و السؤال ..... فهي حينها تتحول الى جدارٍ سد .... فاقد الأهلية و الشعور ....
جدارٍ يخفي خلفه الكثير من معوقات الشعور ....
أيظن أنها قادرةٍ في تلك اللحظة على المناقشة و التحليل ؟!! ....
لماذا لم يتركها ضحية دوامة مشاعره الجامحة ؟!! ..... لماذا أخرجها منها ؟!! .....
النظر الي عينيه في تلك اللحظة يكاد يصرعها خزيا و خجلا أكثر ألف مرة من لحظات جموحهما منذ قليل ...
فلماذا يتعمد ذلك الأسلوب في كل مرة !!
هل تسرعت في المجيء الي هنا ؟!!
امتقع وجهها أكثر حين طرأ السؤال عقلها ..... طبعا تسرعت و كانت تموت و هي واقفة على باب بيته قبل أن يفتح ... لكن ما أن فتح حتى استمدت الثقة من عيناه ....
فهل سقطت من نظره الآن كونه وجدها بمثل هذا الرخص ؟!! ....
أخفضت وجهها الممتقع و هي تحاول النهوض مجددا , الا أنه كان يقيدها بقوةٍ حتى بدت و كأنها تتصارع كي تنهض !! ... فاستسلمت ماكثة بصمت محافظة على المتبقي من كرامتها ...
الا أن صوته عاد بالسؤال الغبي مجددا
( وعد !! ...... سألتك هل أنتِ بخير ؟!! ..... هل آذيتك ؟؟ .... )
لم ترفع وجهها المشتعل اليه و هي تهز رأسها نفيا بإيجاز ...... الا أن ارتجافةٍ سرت في أعماقها و هي تشعر بكفه تربت على ظهرها المحني كطفلةٍ مشاغبة ....
و منه الي شعرها المتشعث في كل مكان .... على الأرجح أنها تبدو الآن كمن صعقته الكهرباء
نعم .... هذا أفضل تعبير حاليا , فلقد صعقتها كهرباء مجنونة للتو تسببت في وقوف شعر رأسها ... و أي كهرباء !! .....
مد يده يرفع وجهها اليه , فاضرت الى النظر اليه بعينين تهتزان من هول غبائها في المجيء ... و هول مشاعرها الجياشة منذ لحظات ... و هول الخزي و الحرج و .... الإحباط .....
تكلمت وعد بهمسٍ متردد مختنق ....
( أعتقد أنه ..... ينبغي علي ال ..... )
لم تكمل حين قاطعها حازما بشيءٍ من الصرامة
( أنتِ لم تتناولي عشائك .... أليس كذلك ؟؟ )
انتفضت من صرامته المفاجئة ... بينما كان هو يسكتها عما كانت تنتوي نطقه و كان ظاهرا في عينيها ... كانت تتراجع و تريد إخباره بنيتها في الرحيل ... لكنه لم يكن ليسمح لها .... حتى و إن قرر تركها لحالها الليلة ... لكنها ستظل تحت سقف بيته منذ اليوم و لن تغادره أبدا ...
أتظن أن الأمر يسير وفقا لرغبتها الخاصة ؟!! .... تجيء متى رغبت و ترحل متى تريد !!! ....
وعد عبد الحميد العمري .... لقد انتقلت ملكيتها اليه و يجب عليها أن تدرك ذلك سريعا ....
كانت وعد تنظر اليه بإجفال من سؤاله الصارم و الذي لا يتناسب مع محتواه الودي ... لكنها همست بتردد
( نعم .......... شكرا لك )
عقد حاجبيه على الرغم من لين ملامحه بعد الصرامة المفاجئة .... ثم قال بخشونة
( أنتِ تكذبين ........ )
ارتبكت وعد قليلا و هي لا تدري بما تجيبه ..... انه شخص لا يمكن التنبؤ بجملته التالية أبدا ... يتنقل من موضوعٍ يحترق كالحمم ... الى موضوعٍ مهبط للعزيمة كالطعام !! ....
أخفضت وجهها بخجل أمامه ... فقال بخفوت يهمس في أذنها
( أنا أيضا لم أتناول عشائي ...... هل تشاركيني ؟؟ .... أم تتركيني أنام جائعا ؟؟ ...... )
ابتسم بشغف ويداه على خصرها تستشعران كل ارتجافة منها حين نطق سؤاله الأخير بنغمةٍ خاصة و كان متقصدا ....
يسعده في تلك اللحظة أن يعذبها لوعة قليلا , ..... فليس من العدل أن يتعذب وحده و يحترق في تلك الحمم وحيدا بينما هي تستعيد قوقعتها الصلبة من جديد ....
همست أخيرا باختناق
( تفضل أنت .... أنا لن أطيق أن آكل شيء الآن ..... )
مد يده يطبق على ذقنها يرفع وجهها اليه بحزم ثم قال بصوتٍ أجش
( بل ستأكلين ..... ثم بعدها ..... )
صمت قليلا فرفعت اليه عينين واسعتين ... بهما توقع أثار جنون مشاعره مجددا ... لكنه زفر بقوةٍ قائلا
( ثم بعدها لدينا حديث طويلا معا ....... )
عاد جفنيها ينخفضان نصف انخفاضة و عيناها ترتديان نظرة حزنهما المعتادة .... فما كان منه الا أن نهض بها وهو يحملها و كأنها في وزن الريشة ... فتعلقت بعنقه تلقائيا و هي تنظر اليه بخجل ...
حينها ابتسم لعينيها الخلابتين قبل أن تقهرانه بحزنهما ... و همس
( سأنزل كي أحضر لكِ ما تأكلينه و شيئا ما ترتدينه ...... اتفقنا ؟.... )
عضت على شفتها ثم همست باختناق دون أن تتخلى عن دعمها متمثلا في تعلقها بعنقه
( هل ستتركني هنا ؟؟ ........ أخشى أن يطرق أحد الباب و أنا أشعر ..... لقد .... منذ ..... )
صمتت ثم همست مختنقة هي تتأوه بيأس
( آآآه ياللهى ..... لقد أفسدت الأمر للغاية ...... )
لم يحاول أن يجادلها في ذلك .... سيكون كاذبا مفتعلا .... و كان عليه أن يذهب لوالدته قبل أي شيء ... ما فعلته وعد الليلة كان أقسى ثاني مواجهة بينها و بين أمه ....
لقد أتت تقتحم بيتها دون اذن ..... و صعدت الى غرفة ابنها دون حتى أن تهمس بكلمة تحية أو استئذان .... و كان مساندا لها ...... لكن ماذا كان يستطيع أن يفعل غير ذلك ؟!! ....
وعد أصبحت زوجته الآن ..... و قد جائته ليلا ترتجف و تطلب مكانا تبيت فيه ..... لن يصدق أنها وافقت هكذا فجأة على تثبيت زواجهما فعليا و البقاء معه ...... لكن هناك ما حدث و جعلها تأتي اليه مسرعة ....
و أيا كانت العواقب و مهما بلغ حزن أمه ..... الا أنه لم يكن ليترك زوجته ليلا بعد ان طلبت عونه و حمايته ..... و خاصة وعد ..... لقد أقسم على ذلك منذ يومين لنفسه .....
اختفت ابتسامته قليلا و هو يستشعر خوفا بات معلوما لديه تجاهها .... لكنه تنحنح قليلا بمزاح ثقيل خشن
( حسن ...... لقد أفسدتِ الأمر بالفعل , فهل تريدين النزول معي عوضا على البقاء هنا وحيدة ؟؟ ..... خاصة و أننا في وضع الإستعداد ..... سأنزل بكِ محمولة بين ذراعي ....كنوع من تخفيف جدية الموقف .... . )
شهقت وعد كما أراد تماما و هي تقول بقوة
( مستحييييل ...... )
ابتسم بداخله وهو يفكر
" جيد ....... هذا أفضل من أن تقرر النزول معه حاليا , فهو لا يثق بردة فعل والدته وورد تجاهها ... "
لكنه أراد أن يشاغبها , فاتجه بها للباب مبتسما ... الا انها هتفت بقوة
( لا .... لا .... أرجوووك ..... )
همس سيف بسرعة
( هشششش أخفضي صوتك ...... عندي شقيتين في البيت , و ستتخيلن مشاهد مخزية و هذا لا يصح ... )
همست وعد و قد احمر و جهها بقنوط
( و كأنك تعرف ما يصح و مالا يصح!! ........... )
توقف سيف مكانه وهو يقول بجدية
( عفوا !! ......... ماذا قلتِ ؟!! ...... )
ارتبكت و هي تعض لسانها .... ثم همست بإختناق و بوجهٍ ممتقع
( أنا آسفة ..... لم ..... لم ..... لم أقصد ..... )
الا أن ملامحه كانت صلبة و قاسية وهو ينظر اليها بتهديد صامت ..... فارتبكت و تضاعفت ضربات قلبها فوق ذراعه .... الا أنه تكلم أخيرا قائلا
( حين أعود ...... سأريكِ ما يصح و مالا يصح .... )
زفرت وعد بقوة و هي تدرك أنه يتلاعب بها .... إنها ثاني مرة يفعلها بها .... كم هو طفل !! .... لكن طفل مرعب ....
فضحك ضحكة خافتة خشنة ..." الحقيقة أنه يود لو يريها ما لا يصح فقط و سيكون أكثر من سعيد بذلك ... تبا لكل ما يوقفه ... " .....
تنهد تنهيدةٍحارة لفحت بشرة وجهها الحساسة .... فاحمرت و أطرقت بوجهها , حينها اضطر الى إنزالها قبل أن يتهور مجددا ..
و ما أن وقفت حتى أحاط وجهها بكفيه وهو يهمس
( ابقي هنا قليلا ........ )
فكرت وعد ...." و كأنها ستذهب لأي مكان !! ...... ستقبع هنا و لو اقتضى الأمر ستختفي تحت السرير كما كانت تفعل في الدار و هي طفلة "
لكنها أومأت بطاعة لا تملك غيرها .....
انحنى سيف يمنحها لمسة شوق ناعمة مزلزلة .... ثم تركها ترتجف ليخرج مغلقا الباب خلفه بإحكام ....
بينما وقفت وعد مكانها تضع يدها على صدرها الخافق .... تنظر للباب المغلق و هي تتسائل عن نهاية تلك الليلة ؟؟ ..... هل سيتمها , ام أنه سيبقيها عنده الى أن يرجعها لبيتها غدا ....
امتقع وجهها و هي تفكر في عودتها غدا ....... لكن ما البديل , لو رفض ابقائها هنا ؟!! ....
كان يريدها للغاية و يطلب منها ذلك الطلب كل يوم ... فلماذا ابتعد الآن ؟!! ..... هل كان يريدها في بيتها ؟؟ حيث لا مكان لها هنا ؟!! ....... لكنه ابتعد عنها هناك كذلك ..... وقد وعدها بسكن لها ..........
ماذا الآن ؟!! ..... لماذا يتلاعب بها بتلك الصورة ؟!! ......
تراجعت وعد بظهرها و هي تنظر للباب و كأنها تتخيل اقتحامه الغرفة في اي لحظة .....
إنها غرفته و يستطيع دخولها دون اذن في أي لحظة .... الواقع أنها هي الدخيلة الآن ...
استمر تراجعها الى أن ارتطمت ساقاها بحافة السرير فجلست ببطء و هي لا تزال تنظر الى الباب ....
هذا هو ما كانت تخاف منه .... أن يتركها فريسة التردد و التفكير مجددا .... انه يعذبها بتلك الطريقة ....
تريد أن تغرق بمشاعره الجامحة و ينتهى الأمر بسرعة ...
لكن أن تفكر و تتخيل ما سيحدث فهذا يقلقها .... بل يرعبها ......
الآن هي حقا مرتعبة .... لقد جائت اليه في لحظة تهور يدفعها خوف آخر ....
الحقيقة أنه سيصدم بها تماما ..... إنها على عكس ما يتصور , تمتلك جهلا في طبيعة العلاقة بين الرجل و المرأة يكاد يكون مخزيا ...
حتى الآن هي تنساق لعواطفه دون تفكير في الخطوة التالية .... حتى حين وافقت على الزواج منه هربا مما تمر به لفترة مؤقتة .... لم يمر الأمر على تفكيرها أبدا ...
لقد مرت قبلاته على ذاكرتها و شعورها مرارا ...... لكن باقي الخطوات , فهي ببساطة لا تملك لها أي كتيب شرح في عقلها .....
لقد تصادف أن تصل الى سن السادسة و العشرين دون أم أو شقيقات ...و حتى الدراسة الحكومية تجاهلت هذا الأمر تماما .....
و كرمة لم تتفضل عليها بأي معلومة .... كما أنها لم تسألها من قبل ....
لم تمتلك حاسوبا أو هاتف كي تبحث عن معلومات .... لم يكن لها صديقات بالمعنى المعروف في الجامعة ... و ما أن كانت تسمع همسات تخص هذه الأمور في الجامعة كانت تبتعد تماما بحاجبين كحاجبي حراس الأمن ...
لا كتاب يخص الأمر .... و لا تلفاز تهتم به في وجود والدها ....
لا شيء على الإطلاق باستثناء بعض التحرشات كانت تصدها بمنتهى القوة لدرجة فقدان العمل أحيانا ... الا تحرشات سيف بها !! .....
توقفت في فراغ عند تلك النقطة ! ......
لكنها عادت تتوتر و تهز ساقها بعصبية وهي تقضم أظافرها بتوتر .... ناظرة الي الباب و هي تتسائل
" هل سيكمل طريقه الليلة ؟....... أم أنه توقف فقط حتى يملأ معدته كي يكون مستعدا لها ؟!! ... "
الأمر أصعب مما تخيلت بآلاف المرات ..... كف ألقت نفسها بتلك الطريقة في شيءٍ لا تملك له أي معلومةٍ بعد ..... ربما لو فتحت هاتفها لآن و بحثت قليلا !! ..... قد يكون لديها بعض الوقت قبل أن يصعد اليها ....
كان تلك نيتها منذ يومين .... أن تبحث في الأمر قليلا .... لكنها تأخرت و لم تكن تعرف أنها ستتهور الآن بتلك الطريقة ....
" حسنا ... اهدئي.... لديكِ بعض الخطوط العريضة , قد تستندين اليها .... لا تجزعي ... "
تنهدت بخوف و هي تنظر للباب .... لماذا يتعمد تعذيبها دائما بكل شكل من الأشكال !! .....
.................................................. .................................................. ...................
جلست منيرة لى سريرها بملامح متجمدة بعدم تصديق .....
ثم همست
( هل رأيتِ ما حدث يا ورد ؟!! ....... هل تصدقين ما يحدث الآن ؟!! .... هل هذا هو سيف تعلم السيطرة على كل ذرة في حياته منذ سنوات ؟!! ..... لقد تحول خلال شهرين الى ذلك المراهق المتمرد القديم .... حتى مشاعره تجاهي عادت لتتقلب .... )
قالت ورد التي كانت واقفة تنظر من النافذة الى الليل المظلم بصوتٍ بارد كالجليد
( إنها لعنة و تسلطت عليه يا أمي ..... لا تلوميه كثيرا , فهي و الحق يقال شديدة المهارة .... نظرة الضعف بعينيها قد تلهب روح أي رجل .... اسأليني أنا ..... خطواتها محسوبة ... كل تراجع ... كل تمنع ... كل احتياج اليه .... و كل هجوم مثلما فعلت هنا المرة السابقة ...... انها فعلا ماهرة و سيف لم يعتد الاختلاط بهذا النوع ..... لذا من الطبيعي ان يسقط من نظرة من عينيها الميتتين كعيون الأفاعي ..... هل رأيتِ نظرتها ؟!! ... بهما غدر الxxxxب و سحر الغواني ...... )
كانت حروفها تشتد مع كل كلمة ..... حتى صمتت و هي تتنهد بغضب يكاد يشتعل في عينيها
لكن منيرة كانت في عالم آخر و هي تقول بعدم تصديق
( هل رأيتِ مدى وقاحتها و جرأتها في المجيء الى هنا ناوية على اتمام الزواج بلا زفاف أو اعلان !! ..... لا أصدق أن فتاة تمتلك كل تلك الوقاحة و انعدام الحياء ؟!! ....... لقد صعدت الى غرفته دون حتى أن يحمر وجهها أمام أمه و شقيقتيه !!...... حتى لو كنت أحاول قبلا أن أتقبل الأمر .... فكيف أفعل الآن بعد هذا التصرف قليل الأدب و الحياء ؟!! ........ لا أصدق أنه ابني سيف أبدا .... أبدا ....... )
استدارت ورد اليها و هي مكتفة ذراعيها ... تنظر الي ملامح والدتها المرتسم عليها الذهول و الألم كأنها تحادث نفسها .... فقالت بعد أن التقطتت بعض من كلام سيف معها سابقا ...
( لقد رفضت دخولها سابقا ...... و أراهن أنها قد صممت أن ترد لكِ ذلك الألم بدخولها للبيت رافعة رأسها و دون ارادتك ...... )
نظرت منيرة اليها بعينين ضائعتين لتقول بخفوت
( هل تظنين أنني قد نبذت تلك الذكرى من تفكيري !! ..... لقد ظلت تؤرقني طويلا .... لكن .... لكني لم أستطع .... لم أكن حتى أستطيع تخيل الأمر ..... حين وصلني هاتف من الدار يخبروني بضرورة استلامها لأنهم لم يستطيعوا الاستدلال على مكان عبد الحميد حينها .... مكثت مع نفسي قليلا ....
تسائلت ... اي عدل هذا الذي يجبرني على آخذها رغما عني .... ادخالها بيتي في الوقت الذي كان ابني خارجه لمدة ثلاث سنوات .. بسبب والدها .... وذكرى زوجي المتوفي لا تزال حية بداخلي ... بسببي ... اي عدل هذا !! .... كيف كان يمكنني مراعاتها ... الاعتناء بها و أنا أملك كل هذا الحقد لطفلة صغيرة ..... خشيت أن يتسبب حقدي في ايذائها .....لقد انحنيت أرضا كي أقبل قدميه يا ورد .... امام كل سكان الحي كي يعفو عنه ... عن سيف ,انحنيت للرجل الذي ضرب ابنتي و أصاب أذنها الصغيرة للأبد .... انحنيت و قبلت قدمه بعد أن رماني الى رجل قذر كان يقتلني بقربي منه .... لكنه لم يقبل .... فكيف أقبل أنا ؟!! ..... هل أنا مصنوعة من حجر ؟!! ....)
نظرت منيرة الى ورد و هي تسأل بصوت باهت
( أخبريني يا ورد ...... هل يجعل ذلك مني شيطانا ؟!! ..... أن يفوق الأمر قدرتي على التحمل, هل يجعل مني شيطانا ..... )
قالت ورد بتصلب
( الشيطان هو من يلقي بطفلته في دار رعاية و يتوقع منا احتضانها ....... )
قالت منيرة بأسى
( لكن مكانتي اهتزت في نظر سيف بعد أن عرف .......بعد أن كنت قد استعدتها بجهد طويل .... )
قالت ورد بغيظ و قهر
( كانت منتهى القذارة منها أن تنبهه الي ذلك .......)
قالت منيرة بصوت مبهوت
( أتظنين أنها كانت تعلم ؟!! ........)
هتفت ورد و هي تشير الى رأسها
( أمي أفيقي ..... لقد عاد اليكِ ليلة عقد القران وهو رافض حتى النظر اليكِ .... بعد أن كان يكاد يتوسل اليك قبلها كي تذهبين معه .....لقد ردتها لكِ بعد عقد قرانهما مباشرة كي تستأثر به ..... ألم أقل لكِ أنها ماهرة تلك الميتة العينين ......)
نظرت منيرة أمامها بنظرات فارغة ... لكنها تنبع ألما .... و هي تفكر بأنها قد نجحت ... ابنة عبد الحميد العمري قد نجحت بمهارة .....
سمعا طرقا على الباب .... ثم صوت سيف يأتي قائلا بخفوت
( أمي ..... افتحي الباب من فضلك )
نظرت منيرة بعينين متأذيتين الى ورد تسألها المشورة ... فأومأت اليها ورد بعينين قاسيتين ...
ثم اتجهت الى الباب لتفتحه بصمت ناظرة الي سيف المستند بكفه الى إطار الباب .... فقالت بصوت باهت لكن يحمل الكثير
( لماذا تركت عروسك ابنة الحسب و النسب بمفردها ؟ ..... )
قال سيف بصلابة ....
( ورد ..... لا تتكلمي عنها بتلك الطريقة , على الاقل إحتراما لي ... إن فشلتِ تماما في احترامها هي )
قالت ورد بنفس النبرة
( و هل تركت لأحد فرصة احترامها ؟!! ...... افق يا سيف ... افق و انظر الى تصرفات تلك التي منحتها اسمك و ادخلتها بيتك ..... )
قال سيف بشدة
( كفى يا ورد لن أسمح لكِ ...... لولا ظروف خاصة لما كان حدث ذلك , لكنها في النهاية زوجتي و مكانها بجواري .... )
اقترب يتجاوزها منهيا الحوار معها .... الى أن وصل لأمه ... و جلس بجوارها بوجهٍ واجم .. ثم قال بخشونة
( أمي ..... اعرف أن الأمر كله سيء الشكل جدا ..... لكن وعد الآن تحمل اسمي , أيرضيكِ أن أرميها خارجا ؟!! ...... )
همست منيرة بصوتٍ مختنق و عينين لائمتين بشدة
( لا تتلاعب بالألفاظ معي يا سيف ..... هل تلك تصرفات فتاة محترمة منحتها اسمك !! .... )
تنهد سيف وهو يقول مدلكا جبهته بيده في يأس
( اسمعي يا أمي ......... )
قالت منيرة بقسوة غير معتادة
( اسمع أنت يا سيف ...... تلك الفتاة ستفرق بينك و بيننا واحدا تلو الآخر .... فإن كان هذا يرضيك فانت حر , لقد بلغت من العمر ما يجعلك تتخذ قرارك بنفسك مهما كان مقدار الألم الذي ستسببه لأقرب الناس لك ...
لكن ليكن بعلمك أنا لن أتعامل معها ولو بكلمة ..... سأعتبرها نكرة كما تستحق تماما .... فوالله لولا خوفي على منظر أسرتنا أمام أسرة خطيب اختك لكنت تركت البيت و خرجت من هنا بغير رجعة الى أن تخرج هي منه ..... )
ظل سيف ينظر الي وجهها الذي قست ملامحه بشكلٍ لم يعتده منها هي بالذات ... بشكلٍ لا يليق بملامحها الملائكية التي تختلف عن ملامحه و ملامح ورد .... فنهض من مكانه ليقول بهدوء
( حسنا يا أمي ..... لا بأس ..... )
استدار الى ورد يقول بصوت فاتر
( أعتقد أنه لا أمل أن أطلب منكِ شيئا لترتديه وعد الليلة يا ورد ....... )
ابتسمت شبه ابتسامة قاسية باردة و هي تقول بإيجاز
( ماذا تظن ؟!! ......... )
أومأ برأسه متفهما بملامح قاتمة .... ثم قال أخيرا اليهما معا
( حسنا ....... شكرا .... )
خرج من الغرفة بنفسٍ غاضبة ... يحاول جاهدا الا يحتد عليهما كي لا يزيد من قسوة الأمر عليهما ...
فاتجه الى المطبخ وهو يهدر أنفاسٍ لاهبة غاضبة .... أخذ يبحث عن طعام العشاء في كل مكان .... دون أن يجده .... ألم تخبره ورد أن الطعام جاهز .... أين ذهب ؟!! ...
استقام سيف متأففا .... لكنه استدار حين لاحظ دخول مهرة بعينين متورمتين من البكاء ... فنظر اليها واجما بينما تسمرت مكانها لحظة ... قبل أن تتجاهله بفشل و هي تتجه الى مبرد الماء كي تشرب ببطء و صمت ...
قال سيف محاولا مراضاتها برقة
( مهرة صغيرتي ..... أيمكنك مساعدتي ؟؟ ...... أتقلين البيض لي ؟؟ .... )
نظرت اليه بصمت و هي تضع الكوب على الطاولة و شفتيها ترتجفان قليلا ... لكنها بعد فترة هزت رأسها نفيا ببطء و تردد .... فعقد سيف حاجبيه قليلا ... ثم قال بخفوت و جفاء
( حسنا ..... لا بأس ... شكرا .... )
خرجت مهرة من المطبخ جريا و هي تشهق باكية كعادتها الدرامية المدللة ... لكنه لم يلتفت اليها , و لن يراضيها ....
أخذ يحاول التعامل جاهدا مقطبا مع كسر البيض في المقلاة ... بينما تناول معلقة خشبية ليقلبه حتى التصق في المقلاة .... ازداد انعقاد حاجبيه .... لم يكن المطبخ غرفته المفضلة ابدا ...
أخذ يسكب الخليط المشوه في طبق .... لكنه لحسن الحظ لم يكن نيء و لا محروق ....
ثم احضر طبق آخر ليضع به حبتين طماطم و حبتين خيار ... و حبتين فلفل ... أخذ ينظر في الثلاجة مجددا باهتمام .... ثم أخرج علبة اللبن ليسكب منها كوبا باردا كالجليد .... لكنه لن يقوم بتسخينها فآخر مرة أعد فيها واحدا لأمه ... فار منه فوق نيران الموقد ثلاث مرات متتالية الى أن يئس و أحضره لها باردا كذلك ...
وضع الخبز في الفرن الكهربي الذي هو نعمة ... و بعد أن أصبحت الصينية جاهزة نوعا ما .. حملها و صعد بها الى .... عروسه !! ..... لكنها كانت صينية مأساوية كصينية عروس في الواقع ! ....
طرق سيف الباب بطرف الصينية .... و حين لم يسمع ردا , خاف أن تسقط مغشيا عليها من شدة الرعب فقال مناديا بملل
( إنه أنا يا وعد ..... افتحي لأنني لن أستطيع فتح الباب .... )
انتظر لحظتين قبل أن يجد الباب يفتح بالفعل .... و تطل وعد بعيني قطة متسللة من خلف الحائط ... فابتسم لها ....
فتحت وعد الباب له كي يدخل .....
فنظر الي وجهها الذي اشتد شحوبه بدرجة ملحوظة .... و لم تستطع حتى تدبر ابتسامة ....
وضع سيف الصينية على طاولة صغيرة .... ثم استدار اليها ....
كانت تبدو رثة الملابس للغاية .... تلك الكنزة , تبدو بشعة عليها بخلاف باقي ملابسها .... لكنها في ذات الوقت تزيد من استفزازه و من اظهار مدى رقتها ....
كانت وعد تقف في نهاية الغرفة و هي تنظر اليه بتوجس أثار استغرابه ... لكنه لم يقل شيء وهو يتجه الى دولابه يبحث فيه ....
ثم استدار اليها ممسكا ببيجاما حريرية كريمية ....و مدها اليه كطعم وهو يقول بصوتٍ أجش ...
( خذي ارتدي هذه ......... )
نظرت بذعر الى البيجاما في يده و كأنها ستلتهمها .... ثم رفعت نظرها اليه و هي تهز رأسها نفيا بسرعة , شهقت بصمت ثم قالت بتعثر يكاد يكون مختنقا
( لا ..... لا داعي ... سأنام بملابسي , أنها .... واسعة و مريحة .... )
رفع احدى حاجبيه بصمت .... فأدركت مدى غباء كلامها , فأغمضت عينيها للحظةٍ تلتقط أنفاسها ... ثم فتحتهما أخيرا لتهمس بخفوت
( حسنا ....... شكرا لك ... )
اقتربت ببطء الى أن مدت يدها تمسك بالبيجاما الحريرية .... فتركها لها بباسطة كي تضمها الى حضنها
قالت وعد باختناق
( أين ..... يمكنني أن أبدل ملابسي ..... )
قال سيف بهدوء مبتسما
( هنا ......... أين اذن ؟؟ !!.......... )
امتقع وجهها أكثر ..... لكنه لم يلبث أن تلون بعدة ألوان في وقتٍ واحد .... الموقف معقد , بخلاف حين كان معها في المشفى ... بخلاف استسلامها له .... الا أن الموقف في تلك اللحظة معقد اكثر مما تصورت ...
قرر سيف أن يرحمها أخيرا فأمسكها من كتفيها .... يديرها في اتجاه باب الحمام ... ثم دفعها وهو يقول
( خمس دقائق فقط ثم سأفتح الباب ..... هيا )
استدار سيف بعيدا عنها الى ان سمع صوت احكام غلق باب الحمام .... حينها اختفت ابتسامته و هو يفكر بانها ستكون ليلة طويلة ... مضنية .....
خرجت وعد بعد اربع دقائق تماما ..... فأخذ سيف وقته قبل أن ينظر اليها كي لا يرهبها .... و حين فعل ... يا ليته لم يفعل ......
كانت أكثر كارثية .... و أكثر شهية .....
كانت البيجاما اكبر من ملابسها الأصلية .... و كانت ممسكة خصر البنطال من فوق السترة باحكامخشية ان يقع .... وحدها فتحة الياقة كانت أكبر و أطول مما تخيل .... و مما تمنى !! .....
أخذ نفسا عميقا ثم اقترح بصوت عادي .... متحشرج ..
( ربما يجدر بك الإكتفاء بالسترة .... لأن البنطال احم ... سيقع حتما ... )
عقدت حاجبيها بتزمت ... و قالت بجمود بينما اشتعل وجهها احمرارا ...
( لا ...... شكرا لك .... أنا ممسكة به و لن أتركه ..... )
هز كتفه مبتسما كابتا ضحكة بكل قوته ثم قال ببساطة
( كما تحبين .... ..... تعالي خذي كوب الحليب و اقفزي للسرير )
استدار عنها .... فسمعها تقترب ... لتتعثر بحفيف , ثم شهقة رعب كتمتها بسرعة و هي تعدل من إمساكها بالبنطال .... فابتسم ابتسامة عريضة دون ان يتلفت اليها على الرغم من شوقه الغامر لذلك ....
وصلت اليه ... متشبثة بالخصر بكلتا يديها ... تنظر اليى الكوب بتعقيد ... تعض على شفتها لا تعرف كيف تتصرف ....
فالتفت بوجهه جانبا اليها حتى تلاقا وجهيهما و اقتربا من بعضهما ... و تسمرت نظراتهما للحظة ...
حينها انحنى ليحملها بقوة ..... وهي تشهق عاليا .... ثم سار بها الى السرير و ألقاها عليه بقوة ....
انقلبت فيه وعد و هي تصرخ مهتاجة غاضبة .....ثم استقامت و هي لا تزال متشبثة بالخصر ...
الا أنه وضع اصبعه فوق شفتيه هامسا بتحذير
( هششششش ...... )
زمت شفتيها بغضب ..... لكنها تدبرت جلسة ذات إباء و كرامة نوعا ما .... الى أن أبصرته يحمل الصينية ويأتي اليها ببطء ... عيناه على عينيها بقوةٍ تنفذ الى الأعماق ..... فابتلعت ريقها بصمت ....
جلس أمامها وهو يضع الصينية على ركبتيه ... و سرعان ما وجدت يده ترتفع الى فمها بلقيمة خبز بها بعض البيض ...
فتحت وعد فمها تلقائيا و هي تنظر اليه مبهوتة من تصرفاته ... لكنها كانت تأكل من أصابعه واحدةٍ تلو الأخرى بصمت غير قادرة على التخلي عن عينيه ....
وكأنها تحلم و لا تعيش تلك اللحظة فعلا !! .....
لم تلقى هذه المعاملة في حياتها أبدا من قبل ..... لم يشعر بها أحد من قبل كما يشعر هو بها .....
أكثر ما بدأت أن تخشاه .... هو أن تعتاد تلك المعاملة , فتصدم حين يقرر تركها أخيرا !! ....
شردت عيناها بعيدا ..... بملامح كئيبة .... الا أنها انتفضت حين سألها بصوتٍ أجش خافت
( بماذا شردتِ ؟؟ ....... )
فتحت فمها حين شعرت بأصابعه على شفتيها من جديد ... فامتنت على الإنشغال عن الرد ....
لقيمة بعد لقيمة و هما صامتان ينظران الى بعضهما .... الى أن فوجئت بانتهاء الطبق بينهما ! ...
نظرت وعد الى الطبق بدهشة , ثم همست بعدم تصديق
( يبدو أنني كنت جائعة بالفعل! ......... )
رفعت عينيها اليه لتهمس بحرج
( أنت لم تأكل شيئا !! ........... )
لم يرد على الفور وهو يتأمل عينيها الناعستين ... ثم همس بصوته الأجش العميق
( لقد شبعت من مجرد إطعامك ........ )
أخفضت وجهها بحرج .... تعض على شفتيها من كلامه ... من نظراته ... من لمساته ....
تنحنحت و هي تهمس برقة
( هل يمكنني النهوض كي أغسل فمي ؟؟ ........ )
أشار بيده للحمام وهو يهمس ببطء ..... ( تفضلي .... البيت بيتك منذ هذه اللحظة )
نهضت وعد تتعثر في البنطال , متشبثة بخصره باحكام ... حتى وصلت الى باب الحمام ... و أغلقته خلفها , ممتنة أن البنطال لا يزال في يدها ....
نظرت وعد حولها الى الحمام الأنيق ..... كانت جدرانه من اللون البني المعرق ...
تقريبا لديها فكرة جيدة عن تكلفته نظرا لعملها في المعرض قبل العمل عند سيف ...لكنها لم تصدق يوما أن تكون أحد مستخدميه ! .....
انحنت لتغسل فمها و وجهها ... ثم لم تلبث أن استقامت لتواجه صورتها في المرآة ....
وجه شاحب ... ضائع ... و عينان تتهمانها بصمت ... تسألانها عما تفعله هنا , كما سألتها مرة من قبل , في حمام مكتبه ....
ظلت وعد واقفة لا تمتلك ردا للسؤال .... كم دارت بها الأيام سريعا ... من حمام مكتبه , الى حمام غرفة نومه !! ....
كانت نظرية فلسفية لا تناسب الحمامات إطلاقا , لكنها على الرغم من ذلك كانت واقفة بضياع لا تملك حلا شافيا ....
كان سيف قد وضع الصينية على الطاولة ... متنهدا بكبت , الى أن سمع صوتها من خلفه ..... فالتفت اليها ..... تسمر مكانه , حين أبصرها بسترة بيجامته ...فقد أنفاسه انتظامها و هي تقف مكانها .. أصابع قدميها تلتوي بخجل فوق البساط ...
كانت السترة محتشمة عليها تماما , تكاد تقارب اعلى ركبتيها تماما ..... شعرها كله مجموعا جانبا على احدى كتفيها و على ما يبدو انها قد مشطته ....
أخذ نفسا متحشرجا وهو يود أن يأمرها بأن تعود و ترتدي البنطال من جديد ....
حين تكلم أخيرا , كان صوته متحشرج خشن
( هيا الى السرير ......... )
كان وجهها أحمر منخفض جذاب بدرجة مهلكة ..... لكنها لم تتحرك من مكانها ..... بقت مكانها , متسمرة , فنظر اليها منتظرا .... و لم يكن متضايقا من مراقبتها على الإطلاق ... لكن حين تكلمت أخيرا دون أن تنظر اليه ...
همست بإختناق متحشرج
( سيف ........ سيف ....... )
لم تتمكن من المتابعة .... ثم حاولت مجددا , و هي تهمس بصوتٍ أكثر خفوتا
( سيف ...... أنا , أخشى أنني ....... سيخيب ظنك بي تماما , أنا أحتاج الى ..... المساعدة ...)
كان يقترب منها ببطء و كأن قدميه قد فقدتا التقيد بأوامر عقله فباتت تتحرك من تلقاء نفسها .... وصل اليها أخيرا ... ووقف أمامها فصمتت تماما ... منخفضة الرأس متسارعة الأنفاس ... شفتيها ترتجفان ...
حملها بين ذراعيه مجددا .... فرفعت ذراعيها خلف عنقه ... تميل برأسها الى كتفه , بينما طبع قبلة ناعمة فوق جيدها ,........ ليتجه بها الى السرير ,,, و هذه المرة وضعها بكل رفق ... ثم استقام يقول بهمس حنون
( سأغسل يدي ثم أعود اليك ....... )
اندست بتوتر تحت الغطاء .... بل بذعر ...... و انتظرت اللحظات التي بدت كدهر , حتى خرج أخيرا .... ليغلق الضوء ..... أوشكت على الصراخ , الا أن صرختها اختنقت بحلقها ....
لتشعر به يندس بقربها في الظلام .... أغمضت عينيها بقوة و هي تتلو الأدعية التي تعرفها كلها واحدا تلو الآخر ....
الى أن انتفضت على يده و هي تطبق على كفها فجأة ... فتوقفت أنفاسها و اتسعت عيناها في الظلام كعيني أرنب مذعور ....
لكنها شعرت به يقول بخفوت
( حسنا سيدة وعد ....... لقد حان الوقت لتخبريني بسبب رعبك و هربك الى هنا في تلك الساعة )
ظلت عدة لحظات تحاول استيعاب رغبته المفاجئة في الدردشة .... لكنها ربما كانت في شدة الإحتياج الى هذا كي تعاود تنفسها من جديد ... كانت تشعر و كأن قلبها سيتوقف عن عمله ....
أخذت نفسا مرتجفا سعيدة أن الظلام يحجبها عنه ... فاستلقت تنظر الى السقف مظلم المعالم و هي تشعر بقبضته تشتد فوق كفها .... تمنحها الأمان الذي تحتاجه ...
فهمست بتحشرج
( لا أظن أنني استطيع ...... )
اشتدت قبضة سيف فوق كفها أكر و قال بعزم
( بل تستطيعين ..... منذ الليلة , ستحكين لي كل شيء , مهما كان صعبا .... تعرفين ذلك في قرارة نفسك , و الا لما كنتِ أتيتِ الى هنا دون تفكير ...... )
لم ترد .... فاقترب منها و يده الأخرى استطالت لتمشط خصلات شعرها برقة .... ثم همس بصوت عنيف قليلا
( تكلمي ياوعد لأن القلق الغير ظاهر يكاد ينهشني منذ أن ظهرتِ على باب البيت بهذا الشكل ..... )
ارتجفت قليلا .... لكن بعد فترة طويلة همست بيأس
( والدي ............. )
تصلبت ملامح سيف في الظلام , الا أنه قال بخشونة
( ماذا به ......... ماذا فعل لكِ ..... )
انتظرت فترة تحاول استجماع أفكارها بها .... ثم همست باختناق
( لقد أصبح غريب الأطوار .... يناديني باسم صفا ..... أمي ... طوال الوقت ....لكن الليلة .... الليلة ... شعرت به .... شعرت به غاب عن العالم تماما وهو يظنها هي من ترعاه .... حتى يداه ... )
شهقت قليلا حين شعرت بقبضته تكاد أن تهشم عظام كفها الرقيق .... ثم همس بذهول به قسوةٍ أخافتها
( هل تطاول معك ؟؟ ....... تكلمي , هل تجرأ على .... )
كانت مستلقية مكانها تشعر بالرعب من التحول الذي طرأ عليه ... فهمست تطمئنه بعد , أن كان هو من يطمئنها لكنه على ما يبدو قد تحور الي شخص آخر
( لا تخف ..... انه , .... سيف , انه يبدو و كأنه يعيش في عالم آخر .... يدرك لحظة ثم يغيب عن العالم لحظتين ..... لقد هاتفت طبيبه , كنت في حالة ذعر .... لكنه , قال مستسلما .... أن والدي ... يمر بمرحلة خرف .... وهو لن ..... يؤذيني أبدا .... لن يستطيع ... )
كانت ترتجف و قد شعرت فجأة ببرد عنيف ينهش عظامها .... الا أنها همست و كأنها تريد التكلم مع شخص أي شخص ....
( لست خائفة من أن يؤذيني ...... لكن ...... لم أستطع تحمل ذلك ..... سيف أنا .... شعرت فجأة أنه لا يمتلك رصيد كافي عندي لأتحمل منه ما لا تطيقه نفسي ....شعرت بال ...... بالنفور .... شعرت بالنفور الشديد حتى كاد أن يخنقني .... . )
اختنقت أخيرا ..... ثم انسابت دمعة , شقت طريقها فوق وجنتها ..... بينما كانت أنفاس سيف تتسارع في الظلام , الى أن همس أخيرا بصوتٍ خشن
( تعالي .......... )
جذبها اليه رغم ارادتها بفظاظة كي تستريح الي صدره .... يضمها اليه بذراعه بقوة ... بينما تشابكت أصابعه مع أصابعها في اتحادٍ تام .... ثم همس فوق جبهتها
( لقد اتقفت مع ممرض للرعاية الخاصة .... سيبدأ عمله مع والدك , لكن للأسف بعد يومين .... لم أتمكن من التصرف سريعا قبلها ..... و حتى ذلك الحين أو بعدها ستبتعدين عنه تماما .... )
همست فوق صدره باختناق
( لن يمكنني تركه يا سيف .... يجب أن أذهب اليه ........ )
قال سيف بخشونة
( لو كان هذا صحيح لما أتيت لي ليلا كي أنقذك منه ........ )
همست بعد فترة طويلة و دموعها تنساب على صدره
( لم أعد أحتاج الى الإنقاذ الآن ...... كنت أحتاجه لسنوات طويلة .... طويلة جدا ..... )
قال سيف بخشونة
( أنا هنا الآن ............. )
همست وعد بحزن و كأنها تستيقظ على الواقع المضني
( أنا مضطرة للعودة صباحا .......... )
صمت قليلا .... ثم قال بصوت خافت يحمل الكثير
( سنعقد اتفاق ............ )
ابتسمت من بين دموعها ..... و همست تسأل بتحشرج
( حل وسط آخر ......... )
ابتسم هو الآخر في الظلام ... الا أنه حين تكلم .... كان صوته صارما
( بل هو حل وسط للحل الوسط .... )
همست برقة و هي مستعدة للموافقة على أي شيء .... لقد تبدد خوفها خلال عشر لحظات على الأكثر ... على صوته في الظلام ...
(حسنا ........ الخلاصة ؟!! )
همس سيف بصوت موافق
( نعم الخلاصة ..... و لا جدال بعدها .... )
أخذ نفسا عميقا ثم قال
( سنتزوج بعد اسبوعين من الآن ...... و حتى ذلك الحين ستبقين معي هنا )
فقدت القدرة على الفهم ... و الإستيعاب و .... التنفس ...
أول ما طرأ تفكيرها هو أنه بالفعل سيتركها الليلة ...
ثاني شيء أنه سينتظر اسبوعين ...
ثالث شيء ... لماذا ؟!!! ......
فاختارت الهمس بالسؤال الأخير
( لماذا ؟!! ........ )
ابتسم برضا في الظلام وهو يشعر بشيء من الإحباط في همستها ... و أيضا زوال الكثير من خوفها ...
الا انه همس بخشونة
( لأن ...... لأنني بعد تفكير وجدت أنكِ محقة في الحصول على بعض الوقت و التحضير لزواج مناسب أمام الجميع .... بعد ما كان من الإعلان الكارثي لعقد القران .... لذا فان من حولنا في حاجة لإلتقاط أنفاسهم من تلك التطورات العنيفة .... على أن ..... )
صمت قليلا ... فحثته هامسة برهبة
( على أن ؟!! ........ )
مد يده يرفع ذقنها اليه ينظر الى عينيها في الظلام و كأنه يراها ... ثم قال بخفوت
( على أن تقصين لي عن نفسك شيئا كل ليلة ..... و أنتِ بين ذراعي )
همست بتحشرج
( من تظن نفسك ؟ ...... شهريار ؟!! .... )
قال بخشونة
( انظري الي نفسك أولا ثم تكلمي .... لم أظن يوما أن تكون شهرزاد هزيلة زرقاء الشفتين مثلك , لقد بددتِ أحلامي عنها .... )
لم ترد ..... و ساد صمت طويل فهمس بخفوت وهو يلاعب شعرها
( هل كسرت خاطرك ؟؟ ........ )
همست بنعومة
( لقد اعتدت ذلك منك .... منذ اليوم الأول , و أنت تبخس من مظهري .... )
اختفت ابتسامته .... هل كان يبخس من مظهرها ؟!! .... آآه لو تعرف تأثير مظهرها عليه !! ....
قال مبررا بخشونة
( لم أكن أعرف أنكِ أنت من تخيطين ثيابك ...... )
ضحكت قليلا باختناق , ثم همست
( و أي فارق يشكل ذلك ؟!! ...... المهم أنك لم تعجب بمظهري .... )
صمت لحظة ثم قال بفظاظة
( لو لم أعجب بمظهرك , لما كنتِ الآن نائمة بين ذراعي .... مرتدية سترة بيجامتي الخاصة و هذا بالمناسبة امر لا أسمح به لأي شخص .... فقط المميزين , لذا من حقك أن تشعري بالفخر مؤقتا ... )
تثائبت رغما عنها و هي تضحك هامسة
( منذ زمن و أنا أظن أنني محظوظة ...... لكن كان عندي بعض الشكوك )
همس سيف بصوتٍ لاهب
( سأبددها لكِ واحدا تلو الآخر ...... كان يوم حظك يوم دخلتِ مكتبي ذات يوم )
ابتسمت بعذوبة .... نعم انه محق .... لقد كانت محظوظة ... ربما لبعض الوقت , لكن ما تعيشه معه من بعض قطرات حلم غريب ... يجعلها محظوظة ... جدا .... و كأنها مسافرة في رحلة لم تكن تحلم بها أبدا ....
لكن لكل رحلة نهاية .... و لا بد من العودة في النهاية ....
تثاقل جفنيها رغما عنها ....مبددين القليل من شوقها لقبلة أخيرة .... لكنهما لم يستطيعا تبديد الإحساس .... بالأمان ...... احساس لم تعرفه أبدا .....
استسلمت أخيرا مغمضة عينيها بإرهاق ... لكن ليس قبل أن تهمس بغياب وعي
( سيف ..... لقد أفسدت الأمر الليلة ....لم أقصد ايذائها ... مجددا ... )
ذهبت بعد ذلك في سبات عميق .... مطمئن أنها لن تتاذى الليلة أبدا وهو يحتضنها بين ذراعيه .... بينما هو كما أن شعر بسكون أنفاسها حتى أطلق تنهيدة مكبوتة ....
الأمور تتعقد بينهما تماما .... انها تقريبا تقترب اهمية لديه من نفس اهمية امه و شقيقتيه و هذا في حد ذاته خطرا لم يكن يتوقعه من قبل ....
حتى مع اعترافه بانجذابه لها .... لم يظن أن الأمر سيتعدى ذلك أبدا ....
ربما امه محقة .... بل هي محقة ..... وعد ستفسد الكثير مما بناه خلال السنوات السابقة ...
لكن ما عليه ... هو ان يصلح ما ستفسده .... لأن لا حل آخر باستبعادها ....
لأن وعد قد ترسخت بحياته و انتهى الأمر ....مهما بلغ حجم افسادها للأمور واحدا تلو الآخر ...
كان جسده كله ساخنا ... يتوهج بقربها بين ذراعيه ... فسمح ليده أخيرا بحسسها من فوق القماش الحريري ... مغمضا عينيه بتأوه صامت .... ربما ليس من الضمير ما يفعله , ... لكن هل من الضمير الوضع الذي هو فيه الآن ؟!! ....
كانت رقيقة القوام للغاية ... ناعمة للغاية .... يكاد يستشعر عظامها الهشة و هي تفقد الوزن شيئا فشيئا ....
ادار وجهه الي وجهها النائم على كتفه في الظلام .... ثم انحنى يقبلها مغمضا عينيه بعذاب وهو يضمها بذراعه الأخرى ... و حين تأوهت قليلا , شعر أنه تمادى ... و أن لحظة واحدة أخرى فلن يكون مسؤولا عن تصرفاته و تهوراته ...
استلقى سيف ناظرا الي السقف .... وهو يسأل نفسه بقلق
" من تخدع نفسك ؟!! ..... هل تظن أنك ستنبذ القلق بعد اسبوعين ؟!! .... ستظل خائفا من تهورك معها و من جنون مشاعرك عليها .... تخشى الا يتتحمل قلبها الضعيف الأمر ... كما تحمل حمل السجاد الثقيل من قبله .... "
زفر بقوة و يأس وهو يتخيل لو كانت قد سقطت أمام عينيه متأثرة بعملها المضني بعد أن يفشل قلبها الضعيف في التحمل ....
ازداد في ضمها اليه عفويا و كأنه يخبرها أن هذا لن يتكرر مجددا ..... و حتى لو تطلب الأمر منه كبت الكثير من رغباته .... ثم الموت بعدها !! ....
.................................................. .................................................. ................
استيقظت وعد على شعور رائع بالدفىء و الهناء ..... قوة مذهلة كانت تجذبها الى جدار دافىء به مضخة قوية كموج البحر تهدر تحت اذنها .... و لمساتٍ ناعمة على جفنيها ووجنتيها تخبرها أن الغرفة قد امتلأت بالفراشات .... فابتسمت لهن و هي ترفع يدها محاولة الإمساك بواحدة ...
لكن همسة لامست كفها وصوت خشن يقول
( صباح الخير ....... )
انتفضت وعد مستيقظة تماما .... و هي تراه مائلا الى مرفقه ينظر اليها بعبث محترق ... بعينين حمراوين وذقن غير حليقة كمن قضى ليلة طويلة متعبة ....
مدت وعد يديها تلقائيا تحت الغطاء تعدل من نفسها و هي تنظر بذهول الي أنحاء الغرفة متذكرة هول ما فعلته .... الا أنه كان ينظر اليها بعينين شقيتين لكن حاجبين منعقدين باتزان ... ثم سأل أخيرا بتهذيب
( هل كل شيء بخير ؟!!..... )
هزت رأسها بالإيجاب .... بملامح معقدة عابسة .و شعر أهوج فوق وجهها بفعل أصابعه الدنيئة .. .. فقال بخفوت
( هل هذا مظهرك حين تستيقظين من النوم ؟!! .... أنه اممممم )
قالت بحدة و هي تنظر اليه
( ماذا ؟ .......... )
قال ببساطة
( انه يبدو كسيارة نقل ارتطمت بعمود اضاءة ..... )
عبست وهي تحاول القفز من الجهة الأخرى ... الا أنه جذبها اليه بقوة وهو يقول آمرا
( ليس قبل أن تقولي صباح الخير ....... )
قالت بجمود
( صباح الخير ..... هيا اتركني )
ثم استطالت بتهور تقبل وجنته وهي تقول عابسة
( وهذه قبل أن تزيد من صباحاتك ..... أيمكنني القيام الآن ؟؟ .... )
تركها أخيرا تفر كمهرة جامحة الى الحمام ... بعد أن خشي أن يتهور صباحا .... و ينسى الحلول الوسط و الطرفية و يمزق الإتفاقية كلها ...
تأفف بعنف و هو يلقى نفسه للخلف مرددا جملتها بكبت عاجز
( لقد مر يوم من الأسبوعين ...... هانت ! ... )
.................................................. .................................................. ...................
أوقف سيارته بملامح غاضبة مكفهرة وهو يمد رأسه ناظرا الى البيت .... فقالت وعد بقلق
( لا تغضب مني ...... لا يمكنني تركه الآن , يكفي أنني تركته ليلة كاملة )
قال سيف بعنف
( لا أصدق أنك عائدة الى هنا بعدما أخبرتني به في الأمس !! ....... كيف أتقبل هذا ؟!! )
همست وعد تهدئه ... مجددا .... للمرة العاشرة
( يا سيف .... لن أستطيع تركه الآن .... خاصة قبل مجيء الممرض , لا انسان يتصف بذرة انسانية
يمكنه فعل ذلك ..... أرجوك لا توترني أكثر ..... )
نظر اليها بغضب , ثم قال أخيرا بصوتٍ حانق
( اتصلي بي ان حدثت اي بادرةٍ تقلقك ..... هل تفهمين ؟؟ .... هل تفهمين يا وعد ؟؟ )
ابتسمت باهتزاز و هي تهمس
( لا تقلق ......... )
قال سيف آمرا مؤكدا
( و لا مبيت هنا مجددا .... لقد انتهت علاقتك بهذا البيت يا وعد , لن اسمح لكِ بالتراجع .... مفهوم ؟؟ ... )
أومأت برأسها دون رد .....الا أنها شعرت بالخوف رغما عنها و هي تسلمه كل مفاتيح حياتها على نحوٍ لم تفعله من قبل لأي مخلوق .....
خرجت وعد من السيارة بتعثر .... تنظر الي الطريق ... الى البيت القديم .... الحياة الواقعية ... و كأنها استيقظت للتو من الحلم الوردي ...
فأسرعت الصعود دون النظر الى الوراء .... كي لا تضعف فتعود للحلم و تنهل منه من جديد ....
.................................................. .................................................. ..............
دخلت وعد غرفة والدها و هي تهمس بقلق
( أبي ........ هل استيقظت ؟؟ ..... )
وجدته مستلقيا على سريره .... بملامحه المتجعدة و فمه المتثاقل المائل .... فاقتربت منه تقول بخفوت
( صباح الخير ....... هل تحتاج شيئا ؟؟ ..... )
استطاعت بعد فحص بسيط أن تدرك أنه لم يستطع الصمود كي يقضى حاجته .... على ما يبدو أنه قد استيقظ مبكرا أبكر مما ظنت .... و أنه قد نادى عليها طويلا عبثا .... بصوتٍ متثاقل .... سواء وعد أو صفا .... لا يهم ....
استقامت وعد و هي تنظر اليه بملامح باهتة ... و أعين تهتز و تدمع ... ثم همست باختناق
( أنا آسفة يا أبي ....... أنا آسفة , لم أقصد التأخر عليك ..... لقد عدت الآن ...... )
وضعت يدها على صدرها المتألم .... لكنها ابتلعت غصة ندم ثم همست باختناق
و هي تنحنى اليه
( هيا لننظف تلك الفوضى ....... )
مد يدا ترتجف الى عنقها هامسا بتثاقل و غياب وعي
( صفا ............. )
حاولت ابعاد يده وهي تهمس
( نعم ....... هيا بنا ...... ساعدني قليلا .... )
.................................................. .................................................. ......................
أغلقت وعد باب غرفة أبيها بعد أن خلد للنوم مساءا قليلا .... ثم استدارت أخيرا لكي تتجه الى مصيرها .... في مواجة كرمة ....
كرمة التي هاتفتها لتخبرها دون مقدمات أنها قد تزوجت من يومين ...... من سيف الدين فؤاد رضوان !! ...
وصلت وعد بصمت .... تنظر الى كرمة التي كانت واقفة بتحفز .... ناظرة اليها بقسوة مكتفة ذراعيها ...
فقالت وعد بخفوت
( هلا جلستِ أولا ......... )
قالت كرمة بقوة و دون ذرة لين
( هل تزوجته حقا ؟.......... )
أومأت وعد برأسها بصمت تبتلع ريقها ثم همست
( عقد قران فقط ............ )
قالت كرمة بنفس القسوة
( أنتِ تنامين في بيته !! ......... )
قالت وعد و هي تفرك أصابعها .....
( لم يحدث بيننا شيء ....... بعد .... )
هتفت كرمة بقوة و غضب
( ما ذلك التعقيد ؟!! ..... .... تتزوجين سرا دون استشارة أو دعوة أحد ..... تنامين في بيته , تحت أنظار والدته الرافضة للأمر و كأنك تذلينها بطريقةٍ ما مثيرة للتقزز ..... ما نوع هذا الزواج ؟؟ .... )
هتفت وعد و قد فاض بها الكيل
( لماذا تصرخين ؟؟ ...... هل ستفعلين كملك لمجرد أنني لم أدعوكما الى عقد القران ؟!! .... من المؤكد يحق لي بعض الخصوصية إن أردت ذلك ..... )
نظرت اليها بذهولٍ عنيف , ثم نفضت شعرها بعنفوان لتقول متجاهلة صفاقتها
( لماذا تزوجته ؟......... و لا تخدعيني يا وعد ... أنا بالذات لن يمكنك خداعي .... )
تنهدت وعد و هي تستدير بعيدا عنها محيطة جبهتها بتعب بكلتا يديها
( لقد كنتِ تحثيني على الاستجابة لإعجابه من قبل ؟؟ ...... هل نسيتِ ؟!! ..... )
قالت كرمة بغضب
( و أنتِ أجبتِ أنك مجرد نزوة في حياته ..... و قد أكدتِ لي ذلك !! .... يبدو أنكِ أنت من نسيتِ !!)
لم ترد وعد و هي تهز ساقها بعصبية .... نافضة شعرها هي الأخرى بين الحين و الآخر .... ثم قالت أخيرا
( و أثبت حسن نيته في الأخير و تزوجني بالفعل ..... لدي قسيمة زواج تثبت ذلك .... )
ظلت كرمة تنظر اليها ثم قالت أخيرا بصوت أقل عنفا
( هل زواجه بكِ دائم ؟؟ ....... )
لم ترد وعد على الفور بل ارتبكت ملامحها .... الا أنها قالت أخيرا ببرود
( من في هذه الحياة تستطيع تأكيد شيئا كهذا ؟؟!! ....... الله أعلم ... )
قالت كرمة بصوت واثق باهت
( أنتِ تستطيعين ........ لأنكِ متأكدة في قرارة نفسك أنه ليس زواج دائم , و أنكِ لستِ سوى نزوة مشروعة في حياته .... و قد قبلتِ .... )
شحبت ملامح وعد و تجمدت عيناها ..... لكنها لم ترد .... فقط أبعدت وجهها عن عيني كرمة المتهمتين , لكنها تابعت أكثر غضبا
( كيف تقبلين بذلك يا وعد ؟!! ..... مهما بلغ مقدار ما دفعه لكِ و ما وعدك به .... كيف تبيعين نفسك بتلك الصورة ؟!! .... )
الخزي يفور في أعماقها بعنف .... يهدر و رأسها منكس رغم ارتفاعه ..
فصرخت بعنف
( و ما أدراكِ أنتِ ؟!! ....... أنت لا تعلمين مقدار ما يقدمه لي ... ليس فقط ماديا , بل يمنحني كل ما احتاج اليه .... أشياء لم يمنحها لكِ حب محمد الأسطوري يوما .... )
هتفت كرمة بقسوة
( دعي محمد خارج الموضوع يا وعد ..... لكن إن أردتِ ادخاله فلا وجه للمقارنة , على الرغم من كونه عاملا بسيطا لا يقارن بعظمة ابن عمتك ... الا أنه حين تزوجني تزوجني بطريقة تحفظ كرامتي ... و ليست تلك الطريقة المستهينة التي تبدو كخروجٍ الى رحلةٍ مفاجئة دون حتى حضور أمه اليكِ .... اثناء عملك لديه كساعية .... بعد أن نظفت بيته و انحنيت تمسحين أماكن أحذيتهم !!! ..... بالله عليكِ !! ....الا ترين الفارق بينكما و الذي لم يهتم إطلاقا بتبديده أولا أمام الجميع كي يبدو الوضع مقبولا ؟!! )
صرخت وعد بقوة تهتف و كرامتها المهدورة مراقة على الأرض تنزف ..
( فارق !! ..... فارق !! ..... أنتِ تتكلمين عن الفوارق ؟!! ..... الا ترين الفارق بينك و بين محمد و الذي يتزايد كل يوم ؟!! .......لماذا لم تهتمي أنتِ بازالته بدلا من القاء المواعظ ؟!! )
صرخت كرمة و قد توحشت عيناها .....
( اخرسي ...... اياكِ أن تتكلمي عن زوجي بهذه الطريقة ... )
هتفت وعد بعنف و الخزي بداخلها يطوف في دوامات عنيفة متسارعة ......
( تلك الطريقة هي من صنعك أنتِ.... لو كان هذا الحب المزعوم حقيقيا لكنتِ ضحيتِ بتفوقك عليه في سبيل ازالة الفوارق بينكما ..... لكنك ظللت تتقدمين بقوة الصاروخ مطيحة بكل من هو في طريقك .... و أولهم محمد ... حتى بدا في الأخير كأحد العاملين عندك !! .... )
لم تشعر كرمة بنفسها الا وهي تصفع وعد بكل قوة ....
رفعت وعد يدها الى وجنتها و هي تتراجع ناظرة الي كرمة بعينين متسعتين مذهولتين ... بينما كانت كرمة تلهث و هي تنظر اليها بعينين قاسيتين كالجليد ... ثم همست أخيرا بصوتٍ ميت
( لا أريد أن أعرفك بعد اليوم ........ )
ثم خرجت من البيت صافقة الباب خلفها بعنف ..... حتى ارتجفت الشراعات الزجاجية و انفتحت على صورتها و هي تنزل السلالم بعنف و شعرها المجنون خلفها ....
.................................................. .................................................. .................
نظر السائق للمرة الخامسة في مرآة السيارة الخلفية ... الي السيدة المديرة و هي تبكي بصمت و دون نطق كلمة .... الى أن أوقف السيارة أخيرا و قال بصوتٍ محرج
( لقد وصلنا سيدة كرمة ...... )
كان يوقفها على ثاني طريق متفرع من الشارع الرئيسي ... فالسيارة لا تستطيع الدخول أبعد من ذلك ....لضيق الطرق ...
انتبهت كرمة الى صوته ... فاستقامت قائلة بصوت لا روح فيه
( شكرا يا كامل ......أراك غدا صباحا )
قال كامل بقلق
( طبعا سيدتي ....... سأقف هنا ككل يوم )
مسحت وجهها بصمت ..... ثم فتحت الباب و بدأت في الخروج . لكن فجأة شعرت بنفسها تجذب من الباب بقوة عنيفة حتى كادت أن تسقط على وجهها ...
فصرخت و هي تبصر محمد ممسكا بذراعها بملامح شيطان وهو يصرخ
( اخرجي ........ من هذا ؟!! .... )
تركها بسرعة ليستدير حول السيارة بينما كان كامل يخرج وهو يصرخ بغضب
( أتركها ...... من أنت , أتركها فورا ..... )
وصل اليه محمد يقبض على مقدمة قميصه فيلقيه على مقدمة السيارة يضرب رأسه للخلف عدة مرات صارخا
( من أنت لتقل زوجتي ...... من سمح لك ؟!! .... )
صرخت كرمة برعب و هي تجري الى محمد تتشبث بذراعه صارخة
( اتركه يا محمد ...... انه السائق .... انه سائق المصرف , وتلك سيارة المصرف .... )
تجمع الناس حول تلك الفضيحة ... بينما كان محمد كالثور الغاضب غافلا تماما عما تقوله ...
الى أن اضطرت أن تمسك بقميصه هي الأخرى بكلتا قبضتيها و هي تجذبه بعنف حتى سمعت صوت تمزق بعض خيوط القميص .. صارخة تقحم الكلام في أذنه
( إنه السائق ...... إنه السائق .... سااااااااااائق المصرف , كفى فضاااااائح )
نظر اليها بعدم فهم قليلا .... ثم قال باستيعاب متأخر
( سائق !! ...... هل لديكِ سائق خاص !! .....منذ متى ؟!! ... )
هتفت و هي تبكي بقهر
( منذ يومين ....... اتركه .... اتركه ... )
تركه محمد دافعا اياه بعنف وهو يلهث بغضب أعمى .... فعدل محمد من ملابسه وهو يهتف بشتائم لزوج المديرة ....
حينها جرت كرمة في اتجاه منزلها دافعة الناس من أمامها كالعمياء .......
.................................................. .................................................. ...................
أخذت تشهق باكية بعنف و هي تحضر حقيبة صغيرة تلقي بها بعض الملابس ....
فدخل محمد كطوفان هادر و ما أن أبصر ما تفعله حتى صرخ ذاهلا غاضبا
( ماذا تفعلين ؟!! ....... )
صرخت كرمة وهي تبكي
( سأخرج من هنا حاليا ...... لن أستطيع رؤيتك بعد أن فضحتني في الحي )
صرخ محمد وهو يدير ذراعها بقسوةٍ اليه
( و أين تظنين نفسك ذاهبةٍ ؟!! ......... )
صرخت و هي تشهق باكية بعنف
( سأذهب الي أمك ........... )
صرخ وهو يدفعها كي تسقط على السرير
( تعقلي يا كرمة و كفى جنونا ..... هل تظنين أنكِ بتصرفاتك تلك ستلهينني عن معاقبتك عن استقلالك سيارة بمفردك مع رجل غريب كل يوم .... و بمفردك .... من تظنين نفسك كي تمتلكي سائق خاص ... و دون اذن مني ...... هل نسيتِ نفسك ؟!! ...... الم يعد لأحد اعتبارا لديكِ )
صرخت كرمة و هي تنهض تواجهه بعنف ووجهها أحمر متورم بشدةٍ مرعبة
( أمتلك سائق !! ..... انه ليس عبدا قمت بشراءه من وراء ظهرك .... انها سيارة المصرف يستخدمها المدراء ..... )
صرخ بها وهو يهزها بقسوة
( لا تهمني قوانينكم الغربية الفاجرة تلك ..... قبل أن تسمحي لرجل بتوصيلك كل يوم كان لا بد أن تنالي اذن زوجك ....... )
صرخت كرمة و هي ترفع كفيها المتشنجتين الى رأسها
( لا اصدق مدى هذا الجهل !! ..... تغار عليا من السائق و لا تدري ما أتعرض اليه كل يوم من تحرشات في المواصلات ...... لم أخبرك تحديدا لأنني أعرف نظرتك المتخلفة للأمور و التي تسببت لي في فضيحة تنال من اسمك قبل أسمي ..... )
هزها مجددا حتى اصطكت اسنانها وهو يصرخ
( اخرسي و احترمي زوجك و الا والله فسأضربك كما لم أضربك من قبل .... أنتِ تقاتلين من أجل الحياة في حياة اعلى من مقامك .... متناسية زوجك , تقللين من قدري في كل أمرٍ من أمور حياتك .... تبا لكِ لقد قرفت من تحررك و تقليلك من شأني بكل حياتك ..... )
صرخت تضرب صدره بجنون
( قرفت مني ..... قرفت مني !!!! بل أنا التي ملت من تخلفك ....... ابتعد عني سأمكث عند أمك , لن أستطيع رؤيتك اليوم ... ابتعد .... و إن كنت قد قرفت مني فطلقني .... أو اذهب و تزوج من أخرى لا تقرفك مثلي )
صرخ وهو يجذبها بعنف من كتفيها حتى اصطدمت بصدره يقول أمام عينيها بكل غل
( لم أكن لأنتظر أوامرك ...... أنا تزوجت من شهرين يا كرمة .... تزوجت من تحترمني و تحترم عاداتنا و تقاليدنا ....... )
للحظات لم تستوعب .... الا أن جسدها همد تماما بين كفيه وهي تنظر اليه بوجهٍ شاحب غير مستوعب و كأنها تشاهد فيلم هزلي ....
فهمست بخفوت عادي غير مستوعب للصدمة
( ماذا !! ........ )
هزها اليه مرة أخرى وهو يقول أمام عينيها اللتين ما عشق غيرهما يوما .... يريد أن يرى الألم بهما جليا
( لقد تزوجت من شهرين ....... )
هزت رأسها نفيا بذهول و هي تقول بتأكيد
( لا .... لا .... لا ....لا تعاقبني بتلك الكذبة )
قال بكل قوة و قد تحول وجهه الى أعمى بسواد الحقد
( بلى يا كرمة ..... و إياكِ بالتفكير في البعد عني .... )
فغرت شفتيها بذهول ... و عيناها تتحولان الى بركتي ذهول .كذلك ... بل موت ... موت ... و هي تهمس بصوتها الميت
( ابتعد ..... ابتعد..... أنا أ..... أنا .... ابتعد ... أنا ... )
صرخ بعنف ما أن أشعلت كلمة ابتعد جنونه .... و ذعره و كأنه صدم بالإفاقة على ما فعله للتو .... لقد هدم المعبد عليهما معا !!!
( لن أفعل يا كرمة .... و لن تتركيني ما حييت , بل ستقحمين احترام زوجك بداخلك منذ هذه اللحظة )
صرخت كرمة بجنون و هي تشعر بأنها على وشكِ الموت
( ابتعد عنييييييييييييي ..... )
الا ان ذعره جعله يصرخ عاليا
( لن أبتعد ...... أنتِ زوجتي و لن تكوني غير ذلك ما دمتِ تتنفسين ... )
دفعها بقسوةٍ لتسقط مجددا على السرير ثم هجم عليها بقوةٍ .... كذئبٍ جائع ينهشها بكل ما اعتمل في صدره من غضب و ذعر ... و رغبة في ابقائها بالقوة ...
الا انها اخذت تصارعه بقسوة وجنون تصرخ بعنف .... فكتم صراخها بفمه كي لا يتجمع الجيران عند باب الشقة
و بعد دقائق طويلة .... كان قد انتصر عليها وهو ينهل منها مرة بعد مرة .... يريد التأكد من أنها لا تزال هنا ....
أخذ يلهث بعنف و قطرات عرقه تتساقط فوق جسدها المستسلم .... يقبل عنقها بإجهاد ....ليهمس بهذيان
( ماذا فعلت !! ...... رباه ماذا فعلت !! .... )
رفع وجهه المذعور اليها ...... فوجدها غائبة عن الوعي .. متورمة الشفتين و العنق .... أقرب الى الموت .... الموت كان راحتها حاليا .....
كانت لمساتٍ خشنة تجول على بشرة وجهها تحثها على الخروج من غيبوبتها الآمنة . الا أنها كانت تقاومها بكل قوتها .. تعلم أنها لو خرجت للعالم الواقعي فسوف تموت حية ... تتمزق أوصالها بشراسة ... يسحق قلبها تحتٍ قدمٍ عمياء ..
لذا قاومت .. و قاومت بكل قوتها ....
الا أن اللمسات الخشنة كانت تزداد قوة ... مترافقة مع اسمها ذو الصوت الجزع ...
( كرمة ..... كرمة .... افتحي عينيكِ ... )
الا أنها زادت من انطباق جفنيها بقوةٍ تتمنى الغرق في هوتها السحيقة كي لا تنجح تلك اليد الخشنة في الوصول اليها و انتشالها ...
الا أن الملامسات على وجنتيها تحولت الى تربيتات .. ثم صفعات .... و الصوت الخشن يزداد جزعا ...
حينها رفضت بقوة .... رفضت تلك الصفعات ... أرادت الصراخ في صاحب الصفعات
" ابعد يدك لا تصفعني مجددا ... "
الا أن صوتها كان ذاهب الأنفاس ... يرفض الخروج من بين شفتيها ...
حاولت و حاولت ...وصوتها لا يزال يرفض الخروج ... الى أن استجمعت كل قوتها مع آخر صفعة .. لتصرخ بصوتٍ منقطع الأنفاس مجهد
( لا تصفعني ......... )
توقفت الصفعات عن وجهها ... ووصلها صوته الخشن يهتف بارتياح
( الحمد لله ...... لقد أرعبتني .. )
فتحت كرمة عينيها ببطء و هي لم تستجمع كل استيعابها بعد .... الا أن شيئا غريبا انتابها ما أن رات وجهه المنحني اليها .... حيث شهقت عاليا و اتسعت عيناها برعب و هي تتراجع للخلف قليلا ...
حينها قطب محمد جبينه وهو يقول بقلق مضطرب مربتا على شعرها ...
( لا تخافي يا كرمة ..... إنه أنا .... محمد ..... )
الا أن وعيها جاءها كله دفعة واحدة ... فأبعدت رأسها عن يده بسرعة ... و أحنت وجهها جانبا و هي تشعر بألم قوي في صدرها يمزقه بعنف مع ذكرى كل شيءٍ حدث قبل أن تسقط في غيبوبتها ...
كل كلمة .... كل لمسةٍ شرسة .... كل نفسٍ مهتاجٍ منه .... خيانته !! ..... خيانته !! .... محمد تزوج !!!!
مدت يدها تتدثر بالغطاء جيدا و كأن البرد يقتلها بشدة صقيعه .... الا أنه مد كفيه يسحبها من كتفيها و يضمها جالسة الى صدره بقوةٍ كادت أن تحطم أضلعها وهو يقبل شعرها هامسا بعنف
( لا بأس ...... لا تخافي ..... لم أقصد أن أؤذيكِ الى هذا الحد .... )
تشنجت بين ذراعيه و هي تشعر بألم في كل أنحاء جسدها الصارخ الرافض .... الا أن ألم صدرها كان أقوى و أعنف ..
كانت مقاومتها بين ذراعيه ضئيلة بما يتناسب مع جهدها المهدور .... الا أنه شعر بتلك المقاومة ...
يضمها بقوةٍ الى صدره فلم ترى وجهه المغضن بالألم من رفضها و مقاومتها الضئيلة ... و كلما قاومت كلما أحكم الوثاق من حولها خشية أن تنجح في التحرر منه ...
الا أن ارتجافها العنيف هو ما جعله يرأف بها و يخفف من ضغطه عليها .. فأبعدها عنه قليلا وهو ينظر بعذاب الى وجهها الشاحب الميت ....
كان في بياض الجليد ... لا يلونه سوى شفتيها المتورمتين الداميتين .... ... و عنقها الأبيض تزينه كدمات زرقاء و أرجوانية و كأنها تعرضت للخنق ....
عقد حاجبيه بشدة وهو لا يصدق أنه هو من تسبب في ذلك !! .... منذ متى كان بقدرته أن يؤذي كرمة الى هذا الحد !! ...
لكنها هي الأخرى آذته و بشدة ..... فهل يجعل هذا منهما متساويان ؟!! .......
همس برقة وهويربت على وجنتها
( كرمة ........... لا تبقي صامتة , تكلمي أرجوكِ .... لم أكن أقصد ما حدث , تعرفينني في حالات غضبي أكون كالمجنون ..... )
رفعت وجهها اليه و كأنما تراه للمرة الأولى .... بل و كأنما تنظر الي انسانٍ غريبٍ عنها تماما ....
حتى صوته غريب .... لم يكن ذات الصوت القوي الاجش الذي عرفته لسنواتٍ طويلة ... بل كان صوتا مهتزا قلقا ....
حتى لمسات كفه الخشنة فوق وجنتيها .... كفه الخشنة بفعل العمل الشاق مع الماكينات كانت دائما لها بنعومة الحرير ... اما الآخ فخشونتها تخدش بشرتها الناعمة بشدة ... تجرحها كمبرد خشن ...
عيناه تتهربان من عينيها ..... و لم تكن عيناه بهذا الجبن من من قبل أبدا !! ......
مدت يدا مرتجفة الى كفه فوق وجنتها تبعدها بحزم يتناقض مع إعيائها ... ثم همست بلا روح
( أريد أن أنهض ......... )
حاولت ابعاد الغطاء ... لكن ما ان وجدته يحاول مساعدتها حتى انتفضت للخلف صارخة
( لا أريدك أن تقترب مني ...... )
عبس محمد بشدة و التهبت عيناه ... ثم قال بصوتٍ متوتر منخفض
( كرمة لا تبالغي في ردة فعلك ..... لم أكن بوعي , لقد أخرجتِ أسوأ حالاتي .... أنت تجرحين الناس دون أن .... )
صرخت كرمة بهياج فجأة ...
( اخرس ....... لا أريد سماع صوتك )
عبس أكثر و تعقدت ملامحه وهو يسمعها للمرة الأولى تقلل من احترامها له بتلك الدرجة ... كانت دائما صبورة تتحمل كل حالات غضبه من قبل .. دون حتى أن تتغير نبرة صوتها الا الى نبرةٍ حزينة قليلا في كثير من الاحيان .... و أحيانا مرتفعة قليلا .... لكنها كانت تظل كرمة ... لا تتغيير و لا تتعب ....
لقد طعنها بغدر .... و كان يعرف ذلك و يتوقعه من قبل حدوثه .... كان ينتظر هذا اليوم المأسوي منذ فترة و به خوف بل رعب من ردة فعلها ....
لذا حاو لجاهدا كبت شعوره بالإهانة من كلماتها الطائشة .... يحق لها أن تفعل أكثر .... لذا فليتحملها مثلما تحملته طويلا ... خاصة بعد معرفتها بزواجه ....
تنهد بعنف ما أن وصل الى تلك النقطة .... و كأنه سقط في تلك الهوة التي كان يخشاها ....
تنبه الى أنها كانت تحاول النهوض بتعثر من الجهة الأخرى تلف الغطاء من حول نفسها أمام عينيه المتفحصتين لها بعذاب .... لكنها ما أن استقامت حتى انحنت قليلا متأوة بألم ....
حينها نهض من مكانه بسرعةٍ الى أن وصل اليها يلف ذراعه حول ظهرها و يده الأخرى ممسكة بمرفقها وهو يهمس بحزن و ألم في أذنها
( هل أنتِ بخير ؟....... )
لم يتوقع أن ترفع اليه وجهها بسرعةٍ لينتفض شعرها على وجهه و كأنه يصفعه بقسوة .... ناظرة اليه بعينين قاسيتين كالرخام الاسود المصقول .... تتهمانه بشكلٍ لا يقبل الشكل في أن شيئا ما بينهما قد انكسر للأبد ...
شعر محمد بنبضات قلبه تتزايد خوفا .....
لم يكن يصدق ذات يوم الحديث الدارج بين الرجال عن خوف الأزواج من زوجاتهم !! ....
كان ينظر بسخريةٍ مندهشة الى كل رجل مرتعب من زوجته ... مرتعب من معرفتها بخيانته أو حتى معرفتها بزواجه من أخرى ...
و كان يتسائل عن سبب خوفهم من مخلوقاتٍ أضعف منهن في الجسد و القوة ..... و ماذا لو علمن !! .... سترضخ للأمر الواقع في النهاية ....
لكن ثقته كانت نابعة من عدم تخيل ان يأتي اليوم الذي يفعل فيه نفس الشيء بكرمة ....
و الآن ..... الآن في تلك اللحظة تحديدا ... كان رعبا قويا بداخله ينهشه من معرفتها بتلك الخطوة التي أقدم عليها منذ شهرين ....
تلك المرأة الهشة التي يمسكها بين ذراعيه الآن ..... كانت تنظر اليه بعينين متألمتين مخيفتين ... مخيفتين للغاية ... على الرغم من ضآلة جسدها بالنسبة له ... جسدها الذي انتهكه للتو ....
لم تكن المرة الأولى .... أحيانا كانت بعض الضغوط تجعل منه يفرغ كل كبته بها و كانت متفهمة بشكلٍ يجعله أسيرها .... لكن هذه المرة مختلفة ... لم يظن أن يؤذيها الى تلك الدرجة ....
اخفض عيناه المتوترتان ألما ... وهو يساعدها في التحرك الى الحمام ... متشبثا بها في كل خطوة ... يشعر بأن ساقيها لا تحملان وزنها الخفيف ....
رفعت كرمة وجهها للماء المتساقط عليه .... تغمض عينيها بقوةٍ عله يزيح بعضا من ألمها ... الا أن ذلك لم يحدث ... بل تساقطت دموعها مع رذاذ الماء ممتزجة به فوق وجهها .... في صمت اولا ... ثم بدأت بعد ذلك في الارتجاف في نحيبٍ صامت ....
كان جسدها ينتفض بألم تحت رذاذ الماء القوى و هي رافعة وجهها اليه مغمضة عينيها بقوة ... تنتحب محاولة كبت شهقاتها .....
و عبارة واحدة تضربها كما يضربها الماء
محمد تزوج ..... محمد تزوج .....
ابصرت عيناه غيرها ..... لامست يداه أخرى .... همس بهمسٍ أجش حميمي ينادي اسما غير اسمها ....
تعالت شهقاتها و كأنها لا تستطيع التنفس .... و كأن رذاذ الماء يغرقها .....
وهي تهمس بهذيان من بين شهقاتها
( لماذا ..... لماذا ..... لماذا ...... لا .... لماذا ..... و أنا .... )
نضبت منها الدموع أخيرا ... بعد ساعةٍ كاملةٍ قضتها تحت الماء ... و نضبت منها الأسئلة حين فشلت في العثور على الجواب .....
فتحت عينيها المتورمتين الميتتين اخيرا .... تنظران الي صورتها المنعكسة في المرآة الصغيرة المواجهة لها ..... يشاركها الصورة وجهه المعذب .... عيناه الناطقتان بألمٍ و خوف لم يتعرفهما منه قبلا ....
خوف يخبرها أنه كذلك لا يعرف الجواب .......
وقفت في الغرفة تنظر الى الحقيبة الصغيرة المتناثرة محتوياتها .... فانحنت بصمت وهدوء تجمعهم بآلية .... بينما اندفع هو من خلفها يقول بصوتٍ أجش قاتم ...
( لن ترحلي لأي مكان يا كرمة ...... ستبقين و سنتعامل مع هذا الوضع شئنا أم أبينا )
لم ترد عليه ... و لم تلتفت له ... بل تابعت جمع حاجياتها بصمت .... فاندفع اليها يجذب ذراعها الهش الناعم اليه بقوةٍ ستترك علاماتٍ زرقاء عليه من المؤكد .... يديرها اليه
و وجهه ينتفض بكلِ انفعالٍ ممكن ... يلهث قليلا .... حتى انها استطاعت استشعار لهيب عضلاته ازاء بشرتها ....
فهمست بصوتٍ ميت
( قبل أن تندفع في غضبك مجددا ...... أريد أن أخبرك أنني سأتقيأ لو اقتربت مني مجددا هذه اللحظة .... )
تسمر مكانه ينظر اليها بوجهٍ باهت مصدوم .... و كيف يلومها !! .... لكنها أوجعته بجملتها للغاية ....
لكنها تعلمه حق المعرفة ..... تعلم أنه حين يضيق به الحال و يفشل في السيطرة عليها يقوم بإخضاعها عاطفيا ... لأنها لا تستسلم الا بهذا الشكل .....
كرمة دائما قوية جامحة متمردة ..... لكنها تستسلم لعاطفته بحنان يسلب روحه .... و أحيانا بصبرٍ متفهم في حالات غضبه و ضغطه .....
لذا هتف أخيرا بجنون و وهو يشعر بالعجز من عدم قدرته على اختراق حواجزها المفاجئة و التي تسبب في رفعها واحدا تلو الآخر بكل غباء و في لحظة تهور ....
( اعلم أنني جرحتك ..... بل طعنتك ... بل كل أنواع الصفات المعقدة التي تقرأينها في تلك الكتب العتيقة ... لكن أنتِ أيضا جرحتني كثيرا ... و بأكثر قسوة .... أحيانا متقصدة و أحيانا لا ...... )
صمت قليلا يلهث بعنف أكبر .... ثم تابع وهو يهزها اليه بكبت
( الحياة معك كسباقٍ فوق الحمم ..... مهما حاولت لا أستطيع اللحاق بكِ , .... لقد تعبت يا كرمة و شعرت في لحظةٍ ما أنني أريد الراحة .... ولو قليلا .... لربما استطعت اللحاق بكِ بعدها .... )
لم ترد .... و لم يظهر على وجهها الشاحب المتورم أي تعبير ... و كأنها لم تسمعه .... الا أنها كانت .... كانت تسمعه بكلٍ نبضٍ صارخ يمزق صدرها بقسوة ....
فتابع هو يهزها مرة أخرى مع كل كلمة عنيفة
( لا يمكنك لومي الآن .......لا يمكنك جذب لجامي بتعنت , بينما أنتِ حللتِ لجامك من بين أصابعي بقوة ... و منذ سنواتٍ طويلة ..... تهربين مني كفرسٍ جامحة و أنا أحاول اللحاق بك ..... )
سكت قليلا ... ثم نظر اليها بعينين ملتهبتين وهو يقول بصوتٍ مستسلم أكثر خفوتا
( مهما قلت ..... لن تستطيعي فهمي , أراهن أنكِ لم تفهمي شيئا مما قلته للتو .... ربما لا أستطيع التحدث أو التشبيه أو الكلام البليغ مثلما تستطيعين أنتِ ..... و من تختلطين بهم يوميا .... لكن باختصار .... أحيانا أشعر و كأنني أحترق ببطء في الحياة معك .... في نظرات الناس لكِ .... في نظراتهم لنا معا جانبا لجانب ..... )
ظلت تنظر اليه بملامح ميتةٍ طويلا ..... ثم همست أخيرا بصوتِ جثةٍ هامدة ... تتكلم في الحلم فقط
( لهذه الدرجة !! .......... وهل نجح زواجك في تهدئة احتراقك !! ........... )
صمت ينظر اليها بعجز ..... فعرفت الجواب ... و ياللغرابة لم يريحها أنه لم يرتاح حتى بعد زواجه .... بل شعرت بألمٍ صدىء في معدتها من ادراكها المفاجىء لمدى الهوة التي يشعر بها بينهما ....
كانت تظنها الوحيدة التي تشعر بها .... و كانت تقوم في صمت و خفاء بمحاولة رتقها دون ملل أو يأس .....
لكن أن يشعر بها هو كذلك ..... فهذا معناه أن الهوة أكبر مما ظنت .... و معناه أن وعد كانت محقة ....
و من سخرية الصدف أنها قد تلقت تلك الصدمة من وعد منذ ساعات قليلة .... لذا فصدمة مماثلة من محمد ذاته جعلتها الآن تقف كمن يقف في حلبة ملاكمة .... يتلقى اللكمات عن اليمين و اليسار دون أن يستطيع الرد او الدفاع ...
لذا قررت التوقف عن المحاولة .... و همست فقط بسؤال ....
( هل ستطلقها ؟؟ ......... )
أخذ نفسا مرتجفا وهو ينظر اليها مصدوما .... و كانت صدمتها أكبر .....
هل يحتاج الأمر للتفكير من قبله ؟!! .....
لذا لم تنتظر ردا و هي تهمس بأنين
( ابتعد من طريقي يا محمد ..... ابتعد .... أنا أيضا قد لا أستطيع السيطرة على غضبي طويلا .... )
لكن و ما أن تحركت حتى جذبها اليه مرة اخرى وهو يهتف بغضب
( أين تتخيلين نفسك ذاهبة و لا مكان لكِ كي تلجأي اليه!! ...حتى أمي لن تعينك على عصيان زوجك .... ابنها ... . )
توقفت كرمة مكانها لحظة واحدة و هي تنظر اليه بشر .... ثم لم تلبث أن صرخت فجأة بهياج متأخر وكأنها قد استفاقت أخيرا من صدمتها تضرب صدره بقوة و عنف
( ابتعد عني ..... أبتعد .... اخرج من هنا ...... لا أطيق النظر في وجهك ..... ابتعد .... ابتعد .... )
أمسك بها محمد وهو يلهث بعذاب هو الآخر .... صارخا بألم
( توقفي عن فعل ذلك بنفسك ...... ما حدث قد حدث .... توقفي عن قتل ما تبقى بيننا و لا يزال حيا .... )
صرخت تضرب وجهه و صدره بعشوائية ....
( أخرج ...... اخرج من هنا ..... لا أريد أن أراك ...... )
استدار محمد بفعل دفعاتها لظهره و هي تطرده خارجا .... لكن ليس قبل أن يلتقط حقيبتها ... و فتحها بعنف مخرجا منها مفتاح الشقة .... ثم رماها ارضا ... و اندفع الي الباب ليستدير صارخا
( لن تخرجي من هنا يا كرمة .... حتى لو اضطررت الى اغلاق الباب بالمفتاح و احتجازك هنا الى أن تتعقلي ... و لو أردت الى افتعال المزيد من الفضائح فتفضلي .... النافذة أمامك .... افتحيها و املأي الدنيا عويلا ... و لنرى من من الحي سيتجرأ على كسر باب شقتي و اخراج زوجتي دون اذن مني )
خرج من الشقة صافقا الباب خلفه بعنف ... ثم لم تلبث أن سمعت صوت اغلاق المفتاح ....
وقفت كرمة في منتصف الشقة وحيدة .... تلهث بعنف و الدموع تغرق وجهها .... جسدها ينبض وجعا متفرقا ... لكن روحها تنزف ....
دارت حول نفسها يمينا و يسارا كثورٍ مذبوح .... لا تعرف كيف تتصرف ....
هل كان ذلك كله كابوس ؟!! ..... يا رب اجعله كابوس حتى و لو استيقظت منه ساقطة من اعلى الطوابق ....
المهم أن تستيقظ .....
توفقت عن دورانها تلهث بتعب .... ثم همست للجدارن الخاوية المتشققة
( محمد تزوج ................ )
سقطت أرضا على ركبتيها ببطء و تعب ...... ثم لم تلبث أن رفعت كفيها تغطي بهما وجهها و هي تصرخ بعنف
( تزووووووووووووووووووج !!!!!!!!!!!!!!! ........ )
.................................................. .................................................. .............................
ارتدت ملابسها بسرعة و عنف ..... و جمعت شعرها في عقدة ضيقة كضيق قلبها ....
ثم اتجهت الى نافذة غرفة الجلوس .... و لم تلبث أن فتحت جانبي النافذة الخشبيتين بعنف أدى الى ضربهما بالحائط ...
لتستدير ملتقطة كرسي المطبخ الخشبي .... لترمية بمهارة من النافذة المفتوحة ... حتى حط واقفا على الأرض حيث أن شقتهما كانت أرضية و مستواها في طول شخص عادي ....
وقفت كرمة على الأريكة ..... ثم جلست على حافة النافذة لتخرج ساقا ثم الأخرى .... ثم وقفت على الكرسي الخشبي لتنزل أرضا بعدها ....
و ما أن عدلت من ثيابها حتى حملت الكرسي و رمته بقوة الى داخل النافذة مجددا و مدت يديها تغلق الجانبين الخشبيين أمام عيون المارة المندهشة ....
لكنها لم تعبأ بعيونهم أو بنظراتهم ..... احتراقها الداخلي منع عنها أي شعور آخر ....
سارت في طريقها المختصر و هي تتنفس بصعوبةٍ و الألم يعمي عينيها ...
طرقت كرمة الباب بقوةٍ الى أن فتحت أخت محمد الباب عابسة ... و ما أن رأت كرمة حتى انتابتها الدهشة قليلا , ثم قالت بحيرة
( مرحبا يا كرمة ..... لقد فزعت من طريقة طرق الباب , تفضلي ... )
تجاوزتها كرمة دون أن ترد التحية و وجهها صلب بعينين تنزفان حمارا و ألما .... و ما أن أبصرت أمه جالسة في نفس جلستها على الأريكة القديمة بجوار النافذة ...
فقالت بصوتٍ لم تتعرف عليه كصوتها أبدا
( أين محمد ؟......... )
عبست والدة محمد وقالت بصرامة
( بسم الله الرحمن الرحيم ...... الناس تطلق السلام أولا , قبل هذا التهجم عديم الاخلاق , ثم مالي أنا بمكان وجود زوجك !! ..... هذا بدلا من أسألك أنا عنه !! ...... )
لم ترد كرمة و هي تنظر حولها في كل مكان .... ثم عادت و التفتت الى والدته قائلة بصوتٍ ميت
( أين محمد ؟؟ ..... لقد ذهبت الى الورشة و لم أجده هناك , أحتاج للتكلم معه و فورا .... )
هتفت أمه بغضب و هي تنهض من مكانها
( طبعا أغضبته كالعادة ..... ياللهي يا حظ ولدي العاثر .. ماذا فعل لكِ المسكين كي تسودين حياته يوما بعد آخر .... واحدة غيرك كانت قبلت يديه على ايوائه لها .... و جعلها سيدة بيت و اسرة ... لكن يا حسرة !! أين هي تلك الأسرة ... و أنت حتى طفل واحد لم تمنحيه للمسكين ...... )
أغمضت كرمة عينيها عدة لحظات ... ثم فتحتهما و هي تنطق من بين أسنانها لكن بلهجة أقرب الى التوسل
( أين محمد ؟؟ ..... أرجوكِ ..... )
صمتت قليلا ... ثم همست بصوتٍ أكثر عذابا و نزيفا
( هل ..... هل تعلمين ..... أن محمد تزوج .... بأخرى ؟؟ )
تسمرت والدته مكانها قليلا .... لكن ارتباك عينيها أعطى كرمة الجواب ... فتأوهت بصمتٍ تحتضر داخليا ... ثم لم تلبث والدته أن قالت بصلابة
( طبعا أعلم ...... ابني لا يخفي عني شيء , ثم وماذا لو تزوج ؟!! .... إنه رجل و يحق له أربع إن أراد ..... لقد تكتم الأمر كي لا يجرح مشاعرك ... لكن أنتِ دائما تنكرين جميله و طيبة قلبه .... و هل يكون جزاءه منكِ بعد ايواءه لكِ أن تنكرين عليه الحصول على طفل واحد يسعد قلبه !!! ..... )
فغرت كرمة شفتيها تتأوه بألمٍ و بصوتٍ معذب .... لكن أمه تابعت بقسوة اكثر
( نعم تزوج ..... و أي زوجة تحب زوجها في مثل وضعك كانت لتخطب له بنفسها كي تراه سعيدا .,.. لا أن تتابع حياتها بمنتهى الأنانية طالبة منه البقاء كما هو عبدا عند قدميها لحين عودتها .... )
لم تتحمل كرمة و هي تشعر بأن الجدران تضيق عليها فصرخت عاليا
( أين محمد الآن ؟!! ....... إنه زوجي و أنا أريد التكلم معه حالا .... أين زوجي ؟؟؟؟؟؟ ....... )
تقدمت أخته من خلفها و هي تصرخ كذلك
( لماذا تصرخين بهذا الشكل ؟؟ .... هل نسيتِ نفسك؟؟ .... اذهبي و ابحثي عن زوجك بعيدا عنا ... )
الا أن والدته قالت بصلابة فجأة
( ابني في بيته الثاني .... عند زوجته ..... تريدين العنوان خذيه ... إنه بعدنا بشارعين , في الxxxx ذي الطوب الأحمر , بالطابق الثالث ..... )
تسمرت كرمة مكانها و هي ترفع يدها المرتجفة الى صدرها المتألم .... و الدموع تنساب من عينيها بصمت ...
مع زوجته ؟!! .... هي زوجته .... لا زوجة غيرها .... هي روح محمد و قلبه و قطعة من جسده ... لقد اثبت لها ذلك منذ ساعات قليلة .... حتى لو آلمها و آذاها لكنه اثبت لها بما لا يقبل الشك أنها زوجته و قطعة منه .... و إنه لن يتركها .... و لن تتركه ...
كان يخبرها بعنفه ... كي يقحم المعلومة في عقلها ... و يحفرها على جسدها ....
لديها آلامٍ جسدية تخبرها بذلك .... كان يحاول أن يخبرها بعنفه .... أنه لن يتركها .....
لذا ليس من حق أي امرأة أخرى أن تتصف بهذه الصفة إطلاقا .... أبدا ... ابدا .....
هي من تتحمل دمغات محمد .... سواء كانت حانية أو عنيفة .... و لقد دفعت ثمن اللقب غاليا ... لذا ليس هناك غيرها
رفعت كرمة يدها و هي تمسح وجهها بقوة ... ثم رفعت ذقنها , لتستدير خارجة من البيت مندفعة
التفتت أخت محمد الى أمها تقول
( لماذا أخبرتها بالعنوان يا أمي ..... لقد أوصانا محمد ألف مرة .... الآن قد تفتعل فضيحة له !! ... )
قالت أمه بهدوء و هي تعود لتجلس مكانها على الأريكة تنظر من النافذة الى جسد كرمة المندفع بقوة بين البشر ...
( دعيها تتهور ...... أكبر خطأ ترتكبه هو أن تتهور مع محمد ..... حينها تكون قد حفرت قبرها بنفسها و نتخلص منها أخيرا ..... )
.................................................. .................................................. ................................
وقفت كرمة مكانها ترتجف ... متسمرة تنظر الي الباب الخشبي ....
طوال الطريق الذي طال لأميالٍ و أميال كانت تتسائل عن شكلها .... صوتها .... رائحتها ....هل تشبه رائحة العنب كرائحة العطر الذي يحبه محمد و لا يعرف اسمه ؟!! ....
هل هي جميلة ؟!! ..... هل هي طيبة و منحته ما يريد و يحتاج ؟؟ .... أم أفعى لئيمة حقودة قذرة عفنة خرجت اليها خصيصا من أحد جحور الأرض كي تسلبها ما تمتلكه ...
ارتجفت شفتي كرمة ببكاء أمسكته بالقوة ..... ثم لم تلبث أن رفعت رأسها و طرقت الباب بقوة ....
.................................................. .................................................. ..........................
كان يتلمس وجهها برقةٍ وهو شارد يتأمل ملامحها الهادئة .... ترنو اليه بين الحين و الآخر مبتسمة برقة و خجل .... ثم تعاود النظر الى قدميه في وعاء الماء ....تربت عليهما برقة و تهدىء من تقرحاتهما المؤلمة ....
كان السؤال يتردد على شفتيها لكنها تحجمه كل مرة ... ثم لم تلبث أن أتخذت قرارها أخيرا و همست
( أنت لست بخير اليوم ...... ماذا بك ؟؟ ...... تكلم معي ..... )
قال بفتور
( لا أريد الكلام .......... و لا أريدك أن تتكلمي ..... فقط أريد أن أنظر اليك و أنت صامتة )
انخفض جفناها و احمر وجهها بخجل .....
بينما نظر الي ملامحها مجددا .... كانت عادية , أقرب الى البساطة ككل شيء فيها ... شكلها .. نشأتها ... تعليمها ... أهلها ... حتى تفكيرها كان بسيط الى درجة السذاجة ....
سذاجتها تحثه على التلاعب بها في كثير من الأوقات .... مفتيا بكل أنواع الفتاوى الحياتية .... و هي تنظر اليه مبهورة سعيدة .... لم يتخيل وجود مثلها من قبل ....
الا أنه اليوم غير قادر على التلاعب .... غير قادر على رؤيتها ..... غير قادر على تخيلها ككرمة كما يفعل في معظم الأحيان .... الخاصة و الأكثر حميمية ...
كانت عيناه حمراوان بلون الدم .... مهدود الجسد و الروح .... غير قادر على الإقتراب من أي امرأة ...أيا كانت ....
باستثناء كرمة .... يمكنه أنه يذهب اليها الآن و يخبرها فعلا لا قولا بمدى ألمه في تلك اللحظة ....
رفع رأسه حين سمع طرقا قويا على الباب .....
و رفعت علياء رأسها كذلك .... ثم قالت حائرة
( من سيأتي الآن ؟!! ...... سأفتح أنا ... )
نهض محمد من مكانه قائلا بصرامة ...
( بل سأفتح أنا ...... كم مرة أخبرتك عن فتح الباب بملابس البيت .... )
نظرت الى جلبابها البيتي القطني الفضفاض ... الا أنها ابتسمت بفخر و أنوثة و خجل ... ثم عمدت الى الدخول الى رواق البيت ....
بينما اتجه محمد الى الباب يفتحه ....
لكنه تسمر مذهولا وهو يرى كرمة واقفة أمامه ..... بهالتها القوية .. الرقيقة في ذات الوقت ... بجمالها رغم تورم شفتيها و شحوب وجهها .... بعينيها المتهمتين المعذبتين القويتين ...
همس أسمها أخيرا بذهول
( كرمة !! ........... )
ألم يحكم غلق الباب عليها ؟!! ..... ام أن يداه لم تطاوعان عقله و تواطأت مع قلبه ؟!! ....
قال أخيرا بصوتٍ مهتز
( كيف عرفتِ المكان ؟!! ........ و كيف خرجتِ ؟؟ ..... )
لم ترد و هي تنظر الي عينيه بكل قوة .... تنتظر ردا للسؤال الذي عجز عن ايجاد جوابه
"لماذا ؟!! .... "
أما عيناه فتضافرت مع تنهيدة يأس منه وهما تجيبان
" لأنه كان الحل الوحيد كي لا أفقد عقلي ...... "
قال محمد أخيرا بخفوت
( تعالي ..... سأعيدك للبيت ... )
لم تتحرك كرمة من مكانها ... بل همست بجمود قاسٍ
( ليس قبل أن أهنىء العروس ..... )
قال محمد بقسوة
( كفى جنونا يا كرمة ..... تعالي لأعيدك للبيت ... )
تقدم خطوة كي يمسك بذراعها الا أنها نفرت منه بقوة و هي تقول بصوتٍ أقسى مشددة على كل حرف
( لن أغادر قبل أن أتعرف على عروسك ...... )
بدأت لهجة محمد تحتد بتوتر
( كلمة واحدة و لن أعيدها ..... هيا الي بيتنا .... )
الا أن حركة من خلفه جعلتها تنبذ النظر اليه تماما و تتجاوزه بعينيها .... لتتسعان بقوة
و هي ترى فتاة شابة .... تصغرها بأعوام قليلة على ما يبدو .... تقف متوترة في نهاية الغرفة ... متشبثة بجدار الرواق و هي تستمع الي حديثهما
فتاة ترتدي جلباب بيتي قطني .... و شعرها مجموع بذيل حصان طويل ناعم لدرجة التسطح ....
وجهها باهت لا يعبر عن شيء ... لا يميزها شيء .... تحاول جاهدة ان تجد ما يميزها علها تشعر بالمنافسة ... علها تمنحه بعض العذر ... الا انها لم تجد !!! ...
ضربت ذراع محمد فجأة لتتجاوزه مقتحمة البيت .... حتى وصلت الى خطوةٍ من تلك الفتاة و التي ارتبكت قليلا لمواجهتها ... و كان هذا هو الإشارة الوحيدة التي حركت وجهها البسيط التكاوين و القليل الإنفعال ...
زفرت كرمة نفسا مرتجفا و هي تقف أمامها تتفحصها بصمت ... بينما صدرها يتمزق .... يتمزق .... بشدة ....
ثم همست بصوتٍ ميت
( أنا ...... زوجته ...... هل تعلمين أنه متزوج ؟؟ ...... )
ارتبكت الفتاة قليلا ... لكنها رفعت وجهها لتقول بخفوت
( أعلم ........ و هذا حقه ....... )
انتهت سيطرتها ..... لقد نطقت الكلمة الخاطئة في الوقت الخاطىء .... لذا لم تدري كرمة بنفسها الا و هي تصرخ بهياج هاجمه عليها تجذبها من شعرها بكل أصابعها التي تحولت الى مخالب صقر ...
و كانت من القوة بحيث منحتها الصدمة المتأخرة صلابة لم تعهدها في نفسها من قبل و هي تسقطها ارضا و تسقط معها دون أن تتخلى عن شعرها بينما بدأت الفتاة في الصراخ مستنجدة بمحمد ....
الا أن كرمة كانت في عالم غير العالم و هي تستقر فوقها صارخة تهز رأسها
( أنا هي زوجته ..... روحه ..... كيانه .... أنتِ لا شيء .... انتِ مجرد نكرة ... قذرة ... مجرمة .... )
اندفع محمد بعد ان أفاق من ذهوله الى كرمة وهو يصرخ
( توقفي يا مجنونة ستقتليها ..... ابتعدي عنها .... )
أخذ يجذبها من ذراعيها كي يرفعها ...الا أنه كلما جذبها كانت يداها تجذبان شعر علياء معها فتصرخ علياء أعلى ...
حينها جثا على ركبتيه ممسكا بقبضتي كرمة يفكك أصابعها عن شعر علياء بالقوة أدت الى قرقعة مفاصلها ...
لكن صراخها و صدمتها المتأخرة جعلاها لا تشعر بأي ألم ... و هي تتابع أنها وهو شيء واحد و أنها ستقتل كل من تقترب منه ....
تجمع سكان الxxxx عند باب الشقة .... و تعالت الصيحات الدهشة ...
الى أن نجح محمد أخيرا من تفكيك أصابعها ... و حملها لتقف بالقوة وهو يصرخ بعنف و يهزها كي تفيق
( توقفي عن جنونك ...... توقفي .... )
كانت تلهث بعنف و التمزق في صدرها يزداد اتساعا .... فانحنت في لحظةٍ أخرى و أمسكت بوعاء الغسيل البلاستيكي الواسع الممتلى بالماء و الذي كان يغسل فيه قدميه للتو ....
ثم دون تفكير سكبت نصفه فوق علياء الملقاة أرضا .. ثم التفتت اليه و هي تقذفه بالنصف الآخر من الماء ... ثم ترميه بالوعاء البلاستيك في وجهه و هي تصرخ بجنون
( أنت زوجي أنااااااااااااااااااا )
نظر محمد بذهول الى الوعاء الملقى أرضا و الي صدره المتشبع ماءا .... بينما تعالت الشهقات أعلى من عند الباب المفتوح ....
و دون تفكير رفع يده ليصفعها بكل قوةٍ لم يصفعها بها من قبل لدرجة أن ألقتها أرضا .....
ساد صمت مهيب فجأة .... بينما ارتكزت كرمة على كفيها أرضا و هي تلهث تعبا .... و كأنما استفاقت فجأة من نوبة الجنون التي أصابتها ....
فرفعت رأسها اليه بجهد ... تتنفس بصعوبة .و شفتها السفلية مكدومة تنزف .. ثم همست أخيرا بصوتٍ ميت
( طلقني يا محمد ....... )
.................................................. .................................................. ............................
أغلق النافذة الخشبية بقوة .... ليحكم غلقها بعد ذلك بقفل حديدي كبير ... و كانت النافذة الوحيدة القابلة للخروج منها على الطريق ....
ثم التفت اليها بوجهٍ ميت الملامح .... ينظر اليها جالسة على كرسي قديم ... تنظر أمامها بدون حياة و كأنما هي جثة حديثة الموت ... وجهها فاقد للونه ... و صدرها ذاهب الأنفاس ... و يداها مستريحتان بضعف على ذراعا المقعد ...
لو ترك نفسه لهواها الآن لاندفع اليها يشبعها تقبيلا ... يضمها الى صدره و يخبرها كم هو آسف ....
و أنه لم يتقصد أن يقتلها ... لم يكن ينتقم منها .... أبدا لم يكن يريد أن يؤذيها بتلك الدرجة القاتلة ....
لم يفعل ذلك الا لأنه شعر في لحظة أنه إما أن يكون على وشك الانهيار .... او الإكتئاب ....
الفشل يحاوطه من كل اتجاه ... و اللحاق بها باستمرار يتعبه لدرجة الإعياء ... و تسربها من بين يديه يشعله نارا سوداء ....
تكلم أخيرا بخفوت
( لن تخرجي من هذا البيت ..... و لا طلاق الا على جثتي يا كرمة ... )
حين لم ترد ... اقترب منها ببطء ... حتى جثا أمامها ممسكا بيديها فوق ذراعي المقعد ثم قال بخفوت اجش
( أنتِ لستِ زوجتي فحسب يا كرمة ..... أنتِ ابنتي .... أنا من وجدتك ... كبرتِ تحت سقف بيتي .. أمام عيني .... علوتِ مكانة أمامي يوما بعد يوم ..... شعرت بالفخر بكِ و أنا أراكِ تكبرين و يحسدني الناس عليكِ .... )
تحركت حدقتاها الى وجهه بصمت دون أن تتحرك عضلة في وجهها ... ثم همست أخيرا
( لو بقيت هنا الليلة فأقسم أن أقتل نفسي ......... )
ابتسم أخيرا بعذاب ثم قال
( لن تفعلي ...... لم تكوني أبدا جبانة ..... لكن لن أبيت هنا , سأمنحك الفرصة كي تهدأي .... سأبيت عند أمي )
سكت قليلا ثم تابع بعد أن أخفض عينيه
( و ليس عندها ............. )
تحركت حدقتاها اليه بشراسة ... فسكت .... ثم استقام واقفا ... ينظر اليها بعينين مقتولتين وهو يبتعد .... لكن قبل أن يخرج التفت اليها قائلا بخفوت
( لا عمل بعد اليوم يا كرمة ...... أنا زوجك و لي حق الطاعة عليكِ , لم أعد أحتمله و لن يجبرني شيء على تحمل المزيد ..... لقد تفوقت و نجحت و فخرت بكِ ...لم اعارض دراستك يوما .... أما عملك فهو لم يزيدنا الا ابتعادا ...)
نظرت اليه بلا تعبير .... و حين طالت بينهما النظرات أخفض عينيه غير قادر على مقابلة عينيها و عذابهما أكثر ...
فخرج و أغلق الباب خلفه .... ثم لم تلبث أن سمعت صوت المفتاح بالباب ليحكم غلقه ....
.................................................. .................................................. ................................
كانت الدموع ترافق تحركتها بغرفة والدها ..... تساعده و تحضر طعامه و تطعمه ... تساعده على تغيير ثيابه ... و تغيير ملائات السرير ...
كل حركاتها كانت مترافقة بالدموع ...
دموع فقد الصديقة الوحيدة لها في هذا العالم ؟؟
أم دموع الحقيقة المفجعة التي عرت كلا منهما أمام الأخرى ؟؟ ......
لقد اتفقتا سابقا اتفاقا غير معلن على الا يتدخلا في أدق التفاصيل و أكثر مساسا بالروح ... لكن ما أن نقضا اتفاقهما حتى اكتشفتا أن كلا منهما تمسك خنجر الحقيقة خلف ظهرها منتظرة الفرصة كي تطعن به الأخرى ....
كانت تظن أنها انسانة ذات كبرياء لن يهزمه أبدا إهانات من علمت لديهن ....
أو من تعامل معها كعاملة .... أو كفتاة دار رعاية..... أو كابنة عبد الحميد ....
مهما بلغت بها الإهانات و سوء المعاملة كانت تستطيل بعنقها أكثر و ترفع رأسها .... لأنها فوق اهاناتهم ....
أما الآن .... و ما أن بدأت تتذوق طعم التنازل حتى اكتشفت أنه سهل للغاية ....
وقفت أمام المرآة تنظر الي عينيها المتورمتين ...
تحاكم نفسها ...... نعم تنازلت و باعت نفسها مع أول فرصة .... و كيف لها أن ترفض ؟!!
للحظة شعرت بالكره لسيف ....حين يكون بعيدا عنها .... تشعر بشيء من الكره له .... لقد نسج حولها شبكة حريرية من فخ الإغراء ....
بأشياءٍ كانت تراها من بعيد و لم تلمسها يوما ....
بعاطفةٍ كانت تسمع عنها و لم تجربها مسبقا .....
براحةٍ لم تعرف مثلها بعد سنوات التعب و الشقاء ....
بظهرٍ قوي تلجأ اليه كلما وقعت في مأزق .....
بهاتف ..... هاتف تهاتفه به كلما انتابها فجأة هاجس الموت وحيدة ....
هل اعترفت لنفسها من قبل أن هذا كان احد اسبابها في الذهاب اليه عارضة نفسها عليه كزوجة !! ...
منذ أن رأت خوفه عليها .... و شيء غريب منه تسرب اليها ....
و كأنها قد خشيت الموت فجأة ..... على الأقل وحيدة .....
استدارت الى والدها تنظر اليه .... هل يفكر مثلها ؟؟ ..... هل يخشى الموت وحيدا ؟!! ....
ابتلعت غصة بحلقها .... ثم تقدمت اليه وهي تراه يحاول التقلب من رقدته فانحنت تساعده ...
و فجأة لف ذراعيه حولها فتعثرت و سقطت فوق صدره لتسمعه يقول بين اليقظة و النوم
( صفا ......... )
صرخت وعد بذعر و هي تنتفض من بين ذراعيه
( أنا وعد ...... أنا وعد يا أبي ..... صفا ماتت .... ماتتت ..... أنا وعد ... )
كانت تتراجع بذعر الى أن ارتطمت بالحائط فوقفت تلتقط أنفاسها و هي ترتجف مغمضة عينيها بقوة ... ...
الا أنها سمعت صوته يهمس بتثاقل
( تعالي بجواري .......... )
فتحت عينيها منتفضة بقساوة و هي تهتف رفضا
( لا ............. )
أغمض عينيه المغضنتين عدة لحظات , ثم قال مجددا بصوتٍ متعثر تحد من وضوحه شفاة ملتوية مريضة
( و.....ع.... د ..... )
سكنت مكانها فجأة و هي تنظر الى وجهه الذي بدا نائما .... فهمست بضعف تتأكد
( أبي ؟!! ............ )
لم يرد على الفور ..... لكنه تكلم اخيرا بصعوبة
( تعالي بجواري ...... وعد )
فغرت شفتيها قليلا .... لكنها اقتربت منه حيث وجدت يده مرفوعة قليلا و كأنه يريدها ان تضع يدها بها ...
فأمسكت كفه بكلتا يديها ..... وهي تنحنى اليه هامسة
( أنا هنا يا أبي .......... )
قال بتعثر مجددا
( ابقي بجواري يا وعد ......... لا ترحلي )
عقدت حاجبيها بخوف غير مسبب ... ثم همست باختناق
( اتخاف البقاء وحيدا ؟؟ .......... )
لم تتوقع أن يرد ببساطة ( نعم ....... ابقي هنا )
ابتلعت ريقها .... ثم لم تلبث أن سحبت كرسيا قريبا منها و جلست عليه دون ان تتخلى عن كفه هامسة
( نم يا أبي و اطمئن ....... لن أغادر حتى تنام )
صمت بعدها .... ثم تعالى صوت شخير خافت ينبئها أنه نام أخيرا .... الا أنها مع ذلك لم تتركه لفترة طويلة و هي تتأمله بجمود .... و ما أن تخدرت يدها حتى تركت يده ببطء تضعها بجواره ....
ثم نهضت من مكانها تخرج من الغرفة ....
أمسكت بهاتفها تنظر اليه مترددة ... ثم لم تلبث أن طلبت رقم سيف و قلبها يرتجف
و لم تنتظر طويلا و هو يرد عليها بصوته العميق
( اشتقت اليكِ ............. )
ارتجفت ملامحها قليلا .... ثم همست
( لو كنت اشتقت الي ...... لكنت هاتفتني من قبل خلال اليوم )
رد عليها بصوتٍ أكثر عمقا و ثقة
( لو كنت قد هاتفتك خلال اليوم لتركت عملي و أتيت اليكِ و انتِ لا تزالين معي على الهاتف .... )
ابتلعت ريقها و هي تمسك الهاتف بكلتا يديها .... لكنها همست بتهور
( لماذا ؟؟ ............. )
قال ببساطة و صوته العميق يزداد عمقه حتى كاد أن يغرقها
( كي اشبع شوقي لكِ ......... )
ارتجفت أكثر و أغمضت عينيها هامسة
( كيف ؟؟ ............ )
للحظة شعرت أنها فاجأته ...... و وصلتها صدمته عبر الهاتف , يتبعها نفسا حادا ... ثم قال بصوتٍ أجش خافت
( أتريدين معرفة الجواب كلاميا ؟؟ ....... )
صمتت لحظة و قلبها ينبض بقوة ..... بقوة ٍ بدتت الساعات الطويلة المظلمة التي قضتها في خدمة والدها بهذا البيت الخاوي الصامت ثم همست ببراءة
( نعم ............ )
سمعت ضحكة خافتة قليلا ... خشنة للغاية .... ثم لم تلبث أن سمعت صوته يهمس بكلامٍ لم تسمعه بحياتها أبدا حتى شهقت في نصف حديثه الهامس و هي تهتف بقوة
( كفى ....... لا اريد سماع المزيد )
ضحك بدرجة أكبر .... ثم قال بهدوء
( و أنا لا أريدك أن تخجلي مني ...... لا أريد بيني و بينك أي حواجز )
ارتبكت أكثر .... و تراخت ساقاها فجلست على أقرب كرسي و هي تشعر بالإعياء من قوة تلك المشاعر ...
و حين وجدها صامتة قال بقلق
( وعد ...... هل لازلتِ معي ؟!)
همست همسة متحشرجة .... كان مفادها ( نعم ..... )
عاد ليتنهد قائلا بصوتٍ باسم عميق
( هل رأيتِ أن الشرح الكلامي لن يجدي ......... لذلك لم أهاتفك طوال اليوم )
ارتبكت قليلا ... الا أنها همست بعتاب أنثوي جديد عليها ..... جديد عليها تماما , فهي لم تظن يوما أنها تمتلك خيار الأنوثة ... و أيضا العتاب ؟!!! ....
( ها أنت تهاتفني ...... و لم يحدث شيء .... )
صمت قليلا .... فخافت أن تكون قد أخطأت و تمادت .... لكنه قال بصوتٍ أجش خافت
( افتحي الباب .......... )
شهقت و هي تنتفض واقفة في الظلام .... فنظرت الى الشراع الزجاجي المضيء في ظلام الصالة ... لتجد منه الظل الضخم المألوف يقف مرتاحا متكئا على الجدار ....
للحظة شعرت بالخوف من شكل الظل رغم معرفتها بهويته .... فهمست ترتجف
( سيف ؟!! ......... )
رد عليها بخفوت
( انه أنا ...... أفتحي قبل أن أجد حملة انقاذ تصعد الي متمثلة في حبيبي الأستاذ صلاح )
جرت الى الباب تفتحه و الهاتف لا يزال على أذنها .... نظرا الى بعضهما طويلا
هي في حالة رهبة .... وهو مبتسما بتراخي ... ثم لم يلبث أن أزاح الهاتف من على أذنه .... ليدخل بثقة بينما هي تتراجع خطوة ... لكنه لم يسمح لها بأكثر وهو يغلق الباب بيد ... بينما يجذب خصرها اليه بالأخرى ...
مسكتا شهقتها المنفعلة .......
أغمضت وعد عينيها تسكن الى أشواقه .... بينما هو لا يعرف السكن أو الهدوء ...
و حين شعرت به يتمادى .... أبعدت وجهها قليلا و هي تلهث هامسة بغباء
( الهاتف لا يزال مفتوح ....... )
أعادها الى أحضانه وهو يقول مطمئنا
( لا تقلقي ...... لقد أغلقت الخط كي لا أسمعنا و نحن نبث أشواقنا لبعضنا .... )
همست بحرج وهي تتلوى منه قليلا ...
( لم اقصد ......... سيف .... سيف ... والدي بالداخل ... )
تجمد جسده قليلا ... و رفع وجهه عنها ... الا أنه لم يتركها تماما ... لكنها حين رفعت وجهها الى وجه سيف صدمها قناع القسوة المعتاد يعود اليه بسماع اسم والدها .... فارتجفت ... لكنه قال بهدوء
( كيف حاله ؟؟ .......... )
ابتلعت ريقها و هي تقول بخفوت
( كما هو ...... ما بين يقظةٍ و نوم طويل .... يحتاج الى رعاية طويلة )
مد يده يداعب شعرها ... ثم قال بقلق
( هل أرهقت اليوم ؟؟ ...... الممرض سيصل بالغد )
تنهدت و هي تود لو تخبره بأن ساعات طويلة من الخياطة مترافقة مع البكاء كانت أشد أرهاقا لها .... لكنها امتنعت خشية أن يتهور على الماكينة المسكينة التي تعمل بربع طاقة .....
فهمست ممتنة
( لا أعرف كيف أشكرك يا سيف ..... حقا ..... أنا ..... )
منعها من المتابعة وهو يقول مبتسما بخفوت
( لا تعرفين حقا ؟!! ........... )
ابتسمت بخجل و هي تراه يفتح ذراعيه .... فاقتربت منه ببطء ترتفع على اطراف قدميها و هي تحيط عنقه بذراعيها تمنحه رقةٍ مهلكة .....
تلك النحيفة الصغيرة تتلاعب به .... باتت تكتشف مواقع قوتها بخجل و تستغلها بخبثٍ فطري ,.... لكنه لم يكن ليعترض و هي تمنحه مثل تلك السعادة أبدا ......
ابتعد عنها بالقوة وهو يقول بصوتٍ منفعل خشن خافت
( هيا بنا .......... )
أجفلت قليلا و هي ترمش بعينيها ناظرة اليه بتوتر ثم همست
( الى أين ؟!! ........ )
قال بنبرةٍ مفروغ منها
( الى بيتنا .............. )
ترددت قليلا بطريقة أثارت حفيظته .... ثم نظرت الى باب غرفة والدها ... و أعادت اليه عينين منخفضتين و هي تهمس
( اذهب أنت يا سيف ...... لا يمكنني أن أترك والدي اليوم بمفرده .... )
غرز أصابعه في خصرها وهو يقول بصرامة
( لن يحدث ..... اخبرتك من قبل أنكِ طالما تقدمتِ طريق بقدميك ِ , فلن يكون من حقك وقتها التراجع متى يحلو لكِ )
ارتجفت قليلا من قسوته .... لكنها رفعت اليه عينين مجهدتين و هي تهمس برجاء
( اليوم حين أتيت اليه صباحا كانت حالته سيئة جدا يا سيف .... فقط انتظر للغد و لن أتراجع عن قراري مجددا )
نظر اليها بغضب ... فهمست مجددا برجاء
( صدقني ......... )
قال أخيرا بصرامة
( اذن سأبيت هنا ........... )
هزت رأسها نفيا بقوة و هي تقول مسرعة
( لن ينفع هذا يا سيف إطلاقا ........... أرجوك كيف ستخرج صباحا , هذا وضع أكثر سوءا )
رفع يديه الى كتفيها يجذبها اليه وهو يقول من بين اسنانه
( اسمعيني جيدا .........لن يكون الوضع أكثر سوءا مما فعلتهِ أنتِ ... لذا المظهر العام جانبا فقد أهملناه منذ زمن أنا و انتِ ..... النهاية أنني لن أتركك تبيتين معه وحدك ... )
ترددت قليلا .... الحقيقة أنها لا تريده أن يغادر , تكاد تنهار من تخيل أن تبيت وحدها مجددا بعد أن اعتادت النوم على صدره .....
تنهدت بقوة .... ثم همست أخيرا باستسلام
( حسنا ...... ستنام أنت بسريري ...... و أنا سأنام على الأريكة في الخارج )
صمت تماما رافعا أحدى حاجبيه بتحدي ..... فاحمر وجهها خجلا و هي تطرق برأسها ثم لم تلبث أن همست بخفوت
( ابقى هنا ريثما أعد غرفتي ...... و أحضر لك العشاء كما فعلت معي ... )
ثم تركته سريعا و هي تجري الى غرفتها بساقين ترتجفان .... بينما كان هو ينظر اليها مقطبا متسائلا الى متى سيتحمل ذلك التعذيب الذي يجبر نفسه عليه ....
دخلت وعد بسرعة الى غرفتها ... و أخذت ترفع أطنان القماش عن الأرض .... تخفيها بداخل دولابها القديم ثم تغلقه بأعجوبة .....
ثم جرت لتلتقط ملاءة قديمة ... طبقتها و القتها فوق الماكينة و كأنها تعلمه بأنها توقفت عن الخياطة .....
اتجهت بهدوء الى الباب ..... الا أنها لم تلبث أن شهقت حين تذكرت قماش فستان الزفاف الموضوع أرضا ... فجرت اليه كي تخفيه .... تحت السرير ....
و بعد أن استقامت ... شعرت أن الأرض تميد بها قليلا فترنحت من المجهود المبالغ فيه نفسيا و جسديا ....
لكنها استطاعت أن تهدىء الدوار بالثبات عدة لحظات ثم خرجت بهدوء الى سيف ..... زوجها ....
.................................................. .................................................. ............................
وقف ينظر اليه وهو نائم !! .....
علامات السن المتقدم تظهر عليه كل مرة يراه فيها أكثر من سابقتها ....
كتف سيف ذراعيه يستند الى الجدار من خلفه .... وهو يتأمله فاقد القدرة على شيء ... يحتاج الى أبسط أنواع المساعدة ....
كيف يمكن لانسان يحمل ذرة شعور ألا يكون متعاطفا معه .... الا أنه هو بالفعل كان لا يشعر بذرة تعاطف ....
رغما عنه تذكر أمه ..... أمه التي كانت في جمال البدر ذات يوم ....
و كان عشق والده لها يفوق الحدود ...... و قد بدأ هو طفولته على معرفة أن المحبة مفقودة بين والده وخاله ... الا أنه لم يكن ليعبأ بهذا الأمر كثيرا ...
حتى بعد أن استمع الى بكاء امه طويلا من ضياع حقها في ميراثها من ابيها بعد أن استولى عليه عبد الحميد بخطةٍ دنيئة ....
كثيرا ما سمع اتهاماتها لوالده بانه متخاذل و انه لم يأخذ لها حقها كأي رجل في مكانه .... و حينها كان والده يحتد عليها قليلا .... وذلك كان السبب الوحيد في العالم و الذي يجعله يحتد عليها أو يغضبها ....
بينما كبر سيف يوما بعد يوم و علم أن الميراث هو أهون ما قد يستولى عليه عبد الحميد .... فنواياه بعدها كانت أفظع ... و هي الإستيلاء على أمه ذاتها ....
بكل فسق و مجون .... كان قد قرر الانصياع الى شريكه بالعمل في سبيل تطليقها من والده ... حين رآها للمرة الأولى ....
أقسم أن تكون له .... دون تفكير بشرع او دين ... او انها ام لطفلين .... فمن يراها يظنها لا تزال مراهقة تسلب الألباب بجمالها .....
جمالها لم يرث مدى روعته أيا منهم .... لا هو و لا ورد و لا حتى مهرة .....
انه يتذكر شبابها جيدا ..... و يتذكر روعتها .... و كم كره هذا الجمال بعدها يوما بعد يوم حين تحول الى نقمة عليهم ...
لم يترك عبد الحميد و شريكه .... فعلا واحدا سيئا الا و فعلاه ضد والده ... لقد حولا حياتهم البسيطة الى جحيم في ظرف عدة اشهر .....
حتى فقد والده عمله في قضية ملفقة بفعلهما .... و قام صاحب الxxxx بطردهم من شقتهم ذات الإيجار بعد أن أغراه هذا الشريك بشرائها و تغيير العقد بتاريخ قديم لتصبح ملكه .....
حينها استسلمت منيرة بعد عذاب ..... و طلبت الطلاق .....
عدة اشهر أخرى تمكنت بكل الوسائل في النجاح أخيرا باجباره على تطليقها .....
و بعد ثلاث أشهر باليوم الواحد .... تزوجت الحقير القذر ......
أغمض سيف عينيه بألم وهو يتذكر أنه اقتحم بيتهما .....بيت الحيوان و..... أمه ...
ليراهما معا في منظر أقرب الى الإغتصاب مترافقا مع الضرب و الذل و الإهانة .... منظر جعله يتحول الى مجرم فيما بعد ......
( ماذا تفعل هنا ؟!! .......... )
رفع وجهه القاتم في ظلال الغرفة لينظر الى وجه وعد البريء .... تنظر اليه برهبة و قلق ....
لكنه أجاب وهو يحيط خصرها بذراعه يجذبها اليه هامسا بصوتٍ لا تعبير به
( كنت أطمئن عليه .......... )
ابتسمت باهتزاز .... ثم همست بخفوت
( حسنا ...... هيا لتتناول عشائك )
نظر اليها طويلا بنظرةٍ لم تستطع قراءة معناها ..... ثم همس أخيرا بصوتٍ أجش عمييييييييق
( لا أريد أي عشاء ياوعد ........ فقط اريد أن أضمك الى صدري )
لم ترد عليه .... بل أطرقت بوجهها و تزايدت نبضات قلبها بعنف
.................................................. .................................................. ................................
بعد فترة جنون مشتعل .... رفع سيف رأسه عنها بخوف ليجدها تسعل بشدة و هي تنظر اليه بعينين متسعتين ... تحاول التكلم .... الى أن نطقت أخيرا بصوت مختنق وة صدرها يعلو و ينخفض بسرعة وعنف
( سيف ...... سيف ...... لا أستطيع التنفس ..... لا تتركني ..... لا أستطيع التنفس ..... )
انتفض جالسا وهو يهتف بعنف
( وعد ....... وعد ..... ماذا بكِ ...... أجيبيني .... وعد ..... )
الا أنها لم تستطع الكلام و هي تشهق عدة مرات محاولة التقاط أنفاسها .... دون جدوى .... حينها نهض سيف من مكانه مرعوبا ليضع قميصه عليه بعشوائية ..... ثم انحنى اليها يتلتقطها بين ذراعيه وهي تزرق و تشحب .... و تشهق بصعوبة ......
.................................................. .................................................. .............................
نظر حاتم بوحشية الى كامل الذي يقف منفعلا أمامه .... متابعا دون فرصة لالتقاط أنفاسه
( لم يحدث لي هذا من قبل سيد حاتم !! ..... أنا أضرب على الملأ و يتقطع قميصي ... و أتهم امام الناس و كأنني كنت أتحرش بمديرتي !!! .... طوال ليلة أمس و أنا ادور و أنفعل غيرمصدق مما تعرضت له من إهانة ... أنا شخص محترم بشهادة الجميع و لم يسبق لي أن تجاوزت حدودي مع أي سيدة ... فكيف الحال مع السيدة كرمة مديرتي !!! )
كان صدره يغلي كأتون مشتعل ... لا يصدق ما سمعه للتو .... قبضتاه تتحرقان لخنق ذلك الحيوان الهمجي و لكمه و تهشيم أسنانه ...
حالة مماثلة من الهمجية تنتابه ..... حالة غريبة عليه .... لم يعرفها مع زوجته السابقة و لا مع أي امرأة ....
الرغبة في القتل ..... الخوف .... الخوف عليها ....
في لحظةٍ واحدة انتابته كل أنواع الصور المفزعة مما يمكن أن تكون كرمة قد تعرضت له على يد ذلك الحيوان الهمجي خلف بابهما المغلق عليهما .......
نظر الي كامل حين تكلم متابعا بحنق
( اعفيني سيد حاتم من متابعة العمل مع السيدة كرمة ...... لأنني لن أسكت المرة المقبلة )
أخذ نفسا حادا متشنجا .... ثم قال أخيرا بصوتٍ مكتوم
( لا بأس يا كامل .... لن تعمل معها مجددا و سأعوضك عما حدث ..... تفضل أنت و تقبل اعتذاري بشكل شخصي )
احمر وجه كامل قليلا ... ثم أومأ برأسه قائلا بخفوت
( شكرا سيد حاتم .... و أعتذر إن كنت قد خذلتك ...... )
بعد خروج كامل من مكتبه اندفع ينهض من مكانه منفعلا وهو يفك ربطة عنقه ليلقيها على ظهر مقعده ... ثم تبعتها سترته ... ليتجه الى النافذة ينظر منها عل منظر البحر من البعيد يساعد في تهدئة أعصابه ....
كرمة .....
فقط اسمها يريح نفسه حين ينطقه عدة مرات متتالية ... كنوع من التمرين الروحي على الصبر لنفسه المشتاقة
اسم من أربعة أحرف ....
كمال - رقتك - مزقني – تبتله
اي جحيم هذا الذي سمح لنفسه ان ينساق اليه دون رادع .... وهو يقنع نفسه يوما بعد يوم انه لا يزال في المنطقة الآمنة .... بينما كانت قدماه تقودانه دون هوادة الى أعمق أعماق بحور عينيها ...
لجمالها الدافىء .... لكبريائها و أناقة روحها .... حتى شهيتها المفتوحة زادته اشتهاءا لها ....
امرأة متزوجة !! ....
ضحك بسخريةٍ سوداء ... ثم لم يلبث أن ضرب الحائط بقبضته بقوة عنيفة وهو يهمس بغيظ
( راااائع يا حاتم ..... رائع , لقد تفوقت على نفسك بعشق امرأة متزوجة !! ...)
رنين هاتفه قاطع هدير نفسه الهائجة قلقا عليها ... فالتقطه بتثاقل , لكن و ما أن أبصر الاسم المتصل حتى رفع عينيه متأففا ... لكنه أخذ نفسا عميقا ليرد بعدها بكبت
( نعم ..... مرحبا يا داليا .... نعم ... بخير ... .. ماذا ؟!! .... لا ... لست موافقا طبعا انسي الأمر )
صمت يستمع قليلا ... ثم تعالى صوته فجأة بغضب وهو يقول
( لن أقبل بتلك العطلة أبدا .... اسمعي يا داليا أنتِ منحتني حضانة محمد في سبيل زواجك , و ليس من حقك الآن استقطابه كل حين في اجازة أو عطلة يأتي بعدها منقلبا علي بسبب أفعال زوجك الرخيصة ... )
تعالى صوت أنثوي من الهاتف و هي تهتف حانقة
( انه ابني يا حاتم .... ليس من حقك حرماني منه لأنك أخذت حضانته ... لا أطلب سوى أن أقضي معه بعض الوقت ... هذا أبسط حقوقي يا حاتم .... )
صرخ بغضب وهو يلكم الحائط مجددا
( ليس من حقك شيء .... و ليس من حق زوجك أستقطاع جزءا من الوقت الذي من المفترض أن اقضيه مع ابني كي يمنحه مسرحية رديئة جديدة ... )
صرخت به هي الأخرى
( ليس هو من يريده .... أنا من أريد أن أقضي معه عطلة طويلة , أنا أشتاق اليه .... كم أنت طفل ,!! ... تحرمني من ابني لأنك تغار من زوجي !!!! .... )
هتف بغضب وذهول
( أنا أغار من زوجك !!! ..... لا يا سيدة داليا.. أنا لا اغار منه , أنا فقط لا أفكر سوى بمصلحة ابني و كلما قضى معكما وقتا أطول كلما زاده ذلك عيوبا و مساوىء أتحملها أنا دون غيري .... )
هتفت به بألم
( لماذا تصرخ بي ؟!! ...... )
صرخ بجنون وهو يضرب الحائط مرة أخرى بقوة
( أنا لا أصرخ ........)
سمع فجأة صوت بكاء ناعم من الجهة المقابلة ... فانتابه وجوم من الوضع , و تسائل بالفعل عما أصابه !! ... لكنه يعلم .... يعلم جيدا ما أصابه ...
تنهد بقوة وهو يمسح شعر رأسه ... ثم لم يلبث أن قال بهدوء
( لا بأس يا داليا .... لا تبكي .... لم أقصد أن أصرخ .... أنا فقط أريدك أن تتفهمي , أن مصلحة محمد تفوق عندي أي اعتبار آخر .... )
سمع صوت نحيبها الرقيق ... ثم قالت باختناق
( و تظن أنني لا أهتم بمصلحته !! ..... الا يكفي أنني تركته لك !! .... )
تنهد بقوة ثم قال أخيرا بجفاء
( حسنا كفي عن البكاء ..... أنا لا أطيقه في حل الأمور , .... اسمعي خذي محمد للعطلة .... لكن قسما بالله يا داليا إن حدث ما يغضبني منه ككل مرةٍ من قولٍ أو فعل ... فسأمنعه عن تلك العطلات الطويلة و أكتفي بزيارته لكِ و التي قررتِها من قبل بنفسك ..... )
أغلق الهاتف بعنف بعدما انتهى .... هذا ما كان ينقصه الآن !! ... أن تهاتفه داليا بكل نرجسيتها ...و دلالها ...
تنهد حاتم مرة أخرى وهو يستند بيده الى زجاج النافذة ... يفتح الزر الأول من قميصه هامسا بصوتٍ مكبوت
( أين أنتِ يا كرمة ؟...... ماذا فعل بكِ لتتأخري كل هذا الوقت !! .... )
احساس قذر أن يعجز الإنسان حتى عن الاتصال بامرأة يعرف أنها تتأذى من همجي ....
له كل الحقوق .... و ليس لك أي حق ... امرأة حدث أن عشقتها ! ....
.................................................. .................................................. .............................
أمسكت بمفك من مفكاته في صندوق عدته الخاص الذي يحتفظ به في المنزل ... و ثابرت على خلع مسامير حاجز القفل بصعوبة ... الى أن تمكنت من خلعه أخيرا ... فرمته أرضا ...
ثم فتحت النافذة لتسقط الكرسي الخشبي ... و تقف على الأريكة جالسة على حافة النافذة و منها نزلت على الكرسي .. ثم الأرض !! ....
وصلت كرمة الى عملها .... تسير بضعف ... و كأنها لا ترى أمامها ... تضع نظارة سوداء على عينيها المتورمتين ... تعد اللحظات في سبيل الوصول الى مكتبها الخاص الآمن ...
و أخيرا دخلته لتجلس ببطء .... و هي تتحسس سطحه بكلتا كفيها بشرود دون أن تنزع نظارتها ....
لم تكد تمر عدة لحظات من دخولها الى مكتبها ... حتى وجدت حاتم يندفع داخلا دون استئذان ليقف امام مكتبها قائلا بقوة
( كرمة ......... )
رفعت وجهها اليه ببطء دون أن ترد ... الا أنه لم يكن ينتظر منها ردا , بل كانت عيناه الملهوفتان تنظران بذعر الى شفتيها الداميتين و جانب وجهها المزرق ... فمال يستند الى سطح المكتب بكفيه حتى اقترب وجهه منها
ليهمس و كأنه يحدث نفسه
( ياللهي !! ........مااللذي !! . )
سكت و قد فقد القدرة على الكلام .... الا أنها همست ببطء
( اخرج يا حاتم ........ رجاءا , اخرج الآن ... )
لم يرد.... لم يعبأ حتى بطلبها .... و كأنه لم يسمعها .... بل كان ينظر اليها بعينين قاسيتين .. غاضبتين ... عاجزتين ...
و دون إرادة منه تقريبا .... مد يده ينزع النظارة السوداء عن وجهها .... ثم رماها جانبا بفظاظة ...
ليزداد ذعره من جانب وجهها الممتد المتورم بعدة ألوان .....
رفعت كرمة عينين فاقدتي الحياة الي عينيه .... ثم همست
( أخرج ...... من فضلك )
همس بشراسة
( لا ..... لن أخرج , و لن أسمح لأحد بأن يراكِ تلك الصورة .... قومي معي يا كرمة ... سأقلك لأي مكان تريدين )
رفعت وجها منتفضا اليه لتقول بسرعة
( لا أريد العودة للبيت الآن ..........)
توحشت عيناه ... ثم قال بشراسةٍ أكبر
( لم أكن لأعيدك لبيتك .......و لو كانت حياتي متوقفة على ذلك )
بهت وجهها و تحولت عيناها الى بركتين عميقتي الألم ... و كأن الذكريات تتناوب عليهما ....
فتأوه داخليا دون صوت ... ثم لم يلبث أن قال بخفوت عميق
( تعالي معي يا كرمة ......... )
رفعت عينيها اليه مجددا و هي تهمس
( الى أين ؟؟ ......... )
هز رأسه قليلا وهمس
( لأي مكان ...... المهم الا يراكِ أحد بهذا المنظر ... هذا الضعف ... )
هزت رأسها نفيا ببطء تطرق بوجهها ... ثم همست
( أحتاج الى العمل .. الى الكثير من بحر حساباتٍ تغرقني .. أحتاج الى العمل و العمل ثم العمل الى أن أسقط تعبا .. )
نظر اليها بغضب عنيف ممتزجا بمشاعر جياشة و كأنها أبت الكتمان أكثر من ذلك فاندفعت هادرة بأعماقه ...
ثم تكلم أخيرا بخفوت محاولا السيطرة على نفسه
( سأعمل على الا يدخل أحد اليكِ اليوم ........ )
ابتسمت شبه ابتسامة و هي تهز رأسها موافقة .... و قف مكانه و بدا و كأنه لا يريد الإبتعاد .... لكنه اضطر مرغما على الخروج ... يوشك أنه يتمنى ارتكاب جريمة و كأن أحدهم قد تعدى على ...... امرأته .....
أغمض عينيه للحظة و هو يتقدم في اتجاه الباب خارجا ....
ثم لم يلبث أن استدار لكرمة ... فنظر اليها طويلا قبل أن يقول بصلابة مفاجئة
( كرمة ....... أنتِ تحتاجين مساعدة , فقط اعطني الإشارة ..... فقط اعطني الإشارة رجاءا ... )
رفعت وجهها اليه تنظر اليه من بعد بلا تعبير .... ثم تكلمت أخيرا
( الأمر ليس كما تظن ....... لا تقلق .... أنا لا أتعرض لما تتخيله ... )
قال حاتم بقهر وهو يضرب الحائط بقبضته دون أي مواراة
( زوجك هو من ضربك ..... هل هناك تخيل آخر أم انكِ دخلت بعمود اضاءة أو عربة نقل بضائع , قامت بتطبيق وجهك بهذا الشكل !!! .... )
امتقع وجهها و هي تنظر اليه .... ثم همست أخيرا بنفس الصوت الميت
( أخرج من هنا ....... أرجوك )
هدر نفسا ساخنا غاضبا ..... لكنه شعر بأن أفضل ما قد يفعله حاليا هو أن يخرج بالفعل قبل أن يتهور ....
مغلقا الباب خلفه .... بقوة .....
نظرت كرمة الى الباب و كأنها قد باتت مرهونة بالنظر الى الأبواب المغلقة ....
فرفعت يدا ترتجف الى صدرها المتألم ... الألم بداخله يبدو كوحش يفترسها ببطء ... تزداد و تيرته ببطء و كأنه مقسم على أن يقتلها قتلا بطيئا ....
لقد انهارت حياتها ..... لقد انكسر بها شيء ... حتى لو عاد اليها و أقر بذنبه , سيكون ما بداخلها قد انكسر للأبدا .... هذا لو عاد !!! .....
شعرت أنها قد وقعت في هوة منعدمة الجاذبية .... بها ضغط يشتد فوق صدرها ... و كأن رئتيها على وشك الإنفجار من شدة الألم ....
تغضنت عيناها بعذاب و هما تمتلآن ببعض من دموع متهربة من النفاذ ... بعد أن كانت قد ظنت أن الدموع قد نضبت منها صباحا ....
همست لنفسها
( كيف أتركه لغيري بهذه البساطة و أرحل .... متنازلة عن روحي ... بيتي ... حياتي...
و كيف أتقبله من جديد ...أسامحه ....أتقبل لمساته ... نظرته الي .... أنفاسه التي اختلطت بأنفاس أخرى غيري .... )
ارتجفت بشدة و هي تنتفض ناظرة الى حاسوبها و الملفات المكدسة اليها ....
أفضل شيء لها الآن هو العمل حتى الموت تعبا .....
لكن هيهات أن ينقضي عذابها عند تلك النقطة .... فلم تكد تمر ساعتان .... حتى اندفع احد العاملين الى مكتبها يقول بقلق
( سيدة كرمة ..... هناك شخص يحاول دخول المصرف بالقوة , و يقول .... يقول أنه زوج حضرتك )
شهقت كرمة عاليا و نهضت من مكانها جريا .... و كان قلبها ينتفض رعبا من المزيد من الفضائح ....
الى أن وصلت للباب ... فوجدت محمد يقف كالخارجين عن القانون ... وهو يحاول الدخول محتدا بينما اثنان من أفراد الأمن يمنعان دخوله بالقوة ....
اقتربت ترتجف الى أن بدأ صوته في الظهور بوضوح
( أريد زوجتي حالا .... و لن أغادر بدونها ....)
جرت العدة خطوات المتبقية ... الى أن وصلت اليه فتشبثت بذراعه قائلة بخوف
( ها أنا ذا ..... اخفض صوتك أرجوك يا محمد )
نظرت الى حارسي الأمن لتقول بخفوت معتذرة
( انه زوجي ..... المعذرة )
الا أن محمد أمسك بذراعها بالقوة وهو يقول بصلابة
( ستأتين معي للبيت .........)
حاولت التخفيف من قبضته و هي تتكلم بتوسل برجاء و خفوت
( اذهب أنت الآن يا محمد و أنا لن أتأخر ..... صدقني , اليوم لدي اجتماع هام جدا )
الا أنه لم يتخلى عن ذراعها وهو يقول بخشونة و عيناه بعينيها
( بل ستأتين معي يا كرمة و حالا ..... لو أردتِ اجتناب المزيد من تلك الفضائح )
نظرت اليه بجمود .... و كأنها تتعرف اليه بصعوبة , و كأن شخص آخر تلبسه فبات يتصرف كالمجنون ... و وهو رغم كل خشونته سابقا .. لم يكن مجنونا أبدا من قبل !!
ارتفع صوت قوي قريب من خلفها
( أنت ....... ليس من حقك اقتحام المكان , )
أغمضت كرمة عيينها و هي تسمع صوت حاتم من خلفها ... على الرغم من أنه ليس عاليا كي لا ينتبه المزيد من العاملين , الا أنها لم ترغب في سماعه هو شخصيا لما يحدث بينها و بين محمد ...
حاتم فضولي ... خانق .... و لن يتركها سوى بتحقيق طويل و هي ستنهي التحقيق كالعادة بفظاظة و تحرجه كي لا يتدخل فيما لا يعنيه ...
نظر محمد بتدقيق الى ذلك الرجل الأنيق الوسيم .... يرتدي كامل حلته بالسترة و رابطة العنق .... يبدو وكأنه يلمع كحال معظم العاملين هنا ... بل أكثر منهم ... لكن عيناه كانتا تلمعان بشراسةٍ أثارت حفيظة محمد
فقال بهمجية
( لا تتدخل أنت ........زوجتي لن تعمل هنا بعد الآن ... . )
الا أن حاتم تجاوز كرمة و هو يجذب ذراع محمد عن ذراعها بالقوة ليقول بقوة
( إن سمحنا لأحد بأن يتهجم على مديرة عندنا أيا كانت صفته و نحن نجلس آمنين بمكاتبنا , فمن الأفضل اذن أن نغلق المكان أو نحوله الى مخبز آلي ..... )
جذب محمد ذراعه منه بالقوة وهو يصرخ بغضب
( اذن اغلقه يا رخو العظام ......... )
و فقد آخر ذرة من تعقله وهو يلكم حاتم وصت شهقات و ذهول المتواجدين .... و صرخة كرمة تحديد ا
انحنى حاتم يمسح زاوية شفته الدامية .... و أثناء انحنائته همس لنفسه مبتسما بشراسة
( ممتن أنا لك ... على تلك الفرصة ........ )
ثم لم يلبث أن استقام منتفضا يرمي سترته أرضا ... قبل أن يرد اللكمة الى محمد مودعا بها كل غضبه و احتقاره .... و خوفه على كرمة .. و انتقامه مما فعله بها ذلك الحقير .... قبل أن يمسك به حارسي الامن .....
صرخة كرمة كانت أعلى و هي تهتف برعب
( محمد ......... )
ثم جرت اليه تتشبث بصدره و هي تفحص أنفه النازف .... ثم صرخت بعنف في حارسي الأمن اللذين يقيدان محمد بقوة
( اتركاه ..... أتركاه ..... أنا سأذهب معه .... )
ثم استدارت الى حاتم المذهول تقول بتوسل به قسوة على الرغم من ذلك
( قل لهما يتركاه و نحن سنغادر ...... أرجوك )
كان حاتم ينظر اليها بقسوة و غضب و كأنه يود لو يضربها هو الآخر .... لكن شتان ما بين ضرب و ضرب آخر .... يود لو يقتلع رأسها كي تفيق قبل ..... قبل أن يفقدها في احدى ثورات غضب ذلك الهمجي ...
أعادت كرمة بصوت أقرب للتوسل
( أرجوك ........... )
ذابت عيناه كرها و بغضا لها في تلك اللحظة .... لكنه أشار الى حارسي الأمن أن يتركا محمد .... فدفعاه بقوة ... لكنه لم يرحل قبل أن يلقى نظرة تهديد الى حاتم ... الذي قابلها هامسا بصوتٍ قاتم
( لا أريد رؤيتك هنا مجددا ...... و الا لن أكون متفهما المرة المقبلة )
ظل محمد ينظر اليه بعينين غامضتين .... ثم قال بصوتٍ أكثر غموضا وهو يجذب كرمة اليه
( اطمئن يا رخو العظام ..... لن ترانا هنا مجددا ..... )
ثم استدار يجذبها خلفه بقوة .... بينما وقف حاتم يلهث بعنف ... هامسا بداخله بهياج
" في أحلامك ..... أقسم أن أنتزعها منك يوما "
.................................................. .................................................. ..........................
أدخلها البيت دفعا بالقوة ... فتعثرت أثناء اندفاعها ... لكنها تمكنت من الإستقامة واقفة تنظر اليه بوجهٍ ميت لكن بثبات
و كأنها قد أصيبت بتبلد مفاجىء ....
فلا خوف لديها حاليا منه .... و لا خزي من الفضيحة في المصرف .... و لا شيء على الإطلاق ...
لا .. حتى لا تكون كاذبة مع نفسها , كانت تنظر الى الدم المتجمد عند أنفه ... و في قلبها خوف فطري على طفلها الوحيد ...
مرآى زوجها يتم ضرب أمام عينيها أصابها بلكمةٍ في صدرها ....
مهما فعل .... سيظل محمد ... والدها كما أخبرها بالأمس ....
قد تتراجع صفة حبيبها قليلا بعدما طعنها غدرا ..... لكنها طفلته .... رباها على يديه .... و رؤية من يضربه ملأت قلبها مرارة و حسرة ....
محمد رجل ..... لا يُضرب هكذا ببساطة لمجرد أن حارسي أمن أمسكاه بعدها ....
المعركة كانت غير متكافئة .... لو كانا يتقاتلان قتال شوارع وحدهما , لكان محمد ربح بسهولة .....
لأنه رجلها ........ فقط .....
ارتجفت شفتاها و ذابت عيناها ألما مجددا و هي تنظر اليه هائجا كالمجنون .... يصرخ بها
( من ذلك الحقير !! ...... و ما مدى أهميتك عنده !!! ..... )
ابتسمت ..... حقا ابتسمت ابتسامة حزن أودعتها ألم العالم كله .... ثم همست بصوتها الميت
( هذا نموذجي ...... نموذجي بدرجةٍ مبهرة , .... كيف تحول الأمر بسلاسة من غدرك بي , حتى أصبحت أنا اليوم المتهمة !! ..... هل تشك بي بالإضافة لكل ما فعلته ؟؟ ..... سيكون هذا رائعا يا محمد .... )
أجفل قليلا من لهجتها الهامسة المهلكة ....
و ظل ينظر اليها طويلا .... ثم قال بخفوت
( كيف أشك بكِ يا كرمة ! ..... حينها وكأنني أشك بنفسي .... بل قد أشك بنفسي و لا أشك بكِ أبدا .... )
ارتجفت ملامحها .... و ذابت دمعة صامتة تنساب فوق وجنتها ....فارتجفت شفتاه كذلك .....
استدار بعيدا عنها ينظر الى النافذة ذات القفل المكسور .... محاولا تهدئة عذابه .... ثم استدار اليها بوجهٍ ملتاع حبا وهو يقول بعد فترة طويلة بخشونة
( كان يجب أن أستمع الى كلامك منذ فترة .... و أنفذ طلبك الذي لا يكل و لا يمل بتركيب أسياخ من الحديد على النافذة ..... أنظري الى ماذا أفضى بي أهمالي لكِ !! ...... )
ارتجفت شفتيها أكثر في ابتسامة من بين بكائها المتزايد .... حتى شهقت تغص في ابتسامتها ....
حينها اندفع ليها .... يقبلها كالمجنون ... يعتصرها بقوةٍ كادت أن تقسمها نصفين .... مجددا يفرغ بها جنونه من نفسه و احتقاره لها ....
فأغمضت عيناها و قلبها يحن اليه للحظة ...... لكن جسدها رفض .....
رفض و تشنج بقوة .... و أعلن عصيانه الى درجة الغثيان .....
فانتفضت دفعه في لحظة واحدة ..... ووقفت تنظر الى عينيه المهتزتين رغبة .... ثم همست بجمود
( لن أستطيع ....... و لن يحدث , الا لو أجبرتني مجددا .... فتفضل لو أردت )
أجفل بشدة ... و انتفض مكانه .... ينظر اليها بذعر ..... ثم لم يلبث أن غادر الشقة ..... صافقا الباب خلفه , دون كلمة واحدة .... و دون أن يغلقه بالمفتاح ..... تاركا النافذة مفتوحة ! .....
كان يطوف من أمام الباب بشراسة ... شراسة و ذعر موجهان تجاه نفسه قبل أي أحد آخر ...
توقف لحظة أمام الباب المفتوح متسمرا وهو يهمس لنفسه بصوت اجوف
( لقد كدت أن أقتلها !! ...... )
اقترب خطوة وهو يشاهد الطبيب و بجواره ممرضة يقومان ببعض اجراءات بدت طبيعية , الا أنها كانت كفيلة بأن تخبره بأن وعد هنا بسببه ...
أن انفعاله كان أقوى من سيطرته حتى كادت أن تختنق بين ذراعيه ...
انفعاله الذي تعدى الإنجذاب ... و الرقة و العذوبة ...
بل انفعال غادر سافر به الى منطقة أخرى تماما من المرارة و الكره ... ليس لها ... بل لرجل ممدد في غرفةٍ مجاورة تسبب له في كل أنواع القهر منذ سنوات طويلة ...
و حدث أن كانت ابنته بين ذراعيه في اللحظة التالية!! ..
و حدث أيضا أنه لم يستطع مقاومة السيطرة على انفعاله الغاضب و الذي بدا عنيفا في لحظةٍ معينة حتى أفاق على وجهها يشحب و شفاهها تزرق وهي تحاول أن تلتقط أنفاسها من بين أحضانه المطبقة عليها بكل قوة .
رفع سيف يده الى شعره بعنف وهو ينظر اليها تضع قناع اكسجين .. بينما هي واعية تماما ... و تنظر اليه ! ...
ابتسم قليلا .. ابتسامة مهتزة صغيرة و هو يرفع يده و كأنما يلوح لها مطمئنا .. لكن الإبتسامة اختفت سريعا وهو يستدير بعيدا عنها ... غير قادر على مواجهة عينيها القلقتين من خلف قناع الأكسجين أكثر من ذلك ...
تنهد سيف تنهيدة مثقلة كبيرة ...حتى كادت أزرار قميصه أن تطير من مكانها ..
أغمض عينيه للحظات وهو يستند بظهره الى جدار مجاور لباب غرفة الكشف ....
" وجودها معه خطر عليها ... لا يصدق أن يكون فاقدا لسيطرته على شغفه المختلط بالغضب لتلك الدرجة !!"
فتح عينيه القاتمتين ينظر أمامه بلا وجهة معينة وهو يفكر بجمود
" ذلك البيت لعنة ..... لعنة تحرقه ببطء و تعيد اليه كل ما يحاول دفنه بعيدا في عمق ذاكرته "
خرج الطبيب اليه بعد فترة قصيرة تبدو عليه علامات الهدوء ...
فنظر اليه سيف بجمود .... لا يقوى على السؤال , فابتسم الطبيب وهو يربت على كتفه قائلا ببساطة
( لا تقلق ....... انه مجرد ضيق تنفس لإختلال في ضربات القلب , هل أرهقت نفسها كثيرا ؟؟ ...... )
لم يرد سيف على الفور .. بل لم تتغير حتى ملامحه من الجمود , لكنه تمكن من النطق أخيرا بصوتٍ أجش خافت
( نعم ....... لقد أرهقت نفسها , لقد ظننت ....أنك أخبرتني أنه لا خطورة .... و أن .... )
بدا فجأة كلامه غير مترابطا على غير عادته , فصمت خشية أن يتغير في نظر نفسه أكثر و أكثر ....لو باح جهرا بما تسبب لها ...
قال الطبيب مؤكدا
( ليس في الأمر خطورة ...... وضعها مستقر , انه مجرد ضيق تنفس , كان يكفي لو قمت ببعض الاسعافات الأولية .......ربما آن الأوان كي تتعلمها من الآن فصاعدا ... )
غادر الطبيب بعد بضع كلمات تاركا سيف مكانه , مؤكدا له أن بإمكانه اصطحابها الى البيت الآن لو أحب ....

" من الآن فصاعدا !!....... "
كم هي عبارة طويلة الأمد ... تحمل في طياتها معانٍ كثيرة ....
هل سيكون السبب ذات يوم في ازهاق روحها .. إن لم تكن حياتها .....
لقد اتضح له في لحظة واحدة مدى هشاشة تلك السيطرة التي تخيل نفسه متباهيا بها طوال السنوات ....
لكن لحظة ذكرى واحدة سوداء .... جعلته يسحق تلك الفتاة التي دخلت روحه بسرعة البرق ...
ذكرى الماضي .... ذكرى مشهد معين لأمه كان يطوف في ذهنه دون هوادة
و أنينها المعذب كان يصفر في أذنه , يجعل منه وحش عنيف , غير واعٍ لتأوهات أخرى رقيقة امتزجت بذلك الصفير ....
تأوهات وعد .....
نعم كان عنيفا ... يظنه شغفا ... الا أن الكره في الواقع هو ما كان يؤجج شغفه أكثر ....
اظلمت عيناه وهو يجلس الى أحد المقاعد ببطء ..... يشعر بأنه أدنى من حيوان شهواني ...
على الأقل الحيوانات لا تحركها سوى الرغبة .... الغريزة ....
أما أن يحرك الغضب الشهوة !! ..... فهذا هو ما لم يظن أن يشعر به ذات يوم ....
أي خللٍ نفسي جعله لا ينكب عليها الا وصورة أمه المنتهكة تعصف أمام عينيه !! ....
أي حقارةٍ تلك !!
زفر بعنف وهو ينظر جانبا الى الباب المفتوح .... بعينين غير مبصرتين للمشفى ...
بل تنظران الى مرآها و هي تدخل الى غرفة نومها مطرقة بوجهها في خجل يكاد أن يذوب ملامحها الناعمة ...
بينما كان هو مستلقيا و ذراعيه خلف رأسه ...متحررا من قميصه بجرأة ... ينظر اليها بلا تعبير معين ....
لاحظ وقتها أنها دخلت مبتسمة بخجل ... لكنها تسمرت قليلا و عيناها تلتقطان مظهر صدره القوي ... فاتسعت عيناها للحظة ... ثم لم تلبث أن أخفضتهما بسرعة و هي تقف عاجزة مكانها ...
لكنها على الرغم من شدة توترها كانت هي أول من همست بخفوت رقيق
( هل أحضر لك شيء ؟؟ ......... )
قال بخفوت مماثل جامد النبرة
( بإمكانك احضار نفسك الى هنا .... )
ازداد ارتباكها و خجلها أمام عينيه المتفحصتين لها ... لكنها اقتربت بهدوء حتى وصلت اليه و جلست بقربه على طرف الحافة حتى كادت أن تقع ..... فقال سيف دون أن يلتفت اليها
( هل سريرك يجعلك أكثر خجلا من سريري ؟؟!! .......)
كاد أن يشعر بذبذبات خجلها تصله عبر الفراش واضحة .... لكنها اجابت بخفوت و هي تتطلع الى جدران الغرفة
( البيت الذي نشأت فيه ...له رهبته ...)
كانت جملة بسيطة بريئة توضح له خجلها .... الا أنها جاءت خاطئة في الوقت الخاطىء
حيث اشتعلت جذوة القهر بداخله ممتزجة بالغضب .... وهو ينظر الي السقف كذلك و كأن صور الماضي ارتسمت عليه بوضوح ...
كل مرارة الماضي كانت تمر بذهنه بدءا من تحطيم والده لمرايا البيت ليلة زفاف والدته من آخر ....
و منظر أمه حين اقتحم شقتها مع القذر الذي تزوجته .... كان ينتهكها بشكل جعله يتمنى في كل يومٍ أن يعود به الزمن ليموت قبل أن يرى ذلك المشهد الحي أمام عينيه ....
رمش بعينيه عدة مرات كي يمحي الصورة من أمامه .. لكن عبثا ...
لذا استدار اليها بحركة واحدة يجذبها الى صدره حتى وقعت عليه شاهقة ... لكنها أعطته ظهرها ترفض النظر اليه و هي تحاول النهوض دون جدوى ... و حين استكانت أخيرا و هي ترتعش قليلا ... ظهرها الى صدره و شعرها يخفي وجهها عنه .... ارتفع قليلا... مستندا الى مرفقه يبعد شعرها عن جانب وجهها .. يبحث عن عينيها .... عل عينيها تتمكنان من محو صور الماضي البائسة
وجدت أصابعه وجهها أخيرا ... فأخذ يلامسه بشرود و يطيل الى عنقها .... بينما كانت تتلون هي تحت تلك الأصابع الماهرة الغامضة ....
صعدت أصابعه الى جفنيها المسبلين .. فوق العين الأولى .. ثم الثانية ... و همس بعدها بصوتٍ خشن غير مقروء
( لماذا كنتِ تبكين مجددا ؟؟ ........ )
أسبلت جفنيها قليلا .... ثم تنهدت أمام عينيه المتفرستين بها و همست
( نسيت أنني لم أخبرك بشيء يخصني اليوم ........ )
لم يرد عليها و لم تلين ملامحه .... لكنها لم تراه و هي تهمس بصوتٍ أجوف
( ما يخصني اليوم ...... هو أنني خسرت الإنسانة الوحيدة التي كانت تمثل لي العائلة .... الأخت و الصديقة .... جرحت كلا منا الأخرى .... و كأننا كنا ننتظر الفرصة .... )
صمتت قليلا تبتلع غصة في حلقها .... بينما كان سيف ينظر اليها متجهما ... همسها يقتله و يشعل غضبه و شوقه كله في آنٍ واحد .....
حين صمت همسها ..... مد يده يحيط بها وجنتها من الجهة الأخرى كي يدير وجهها اليه بشيءٍ من القوة لم يدركه حينها ... و ما أن التقت نظراتهما ... حتى قال بصلابة
( سأكون أنا كل عائلتك منذ اليوم ........ )
صمتت تنظر اليه طويلا .... لم يكن يعرف أنها تفكر في أنه هو من أفقدها كرمة .. الاخت التي لم تعرف سواها لسنواتٍ طويلة ..... خسرتها بسببه ... بسبب أنه أصبح كل عائلتها الآن ... لكن الى متى ؟؟ ...
و ما أن يلفظها من حياته .... من سيكون لها رفيقا في تلك الحياة الباردة القاسية التي كانت كرمة هي مساحة الدفء الوحيدة فيها ....
همست وعد بخفوت
( لا تطلق الوعود ...... فقط تعلم الا تطلقها بسهولة لأنك تزيد الأمر سوءا .... )
حينها لم يستطع مقاومه .... شغفه .... غضبه .... ألمه .....
فأدارها على ظهرها بقوة وهو ينقض عليها .... كصقرٍ متربص .. دون أن يترك لها فرصة الإستيعاب ...
لم يظن أنه قادر على ايذائها , لكنه هاجمها بكل شراسة عواطفه المتناقضة .... حين جذبها اليه بكل قوته بكل عواطفه .... يتنشق عبيرها كله يهدىء , الا أنه كان يشعل من ناره أكثر ....
عيناها في تلك اللحظة كانتا تشبهان عينا عبد الحميد بشدة ... نفس رماديتهما الرخامية الدخانية ...
رغما عنه ... كان يغمض عينيه كي يجبر نفسه على أن يعيد عينيها الخلابتين اليه دون جدوى ...
أحيانا في تلك اللحظات الحميمية تداهم الانسان أفكار غير مرغوب بها ... تأخذه الى منحنى آخر ... كايذائه لأمه بزواجه من وعد و أجبراها على تحمل الأمر بتلك الصورة القاسية بعد كل ما لاقته من ألم في حياتها ...
صدره كان يغلي بعنف فوقها وهو يفترسها بعواطفه .... تمنعها لم يكن بالصلابة الكافية كي يوقفه عند حده ... كانت خجوله و محتاجة لعاطفة تجرفها بعيدا عن هذا العالم ....
يداه تعرفان طريقهما اليها ... عليها .... ... يستشعر كل نبضة جنون يستحثها بها ...
يشعث كل ما يتشعث بها ..... مجنونا بها و مما يحيطها من هالة البراءة و قسوة الماضي
وكم كان في حاجة ماسة لأن توقفة و بشدة ....
كان مغمضا عينيه يتنفس لهيبا غاضبا وهو ينهل من رقتها بقوته .... يرجوها أن توقفه .. أن تطرده ... أن تصيبه بأي شيء ... لكنها كانت ناعمة رقيقة .... شابة للغاية و غضة الروح و القوام ....
النبض في عنقها كان يلهث كلهاثه .... يحاول تهدئته باقتناصه الا أنه كان يصرخ نابضا أعلى و أعنف .. و هي تذوب بين ذراعيه أكثر ...
الى أن كاد يضيع معها تدفعه لذة شريرة .... كاد ....
الى أن أوقفه همسها المتحشرج و عيناها المتسعتان ..... حينها تمكنت من اقتلاعه من عنفه و غضبه و كرهه ....
اشارة خطر أخبرته أنه كاد أن يودي بها في غمرة اختناقه الخاص ..
لم يدري كيف مرت اللحظات بعدها و قد غادره المنطق .... كان يعبث في دولابها بجنون الى أن وصلت يداه الى عباءة كبيرة بسيطة ألبسها لها و هي تشهق بوجهٍ مزرقٍ شاحب ....
لا يتذكر نزوله السلم بسرعة .. أو من قابل وهو يحملها ملهوفا ....
لحسن الحظ أن الوقت لم يكن متأخرا بما فيه الكفاية كي يثير شكوك من رآه في أن تكون مجرد زيارة عادية .. و ترك لهول الموقف حرية التبرير ....
رفع سيف وجهه وهو يحدق بالمكان من حوله بجمود ... ثم لم يلبث أن نهض من مكانه بالقوة دافعا كل تلك المشاعر المتراخية بعيدا ....
وجدها الآن و هي جالسة على حافة السرير بعد أن نزعت الممرضة قناع الأكسجين عنها .. العباءة الفضفاضة المنقوشة تكاد أن تبتلعها ببشاعة .... بينما يدها المرتجفة تبعد خصلة من شعرها خلف أذنها ... و هي تنظر اليه بطرف عينيها متوترة .... متوردة ....
ارتجفت شفتاها في محاولة ابتسامة فاشلة ... ثم همست
( على الأرجح أنك تريد خنقي الآن ....لقد قلبت الدنيا دون داعٍ .....)
لم يرد على الفور .... وهو ينظر اليها بجمود ثم قال بصوتٍ خافت وهو يقترب منها
( أنا مسرور أنكِ فعلتِ ..... )
نظرت اليه وعد وهي تفكر بأنه في معني عبارته .... أيكون في حاجة لشيء قوي يتدخل كي يعيد اليه سيطرته ؟!!
هل حقا تمتلك تلك السطوة عليه ؟!!
وصل سيف اليها ... ثم مسك بذقنها يرفع وجهها اليه وهو ينظر الي عينيها بقوة , ثم قال بخشونة و كأنه غاضب منها
( لقد آذيتك ........ و كنت قد وعدتك الا أفعل ...)
ابتسمت وعد قليلا و هي ترتجف ... ثم قالت بخفوت
( ألم أقل لك ألا تطلق الوعود ........ )
احترقت نظراته حتى اشفقت عليه , فقالت متابعة
( لم تؤذني ...... أنا فقط .... مرهقة قليلا , و أنت كنت !!....... )
اظلمت عيناه أكثر ... لكنها تابعت بجدية
( هل سيكون الأمر كذلك دائما ؟؟ ....... )
أخفضت وجهها لتقول بجهد ... بعيدا عن عينيه القاتمتين
( لأني لا أريده أن يكون يا سيف ...... ربما لم تؤذني جسديا , لكن غضبك يدمغني بشيءٍ لا أستطيع تسميته ... و لا أستسيغه ...... )
لم تستطع مواجهته و هي تنطق بعبارتها الخافتة ...لم تستطع أن تنقل اليه احساسها المهين بالتنازل خطوة بعد خطوة .. احساسها بأن كل كلمة نطقتها كرمة كانت صحيحة . ... و مع ذلك لا تخطو خطوة واحدة في طريق العودة ... بل تنغمس في طريقها الخاص أكثر و أكثر ...
غضبه منها أو من الوضع ... أو حتى من المكان ... يجعل الصورة واضحة لها .. صريحة وواقعية مريرة ... و هي لا تريدها واقعية .... تريدها براقة خادعة .... تريد أخذ ما تستطيعه منها دون أن تحتقر نفسها مع كل لحظةٍ تمر بينهما ....
همست تتابع و هي مطرقة الرأس
( إن كنت لن تستطيع إخفاء غضبك ..... فمن الأفضل أن نتراجع الآن )
الا إنه رفعها لتقف بقوة وهو يجبرها على النظر اليه ثم قال بصوتٍ عميق
( لن يكون ...... فقط اخرجي من هذا البيت و لا تعودي اليه مجددا )
قالت تهز رأسها نفيا
( لن أستطيع ..... لقد حاولت حين أتيت اليك هاربة ذات ليلة , لكني لم أستطع ...... )
رفعت وجهها اليه تقول بقوة تتناقض مع اراهقها الجسدي و النفسي الباديان عليها
( لا تزيد من صعوبة الأمر علي ..... لأنني .... لأنني بالفعل اريد الهرب .. و كنت أريده من قبل ... منذ سنوات و أنا أنتويه .... فرجاءا لا تعيد صباغته ببريق الإغراء .... )
أخفض يده يمسك بيدها بقوة , ثم نظر الي عينيها وهو يقول بصوتٍ أجش
( ذلك البيت محاط بأشباح سوداء لي و لكِ .... و لن أسمح لمكان قديم في أن يسيطر علينا بتلك الصورة )
رفعت وجهها اليه ... ثم لم تلبث أن أخفضته مجددا , ... مواجهة عينيه قاسية للغاية و كأنهما مرآة لما تتجه اليه بقدميها .... فهمست بجفاء
( لكنه بيتي ...... و هناك بداخله يوجد شخص يحتاج الي , حدث أن كان هو أبي ...... صحيح أنني لا أحبه و أضطر يوميا الى التعايش مع ذلك الشعور البغيض في أنني لا أحبه .... و محاولة اقناع نفسي أنه مجرد رجل غريب مسن يحتاج الى المساعدة .... لكني أفشل ... أستمر في الفشل مرة بعد مرة .... )
صمتت قليلا ثم همست بشرود
( نعم أنا أيضا لدي أشباحي الخاصة ..... و التي أحاول محاربتها ..... )
صمتت بعد أن خفتت همساتها .... فظل سيف ينظر الى وجهها المطرق باحساس بالإختناق ... الى أن همست متابعة
( أريد الخروج من هنا يا سيف ..... أرجوك , هذا المكان أصبح يشعرني بالإختناق )
أظلمت عيناه وهو يشعر بنفس اختناقها .... وجودها و الذي على الأرجح سيصبح دوريا بات يخنقه و بشدة .... أما أن يكون هو السبب !! ..... فهذا قطعا لا يحتمل ....
مد يده يمسك بكفها بقوة ... حتى رفعت عينيها اليه و قد كان ينتظرهما كي ينظر اليهما , بكل جمالهما و حزنهما ... ثم دون مقدمات ضمها الى صدره بقوة .... بقوة أكبر .... وهو يزيد من ضغطه عليها عله يخفف من شعوره بالذنب بتلك الضمة القوية .... ثم همس بين خصلات شعرها
( هيا بنا .......... )
.................................................. .................................................. ......................
جلست وعد بجواره وهما في طريقهما الي بيته مجددا , اصراره كان عنيفا ما أن حاولت التكلم و طلب العودة للبيت ....
كان الوقت قد تأخر ..... و كانت من الإرهاق بحيث بدت نباراتها ضعيفة .... و مقاومتها اضعف , سواء بسبب ارهاقها الجسدي , أو بسبب الإرهاق النفسي من هول ذلك الهجوم العاطفي الذي شنه عليها ... معريا روحها من كل مقاومة ......
خلال طريق العودة كانت تختلس النظر اليه كل حين ......
كانت تعض شفتها و هي ترى ملامحه مشتدة و متصلبة ... و نوعا ما شاحبة ....
ابتسمت قليلا في الخفاء و هي تلمح احساسه بالذنب بمنتهى الوضوح ....
و تستطيع تخيل ذلك , أن تنهار بين ذراعيه بعد أيام من ادراكه اعتلال جسدها المرهق ..... يجعل منه وحش مفترس أمام نفسه ....
لكنها في الواقع مدركة أنها أرهقت نفسها بمنتهى العنف خلال اليومين الماضيين .... كان عملها في الخياطة يتكاثر و كأنه يتولد ذاتيا .... طلب خلف طلب .... بعد أن كانت تتمنى أن تحصل على طلب واحد اسبوعيا ...
سعادتها بتزايد انتاجها .... يخفف القليل من قسوة الواقع في بيت والدها و في حياتها الواقعية ....
لذا فان تحذير الطبيب لها من زيادة الإرهاق لم يثبت في رأسها العنيد ولو للحظة واحدة ....
لقد دخل من أذن و خرج من الأخرى في ذات اللحظة ....
لا سبيل لأن ترتاح حاليا .... فالعمل المتكدس لديها كبيرا .... و الإرهاق سيزيد تلقائيا ما أن تبدأ في التدريب ثم استسلام الوظيفة الموقرة المنتظرة منذ سنوات ....
أما حياتها الخيالية مع سيف !! ...... فهذا شيء آخر ....
لذا كان غضبه اليوم في غرفتها ... في سريرها .... في قلب حياتها الواقعية .... كان بمثابة صفعة لها كي تفيق ....
و مع ذلك لم تفق !! .....
خوفها من تلك العلاقة المجهولة حين ذهبت الي بيته سابقا ... تبدد كله في لحظة ,
لم تشعر بالخوف تماما و هي بين ذراعيه ... بل كانت حدة مشاعره من القوة و السرعة بحيث لم تجد الوقت كي تخاف من كل ما هو مجهول لها .....
احمر وجهها و ازدادت نبضاتها بعنف ......
انها ثالث مرة تستسلم له موافقة غير مدركة .... كي تأخذ علاقتهما منحنى جدي و تنتهي من تأنيب نفسها و التفكير في التراجع مع كل لحظة ....
و في الثلاث مرات كان يبتعد .... و يتركها فريسة التشوق و ..... التفكير في التراجع من جديد و هي لا تزال على البر !! ....
أيا كان فهي الآن و بعد أن هدأت قليلا .... متجهة الى عالمه , بدأت تشعر بنوع من المتعة في مراقبة احساسه بالذنب .....
بداخلها جانب غاضب منه .... و جانب مشفق عليه ..... و جانب آخر .... مستمتع قليلا ....
احمر وجهها أكثر و أكثر و الذكرى تعود اليها مع نشاط وعيها بالتدريج ... لتذهل من نفسها و من قدرتها على الإستسلام لهذا الشخص ...
سيف الدين فؤاد رضوان ... طوفان كاسح .... كيف السبيل لمقاومته !! ...
أوقف سيارته أخيرا أمام البيت .... ثم نظر اليها ليفاجىء بها تراقبه بقوة ! ..... فصمت يبادلها النظر بجفاء , ثم قال أخيرا بخفوت
( هل تشعرين بالتعب ؟ ........ )
أرجعت شعرها خلف أذنها و هي تتورد قليلا ... لكنها هزت رأسها نفيا ....
لكنها ارتعشت حين هبت نسمات باردة ,من خلفها من نافذتها المفتوحة .... فطيرت شعرها تبعثره حول وجهها .... فضمت جسدها بذراعيها بقوة .... حينها عبس سيف وهو يدرك أنها ترتدي عباءة خفيفة هي أول ما وصلت اليه يداه .... فمد يده بسرعة الى صدره , ثم نظر الي قميصه المفتوح نصف عدد أزراره بعشوائية ... ليدرك أنه قد نسي سترته في بيتها .... مجددا !! ....
حينها نظر اليها وهو يقول بخشونة
( هيا الى الداخل قبل أن تتجمدي من البرد ..... )
نزلت معه في صمت .... و ما أن استقرت واقفة حتى وجدت ذراعه خلفها تضمها الي صدره بعد ان خرج ودار حول مقدمة سيارته ..
رفعت وجهها اليه ... و كان هو ينظر اليها ... للحظاتٍ عادت اليهما جنون الاشتعال بينهما منذ فترة ....
على الرغم من سوداوية الموقف .... الا ان الشرر بينهما يعلو كلما نثرا الرماد عنه .... فأخفضت عينيها بسرعة ...
ضمها اليه يدفعها للبيت قبل أن يدخلا بصمت .....
و كم تمنى أن يكون الجميع نياما ... لكن للأسف ليس كل ما يتمناه المرء يدركه , فكانت ورد هي أول من وجدها تسير عبر البهو ... ممسكة بكوب شوكولا ساخن ... و ما أن نظرت اليهما حتى تسمرت مكانها تنظر اليهما بذهول .. و تحديدا الى وعد ... ثم قالت بنفس الذهول دون الحاجة للذوق
( ياللهي !! ...... ما تلك البشاعة !! ... )
اضطربت وعد و ضاعت الألوان من وجهها ... و هي تقبض باصابعها تلقائيا على قماش العباءة
الحقيقة , أنها للمرة الأولى تعذرها .... أي غباء جعله يختار ذلك الجلباب الذي فصلته يدويا كي تنظف به البيت , كي لا تتسخ بيجاماتها المحدودة .....
كان شيئا فضفاضا .... يبدو كشكل سداسي الأضلع منقوش محيطا بها ..... و كي تجعل شكله لطيف نوعا ما ,, فقد زينت حوافه بشريط أخطر !! .... و كان هو الشريط الوحيد المتوفر لها في هذا الوقت .... لذا من الطبيعي الا يتناسب مع ألوانه الحمراء و البنفسجية !! ...
امتقعت وعد بشدة ... و هي تقف أمامها تتمنى لو تنشق الأرض و تبتلعها ....
الا أن ورد تابعت دون أي محاولة للتحرج
( ماهذا المنظر ؟!! ..... من أين أتيتما و كيف جعلتها تخرج بهذا المنظر المخزي !! )
عضت وعد على شفتها بقوة ... الا أن سيف شدد على امساكه بها وهو يقول بخشونة
( انه ظرف خاص ......... )
هتفت ورد بحنق
( ظرف خاص يجعلها تخرج بتلك الصورة !! .... و تدخل بها أمام الجيران ! ...)
قال سيف لوعد و عيناه على ورد
( اصعدي انتِ يا وعد ....... )
ارتجفت وعد قليلا .... لكنها أسرعت تصعد ممتنة لها اخراجها من هذا الموقف .... لاعنة غباءه في اختيار جلباب التنظيف ! .....
بعد أن اختفت وعد عن ناظريهما .. التفت سيف الى ورد يقول بخشونة
( ورد خففي من هجومك على وعد و تقبلي الأمر الواقع .... رجاءا .... لأجلي أنا .... اليس لي أي خاطر عندك !! ...... )
نظرت اليه بذهول و اشتدت أصابعها فوق كوبها الساخن لا تأبه باحتراقه و هي تهمس له بشراسة
( و هل ما تفعله هذا يترك أي خاطر !!! ...... أنت تفضحنا بها ! .... )
هتف سيف بقسوة
( ورد ...... توقفي عن ذلك ..... )
أعجزها القول و هي ترفع ذراعيها بذهول . حتى أن بضع قطرات انسكبت على قميص سيف فانتفض للخلف شاتما ... لكنها لم تستطع النظر اليه طويلا و هي تبتعد عنه بقوة .... وهو يتنهد متأففا ...
.................................................. .................................................. .......................
سارت وعد في الرواق بتعثر في الجلباب الواسع الطويل .... متجهة الى غرفة سيف , تسرع الخطا كي تحتمي بها ....
لكن ما أن مرت بغرفة منيرة .... حتى سمعت صوت تأوهها الخافت ...
تجاوزتها وعد و هي تنظر الي الباب بعدة خطوات .... لكنها توقفت مكانها ... تطيل برأسها عل سيف يأتي سريعا فيرى ما بها.... و حين قررت تجاهل الأمر و المرور ... سمعت تأوه منيرة مجددا ...
حينها اتجهت بحذر الى الباب ... ووقفت أمامه مترددة قليلا , ثم لم تلبث أن وضعت أذنها على الباب
و فجأة فتح الباب لتتعثر خطوة للأمام لكنها تمالكت نفسها و هي تقف أمامها بمظهر مخزي ... أمام منيرة الممسكة بظهرها المتألم .... والتي نظرت اليها بجزع للوهلة الأولى , ثم عقدت حاجبيها بشدة و هي ترمق منظرها من قمة رأسها حتى أخمص قدميها ....
قالت وعد بخفوت
( أنا ...............)
الا أن منيرة قاطعتها بصوت خافت مذهول
( هل كنتِ تتنصتين على باب غرفتي للتو .. أم أنني فقط أتخيل ذلك !! ... )
هزت وعد رأسها نفيا بسرعة .. ثم قالت بتلعثم
( كنت .... لم .... لقد سمعتك تتأوهين ...لذا كنت .... )
قالت منيرة تقاطعها للمرة الثانية
؛( و ما دمتِ قد سمعتني فلماذا تتنصتين ؟!! ........ )
ارتبكت وعد بشدة و قبضت أصابعها على الجلباب المنقوش .... فأخفضت منيرة نظرها مجددا و هي تسألها بتعجب
( هل أنتِ آتية من الخارج أم من غرفتك ؟!! ..... متى وصلتِ ؟؟؟ )
ارتبكت وعد أكثر ... لكنها تماسكت و هي تقول بخفوت
( لقد وصلت للتو ...... مع سيف )
و كأننها تطلب الحماية من اسم سيف كي ينقذها .... لكن منيرة عبست أكثر و تعقدت ملامحها و هي تقول بشدة
( و ما هذا اللذي ترتدينه ؟!!! ........ )
رفعت وعد يدها الى جانب وجهها تدلكه بتوتر ... ياللهي ... هذا المخلوق سيف يضعها كل يوم في وضع فضائحي أسوأ من سابقه ..... بدأت تشك في أنه يتقصد ذلك !! ... بدأت تشك ؟!! .... بل هي متيقنة أنه يتسلى بتلك المواقف ...
ترددت وعد ... ثم همست نفس عبارة سيف التي قالها لورد , فهي لا تملك غيرها
( إنها ظروف خاصة ..... اضطرتني لكي .... )
قاطعها صوت ورد من خلفها و هي تقول بصرامة و حنق
( أنت ...... ماذا تفعلين هنا ؟!! ... )
و قبل أن تستدير وعد فوجئت بقبضتين تدفعان ظهرها مما جعلها تسقط على صدر منيرة التي تراجعت للخلف ... و هتفت بجزع تتمسك بوعد كي لا تسقط
( توقفي يا ورد ........ )
الا أن ورد كانت قد دخلت الغرفة بعنف و أغلقت الباب خلفها بقوة .. تنظر الى وعد التي اتسعت عيناها بعدم تصديق .... هل كل هذه العائلة فاقدة السيطرة بهذا الشكل !! ...
رفضت وعد الهروب و هي تراها تتقدم منها , الا أن منيرة وقفت في المنتصف تقول بحدة
( كفى يا ورد .... لا نريد فضائح ,دعيها تخرج من هنا ..... )
الا أنها كانت كمن تزيح حجرا .. حيث تجاوزتها ورد بالقوة و هي تتجه الى وعد التى تسمرت مكانها بعينين متسعتين .. فعاجلتها بدفعة أخرى من قضتيها في كتفيها جعلت وعد تتعثر خطوة أخرى للوراء وهي تتأوه بصمت ...
بينما كانت ورد تنطق بشراسة من بين أسنانها
( ماذا تفعلين بغرفة أمي ؟!! ....... ماذا تريدين منها ؟!! ..... أتريدين قتلها و اصابتها بداء القهر .... )
لم ترد وعد و هي تنظر اليها بصدمة .... حتى جارتها الشرسة لم تكن بنفس شراسة ورد المجنونة ...
دفعتها ورد مرة أخرى و كانت هذه المرة من القوة بحيث ارتطمت بالجدار خلفها ... حاولت وعد تذكر أي وسيلة للدفاع عن نفسها لكن دون جدوى ... أما ورد فقد أمسكت بكتف جلبابها تجذبها منه بالقوة حتى واجهتها بالمرآة كي تنظر الي صورتها ... و هي تقول بوحشية
( انظري الى نفسك ...... انظري الى منظرك و أخبريني ماذا ترين ؟!! ..... )
ظلت وعد تنظر الى صورتها الباهتة في المرآة ... وورد من خلفها متشبثة بكتف جلبابها ....
ظلت وعد صامتة قليلا ... و عيناها بعيني ورد .... ثم تكلمت أخيرا تجيب السؤال بمنتهى الهدوء و عيناها تبرقان
( زوجة سيف ....... )
بهتت ورد للحظة و هي تسمع جواب وعد الهادىء ..... ثم لم تلبث أن أدارتها اليها و قد انتابها غضب مجنون , متمسكة بمقدمة جلبابها تهزها اليها و هي تهتف
( هل تتحديني ؟!! ..... هل صور لكِ غبائك أن بإمكانك أن تتحديني ؟!! )
ردت وعد بصوتٍ جامد و هي تنظر الي عيني ورد
(لا داعي للتحدي ..... أنا زوجة أخيك ....)
فغرت ورد شفتيها بقسوة ... ثم لم تلبث أن أغلقتهما و هي تقرب وعد منها بقوة لتقول من بين أسنانها
( ستكونين واهمة لو ظننتِ للحظة أنني سأسمح لكِ بممارسة أيا من ألاعيبك و ألاعيب والدك هنا.. لو اقتربتِ من أمي مجددا فلن أرحمك ..... )
كانت منيرة هي من اندفعت لتتمسك بقبضتي ورد الحجريتين و هي تحاول أن تفكهما بكل قوتها كي تحرر وعد هاتفة بجزع
( اتركيها يا ورد ..... اتركيها ..... )
الا أن حرب العيون بين وعد وورد تمنعهما عن الحياد ...
هزتها ورد مرة أخرى و هي تقول بخفوت شرس
( هل تصدقين أنك بالفعل زوجة سيف الدين فؤاد رضوان !! ..... أنتِ تسلية يا حبيبتي ... انتِ مجرد تسلية رخيصة سيمل منها بعد حين )
لم ترمش وعد بعينيها و لم تخسر التحدي في تلك الحرب على الرغم من الاحساس المضني بداخلها من الالم و المرارة ...و الخوف .. ثم قالت أخيرا بصوتٍ ميت خافت ..... قاسٍ
( و مع ذلك ..... لا يزال عليكِ تقبل وجودي هنا حتى ذلك الحين )
عادت ورد لتصمت و هي تنظر اليها كمن ينظر الى وباء .. ثم لم تلبث قالت هتفت
( أيتها الحقيرة .... الدونية .... الوضيعة .... )
.................................................. .................................................. ......................
وصل سيف الى غرفته بعد شرب فنجان قهوة كان في أمس الحاجة له ..... كي يصفي تفكيره , و يتمكن من ..... مقاومتها ....
النحيلة ذات الجلباب الكارثي ....
حسنا الليل لا يزال طويلا ... و الأيام أطول ....
و هي ستكون أمام ناظريه ... بين ذراعيه ... كل ليلة ....
فكيف يقاومها و يقاوم مشاعره المتناقضة تجاهها ....على ما يبدو ان روحه قد اختارت شغفا لا فرار منه كوجه آخر لكره كنيتها .... و يبدو أن الحال سيظل بهذا الشكل مهما رفضه ...
و عليه منذ الليلة أن يراعي بقائها على الأقل حية بين ذراعيه ....
تنهد سيف بكبت وهو يدخل الغرفة ... ثم لم يلبث أن عبس وهو يراها خالية ...
فتقدم عدة خطوات وهو ينادي بخفوت
( وعد !! ........ )
اتجه الى الحمام بسرعة و قد بدأ القلق يعصف به من أن تكون قد اصيبت بالإغماء في الداخل ...
ففتح الباب دون اذن وهو ينادي
( وعد ....... )
لكنه كان خاليا كذلك ! ..... عبس سيف بشدة وهو يهمس بقلق
( أين ذهبت ؟! ......... )
أسرع خارجا وهو يبحث عنها في الرواق ..... متسائلا إن كان ورد قد اغتالتها و أخفت جثتها في مكانٍ ما ... لم يكن من العقل أن يتركها تصعد وحدها ....
همس سيف يناديها عبر الرواق
( وعد !! ........... )
بينما كانت وعد فت تلك اللحظة تخلخل كالغربال بين يدي ورد و منيرة تحاول تخليصها بجزع ...
كانت ورد في عالم من الغيظ و هي تقول من بين أسنانها .....
( من أي مصيبة ألقيتِ علينا !! ...... كنا سعداء مرتاحين .... و فجأة تظهرين كالحية من تحت الأرض , تفرقين بيننا .... و تفضحيننا فضيحة تلو الأخرى .... )
لم ترد وعد و هي تنظر اليها بعينين ذاهلتين .... غير مستوعبة جنونها بعد ... بينما تابعت ورد بقسوة تشدد على كل حرف
( أنتِ هنا خادمة ....... أنتِ لستِ أكثر من خادمة .... و إن رأيتك تتجولين في البيت مرة أخرى خاصة عند غرفة أمي فسأكسر قدمك ........ )
قالت وعد بقسوة خافتة ..... كمن يضرب كل صفعةٍ و أخرى ثم يجري بعدها .....
( أنا لست خادمة عندك ...... أنا زوجة صاحب هذا البيت ..... كلميه هو و أقنعيه بطردي منها و حينها سأكون ممتنة لكِ ..... فهو متشبث بي لدرجة ميؤوس منها .... )
انتهى الأمر ..... لقد وصلت الي نهايتها بنفسها .... صرخت ورد من بين أسنانها و هي تهزها بقوة ...
بينما سمعت صوت سيف يناديها من الخارج .... فسارعت تصرخ بأعلى صوتها
( سيف ..... يا سيف ..... )
فتح الباب بعنف و دخل منه سيف وهو ينظر مذهولا للوهلة الأولى الى وعد التي كانت تتخلخل متناثرة الشعر , شاحبة الوجه بين ذراعي ورد ....
صرخ سيف بقوة
( ورد اتركيها حالا ........ )
اندفع اليها مخلصا وعد بالقوة من بين براثنها ... وهو يصرخ
( هل جننتِ ؟!! ...... )
ضم وعد الى صدره و ذهل من رؤية وجهها الشاحب كالأموات .... فربت على وجنتها بقوة وهو يهتف بقلق
( وعد ..... وعد ..... أجيبيني ... هل أنتِ بخير ..... )
نظرت اليه بعينين متسعتين ... فهتف و قلقه يتضاعف
( هل تتنفسين ؟...... وعد ....إن لم تردي سأجعلك تنفسين بطريقتي الخاصة )
هذا ما ينقص !! .... و هنا في غرفة أمه و أمام ورد المجنونة !! ....
زفرت وعد أخيرا تحرر نفسها المتوقف من الذهول ... ثم أومأت بسرعة و هي تهمس بتعثر
( أنا بخير ...... أنا بخير ...... )
زفر سيف براحة ..... ثم نظر الى ورد بشر وهو يهتف
( لقد كادت أن تموت بيدك ...... )
هتفت ورد بشراسة
( اذن يجب عليكِ أن تبقيها في غرفتك ..... و الا ستحتار في جمع أجزاءها إن لمحتها تمر من أمام غرفة أمي ....... أنسيت أن امي رقدت بفراشها عدة أيام بعد فعلتها السوداء المتقصدة كي تقهرها ..... )
لم يرد سيف ..... و لم يستطع أن يجادلها ......
أحيانا هو نفسه لا يفهم وعد ..... و لن يفعل .... و أسهل ما قد يصل اليه تفكيره أن جينات عبد الحميد العمري تظهر لسطح طباعها في لحظاتٍ مفاجئة ... و هي بالفعل آذت أمه و لم يحاسبها على فعلتها تلك ....
نظر سيف الى ورد بغضب , ثم لم يلبث ان قبض على كف وعد يجرها خلفه وهو يقول
( هيا الى غرفتنا ..... و لا تخرجي منها الليلة .... أريدك حية في الصباح بعد هذه الليلة التي تبدو و كأنها لن تنقضي أبدا ..... )
اضطرت وعد الى الجري متعثرة خلفه مجارية لخطواته الواسعة .... بينما الغضب يبدو جاليا على وجهه , فهمست بقلق
( لقد كانت أمك تتأوه ... و لم أقصد أن أضايقها , أقسم لك ..... )
أدخلها سيف الغرفة بالقوة ... ثد دخل و أغلق الباب خلفه ووقف ينظر اليها بملامح صلبة ... فتابعت تهمس
( لم أقصد ......... صدقني )
قال سيف بلهجةٍ آمرة
( وعد ..... ابتعدي عن أمي , ليس هذا الوقت المناسب لمد أواصر الصداقة بينكما ....... )
وقفت مكانها تنظر اليه بصمت .... عيناها قصة .... تخبره بأنه يؤلمها , و على الرغم من أن ليس لها حق في ذلك , الا أن قلبه يهفو اليها متعاطفا رغما عنه ...
قال سيف بجمود
( فقط حاولي الا تكوني ابنة عبد الحميد ..... لا تتعمدي ايذاء من يدافع عن نفسه )
اتسعت عيناها بذهول ووضعت يدها على صدرها هاتفة
( من اللذي يهاجم و من اللذي يدافع عن نفسه !!! ....... أنت لم ترى ما فعلته بي أختك المجنونة !! )
قست عيناه فجأة .... و تجمدت ملامحه أكثر فاقترب منها عدة خطوات ... و كانت هي من تراجعت للخلف بذعر حتى ارتطمت بالباب رافعة ذراعيها أمام وجهها قائلة و هي تغمض عينيها
( أنا آسفة ...... لم أقصد )
وقف أمامها على بعد خطوةٍ منها .... ينظر اليها واجما , ثم قال أخيرا بخفوت صارم لم يلن بعد
( لم أكن لأضربك أبدا يا وعد ......... أبدا )
ظلت مكانها تتنفس بسرعة قليلا دون أن تخفض ذراعيها ثم لم تلبث أن أخفضتهما .... و هي تقف مكانها مطرقة برأسها ... فقال سيف بخشونة
( هل السبب تصرفي معك في غرفتك منذ ساعات ؟؟ ...... )
بقت صامتة قليلا , ثم هزت رأسها نفيا .... و حين تكلمت قليلا قالت بفتور
( لم أعتد الرد غير بالصفعات ...... خاصة حين كنت أضعف من ذلك )
لم يرد عليها سيف طويلا .... و هو يشعر بشيء حاد يخدش صدره ...و شتائم قذرة بداخله موجهة الى ذلك الذي يدعي أنه رباها .... لن يتعجب من أي تصرف تتصرفه وعد عبد الحميد العمري ... فهي ببساطة عديمة التربية .... و هذا ليس ذنبها ....
قال أخيرا بسخرية خشنة بها لمحة رقة .... فقط لمحة
( و هل يعقل أن تكوني يوما أضعف من ذلك ؟!!! ....... )
أطمئنت لنبرة صوته الخشنة ... فرفعت عينيها اليه , ثم ابتسمت فجأة لتقول
( آهاااا ..... أنت لم ترني و أنا صغيرة , كنت مسكينة و متقبلة لكل شيء ...بينما أنا اليوم في عز أيامي ,
لا يستطيع أحد هزيمتي .... لأن ببساطة لا شيء عندي كي أخاف عليه أو أخسره ..... )
قال سيف بخفوت عميق وهو ينظر الي عينيها
( حتى أنا ؟؟ .............. )
اختفت ابتسامتها و هي تنظر الى عينيه , رافعة وجهها اليه .... ثم قالت بعد فترة طويلة
( حتى أنت ........ ماذا ؟!! .... )
اقترب منها حتى لامسها ... ثم رفع يديه يضعهما على الباب على جانبي وجهها ... يميل اليها حتى حاصرها تماما ,. ثم قال بصوتٍ عميق جدا
( حتى أنا لا أستطيع هزيمتك ؟؟ ....... )
سرت رعشة بسيطة بكيانها ... لكنها ظلت رافعة وجهها اليه , ثم همست
( لا أقصد التحدي أو الإستفزاز صدقني ..... لكن لا عزيز عندي .... لذلك فإن هزيمتي صعبة , تلك طبيعة اكتسبتها ..... الأمر خارج عن ارادتي .... )
أظلمت عيناه قليلا ... ثم سأل بخفوت خشن
( طبيعة اكتسبتها أم ورثتها ؟؟ ....... )
تصلبت ملامحها و هي تنظر اليه .... ثم لم تلبث أن قالت ببرود
( أو ورثتها .... لما لا ؟ ...... )
صمتت لحظة ... ثم سألت بخفوت
( هل ستفقد أعصابك كما فعلت منذ ساعات ؟!! ...... )
الآن أظلمت عيناه أكثر ... و تشنج فكه , .... لكنه رفض تحديها الوقح , و رغما عنه اشتعلت جذوة اللهب في عينيه من مجرد الذكرى ..... فأسبلت جفنيها و الذكرى تلفها هي الأخرى , تخبرها بوضوح عما كان وضعها .... و ما كان ليكون ....
سألها سيف فجأة بصوت قوي
( هل أؤثر بكِ ؟؟ ........... )
زادت ارتعاشتها .... و لم تتجرأ على رفع وجهها اليه ... لكنها همست بخفوت بعد فترة طويلة
( أنت ...... تعلم أنك ..... تؤثر بي )
التمعت عيناه بوحشية ليبعد يديه قبل أن يضمها بين ذراعيه بقوةٍ يرفعها من الأرض ... يغيبها بعالم رقيق غير ذلك الذي اختبرته في بيت والدها .... فأحاطت عنقه بذراعيها بخجل و تردد ..
همس بعد عدة لحظات بين خصلات شعرها بصوتٍ أجش منفعل
( ليس هذا ما قصدته ..........)
أبعدت وجهها عنه ... تتقبل قبلاتٍ رقيقة على وجنتها و عنقها .... لتخفي وجهها بعنقه الدافىء ...
فقال سيف بخشونة دون أن ينزلها أرضا ...
( أنتِ صامتة !! ......... )
شعر بشفتيها تقبلان عنقه تطلبان خداعه ... فقال بخشونة و هو يرتجف بفعل خداعها
( أنتِ لا تزالين صامتة !! ...... )
ابتلعت ريقها بصمت ... و قد شعر هو بتلك الحركة البسيطة ... فرفع وجهه ببطء , ثم أنزلها خطوة خطوة ... الى أن وقفت أمامه مطرقة برأسها .... فقال سيف بخشونة و جفاء
( أنتِ مرهقة جدا ........ اذهبي و خذي حمام ساخن ... لكن لا تغلقي الباب )
ظلت مطرقة قليلا ... تختلس النظر اليه ... بينما كانت عيناه بعيدتان عنها , فابتعدت هي الأخرى ببطء تتجه في اتجاه الحمام .... الا أن سيف استوقفها قائلا بصرامة
( وعد ...... اياكِ و التكلم على ورد بتلك الطريقة مجددا .... مفهوم ؟؟ .... )
أومأت وعد برأسها صامتة ... ثم همست بخفوت
؛( أنا آسفة ......... لكنها مخيفة نوعا ما ... )
تضخم صدره غضبا و هو يقول بشدة محذرا
( وعد .......... )
الا أنها تابعت بخفوت
( هل ستتركني هنا بمفردي حين تذهب للعمل ؟؟........)
قال سيف عابسا
( سيبدأ التدريب خلال أيام ..... لذا ستذهبين معي , لا داعي للقلق )
ترددت وعد قليلا ... ثم قالت بخفوت و هي تقبض على قماش جلبابها
( لن يكون الأمر دائما ........ الحياة هنا تبدو ... )
أخفضت وجهها ثم قالت بتردد
( سيف ...... أعتقد أننا ... ربما من الأفضل لو بقينا في ..... بيتي بعد الزواج .... أنا لا أمانع ... )
هتفت سيف بعنف جعلها تنتفض في مكانها و هي تحدق به مذعورة ...
لكنه تمالك نفسه بسرعة ... متنهدا بقوة وهو يبعد شعره عن جبهته , ليقول بتوتر
( أخبرتك أنه لا داعي للقلق .......ما أن نتزوج حتى يستقر الوضع .. )
تشابكت أصابعها و هي تقول بتلعثم
( لقد أوشكت على أن تضربني ....... لقد مزقت كتف الجلباب ....انظر !! )
نظر سيف الي حيث تشير أصابعها الى مزق صغير في كتف الجلباب
امتعض سيف وهو يقول رافعا حاجبيه
( كم خسرت البشرية بخسارة ذلك الجلباب !! ...... )
انعقد حاجباها بشدة و هي تتخصر بذراعيها هاتفة
( اياك أن تتكلم عنه ..... أنت من اخترته , .... ياللهي بماذا كنت تفكر حين انتقيته دون غيره !! ... )
رفع احدى حاجبيه ليقول بخبث
( كنت مشغول البال ..... أفكر مذعورا باختناقك , محاولا أن أغض بصري عنكِ ......... )
احمر وجهها بشدة ... لكنها مطت شفتيها بامتعاض تقول
( ها .. ها ... ظريف جدا ...... ليكن بمعلومك , الازمة الجديدة التي حدثت بيني و بين والدتك و اختك ... انت السبب فيها باختيارك لهذا الجلباب .... )
لم يرد و هو ينظر اليها بعمق .... انها تتهرب ..... وهو يجاريها بهربها .....
قال اخيرا آمرا
( هيا ...... اذهبي ...... )
أخفضت رأسها ثم أسرعت هذه المرة تبتعد عنه قبل أن يطالبها ...... بالمزيد ... مما لا تستطيع أن تمنحه .....
و بعد فترة طويلة ..... كان جالسا على احدى مقاعد الغرفة ... مسندا فكره الى اصبعيه ... يتأملها في صمت .....
و كانت قد انتهت من حمامها ... و تجلس الآن على سريره على ركبتيها ... مرتدية سترة بيجامته الحريرية التي على ما يبدو أنها قد أعجبتها و لن تتخذ غيرها بديله ..... و ليحترق هو برؤيتها بها كل ليلة ....
شعرها المبلل ...منسدل على كتفيها و ظهرها بحرية كماء المطر .... مما بلل السترة ...... و كأنه ينقصه المزيد من التدريب على ضبط النفس !! .....
كانت ملامحها مبتسمة و عيناها مبهورتان و هي تطالع هاتفه المتطور عن هاتفها بمراحل .....
لم تمسك يوما هاتفا مثله ..... كان يبدو كصديق متفاعل معها و هي تتعرف عليه بسعادة ....
صينية طعام موضوعة بجوارها .... تلتقط منها كل حينٍ و آخر .... قطعة اي شيء من اي طبق لتدسه في فمها المتكور دون ان تنزع عينيها عن الهاتف ....
همس سيف بصوتٍ عميق للغاية دون ان يتحرك من مكانه
( هل يعجبك ؟......... )
ردت بهدوء و ملامحها مبتسمة دون ان تنظر اليه و تبتعد عن الهاتف
( انه راااااااائع ....... لا عجب ان يدمنه الناس )
لم يرد عليها وهو الآخر مبهورا في صمت ... و دون ان يظهر ذلك على ملامحه مثلها .....
انبهارها يثير متعته .... لم يعرف من قبل أن التأمل متعة !! .....
أن النظر لتعابير شخص باختلافها قد يكون كالنظر الى لوحة انسانية .....
برائتها الفطرية تثير به شتى المشاعر .... على الرغم من انها تقاومها و تغلفها كي تظهر بمثل ذلك الهدوء و القدرة على التحمل ... الا ان بداخلها طفلة توقفت عن النمو منذ سن معين .... سن يطلب الكثير و يحتاج الى الكثير ......
نظر اليها و ابتسامتها تتسع قليلا ما ان التقط اصبعها لمسة معينة أصدرت صوت تصوير الكاميرا ...
حينها امسكت الهاتف عن بعد توجهه لها .... و دون وعي بدأت في اتخاذ أوضاع اغراء ساذجة بملامحها و هي تلتقط لنفسها الصور .....
ابتسامة ضئيلة لوت زاوية شفتيه وهو يتابعها ....
نعم ما قالته صحيح ..... لا شيء يستطيع ان يهزمها .....
لقد خرجت بالكاد من محنة منذ عدة ساعات ...... و ها هي الآن بدلا من الإنزواء و البكاء رعبا ... تجلس على ركبتيها و تلتقط الصور الي نفسها !! ...
ربما ..... ربما لم يكن هناك اي رعب ...... كم يتمنى ذلك ...
لأن احساسه بالدونية يتزايد مع كل لحظة ........
ارتعشت و هي تدلك ذراعها قليلا ... بينما جلسة تصوير غلاف المجلات التي تخوضها تلك لم تنتهي بعد !!...
فقال بخفوت دون ان يتحرك من مكانه ...
( هل تشعرين بالبرد ؟!! ....... )
نظرت اليه بدهشة و كأنها قد نسيت وجوده تماما .....
امتعض بداخله وهو يفكر ... " لا عجب من ذلك .... فالهاتف يربح "
ارتجفت مرة أخرى رغما عنها ... لكنها همست بخفوت
( الشتاء سيحل سريعا على ما يبدو هذا العام ....... )
نهض سيف من مكانه بتثاقل .... مبتعدا عن لوحته مجبرا ....
فاتجه الى دولابه يخرج منه كنزة صوفية مفتوحة .... ثم استدار الى وعد يلقي اليها بالكنزة فحطت على وجهها قبل أن تستطيع أن تمسكها ....
أغمضت وعد عينيها في لحظة سحر .... و قد أزكمها عطره الثقيل و رائحة جسدة المعبقة بهما الكنزة ....
و مع نعومتها الصوفية الراقية بدت كمعزوفةٍ حالمة فوق بشرتها ..... أسكرتها .... و كل ذلك في لحظةٍ واحدة !! ...
أمسكت وعد بالكنزة ... تنظر اليها ثم ارتدتها ببطء تزيح شعرها من تحتها الى جانب كتفها ... مظهرة عنقها الطويل كعنق بجعة ..... بدت كراقصة باليه أمام ناظريه ...
ليس الأساس جمالها .... أو اكتمال و اكتناز قوامها ..... بل هو سحر تعابيرها الشفافة الشاردة ...و حركة أصابعها برشاقة و بطء .... و كأن تلك الأصابع شاردة هي الأخرى ...
كبت سيف تنهيدة احتراق وهو يعود الى مقعده و يتأملها من جديد ..... الى أن رفعت اليه وجهها المبتسم لتهمس بخجل
( اليس لديك بيجامات شتوية ؟!! ........ )
لم يرد للحظة وهو يتشرب ملامحها ... ثم قال أخيرا بخفوت
( لا ...... لا أحتاجها .... لأني لا أرتديها .... )
احمر وجهها و هي تتذكر منظره مستلقيا في سريرها بدون قميصه ... لكنها صرفت تلك الذكرى بالقوة ., فقالت بعصبية مازحة
( الا تشعر بالبرد أبدا ؟!! ......... )
رد سيف متمهلا
( لا أعرفه تماما ...... طاقتي عالية )
عضت على شفتها و تعاقبت الألوان على وجهها ....
و ازداد الجو سخونة على الرغم من البرودة !! ....كعبارة صباح الخير بالليل !! ...
نعم شخص مثله ... طاقته من الممكن أن تولد كهرباء لحيهم كله ....و هي الأدرى بذلك !! ... من الطبيعي الا يشعر أمثاله بالبرد !! ...
تزايدت نبضات قلبها و الشحنات تتذبذب بينهما في الغرفة ...
فقالت كي تبددها
( من الواجب اذن أن أنبهك أنني أرتدي في الشتاء بيجامتين و ثلاث أزواج من الجوارب ... و طاقية روسية من الفراء قديمة لا أعلم سبب وجودها في البيت .... )
ظل ينظر اليها طويلا و عيناه تلمعان بطريقة اخافتها .... ثم قال أخيرا بخفوت و عيناه تخترقان عينيها
( رائع .... سأكون أكثر من سعيد وقتها ... بتخليصك منهم واحدا تلو الآخر ... لكن يمكنك الإحتفاظ بالطاقية ذات الفراء ..... )
احمر وجهها و اشتعلت وجنتيها .... لكنها همست بامتعاض بات يعرفه جيدا حين تريد التهرب منه
( هذا كرم بالغ منك ....... )
رد سيف بهدوء
( كي تعلمي فقط أنني لن أحرمك من شيء ..... )
ردت وعد باتزان دون أن تنظر اليه و هي تزرر كنزته الناعمة ... مستمتعة بدفئها و رائحتها
( أنا ممتنة ...... )
ابتسم قليلا وهو يتابعها .... يراقبها .... ما أن تعالا صوت طرقاتٍ خفيفة على زجاج النافذة حتى ارتد رأسها الى الخلف تنظر اليها .... ثم همست فتور
( انها تمطر !! ............ )
رد سيف يلاحق نظراتها الضبابية
( نعم ...... أول أمطار الشتاء على ما أعتقد )
الا أن وعد نهضت من على السرير ببطء ... تتجه الى النافذة , لتزيح الستارة قليلا بأصابعها .... و هي تميل برأسها قليلا تتابع أنهار الأمطار الصغيرة فوق الزجاج ... لتهمس بلا وعي
( لا أحب الأمطار ........ )
نهض سيف من مكانه مجددا .... الى أن وصل اليها حتى لفحت أنفاسه شعرها الندي ... ثم همس بخفوت
( لا تقولي ذلك ...... إنها خير )
ردت وعد بوجهٍ شاحب
( لكنها تشعرني بالبرد ....... تخيفني )
همس سيف بخفوت وهو يقاوم رغبة عنيفة في أن يضمها لصدره ... لكن في تلك اللحظة هو لم يعد يضمن نفسه
( لماذا ؟!! ...........)
تنهدت وعد بخفوت لتهمس شاردة
( كانت لدينا فتاة في الدار ..... تعود الى عنبر الفتيات ليلا ... مبللة من ماء المطر ... ترتجف بردا , لم تكن تبكي .... لكن ملامحها كانت تخبرني أنها قد عادت للتو من أمرٍ بشع .... تظل ترتجف الى أن تجف ... بعد أن ألفها بالغطاء مرة بعد مرة ......)
أخفضت وجهها ... بينما انتفض صدره وهو يمسك بكتفيها يجذبها كي تستند الى ظهره يهمس بخشونة
(ربما كنتِ تتوهمين حينها !! ....... )
هزت رأسها المنخفضة نفيا ... ثم همست باختناق
( لقد هربت بعد فترة ...... بعد أن ..... شوهت أحد موظفي الدار .... و قد قبض عليه فيما بعد ... )
عبس بشدة ... بينما تعالت ضربات قلبه بقوة تضرب ظهرها ... و هو يتخيلها في مثل هذا الموقف ...
ثم همس بوحشية
( هل كانت دارا .... سيئة ؟؟ .... )
أومأت برأسها تؤكد ظنه .... و همست بفتور
( سيئة للغاية ..... مليئة بالفساد ... و قد ازيلت فيما بعد .... )
كانت أصابعه التي تدلكان كتفيها ... تقبض على لحمها بشراسة و كأنه يحميها رافضا التخيل ....
تنهدت وعد تنهيدة طويلة .... ثم همست أخيرا
( و أنا تركت ملك بها ..... تركتها و ذهبت مع أبي ..... )
قال سيف بخشونة يهزها قليلا
( لم يكن بيدك شيء ..... كنتِ طفلة لا تملكين أمر نفسك .... )
نظرت بعينين ميتتين الى الأمطار المتساقطة على الزجاج ... ثم همست
( لكني لم أصرخ .... لم أضرب الأرض بقدمي كي أبقى ... لم ينتزعوني من الأرض و أنا أتشبث بها ... )
قال سيف بصوتٍ أجش
( و هل كان هذا ليجدي نفعا ؟!! ....... )
همست بفتور
( لا ...... لم يكن ليتغير شيء .... لكني لم أفعل ..... )
هزها سيف مرة أخرى ليقول بخشونة
( ليس ذنبك أنكِ أردتِ الهرب من ذلك الجو الموبوء ..... لا تعذبي نفسك كثيرا .... )
أطرقت وعد بوجهها تهمس
( هي محقة في الإبتعاد عني الآن ..... فماذا فعلت لها كي تبقى !! ..... بأي حق أطالبها بتفهمي و تقبلي كما أنا ...... )
صمتت قليلا ثم تابعت بصوتٍ أشد خفوتا
( ان كانت كرمة التي هي اقرب الناس لي لم تتفهمني ..... و ابتعدت عني و أنا التي كنت أظن أن ذلك من رابع المستحيلات ...... )
قال سيف بعد فترة بخفوت
( لم تخبريني بعد لماذا اختلفتما ........... )
رفعت وجهها الشاحب الفاتر قليلا تنظر الى النافذة من جديد .... ثم همست
( لم تتقبل الحقيقة .... كانت تعظني بمنتهى الثقة , بينما انهارت حين واجهتها بالحقيقة ..... طفولتنا تركت في كلا منا أثرا غائرا .... و بالنسبة لكرمة كان ذلك الأثر هو الدافع لها كي تنطلق بسرعة الصاروخ ....
انها بطلة خارقة , و أنا لا أستطيع أن أنكر ذلك .... لقد أصبحت من أصغر المدراء عمرا ... و هي تستحق ذلك .... لكنها في سبيل ذلك دهست الكثير من معاني حبٍ بائد تتغنى به طوال الوقت حتى سئمت أذناي .... و الآن .... الآن تحاكمني ناظرة الي باستعلاء .... )
كان صدر سيف يضرب بعنف ... بينما هي غافلة عنه .... فسأل بقسوة
( تحاكمك لزواجك مني ؟!! ......... )
أومأت برأسها ثم قالت
( بينما هي في المقابل متزوجة من مجرد عامل ..... الناس ينظرون اليه بشفقة و هو بالتالي يفرغ كل عقد نقصه بها ..... انها تعيش حياة متناقضة مزيفة ترفض الاعتراف بها .... ترفض الاعتراف بانه لم يعد يليق بها ..... )
صمت سيف قليلا ... ثم قال أخيرا بصوتٍ بارد كالثلج
( و أنتِ مجرد ساعية مكتبي ....... )
تجمدت بين ذراعيه .... ثم التفتت اليه بقوة تنظر الي عينيه , لكنها لم تقرأ شيء من ملامحه ... فتابع بصوتٍ جاف
( نفس الحياة المتناقضة نحن نحياها كذلك .....لكن ذلك لا يجعل منها مزيفة )
هتفت وعد بقوة دون أن تحيد عيناها عن عينيه
( لكني لا أتغنى بحبك .. ..... لا أدافع عن مشاعر واهية لا وجود لها , لقد كنت صريحة مع نفسي قبل أن أكون صريحة معك منذ البداية ..... أما هي فتعيش في الوهم محيطة نفسها بهالة من الملائكية بينما في الواقع هي لم تتنازل ذلك التنازل الذي تتطلبه تلك المشاعر التي تتحاكى بها .... )
قست عيناه وهو ينظر اليها و تنظر اليه .... ثم لم تلبث أن أخفضت رأسها تقول بخفوت
( أنا آسفة ..... لم أقصد أن أكون بمثل تلك الفظاظة و أن أحتد عليك .... )
ثم همست بجهد و هي تلهث قليلا ثم تتثائب
( أنا ..... انا لا أظنني سأتمكن من الحياة بدون أن تكون كرمة بجانبي .... كما أنني أريد أن أستعيد ملك بأي طريقة .... و الأمران يبدوان لي من المستحيلات حاليا .... فماذا افعل ؟؟ .... )
قال سيف بفظاظة
( تنامي ........... )
رفعت وجهها اليه بسرعة , فتابع كابتا احساسه بالضيق مما فعله ... و مما قالته للتو ... من ذعره من سماع بعض ملامح طفولتها ... كل ذلك اجتمع عليه ليقول بخشونة مكررا
( الأفضل أن تنامي ..... أنتِ لازلتِ متعبة و لا يجب أن ترهقي نفسك أكثر ....)
هزت رأسها ايجابا و هي بالفعل تشعر بأنها متعبة للغاية .... فتجاوزته بينما يتابعها بنظره ... و هي تندس بسريره ...
اقترب منها ببطء يرفع الأطباق بعيدا عنها ... ثم رفع الغطاء الثقيل يدفئها به .... و ما أن استقام و اتجه الي الباب رفعت رأسها بسرعة تنظر اليه بعينين غائرتين متعبتين و همست
( أين ستذهب ؟؟ ....... )
قال سيف بخفوت وهو ينظر اليها من عند الباب
( لا تقلقي نامي قليلا و سأعود ..... )
همست وعد و جفناها ينغلقان
( لا تتركني وحدي ........... )
قال سيف بصوتٍ متباعد خلف أنسجة العنكوبت التي تلف وعيها
( لن أتركك ...... فقط نامي قليلا )
وضعت رأسها على الوسادة و هي تتدثر بكنزته الدافئة ... ثم همست
( أخشى أن تهجم علي أختك المجنونة أثناء نومي ...... )
صدرت عنها صوت شخير أنثوي رقيق في اللحظة التالية ... بينما وقف ينظر اليها طويلا ثم همس بخفوت
( سأتغاضى عن قلة أدبك الآن ..... لأنني لا أثق بنفسي لو اقتربت خطوة واحدة .... و لن أثق بنفسي أبدا معك على ما يبدو ..... )
أطرق برأسه قبل أن يخرج و يغلق الباب خلفه مطفئا الضوء ...
2

( هل أنتِ بخير ؟؟ ..... لماذا سمعتكِ وعد تتأوهين ؟؟ )
لم تستدير منيرة الى سيف الواقف خلفها .... لكنها قالت بخفوت
( ظهري يؤلمني بين الحين و الآخر ..... لا شيء مهم )
اقترب سيف منها و هي تقف بظهرها اليه ... متدثرة بشال سميك تنظر من نافذة غرفتها كما كانت تفعل وعد ... و كأن كلا منهما تنظر من نافذة حياتها بشرود
ثم قال بخفوت وهو يقف بجوارها واضعا كفيه في جيبي بنطاله ...
( اليوم كدت أن افقد صوابي تماما ..... فعلت شيء أشعرني بالحقارة .... و كانت صورتك هي المسيطرة علي ......)
رمشت منيرة بجفنيها ... ثم همست بحزن
( أنت لم تستطع مسامحتي أبدا يا سيف مهما حاولت .... لذلك تخدع نفسك و تعاقبني ..... )
استدارت اليه ... تنظر الي هيئته الجانبية القاسية الضخمة و تابعت بتأوه
( لكن أكثر ما يؤلمني ..... هو أنك تؤذي نفسك بذلك قبل أن تؤذيني .... حسنا عاقبني و أختر أي طريقة تريدها .... أنا موافقة لأنني أستحق .... لكن لا تؤذي نفسك بها ... )
همس سيف وهو ينظر الي الليل المظلم أمامه
( لما تتخيلين أنني أعاقبك .... و الأهم لما تظنين أنني أؤذي نفسي ؟!! .... )
قالت منيرة بحرارة
( تلك الفتاة يا سيف ..... انها قاسية .... بها شيء قاسٍ أستطيع أن ألمحه بعينيها .... ستكسر قلبك ذات يوم )
التفت اليها سيف ينظر اليها مليا ... ثم قال أخيرا
( أعرف ......... )
فغرت منيرة شفتيها و هي تنظر اليه .... ثم لم تلبث أن أمسكت بذراعه و هي تهتف
( و لماذا يا سيف ؟!! ...... لماذا ؟!! ..... ابعدها أرجوك , لأنني سأقتلها إن كسرت قلبك )
نظر اليها ثم قال بهدوء
( أنتِ تناقضين نفسك يا امي ..... إن كان كل هدفي هو معاقبتك كما تقولين , فكيف ستتمكن من كسر قلبي مهما فعلت و مهما بلغت قسوتها ؟!! .... )
أطرقت بوجهها قليلا .... تترك ذراعه , لكنه أمسك بذراعها يقول
( لقد أصبحت مهمة لدي يا أمي .... سواء شئت أم أبيت ..... لقد اصبحت مهمة لدي و أنا لا أنتظر منها أن تكون ملاكا ..... فسأكون أكبر أحمق لو توقعت ذلك ممن كانت لها نفس نشأتها و تربيتها .... و والديها ... )
رفعت منيرة وجهها اليه و هتفت
( اذن اقتل تلك الأهمية لديك ... و بالقوة .... انت قوي ... لطالما كنت قوي لا يضعفك شيء ... فلا تسمح لها بأن تكون نقطة ضعفك ....)
ابتسم قليلا ... ثم قال
( لقد فات الأوان يا أمي ...... )
تأوهت منيرة بصمت و هي تضع يدها على صدرها مبتعدة عنه ... الا أنه قال يتبعها
( أمي بإمكاني أن آخذها و نسكن ببيت آخر كي لا أجرحك ... لأنني عكس ما تظنين , لا أريد أن أؤلمك ابدا .... لقد كدت أن أفتك بوعد الليلة بسببك ... بسبب لحظة ألم رأيتك فيها و لم أستطع محوها من عقلي حتى الآن .... لكني لا أريد أن تبقى وعد وحدها .... أريدها أن تبقى معك .... كي أكون مطمئنا عليها )
نظرت اليه منيرة بقوة و عينيها تدمعان بشدة ثم هتفت
( تعهد الي أنا برعايتها يا سيف ؟!! ..... أنا ؟!! ...... لقد سرق مني والدها حبي الوحيد و سنوات هنائي , فلماذا أمنحها أنا تلك السعادة مع ابني الوحيد ؟!! ..... )
قال سيف بصلابة
( لأنك مدينة لها بذلك ..... منذ سنوات لها دين عندك و آن الأوان كي ترديه )
هتفت منيرة بقوة و قد انسابت دموعها بقهر
( ليس علي أي ديون يا سيف .... إنها ليست ابنتي ... إن كانت أمها نفسها قد رمتها , فلماذا أكون انا مدينة لها ؟!! ......يكفيني ما عشته .... يكفيني تماما دون الحاجة للمزيد من التحمل )
قال سيف بخفوت
( هل تفضلين أن آخذها و أرحل ؟............)
رمشت بعينيها عدة مرات ... ثم استدارت بعيدا عنه و هي تقول بخفوت
( اخرج من هنا يا سيف ..... اخرج أرجوك )
الا أن سيف ظل واقفا مكانه ليقول بهدوء
( زفافنا خلال أيام يا أمي ...... )
بكت بصمت و هي تغطي فمها بكفها المرتجف .... بينما تابع سيف بخفوت
( رجاءا احضريه ..... إن كان هذا آخر طلب قد أطلبه منكِ , إن لم يكن من أجلها فمن أجلي أنا ...)
هتفت امه تغص بدموعها
( اخرج يا سيف ..............)
خرج سيف دون اضافة كلمة اخرى .... ثم لم يلبث أن وقف خارج الغرفة يزفر بغضب ...
طوفان يهدر بداخله .... طوفان بين أمه و ...... و زوجته ....
أمه التي رآها شبه مغتصبة من رجلٍ يدعي زوجها ذات ليلة .....
تردد سؤال أمه بداخله بقوة .... لماذا ؟؟..... لماذا يحمل نفسه كل ذلك ؟!! ..... كان قد استطاع ذات يوم أن ينبذ الماضي .... حتى رؤية عبد الحميد انتصر عليها و هنأ نفسه بعدها ...
لكن لماذا أتت وعد اليه تحيي ما دفنه تحت الرماد ..... لماذا ؟!! .....
.................................................. .................................................. ......................
خلال عدة أيام :
اقتربت كرمة من النافذة المغلقة ... و ماء المطر يتسرب منها فيزيد الحائط تشققا ....
فأخذت تسد الإطار بورق الجرائد و هي تتذمر
( كم مرة طلبت منه أن نغير تلك النوافذ الخشبية العتيقة ... و التي ذابت و تآكلت من الأمطار ... )
ضربت النافذة عدة مرات بالقوة حتى انغلقت فوق أوراق الجرائد حتى امتنع الماء من التسرب أخيرا ...
و قفت كرمة تنظر الي النافذة بغضب ... ثم لم تلبث أن انسابت منها شهقة باكية كانسياب ماء المطر ...
و سقطت جالسة على الأريكة تبكي بقوة ....
الى متى ستظل تبكي !!
لم تتخيل يوما أنها تمتلك كل هذا القدر من الدموع !! ....
رفعت عينيها المتورمتين الى أرجاء الشقة الخاوية .... ثم همست بعذاب
( لماذا فعلت هذا بنا يا محمد ؟؟ ...... لماذا تقتلني ؟؟ .... ماذا فعلت بك ؟؟ .... )
لعقت دموعها من زاوية شفتيها و هي تنهض ببطء .... لتتوقف أمام صورة ذات اطار قديم لونه تغير لردائته ....
لكنه كان دائما رائع الجمال ... لأنه يحوي صورتها مع محمد ....
صورتها و هي صغيرة في السادسة عشر ... ترتدي ثوب زفافها المستعمل الذي أخذته بالإيجار .....
فكان واسع عليها .... و شعرها كان لفائف لطيفة جعلتها أكثر طفولية ... بينما الورود تحيطه من كل جانب ... ومحمد كان يضمها الي صدره ... بينما ابتسامتها تبدو و كأنها طفل يتيم حصل على قالب حلوى مجاني ...
بينما يبدو و كأنه .... و كأنه وجدها .... كما يقول دائما ....
مدت أصابعها تلامس ملامحه و هي تبتسم برقة بينما الدموع لا تتوقف ... ثم همست
( اشتقت اليك يا محمد ..... اشتقت اليك جدا ... )
كل ليلة تمر عليها بدون تبدو كالجحيم بالنسبة لها ....
تتخيله معها .... تتخيل كيف يلامسها و كيف تذوب بين ذراعيه ...
هل يقبلها بنفس الطريقة ؟؟ ..... هل هو سعيد ؟؟؟ .... هل يتبخر شقاءه الذي تراه عليه حين يأتي اليها به صباحا ... لينهل قليلا من شباب تلك الفتاة التي ترضي رجولته !!
نار تحرق صدرها و تنهشها كل ليلة .... و كيانها كله يصرخ مطالبا بحقه في زوجها ....
تشتاق اليه و تتمنى لو تغفو باكية على صدره .... لا أن تغفو باكية على وسادة أقسى من الحجر ....
أغمضت عينيها بضعف .... تتخيل نفسها معه ... مرة بعد مرة .... على الذكرى تشبعها لكن دون جدوى ... و زوجها حبيبها بعيدا ... بين أحضان أخرى ....
سمعت فجأة صوت المفتاح يدور في الباب ... فانتفضت بسرعة تستدير اليه ... لتجد محمد يدخل ... قميصه مبتل ... يبدو أكثر همجية خاصة مع ذقنه الغير حليقة ...
رفع وجهه ما ان دخل .... لتتلاقى نظراتهما ....فذابت عيناه شوقا ... شوقا كانت تطلبه بشدة و كان يبخل به عليها .... على الارجح قبل زواجه من الاخرى ...
فهل زواجه هو الذي غير نظرته لها و جعلتها مشبوبة بالعشق و الشوق ؟؟ ...
هل كان يحتاج الى امراءة اخرى ...
هدرت بداخلها صرخة عنيفة و هي تستدير بعيدا عنه قبل ان تصرخها جهرا ... ثم قالت بصوتٍ مكبوت
( ماذا تفعل هنا يا محمد ؟؟ ........ )
سمعت صوت اقترابه منها خطوة ... ثم توقف ليقول بخفوت
( هذا لا يزال بيتي .... هل نسيتِ ؟... )
قالت كرمة بصوت مختنق و هي تكتف ذراعيها
( أنت من نسيت يا محمد ...... اذهب الى عروسك .... )
اقترب منها خطوة اخرى .... ثم قال بصوتٍ أكثر خشونة
( و أنتِ لا تزالين زوجتي ...... )
أطرقت برأسها تغمض عينيها على ألمها دون أن تستدير اليه .... القسوة تضرب قلبها مجددا
ما أن يبتعد عنها حتى تشتاق اليه بجنون ... تهفو لسماع صوته و ضمه الى صدرها ...
لكن ما أن يقف أمامها حتى تداهما خيانته و يقسو قلبها في لحظة واحدة ....
اقترب محمد خطوة منها وهو يهمس خلفها مباشرة
( اشتقت اليكِ ........ )
رفعت رأسها و هي ترمش بدموعها هامسة بداخلها
" يا ربي .... ماهذا العذاب !! .... انه يقتلني "
وضع يديه على كتفيها , الا أنها انتفضت بقوة النمرة تستدير اليه بالقوة هاتفة
( لا تقترب مني يا محمد ...... )
احمرت عيناه غضبا و اقترب منها ليقول
( أنا لا زلت زوجك يا كرمة و لي حقوق عليكِ ..... )
هتفت كرمة بعنف
( لا استطيع ..... لا استطيع .... سأموت لو حدث ذلك )
هتف و هو يقترب منها يعتقلها بين ذراعيه يبلل ملابسها بقميصه المبلل
( سترين أنكِ لن تموتي ......... )
تلوت منه كرمة بجنون و هي تقول مشددة على كلماتها بقوة قهرها
( ابتعد عني يا محمد ....... كفاك ما فعلت لا تزيد ..... )
الا أنه كان مشتاقا .... تعبا .... تعبا للغاية وهو يتنشق عطر شعرها المتموج ليهمس بجنون
( اشتقت اليك يا كرمة ...... كفى دلالا .....لقد مرت الأيام علي طويلة .... طويلة جدا .... . )
صرخت و هي تضرب صدره بقبضتيها
( دلال !!! ........ ابتعد عني يا محمد ..... لن أستطيع ...لا تزيد من كرهي لك .... . )
رفع رأسها اليها ليواجه عينيها الباكيتين بعينيه المصدومتين .. وهو يقول بشر
( كرهك لي !! ....... تكرهيننني الآن يا كرمة !! ..... )
نظرت اليه بعينيها المذبوحتين .المتورمتين ... ثم همست بقهر
( أنت السبب ....... أنت السبب ..... )
اشتعل الشر بعينيه وهو ينظ ال بركة العذاب في عينينها السوداوين ... و كأنهما بحيرتين عميقتين غارقتين في الظلام ..... لكن الشر ذاب سريعا , ليحل شوقه جارفا بدلا عنه ...
فانحنى ليرفعها بين ذراعيه بقوة وهو يقول بحرارة لفحت وجهها
( سأكسر كرهك لي يا كرمة .... سأعيدك الي , كما وجدتك أول مرة .... )
اتجه بها الى غرفة نومهما المهجورة منذ عدة أيام .... و هي تتلوى بصمت بين ذراعيه ....
لكنها بعد فترة , و حين أدركت أنه لن يتراجع كما تعرفه دائما .... حين يريد يفعل...... و حين يكتئب يبتعد .... كل مرهون بما يريده و ما يشعر به ....
لذا توقفت عن المقاومة و بقت صامتة بين ذراعيه , قبل أن تكرهه بالفعل .... و يتحول الكذب الى حقيقة ...
أغمضت عينيها و هي تهمس بداخلها مع عاطفته القوية ..
" لن أكرهه ..... لن أكرهه ... "
بعد حين ابتعد محمد عنها و هو يستلقي بجوارها يخرج سيجارة ليشعلها بصمت .... ينظر الي السقف ...
بينما استلقت هي هامدة ... هامدة الروح .... لقد نفذ ما يريد , بعد أن أقسمت الا تفعل ...
لكن متى كان هذا القسم مشروعا !!
ليس من حقها أن تقسم على ذلك .... لكن من حقها أن يشعر بها ... أن يشعر برفضها له بعد أن غدر بها , ليتركها لحالها ..... أن تهدأ ... أن تفكر ... أن تتألم في صمت .... لا أن يشبع نفسه بها دون تفكير في مدى قسوة ما تشعر به ....
منذ لحظات كانت بالفعل تشتاق اليه في غيابه و تتمنى أن تغفو على صدره .... لكنه دائما ما يقتل كل بذرة تنمو بداخلها حين ينفذ ما يريد دون تفكير بما تعانيه ...
و الآن .... الآن ... تفكر هل يقارنها بفتاة أصغر منها و لا تزال عروسا ؟!! ... حتى لو لم تكن صاحبة جمال مبهر ... لكنها تظل صغيرة و مطيعة و في ضعف الزهور
النوع الذي يعشقه محمد .....
أغمضت عينيها عدة مرات كي تطرد الصورة من تفكيرها و تركز جديا على مشكلتها الأساسية ...
لكنها فشلت ... هي امرأة على الرغم من كل شيء .... على الرغم من كل ما وصلت اليه ....
تظل امرأة ... تحترق غيرة و مقارنة .....
انسابت دمعة وحيدة على وجنتها بصمت .... هي آخر دموعها اليوم ...
إن كان محمد قد نجح في شيء الليلة فقد نجح في انضاب دموعها ....
حين تكلم محمد أخيرا ... قال بخفوت
( كنت مشتاقا اليك ..... لم أعتد البعد عنكِ كل تلك الفترة )
كاذب .... أحيانا كان يبتعد عنها لفترة أطول ....
لكنه تابع يقرأ أفكارها و هو ينفث دخان سيجارته و كأنه ينفث روحه
( أعلم ما تفكرين به ......... لكن هذه المرة تختلف.... و أنا بعيد عنكِ وأعلم أنكِ بعيدة كذلك ...
كل مرة كنت أعلم أنكِ تنتظريني .. تشتاقين الي ...
لكن طوال الأيام السابقة ... أراك صباحا تنظرين الي بقسوةٍ لم أراها منك من قبل ... لأرحل و أنا أفكر كل لحظة ... هل سترحلين ؟؟ .... هل ستبتعدين ؟؟ ..... )
لم تتحرك كرمة و لم تتغير ملامحها .... بل كانت مستلقية بلا روح ....
ثم همست أخيرا بعد صمت طويل
( طلقني يا محمد ............. )
انتفض مكانه ... لكنه استدار اليها يقبض على ذقنها يرفع وجهها اليه , ليهمس بشراسة
( على جثتي يا كرمة ..... توقفي عن ذكر كلمة الطلاق و كأنها لعبة .... )
لم تتحرك بها سوى عينيها .... وهما ترتفعان الى عينيه بصمت ... ثم همست
( لعبة !!........ أنا أموت كل ليلة ... )
انعقد حاجبيه قليلا ... ثم انحنى ليهمس فوق وجنتها
( سامحيني ...... سامحيني ..... )
أغمضت عينيها تتنهد من صدرٍ مكدوم ... دون دموع ... و همست تئن بعذاب
( أموت يا محمد ...... لا اقدر على المتابعة ... )
ماذا كانت تحاول فعله ؟!! .... هل تستفز عواطفه كي يخبرها أنه سيطلق الاخرى !!
هل وصلت الى تلك المرحلة من المهانة ...
هل تتوسلة بطريقة النساء المخادعة !! ....
لو تابعت ضغطها عليه فقد يعدها بذلك ..... إنها تعرف محمد حق المعرفة ....
هل تعرفه حقا !!! .......
طالت قبلاته على وجهها بصمت .... فاستقامت بهدوء لتنهض من جواره ..... تترك له الغرفة بما فيها ....
ثم همست في الظلام
( خذ الفراش لو أردت .... كما تأخذني كلما أردت .... أنا سأنام على الأريكة في الخارج ... )
و خرجت من الغرفة .... تتركه وهو لا يزال ممسكا بسيجارته التي تحولت الى رمادٍ سقط على صدره .... .................................................. .................................................. ....................
جفناها متقرحان من البكاء ..... حمراوان ينبضان بعنف ....
هادئة ... باردة .... بل على الأحرى ميتة ....
تعمل و كأنها ماكينة لا تتلف .... لكن روحها ميتة ....
صدره هائج بعنف و كفه تقبض على القلم ... حتى انكسر في يده ... فنظرت كرمة الى القلم للحظة لتعاود النظر الى أوراقها و الحاسب دون اهتمام ... مما زاد جنونه
بصدره انفعال قوي تجاهها ... يكاد أن يهلكه ... خاصة و هو يعلم أنها تتأذى بعيدة عنه مع رجلٍ ينتهك كل حقوقها و يمتص روحها ....
هدر بقوة وهو ينظر الى ملامح وجهها الجميل ... لا وصف له سوى أنه جميل ....
قال أخيرا بخفوت و كبت
( كرمة ........... )
رفعت كرمة عينيها عن حاسبها المحمول ... تنظر الي عينين عاشقتين دون أن تبصرهما حقا , فقالت بخفوت
( نعم يا حاتم ...... )
رفع وجهه قليلا ... يتأمل ملامحها الباهتة .. أمامه حلان الآن ... أما أن يتركها تدور في حلقة مفرغة و إما أن يهاجمها كأسرع وسيلة للدفاع ..... الدفاع عنها و ليس عنه ...
لذا قال قاطعا
( أنتِ تحتاجين الي مساعدة ..... )
عقدت حاجبيها قليلا ,..... ثم أخفضت نظرها تلقائيا الى الملف أمامها و هي تهمس بحيرة
( في أي جزء ؟!! ......... )
همس صوت بداخله يقول بغضب
" في الجزء اللذي يخصني .... أنتِ "
رفعت كرمة عينيها اليه حين لاحظت صمته ... بينما عيناه حادتان عليها ....
يحاول كبح نفسه ... لكنه اتخذ قراره و انتهى الأمر ... لذا قال بخشونة
( أنت من تحتاجين مساعدة يا كرمة .... )
عبست قليلا و احتدت ملامحها و هي تستعد للهجوم كعادتها ... الا أنه هذه المرة سيواجهها كي يقتلعها من ذلك الهمجي ...
سيكون عنيفا لو اقتضى الأمر .... بمنتهى العنف
و ما أن تلاقت نظراتهما حتى قال تلقائيا
( لا يمكنك أن تستقلي مواصلات للأبد ..... يلزمك سيارة )
عقدت حاجبيها بعدم استيعاب .... ثم همست
( ماذا !! ......... )
قال محتدا قليلا
( سيارة ...... سيارة ... تلك الماكينة ذات المقود و الإطارات ... يستقلها الناس عادة للتنقل )
كانت كرمة تنظر اليه بارتياب .. ثم همست بحذر
( لماذا أنت محتدا هكذا ؟!! ........)
تأفف حاتم بغضب وهو يضغط على قلمه كي يفتحه الا أنه اكتشف أنه كسره .. فألقاه بأقصى قوته الى سلة المهملات في نهاية الغرفة
تابعت كرمة القلم بعينيها الا أن حاتم قال بحنق
( إن كان هناك شيئا أكرهه فهو أن يسألني أحد لماذا أنا محتد ... أو لماذا أصرخ ... و أنا أصلا لم أصرخ ! )
همست كرمة بطفولية
( لكني لم أقل أنك تصرخ ........)
نظر بوجوم للحظة الى عينيها المجروحتين .... فتنهد بقوة , ثم قال بخفوت
( لم أقصد أن أحتد ......... )
صمت قليلا .... ثم قال أخيرا بجفاء و هو لا يجد بدا من متابعة ذلك الموضوع الذي قفز أمامه في لحظة واحدة كي يمنع تهوره
( لقد رفضت سيارة العمل رفضا باتا .... و المواصلات مخاطرها كثيرة لشابة مثلك )
همست كرمة بملل و تعب
( لقد اعتدت الأمر يا حاتم لا تقلق ....... )
قال حاتم وهو يميل الى سطح الطاولة
( بل سأقلق ...... أنا لا أترك موضوعا الا بعد أن أنهيه )
رفعت كرمة وجهها لتهمس
( حتى لو كان موضوعا لا يخصك ؟!! ...... )
" بل يخصني .... الا يخصك ؟... فكيف لا يخصني ؟!! ... من يجبرني على الإبتعاد عن تلك المرأة التي تخللت حياتي و بقوة ....."
نظرت اليه وهي ترى أفكارا غامضة تتلاحق على ملامحه ... فقال حاتم بخفوت متراجعا
( انه مجرد اقتراح لا غير ...)
أخفضت كرمة عينيها , لتقول بخفوت
( لا أستطيع تحمل تكلفتها يا حاتم .... ثم انني غير قادرة على التفكير في أي شيء حاليا )
قال حاتم وهو يكتم توتره
( خذي قرض بضمان وظيفتك لشرائها و أنا سأسهل لكِ الإجراءات .... و راتبك يتحمل القسط الشهري بالتأكيد )
كانت ترسم دوائر بقلمها بشرود ... بينما عيناها تنطقان ألما ... و التورم بهما لا يرحمهما ..
لكنها رفعت وجهها اليه فجأة .... لتبتسم ....
فشلت تفكيره في لحظة .... و هزت قواه كلها , لتقلب كيانه رأسا على عقب ....
فرقت عيناه .... و ابتسم ....
حينها همست كرمة مبتسمة بتردد
( أتظن أن بإمكاني القيادة ؟!! ..... )
همس بداخله
" لقد ضعت !!! ..... خذي سيارتي و روحي لو أردتي "
لكنه خشن صوته باتزان وهو يبحث عن قلم آخر كي يكسره ... قائلا بجفاء
( لو تملكين الإرادة فستفعلين ....... )
ترددت أكثر و دوائرها المرسومة تتسع أكثر .... فهمست
( لا أعلم ....... أنا ...... لم أفكر في هذا الأمر من قبل .... )
رق قلبه لها بعنف فهمس بخشونة
( كرمة .......... )
رفعت عينيها اليه ..... فابتسم هامسا
( أنت تستطيعين فعل أي شيء في هذا العالم ..... لقد حققتِ عدة مستحيلات , فكيف بقيادة سيارة صغيرة ! )
ابتسامتها تهلكه .... و كم تمنى الآن لو مد يده ليربت على وجنتها
يكاد يختنق ليفعل ذلك
هل هذه مخلوق يمكن لأنسان عاقل أن يضربه !! ..... انها كشوكولا ذائبة دافئة ....
كيف يمكن لحيوان متوحش أن يضربها !! .... و كيف سيحررها ... كيف و هي على ما يبدو لا تريد ...
تنهد حاتم بقوة ... ثم قال بخفوت و قد منحته رقتها الشجاعة أكثر من عنفه ....
( هل أنتِ بخير يا كرمة ؟؟ ....... )
اختفت ابتسامتها على الفور .... و هذا ما كان يخشاه .....
نهضت على الفور تلملم أوراقها .و تغلق حاسوبها .... و هي تقول بجدية
( سأنهي الأوراق بمكتبي و لو احتجت لشيء سأخبرك ...... )
نهض هو الآخر يعترض طريقها ... فرفعت عينين متسعتين اليه , لتقول بصلابة
( ابتعد عن طريقي يا حاتم ...... )
قال حاتم بصرامة
( أنتِ تقتلين نفسك يا كرمة ...... تكلمي ... تكلمي قبل أن تنهاري )
قالت كرمة بصرامة أشد و هي تتجه يمينا و يسارا
( ابتعد عن طريقي يا حاتم و كف عن التدخل بحياتي ..... )
الا أنه كان يتحرك خطوة بخطوة يمينا و يسارا وهو يتابع كلامه
( لن تكوني وحدك ..... لا تخافي , سأكون بجوارك ما أن تطلبي المساعدة )
قالت كرمة بصوت خافت لكن مشددة على كل حرف و هي تنظر في عمق عينيه
( ابتعد ... يا .... حاتم ........... )
تجمدت ملامحه .... و دخلت أعينهما في حربٍ صامتة طويلة , قبل أن يبتعد مادا يده ببرود يدعوها أن تمر ....
فاندفعت من أمامه ... لكن و قبل أن تخرج قال بصرامة دون أن يستدير اليها
( جهزي طلب قرض السيارة و سأنهيه ........ )
ظلت تنظر الى ظهره بعنف ثم لم تلبث أن خرجت مندفعة لتصفق الباب خلفها .....
.................................................. .................................................. ....................
وصلت كرمة متثاقلة ... الى باب بيتها .... تجر قدميها و هي تحمل العالم كله فوق ظهرها ...
لكن ما أن دخلت من باب الxxxx حتى تسمرت مكانها بصدمة .... لم تلبث أن تحولت الى غضبٍ جارف
فتقدمت خطوة و هي تهمس بوحشية
( ماذا تفعلين هنا ؟!! ........ )
نهضت علياء من جلستها على أولى درجات الطابق الأول .... و هي تعدل من ملابسها البسيطة , لتهمس مرتجفة
( هل يمكنني الحديث معك قليلا ؟؟ ...... )
اتسعت عينا كرمة و هي تقول بذهول
( ياللوقاحة !! ............ )
ثم مدت يدها في اتجاه باب الxxxx .... و هي تقول بتهديد
( اخرجي من هنا حالا ...... قبل أن أرميكِ بنفسي )
لكن علياء تسمرت مكانها ترفض الرحيل و قالت بشجاعة رغم اهتزاز صوتها
( أرجوكِ سيدة كرمة ...... خمس دقائق .... اعدك خمس دقائق و ارحل .... ارجوك )
ظلت كرمة تنظر اليها بغضبٍ أهوج .... و عذابٍ اخفته بمهارة ...
الا ان فضول عذابها انتصر في النهاية كي تتعرف الى سارقتها عن كثب
فتقدمت الي الباب تفتحه دون كلمة لتدخل و تتركه مفتوحا دون ان تدعوها ....
دخلت علياء خلفها بارتباك .... و عيناها تتطلعان خلسة الى الشقة المرتبة ... ... ثم لم تلبث ان وقفت مكانها حين ابصرت كرمة تنظر اليها بعينين قاسيتين كالجليد ....
بدأت كرمة الحديث قائلة ببرود
( هل يعلم ..... أنكِ هنا ؟؟ )
لم يستطع لسانها النطق باسم محمد .... كاعتراف ضمني بصلته بهذه الفتاة الواقفة أمامها
هزت علياء رأسها نفيا بارتباك ... ثم أطرقت بوجهها
فانتهزت كرمة الفرصة كي تتأملها بدقة أكثر من المرة الماضية .....
انها جذابة .... أكثر جاذبية مما اعتقدت سابقا ..... ملامحها هادئة تريح النفس .....
طالت نظرات كرمة الى شفتيها العريضتين .... من الواضح أنهما كريمتين للغاية ..... لتشعر فجأة بشيءٍ صلب يعتصر صدرها ....
انها صغيرة .... ربما الفرق بينهما لا يتعدى سبع سنوات ... لكن السبع سنوات نقلتها الى جيلٍ آخر
بينما تلك الفتاة لا تزال فتية و بريئة .... و شابة جدا ....
كتفت كرمة ذراعيها بخيلاء .... بينما هي في الواقع تحيط بهما ألم صدرها كي لا يفتك بها ...
ثم قالت بقسوة
( أمامك خمس دقائق فقط ...... تكلمي ثم اخرجي من هنا )
أخذت علياء نفسا كبيرا ... ثم قالت بقوة دون أن ترفع وجهها الى كرمة كي لا تفقد شجاعتها
( لقد جئت اليك , أرجوك ...... لا تجبري محمد على تطليقي )
بهتت ملامح كرمة .... ثم أخفضت ذراعيها و هي تنظر اليها عابسة .... بينما تابعت علياء بسرعة قبل أن تفقد شجاعتها المتناقصة
( انه سند لي في الحياة بعد الله .... ليس لي سوى جدتي ... و محمد أصبح كل عائلتي الآن )
فغرت كرمة شفتيها ... لتصرخ في داخلها بجنون
" محمد عائلتي أنا ..... و أنتِ الدخيلة "
الا أن علياء تابعت دون أن تترك لها الفرصة للرد و دون حتى أن ترفع وجهها
( محمد يحبك لدرجة الجنون ..... حتى أنه كثيرا ما يخطىء في اسمي و ينطق اسمك )
صمتت قليلا ثم رفعت وجهها تنظر مباشرة الى عيني كرمة الذاهلتين القاسيتين
و قالت بخفوت
( الا يكفيكِ ذلك ؟!! ................ )
ذهلت كرمة أكثر ... بينما تابعت تلك الشابة ما حفظته طويلا قبل أن تأتي
( لو أصريت فسيطلقني ...... لكن ماذا ستستفيدين غير خراب بيتي ؟؟ .... ما حدث قد حدث .... و الذنب ليس ذنبي ..... )
ارتفع حاجبي كرمة أكثر ... ثم فتحت فمها تحاول الكلام ... الا أنه اختنقي في حقلها ... فأخذت نفسا , لتقول بعدها بخفوت ... قاسٍ ... قاسٍ جدا
( لقد تزوجتِ رجلا متزوج ..... زوجي .... الا ترين ذلك ذنبا ؟؟ ... )
نظرت اليها علياء طويلا قبل أن تقول
( لقد تقدم لي شخص معقول .... يلائم ظروفي و الائم ظروفه ... فلماذا يكون ذنبا ؟؟!! ... أنا لم أكن أنتظر أن أتزوج أميرا أو وزيرا ..... )
اخذ الألم يتزايد في صدر كرمة .... ثم لم تلبث أن هدرت بخفوت كريحٍ تصفر
( لقد تزوجته لتنجبي له طفل .... اليس كذلك ؟ , هذا أمل أمه و إخوته و من المؤكد أنهم يلحون في السؤال عن الجنين منذ الشهر الأول .... أليس كذلك ؟؟ ..... )
لم ترد علياء .... فصرخت كرمة بقوة
( اليس كذلك ؟؟ ........... )
انتفضت علياء قليلا ... بينما تابعت كرمة تصرخ
( لكنك للأسف لا تعلمين أن العيب لديه هو ....... )
توقفت كرمة فجأة و قد بهتت ملامحها تماما .... و ارتجف قلبها ذعرا .... كيف طعنت محمد بهذا الشكل !!
بعد سنوات من الحفاظ على سره بكل قوة ..... كيف انهارت و طعنت ظهره بتلك الصورة الدنيئة .!!
لكن و قبل أن تموت .... قالت علياء تصدمها بخفوت
( أعلم ....... لقد أخبرني و خيرني قبل الزواج )
تسمرت كرمة مكانها ... و فغرت شفتيها بذهول .... و ظلت تنظر اليها بصدمة طويلا ثم همست بعدم تركيز
( و لماذا قبلتِ اذن ؟!! ........ )
رفعت علياء كتفها لتقول
( انه رجل حنون و كريم ........ فكرت مليا , لماذا أضحي به من أجل طفل و قد لا أحصل عليه أبدا ... و قد أحصل عليه من شخص يذيقني المرار ..... الخيارات عندي محدودة و ليست مرفهة ... لذا حين وجدت انسان يُعتمد عليه لم أتردد كثيرا في القبول ..... و من يعرف ؟؟ الله أكبر من اي شيء .... قد يرزقنا يوما ما بطفل )
تراجعت كرمة ببطء حتى وجدت كرسي فجلست عليه .... تنظر الي علياء بذهول
" بهذه البساطة !!! ..... بهذه البساطة !!! .... حتى التضحية التي كانت تظن أنها تأسر محمد بها ... سلبتها منها بهذه البساطة !! ....... و هي التي كانت تظن أنها تقدم له ما لن تقدمه غيرها أبدا ....
بهذه البساطة سرقت منها تضحيتها و كبرت قيمتها عند محمد في شهرين اثنين فقط !! .... بينما هي كانت تظن أنها ترعى تلك التضحية و تنميها لعشر سنوات بصبر و قوة !! .....
لا عجب اذن أن يظن أنها لا تقدم له الكثير ..... مادامت تلك الشابة قد قدمت له أضعافا في شهرين اثنين فقط !!! ..... "
عدلت علياء من وشاحها حول رأسها ثم قالت بخفوت يميل الى الترجي
( سيدة كرمة ..... أعلم أنني جرحتك قبل حتى أن أعرفك و تعرفيني .... لكن أستحلفك بالله الا تكوني السبب في اجباره على طلاقي ..... انه يحبك و مكانتك عنده لن تهتز أبدا و لن تقربها أخرى .... فاتركي جزءا منه لي من كرمك ...... )
لم ترد كرمة و قد اغروقت عيناها بالدموع ... و تشوشت الرؤية أمامها بينما قالت علياء
( سأرحل الآن ..... و اعذريني على وقاحتي في المجيء , .... لقد أتيت و أنا أعلم أنها ربما ستكون نهاية زواجي لو اخبرتِ محمد أنني تجرأت و أتيت دون علمه كي أزيد من جرح المرأة الوحيدة التي يحبها ... لكنها كانت خطوة و توجب علي القيام بها ... كي لا ألوم نفسي في حالة أن طلقني محمد ... حينها سأعلم أنني قد فعلت كل ما بوسعي ..... )
اتجهت علياء الى الباب ثم قالت
( الى اللقاء سيدة كرمة ..... اتمنى ... )
ثم خرجت و اغلقت الباب خلفها بينما حررت كرمة اخيرا شهقة بكاء عالية رجت ارجاء البيت ....
.................................................. .................................................. ........................
بللت وعد طرف الخيط كي تدسه في ابرة ماكينة الخياطة .... لتقول و هي تعدل من وضع نظارتها الرخيصة ذات الاطار الأسود المثلث قليلا ....
أخيرا انتهت من كشف النظر لتفاجأ بالنتيجة المخزية من تردي حالة نظرها و سببه المباشر في صداعها المزمن .... ثم اشترت النظارة باقل ثمن ممكن ... على الرغم انها من فائض نقود اعطاها لها سيف ....
لفت عجلة الماكينة لتقول بعدها باهتمام
( ثم ماذا حدث يا علي بعد أن طردتك امك ........ )
قال علي و هو منكبا على فستان في يده .... يطرزه ببعض حبات اللؤلؤ كما علمته وعد وهو يجلس معها في صالة بيتها و قد تركت الباب مفتوح .... فبدا و كأنه قد تحول الى ورشة خياطة ...
( لا شيء ..... خرجت صارخا غاضبا و قررت الإنحراف كي تندم على طردها لي ..... )
عقدت حاجبيها و هي تنظر اليه بسرعة ثم تعيد نظرها الى القماش الذي تخيطه .... قائلة
( قررت الإنحراف كيف ؟؟ ......... )
قال علي رافعا القماش الى عينه كي يرى جيدا
( الإستسلام لأصدقاء السوء بعد مقاومة سنوات .... فوزي صبي الورشة و شعبان صبي الكواء ... كانا صديقاي في المدرسة ثم اتجها للعمل قبلي .... و صحبة الحشيش في مقهى ميمون )
شهقت وعد و هي تتابع عملها ... ثم قالت بغضب
( حشيش !! .... هل تظن انك بذلك تنال من أمك يا أحمق !! ..... لقد كبرت على تلك التصرفات )
قال علي بعصبية
( و ماذا أفعل لها إن كانت لا تتكلم سوى بكفها .... و هي أقصر مني تكاد تكون من طول خصري فقط .... و في النهاية طردتني و هي تظن ان المدير المبجل قد طردني لأنني ارتكبت جريمة ..... )
ابتسمت وعد قليلا في الخفاء و هي تفكر
" حسنا لقد كنت تغازل زوجة المدير !!! .... بسيطة !! .... لو كانت أمه قد علمت لرمته من النافذة "
الا أنها قالت باتزان و حزم
( أنت مخطىء ...... هناك غيرك من يتمنى أما تهتم لأمره حتى ولو انهالت عليه ضربا بخفها )
رفع علي وجهه اليها ليقول ممتعضا
( إنها لا تزال تفعل ذلك ... دون مراعاة لفارق الأحجام بيني و بينها .... )
ضحكت وعد ثم قالت بجدية تكبت ضحكها
( ثم ماذا حدث ؟...... ما اللذي أفشل خطة إنحرافك ؟؟ ...... )
قال علي مركزا في تثبيت حبات الؤلؤ
( أبدا ...... بعد أن نزلت عدة درجات , ..... توقفت لأتخيل منظرها ككل مرة و هي تبكي بقوةٍ و تصيبها الإنتكاسة ... فخفت أن أتركها وحيدة ... لذا صعدت و جلست على السلم أمام باب البيت الى أن تقرر العفو عني .... )
ضحكت وعد عاليا ثم قالت برقة
( أنت شاب طيب جدا يا علي .......... )
رفع عينيه اليها .... فابتسمت له ثم قالت بهدوء
( علي ......... أنا أثق بك , فلا تخذلني )
قال علي بخفوت جاد
( الأمر خارج عن يدي يا وعد ......... )
نظرت اليه وعد للحظة .... ثم قالت بحزم
( انها فترة و ستمر ..... و حينها سأذكرك , و حتى هذا الحين قررت الا أتخلى عنك كما لم تتخلى عني )
رد علي بثقة
( لم يكن ذلك صعبا ..... أن أبقى معكِ طوال اليوم ..... أعمل معك , أرى حياتك عن قرب )
ابتسمت وعد و هي تتأمله .... الحقيقة أن وجود علي بجوارها الأيام الماضية هون عليها فراق كرمة و ملك .... و كم هي ممتنة لوجوده ....
حتى أن وجهه وجه خير .... العمل يتزايد بلا توقف ... هي تخيط و تنهي القطعة وهو يقوم بتركيب السحاب و بعض الزينة او الازرار .....
قالت وعد بجدية
( علي ...... يجب أن تعلم أنني أجازف بوجودك هنا دون علم سيف ,. منتهزة فرصة انه يأتي ليلا ... )
قال علي بخشونة و بعينين مجروحتين
( و ماذا سيكون الحال لو أتى دون موعد ؟؟؟ ....... )
ضحكت وعد و هي تقول
( حينها .... فليرحمك الله .........)
قال علي بجدية
( أنا لا أخافه ............ )
فردت وعد بلهجة محذرة ( تهذب يا علي ........ )
ظل ينظر اليها ... فرفعت عينيها اليه لتقول بجدية
( علي .... لو الأمر فعلا مؤلما لك و لو أني غير مقتنعة , فأخبرني الآن .... لأنك آخر شخص أريد أن أتسبب له في جرح ...... )
ابتسم علي ابتسامة ألم و حزن ..... لكنه قال بخفوت
( لن أتركك قبل أن أسلمك الى زوجك .... بالفستان و الحذاء )
رغما عنها ابتسمت و دمعت عيناها ..... ثم همست بغصة
( هذا يشرفني يا علي ........ )
ثم تنحنحت تجلي صوتها , لتقول بعدها بمرح
( لقد ذكرتني بالفستان ...... يجب أن أعمل به قليلا , لقد أزف الوقت ...... )
قال علي بخفوت
( هل أنهيتِ القطعة المطرزة التي ستلصقينها بالحذاء ؟؟ ....... )
أومأت وعد برأسها و هي تخرجها من جارور الماكينة الصغير ... لتريه قائلة باهتمام
( ما رأيك ؟؟ .......... )
نهض علي من مكان يلتقط القطعتين المزخرفتين باللؤلؤ و الماسات .... ثم قال بهمسٍ خافت
( رائعة ....... أنا سألصقها لكِ ....... )
ابتسمت وعد برقة ... ثم همست بكل صدق
( شكرا ....... لكل شيء يا علي )
ابتسم لها ..... الا أن حركة عند الباب جعلتها تنظر لتجد كرمة واقفة في اطار الباب .... تنظر اليها بملامح مقتوله .... متداعية .... فاقدة الروح ....
نهضت وعد من مكانها بسرعة لتتجه اليها جريا ... ثم وقفت أمامها تهمس بتساؤل
( كرمة !! .......... )
همست كرمة بخفوت
( دعينا نتفق على شيء يا وعد ...... لا تتحدثي عن محمد .... مطلقا .... لأنني لا أريد خسارتك ... حقا لا أريد و لا أستطيع .... )
أومأت وعد برأسها بسرعة .... و همست بصدق
( لن أعيدها ......... )
حينها انهارت كرمة و هي تبكي بخفوت , فالتقطتها وعد تلقائيا بين ذراعيها عابسة بخوف و هي تربت على شعرها بحنان هامسة
( لا بأس ..... لا بأس ...... )
.................................................. .................................................. ....................
جلست وعد بمقعدها في قاعة التدريب أمام حاسبها و هي شاردة .... متأففة ... تفكر في بعض تصاميمها ........ بينما تود لو تشنق نفسها كي تتحرر من ذلك التدريب القميء ...
لم تكن يوما من محبي الدراسة .... الدراسة بالنسبة لها كانت مجرد تذكرة كي تساعدها للهروب ... لكنها كانت تنهي السنوات بضيق النفس .... بعكس كرمة ...
استقامت في مكانها تعدل من وضع نظارتها ذات الإطارين المثلثين قليلا ..... معدلة من فرق شعرها المتوسط الذي يمنحها مظهر أنيق و بسيط ...
كانت تنتظر التدريب و الوظيفة المنتظرة بفارغ الصبر و كأنها الحلم الأول و الأخير ....
لكنها لم تحسب حساب ... الدراسة من جديد و جلسة المكاتب المملة و الفاقدة لأي نوع من أنواع الفنون ...
ترى .... هل ستنجح في تلك الوظيفة !! .... ان كانت غير مستوعبة لأي كلمة من كلمات المحاضر و كأنه يحكي طلاسم ...
و الأدهى و الأمر .... أن سيف المبجل , يعقد لها اختبار كل ليلة في غرفته ... و على سريره !! ...
كي يتأكد من استيعابها ..... الا انها كانت تتحفه بمزيج رائع من الجهل و الغباء ... مما يجعله يتنهد بقنوط وهو ينظر اليها بصمت في النهاية ....
لقد خذلته في التدريب .... فهل سيتخلى عنها و يصرف نظر عن توظيفها !! ....
لكن ان فعل , فما اللذي ستربحه من تلك الزيجة بعد أن يقرر تركها ؟!! .....
هي لن تقبل منه مبلغ نهاية خدمة و كأنها ......
احمر وجهها من وصف معين ..... لكن الوظيفة كانت ستصبح هي الربح الأكثر ارضاءا لكرامتها ...
لكنها تبلي بلاءا .... يكاد يكون ابتلاءا .......
مطت شفتيها المتكورتين بتذمر و هي تكتف ذراعيها .... الواقع انها مستاءة من شيء آخر ....
منذ عدة أيام .... تحديدا و منذ أن شعرت بالإختناق .... وهو يبتعد عنها ... ليس من كل النواحي
لكن عاطفيا .... بعد أن كانت قد .... أعتادت بعض تلك الدروس الرقيقة .... رقيقة !!!
لقد كادت أن تنسحق و تختنق !!
حسنا العاصفة ..... لقد منحها عاطفة كاسحة , ثم بدأ في سحبها !! .....
يوما بعد يوم و هي تختلس النظر اليه ..... الى يديه و شفتيه ..... تتسائل عما فعلته كي يبتعد عنها !!
انه يترك لها سريره كل ليلة كي تنام به و يخرج ! ....
لقد تبقى يومان على زفافهما ..... وهو يمثل دور ( أعمى القلب و النظر )
و كأن سلحفاة تنام بسريره .... يضع لها أوراق الخس و الجرجير كي تتناول عشائها ثم يتركها ليخرج بعد أن يغطيها جيدا !! ....
ترى ماذا سيحدث بعد يومين ؟؟ .... بعد زفافهما ؟؟ .... سؤال يستحق التفكير ......
شردت وعد قليلا وهي تفكر ..... انها تشتاق لعاطفته القوية .... فلماذا ينبذها بتلك الطريقة ....
و غير ذلك الكثير يقلقها .... كرمة و حالتها الغريبة التي تمر بها
ورد المجنونة .... اليوم و هي تمر بجوارها في الرواق صباحا كي تلحق بسيف ... لم تتوقع أن تدفعها بقوة حتى ارتطمت بجدار الرواق بقوة .... ثم اكملت سيرها!! .....
لكن هذا لا يخيفها ... فهي كفيلة بحماية نفسها منها .....
ما يقلقها أنها باتت تأتي العمل باستمرار ... وعقدت صداقة حديثة مع ميرال !! .....
لكن لماذا يقلقها ذلك ! .... فلتصادق من تصادق .....
تنهدت وعد بتوتر و هي تدعو الله أن تخرج من هذه الصوبة الزجاجية .... لقد قاربت على أن تنبت أوراق أشجار ...
خرجت أخيرا بعد قرون و قرون تضم دفترها الى صدرها و هي تسير مطرقة باحباط ....
( مظاهر الخيبة مرتسمة على ملامحك ..... )
رفعت و جهها بسرعة لتراه يقف مستندا الى الجدار مكتفا ذراعيه .... فابتسمت بروعة و قالت
( سيف ..... لماذا أتيت ؟ .... كنت سأصعد أنا لك ......لا يزال الوقت مبكرا )
استقام سيف من اتكائه .... ليسير تجاهها بثقة فارتجفت قليلا ... شوقا ...
الى أن وقف أمامها ليقول متشدقا بخفوت عميق
( أكتشفت أنني أهملتك كثيرا ........ )
احمرت وجنتاها .... فأخفضت وجهها و هي تفكر ... " أتراه شعر بشوقها له !! .... "
لكنه تابع همسا وهو يميل ليقبل وجنتها قبلة جعلتها تتلون و تحترق ....
( سنخرج بحثا عن أروع فستان زفاف .......... )
وقفت واجمة تنظر الي نفسها في المرآة بطولها ...... كانت !!! ... ملوكية المظهر ....
هيئة لم تعتدها و لم ترى نفسها فيها من قبل ....
في حجرة القياس الضيقة لمحل فساتين زفاف راقٍ للغاية حتى بدا و كأنه يلمع من شدة نظافته و اللون الأبيض الغالب على أجزائه ... بخلاف ماسات الفساتين التي زادته بريقا ....
في المعتاد تطلب العروس تصميما معينا ثم يستغرق فترة شهرين أو أكثر من أجل تفصيله بكل دقة ....
لكن في حالتها .... عروس و زفافها بعد يومين ... و بما أن العريس لم يظهر اي اهتمام بالأمر من قبل ... فلقد اعتقدت أنه نسي الأمر أو ببساطة لم يهتم اطلاقا ... أو لم يظن أنها تستحق رفاهية ارتداء فستان زفاف ...
لذا فإنها ذهلت حين دخلت مرتبكة من خلفه الى ذلك المكان الفخم لتجده يقلب المكان رأسا على عقب ,و يخبر الجميع مهتما أنها حالة طارئة ....
حين أخبرها بأنه سيأخذها لإنتقاء ثوب زفاف ... لم تخبره بأنها تقوم بتفصيل فستان زفاف كي لا تجرح مشاعره !! ...
بل قررت أن تذهب معه بدافع الفضول و الرغبة في النظر الي فساتين الزفاف الراقية علها تحصل منها على أفكار تفيدها ...
ثم تدعي أن أيا منهم لم يناسبها ....
لكن الآن !! ..... و هي تقف أمام المرآة بكآبة ..... تنظر الى الفستان الذي يبدو و كأنه قد فصل خصيصا لها ... دون خطأ واحد ... و بمنتهى الروعة و كأنه مثال الكمال ...
و بدلا من أن تشعر بالسعادة و الفخر , انتابها احساس غريب بالقنوط ... و هي ترى بعينيها مدى الهوة الكبيرة بينها بين العالم المقبلة عليه ....
الفارق الضخم بين الفستان البسيط الذي انكبت أيام على تفصيله .... و بين تلك الغيمة الفخمة المتلألئة المحيطة بقدها تمنحها قيمة لم تعرفها قبلا ....
كيف ستجد به عيبا ’ الآن ؟؟؟ ....
ربما العيب بها هي .....
.................................................. .................................................. ..........
تحرك بهدوء يسير خطوة هنا و خطوة هناك .... يناظر الفساتين دون اهتمام حقيقي ...
بل أن كل اهتمامه كان موجها لتلك الغرفة الضيقة البعيدة في ذاك الركن .... حيث توجد بداخلها شابة هزيلة , كادت أن تفقده عقله في الأيام السابقة ... و بخاصة في الليالي الطويلة ...
تنهد سيف بكبت وهو يشرد في الباب المغلق ..... متخيلا ذلك القوام الهزيل و هو يلتف داخل كومة من التل المستفز و الحرير الأبيض ...
لقد كبت نفسه بمجهود جبار في الأيام الماضية ... لكن الأكثر قلقا له هو ما بعد !! ....
حين لا يصبح هناك مجالا آخر لأي عذر ..... هل يترك نفسه لسجيته معها ؟!! ....
ان مشاعره تجاهها عنيفة بشكلٍ هو نفسه لم يعرفه من قبلها ..... وهو يخشى عليها من ذلك العنف الذي يداهمه تجاهها .... فكيف سيتحكم بنفسه حين تصبح له ... حقا له ! ....
أفاق من أفكاره على صوت الباب يفتح .... ..........
تسمر سيف بمكانه ..... و توقفت أنفاسه لعدة لحظات ....
يراها تخرج تسبقها كومات و كومات من التل .... الى أن وقفت أمامه .... مطرقة الوجه ....
عيناه طالعتا صدر الفستان المحكم بشدة و المكشوف بلا أكتاف أو أكمام ... و المرصع بمزيج رائع من الماسات البيضاء و الوردية و العسلية .... حتى أصبح في تلألؤه يشبه لوحة رقيقة الألوان تعطي أطيافا مموجة .....
سرحت عيناه على عظام كتفها الأبيض الغض .... لتتوقفان عند عظمتي الترقوة النافرتين تزيدانها جمالا و جاذبية ...
بينما ناسبهما ارتفاع وجنتيها الكلاسيكي ... خاصة مع شعرها المرفوع بعفوية مسقطا بعض خصلاته ... و مع ذلك الفرق الوسطي في شعرها و الذي منح وجهها شكل القلب ببراعة ....
و النظارة !!! .....
من يصدق أن هذا المزيج سيزداد اثارة بنظارة مثلثة ذات إطارٍ أسود !!! ....
اقترب منها دون أن يدرك أنه يقترب بالفعل ....
الى أن وقف أمامها مباشرة ... ثم تذكر حينها أن يتنفس نفسا سريعا ... قبل أن يمد يده يرفع ذقنها اليه ... ثم قال بخفوت أجش
( هل لديكِ أي فكرة عن مظهرك ؟!! .......)
لم ترد على الفور ... بل أنه قد لمح حزنا محبطا في عينيها , ثم همست بيأس عله يقتنع
( أنه .......... لا يناسبني .....)
ترك سيف ذقنها .... ليخفض أصابعه يمررها فوق عظمة الترقوة التي فتنته ... فارتعشت وعد بشدة و هي تنسى كل ما كانت تنتوي قوله ....
بينما بدا هو شاردا للغاية .... على ما يبدو أنه نسي أنها مجرد تجربة قياس ........
وهو يمر بأصابعه الى كتفها الغض ببطء و منه الى طول ذراعها ... لامسا قشعريرتها الظاهرة تحت أصابعه , ثم قال بعد فترةٍ لم تعرف عن يقين إن كانت نبضات قلبها قد تسارعت أم توقفت ....
( طبعا لا يناسبك ..... انه ....... )
رفعت عينين واسعتين اليه تنتظر الكلمة التي شردت و تاهت على حافة لسانه ... الى أن نطق أخيرا بجفاء خافت
( انه مكشوف للغاية ......... )
احمر وجهها و هي تترجم عبارته الفظة الى الكلمة صاحبة المركز الأول في الغزل من كل الكلمات التي تلقتها من قبل .... و كل هذا بفضل نظرة عينيه فقط لا غير ...
كانت تود لو أخفضت عينيها لكنها لم تستطع .... الى أن اندفع صوت دخيل بدا كبوق عربة الإسعاف من خلفهما يقول بانبهار
( رااااااااااااااائع .... راااااااااااااااائع .... )
انتفضت وعد مكانها و كأنها قد ضبطت بجرمٍ مشهود .... و هي تنظر الى السيدة الأنيقة العاملة في المكان المبهر و هي تندفع من خلف سيف لتتابق بلباقة منتعشة
( لقد صمم من أجلك خصيصا .... هل تمكنتِ من غلقه بمفردك ؟ )
قالت وعد بتوتر
( لقد أغلقت نصف السحاب فقط ....... )
طالت عينا سيف تلقائيا من فوق كتفها بعبث ....ثم قال بصوت رخيم
( و لما لم تطلبي المساعدة ؟!! ..... )
الا أنها حدجته بنظرة نار و هي تبتعد خطوة .. محدثة السيدة ناظرة الى سيف بنظرة تحذير غاضبة ..
" المراهق !! "
( آممم ..... إنه رائع بالفعل , لكن نحن آسفان جدا .... فهو لا يناسب ذوق .... زوج ...احم ... خطيبي ... زوجي ..... إنه عقد قران )
أغمضت عينيها بيأس من مدى غباء ثرثرتها ... بينما التوت شفتي سيف بابتسامةٍ متسلية وقحة ...
هو السبب في غبائها .... هو و نظراته التي تبدو و كأنها نظرات فوق البنفسجية ....
قالت السيدة بلهفة
( مما يشكو ؟!! ..... كل شيء قابل للتعديل ....)
قالت وعد بسرعة متمنية غلق هذا الموضوع
( للأسف ............)
الا أن سيف قال في نفس اللحظة , مخاطبا السيدة , متجاهلا وعد تماما
؛( أنه مكشوف أكثر مما اقبل به ..... فهل يمكن تعديله , لأنه .......)
عاد ينظر الى وعد و يترك تلك ال " إنه .." معلقة بينهما مجددا .....
فهمست بداخلها " ياللهي .... ما خطبه .... أنه يماثلها حماقة مع تلك ال "إنه" الغبية "
قالت السيدة تقتل لحظة الغباء المؤقت بينهما و قد انتفخت أوداجها بفخر
( طبعا يمكن ... طبقتين من التل الثقيل عكس بعضهما و سيبدو أجمل دون أن يظهر من جسدها شبرا واحدا )
انحنى حاجبا وعد كرقم ثمانية بطفولية .... و هي تجد نفسها محاصرة بذلك الفستان الذي التصق بها ....
بينما قلبها تعلق بآخر بسيط يقبع عند ماكينتها الخاصة منذ فترة ... منتظرا الظهور للنور ....
و لو أخبرت سيف به الآن فعلى الأرجح سيسخر منها كما فعل سابقا ... و هي لا تريد أن تتألم اليوم ...
أطرقت بوجهها باستسلام .... بينما كان سيف قد ابتعد , مخرجا بطاقة المصرف كي ينهي اجراءات حجز الثوب .... لكن عيناه كانتا عليها .....
تتأملان حزنها الخفي و هي تقف مطرقة الرأس ... و كفيها يقبضان على كومة التل الضخمة ....
رفعت وجهها اليه فجأة .... فأجفلت من تحديقه بها , فابتسمت له بتردد .... تطلب منه العون ...
على الأرجح أنها الآن تعيد حساباتها في اللحظة الاخيرة ..... لكنه والله لن يسمح لها ....
استدار بعيدا عنها يلتفت الى السيدة واضعا بطاقته أمامها بكل حزم .... مبعدا عينيه المشتاقتين بكل قوةٍ عن تلك المخلوقة الغريبة القابعة خلفه .... و التي تريد أن تأكل من يده في لحظة ... لتفر هاربة في التالية ...
.................................................. .................................................. ..................
كان لا يزال يقص عليها حكاية .... و هو يتضاحك معها , بينما كانت تبتسم له برقة و عقالها شارد بين الفستانين ....
الى ان فتح باب البيت ... و مد يده يدعوها لتدخل , و ما ان تجاوزته حتى ضمها الي صدره يدخل معها ... فارتبكت بشدة ... و طار الفستانان من عقلها مودعان حاليا .....
لكن ما أن دخلا حتى توقف سيف قليلا .. لتستشعر تشنج جسده قليلا ... ثم أبعد ذراعه عنها ببطىء و أجبر نفسه على الإبتسام بهدوء ... ليقول
( ميرال ...... يالها من مفاجأة !! .... )
انتفضت وعد لتنظر بسرعة الى الشقراء ذات الأناقة الرهيبة و هي تجلس واضعة ساقا فوق الأخرى ناظرة اليهما بابتسامة لا يستشعر سخريتها غير وعد فقط ... ثم قالت بعفوية و هي ترفع كفيها بأناقةٍ مستسلمة
( لا تلمني للتطفل ..... ورد هي من أصرت على دعوتي , خاصة و أنا وحيدة في المنزل اليوم لغياب والدي ..... لذا لم أحاول مقاومة اغراء دعوتها ..... )
اقترب سيف قائلا بتهذيب ...
( هذا من حظنا ........... )
نظرت وعد الي يده التي امتدت لتمسك كف ميرال ببرود .... و هي تتسائل هل من الطبيعي أن يمسك بكفها و قد كان معها في العمل منذ بضعة ساعات فقط !! .....
لم تحاول وعد القاء السلام عليها بقصد .... تماما كما تتجاهلها هي و كأنها دون المستوى ...
الا أن سيف استدار الى وعد يحدجها بنظرةٍ آمرة كي ترحب بها ... لكن وعد ظلت مكانها تنظر اليه بقناعٍ متجمد و كأنها تتحداه لترى ما سيفعله .... حينها قست عيناه قليلا من قلة تهذيبها ...
لكنه تنحنح وهو يقول ملتفتا مجددا
( مرحبا بكِ بأي وقت .... أين والدتي وورد ؟؟ لماذا تجلسين وحدك ؟ )
همست ميرال بعذوبة
( انهما تحضران الغذاء ....... )
قال سيف متهربا بعد لحظة توتر ...
( حسنا ...... سأدخل كي ..... ألقي السلام عليهما .... )
تبعته وعد عدة خطوات تلقائيا , الا أنه أمسك بذراعها يقول بخفوت
( ابقي هنا يا وعد مع ميرال ....... )
قالت بفظاظة
( لا ............ )
شدد أصابعه على ذراعها كما شدد على الأحرف بين أسنانه ..
( ابقي هنا يا وعد ....... )
جلست وعد رغما عنها و هي تنظر اليه بنظراتٍ تقدح شررا ..... لكنه هرب منها سريعا , فاطرقت بوجهها بتذمر و عناد ... و هي تعرف حق اليقين أنها مستهدفة بنظرات ميرال الجريئة .. الى أن قالت بالفعل
( تعجبني أناقتك يا وعد ........ )
كبتت وعد نفسا مرتجفا و هي تنظر الى الكنزة الصوفية الواسعة التي ترتديها فوق التنورة الواسعة ... كان منظرهما أنثوي محتشم ... لكنهما بالتأكيد لا يرتقيا الى مستوى بنطال ركوب الخيل الذي ترتديه تلك الشقراء و الحذاء عالي الساقين و الكعبين من فوقه ...
لكنها أجبرت نفسها على رفع وجهها بابتسامةٍ باردة لتقول بهدوء
( شكرا لكِ ...... و أنتِ أيضا ملابسك لطيفة .... )
رفعت ميرال احدى حاجبيها دون أن تتنازل و تخفض ساقها لتقول بتعجب
( لطيفة !!! ............ )
قالت وعد بعد لحظة بابتسامة معتذرة
( فقط لو ارتديتِ بنطالا ذو لون داكن ... لكان أفضل , لأن اللون الفاتح يمنحك وزنا إضافيا .... صدقيني أنا خبيرة في مسألة انتقاء الملابس )
رفعت ميرال الحاجب الآخر .... ثم قالت بخفوت
( هذا واضح من طريقة انتقائك لملابسك ....... التنورة المزركشة تبدو ...... رائعة )
ابتسمت وعد و هي تخفي ضغطها على أسنانها التي أصدرت صريرا .. ثم قالت بهدوء
( سيف يغار بشدة ...... يتمنى لو تمكن من اجباري على ارتداء خيمة )
فغرت ميرال شفتيها بما يشبه الدهشة ممتزجة بلمحة امتعاض ... ثم همست بتعجب
( معه ....... حق , فأنت ...... تستحقين )
امتقع وجه وعد وهي شعربأن كلماتها البسيطة ما هي الا اهانة مستترة ... هل أصبحت مصابة بجنون الإرتياب أم ماذا ؟!!
لم تكن يوما تصاب بمثل تلك الوساوس ... و لم تهتم البتة برأي الناس بها
لقد اضعفتها الحياة هنا ..... تكره ان تعترف لكن البريق الجديد بدأ في اضعافها .....
نظرت وعد الى ابتسامة ميرال الواثقة .... و دون أن تدري كانت أصابعها تنقبض بشرود على قماش التنورة المزركشة المخملية ....
.................................................. .................................................. ....................
وقف سيف يتميز غيظا في المطبخ وهو يجاهد كي لا يعلو صوته الذي خرج هسيسا من بين اسنانه
( أريد إجابة واحدة ..... ماذا تفعل ميرال هنا ؟!! .... )
لم تعبأ ورد بغضبه .... بل تابعت تحضير الأطباق , بينما كانت أمه تعاونها و التوتر بادي على ملامحها بشدة .. فهمس بعنف مكررا
( ورد ........ )
رفعت رأسها اليه بعنف و هي تهمس بشراسةٍ توازي شراسته
( ماذا !! ..... ماذا !! ...... هل أصبحت ممنوعة الآن من دعوة صديقة للبيت ؟!! ..... )
همس بجنون
( و منذ متى كانت ميرال صديقتك !! ..... هل تريدين اصابتي بالجنون !! .... )
توقفت ورد أمامه و هي تقول بقوة و تحدي
( و ماذا لو تعارفنا منذ عدة أيام و رغبت في أن أقوى صداقتي معها بدعوتها الى هنا ؟.... و منذ متى كان بيتنا يغلق أبوابه في وجه أحد !! ..... )
رفع سيف عينيه تلقائيا الى عيني أمه المرتبكة و وجهها الشاحب .... فأخفضت عينيها بسرعة
بينما تابعت ورد ببرود
( مما أنت خائف يا سيف .... أو الأصح مما أنت محرج ؟..... )
قال سيف بشدة
( لا يوجد في العالم ما قد يخيفني أو يحرجني ....... لكن هذا وضع غير مناسب )
تدخلت منيرة تهمس بتوتر و قلق
( لم يحدث شيء خطير يا سيف ..... الفتاة , ستنهي وجبتها معنا ثم ترحل دون مشاكل ..... انه يوم و سيمر سريعا ..... )
نظر سيف الى وجه أمه الشاحب .... ثم عاد لينظر الى ورد الواقفة تتحداه بصمت رافعة احدى حاجبيها , .... لكنه لم يجاري تحديها و هو يندفع خارجا ....
حينها رمت منيرة المنشفة الصغيرة من يدها و هي تهمس بحنق
( حقا يا ورد أحيانا تكون تصرفاتك غاية في الإستفزاز ...... )
استدارت ورد معطية ظهرها الى امها و هي تخفي ابتسامة ........
.................................................. .................................................. ......................
جلست وعد الى المائدة بصمت ...ترفع قطعة لحم الى فمها ... الا ان الشوكة توقفت في الطريق و هي تنظر اليهما بشرود ...
كانا مستغرقان في حديثٍ طويل ... سريع للغاية .. لم تستطع حتى أن تواكبه ....
حديث عن العمل ... و كانت من سرعة حديثها تبدو و كأنها هي صاحبة العمل , تحفظ به كل صغيرة و كبيرة على الرغم من قصر الفترة التي قضتها به ....
بينما كان سيف ينظر اليها باهتمام و يده تنقر بالسكين على مفرش المائدة ... ليشاركها الحديث بجدية .....
أي أحمق سيرى كم هما متناسبان تماما .....
أخفضت وعد نظرها الى طبقها و هي تتسائل بفتور .... و لماذا تهتم ؟!! ......
إنها تعرف أن هذ سيحدث آجلا أو عاجلا و سيدرك تهوره .... المهم أنه لن يفعل ذلك قبل زفافهما ...
حسنا يا وعد أفيقي .... و دعي عنكِ تلك الأوهام التملكية , الوضع بينك و بين سيف لا يسمح بها .....
عادت لترفع وجهها مرتدية قناع من البرود لتصطدم عيناها بعيني ورد المقابلتين و المتشفيتين لها ....
لكنها لم تستسلم فرفعت ذقنها بتعالٍ و هي تتعمد الأكل ببطءٍ و تأني أمامها ....
لكن صوت ضحكهما المفاجىء جعلها تلتفت رغما عنها بسرعة و هي ترى سيف يضحك بقوة من عبارة ذكرتها ميرال على احدى أخطاء العمل و ما ترتب عليها ....
و دون ارادة منها شعرت بأن ضحكاته تخنقها .......
.................................................. .................................................. ......................
بعد فترةٍ طويلة .... طويلة جدا في الواقع .. بعد أن أرخى الليل أستاره ... و هما لا يزالان يتحدثان و يتضاحكان دون اعتبارٍ لها ....
استقامت ميرال في جلستها و هي تقول برقة
( حسنا ..... لو بقيت ساعة واحدة أخرى فلن أرحل أبدا , الجلسة معكم ممتعة الى أبعد الحدود )
قالت ورد بسرعة
( لما لا تبقين قليلا ..... لا يزال الوقت مبكرا )
نظرت ميرال الى ساعة معصمها , ثم قالت بدهشة
( مبكرا !! ..... لقد مكثت هنا عدة ساعات , لم أظن أنني من محبي الزيارات الإجتماعية من قبل )
ثم نهضت دون تأخير فوقف سيف تلقائيا .... بينما بقت وعد مكانها صامتة بتذمر
حسنا لقد تعبت من ترتيب المطبخ و غسل الأواني بعد اصرار منها كي تهرب من الوضع القميء في الخارج
.... لن تنهض , انها تعرف باب الخروج أفضل منها ....
رفعت وعد وجهها المصدوم حين سمعت سيف يقول بتهذيب
( سأقلك الى بيتك ....... )
الا أن ميرال قالت ضاحكة برقة
( معي سيارتي ....... هل نسيت ؟ )
ضحك سيف بخفوت , ثم قال
( نعم صحيح , لقد نسيت ........ )
كانت وعد تنظر اليه فاغرة شفتيها بغباء
" نعم صحيح لقد نسيت !!! ..."
" الآخذ عقلك فليهنأ به !!! ..... يبدو أنك نسيت نفسك ببلاهةٍ أمام ضحكاتها و بنطال الخيل الفاتح !!! "
الا أنها انتفضت حين قالت ميرال بوداعة
( تعالي يا وعد سأقلك الي بيتك معي ........ )
هنا تدخل سيف سريعا بقوة و قبل أن ترد
( لا ... شكرا يا ميرال , وعد ستبقى قليلا )
عادت ميرال تنظر الى ساعة معصمها بنظرةٍ ذات مغزى , ثم قالت بلهجة ممطوطة
( أنا متأكدة من أنها لن تبقى الكثير .... لذا دعني أقلها كي لا تخرج خصيصا )
قال سيف قاطعا
( شكرا لكِ ميرال لكن ....... )
قالت ميرال ضاحكة بخبث
( أعرف أنك تريد أن تنفرد بها قليلا بعد أن تطفلت عليكما اليوم ...... )
ارتبك سيف أمام جرأتها الا أنه قال بهدوء
( لا طبعا .......... )
بينما كانت وعد تنظر اليهما و هي جالسة بينهما كالقزم الغير مرئي ... و هما كالهرمين فارعي الطول يتحدثان عنها و كأنها غير موجودة
لكن كلمة سيف كانت القشة الأخيرة " لا طبعا !!!! ..... حسنا اشبع بنفسك "
نهضت وعد بسرعة و هي تقول بتحدي
( شكرا ميرال ...... سأحضر حقيبتي )
برقت عينا سيف بغضب و دهشة .... الا أنها تجاهلته بعمد و هي تلتقط حقيبتها , تشيعها كلمة ورد الباردة
( سلام يا وعد ........ )
نظرت اليها وعد بجفاء دون أن ترد .... الا أن قبضة سيف على ذراعها أجفلتها وهو يميل الى أذنها هامسا
( ستعتذرين لميرال حالا ...... )
رفعت وجهها اليه بتحدي لتقول بصوتٍ مسموع
( لقد تأخرت على أبي ...... يجب أن أعود لأراه )
أوشك سيف على أن يتكلم بحنق , الا أن صوت والدته و هي تكلم مهرة في الهاتف أسترعى انتباهه و هي تقول
( لماذا تأخرتِ كل هذا الوقت يا مهرة ؟!! ....... تعالي حالا )
حينها قال سيف بقوة رافعا رأسه فجأة
( أخبريها أنني لو لم أرها هنا خلال ساعة واحدة فسأذهب اليها و أحضرها بنفسي .... )
نظرت وعد اليه بوجوم .... مهرة شقيقته عقدت قرانها منذ عدة أيام .... و مع ذلك يبدو سيف شرسا كلما تأخرت مع زوجها خوفا من ان يقع المحظور .....
لا تستطيع أن تلومه في التفريق بينها و بين أخته بعد أن تنازلت و أتت اليه بنفسها ....
لكن مع ذلك كلما رأت غيرته التي تزداد شراسة و قلقا كلما تأخرت مهرة مع زوجها , تنتابها حالة من تحقير الذات ....
لذا نزعت ذراعها من كفه و هي تقول بخفوت
( يجب أن أغادر حالا ........ لم أمر على البيت اليوم و الممرض يغادر مغلقا الباب خلفه دون ينتظر عودتي , لذا يجب أن أذهب لاطمئن على أبي ...... )
ثم رفعت وجهها قليلا تهمس بصوتٍ غير مسموع
( لا تصر أكثر من ذلك ...... أنت تحرجني )
نظر اليها بتوتر .... لكنها هربت من أمامه و هي تتجه الى ميرال المنتظرة ..... و التي ابتسمت لسيف بعذوبة رافعة يدها ملوحة له بأناقة .... ثم خرجت خلف وعد ....
.................................................. .................................................. ......................
كان الطريق طويلا صامتا بينهما .... و لم تحاول وعد قطعه و هي تنظر من نافذتها بوجوم ...
الى أن قالت ميرال أخيرا
( كيف تبلين بتدريبك ؟؟ ....... )
لم تلتفت اليها وعد .... لكنها اضطرت الى الإجابة بفتور
( كل خير ...... شكرا )
ثم صمتت متعمدة بقلة تهذيب كي تصمت هى الأخرى , الا أنها خيبت آمالها حين قالت متابعة
( لماذا أشعر بأنكِ لا تكنين لي المودة ؟!! ......... )
نظرت وعد اليها بدهشة لتقول بحذر
( لماذا تقولين ذلك ؟؟ ..... لا أعتقد أن بيننا سابق علاقة تجعلني لا أكن المودة لكِ )
مطت ميرال شفتيها و هي تتابع الطريق أمامها ثم قالت بهدوء
( ليس بالضرورة أن يكون بيننا سابق علاقة .... ربما أنتِ لا تكنين المودة لي للا سبب .... أو ربما لسبب ما بداخلك .....)
تشنجت وعد , الا أنها قالت بهدوء
( أنا لا أفهمك تماما ......... )
ضحكت ميرال بخفة ثم قالت متابعة دون أن ترتبك
( أنا في الواقع معجبة بكِ ....... )
ردت وعد ببرود متوجس
( حقا !! ........ )
نظرت ميرال اليها نظرة خاطفة ثم قالت بدهاء
( طبعا ...... لقد وصلتِ الى مكانة متميزة في وقتٍ قياسي ... )
قالت وعد مشددة على كلماتها
( و ما أدراكِ بالوقت القياسي ؟!! ..... أنا في العمل قبلك )
ضحكت ميرال مجددا .... ثم قالت بنبرة هادئة
( أعرف أنني حين أتيت كنت تقدمين القهوة ... و ترقيتِ أسرع مني بعد سنوات الدراسة و العمل الطويل الذي تكبدته ..... )
تجمدت عينا وعد .... لكنها قالت بجمود دون مقدمات أو تهذيب
( هل هذا حقد ؟!! ........... )
نظرت ميرال اليها بدهشة حتى ظنت وعد أنها نسيت الطريق تماما و سيرتطمان بأقرب عامود اضاءة .... المجنونة ستتسبب في قتلهما معا ...
و سيكون عنوان الصحف غدا
" مصرع عروس قبل زفافها بليلة ... بسبب مختلة عقليا تريد سرقة خطيبها .... زوجها "
الا ان ميرال تكلمت بمنتهى الهدوء و السخرية
( حقد !! ........ إنها كلمة شديدة الحماقة يا وعد , تعبي لسنوات طويلة و سعيي للتفوق دائما لنفسي قبل أي شيء آخر لا يسمح لي بمثل هذا الشعور الفارغ المسمى بالحقد على الآخرين ....خاصة و أن ....... )
صمتت متعمدة فقالت وعد بحدة
( خاصة و أن ماذا ؟!! ....... أنني لا أليق بأن تحقدي علي ؟!! ...... )
ضحكت ميرال عاليا .... فتشنجت وعد من ضحكتها ...... حتى فقدت القدرة على الرد , الا أن ميرال هي من استلمت دفة الحوار لتقول بمرح
( طريقة كلامك ساذجة جدا يا وعد .... أنت بسيطة ... بسيطة المظهر و التفكير كالأطفال تماما , .... أحيانا تكون لتلك البساطة جاذبيتها ..... لكن أحيانا أخرى تصبح عبء على من سيتحملها ....خاصة لو كانت مجرد واجهة لنيل ما تريدين ..... )
اتسعت عينا وعد لتقول هاتفة بحدة
( ماذا تقصدين ؟!! ...... أنتِ تدورين منذ فترة و تريدين رمي كلام معين في وجهي , لما لا تقولينه كي ترتاحي ؟؟ ...... )
لم ترد ميرال لفترة .... الا أنها قالت بهدوء
( أنتِ تتخطين الجميع بسرعة .... دون وجه حق ....... )
شعرت وعد بخزيٍ يغمرها ... و كره شديد ينبع بداخلها , لكنها قالت بقوة و غضب
(لا تنسي أنني خريجة جامعية .... ثم أنني لم أبدأ عملي حتى ..... )
ابتسمت ميرال بسخرية ثم قالت
( الآلاف غيرك خريجي جامعات و كلهم عاطلين .... الفارق هو مبلغ الخبرة الذي يكتسبه الفرد كي يتميز عن غيره ...... التدريب في حد ذاته يفوق قدراتك , و كان غيرك أحق به ..... )
هتفت وعد بصدمة
( ليس لكِ الحق في مخاطبتي بتلك الطريقة بتلك الطريقة ..... أنا زوجة صاحب العمل الذي تتقاضين منه راتبك .... )
لم تهتز ميرال و لم تختفي ابتسامتها و بل ازدادت بريقا و هي تقول بمنتهى الثقة
( آهاااااا ...... ها قد وصلتِ للنهاية بنفسك , لقد انتهى حواري بالفعل )
صمتت وعد مذهولة من نفسها قبل أن تكون مذهولة منها .... لم تعتد يوما أن تكون من هاؤلاء .... أصحاب اللقب ....أي لقب ....
ابنة فلان ... زوجة علان ....
لم تكن بهذه الشخصية يوما لأنها لم تكن منهم أبدا ....
فهل كانت تظن طوال حياتها بأنها صاحبة مبدأ بينما هي في الواقع ليست كذلك ؟!! .....
كم اختلف الأمر حين اصبح اللقب بين يديها ... توقف به من يتطاول عليها ....
لم تتردد لحظة في ابرازه كسلاح للدفاع عن نفسها ....
اعتدلت في جلستها و هي تنظر أمامها بوجوم ....
ليس هناك من تعب أكثر منها .... لذا أبسط حقوقها أن تنال ما تناله الآن .....
ليس ذنبها أن البطالة منتشرة ......
انطلق صوت ميرال يقول بهدوء
( لقد وصلنا ......... )
نظرت وعد الى حيهم بصمت ..... ثم فتحت الباب لتخرج دون حتى أن تحييها , و لم تكن ميرال تنتظر تحية فقد انطلقت محدثة صريرا عاليا ما أن أغلقت وعد الباب ....
.................................................. .................................................. .....................
دخلت وعد الى والدها تلقي عليه نظرة ....
و كالعادة وجدته مستيقظا .... الحقيقة أنه لا ينام الا بعد أن يطمئن الى وجودها جالسة بجواره .... بعدها تغادر مع سيف ....
و كأنه يخشى الموت وحيدا .....
أرادت أن تبقى في بيتها هذه الأيام على الأقل الى حين الزفاف , لكن البقاء مع والدها وحدها ليلا بات يخيفها و حالة الخرف لديه تزداد ... و تزيدها نفورا ....
سحبت كرسيا لتضعه بجوار الفراش ثم قالت بخفوت
( كيف حالك يا أبي ........... )
قال بخشونة و جهد و هو ينظر الى السقف
( لماذا تأخرتِ يا فتاة ؟؟ ...... لو كنت اشتريت عبدا لكان أكثر وفاءا منكِ )
لم ترد و عد و هي تنظر اليه بجمود ... ثم قالت أخيرا بفتور
( على الأقل أنت تعرف من أكون حاليا ......)
قال بصوتٍ متعثر
( أعرف أنني آويتك و ربيتك و كبرتك .... كي تتركيني في النهاية لرجلٍ غريب ... يحملني هنا و هناك )
نظرت وعد اليه بكبت , ثم لم تلبث أن أطلقت تنهيدة مكبوتة و نهضت من مكانها لتجلس على حافة فراشه بجوار ساقيه .... ثم قالت بخفوت
( أنا لدي عمل .... لولاه لما وجدنا ثمن الطعام و الدواء ..... )
قال بخشونة
( يا غبية ..... ستتزوجين من رجلٍ ثري و لا زلتِ تعملين ....)
نظرت وعد اليه بغرابة , ثم قالت بخفوت
( هل تعرف من سأتزوج ؟!! ........)
قال و كأنه يخاطب معتوهة
( ستتزوجين ابن عمتك اللص ..........و الذي أصبح الآن من المحترمين )
مطت وعد شفتيها و تنهدت بيأس.... ها هو يعيش حالة النكران و الخيالات مجددا .... لكنها احتفظت برأيها لنفسها
على الأقل وعيه الليلة أكثر تركيزا وقوة من الليالي الماضية ...
أخذ يتحدث و كأنه كان ينتظرها كي يتكلم بعد أن أنفض السامعين من حوله ...
( ناكرة الجميل ..... جاحدة .... أنا من انتشلتك من دار الأيتام و المشردين ... و لست كأمك التي لفظتك و لفظتني ما أن أدارت الحياة ظهرها لي ...... )
نظرت اليه بصمت ... و كأن هذا الحوار هو ما ينقصها الآن خاصة بعد حديث الشقراء المسممة .... لكنها تركته يتكلم بعد أن تركته يوما طويلا ....من أبسط حقوق الإنسانية الآن أن تدعه يتكلم .....
فتابع متذمرا بجهد
( عاشت معي أيام الخير و النعمة .... ثم رمتنا ما أن ذهب الخير ... فذهبت خلفه لتبحث عن أول فرصة .... و في النهاية تأتي كي تطلب رؤيتك بمنتهى الوقاحة ..... و كأنكِ فرسا مربوطة في اسطبل .... تنتظر من يأتي لرؤيتها بعد أن كبرت ..... )
ظلت وعد تنظر اليه باهتمام .... و حاجباها ينعقدان أكثر و أكثر ....
انه في كامل وعيه و ذاكرته تبدو حية للغاية .....
فاقتربت منه خطوة لتجلس بجواره تماما ... ثم مالت اليه تقول بخفوت
( هل لا تزال على قيد الحياة يا أبي ؟؟ ..........)
نظر اليها للمرة الأولى .... يحدق بعينيها طويلا ... فاقتربت وعد منه أكثر مكررة
( أمي ...هل هي على قيد الحياة ؟؟ ..... أرجوك أجبني .... )
قال بخشونة
( لقد أخبرتك أنها ماتت ........ )
زمت شفتيها و هي تتراجع .... ناظرة اليه بصمت , ثم قالت أخيرا
( هل هي ميتة بالفعل ؟؟ ....... )
رفع رأسه ينظر الى السقف محدقا به وهو يقول بغلظة
( ماتت و شبعت موتا ........ )
ظلت وعد تنظر اليه ..... لماذا تريد فتح دفاترها القديمة ؟!! .... ربما لأنها قد تكون الفرصة الأخيرة ....
ففرص وعيه أصبحت شحيحة .... و هذا أشعرها بالخشية ...والنهم لاستخلاص كل ما لم تعرفه قبلا منه ....
ربما .... ربما كانت امها لا تزال حية .....
لا تعلم بماذا يفيدها ذلك رغم رفضها لها طويلا ....
لكن ربما !! ...... لا تعرف ... حقا لا تعرف .... تعرف فقط أنها سألت بهدوء
( أين هي يا أبي ؟؟ .... اقصد أين كانت ؟؟ ..... ممن كانت متزوجة ؟؟ .... )
لم يرد والدها .... بل ظل ناظرا للسقف .... فنظرت اليه بيأس ... و ما أن همت بأن تغادر حتى قال أخيرا
( لماذا تهمك المعرفة ؟!! ..... لقد ماتت و انتهى أمرها ....... )
لا تدري لماذا شعرت بغضب عنيف ..... انتهى أمرها !! .... هل كانت مجرد دجاجة و نفقت !! ....
حتى ولو كانت دجاجة ناكرة الجميلة و هاربة من العشة .... الا أنها تظل أمها .... و تظل هي بيضتها التي تركتها .... الا يحق لها أن تعرف بعض المعلومات عنها ....
كيف عاشت حياتها ؟ ..... مع من كانت حين توفيت ؟؟ ..... هل .... اشتاقت اليها ؟؟ .... ولو قليلا ؟؟؟ ...
كيف ستشعر حين تعلم أن ابنتها على وشكِ الزواج ؟؟؟ ......
هل ستحضر لرؤيها ؟؟ .......
هذا إن كانت لا تزال على قيد الحياة .....
نظرت وعد الى والدها لتقول بخفوت
( أبي ........ أريد عنوان تواجدها , حية أو ميتة ...... رجاءا .... لو تتذكر لي أي خدمة قدمتها لك ... أخبرني بمكان تواجدها حية أو ميتة ...... )
لم يرد عليها ..... فتنهدت وعد بتعب ... و نهضت واقفة تقول بجفاء
( سأذهب لأنام يا أبي .....إن لم تكن تريد شيئا آخر )
اتجهت الى باب الغرفة , لكنها توقفت حين سمعت همهماته .... فاستدارت اليه عاقدة حاجبيها تحاول سماع ما يقوله .... ثم اقتربت عدة خطوات منه , الى أن مالت اليه تهمس
( ماذا تقول يا أبي ؟ ........ )
رد مجددا بخشونةٍ خافتة ... ......
استقامت وعد و هي تنظر اليه بعينين متسعتين ... دولابه ؟؟ !!!.....
هل رأف بحالها بالفعل ؟!! ....
و هل أمها فعلا على قيد الحياة ؟!! .....
اتجهت وعد الي دولابه حيث أخبرها بمكان صندوقه القديم ....
أمسكت وعد بالصندوق ... تزيح بأصابعها الغبار عن سطحه .... الى أن مرت يدها على مفتاحه المثبت بالقاعدة .... ففتحته بسرعةٍ لتجد العديد من الأوراق الصفراء القديمة ....
لم تتبين منها ايها يقصده .... فعادت بسرعةٍ اليه و هي تقول
( ايا منها يا أبي ؟؟ ......... )
لكنه لم يجبها و لم ينظر اليها حتى .... بل كانت ملامحه قاتمة ... رمادية ....
حين يئست من رده ... وضعت الصندوق على طاولة جانبية , و هي تنوي أن تفتشه ورقة ورقة فيما بعد علها تحصل على معلومة مفيدة ....
ظلت وعد واقفة تنظر اليه قليلا ... ثم لم تلبث أن سحبت كرسيها من جديد , و جلست عليه قائلة بخفوت
( نم يا أبي .... سأبقى بجوارك الى أن تنام )
أخذ يهمهم ... مسدلا جفنيه ... بينما زاويتي عينيه كانتا مغضنتين ... بألم .....
و بقت هي تنظر اليه بوجوم طويلا ..... الى أن سمعت صوت هدوء أنفاسه المتحشرجة ....
فنظرت مجددا الى صندوق الأوراق القديمة المفتوح .....
.................................................. .................................................. .................
وقفت وعد أمام مرآتها تنظر اليها بصمت ....
وجهها ينظر اليها و عيناها تتهربان من عينيها ... و حين لم تجد بدا من المواجهة قالت أخيرا بخفوت
( و ماذا بعد يا وعد ؟!! ........ الزواج بعد ليلتين , ثم لا رجوع ...... )
أخفضت نظرها الى يدها الممسكة بحزمة أوراق مالية .... لقد ادخرت معظم ما ربحته الفترة الأخيرة ....
لم تمسك يوما مبلغا من المال يوازي هذا المبلغ ....
عادت لترفع عينيها الى صورتها لتقول بخفوت
( لقد بدأ الحال يتعدل قليلا .... بعض الصبر جعل المركب تسري .... لو كنت قد صبرت قليلا .... )
الا أن صورتها نظرت اليها متحدية ...
" ما كان الحال يتعدل بدون مساعدة سيف ... لا تخدعي نفسك , هو سهل لكِ التفرغ حتى تحصلي على تلك النقود .... هو من دفع ثمن علاجك و علاج والدك و هيأ لكِ وظيفة ساندتكِ الى أن ازدهر مجال الخياطة قليلا "
" من قبل أن تعرفيه .... كان الوقت شحيح ... و المجهود عنيف ... و العائد قليل ... لذا كان يتبخر قبل أن تستطيعي التقدم خطوة للأمام ..... "
ظلت وعد تنظر الى صورة عينيها المتسعتين .... ثم قالت بخفوت
( لم يفت وقت الهرب بعد ....... على الرغم من طيبته البادية , الا أنه يرقد على حافة بركان الماضي , ولو وجد يوما أنه لم ينل مني ما يعطيه ... قد يتخلص منى و هذا ما أتوقعه ..... لكن الأسوأ ... أن يمتلك زمام حياتي كمقابل لما آخذه منه ...... سيف لن يسمح لي بالتحرر و الطيران بعيدا .... و هذا ما لن أسمح به له أبدا .... الحياة بيننا ستكون كالسير على الخيط الرفيع ....... )
أظلمت عيناها و هي تتذكر كلمات الحقيرة ميرال و التي ما أقلتها الا لتبث سمها في عروقها ....
تنهدت وعد بغضب ... لماذا يصر الجميع على اصلاح شأنها هي ... و كأنها أصبحت ذات أهمية بالغة فجأة بعد أن كانت منسية من الحياة ....
عادت لتفر الأوراق المالية بأصابعها بوجوم .... ثم لم تلبث أن ألقت الرزمة بلا اهتمام على طاولة الزينة ...
و استدارت الى ماكينتها الموضوعة على الطاولة الخشبية القديمة ذات العجلات الصغيرة ....
كم هي مفيدة تلك الطاولة التي لم تعرف قيمتها غير الآن ... و هي تتنقل بها صباحا الى الصالة الخارجية , ثم تعود بها ليلا الى غرفتها .......
اقتربت وعد لتجلس أمام الماكينة ......واضعة يديها عليها مبتسمة ... ثم قالت بخفوت
( كم أنتِ أصيلة !! ...... لقد تحملتني طويلا على الرغم من تقدم عمرك .... تعملين بنفس الكفاءة كيوم أخذتك مستعملة .......سأشتاق اليكِ .... )
ثم نظرت وعد الى فستان زفافها الذي اوشكت على انهائه ... و تنهدت بيأس هامسة تخاطبه
( يبدو أن لا نصيب لي معك .. كانت أحلاما سعيدة بيني و بينك و محظوظة أخرى غيري ستحظى بك ... )
ظلت تتلمس القماش طويلا ... ثم لم تلبث أن ابتسمت تقول برقة
( هذا لا يعني الا أنهيك على أكمل وجه ....... )
رفعت نظارتها الى عينيها ... و بدأت في العمل على انهاء خياطة ذيله ....
و قلبها يرتجف ترقبا و شرودا في تلك الليلة المنتظرة .... نفسها المتوترة تحدثها بالهرب ... و عقلها يخبرها إن هربت فسترى من سيف سوادا أكثر مما تخافه في قربه ....
و روحها .... تهفو لبضعة أيامٍ بقربه ....
صوت رنين الجرس قاطع تفكيرها الشارد ... فرفعت وجهها و عيناها تبرقان و شفتاها تبتسمان رغما عنها ...
ثم نهضت جريا خارجة من غرفتها الي الباب .... تفتحه دون سؤال و ووقفت تنظر اليه مكتفة ذراعيها فوق صدرها الخافق تبتسم بخبث .... بينما قال هو بغضب
( كيف تفتحين الباب دون سؤال ؟!! ....... )
قالت بشقاوة و عيناها تتلألآن
( كنت أعلم أنه أنت ........... )
نظر الى عينيها البراقتين من تحت نظارتها .... ثم قال بصرامة وهو يدخل فتتراجع هي خطوة ....
الى أن أغلق الباب خلفه
( و من أين لكِ بمثل تلك الثقة ؟؟ ..... ربما رغبت في معاقبتك بعد تلك الحماقة التي فعلتها ... )
ظلت تتراجع منه و هي تقول ببراءة
( أي حماقة ؟!! ........ موظفتك المهذبة عرضت أن توصلني للبيت فقبلت .... )
تقدم منها خطوة ... و تراجعت هي خطوتين ....
ثم قال بخشونة
( حسابك معي عسير ........ )
دارت حول الطاولة و هي تقول بعفرتة تحاول تغليفها بالإتزان و الجدية الزائفة تساعدها نظراتها السوداء المثلثة ....
( لن تستطيع فعل شيء ......... )
رفع احدى حاجبيه وهو يقول بتهديد بينما غضبه لم يغادره بعد
( حقا !! ........... )
قالت بتحدي و جرأة
( نعم ......... )
أومأ برأسه متفهما ... مطرقا .... فوقفت مكانها تنظر اليه بتوجس , الا أنها انتفضت حين هجم عليها مرة واحدة و في خطوتين اثنين كان يعتقل خصرها ليرفعها عن الأرض و هي تكتم صرختها المرعوبة ....
الا أن سيف سيطر على تلويها ... و قال بخشونة أمام وجهها
( ماذا كنتِ تقولين ؟؟!! .........)
همست تبتسم بتحدي ... تستفزه أكثر و أكثر عله ينفجر و يسحقها ...
بينما كان قلبها المشاغب يخفق بعنف ... متلهفة جدا لتلاعب الأطفال الذي لم تعرفه من قبل ...
( كنت أقول ..... لن تستطيع فعل شيء ............ )
ازداد بريق عينيه تألقا وهو ينظر الي وجهها المشع ... لكنه قال بجدية
( ألست خائفة مني ؟!!......... )
بهتت ابتسامتها و هي تدرك المعنى الخفي لسؤاله و البعيد عن المزاح .... إنه لا يزال يفكر بتلك الليلة التي أصابها الإعياء بها و هي بين ذراعيه ... لذا قالت بعد فترة بخفوت
( لا ...... لست خائفة ...... )
قال سيف بخفوت وهو يدقق النظر بعينيها
( و لا حتى بعد الزفاف ؟؟ .......)
احمر وجهها قليلا , لكنها قالت متذمرة عاقدة حاجبيها
( حسنا أنت من تخيفني الآن بأسئلتك تلك ..... )
ابتسم قليلا , ثم قال بخفوت وهو ينظر الي عينيها
( لا تخافي .......... )
شردت بعينيه ... فقالت بغباء قبل أن تستطيع أن تمنع نفسها
( هل أنت متحمس لبعد الغد ؟؟ ......... )
اختفت ابتسامته و احتدت أنفاسه بقوة و هو يزفرها ساخنة فوق بشرتها ....
سؤالها البسيط أوقد ناره ... و كأنها انطفأت من الأساس !! ....
أخذ يتأمل وجهها بملامحه الجميلة ذرة ذرة ... حتى وصل الي شفتيها العريضتين المهلكتين .... و طال النظر به اليهما ... ثم قال بجدية
( نعم يا وعد ..... متحمس للغاية ... بل أن كلمة متحمس لا تكاد تصف ما أشعر به حاليا )
أطرقت بوجهها ... و هي تبتسم بخجل , لكنه سألها بجدية
( و أنتِ ؟ .......... )
أومأت بوجهها بخجل بعد فترة ..... و رغما عنه تشعره بساطة صدقها بالتوتر ....
ذلك الصدق و تلك البساطة في المشاعر لا تشبعه .... فقط توقد ناره أكثر دون أن تشبعه ....
يود لو يصهرها صهرا .... يود لو ارتبكت و كذبت كي تخفي ما تشعر به .... يود لو صرخت نافية لتلك المشاعر , و حينها سيشعر بخطورة ما تشعر به ...
لكن صدقها يخبره أن الأمر بالنسبة لها ليس خطيرا بعد ..... هل هو مجرد اعجاب و احساس بمشاعر لم تختبرها قبلا ؟!! ..... إن هذا لا يرضيه و لا يكفيه أبدا .....
يريد أن تلتف من حوله .... و يكون هو محور دورانها الوحيد ......
هل هو مجنون .... أم أنه ببساطة يريدها أن ..... تحاكيه !! ....
هتف بصوتٍ ناري خافت لفح وجهها
( وعد ......... )
رفعت وجهها اليه مجفلة من عمق نبراته .... فقال لشفتيها ضائع التركيز
( انصهري بي ...... اتحرقي بناري ... )
ازداد اجفالها من هول الأحاسيس المتعاقبة على وجهه .... و بهت وجهها قليلا , فلم تجد سوى أن تهمس باسمه .... لتطير منها كل أفكارها المترددة حول اتمام زفافهما ...
رفعت ذراعيها تحيط بعنقه و هي تريح جبهتها فوق جبهته بصمت ... بينما صدره يضرب صدرها بقوة بددت هذا السكون .... ... يحنو على شفتيها بقبلاتٍ رقيقةٍ كالنسيم... حارقة كالحمم ... معذبةٍ بوجع ...
لا يترك لنفسه هواها .... فلو تركها لن يستطيع التوقف هذه المرة ...
تضخم صدرها من شدة تعذيبه البطيء لها .... ودت لو تصرخ به أن يقتحم أنوثتها كما عرفت منه وحده دون غيره .... الا أنها كما يبدو لا تزال تمتلك بضع ذرات من الحياء .... تحمد الله عليها ....
ارتجفت بشدة و عضت على شفيها المشتاقتين ... ثم همست بخفوت يكاد لا يسمعه غيره
(سيف ........ )
تأوه بداخله ..... صوتها المتزن حين يأتي باسمه لاهثا مترجيا يكون قادرا على قلب كيانه و تحويله الى مجنون ....
تلك الفتاة الصلبة خارجيا ..... من يعلم أن بداخلها كيان هش ناعم كقلب ثمرة أناناس ....
أوشك على أن يلتهم اسمه من بين شفتيها ضاربا بسيطرته عرض الحائط , الا أنها سبقته و همست بتورد
( لماذا أنا ؟!! ............. )
همس و جبهته على جبهتها
( لو كنت أعلم الجواب لما كنتِ بين ذراعي الآن ....... )
ابتسمت قليلا دون أن ترفع وجهها عن جبهته .... لكنها همست بخفوت
( لا تؤلمني ............ )
صمت سيف و تولى صدره ذو المضخة القوية اخبراها بتجاوبه مع كلماتها ... ثم أنزلها ببطء حتى انطبعت حناياها الهشة مع جسده القوى ... فارتجفت شوقا بين ذراعيه .... فقال بخشونةٍ خافتة
( لو أعطيتك وعدي ... فهل تمنحيني وعدا مماثلا ؟.... )
ردت وعد تبتسم همسا تطمئنه
( لا أملك القوة الكافية لإيلامك ......... )
رفع وجهه ينظر الي عينيها .... ثم قال بجدية
( و مع ذلك لا تحاولي ............... )
عضت على شفتها قليلا .... ثم قالت و هي تطرق برأسها
( لن أفعل ............. )
نظر اليها بصمت ... إنها المرة الأولى التي ينتزع منها وعدا صريحا بشيء ....
سخر من نفسه وهو يراها للمرة الأولى ضعيفة تلك الدرجة .. تهفو الى كلمةٍ مسترقة من شابةٍ نحيفة ذات سلطانٍ عليه ...
لقد بدأ يؤمن برابطة الدم .... لا تفسير آخر ...
رابطة الدم أقوى مما كان يتخيله في كل أفكاره السابقة
تلك الفتاة يجري دمها في دمه .... مع كل الكره و كل الماضي ...
الا أن دمها يسري في عروقه متمردا متحديا إياه أن يقاوم تدفقه .... تخبره كرياته الحمراء أنها ستظل هناك ... للأبد ....
أخفض سيف رأسه .... يقبل وجنتها بقوة ... مغمضا عينيه ...
هامسا لنفسه ... " وجنتها ليست خطرة .... لا ضير من تقبيل وجنتها "
الا أن تجاوبها الخجول كان يرعبه ... و هي تدير وجهها اليه عن قصد ... حتى أصبحت شفاههما على بعد شعرةٍ واحدة ....
و عيناها تائهتان بشفتيه .... ... لذا قال بخشونة أول ما طرأ على باله
( نظارتك دخيلة على المشهد .... )
للوهلة الأولى لم تستوعب ما قاله ... لكنها فكت انعقاد حاجبيها ليرتفعا بدهشة و هي ترفع اصبعها الى أعلى أنفها تتأكد من أنها لا تزال تضع نظارتها بالفعل ....
النظارة كانت بينهما مع كل تلك القبلات !!! ....
عاد حاجبيها لينعقدان بشدة .... لا عجب اذن في أنه لا يتمادى معها وهو يراها تشبه ذبابة الفاكهة ....
أمسكت بذراع النظارة تنوي خلعها ... الا أنه أمسك بكفها على جانب وجهها وهو يقول بصوتٍ أجش خافت
( لا تفعلي ...... انها تزيدك جاذبية )
عبست وعد و هي تمط شفتيها قائلة بحنق
( أنت تهزأ بي ........... )
الا أن عيناه لم تكونا تهزآن بها أبدا ..... وهو يقول متسليا بعبث
( انها أكثر اثارة ..... يمكنك الإحتفاظ بها مع الطاقية ذات الفراء )
نزعت وعد يدها بقوة ... و هي تقرر معاقبته بأن تبقى بالنظارة ....ثم قالت بحنق
( لن تنال شرف رؤيتي بالطاقية أبدا ........ )
ابتسم سيف بحنان وهو يقول بخفوت
( ستبدين رائعة بها .... و معها النظارة ... بينما شعرك الحريري ينساب من تحتها ... )
مد يده متفاعلا ممسكا بخصلةٍ من شعرها الطويل لتنسدل على كفه كالحرير المتساقط ....
لم تستطع أن تمنع ابتسامة رقيقة من التسلل لشفتيها ...... ثم همست بخجل و هي تطرق برأسها
( نعم سأكون رائعة بالفعل .... و ربما حينها يمكنني نيل دور البطولة في مسرحية البؤساء )
ابتسم اعمق وهو يمرر ظاهر اصابعه على وجنتها بشرود ..... ثم قال بجدية و خفوت
( لماذا لم تخبريني بحاجتك لنظارة ؟؟ ......... )
ارتبكت قليلا ... لكنها لم تجد غير أن تقول بخفوت و بوجهٍ شاحب
( انها من مالك على كلِ حال ........ )
لم يرد وهو ينظر الى كبريائها المصاب .... فقال بجدية و خفوت
( سأخصص لك مبلغا ماليا خاص .... و بطاقة مصرف لتشتري كل ما تريدين )
كان من المفترض أن تقفز فرحا .... أن تتخيل حرية الشراء و الإنطلاق ... اليس لهذا السبب قبلت الزواج منه !!
لكنها لم تستطع .... لقد ازداد امتقاع وجهها ...
أن تأخذ منه ما يوازي مساعدة لظروف قهرية استطاعت القبول به نوعا ما .....
لكن أن تمنح المال كي تترفه و تتنعم ..... هذا جعل منها نموذج بغيض , يشبه ما ذكرته كرمة ....
ليست كل الزيجات بنيت على الحب , لكن على الأقل .... تتطلب النية الصادقة في الإستقرار ... الإستمرار و بناء الأسرة .... لا أن تكون مجرد سلمة مؤقتة للراحة و الترفيه .....
رفعت نظرها الى سيف تنظر اليه بوجوم .....
فقال بخشونة
( فيما تفكرين ؟........... )
ارتجفت شفتيها في ابتسامة مهتزة .... ثم همست بعد فترة
( في أنك أعطيتني الكثير بالفعل ...... )
لم يبد الإقتناع على وجهه .... بل اكتست ملامحه جمودا و صلابة .... ثم قال بإيجاز
( أنتِ زوجتي .......... )
بدت نبراته القوية الخافتة تحمل تهديدا خفيا بين طياتها .... فابتسمت بتوتر ... و همست
( سيف ...... حين أحتاج شيئا , سأطلب منك ..... )
ثم افتعلت ابتسامة لم يصلها المرح و هي تقول بعفوية كاذبة
( و ممن سأطلب إن لم أطلب منك اذن ؟!! ...... )
لم يضحك مع ضحكتها .... بل ظل ينظر الي عينيها , ثم قال بخفوت
( اطلبي مني ما شئتِ ....... لكن سيظل عندك مالك الخاص )
ابتسمت بصدق هذه المرة و هي تنظر اليه .... ثم همست بخفوت
( شكرا ............ )
لم يرد عليها .... لم يرد كلمة الشكر البغيضة التي اعتادها منها ....
الحقيقة أنه بخيل جدا معها .... لم يكن يوما بخيلا ... لكن شيئا بداخله كان يخشى أن يراها بصورةٍ هو يتوقعها في كل لحظة ....
لكن خلال الأيام الماضية ... بدأت طاقات الحماية و الكرم بداخله تتدفق تجاهها ....
صحيح أنها لم تظهر بعد دفعة واحدة .... لكنه سيعمل على ذلك بالتدريج , الى أن تشبع تماما ... الى أن يشبع طفولتها المحرومة ...لكن شيئا فشيئا ....
تنحنحت وعد و هي تقول مبتسمة لتغير الموضوع
( اذن .....ألن تتعطف و تخبرني أي معلومة عن زفافنا المجهول ؟!! ..... زفافي بعد يومين و لا أعلم عنه شيئا بعد ..... )
ابتسم سيف قليلا .... ثم قال بهدوء وهو يضم خصرها بذراعيه يجذبها الى صدره ....
( هل تريدينه فخما ..... زفاف أسطوري يتحدث عنه الجميع لفترة طويلة فيما بعد ؟!!.... )
ابتسمت وعد بشيءٍ من الخوف و الرهبة ... و شردت عيناها لأعلى قليلا ... تتخيل نفسها مرتدية ذلك الفستان الفخم ... في حفل زفاف أسطوري ....
بينما كان هو يراقبها مسحورا ... يستشعر بسهولة خفقات صدرها المذعورة فوق قلبه .... يتلذذ بانبهاراتها الصغيرة ...
لكنها هزت رأسها ضاحكة و هي تقول
( سأسقط مع أول خطوة أمام الجماهير العريضة ....... )
ضحك سيف و هو يشدد من ضمها الى صدره , ليقول بخفوت مداعبا أنفها بيده
( سألتقطك على الفور ......... )
أغمضت عينيها و هي تهز رأسها نفيا ... بينما الخوف يتلاعب بضحكاتها الخافتة
( أرجوك لا تخبرني أنه حفل كبير ...... أنا أرتبك بسهولة ... )
ابتسم سيف بعمق و همس بحرارة
( ارتبكي كما ترغبين ..... فأنا سأكون بجوارك دائما , هل نسيتِ ؟؟ .... )
نظرت الى عينيه بابتسامة .... حينها لم تستطع المقاومة و هي تغمض عينيها تحت نظارتها الأثرية ....فتأوه بغضب وهو يفكر
وعد + نظارتها + بيتها = نتائج غير محمودة العواقب ...
و قد لا تتمكن بعدها من النجاة حتى الزفاف ....
لكن التفكير تاه وهو يتأمل وجهها البسيط الناعم ذو العظام النافرة ..... و لم يدرك أن وجهه ينخفض اليها ... الا حين سمعا طرقا على زجاج شراع الباب ...
ففتحت وعد عينيها بسرعة ... و انتفض سيف داخليا وهو ينظر للباب ...
ثم سمعا معا صوت الأستاذ صلاح و هو يطرق زجاج الباب بظهر عصاه الخشبية
( افتحي يا وعد ...... انه أنا عمك صلاح )
ضحكت وعد و هي ترفع يدها الى فمها كي تمنع صوتها .. ثم نظرت الى سيف الواجم و همست بذهول
( حسنا أنه متقصدك ........ لا أملك له المزيد من الأعذار .... انه فعلا يتقصد ازعاجك )
تحررت من سيف و هي تهمس معتذرة بينما الإحباط يقتلها ...
( لا بد أن أفتح له ...... لقد كان كريما معي للغاية منذ مرض والدي )
تركته و ابتعدت تعدل من ملابسها ...بينما وقف سيف مكانه شاكرا الأستاذ صلاح للمرة الأولى منذ أن ابتلي بعرفته
دخل صلاح .... حاملا لعبة الطاولة تحت ذراعه ....بعد أن فتحت له وعد وهو يقول
( كيف حالك يا بنت يا وعد ...... و كيف حال والدك ؟؟ .... ألم يشتم بلفظ خارج واحد بعد كي نستدل منه أنه بخير ؟!! ......)
قالت وعد بخفوت
( انه أفضل يا عم صلاح ..... أحيانا يتعرف علي و يكملني طويلا ... و أحيانا يفقد تركيزه تماما .... و يتخيلني ..... شخصا آخر )
عضت على شفتها و هي تلمح نظرة سيف الغاضبة القلقة من مرض والدها الغريب و كأنه يتقصد ما يفعله ....
قال صلاح وهو ينظر الى سيف مشيرا اليه بعصاه
( و أنت يا ولد كيف حالك ؟؟ ......... )
قال سيف وهو يضع كفيه بجيبي بنطاله
( بخير حال ....... تفضل )
الا أن صلا لم يكن ينتظر دعوته وهو يجلس بالفعل ... واضعة لعبة الطاولة على طاولة صغيرة مامه ... و يفتحها ... ثم قال بلهجة الأمر
( تعال يا ولد ........ العب معي ,و أنتِ يا وعد ... أعدي لي كوب ينسون )
نظرت وعد اليه بذهول .... ثم لم تلبث ان ضحكت و هي تلمح وجه سيف الذي بدا و كأنه على وشكِ قتل أحدهم .... فقالت مسرعة قبل أن يتم القبض عليه بتهمة الشروع في قتل مسن ...
( ينسون يا عم صلاح ؟!! ..... هل تنوي أن تغني ؟!! )
قال صلاح بخشونة
( سنغني يا ظريفة ...... بعد قليل سأحضر العود من شقتي و أطربكم فقد تنظف آذانكم قليلا بطربٍ قديم ...)
اغمضت وعد عينيها بيأس و هي ترفع يدها الى وجنتها ضاحكة دون صوت بينما هتف صلاح آمرا
( الا زلت واقفا يا ولد !! ...... أجلس )
نظر سيف بنظراتٍ متوحشةٍ الى وعد .... فرفعت كفها تربت على صدرها و عينيها تترجيانه على الرغم من الضحك البادي بهما ....
ثم همست تقول
( على الاقل يظل اللعب اهون من الغناء ....... )
نظر صلاح الى وعد وهو يقول بخشونة
( سمعتك يا قصيرة النظر ........... )
نظر اليه سيف وهو يقول بفظاظة
( لا تنعتها بذلك ......... )
نظر اليه صلاح بطرفِ عينيه ثم قال
( و من يشهد للعروس !!.... لو انها فقط لم تكن هزيلة و بأربعة أعين )
قال سيف بغضب
( الآن اسمع أنت ..........)
قالت وعد تقاطعه بسرعة و هي تضحك
( إنه يستفزك يا سيف .... بت أعلم العم صلاح جيدا في الآونة الأخيرة .... مؤسف أننا لم نوطد علاقتنا ببعضنا من قبل .... )
تذمر صلاح وهو يعد أقراص اللعبة
( و هل كان أحد يجرؤ على الإقتراب من بيتكم دون أن يناله لسان والدك المفخخ ........ )
رفع وجهه الى سيف التحفز ثم قال بخشونة و صرامة
( أجلس يا ولد و العب كالرجال ....... )
جذبت وعد سيف من ذراعه رغما عنه الى أن أجلسته أمام صلاح و هي تقول بمرح
( اجلس يا سيف ..... دعنا نستمتع قليلا , و أنا سأحضر لكما ما تشربانه )
بعد ساعة ...
كانت تجلس على كرسي خشبي بينهما و هي ترفع يديها هاتفة تحيي العم صلاح ... بينما كان سيف ينظر اليها بغضب ....
و هي لم تهتم بغضب هزيمته .... بل كانت تعيش ساعة مميزة ...
الجو كان باردا , لكنها كانت تلف نفسها بشال صوفي قديم .... تراقب اثنين اعتبرتهما عائلتها مؤقتا و هما يلعبان .....
لم يشهد هذا البيت لعبا و ضحكا و دفئا من قبل ..... كانو كأسرة صغيرة بالفعل , شعور لم تجربه من قبل كعدة مشاعر لم تجربها قبل معرفتها بسيف ....
كانت لتقضي الليلة منكبة على الخياطة في غرفتها شحيحة الضوء ... بينما الظلام يعم كل البيت و الريح تصفر بين أرجاءه ...
عضت على شفتها و هي تنظر بينهما بشرود و بعينين تتألقان .... الى أن التقتا بعيني سيف المحدقتين بها ...
فابتسمت بامتنان ..... و همست دون صوت و دون تفكير ... فقط بحركة شفتيها
( شكرا ..... )
انعقد حاجبي سيف بشدة وهو يقرأ حركة شفتيها بنفس الكلمة ... لكن انطباع وجهها المأسور أسره ....
حينها عقد حاجبيه اكثر بعزم و هو ينظر الى صلاح .. ثم رمى حجري الزهر وهو يقول
( حسنا ..... العب عشرة أخرى , أم تخشى الهزيمة ؟..... )
رفع صلاح احدى حاجبيه .... وهو يقول
( اذن انت لا تتعظ ؟!!! ...... كنت اريد المحافظة على المتبقي من كرامتك امام زوجتك .... )
قال سيف متحديا
( العب ايها العجوز و كف عن الثرثرة ....... )
تذمر صلاح وهو يبدا اللعبة قائلا
( ايها العجوز !! ..... لا أدب و لا حياء .... لم تتغير أخلاقك كثيرا يا ولد منذ صغرك )
التفت رأس وعد كالرصاصة الى صلاح و هي تقول بتعجب
( هل كنت تعرف سيف في صغره يا عم صلاح ؟!! ...... )
نظرت الى سيف فوجدت ملامحه هادئة لكن جامدة وهو ينظر الى طاولة اللعب ....
لكن صلاح تكلم ليجذب عينيها الحائرتين مجددا ..
( لم أره سوى مرة واحدة ..... حين كان لصا )
همست وعد بذهول
( ماذا ؟!! ........... )
فضحك صلاح وهو ينظر بتركيز للأقراص قائلا
( زوجك العتيد .... قرر ذات يوم أن يمتهن الإجرام لكنه فشل بفظاعة .....اقتحم بيتكم ليسرق والدك , لكن والدك أمسك به و قيده بالحبال ..... )
اتسعت عينا وعد بذهول أكثر و هي تتأكد من ملامح سيف ... لكنها كانت كقناع فولاذي , حتى أنه رفض النظر لها ... بينما تابع صلاح
( آآآه .... كان صبيا عنيفا .... سليط اللسان بفظاعة تتعدى سنوات عمره , ....... لكنه كان على حق ... استطعت تبين ذلك من حرقة صوته ... و نظرات عينيه .... كان يسترد حقه من والدك ..... بينما والدك لم يرحمه ..... )
تكورت شفتي وعد في تأوه صامت ..... ذاهل .........
و تابع صلاح دون أن ينظر اليهما ....
( أكثر ما آلم قلوب جميع سكان الحي .... هو منظر والدتك التي أتت على فورها باكية و انحنت تقبل قدمي خالك كي يتركك .... )
انحنى حاجبي وعد بشدة و اغروقت عينيها بالدموع .... ثم همست تسأل سيف
( لماذا كنت تريد ..... سرقة أبي ......)
لم ينظر اليها سيف ... و لم يتغير قناع وجهه , لكنه قال بصوتٍ ميت بعد فترة
( كان حق والدتي في ميراثها ...... كنا قد تركناه لسنوات و قررنا نسيانه , لكن مرض والدي حينها جعلني أحارب كي أسترد حقها ... لإحتياجنا له ....لولا ذلك لكنت تعففت عنه و تركته ينعم بذلك الميراث للأبد .. )
همست وعد دون صوت و الدموع الحبيسة تزداد في عينيها ... بينما نظرت الى باب غرفة والدها المغلق
( ياللهي يا أبي ......... لم تترك أحدا الا و آذيته ..... )
لكنها نظرت الى سيف مجددا ... و قوت صوتها المتحشرج و هي تقول بأمل
( لكن من الواضح أنه ...... تركك أخيرا .... فها أنت ناجح .... قوي ..... )
ابتسم سيف بسخرية وهو يعد ترتيب الأقراص .... ثم قال بهدوء بعد فترة طويلة
( ثلاث سنوات بالإصلاحية ..... لم يتنازل عنها والدك )
رفعت وعد يدها الى شفتيها المرتجفتين و هي تغلق عينيها رعبا .. حتى انسابت دمعتان حبيستان على وجنتيها بصمت ....
لكن سيف تابع بقسوة
( و مات والدي بعدها بفترة قصيرة ..... و بقيت أمي و أختي وحدهما ... الى أن خرجت )
فتحت وعد عينيها المبللتين بالدموع ... ثم همست بإختناق
( هل ضربك..... حينها ؟......... )
عاد سيف ليبتسم ببأس .... ثم قال بهدوء
( خمسة عشر صفعة ....... بخلاف الجلد بحزامه , لكن الصفعات هي التي احتفظت بها جيدا بداخلي ..... )
شهقت وعد تغص بدمعةٍ أخرى حاولت جاهدة منعها أمام صلاح ..... لذا نهضت بسرعة و هي تقول بصوتٍ أجش مختنق ....
( سأعد لكما ما تأكلانه ............ )
لكنها ما أن وقفت .... حتى انتابها شيء غريزي ... كغريزة الأم ... و هي تنحني الى سيف فجأة ممسكة بفكه القوى بين أصابعها ... لتطبع شفتيها الدافئتين على وجنته الصلبة بقوة ..........و أبقت شفتيها عدة لحظات ثم همست لأذنه
( لقد نلت أكثر منها على مر سنوات عمري........ لكن لو كنت هناك .... لكنت دافعت عنك ... )
ثم استقامت بسرعة و هي تنظر الى عيني سيف المذهولتين بتلك العاطفة الخالصة التي قدمتها له لأول مرة بصدق ... و قبل أن يمسكها كانت قد فرت الى المطبخ ....
وقفت وعد في المطبخ لفترة طويلة .... محنية رأسها و قد سمحت لبعض دموعها بالتحرر بنعومة و صمت ... فرفعت يدها ترفع نظارتها فوق رأسها ..... و هي تطرق برأسها من جديد ... مستندة بكفيها الى رخام المطبخ ....
" كم كان ظالما !! ......... كم كان ظالما !!! ...... ربما أمي لم تكن بمثل تلك ال.... "
سمعت صوته العميق خلفها وهو يقول بقلق
( هل أنتِ بخير ؟؟ ........ )
رفعت رأسها ببطء دون أن تستدير اليه .... لكنها همست بإختناق
( نعم ...... نعم .... اذهب أنت و سألحقك .... )
لكن صوت خطواته اقترب منها .... لتشعر بسخونته وهو يقف خلفها تماما ... لكنها ارتجفت حين شعرت بيديه الدافئتين تمسكان بخصرها برقة ...
و صوته يهمس بخشونة في أذنها
( ماذا بكِ ؟؟ ......... )
ظلت ترتجف بين يديه ثم همست بضعف
( لم أظنك نلت مثل ما نلته أنا ...... تخيلت كثيرا مما فعله أبي ... لكني لم أظن ..... )
صمتت بإختناق و الغصة تؤلم حلقها ... فهمس سيف وهو يقترب منها أكثر و يمرر يديه على خصرها
( ششششش ...... )
صمتت وعد بالفعل ترتجف .... لكنها همست فجأة و دموعها تنساب على وجنتيها
( لا تعاقبني بذنبه يا سيف ..... )
عبس سيف خلفها بشدة ... ثم لم يلبث أن أدارها اليه و نظر الى وجهها المحنى و الدموع المنسابة عليه .. فمد يده يمسحها ببطء ثم همس بخشونة
( سبق أن أخبرتني بأنكِ لا تخافين مني ..... هل كان ذلك ادعاءا ؟!! .... )
ظلت واقفة تنظر اليه بأسى ثم لم تلبث أن هزت رأسها نفيا ببطء ....
عاد ليمسح وجهها من جديد .... ثم همس بمزاح منفعل
( اين تلك الفتاة التي انحنت الى وجنتي تقبلها كي تواسيني ؟؟ ...... )
ابتسمت من بين دموعها .... ثم لم تلبث ان امسكت بوجنتيه و هي ترتفع على اصابع اقدامها لتقبل وجنته من جديد .... فضمها الى صدره بقوة ..... يريد أن يقحمها بين ضلوعه كي لا تهرب أبدا ....
همست وعد من بين دموعها و هي لا تزال واقفة على اطراف اصابعها كراقصات الباليه ...
( لا بد ان تذهب .... و الا سيرسل عم صلاح فرقة اغاثة للبحث عنا )
رفع سيف رأسه و أبعدها عنه قليلا ... ثم قال بخشونة
( ذلك الرجل بدأ يظهر لي في كوابيسي ........ )
ابتسمت وعد و هي تنظر اليه من خلف غلالة الدموع ... ثم همست
( باستثاء ذلك الفاصل المأسوي للتو ..... فأنا مستمتعة جدا بوجودكما ..... )
ظل سيف ينظر اليها طويلا ... قبل أن يقول ببساطة
( و ماذا نطلب في هذا العالم أكثر من اسعاد الأميرة ......... )
ضحكت وعد ثم اخذت تدفعه في صدره و هي تقول
( هيا اخرج ....... لن اتأخر ...... )
هجم عليها و كأنه ينوي اقتناص شفتيها ... فشهقت رعبا .... لكنه قبل وجنتها ليس الا وهو يهمس بخبث
( جبانة .......... )
عبست و ضربت صدره بقوة ..... فأمسك بقبضتها و ضغط على مفاصل أصابعها يقرقعها بصوتٍ ظاهر .... حتى صرخت ألما .... حينها هتف صلاح من الخارج
( احترم نفسك يا ولد و تعال الي هنا حالا ..... لا حياء و لا خجل و لا ادب ... قليل الأدب )
عض سيف على أسنانه .... الا أن وعد دفعته بالقوة ليخرج ...... ثم وقفت تنظر الي ظهره و هي تبتسم برقة ... و حزن .... و عقلها شارد فجأة في الصندوق الذي قد يحتوى على معلومةٍ عن أمها !!....
مرت الليلة و العم صلاح قد أحضر عوده بالفعل و بدأ في العزف و الغناء بصوتٍ طريف طربي في نفس الوقت .... و سيف ينظر اليه بوجوم مكتفا ذراعيه ... و كأنه حاضر اجتماع الجمعية العمومية .....
بينما كانت وعد تضحك و تصفق .... لتنحني كل فترة , تقطع قطعة من الخبز بالجبنة المسخنة الذائبة .... و تمدها الى فم سيف بمرح .... فيلتقطها بأسنانه و هو ينظر الي صلاح المتألق و كأنه في حفله الأخير ....
لكن مرات قليلة كان يتنازل و يلتقي بعينيها ليغازلها بصمت ... و هي تضع اللقيمات في فمه ....
و تتوه بهما الدنيا ما بين أنغامٍ شرقية .... و جبنٍ ذائب .....
.................................................. .................................................. ....................
قبيل الفجر ....
و بعد أن انصرف سيف و صلاح الذي أعجبته الجلسة و قرر الا يتركهما الا برحيل سيف ....
ارتمت وعد على سريرها تبتسم بشرود ......
و ظلت مكانها عدة لحظات ..... ثم لم تلبث أن نهضت بقوة و قد اختفت ابتسامتها ... لتفتح الصندوق و تخرج ما به من أوراق قديمة ....
أخذت تفرها و تقرأها واحدة واحدة .... دون أن تحصل على شيء مهم ...
الى أن وصلت يدها لرسالة ....
رسالة مقتضبة .... مكتوب فيها باختصار
" رجاءا يا عبد الحميد ...... اسمح لوعد أن تكلمني ... لو كنت أستطيع القدوم لأتيت .... أريد أن أراها ولو على شاشة الحاسب فحسب ..... افعل شيء واحد طيب لآخرتك .....
هذا رقمي ..... و إن لم تستطع فلتحاول مع الرقمين الباقيين ....... صفا "
ظلت وعد تقرأ الكلمات الباردة طويلا بلا تعبير ...
ليست الكلمات العاطفية التي تخيلتها ...... لكن ماذا كانت تتوقع منها !! .... أن تنمو لديها عاطفة مفاجئة ؟!! ..... لقد تركتها طفلة بقلبٍ بارد ... فهل ستتحول الى أمٍ عاطفية بعد كل تلك السنوات !!
لكن مع ذلك ... لا شيء يؤكد لها أنها ماتت ..... ربما كانت لا تزال على قيد الحياة ..... ربما ...
و دون تفكير .... أمسكت وعد بهاتفها تتصل بالرقم ... صحيح أنه الفجر عندها لكن هناك فروق توقيت ....
كما أن الرسالة منذ اكثر من سنتين .... قد تكون غيرت رقم هاتفها ,.... أو حتى الأرقام الأخرى ....
حاولت الإتصال مرة و اثنين و ثلاث بكل الأرقام دون جدوى ....
و حين يئست .... أرسلت رسالة لكل الأرقام ... و كتبت فيها بتهور
" مرحبا .... أنا وعد عبد الحميد العمري ... و هذا رقمي لو رغبتِ في الإتصال بي ... "
ثم وضعت هاتفها جانبا و عادت لتستلقي بملامح جامدة .....
لو هاتفتها .... لو هاتفتها .... ستخبرها بزفافها ..... و إن حضرت على متن أول طائرة ..... فربما .... ربما تسامحها .... هذا إن كانت حية ......
ابتلعت وعد غصة مسننة و أغمضت عينيها .... و رغما عنها حلمت بسيدةٍ تأتي زفافها و تبكي بقوة و هي تحتضنها و هي بثوب زفافها الأبيض ....
في اليوم التالي
دخلت وعد الى محل الورود بخطواتٍ متوترة ....
تدفع الباب ذو الأسطوانات المعدنية الموسيقية ... فداهمتها رائحة الورود من كل مكان ....
و طارت عيناها بشوقٍ بحثا عن اميرتها الغاضبة الصغيرة ... لقد اشتاقت لها كثيرا .... اشتاقت لها اشتياقا لو ادركته ملك لسامحتها على الفور ...
لم تكن ملك واقفة عند منضدة البيع ....
لكن حركة مجفلة في نهاية المحل جعلت وعد تنظر اليها ... لتجد ملك مرتبكة الوجه آتية ناحيتها و هي تقول بتوتر
( وعد !! ..... يالها من مفاجأة !! .... كيف حالك ؟؟ .... )
نظرت وعد الي اختها التى وقفت متوترة و هي تفرك اصابعها معا ... و ضفيرتها الشقراء العسلية منسدلة على احدى كتفيها ببراءة ....
نعم هي ملك بجمالها و برائتها .... لكن بها شيء مختلف ....
اهتزازة جديدة بعينيها ... كانت غريبة على وعد ....
نظرت وعد خلف كتف ملك ... لتجد شابا نحيفا طويلا ... ذو شعر ناعم يعطيها ظهره وهو يمسك بعدة وردات ... غافلا عن وجود ملك ووعد ....
اعادت وعد عينيها الى ملك و قالت بخفوت
( انا بخير يا ملك ..... لقد اشتقت اليك جدا .... كيف حالك انتِ ؟؟ )
ظلت ملك تنظر اليها طويلا ... عيناها بعيني وعد بهما لمحة عتاب خفية ... لكنها ردت بخفوت و رأسها يميل للخلف قليلا ..
( أنا بخير ......... )
تقدمت منها وعد خطوة لتمسك بذراعها قائلة
( أريد أن أتكلم معك ....... )
عاد وجه ملك ليلتفت للخلف قليلا بارتباك .... ثم نظرت لوعد تقول بخفوت
( حسنا سأهاتفك الليلة ....... )
قالت وعد و هي تشدد على ذراعها
( بل الآن يا ملك ..... من فضلك .... )
نظرت وعد خلف كتف ملك .... الى الشاب الواقف بظهره , ثم همست لملك بقلق
( هل يضايقك هذا الشاب ؟!! ..... )
أسرعت ملك تهمس بطريقة ملفتة للنظر و دون أن تنظر الي المقصود ....
( لا ...... انه أحد الزبائن فقط ... )
نظرت وعد الي عينيها بتشكك .. ثم قالت بخفوت
( أين صاحبة المحل ؟........ )
ردت ملك بهدوء
( إنه وقت راحتها .... و هي تصعد لشقتها بنفس الxxxx .... لا تقلقي , لا شيء يدعو للقلق )
ثم لم تلبث أن اتجهت الى منضدة البيع , لتخرج مفتاحا من حافظتها الصغيرة ... أعطته الى وعد و هي تقول بخفوت ..
( أصعدي الى غرفتي و انتظريني هناك .... دقائق , سأنهي طلب هذا الزبون ثم ألحق بكِ )
ظلت وعد تنظر اليها بقلق عدة لحظات .... لكنها أومأت برأسها بإستسلام استدارت لتخرج بطء من المحل ....
وقفت ملك تنظر في إثرها قليلا ... ثم أسرعت الخطا فجأة الى الشاب الذي التفت اليها سريعا ...
فبادرته تقول بحدة
( أخرج من هنا حالا يا شادي ....... )
لم يبالي بحدتها وهو يقول بحدةٍ مماثلة , الا أن الشوق بها غالب
( أيام و أنا أطلب منكِ السماح يا ملك .... متى ستغفرين لي زلتي ؟؟ .... )
نظرت ملك اليه بقسوة , ثم قالت بعنف خافت
( تطاولك علي لم يكن مجرد زلة ..... اسمع يا شادي ... أو كريم ... أو أي اسم ستتخذه لاحقا ... على عكس ما تعتقده ... أنا لست من ذلك النوع الرخيص من الفتيات الذي تعرفه ..... كما أنني لم أعد الطفلة التي تجرب معها أولى رغبات رجولتك .... لقد كانت أياما وولت ...
لقد كبرت يا شادي و كبرت أنت ....... و تلك التصرفات لها مكان آخر و أناسا آخرين و لست أنا ..... )
هتف كريم بقوة و حرارة .... بينما عيناه تلمعان بصدق استشعرته و رأته رغما عنها
( الرخص ليس هو الصفة التي قد تقترب منكِ يوما يا ملك ..... أياكِ أن تكررينها مجددا ....
ملك أنتِ لا تعرفين قيمتك لدي .... بداخلي .... لقد راقبتك طويلا .... طويلا جدا و انتِ أمام عيني ... تكبرين و تزدادين جمالا يوما بعد يوم .... أحاول جاهدا البعد عنكِ و إخراجك من حياتي كما أخرجت الماضي .... لكنني لم أستطع .... فشلت و هزمت شر هزيمة ..... )
نظرت الي عينيه .... ماذا تخبره ؟؟ .... أنه من منذ أن عاد الى حياتها أصبح يحتل تفكيرها كله رغما عنها ....
لكن و ماذا بعد ؟!! ...... لم تعد الطفلة الضائعة التي تقبل منه كل ما يمنحه و كل ما يأخذه .... وهو لم يعد طفل .... لقد أصبح رجلا ..... رجلا ينظر اليها و كأنها أميرة من أميرات الكون ...
قالت ملك و هي ترف ذقنها ...
( ماذا تريد مني يا شادي ؟؟ ....... أنت لن تستطيع ادخالي الى حياتك و قد أدركت ذلك بنفسي , فماذا تجني من تلك الصلة ؟؟ ...... )
وقف ينظر اليها بوجوم طفل تائه ..... لم ينل ما يريده ... و رغما عنها أشفق قلبها عليه كما كانت تشعر دائما في طفولتهما .....
لكنها أرغمت نفسها الى النظر اليه بقوة و هي تتظاهر بالشجاعة .... الى أن قال كريم بخفوت و هو ينظر الي عينيها
( أنا لست محتاجا لأن أدخلك لحياتي يا ملك .... أنتِ جزء لم ينفصل عنها أبدا , رغم أنني حاولت العكس ... حاولت اخراجك دون جدوى ..... )
أخذت نفسا سريعا .... ثم كتفت ذراعيها و رفعت ذقنها و قالت
( أنت لم تجب على سؤالي ...... ماذا تريد مني يا شادي ؟؟ ..... )
أخفض رأسه .... و حينها علمت الجواب , علمت أنه أبعد مما تخيلت .... لكنه قال بهدوء
( أريدك أن تبقي بقربي يا ملك .... أن أبقى أنا بقربك و الا ترغميني على الإبتعاد عنكِ .... )
رفع عينيه الى عينيها .... و همس بقوة
( لا تبعديني عنكِ يا ملك .......... )
ظلت تنظر الي عينيه بقوة ..... دون أن تبدي الضعف الذي ينمو بداخلها , ثم قالت بعد فترة طويلة
( اخرج يا كريم ........ )
أظلمت عيناه .... و بهت وجهه ... لكنها تابعت بخفوت
( أختي تنتظرني .... و قد تعود في اي لحظة .... )
عاد الأمل ليطفو فوق ملامح وجهه البائسة ... فقال بجدية
( هل هذا معناه أن أراكِ فيما بعد ؟؟ .......... )
أدارت وجهها بعيدا عنه ..... و لم ترد ... بل زادت من تكتيف ذراعيها .... فابتسم من قلبه بمنتهى العنف النابض بصدره ....
فاقترب منها خطوة .... لكنها فرت للخلف و هي تقول بشدة
( أنا أحذرك يا شادي ..... لن أسمح لك بأن تتجاوز حدودك معي بعد الآن ... )
توقف مكانه و عيناه تتألقان ..... " بعد الآن " .... انها هي تلك الكلمة التي كان يرغب بسماعها منذ أن ظن أنه نجح في ابعادها عنه للأبدا ....
تألقت أسنانه من بين ابتسامته .... لكنها كانت تنظر اليه بصرامة ... ثم قالت بخفوت آمر
( أخرج ........ )
أمسك وردة جوري حمراء بساقٍ طويلة ..... ثم مدها اليها وهو يهمس
( سأراكِ قريبا ........ )
ظلت تنظر الى الورد بملامح قوية لفترة طويلة ... ثم لم تلبث أن مدت يدها تمسكها ببطء دون أن تلين ملامحها .... و ما أن ابتعد خارجا بقوة قبل أن يضعف و يتهور من جديد ...
حتى ابتسمت ملك رغما عنها ..... لم تكن تريد للابتسامة ان تشق طريقها الى شفتيها ... لكنها فعلت و ابتسمت بحزن .... لك الصبي يحتل مساحة قوية مسورة بسياجٍ متين في ذاكرتها ....
هذا ما اكتشفته ما ان عاد بعد سنوات من الفراق .....
شهقت بألم ... حين شعرت باحدى اشوالك الوردة تخز اصبعها و تدميه .... فنظرت الى نقطة الدم القانية و رفعتها الى فمها تمسحها و عيناها تشردان في الباب الزجاجي .... خلفه ....
.................................................. .................................................. ....................
دخلت ملك غرفتها ببطء ... فوجدت وعد وافقة تطالع أحدى رواياتها ....
وقفت تنظر اليها بصمت دون أن تنبهها الى دخولها ... تتمعن بها قليلا ....
انها لا تشبهها على الإطلاق ..... لا شبه بينهما قد يقنعها انها أختها بالفعل ..... او حتى كي يقنعها أنها هي نفسها وعد التي تركتها منذ سنوات ....
امعنت النظر بها .... انها جذابة ولا شك .... لها سحر غامض و حزين ...
متناسقة نحيفة .... ذات ملامح مرسومة في لوحةٍ معبرة ....
انها تشبه والدتها .... تلك المرأة التي يبقى منها مجرد طيف مشوش في ذاكرتها .... لكنها لم تختفِ تماما ... ووعد الواقفة الآن هي من تحييه ....
انها تشبه والدتها بشدة ....
رفعت وعد وجهها اليها فجأة .... و ظلت تنظر اليها للحظات بصمت ... ثم ابتسمت ...
همست وعد برقة
( اشتقت اليكِ .......... )
ردت ملك و هي تبتسم كذلك
( و أنا أيضا ............ )
وضعت وعد الرواية على السرير ... ثم اقتربت بحذر من ملك , الى ان وقفت امامها ... و فجأة أخذتها بين احضانها بقوة ....
تشنجت ملك للحظة ثم لم تلبث ان استسلمت و هي تضمها اليها بقوة ....
قالت وعد وهي تتنشق عطر شعرها الوردي ...
( زفافي غدا ........ )
ابتعدت ملك عنها بسرعة و هي تنظر الي عينيها .. ثم قالت بدهشة
( حقا ؟!! ........... )
أومأت وعد برأسها و هي تبتسم بحزن ... ثم قالت بخفوت و رجاء
( هل تسامحينني ..... و هل تبقين بقربي غدا , كي لا أكون وحيدة دون عائلة ؟؟ .... )
ظلت ملك تنظر اليها طويلا ..... ثم قالت بخفوت
؛( لماذا أخفيتِ عقد قرانك عني ؟؟!! ...... )
رفعت وعد عينيها الي ملك برجاء صامت .... لكن ملك تابعت بهدوء
( لو أردتِ أن تكون لكِ مثل تلك الخصوصية فأنا حقا لا أمانع .... هذا حقك و أنا لا أمتلك تلك السلطة عليكِ بعد سنوات طويلة من الفراق بيننا ..... نحن تقريبا نتعارف من جديد ....
لكن ما أتعجب منه فقط .... هو لماذا ؟!! ...... لماذا تسعين الي في لحظة ثم تبعديني بأخرى ؟؟ ...... )
صمتت ملك قليلا ... ثم أطرقت بوجهها لتقول بهدوء
( وعد ....... على الرغم من أن ذاكرتي لا تسعفني بالكثير مما حدث بعد رحيلك من الدار ... الا أنني أعرف شيئا واحد .... وهو أنني عانيت كثيرا , و تطلب الأمر مني فترة طويلة موجعة كي أتعافى من ذلك اليوم ..... أنا لا أريد أن أعيش تلك الحالة مجددا ...... أفضل البقاء على مسافة من كل من أعرفهم ...
مسافة جميلة راقية .... تجذبنا فيها الأحلام و المشاعر اللطيفة دون التعمق ثم الجرح مجددا ....
لقد بنيت حياتي بصعوبة .... و لا أريد أن أتألم من جديد ....
لذا صدقيني أنا ما كنت لأتطفل على حياتك أبدا ..... )
تأوهت وعد بشدة و هي ترفع يدها الى عينيها .... لتستدير بعيدا عن ملك ....
ظلت واقفة قليلا .... تتألم بداخلها بشدة ....
كيف تجعلها تفهم ؟!! ...... كيف تتمكن من جعلها تفهم و هي نفسها لا تفهم ؟!! ...
عادت لتلتفت الى ملك بعد عدة لحظات .... ثم اقتربت منها لتمسك بكفيها بين يديها و تقول ناظرة الي عينيها بقوة
( ملك ....... حين كنت أبحث عنكِ لسنواتٍ طويلة , لم أفكر أبعد من أن أراكِ .... أعثر عليكِ و أحتضنك .... و بعد أن وجدتك ... توقفت أمام نفسي و أنا أفكر بالصورة التي سترينني بها ... و هل كانت تماثل خيالك عني ؟؟ .... حينها صدمني الجواب ....
للحظة شعرت بالخزي من وضعي و من وظيفتي و من حالي في بيتي .... كنت أمر بمرحلة صعبة جدا بحياتي و لم أرغب أبدا في أن ترين الأسوأ منها .... )
همست ملك ما أن وقفت وعد عن الكلام بحزن
( و ما هو الأسوأ ؟!! ........... )
لم ترد وعد على الفور بل تنهدت بتعب ..... فتابعت ملك
( أنت ستتزوجين من رجلٍ رائع كما يبدو .... وهو حلم كل فتاة , فمما أنتِ محرجة ؟؟ ..... )
أخفضت وعد رأسها و بهتت ملامحها قليلا ....
و ظلت ملك تنظر اليها طويلا ... ثم قالت أخيرا و هي تشدد من قبضتيها بين يدي وعد
( سأحضر الزفاف ......... )
رفعت وعد وجهها الى ملك و همست بأمل
( حقا يا ملك ؟!! ....... )
ابتسمت ملك و هي تقول ببساطة
( طبعا ..... و من لكِ غيري ؟!! .... )
ارتعشت شفتي وعد .... و نظرت اليها بشرود و هي تهمس بداخلها
" لو ترينها الآن يا صفا .... و كم أصبحت جميلة و رقتها تسبي من ينظر اليها "
هزت وعد رأسها نفيا و هي تهمس باختناق
( لا أحد ..... ليس لي أحد سواكِ .... )
ثم ضمتها مرة أخرى بقوة الى قلبها ... و تركت لعينيها حرية الاظهار الدموع .....
.................................................. .................................................. ......................
كانت تسير متثاقلة عائدة من عملها .... تحمل بكلتا يديها كيسين ثقيلين من مشتروات البيت ....
شرودها أصبح عادة تلازمها مؤخرا ....
لكنه ليس شرود في الواقع , بل هو ضياع في تلك الهوة و الكابوس الذي أظلم حياتها السعيدة فجأة ...
لكن هل كانت حياتها سعيدة بالفعل ؟!! ....
الآن و بعد أن عاشت الكابوس .... تدرك أنها كانت سعيدة رغم كل الصعاب و اختلاف الطباع ...
كم تتمنى لو استيقظت من هذا الكابوس ... لتجد أن محمد عاد زوجها وحدها و حبيبها دون شريك ... و دون غدر مزق قلبها .....
كم تتمنى ان يكون كل ما حدث هو مجرد كابوس .... و حينها ستعمل على إصلاح حياتها بكل قوتها ....
انتفضت كرمة فجأة أثناء شرودها على يدٍ قوية تقبض على كفها لتنتزع الكيس الثقيل منها ...
فشهقت عاليا بخوف .... الا أنها لم تلبث أن أغلقت عينيها تتنفس بصعوبة ما أن أبصرت محمد و قد حمل عنها الكيس الثقيل ... ليأخذ الآخر كذلك ...
فتحت عينيها بصمت و هي تضع يدها على صدرها اللاهث ...
فقال محمد بخفوت
( لماذا كل هذا الخوف ؟!! ....... )
سارت كرمة ببطىء وهو يسير بجوارها ... ثم قالت بخفوت
( ظننتك متحرش ......... )
تصلبت ملامح محمد رغم ابتسامته الساخرة وهو يقول
( من في هذا الحي يجرؤ على التحرش بزوجتي !! ...... الكل هنا يعلم من هي زوجة محمد )
رفعت كرمة وجهها الى محمد لتهمس بلا روح
( حقا يا محمد ..... من هي زوجة محمد ؟!! ..... أنا نفسي لم أعد أعرف ... )
أظلمت عينا محمد و اهتزت عضلة في فكه الخشن الغير حليق .... لكنه لم يرد عليها لأنه لم يجد الجواب ... فاكتفى بأن نظر أمامه و سار بجانبها ببطء ...
و حين شعرت أن الطريق الطويل لا ينتهي .. قالت بخفوت
( الا عمل لديك ؟!! ......... )
رد محمد بخفوت دون أن ينظر اليها
( خرجت ساعة كي أراكِ ...... قلبي حدثني أنكِ تحملين شيئا ثقيلا و قد كنت محقا ... )
لم ترد كرمة ... فنظر اليها محمد بطرفِ عينيه ثم قال بخفوت
( لقد كانت مزحة ........ ألن تضحكي ؟؟ ... )
رفعت وجهها اليه بصمت ... ثم قالت بوجوم
( لم تكن مضحكة ........ )
فعقد حاجبيه وهو ينظر لعينيها ..... ثم ابتسم ... و اقسم بداخله أنها لو ابتسمت الآن فستكون قد سامحته ...
و لم يترك عينيها بتحدي ... الى أن ابتسمت بالفعل ... شبه ابتسامة حزينة ظهرت على شفتيها ....
فانتفض قلبه بصدره .... و همس بنشوة النصر
" أنتِ جزء مني يا كرمة .... مهما أخذك الغضب فأنتِ تظلين جزءا مني "
عادت كرمة لتخفض وجهها و تسير بصمت الى أن وصلا الي بيتهما ... فمدت يدها تخرج المفتاح من حقيبتها ثم فتحت الباب ... و التفتت اليه تمد يدها لتأخذ الأكياس من عند الباب ...
لكنه رفض أن يتركهم لها ...... و أبعد يديه ليقول بخشونة
( ألن تسمحي لي بالدخول ؟؟ ........ )
رفعت وجهها اليه بصمت ثم قالت بفتور
( انه بيتك كما ذكرتني سابقا ....... هل نسيت ؟؟ ... )
لكنه ظل واقفا ينظر اليها ثم قال
( لكني أريدك أن تدخليني .......... )
تنهدت بصمت و هي تنظر بعيدا .... لكنها ابتعدت عن الباب كي يدخل .. فتبعها صامتا
و ما أن أغلق الباب بقدمه .... حتى أسقط الأكياس أرضا ... وووقف مكانه ليقول فجأة و دون مقدمات
( أفعل أي شيء يا كرمة كي أستعيدك .... أستعيد كرمة طفلتي و حبيبتي التي لا تتعب مني و لا تكل ... التي تمتص تعبي و غضبي وترويني من روحها العذبة .... )
كتفت كرمة ذراعيها و استدارت اليه بينما أغروقت عيناها بدموعٍ حبيسة لم تسمح لها بالتساقط ....
ثم قالت بخفوت ميت
( و أنا أفعل أي شيء كي أستعيد حياتي قبل هذا الكابوس يا محمد ..... )
رفعت وجهها اليه .... و ابتسمت من بين دموعها بيأس و هي تهز كتفيها تهمس باختناق
( لكن قل لي كيف ؟؟!! ..... كيف ؟؟ ...... كيف يا محمد ؟؟ .... )
أخفضت وجهها تغطيه بكفيها و هي تهتف باكية بالسؤال الأبدي المفقود الجواب
( لماذا فعلت ذلك بنا يا محمد ؟؟ ..... بماذا قصرت في حقك ؟ ...... )
أخذت تبكي بخفوت و هو ينظر اليها ملتاعا ... ثم لم تلبث أن رفعت وجهها المحمر و المغرق بدموعها و هي تهتف بعذاب
( حتى لو قصرت .... حتى لو قصرت .... من منا كامل يا محمد ؟!! .... قومني و أخبرني مرة و اثنين و ثلاث .... لكن تحملني ...... لأن هذا هو الزواج ... أن نتحمل بعضنا البعض , كلا بشخصيته ... بحياته ... بطباعه .... لا أن تغدر بي مع أول بادرة ضعف ..... )
لم يستطع الرد وهو ينظر الي انهيارها الذي اصبح لا يراها الا مرافقا لها ....
هدأت نفسها قليلا... و اخذت نفسا مختنقا متحشرجا و هي تعض على شفتيها ببأس ... ثم نظرت اليه لتقول بصلابة
( لو كنت ....... لو كنت تريد طفلا من صلبك ,لكنت أعطيتك العذر , من كل قلبي المحب لك ....
لكن أنا و أنت نعلم أنه ليس السبب ....
كنت عائلتي الوحيدة يا محمد , و كنت أقدم تنازلا أعلم أنني تعودت عليه لدرجة أن تخيل طفل بجوارك يشعرني بالغيرة من أن ينال اهتمامك اكثر مني ....
و كنت سعيدة بالتنازل .... كنت سعيدة بالتضحية بأمومتي على الرغم من احتراق رحمي طلبا لها .... و أنا أظن أنني أهديك شيئا نفيسا يربطني بك اكثر و أكثر ....
لكنك أهديت هديتي لأخرى ....... منحت هديتي النفسية لاخرى يا محمد كي تشاركني التضحية ..... )
لم تتوقع أن يصرخ محمد فجأة بهياج وهو يستدير ليضرب زهرية ورود من الخزف و يسقطها أرضا لتتحطم في شظايا ....
( كفى ....... كفى ...... )
انتفضت كرمة و هي تبتعد الى الحائط ترفع كفيها الى وجهها رعب ....
لكنه اقترب منها بسرعة ليمسك بذراعيها بقوةٍ جعلتها تبعد كفيها عن وجهها و تشهق ألما ... بينما هو يهتف بجنون
( كفى يا كرمة .... الا تعلمين كم يقتلني هذا الموضوع ؟!! .... يحرقني حيا ... و أنتِ تنبشين الجرح بأظافرك .... )
صرخت كرمة منفعلة
( لم أتطرق الى الأمر ولو لمرة واحدة بعد أن خيرتني منذ سنوات و أمرتك حينها أن تصمت .... أتتذكر يا محمد ؟!! ... لم أعيد فتح الموضوع ولو لمرة واحدة .... )
هزها بشدة ليهتف بعذاب
( ليس الكلام هو كل السلاح يا كرمة ..... ليس الكلام .... تضحيتك كانت تظهر جلية مع كل تصرفاتك , مع تقدمك في درجات حياتك دون رغبة مني .... فقط بعينيكِ تتسائلين إن كنت أتجرأ على الوقوف بطريق أحلامك بعد تضحيتك لي .....
لم تكن لي الرغبة في عملك ... مثلي مثل أي زوج عادي ... طبيعي ... لا يرغب بعمل زوجته ...
لكنك بتضحيتك و عينيك ... فقط عينيكِ .... جعلتِ منها جريمة لا تغتفر .... و استمريتِ في التسابق أسرع و أسرع .... دون توقف ... و الهوة تتسع أكثر و أكثر .... )
كانت تهز رأسها نفيا و هي تبكي بصمت و تلهث بصعوبة .... و ما أن تمكنت من النطق حتى هتفت باختناق باكٍ و هي تغمض عينيها
( أنت ظالم ..... أنت ظالم يا محمد ..... لقد كان التفوق حلمي منذ طفولتي ... الإنجاب أو التضحية لم يكن لهما دخلا في الأمر ..... كنت أريدك أن تساندني كما ساندتك دائما .... فقط تساندني .... لكن أنت أيضا اعتربت تنازلك تضحية مقيتة ...... )
أسقطت وجهها و هي تبكي بعنف .... بينما هو ينظر اليها معذب الروح مفطور القلب ....
ثم اسقط كفيه عن ذراعيها هو الآخر ..... ووقف أمامها طويلا قبل أن يضم وجهها بكفيه يرفعه اليه و يطبع شفتيه على جبهتها و شعرها بقوة....ليغمض عينيه مع قبلةٍ أودعها كل يأسه و عذابه ... و حبه لها .....
ثم تركها ليخرج ...... و ما أن هدأت قليلا حتى رفعت وجهها تنظر الي البيت الخالي ... ثم نادت بلوعة
( محمد ...... محمد ...... لا تتركني الآن .... أرجوك ... )
.................................................. .................................................. ....................
استيقظت وعد صباحا في اليوم التالي ... تتمدد بنعومةٍ في سرير سيف ...
تنظر الي سقف الغرفة الأنيق بعينين متسعتين .... ثم لم تلبث أن همست بذهول
( اليوم يوم زفافي !!!! ...... )
فردت ذراعيها و ساقيها بذهول على امتداد السرير الواسع ... و كانت متأكدة من عدم وجود سيف قبل أن تفعل ...
فهو على ما يبدو قد قرر أن ينبذ نفسه من سريره و هي متواجدة ... لدرجة أنها أصبحت تتحمم كل ليلة حتى أوشكت على الإنكماش ... متشككة من أن تكون رائحتها هي السبب في ابتعاده ...
طالت يدها المفرودة ورقة صغيرة مطوية على الوسادة ...
فاستقامت بسرعة تفتحها ... لتقرأ رسالة سيف المختصرة
" اليوم أنتِ معفية من التدريب و لمدة شهر كامل .... و سيتم اعادته لكِ خصيصا ....
دللي نفسك اليوم .... ألم أخبرك من قبل ؟!!! ... اليوم يوم زفافنا !! ....
فستانك وصل و معلق بالدولاب .... و في الخامسة ستصلك خبيرة التجميل و تلك الأمور النسائية الغبية ....
أراكِ في الثامنة .. الى لقاء قريب بعد طول انتظار يا حرمنا المصون "
عضت على شفتيها بجنون و هي تبتسم ووجهها يحمر بشدة من كلماته السخيفة ....
لقد أصبحت ذات مخيلة شديدة الإنحراف لدرجة أن بضعة كلمات بسيطة كتلك تشعل أفكارها و تخيلاتها ....
رفعت كفها تغطي بها وجنتها المشتعلة و هي تبتسم ... ثم لم تلبث أن قفزت من السرير ... لتجري الى دولابه تفتحه ... و كاد بريق الماسات ان يخطف عينيها ...
متى احضره ؟!!
من المؤكد ليلة أمس بعد عودته متأخرا .....
تنهدت وعد بيأس لكنها ابتسمت للفستان قائلة بخفوت
( أهلا وسهلا ..... يبدو أنك ستكون رفيقي الليلة .... رغم أن ثمنك كان كفيلا بأن يشتري لي ماكينة خياطة حديثة ..... لكن يبدو أن مثل لا تعطني سمكة انما علمني الصيد بات مفهوما باليا في عهدنا هذا .... لذا أنا مجبرة على التقيد بالنفاق الإجتماعي و مجاراة المظاهر الزائفة .... لأنني ببساطة ...
سأتزوج من رجلٍ ثري ...... )
ظلت تنظر الى الفستان بخبث قليلا ... ثم استدارت جريا الى هاتفها .... تخرجه و تنظر اليه ....
لعل و عسى ....
لكن الوجوم رسم محياها ما أن وجدته خاليا باردا من المكالمة التي كانت تنتظرها ....
لذا سحبت ملابسها ببطء من الدولاب ... و سارت بتثاقل الى الحمام ....
بعد ساعة ... و بعد ان شعرت بأن التوتر و القلق و الترقب يحرقان أعصابها .... قررت النزول الى سكان هذا الكهف ....
نزلت وعد ببطء وتوجس على السلالم ...
ما أن تسمع صوتا حتى تستدير بسرعة خوفا من أن تكون المجنونة ورد خلفها و تدفعها من فوق درجات السلم ...
لكنها قابلت اللهو الخفي .... مهرة ...
كانت نازلة جريا من خلفها لدرجة أن وعد خافت و تمسكت بحاجز السلم ....
تباطئت سرعة مهرة ما أن رأت وعد على السلم ... و تجاوزتها ببطء و هي تنظر اليها بطرفِ عينيها ...
في الأيام السابقة أدركت وعد أن مهرة هي العضو المنفصل في ملكوت هذا البيت ...
لا تحيا سوى لنفسها .... و تقريبا كانت تتجنبها بصمت ...
لكن وعد هي من بادرتها تقول
( صباح الخير يا مهرة ......... )
توقفت مهرة قليلا ... تتلاعب بقدمها على درجةٍ نزولا .... تنظر بعيدا , لكن رغما عنها كانت تختلس النظر الي وعد .... فتابعت وعد بأمل
( لم يسبق لنا التحادث من قبل ..... سوى مرة ... اتتذكرين ليلة قراءة الفاتحة لكِ ؟؟ .... )
لم ترد مهرة بل نظرت بعيدا .... لكنها كانت واقفة مكانها ... لم تهبط السلم مما شجع وعد لتقول بسذاجة
( اليوم زفافي .... أنا و سيف ...... )
عضت شفتها و هي تقول لنفسها بغباء " ماهذا الغباء !! "
لكنها تداركت نفسها و قالت مبتسمة بمرح متوتر
( ماذا سترتدين ؟؟ ....... اسمعي ... لو أخبرتني فسأتنازل و أريكِ ثوب زفافي .... )
رأت وعد أصابع مهرة و هي تنقبض على حاجز السلم ... و هي تنظر في كل اتجاه الا عندها ....
لكنها كانت لا تزال واقفة .... لذا ابتسمت وعد و هي تهمس بأمل في أن تجد من يناصرها في هذا الكهف ...
( انه زفاف سيف ...... و أنتِ مدللته الوحيدة بجدارة , الا يتملكك الفضول لرؤية الفستان ؟؟ ..... )
لكنها التفتت الى وعد مبددة آمالها و هي تقول بخفوت
( أنتِ هنا رغما عنا ..... و أنا لن أسمح لنفسي بالتعامل مع من تتسبب في بكاء أمي كل ليلة ... )
رفعت وجهها الى لتقول
( نحن سنذهب الى حفل الزفاف .... كي لا نترك سيف بمفرده , لكني لا استطيع التعامل معك )
شعرت وعد بشيء يطعن صدرها ... لكنها أومأت برأسها متفهمة ... فظلت مهرة واقفة بتردد للحظة , ثم لم تلبث ان نزلت بسرعة ..... و بقت وعد مكانها تنظر بوجوم ...
لكنها نزلت بعد فترةٍ بملامح متجمدة .....
تمشي على غير هدى .... الى أن أبصرت مهرة تحتضن أمها من بعيد في المطبخ و هي تهمس لها بشيء تخفف عنها ,, و بالفعل ضحكت منيرة رغما عنها و هي تربت على شعرها ...
وقفت وعد من بعيد مستندة بيدها الى جدار الرواق .... تنظر بصمت الى ملامح منيرة الجميلة ....
كانت أجمل أم رأتها .... إنها حتى أجمل من صفا ....
سمعتها وعد تقول بحب
( ليلة زفافك يا مهرة تختلف ..... سأبكي أيضا , لكن من شدة فرحي , .... أعتقد أن لا أم ستكون أكثر مني سعادة و فخرا ..... و أنا أراكِ بجوار عريسك في ثوبك الأبيض .... )
حينها تعلقت مهرة بعنقها و هي تهمس لها بشيء ... بينما منيرة تغمض عينيها و هي تتلقفها بقوة في أحضانها .... انتظرت وعد مكانها دون حركة الى أن غادرت مهرة و شاهدتها تخرج بسرعة و هي تخبر أمها أنها ستذهب لمركز التجميل من الآن كي تستعد .....
و ما أن سمعت وعد صوت الباب يغلق ... حتى خرجت من مخبئها و اتجهت الى منيرة بصمت .... الى أن وقفت أمامها ....
نظرت منيرة الى وعد بصمت .... ثم لم تلبث أن استدارت بعيدا عنها و هي تعد فنجان قهوتها ...
و حين ظنت وعد أنها ستتجاهلها تماما ....قالت بجمود دون ان تستدير اليها
( هل جهزتِ نفسك ؟؟ ......... )
رفعت وعد وجهها الى ظهر منيرة بدهشة ... لكنها قالت بتوتر بعد فترة
( ليس هناك الكثير لأقوم به ...... انا فقط انتظر موعد الزفاف .... )
لم ترد منيرة عليها .... و بعد فترة قالت بخفوت
( هل ستسافران الى مكان ؟؟ .......... )
اتسعت عينا وعد ... لكنها ردت
( الحقيقة لا علم لي ...... لكن لا أظن ........ )
أومأت منيرة برأسها دون أن تستدير اليها .... فقالت وعد بتردد
( سيدة منيرة ....... أنا حقا آسفة ..... انا لا أريد أن أؤلمك أكثر ...... لكن أعدك أنني ......)
قاطعها صوت ورد يقول بهدوء من خلفها
( أنكِ ستظلين خادمة هنا ....... لا أكثر )
التفتت وعد الى ورد الواقفة تنظر اليها .... ثم تابعت ببرود
( خذي القهوة من أمي و حضريها لها ........ )
تدخلت منيرة تقول بقوة
( كفى يا ورد .......... )
الا أن ورد قالت ببرود جليدي ....
( بل ستحضره لكِ يا أمي ...... انها مجرد خادمة , و سيف حين أحضرها الى هنا كانت خادمة , و سيتزوجها لتكون ابنة عبد الحميد العمري خادمة .... )
رفعت وعد وجهها و هي تنظر الى ورد بقسوة ..... لكن ورد اقتربت منها , فتحفزت وعد تلقائيا ... الا ان ورد ضحكت بخفة و هي تقول
( لا تقلقي .... لن أتشابك معك بالأيدي , لا نريد أن تظهر عروس سيف الهزيلة بكدماتٍ في وجهها .... )
صمتت قليلا و هي تقترب أكثر ثم قالت بخفوت كالصقيع في الليل
( هل حقا تظنين أن سيف يعطيكِ قيمة ما ؟!! ..... ستكونين واهمة و غبية ... و أنا لا أظنك غبية أبدا ... لذا أفيقي يا ابنة عبد الحميد .... حاولي كسب رضانا و لا تتحديني .... أنتِ هنا لستِ أكثر من خادمة .... لكن لو عملتِ على توثيق مكانتك هنا من البداية فأنتِ من ستخسرين ..... ستظل أم سيف هي صاحبة البيت و أنتِ مجرد نزوة تجمع ما بين التسلية و الإنتقام من والدك .... )
توقفت عن الكلام ... ثم تابعت تبتسم بقسوة
( حضري قهوة أمي ....... كي لا نغضب سيف في ليلة زفافه منكِ و لا نعلم حينها كيف سيكون تصرفه )
هتفت منيرة بغضب
( كفى يا ورد ...... أنا لم أعد أتحمل هذا الجو في البيت , صدري أصبح منقبضا و قلبي على وشكِ الإستسلام للراحة أخيرا من كل ما أعيشه .... )
نظرت وعد الى منيرة بينما حلقها مسدود بألم .... و ملامحها جامدة كتمثال حجري ...
لكنها اقتربت تأخذ منها اناء القهوة ...فقالت منيرة بصرامة
( لا ...... اذهبي و الزمي غرفتك رجاءا , لا نريد مشاكل الليلة )
الا أن وعد قالت بصلابة لكن بتهذيب مبالغ فيه
( أنا مصرة ...... أنا لا أريد اغضاب سيف ..... لقد أخبرني من قبل أنك خط أحمر لديه )
صمتت منيرة و ارتخت أصابعها عن الإناء .... فأمسكت وعد به تعد القهوة و هي تتنفس بسرعة دون أن تستدير اليهما .... بينما وقفت ورد تنظر اليها بانتصار ....
و ما أن انتهت حتى صبت القهوة بهدوء في فنجان منيرة ... ثم قربته منه و هي تهمس باختناق
( تفضلي ......... )
و ما لبثت أن خرجت جريا من المطبخ و هي تشعر بنفسها يضيق ..... لكنها جرت وجرت على السلم صعودا .....
لتفتح الدولاب بقوة و تنتزع منه ثوب الزفاف في غطائه البلاستيك الشفاف ....
و ثنته على ذراعها .... بينما جهزت حقيبتها و هاتفها و نزلت مندفعة مجددا ... لتخرج من البيت بعنفوان ووقفت على أول الطريق و الفستان على ذراعها .. لتشير لأول سيارة أجرة ...
و ما أن رمت نفسها بداخلها ....حتى رفعت هاتفها تطلب رقم سيف ...
سمعت صوته العميق يأتيها بعاطفة مكبوتة ... الا أن تلك العاطفة لم تؤثر بها حاليا و هي تقول بقوة
( سيف ..... لقد أخذت الفستان و ذهبت الى بيتي ..... سأخرج معك من بيت والدي , إما هذا و إما لن أتتم الزواج ...... )
ثم أغلقت هاتفها بقوة ..... و ما أن اندفع الرنين الغاضب و المجنون ... حتى أغلقت الهتف نهائيا كي تريح نفسها ....
و جلست تنظر من النافذة بقسوة ..... الى البشر بمختلف اشكالهم ... الى الطرق و البيوت .....
الي حياتها الماضية و الآتية .....
.................................................. .................................................. ..................
وصلت وعد الي بيتها اخيرا ..... لتلقي فستانها بلا اهتمام لا يناسب قيمته الثمينة ....
ثم رمت نفسها كذلك على الأريكة .... تنظر الي سقف بيتها المشقق ...
و شتان ما بين سقفه و سقفها ...
حالتها صباحا و حالتها الآن .....
همست أخيرا بشفتين ترتجفان
( تعالي اليوم يا صفا بمعجزةٍ ما ..... تعالي و اسمعيهم من لسانك السليط , .... تعالي و اظهري لهم الحماة التي اتخيلها ..... ام العروس شديدة البأس ... تعالي و الجمي ألسنتهم جميعا ..... )
اخرجت هاتفها و فتحته تنظر الي الشاشة .... لكنها خلت من الرقم المنتظر ....
لم تتخيل يوما أنها ستتمنى رؤية أمها بكل هذا الشوق المثير للشفقة .... ربما لأنها أدركت أن الحياة قصيرة للغاية ... و ربما لأنها فعلا تحتاجها كي تدافع عنها ....
نظرت الى الهاتف بصمت ... سيف لم يتصل بها .... ترى هل أثارت جنونه بكل غباء ؟!! .......
.................................................. .................................................. .....................
وقفت كرمة أمام نفس الباب الكئيب و الذي حوي خلفه كل آلامها و جراح الخيانة .....
و تسائلت ... هل حقا الحجة التي أتت بها كافية ؟!! .... أم أن خروجه من البيت بالأمس كان موجعا لها بدرجةٍ لم تعد تتحملها ....
طرقت الباب بهدوء .... و بعد فترة فتح الباب لتجد نفسها وجها لوجه مع غريمتها ....
انتفضت علياء و نظرت بخوف الى كرمة التي كانت بدورها تنظر اليها بجفاء و كأنها لم تحفظ ملامحها بعد ....
استطاعت كرمة تبين رعبها بوضوح .... خاصة بعد رجائها الأخير ....
لكن كرمة أبت أن تريحها و هي تقول بصوتٍ خافت ميت ....
( هل محمد موجود ؟؟ .......... )
ابتلعت علياء ريقها .... لكنها أومأت برأسها بتردد و هي ترفع شالها فوق رأسها ذو الشعر الناعم ...
شعرها أسود ناعم الحرير المنسدل .... شديد النعومة لدرجة أن شعيراته تتطاير من فرط نعومنتها ...
انعقد حاجبي كرمة بألم و هي ترعى بصدرها نارا تحرقه من تخيل أصابع محمد تمر على ذلك الشعر الحريري ....
الا أنها قالت بصوتٍ مهتز خائف
( تفضلي ........... )
رفعت كرمة ذقنها و هي تقول ببرود
( سأكلمه من هنا .......... )
ظلت علياء تنظر اليها برجاء صامت ... ثم لم تلبث أن نادت عليه و هي تبتعد عن الباب ...
لم تمر لحظات حتى ظهر محمد بسرعة وهو ينظر اليها بقلق .... ثم قال
( كرمة !! ..... ماذا بكِ ؟!! ..... هل حدث شيء ؟!! ... )
أخذت كرمة نفسا مرتجفا كي تقوي نفسها . ثم قالت بفتور
( الليلة ..ليلة زفاف وعد , و قد أتيت كي أخبرك أنني سأذهب اليها الآن , كي تعرف أنني سأتأخر بالخارج ..... بما أنك .... بما أنك لست في البيت ... و لن تعرف )
عبس محمد بشدة وهو يتأملها .... لكنه قال بخفوت
( لم تخبريني من قبل ......... )
قالت كرمة بهدوء و هي تنظر الي عينيه بألم
( لم أكن بحالة تسمح لي بطلب الإذن قبل اليوم ..... اعذرني )
أخفض محمد وجهه قليلا ... لكنه قال بتردد
( و ستذهبين بدون زوجك ؟!! ...... )
رفعت كرمة وجهها تنظر اليه بوجهٍ ميت .... ثم لم تلبث أن قالت
( لن أستطيع يا محمد .... ليس زفاف وعد , لم أعد أستطيع رؤيتك دون أن أبكي .... و أنا لا أيد البكاء الليلة .... أرجوك حاول فقط أن تشعر بي ولو قليلا .... )
نظر اليها محمد بعتاب ثم قال بخفوت
( أنا لا أشعر بكِ يا كرمة ؟!! .......... )
أخذت نفسا آخر مرتجفا .... لكنها قالت
( ليس الآن يا محمد ..... ليس الآن ...... )
قال محمد بعد فترة
( سآتي لأصطحبك بعد الزفاف ........ )
قالت كرمة بتشنج
( لا داعي رجاءا ..... المكان راقي و آمن تماما , سأعود وحدي )
الا أن محمد قال بخشونة
( لن أتركك تعودين وحدك ليلا ....... و هذا أمر ...هاتي العنوان )
تنهدت بقسوة , الا أن صدرها كان ينبض بوجع .... ثم لم تلبث أن أخبرته بالعنوان , ثم انصرفت بسرعة كي تبكي وحدها .... في بيتها الخالي ....
.................................................. .................................................. ......................
جلست وعد أمام المرآة .... ترتدي فستانها المذهل ...
بينما كانت كرمة واقفة بجوارها ممسكة بخصلة من شعرها تصففها لها بالمجفف ... ثم قالت بغضب
( أنا حقا لا أفهمك ...... فستان كفستانك , و قاعة كقاعة زفافك .... و سيف احضر لكِ فريق تجميل مختص ... ثم تتركين كل ذلك و تجلسين هنا في بيتك البائس و أنا البائسة الأخرى أعمل بجنون كي أتمكن من إظهارك بشكلٍ يليق بفستانك الخرافي هذا !! ..... أنتِ حقا معقدة و يجب أن تتعالجي )
بينما كانت ملك في الخلف تضع باقة ورود الجوري البيضاء و الزهرية في اناء ماء و التي جهزتها بنفسها و بمنتهى الروعة لتكون باقة العروس ...
فهتفت كرمة بصرامة
( ملك ...... تعالي و امسكي خصلة أخرى من شعرها و افرديها بالمجفف الآخر الذي استعرناه )
أتت ملك لتنفذ الامر بمنتهى الطاعة ....
بينما بقت وعد مكانها تنظر الي المرآة بعينين متسعتين و خصلتين من شعرها مرفوعتين لليمين و اليسار و كأنها موصلة بأسلاك كهربية منها للفضاء الخارجي مباشرة ....
قالت وعد أخيرا برعب
( لقد غيرت رأيي ..... أنا لن أتزوج ...... )
توقفت كلا من كرمة و ملك عن العمل وهما تنظران اليها بذهول .... حتى أصبحت اللوحة كاملة من ثلاث فتيات موصلات بأسلاكٍ كهربية يتم صعقهن ....
و كانت كرمة أول من تداركت نفسها كعادتها و هي تقول مستفسرة قبل أن تتهور
( ماذا ياروح والدتك الغالية ؟!!! ........ )
قالت وعد بصوت أكثر تشنجا
( أنا لن أتزوج ..... لقد تهورت و رميت نفسي للأسود , لكني لازلت على البر .... و لن أتزوج )
انتفضت تحاول النهوض الا أن كلا من كرمة و ملك شددتا على خصلتيها بقوة كي لا تهرب فصرخت ألما ...
ثم أجلستها كرمة مكانها بالقوة و هي تنحني اليها و تقول بصرامة مخيفة
( الآن اسمعيني جيدا .... منذ شهور و أنت تتحامقين و تتغابين كيفما شئتِ .... تخطئين في حق ذاك .. و تجرحين ذلك و سامحناكِ .... لكن تريدين أن تفتعلي فضيحة الآن في ليلة زفافك لتشوهي سمعتك للأبد ... خاصة بعد ... أحم .... الفترة التي قضيتها في بيت زوجك .... لا والله لن أسمح لكِ .... أنا صلا معذبة بالسليقة و أكاد أتمنى من أجده متوفرا أمامي الآن لأنهش لحم وجهه بأظافري .... فلا تكوني أنتِ الضحية رجاءا ..... )
كانت وعد ترتجف على نحوٍ ملحوظ حتى ازرقت شفتاها بشدة ... و هي تنظر الى نفسها في المرآة بعينين متسعتين ... ثم همست
( ماهذا اللذي أفعله بنفسي يا كرمة ؟!! ...... كيف تحولت الي تلك المخلوقة الضعيفة !! ... و لماذا ؟!! ... )
ظلت كرمة تنظر اليها طويلا ... ثم لم تلبث أن قالت بخفوت
( ملك ..... اخرجي قليلا حبيبتي , أختك تحتاج فقط لإعادة تحميل برامج عقلها التالف ... )
ظلت ملك تنظر اليهما برعب و هي متشبثة بخصلة وعد كي لا تهرب منهما .... الا ان كرمة مدت يدها و قامت بتفكيك اصابعها بهدوء من على الخصلة ... ثم همست مبتسمة
( اذهبي الآن يا ملك و لا تخافي ..... )
خرجت ملك من الغرفة و أغلقت الباب خلفها ....فنظرت كرمة الى وعد , ثم جذبتها لتقف ... و أمسكت بكتفيها و هي تنظر الي صورتها في المرآة
ثم قالت بهدوء
( هل تحبينه ؟؟ ......... )
نظرت وعد الى صورتها في المرآة .... ثم همست بعصبية
( انه رائع .... طيب , حنون .... منحني اكثر مما احتجته ... و سيعطيني أكثر ... يشعرني بأنوثتي التي ظننت أنها تجمدت مع شدة التعب .... انه يؤثر بي و بشدة )
عادت كرمة لتسألها بهدوء
( هل تحبينه ؟؟ .......... )
وجمت وعت تماما و بهتت ملامحها لتقول فجأة
( أنا لا أعلم ما هو الحب ....... لم أجربه سابقا , كنت أظنه نوع من الرفاهية )
صمتت قليلا ... ثم همست بضياع
( لكني لا أحب نفسي و أنا معه .... بعد أن ينضب سيل المشاعر التي يغرقني بها )
ظلت كرمة تنظر الي وجه وعد الباهت .... ثم همست
( هل يمكنك التضحية به يوما ؟؟ ......... )
نظرت وعد الى عيني كرمة في المرآة بصدمة ..... و لم تدرك أنها تومىء بوجهها بحركة تكاد لا تكون مرئية ابدا .... لكن كرمة رأتها .... و تجاهلتها عن قصد ...
فقالت بجدية
( اسمعي يا وعد .... ليس حقيقي أنكِ لستِ على البر ... لأنه لم يتم علاقته الزوجية بكِ بعد و هذا واضح وضوح الشمس من غباء ملامحك .... لكنك وضعتِ نفسك في موقف لا تحسدين عليه ... و لا يمكنك التراجع الآن ... و الا لن يرحمك هو و لن ترحمك ألسنة الناس .... لذا تابعي زفافك و اتمي زواجك ... استمتعي بما يشعرك به ... و بكل ما يقدمه لكِ .... لكن ان اكتشفتِ يوم أنكِ بالفعل تخسرين , فانسحبي بهدوء و هو لن يستطيع ان يمنعك مهما حاول ... الطلاق ....ليس ... مستحيلا دائما و احيانا يكون افضل من مصائب اكبر )
نظرت وعد الى عيني كرمة تستمد منها قوتها .... ثم لم تلبث ان قالت بقوة
( ساعديني في خلع الفستان يا كرمة ........... )
.................................................. .................................................. ......................
وقف سيف في مدخل البيت الذي شهد أسوأ يوم بحياته ...
لم يستطع الصعود , كان يعلم أنه من الغضب ما قد يتسبب له في كارثة سيندم عليها فيما بعد ...
لكن مكالمة امه كانت العامل الوحيد الذي عمل على تهدئته قليلا ... و لكن ليس كليا ....
أن يأخذ وعد من هذا البيت تحديدا معززة مكرمة بفستانه الذي اشتراه بنقوده ... كان ذلك فوق احتماله ...
أما طريقة مخاطبتها له في الهاتف و أغلاقها الخط كان أمرا آخر ....
لم تكن من الحكمة كي تستفزه الليلة تحديدا ... خاصة وهو يحاول جاهدا السيطرة على قوة و عنف مشاعره تجاهها و التي لن تتحملها لو ترك لنفسه القيد ....
تنهد بقوة و غضب وهو واقف مستندا الي سيارته السوداء .... و المزينة بالورود الحمراء و البيضاء و شرائط التل بمهارة تليق بسيارة سيف الدين فؤاد رضوان ...
انتبه فجأة حين سمع صوت زغاريد عالية و أطفال تنزل جريا على سلالم البيت ... و نساء لا يعلمهم ينزلن بالزغاريد .... ثم .....
آه ها هي ملك الصغيرة ...
كانت تبدو رائعة بفستان بسيط حريري وردي و قد تركت شعرها الطويل بحرية دون أن تضفره .... فبدا كأمواج و أمواج ذهبية واصلة الى خصرها .....
كانت تبدو كحورية البحر بجدارة .... الا أن سيف لم يكن في شدة تركيزه مع ملك حاليا وهو ينتظر وعد أن تظهر ...
و ها هي ..... آآه لا .... انها كرمة التي تأكل كآخر يوم في عمرها ....
كانت جميلة كذلك في فستان أزرق داكن متسع بانسياب فوق جسدها .... لكنه لم يستطع التركيز معها حاليا ...
و ها هي ..... آآآه لا .... حسنا انه الأستاذ صلاح ينزل السلم بعصاه ... درجة .... درجتين ... ثلاث ...
العمر سينتهي قبل أن ينهي الاستاذ صلاح نزول السلم ....
و ها قد انتهى ....
لتظهر فجأة ... انتفض صدر سيف بعنف وهو يستقبلها بعينيه .... لكنهما لم تلبثا أن اتسعتا بذهول وهو يراها بفستان آخر ... غريب ...
فستان ضيق من الدانتيل بالكامل ..... حتى ركبتيها ... ثم ينسدل بأذيال متسعة من التل الأبيض ..
له أكام طويلة حتى كفيها من الدانتيل ... لكنه لم يخفي كتفيها و ذراعيها تماما ...
كانت نحيلة كعارضات الأزياء فيه ... و شعرها !!!
شعرها كان منسدلا على احدى كتفيها و مموجا !! غير ما اعتاده تماما .... و تعلوه خمار العروس و الذي ما هو الا خمار ملقى على رأسها دون تاج ....
كانت برية للغاية .... و كأن الزفاف سيتم في الغابة ...
لكنها كانت !! .... مذهلة .... مذهلة بكل معنى الكلمة !! ....
وصلت اليه .... و عيناها بعينيه .... و للحظاتٍ طويلة عمهما الصمت وحدهما بعيدا عن صخب من حولهما ....
و حين تحرك سيف ... لم يفعل سوى أن مد ذراعه , فتعلقت به تلقائيا ... و كأنها تطلب منه الأمان ....
انحنى اليها ليهمس بانفعال عاطفي
( أين فستانك ؟؟ ........... )
ردت بشجاعة ...
( قررت أن أهديك الفستان الذي قمت بخياطته بنفسي ....... )
اتسعت عيناه بذهول و عاد لينظر اليها كلها ... حتى احمر وجهها و تمنت لو كانت قد خاطته أوسع قليلا ...
الا أنه أخذ نفسا عميقا ليقول بصدمة
( هيا نغادر قبل أن افاجأ بالمزيد .......... )
لكنها تسمرت في الأرض تهمس بعناد
( ألم يعجبك ؟؟ ........... )
نظر اليها مجددا .... فوقع قلبها بين قدميها .... يا رب لا تجعله يسخر مني أو يجرحني ... يا رب ...
فقال سيف هامسا بانفعال جارف
( انه .............. )
تنهدت وعد بارتياح و ثقة و ابتسمت .... فقد حصلت على شهادة الجودة .... ال "إنه " الخاصة بسيف
فهمست برقة
( هيا بنا ....... أنا مستعدة )
نظر الي عينيها بعمق ... فتألقت عيناها ردا ....
و ما أن جذبها الي السيارة حتى استدارت الى صلاح قبلا ... و هتفت
( أبي يا عم صلاح ....... )
رد عليها بفرح
(اذهبي يا فتاة و لا تخافي ..... )
رفعت وعد وجهها الي سيف الذي نظر لها بعينين تحترقان ... تماما كاحتراق عضلاته المتشنجة
.................................................. .................................................. ...................
حين وقفت وعد امام القاعة بدأت اضواء التصوير تغمرهما.... و ذهلت من عدد المتواجدين
لقد حضرت منيرة ... و حضرت مهرة .... لكن بالتأكيد لم تحضر ورد .....
كان صوت الزفة صاخبا ..... فتشبثت بسيف بتشنج و همست بشيء
فانحنى سيف اليها قائلا ( ماذا ؟!! ...... )
فهمست في اذنه بخوف ( أنا خائفة ..... لم أقابل هذا الجمع من قبل )
رفع يده يربت على كفها المتعلقة بذراعه و همس لأذنها بصوته العميق
( لا تخافي .... أنا بجوارك ... دائما )
فابتسمت له بارتجاف ... و ازدادت تشبثا به و لم يكن هو ليمانع أبدا ......
ساعة واحدة مرت و كانت وعد قد نست خوفها لتندمج بأروع و أجمل حفل زفاف سمعت عنه يوما ...
لم تكن تصدق ان ترقص !! ....
وعد عبد الحميد العمري كانت ترقص بينما كان سيف ينظر اليها غاضبا يأمرها بعينيه أن تتوقف ... لكنها اليوم كانت ملكة .... و كانت الأضواء مسلطة عليها ....
الجميع يتهاتف كي يصورها ....
لم يكن حفل الزفاف يقتصر على المقربين ... لكن تلك المناسبة الاجتماعية كانت اقرب الى واجب يتم فيه احترام و دعوة المعارف من دائرة العمل ....
لكنها الآن شعرت بسعادة لا توصف و هي محط اهتمام الجميع لأول مرة في عمرها ...
حتى أنها سمعت تهامس بعض الناس عن مصمم هذا الفستان الغريب الذي لا يشبه في بساطته فساتين الزفاف التقليدية ....
لم تصدق أنها أنهته ... و ارتدته ... و ان الناس تتسائل عنه ....
طاقة .... طاقة جبارة انبثقت في عروقها جعلتها تتمايل و تتراقص بينما سيف يقف أمامها غاضبا ...
و ما أن صدح صوت موسيقى بطيئة حتى جذبها اليه بقوة .... و كانت المرة الثانية التي يتمايلان فيها بعد موسيقى الزفاف البطيئة الأولى ....
أغمضت وعد عينيها و هي تلهث ملتصقة بصدر سيف ... و الذي كان بدوره يتنفس عطرها ... جمالها ... نعومتها وهو يحتضن جسدها النحيل بين ذراعيه ... و كفيه تضغطان ظهرها و خصرها و كأنه يريد أن يحفرها وشما على صدره .....
احنى سيف رأسه ليهمس في أذنها
( أنتِ لي ....... )
أغمضت عينيها و لم تشعر بأنها تومىء برأسها .... لكنه لم يرضا بذلك فهمس لها بعاطفةٍ جبارة أشعلت شوقها
( قوليها ........ )
رفعت وجهها الى أذنه تهمس باستسلام
( أنا لك ........ )
تنفس بعمق حتى شعرت بصدره يسحقها و كم أشعرها ذلك بالحياة .... و الجنون ....
.................................................. .................................................. .....................
كانت كرمة جالسة على احدى الطاولات ... تنظربحزن الى سيف ووعد وهما يتمايلان في عالم آخر غير العالم الصاخب المحيط بهما .... تتسائل إن كان من الممكن أن ينفصل هاذان الإثنان بالفعل ....
العقل يقول نعم .... و العين تكذبه .....
تنهدت بحزن .... كم كانت بعيدة بأميالٍ عن جو العشق المحيط بهما ... و كم كانت مشتاقة لمحمد في تلك اللحظة بالذات
سمعت فجأة صوت رجولي قوي جذاب يقول بهدوء
( هل تسمح لي سيدتي بمشاركتها الطاولة ؟؟ ..... )
رفعت كرمة وجهها بذهول ... لتجد نفسها تنظر الى .... حاتم ....
و الذي كان يقف أمامها مبتسما بتعبير غامض ... و عينين تبرقان ....
كان وسيما بصفة خاصة عن كل المرات التي رأته فيها سابقا ...بحلته السوداء و قميصه الاسود المماثل دون ربطة عنق .... واضعا كفه في جيب بنطاله ... ينظر اليها و كأنه شرد في شيء ما بعيد جعله يبتسم ابتسامة لم ترها من قبل ...
هتفت كرمة بدهشة
( حاتم !! ...... ماذا تفعل هنا ؟.... هل أنت مدعو ؟!! ... )
رد عليها مبتسما و عيناه تلاحقان عينيها
( بل تسللت من السور كي أحصل على عشاء فاخر مجاني .... )
ابتسمت كرمة و هي تقول بدهشة
( كن جديا .......... ما اللذي أتى بك ؟!! ... )
قال حاتم بهدوء
( هل يمكنني الجلوس قبلا ؟؟ ...... )
أشارت كرمة الى المقعد المقابل و قالت مبتسمة
( تفضل طبعا ....... )
و ما أن جلس حتى قالت بسرعة
( اخبرني كيف أتيت ؟؟ ....... )
مد يده يمسح شيئا وهميا عن سترته بخيلاء وهو يقول
( في سيارتي ........ )
تأففت كرمة .... و هي تتراجع في كرسيها ... " ما بال الرجال اصبحوا ظرفاء و يحبون القاء القفشات !! ... الا يعلمون أنه لا وجود لرجل طريف أبدا مهما حاولوا ؟!! .... "
قالت كرمة بقوة
( انطق يا حاتم أو أبتعد من هنا ...... أنا مُستفزة دون الحاجة للمزيد )
ظل يتأملها طويلا ......
بالأمس وهو يجلس ببيته متكاسلا مفكرا بها دون ان يحرم على نفسه حرية الفكر وهو يحرم عليها حرية التواصل معها بشكلٍ اقوى يتعدى زمالة العمل ...
في تلك اللحظة بالذات سمع رنين هاتفه ... و ما ان نظر اليه حتى تدافعت نبضات قلبه بشكل يتناقض مع سنوات عمره المحترمة المقام ....
فرد عليها متأكد أن في الأمر خطأ ما .....
لكنها كانت هي بالفعل ... كان صوتها المبتسم دون الحاجة للتأكد من ابتسامة شفتيها ...
كانت كرمة ....
لا يزال يتذكر احساسه وهو يرجع رأسه للخلف مغمضا عينيه كي يستمتع بعذوبة صوتها على هاتفه للمرة الأولى ....
كانت قبلة الحياة له ... و كم كانت قصيرة حين اخبرته بنعومةٍ معتذرة انها لن تتمكن من حضور اجتماع عميل هام معه اليوم لأنها ستكون مشغولة مع صديقتها في تحضيرها لعرسها ....
و انتهت المكالمة سريعا ... لكن ببضع كلمات عرف أن الزفاف الضخم ما هو الا زفاف سيف الدين فؤاد رضوان
و بسرعةٍ تذكر ان في مكتبه بطاقة دعوة مهملة عليها نفس الإسم ..... لتبرق عيناه بتألق ...
قال حاتم بهدوء وهو يرجع ظهره للخلف ناظرا اليها
( حضرت بناءا على دعوة ....... )
رفعت كرمة حاجبيها بدهشة و هي تقول
( لم أكن أعلم أتك تعرف سيف الدين فؤاد !!! .... )
صمت طويلا وهو يتأمل جمالها .... كم كانت سخية دافئة , متفجرة الأنوثة بشكل يوجع الضمير ...
شعرها المرفوع بشكل أنيق أظهر كمال وجهها ... كيف يمنع الرجل نفسه من النظر اليها !!
و متى كانت الدناءة احدى خصاله!! ....
تنهد بقوة ليقول بهدوء لا يمتلكه
( في الواقع ..... لا أعرفه إطلاقا ... بطاقة الدعوة اتت الى مكتبي موجهة الى السيد مدير الفرع عماد .... )
فغرت كرمة شفتيها بذهول و اتسعت عيناها للحظة .... ثم لم تلبث ان أرجعت رأسها للخلف ضاحكة بصوتٍ عالٍ جذب بعض الأنظار اليها ....
هذا كثير .... والله هذا كثير ...
وجمت ملامحه و اتختفى الهزل منها وهو يراقب بهجة الروح تشتعل مرحا ... و كم كانت ضحكاتها شحيحة ...
لها جمال ضحكة ... لم يسمعه من قبل ...
و كم ود لو يصرخ فيمن ينظرون اليها بجنون و يسحق انوفهم بقبضته ... ليلتزم كلا منهم موقعه و ينظر في طاولته ....
هل جن للنهاية !!! .... يغار من صوتِ ضحكتها ... و هي التي تبيت في احضان رجلٍ يمتلكها كل ليلة و الحق كله حقه ....
اظلمت عينا حاتم و الألم المبرح بداخله يتوحش.....
اخذت كرمة تسعل و هي تخرج منديلا من حقيبتها الصغيرة لتمسح به طرفي عينيها الجميلتين قبل أن تفسد زينتها من دموع الضحك ...
ثم قالت بذعر مرح
( لا أصدق أن شخص بمكانتك يتطفل على زفاف هو ليس مدعو له !!!! ...... )
ابتسم حاتم قليلا مع انحناءة عينيه المتأملتين لها .... ثم قال بهدوء
( رغبت في حضوره ....... سمعت أن طعام محضر على أعلى المستويات لذا ودتت لو اجرب بنفسي )
ابتسمت بتألق و هي تستطيل قليلا لتنظر خلف كتفه ... ثم عادت لتقول
( بصراحة لا ألومك ... فأنا في انتظار " البوفيه " من قبل أن يبدأ الزفاف )
ظل ينظر اليها طويلا دون أن يبتسم ثم قال أخيرا بجدية
( كرمة ........... ستأكلين الليلة حتى تزهدي في الطعام كله و تعلمي أن في الحياة متعا أخرى غيره )
نظرت اليه بذهول , ثم لم تلبث أن ضحكت وهي تقول
( ياللهي .... ياللفضيحة , سمعتي في الأكل أصبحت معروفة )
قال حاتم بهدوء و جدية
( يكفي أن أخبرك بأن اقتصاد البلد قد تأثر بتزايد شهيتك )
مطت كرمة شفتيها و هي تقول بغضب
( حسنا هذه قلة أدب .... لست شرهة لتلك الدرجة )
رفع حاتم كفه الى صدره وهو يقول بكل صدق
( إنها الحقيقة دون تزييف ...... )
نظرت كرمة الى وعد التي كادت تغفو على صدر سيف ... فابتسمت ... و هي تفكر بأن الحمقاء كادت أن تدمر الليلة .... ليلة عمرها .... سواء نجح الزواج أم فشل .... ستكون ليلة عمرها .....
تنهدت كرمة بصمت مثقل و قد اختفت ابتسامتها تماما .... ياللهي ما أصعب ما تحياه الآن .....
بينما كان حاتم يراقب تبدل ملامحها من الشرق الى الغرب في لحظة واحدة ... و أوشك على أن يقتحم رأسها ليعلم بماذا تفكر حاليا
فاستغل تنهيدتها ليقول بهدوء
( ما سر تلك التنهيدة الحزينة ؟؟ ...... )
نظرت اليه كرمة طويلا .... وهو بداخله يحثها " تكلمي ..... تكلمي "
و تكلمت .... و ياليتها ما تكلمت ... فقد همست بصوتٍ ميت
( حاتم ..... أعتقد ...... أعتقد .... أنني سأترك العمل , بل أظنني سأفعل .... )
لم يعلم أن الحكم بالإعدام يمكن أن ينفذ بكلمة إعتقاد !! ....
ظل ينظر اليها دون تعبير يطرأعلى وجهه الجامد .... بينما عيناه اشتعلتا و جنون الغضب طاف على سطحهما ... و بعد لحظةٍ واحدة قال بصوتٍ لا يقبل الشك
( لن أسمح لكِ ...... )
رفعت اليه عينين مذهولتين .... ثم همست بعدم استيعاب
( عفوا !! .... )
كرر حاتم مجددا بنفس الثقة
( قلت لن أسمح لكِ ...... حين يصادف الإنسان شخصا مميزا أوشك على تحقيق المستحيل ... ثم يجده في لحظة أخرى يتخذ قرارا يفسد كل ما حققه ليس لشيء سوى لانه يمر بكبوة عارضة .... حينها الواجب يحتم سرعة التدخل ولو بالقوة )
كانت كرمة تستمع اليه باهتمام رغم أن كلامه يقتلها قتلا .... إن ما تفعله و كأنها تتخلى عن أحد أطفالها ...
لكنها قالت بخفوت لشخص .... كانت محتاجة لشخصٍ كي يسمع ....
( بيتي يحتاجني يا حاتم ....... قد أخسر حلمي و المستحيل الذي ذكرته ... لكن خسارة بيتي تعني خسارة حياتي ..... )
لا .... ما قالته سابقا لم يكن الإعدام .... بل الإعدام هو ما قالته تاليا .....
شعر بمرضٍ خبيث يحرق أحشاءه و هو يستمع اليها .... ثم نظر كلاهما الى العروسان وهما يتمايلان على موسيقى أخرى ناعمة ... و كأن العالم لهما وحدهما .....
نظر اليها مرة أخيرة .... الى ذلك الوجه الجميل الذي تصفعه يدا همجية وهو لا يقوى على الحراك ....
تلك الوجنة التي يزرق لونها ... و يبقى هو مشتاقا لأن ...... يقبلها مواسيا ....
قال فجأة بصوتٍ ملتهب كالجحيم ...
( سأحضر لكِ ما تشربينه .......... انتظري هنا )
أومأت كرمة برأسها دون أن تنظر اليه ... بل كانت عيناها مثبتتان على سيف ووعد ....
و بعد أن مر نصف الأغنية ... شدها قلبها لأن تنظر في الإتجاه المعاكس ... و كم كان ذهولها حين رأت محمد واقفا من بعيد يتلفت يمينا و يسارا ....
فهمست باسمه بذهول العاشقين ... و نهضت على الفور تقترب منه ...
كان منظره متناقض مع كل ما يحيط به .... ببنطاله الجينز و قميصه المربعات ... و ذقنه الغير حليقة ...
لكنه يظل الأكثر وسامة على الإطلاق ....
اقتربت كرمة منه خطوة خطوة ... و مع كل خطوة تتغضن ملامحها ألما ...
الى أن وصلت اليه .... فأبصرها ... ليقف مكانه و تبتسم عيناه .... بينما وجهه الخشن الحبيب مصمت التعابير ...
كان هو من تكلم قبل أن تنهال عليه بالتقريع فقال بخفوت
( لم أستطع تركك