رواية بعينيك وعد الفصل الثالث 3 بقلم تميمه نبيل
رواية بعينيك وعد الفصل الثالث 3 هى رواية من اجمل الروايات الرومانسية السعودية رواية بعينيك وعد الفصل الثالث 3 صدر لاول مرة على موقع التواصل الاجتماعى فيسبوك رواية بعينيك وعد الفصل الثالث 3 حقق تفاعل كبير على الفيسبوك لذلك سنعرض لكم رواية بعينيك وعد الفصل الثالث 3
رواية بعينيك وعد الفصل الثالث 3
كانت تنظر أمامها بعينين متجمدتين ..... جالسة على حافة السرير الفخم و هي ملتفة بروب الحمام الزغبي الأبيض ... تبدو به صغيرة و ضعيفة .. بينما وجهها شاحب رقيق .... تكاد بشرتها تكون شفافة مظهرةٍ خلاياها ....
لا يعلم ما الذي جعله يقف مكانه مسمرا بعد خروجه من الحمام لينظر اليها ....
هل هو مأسور بمنظرها الهش الناعم !! ... أم مسحورا باكتمال علاقتهما الذي بدا و كأنه النصاب الصحيح لإنجذابه تجاهها ....
وعد ...
ستظل شيء جميل غير مفسر دخل حياته فجأة ...... يثير به من الجنون و الغضب ... بموجةٍ عالية ... سرعان ما تتكسر بنعومةٍ فوق شاطىء المشاعر بينهما ......
اقترب منها أخيرا ببطء و عيناه متعلقتان بها .... فعقد حاجبيه قليلا .... انها شاردة تماما و كأنها لا نتمى لعالم الأحياء !! ....
حينها زادت سرعة خطواته فجلس بجوارها على حافة السرير و أمسك بيدها يقول بقلق
( وعد !! ........ )
لم ترد عليه للوهلة الأولى فازداد قلقه بعنف وهو يقول ضاغطا على كفها أكثر
( وعد ..... ماذا بكِ ؟؟!! ..... )
نظرت اليه أخيرا بلا تعبير معين .....لكن عينيها كانتا ضائعتين فهتف سيف بخفوت
( هل تشعرين بألم ؟!! ....... )
كانت أصابعه تتحسس نبضها ... دون أن تغادر عيناه عيينها بقلق .... لكنه صدم حين رآها تومىء برأسها اجابة على سؤاله .... ببطءٍ شديد ....
و ذهل حين رآى الدموع تترقرق في عينيها !! .... و قبل أن يكرر سؤاله كانت تميل اليه لتريح رأسها على صدره الممتلىء قلقا .... فضمها اليه تلقائيا بقوة , مسندا رأسه الى شعرها الناعم ....و يداه تربتان على ظهرها ....
لامست دموعها المنسابة بشرة صدره فازداد عبوسه ... و مد يده يتلمس دموعها الناعمة , ليهمس عاقدا حاجبيه بشدة
( تبكين !! ......... لماذا !! )
لم ترد و هي تتنعم براحة صدره ... تحيط خصره بذراعيها ... تغمض عينيها .....
فسألها سيف بخفوت و هو يمرغ وجهه بخصلات شعرها الناعمة الندية
( هل أنتِ نادمة بعد أن أصبحتِ ملكي ؟؟ ....... )
فتحت عينيها قليلا و هي لا تزال مندسة بصدره .... بينما تركته يتابع بصوتٍ متصلب أكثر
( هل سرقتكِ المشاعر ليلة أمس و استيقظتِ على خطة هرب جديدة ؟؟ .... )
عقدت حاجبيها دون ان تنظر اليه ... بينما ارتسمت ابتسامة شبه هزلية على شفتيها و هي تتذكر رهبتها ليلة امس قبل الزفاف حين عزمت على التراجع الى أن منعتها كرمة من الهرب ....
ماذا لو كانت طاوعت جنون لحظتها و هربت منه في اللحظة الأخيرة ؟؟ ...... هل كان ليتركها ؟!! ....
بدأت تعتقد أن لا مهرب لها من سيف اطلاقا .... و هذا الشعور يخيفها .....
رفعت وجهها عن صدره .... تنظر الي وجهه بصمت و كأنها تتأمله ... تمسح وجهها من الدموع بفتور ...
بينما كان هو كذلك يتأمل ملامحها ....
يكلمها دون صوت .... و عيناه تلتهمان كل ما تمران عليه
" كم أنتِ جميلة ! ...... وجهك قبلة للنظر .... للسؤال دوما عما يجذب العين اليه .... هل هما عينيكِ اللتين آسرتا روحي منذ المرة الألى التي نظرت فيها اليهما .... و حينها علمت .... أدركت .... أدركت أنني كنت أنتظرك منذ وقتٍ طويل ..... "
ليلة أمس .... و بعد أن تحشرج نفسها قليلا , شعر و كأن روحه تتحشرج معها .... خوف لم يعرفه مسبقا .. ربما لم يعرف مثله سوى حين مرض والده ... وها هو يواجه شعور يقاربه ...
و على الأرجح سيظل هذا الشعور يؤلمه دوما طالما أن وعد متواجدة بحياته ....
و بعد أن هدأت قليلا .... كانت ملامحها الشاحبة منهكة تحت أضواء الغرفة الخافتة ...
وهو كان مستلقيا بجوارها يريد كفه على عظام صدرها المنتفضة ...بقلق ....
لقد كان عنيفا فاقدا للسيطرة تماما معها بعكس ما تتطلبه الحكمة أو حتى الرأفة ......
لكن ما يعلمه أن وعد ما أن أصبحت بين ذراعيه حتى نسي الماضي و المستقبل و لم يرى أمامه سواها ....
انجذابها له كاد أن يفقده رشده !!!
لم يصدق أن تكون متلهفة لعاطفته بتلك الصورة ..... و أن تكون هي من تحاول بخجل تبديد خوفه الظاهر بعينيه مع كل لحظةٍ حميمية تمر بينهما ....
كانت تستشعر صدره المنتفض فوق قلبها ... بينما أصابعها تسرحان فوق وجهه ....
لتهمس متأوهة بين لحظة و أخرى باسمه .... و تبتسم .....
بعدها فقد الخوف عليها ..... و أدرك أن الأحرى به أن يخاف على نفسه ! ....
تلك الفاتنة الهشة .... سلبت لبه ....
و بعد أن راحت في سباتٍ عميق .... بقى ينظر اليها , و أصابعه تبعدان خصلات شعرها عن وجهها بحنان .. مستعيدا كل لحظةٍ مذهلة بينهما ...
بينما حاجبيه ينعقدان مع شهقتها الخافتة بين كلِ لحظةٍ و أخرى .... كانت تلهث في نومها وهي منعقدة الحاجبين بإجهاد ....
الى أن استسلمت الى نومٍ قلق ... بأنفاسٍ متعاقبة بخشونة بما يشبه الشخير الخافت ....
لقد أوشك أن يهاتف طبيبها في تلك اللحظة .... لكنه عادى و قوى قلبه لعدة لحظات يراقب اي خطورة محتملة .....
و لم تغفل عيناه عنها ولو للحظةٍ واحدة ... و حين أطل شعاع الفجر أخيرا ... أنار ملامحها الباهتة قليلا ...
يخبره بوضوح عن اجهاد عميق تعانيه على الرغم من هدوء انفاسها ....
لقد آلمها على الرغم من نيته المسبقة في ألا يفعل .... و كم أشعره ذلك بالمقت لنفسه , خوفا من أن يكون عقله الباطن المشوه هو من تولى الأمر !!
لكنه يعلم رغم ذلك حق اليقين أن انجذابه اليها كان فوق اي وصف أو حواجز .....
و حين فقد القدرة على الإنتظار .... ربت على وجهها برقة وهو يهمس باسمها كي يوقظها بقلق , غير قادر على انتظار الصباح ....
و بدا و كأنه ينتزع روحها من شدة عمق نومها المرهق ..... لكنها و ما أن فتحت عينيها بصعوبة , ... حتى كافئته اجمل مكافأة ..... فقد ابتسمت لعينيه و كأنها تعرفه قبل أن يتواجدا بهذا العالم ....
و بعدها ..... ....
سيظل الصباح دوما له هو الذكرى الأجمل من بعد ذلك الصباح بجنونه .....
كانت وعد تنظر اليه فاغرة شفتيها ....و هي تقرأ بعينيه أهوالا , ....
أذهلتها كمية القراءات بعينيه ... ...بينما ملامح وجه كانت جدية ... صلبة كما عهدتها دائما ....
أفاق على نظراتها المذهولة .... فرفع يديه يتلمس ملامح وجهها ... ليقول بخفوت
؛( ألن تخبريني بما كان يبكيكِ ؟!! ...... )
رف جفناها و عاد الحزن ليرسم لون حدقتيها .... فابتعدت بهما عن مرمى عينيه لتهمس بعد فترة
( شيء قديم ........... لا تأبه )
الا أنه لم يترك وجهها ... وهو يوجهه جانبا كي يتمكن من اقتناص عينيها .. و ما أن فعل حتى قال بخشونة
( و ماذا لو أردت أن أنسيكِ الماضي ؟؟ ...... )
ابتسمت قليلا و هي تتطلع اليه .... ثم همست برقة
( و هل أستطيع أنا ؟؟ ........... )
أظلمت عيناه للحظة .... فقط لحظة ,. لكنها تمكنت من تسجيلها بدقة , لتقول بهدوء
( أرأيت ؟؟ ........ الماضي جزء لا يتجزأ منا , لذا دعنا نتجنبه ... ندور من حوله دون ذكره )
قال سيف بشرود وهو يتطلع الى عينيها
( أحيانا أشعر بكِ كلوحٍ من الجليد القاسي ......... )
عقدت حاجبيها و عبست بشدة و هي تدعي الجرح .... لكنها همست برقة متعمدة و هي تقترب منه خطوة
( و في الأحيان الأخرى ؟!! ......... )
عقد حاجبيه بجدية ... الا أنه كان يقترب منها خطوة كذلك حتى انقضت المسافة بينهما ... ثم قال بصوتٍ أجش
( في الأحيان الأخرى تكونين كالنار الذائبة ...... )
ابتسمت بجمال و هي تدير وجهها بخجل .... بينما كانت ذراعاه تعيدانها الى أحضانه مرة أخرى ...
فقالت بنعومة و هي تتلمس صدره بوجنتها
( اذن ..... هل نلت ما يستحق مالك ؟؟ .... )
لم تتوقع فجأة الجدار الخرساني الذي تصلب تحت وجنتها فجأة ... لتقبض كفاه على كتفيها و تبعدانها بقوة عنه فرفعت عينيها المتسعتين اليه لتفاجىء بوجهه الذي تحول فجأة الى معالم الشر ...
ثم قال فجأة بخفوت خطير ... يجمع ما بين الذهول و الغضب
( ماذا قلتِ للتو ؟؟!! ........ )
ظلت تنظر اليه لعدة لحظات بعدم فهم سبب ذلك التحول الذي طرأ عليه .... فأمامها الآن إما أن تتراجع عن عبارتها الأخيرة و تدعي الغباء .... أو ربما تواجهه ببرود ...
و أخيرا قالت بهدوء خافت و هي تنظر الي عينيه
( كنت أمزح فقط .......... )
اتسعت عيناه قليلا مع زيادة مقدار الغضب بهما ... قبل أن يقول بتهديد
( لم يكن مزاحا ....... كان قذارة )
عقدت حاجبيها و هي تنتفض من بين ذراعيه لتهب واقفة ... ثم استدارت اليه , لتقول بقوة
( ما الداعي لتلك الإهانة المبالغ بها ؟!! .... أنها لا أفضل استخدام الألفاظ النابية لو كنت قد لاحظت )
نهض واقفا أمامها .... فارتعشت قليلا من منظره القوي طولا و عرضا و ضخامة , فتراجعت خطوة الا أنها توقفت ترفع وجهها اليه بشجاعة زائفة ...
بينما قال سيف بصوتٍ به من الإزدراء ما جعلها ترتجف
( بل الواقع أن ما نطقتِ به للتو كان من أكثر ما سمعت وضاعة ...... )
شحب وجهها لتهتف بدفاع
( لماذا تخاطبني بتلك القسوة !!!...... كان مزاحا .... و مجرد ملحوظة منك كانت كفيلة بأن تجعلني أتراجع )
استدارت تنوي مغادراته بغضب الا أنه لم يلبث أن جذبها من ذراعها يديرها اليه مجددا بقوة و عيناه تشتعلان غضبا .... ثم قال بحدة , كانت كفيلة كي تجعلها تتراجع
( لن تغادري من هنا قبل أن ننهي هذا الأمر ....... )
رفعت وجهها تنظر اليه بغضب بينما قلبها يقصف كالرعد .... ثم هتفت و هي تعلو بذقنها بتحدي
( حسنا تريد أن تنهي الأمر .... لك ذلك .... لقد كان مجرد مزاحا , لكن لو لم تعتبره كذلك فهي أيضا الحقيقة .... لما ترسم صورة وردية لواقع مختلف أنت من وضع شروطه بنفسك ..... على الأقل أنا صريحة مع نفسي ... لكن أنت تريد شيئا و في نفس الوقت تريد أن تظل صورتك مثال الكمال في نظرك .....
لقد عرضت علي الزواج في أصعب أوقات حياتي ..... و لقد رفضت أنا عدة مرات و حين وافقت حين سدت أمامي كل الطرق آمنت بأن لك حقا يجب أن تحصله ....... الفرق بيني و بينك أنني صريحة معترفة بواقعي ... بواقعنا معنا ..... بينما أنت تحاول جاهدا رسم صورة جميلة من خيالك حول شيء ....... )
صمتت فجأة و هي تخفض رأسها لاهثة .... بينما قال سيف بصوتٍ قاتم .... جليدي
( تابعي ....... لماذا توقفتِ ؟؟ ..... أتوق لأن أسمع منكِ وصفا لهذا ال ....." شيء " ......)
رفعت وجهها تنظر اليه بصدمة عدة لحظات ...... صدمة من نفسها ... لكنها همست بتعب و بطىء
( شيء .... أقل جمالا ...... )
استدارت بعيدا عنه غير قادرة على مواجهة عينيه العميقتين للحظةٍ واحدةٍ أخرى ....
لماذا .... لماذا يا وعد ؟؟ ..... ما كانت الضرورة لكل ذلك ؟؟ ....
لم تكوني ناقمة عليه ولو للحظة .... حتى أنكِ قضيتِ معه أروع و أرق لحظات .... فلماذا فجرتِ كل ذلك بوجهه الآن رغم كل ما قدمه لكِ ؟!! ......
شهقت حين شعرت بكفيه على خصرها تديرانها مرة أخرى اليه وهو يدفعها الى أن سقطت على السرير , ثم انحنى اليها مثبتا كفيه عند جانبي وجهها .... فنظرت اليه بخوف واضح وهو يعلوها و قد اشتد الغضب في عينيه ...
لكنه لم يأبه بخوفها وهو يهتف من بين أسنانه
( هل أجبرتك ؟؟ ......... )
حاولت النهوض من ذلك الحجز الذي يحيطها به ..... الا أنه دفعها مرة أخرى فسقطت تنظر اليه بعينين متسعتين .. و قال هو بغضب
( لن تتحركي لأي مكان قبل أن تجيبي ........ هل أجبرتك ؟؟ .... )
هزت رأسها نفيا و هي تبتلع ريقها بصعوبة ناظرة اليه , غير قادرة على النطق بكلمة ... فتابع بخشونة وهو يوشك على ان يخنقها
( هل ابتززتك بأي شكلٍ من الأشكال ؟!! ......... )
لم ترد و لم تتحرك و هي تنظر اليه كتمثالٍ ملقى .... فقبض على كتفها بعد فترة و قد بان غضبه ناريا وهو يكرر
( هل فعلت ؟؟؟ .............. )
هتفت وعد بجنون يدفعها خوفها
( نعم فعلت ....... لم تكن لتساعدني الا بقبول الزواج منك .... و لم تكن لتتزوجني لو لم أكن ابنة عبد الحميد العمري ...... لو كنت مجرد ساعية لديك و شعرت بذرة انجذاب تجاهي لكنت صرفتني بهدوء من اللحظة الأولى ..... لكن كوني ابنة عبد الحميد , فقد سهل ذلك لك كل تصرفاتك تجاهي .... زواجك مني بتلك الطريقة دون تبرر لكل من حولنا .... جعلتني أنا في مواجة النيران و النظرات و التخمينات المرعبة ....
لو كنت تظن بأنني أحيا قصة من القصص التي تتزوج فيها الخادمة بالأمير و تحيا بسعادة فأنت مخطىء تماما ..... أنا فقط آخذ ما تقدمه لي شاكرة .... لا أكثر و لا أقل ..... )
ظل ينظر اليها طويلا .... حتى غضبه بات غامضا وهو ينظر بحدة الي عينيها .....
فهمست وعد الى عينيه
( قلبي لن يتورط في الأمر يا سيف ....... و كنت صريحة معك .... فلا تدعي أن قلبك قد تورط ... لأن ذلك لم و لن يحدث..... أستطيع تبين الحب بصدقه يا سيف .... حتى لو لم أحب سابقا .... لكنني أستطيع تبين الحب الصادق ..... و أنت لا تحبني بصدق ..... و سرعان ما ستنتهي فورة ذلك الإنجذاب بيننا ....)
مد يده فجأة يقبض على ذقنها بقوة فأغمضت عينيها .... و انتظرت لعدة لحظات بخوف ... لكنها سمعت صوته الجاف الشرس يقول
( لماذا تفعلين ذلك ؟!! ....... ما تلك القسوة و البرود بك ؟؟ ..... )
لم ترد و هي ترتجف بشدة .... حتى أن شفتيها ارتجفتا كذلك , فقال بخشونة أكثر خفوتا
( افتحي عينيكِ ........ )
هزت رأسها نفيا ببطء و هي تبتلع دمعة أقسمت الا تتساقط من خلف جفنيها المطبقين ... لكنه هز ذقنها بقوة , فاضطرت لفتحهما بضعف ... حينها تحررت الدمعتان الحبيستان على وجنتيها في صمت ..
فارتعش فكه قليلا ... ثم همس بصوتٍ اجش
( من أين أتى كل ذلك !! ......)
لم تدري و هي تهمس باسمه متأوة أنه بدا كالرجاء ليتناسى كل ما ذكرته حاليا و الذي اندفع من جوفها حارقا ليكويهما بناره ...
و قد سمع رجائها واضحا ... و بقى مسمرا مكانه للحظات متصلب الوجه غير متسامح .... لكنه لم يلبث أن هبط اليها بوجهه يقتص منها بشدة .... و هي كانت أكثر من مرحبة و هي تحيط عنقه بذراعيها ... تغمره بقبلاتها العشوائية التي لا تعرف خبرة سوى على يديه هو .... تشعل جنونه و تهدىء من غضبه الى أن غاب معها تماما و يده تتلاعب بحزام روبها ...
بعد فترة طويلة كان يضمها اليه بشدة غير سامحا لها بالهرب .... ثم قال لها بخفوت مجهد برضا
( حسنا ..... أنا لا زلت أنتظر تفسيرا لكل تلك الموجة التي قذفتني بها )
رفعت أصابعها الى فمه و هي تهمس بصوتٍ يرتجف
( أنا آسفة يا سيف ....... هل يمكننا أن نتجاوز ذلك الحوار ...لم أكن بحالٍ سليمة تماما ... )
كان يقبل أصابعها المرتجفة فوق فمه .... بينما كان يدرك تمام الإدراك أنها كانت تقصد كل كلمةٍ نطقت بها ... لكن لماذا الآن تحديدا , بعد أن ذابت بين ذراعيه بشوقٍ ألهب قلبه !! .....
و الأسوأ أن بداخله جزء عميق جدا .... كان يفكر في مدى صحة كلامها ....
لكنه بالفعل تجاوز كل ذلك ليقول بخفوتٍ أجش
( هل هو ذالك الشيء القديم ؟!! ......... )
رفعت وجهها اليه تنظر الي عينيه لفترة طويلة .... ثم همست باختناق
( ألم تعدني بأن تنسيني الماضي ؟!! ...... افعل ذلك .... أرجوك ..... )
ذهبت همستها بأنفاسه وهو ينحني اليها يتقبل رجائها من جديد .......
.................................................. .................................................. ......................
يسير بمكتبه دون هوادة ......
ذقنه الغير حليقة و عينيه الحمراوين .... خير دليل على عدم الإستكانة للحظة نوم ليلة أمس
و كيف يهنأ بلحظة نوم و الجميلة ذات الفستان الأزرق تزوره ما أن تغفو عيناه .... فينهض لاعنا شاتما نفسه .....
كرمة ......
أي فسوق يسيطر عليه يجعله يتخيل ما يحدث بينها و بين زوجها خلف بابهما ... بعد أن رآها بين ذراعيه ....
أي جنون يتملكه كي يحب امرأة متزوجة !!!
أي جحيم رمى نفسه به !!! ......
و هل كان الأمر بيده !! .........
نعم كان بيده .... حين أدرك أولى بوادر الخطر و أرسل الى عماد يخبره برغبته في العودة الى مقر عمله بالخارج .... حتى لو اضطر لترك هذا العمل بأكمله .....
لكن كانت هي من جعلته يعدل عن قراره ..... مع رؤية صفعات زوجها على وجهها .... علم حينها أن قراره في الإبتعاد أصبح في خبر كان .....
حتى ولو لم يفعل شيئا ..... يكفيه أن يكون موجودا في حال أن إحتاجته ذات يوم ......
و من يومها و عينيها تذبلان أمام عينيه يوما بعد يوم ......
تعمل كثور بساقية ..... لكن عينيها تذبلان .... فكيف يبتعد ؟!!! .....
لو كانت السعادة ترسم جمال عينيها لكان ابتعد متمنيا لها المزيد و المزيد ..... أليست امرأة جذبت قلبه !! ...
لكن كيف يبتعد و هو يدرك أي تعاسة تحياها ؟!! .......
كيف يستطيع ...... كيف يستطيع .......
ليلة أمس جمالها ضربه بمقتل .... لتجهز عليه بعدها بمشهد مراقصتها لزوجها ....
و تسائل حينها بهياج .... أي جنونٍ دفعه للمجىء اليها ؟!! ...... أي جنون دفعه كي يتهور و يرى منها الجمال و المزيد من المسافات و الألم في المراقبة من بعيد .......
اللعنة ..... على الرغم من انه تزوج داليا بعد قصة حب , الا أنها نجحت تمام النجاح في قتل حبه لها و حين تزوجت لم يشعر بلحظة غضب أو غيرة .....
بعكس كرمة الغريبة عنه تماما ......
كل ما بها غريب عنه ... لم يره و لم يشعر به من قبل ....
شخصية مميزة و روحها الجميلة ..... و نجاحها المتألق .....
شمعة مضيئة تجذب العين لها أينما ذهبت .... لكنها زادت في الجمال في لحظةٍ خاطفة غادرة فسرقت قلبه كذلك ...
هو نفسه لا يعلم متى حدث كل ذلك ..........
دخل ساعي مكتبه يحمل اليه قهوته .... يوقفه عن جنونه الحالي .... فسأله حاتم بخشونة و قلق غير مبررين
( ألم تصل السيدة كرمة بعد ؟؟ ........ )
قال الساعي بتهذيب
( لا سيدي لم تأتي ......... )
فافتعل حاتم الهدوء و الرزانة ليقول بتلقائية
( ألم تتصل أو تخبر أحد بأخذ أجازة ... أو سبب تأخيرها ؟؟ ,....... )
رد الساعي بهدوء
( ليس على حد علمي يا سيد حاتم ........... هل أبلغ أحد من المظفين أن يتصل بها ؟؟ ..... )
رد حاتم بسرعة وهو يستعيد رزانته
( لا ....... لا ...... لا داعي لعل المانع خير ,..... اذهب أنت )
انصرف العامل بهدوء .... بينما سحب حاتم نفسا عميقا و هو يحرر ربطة عنقه بغضب ....
عليه أن يسيطر على نفسه أكثر .... فلا يظهر ما بداخله لأحدٍ من العاملين هنا .... أو حتى لأي مخلوق .....
تأفف بقوة وهو يرفع رأسه ... ثم همس باختناق
( ماذا أخرك يا كرمة ؟؟ ...... ليست عادتك أبدا ...... )
قلبه كان ينبض قلقا دون سبب معين فهي على الأرجح قد تعبت سهرا في الزفاف ..... و ما بعده ....
عاد يزفر نفسا كالجحيم من صدره المشتعل .... تبا لكل ذلك ... و تبا لنفسه الغادرة قبل الجميع .....
رنين هاتفه جعله ينتبه فجأة ..... فنظر اليه اليه بملل و رغبة في تحطيمه ....
لكن ما أن أبصر الرقم المتصل المقترن بالإسم الحبيب حتى ذابت عيناه و التقط الهاتف ليرد بسرعة
( كرمة ...... أين أنتِ ؟؟ ...... )
لم يسمع ردا .... فعقد حاجبيه قليلا ليكرر بقلق
( كرمة !! ......... )
لكنه لم يسمع ردا ... فقط سمع نفسا هادرا .... فرفع ذقنه بادراك .... إنه فخ ! .....
فقال مجددا بهدوء
( نعم ............. )
الا أنه لم يسمع سوى غلق الهاتف بقوة .... حينها عبس بشدة وهو ينظر الى الهاتف ...
ثم لم يلبث أن رماه على سطح المكتب بغضب
انه زوجها ...... يكاد يقسم على ذلك ...... لقد أوشك على رؤية وجهه الهمجي أمامه ....
لكن لماذا يحادثه من هاتف كرمة بتلك الصورة المريبة ثم يغلق الخط !! .....
نظرته اليه ليلة أمس لم تكن مريحة ...... و هو لا يأبه حتى و لو التقط اليه مئات الصور ....
لكن خوفه كان أن يحمل كرمة عواقب تواجده بالأمس .....
رفع يده يحك ذقنه بقوة .... ثم وقف مكانه يتنفس بسرعة ... لقد كان محقا بقلقه ....
لكن كيف يتصرف الآن ؟!! .... حتى الهاتف أخذه منها ...... كيف يطمئن عليها ؟!! .....
انه لا يعلم الكثير عن هذا الشخص ... يعرف أنه همجي و جبان ليضرب زوجته .... الا أنه لا يدرك بعد مدى خطورته ..... هل يجلس هنا أسير مكتبه و يتركها تعاني على يديه !! ....
لو كان استشعر صداقة بينها و بين احدى الموظفات لكان استعان بها .... لكن علاقتها بهن كانت تندرج تحت لفظ الزمالة فقط و لم تكن تسمح لاي احد بان يتداخل بتفاصيل حياتها اكثر من اللازم ....
ارتمى على مقعده بقوة .... لينظر من نافذته الي البعيد باحساس قاتم بالعجز ... ثم همس بخشونة
( أين أنتِ الآن يا كرمة ..... و كيف حالك ..... )
باب خشبي قديم .... وقف شامخا أمامها ....
باب خشبي تقليدي .... قشوره غلبت على لونه الباهت فبدا قديما قدم الزمن ...... لطالما كرهته و أرادت طلائه .... لكن شعورها تجاهه الآن ... لا يقارب حتى الكره ....
شعور غريب غير مفسر .....
منذ ساعات و هي جالسة على الكرسي العتيق ..... يداها على ذراعيه و عيناها مثبتتان على الباب المغلق و الذي خرج منه محمد ..... ليبقى الباب ....
قطعة خشبية قديمة تحدد مصير العلاقة بينهما .... مصير حياتها معه ...... بعد عشر سنوات !! .....
ساعات و هي جالسة مكانها و عيناها على الباب .....
لا تعلم كم من الوقت مر و هي تجلس تنظر للباب بعينين تقطران ألما .... و قسوة ....
حتى الدموع الحبيسة بهما كانت دموع قسوة ..... بينما اصابعها تنقبض على الذراعين و اظافرها تحفر في خشبهما و كأنها تمنع نفسها بالقوة من الهجوم على الباب و تحطيمه لتخرج ....
كانت على شفا خطوة من مسامحته .... كانت على وشك التضحية بكل حلمٍ في حياتها عاشت من أجله .... من أجله .... من أجل محمد ....
هل يهدئها أنها قد سبقت و أختارت ترك العمل و كل حياتها !! .....
على العكس .... بل قرارها السري المسبق و الذي لم يعلمه سوى حاتم ... جعلها الآن أكثر عذابا و ألما .... و كرها .....
ساعات و هي تجلس تلهث بعنف ... و الدموع تكاد تكون كأسيد حارق بعينيها .. لا تسمح لها بالفرار ...
ساعات و هي تفكر بشريط حياتها معه و الذي مر أمام عينيها بسرعة .... تتسائل في لحظة الغضب
" على ماذا حصلت من محمد ؟؟ ..... هل هو الحب ؟ .... و المأوى ؟؟ .. و العائلة ؟؟ .... "
لكن الم يكن ذلك هو ايضا ما منحته له ؟؟ .....
كانت حبه و عائلته و بيته ....... فماذا فعلت هي و ماذا فعل هو ؟؟ .......
يوما بعد يوم كان يكسر شيئا من روحها ......
كل يوم و ليلة ابتعد عنها كانت تزهق جزءا من روحها ......
مع كل صفعة كانت تفقد جزءا من نفسها .... جزءا من كرمة .......
حتى حبه كان يشعرها بالخزي من نفسها في كثير من الأحيان ... خزي تخفيه عن الأعين كلها حتى عن عينيها هي
مع كل شكوى تسمعها من زوجة غيرها .... تطاول عليها بهمسة أو كلمة زائدة ... و قررت أن تحصل على حقها كي لا يعيدها ....
كان الخزي بداخلها يحرقها و يملأ عينيها دموعا خفية ......
و هي تتسائل .... عن مدى تحملها لكل اهانة و كل ابتعاد .....
حين كانت صغيرة ... و بعد أن خرجت من دار الرعاية , كان الأمر طبيعيا بالنسبةِ لها ... و كان محمد أفضل من الدار و المعاملة به بكثير ....
لكن مع كل يوم مر و كانت تبني نفسها به .... كانت تجد أن الجرح يزداد عمقا .....
هل شعرت بنفسها تعلو ؟؟؟ ...... نعم شعرت بذلك ..... هي بشر في النهاية و تدرك بقوة ارتفاع مكانتها و مدى روعة ما حققته .... لذا كانت كل اهانة من محمد تحفر في نفسها نقشا غائرا ....
الى أن حدثت الطامة الكبرى .... فلم يكن جرحا ككل جروحه لها .....
كانت طعنة زواجه بأخرى !!! ..... دون أي وجه حق ..... دون أي وجه حق .....
هل يعلم أنها كانت تبكي كل ليلة وحيدة على وسادتها تتمنى لو كان عيب الإنجاب منها ... لعل ذلك يهدىء من ألمها تجاه زواجه .....
هل يعلم كيف ذبحها ذبحا ؟!! .......
و الآن و بمنتهى الغباء .... بمنتهى منتهى الغباء سامحته دون حتى أي شروط مسبقة .....
لتستيقظ بعد ليلة اشترت بها انوثتها الضائعة ..... على جرحٍ جديد منه .....
بكل قسوة و برود .... رمى يمين الطلاق على الباب الخشبي و خرج ........
خرج و تركها .... و كأنها ....... و كأنها مجرد فتاة رخيصة , مل منها و تركها رهينة البيت الى أن يعود اليها متى شاء !! .......
دمعة قهر وحيدة سقطت بقوة من عينيها ..... و بعدها لا تزال تراقب الباب ... جزء خفي من عقلها يأمرها
" تحرري و اخرجي ....... "
مر عليها بعض الوقت , قبل أن تهتز حدقتاها فجأة مع صوت المفتاح بالباب ... و لم تكن قد تحركت من مكانها بعد
لكن حدقتاها تنبهتا لصوت المفتاح .. فراقبتا القفل الحديدي بحدة .... ثم حركة الباب ...
لتراه يدخل بصمت !! .....
هو محمد .... نعم ... تلك هي ساقيه ... ملابسه .... يديه وهو يغلق الباب بقوة ....
ارتفعت عينا كرمة الى صدره الغزير الشعر ... القوي العضلات من ساعات العمل الطويلة ....
ثم عنقه الأسمر .... فكه الغير حليق كعادته ..... ملامح وجهه الصلبة .....
الى أن التقت عيناها بعينيه أخيرا ...... و تسمر الوقت بينهما .....
و علمت ......
علمت أن اللحظات المقبلة ستكون المسمار الأخير في نعش زواجهما ....
إنها تفهمه أكثر من نفسه ..... تفهمه من نظرة عينيه ...
و نظرة عينيه أخبرتها أن المقبل سيحطم الباقي منها .....
انحنت عيناها بيأس و عذاب ... وهمست شفاها المرتجفة دون صوت
" لا تفعل ..... لا تفعل ..... لآخر لحظة لا أستطيع الحياة بدونك .... أرجوك لا تفعل "
الا أنه اقترب منها ببطء .... و كأنه يتمهل قبل أن ينفذ الحكم على زواجهما ....
و استمر يقترب الى أن وقف أمامها و هي جالسة متشبثة بذراعي المقعد .... فاضطرت الى رفع رأسها اليه تراقبه بصمت ....
و لم تتوقع ...... لا بل توقعت تماما ... و انتظرت بصمت ....
أن ارتفعت يده عاليا لتهبط على وجهها فجأة و بسرعةٍ لم تستطع أن تتداركها .....
شهقت كرمة بصمت و هي ترتجف ... و أبقت وجهها منحني من أثر الصفعة كي لا تواجه عينيه اللتين بديتا كريهتين في تلك اللحظة ....
لم تكونا عينا محمد و كأن روح شريرة قد التبسته
على الرغم من توقعها لكل ردود فعله , الا أن به شيء مختلف ... شيء جديد عليها تماما ...
شيء لم يكن بينهما يوما .....
نظرة كره و ...... شك .....
و بالفعل لم يطل بها الإنتظار اكثر وهو ينحني ليقبض على شعرها بقسوة جعلتها تصرخ ألما ... بينما فقد هو الذرة الأخيرة من انسانيته وهو يصرخ أمام وجهها
( ماذا يريد منكِ ؟؟؟؟ ....... )
اتسعت عيناها بذعر و هي تنظر اليه بذهول على الرغم من الألم الرهيب الذي تشعر به جراء إمساكه بشعرها بقسوة ...... لكنها واجهته بشراسة و ذهول في نفس الوقت و هي تصرخ
( من ؟؟ ...... و يريد ماذا ؟!!!! ....... هل جننت ؟!!! ..... )
الا أنه هز رأسها بقوة و كأنه يمسك بطائر مذبوح دون رحمة و صرخ
( مديرك في عملك القذر .....)
صرخت كرمة و هي تضرب صدره بقسوة تحاول التحرر من احتجازه لها ... الا أنه ضربها بقوةٍ فأعادها للمقعد مرة أخرى .... و تابع صارخا
( تتحدثان خارج أوقات العمل ..... يناديك باسمك مجردا .... يخصص لكِ سيارة خاصة ... تترقين بسرعة الصاروخ في فترةٍ لا يصدقها أي مجنون ..... و ليلة أمس .... ليلة أمس أراه معك بزفاف صديقتك أنت ....... )
صرخت كرمة بهياج و ذهول .من جنون ما تسمع ...متشبثة بقميصه حتى أنها مزقت عددا من غرزاته ...
( أنت مجنون ..... مجنوووووووووووون )
الا أنه هز رأسها مرة أخرى ليصفعها مجددا حتى اهتزت الرؤية أمام عينيها و هو يصرخ
( لقد رأيت نظراته لكِ ...... رأيته يدقق بكل ذرة منكِ يكاد أن يعريكِ من ثيابك .... )
اتسعت عيناها بذهول أكبر ... حتى بدت و كأنها ترى الموت , لكنها عادت لتصرخ بهذيان
( اخرس ...... أنت مجنون .... أقسم أنك مجنون ...... )
الا أنه كان يبدو فعلا مجنونا و هو ينظر اليها بعينين شرستين لا تريان أمامهما ... ليقول بصوت كريه أمام وجهها
( لم أستسلم لشكوكي ليلة أمس حين رأيته بالحفل .... الحفل الذي رفضتي دعوتي اليه , و فضلت الإنتظار .... لأجدك تهاتفينه في وقت متأخر ... و كأن ما بينكما من حديث لم ينتهي في ساعات العمل الطويل الذي تقضيانها بمفردكما ..... اتصلت به من هاتفك .... ليرد بلوعةٍ مناديا اسمك ..... نبرة صوته لا استطيع اغفال الهيام بها ...... )
كانت كرمة قد بدأت في البكاء ظلما و قهرا .... لكنها صرخت و هي تشهق باكية باختناق
( لقد هاتفته ظهرا ..... لأخبره أنني لن أذهب للعمل , ..... و جميعنا ننادي بعضنا بأسمائنا مجردة دون ألقاب .... و خاصة هو طلب ذلك من الجميع أكثر من مرة ..... و ليلة أمس كانت معه دعوة .... لم أعلم بها ... و لا دخل لي ..... )
لكنه هز رأسها بقسوة وهو يصرخ بجنون
( هل تظنيني جاهلا لتلك الدرجة ؟!! .... هل هكذا تطلبون أجازة رسمية ؟!!!! .... معه دعوة لنفس الزفاف الذي ذهبت ِ اليه و لم يكن لديكِ علم بها ؟!!!! ......و أنا الذي كنت أتسائل عن كل تلك المميزات التي تنالينها !!!! ..... الآن عرفت ... )
ضربته كرمة بقوةٍ أكبر و هذه المرة أفلحت في زحزحته عنها من شدة قوة غضبها ....
فهربت منه بعد أن تقطعت عدة خصلات بين أصابعه .... الا أنها لم تهرب ....
فقط ابتعدت عنه و هي تبكي و تشهق ..... لتستدير اليه مجددا عن بعد .... ثم صرخت بجنون
( اخرس ..... أخرس .... لن أسمح لجنونك أن يصل الى تلك الدرجة من الإنحطاط ..... لقد بذلت كل ذرة تعب تستحق كل ما وصلت اليه .... بمجهودي .... و ليس تلك القذارة التي تلمح اليها .... أيها المعقد المجنون الغبي ..... لقد تحملت منك الكثير .... الكثير .... لقد تعبت ...... )
و قبل أن تنهي كلمتها الأخيرة كان قد وصل اليها ليصفعها بقوةٍ رمتها أرضا ......
لم تصرخ و قد غلبها الدوار من شدة ارتطامات رأسها بكفه القوي ..... و استلقت قليلا و الدنيا تدور من حولها .... الا أنه انحنى اليها يجذبها من ذراعيها بقسوة حتى وقفت على قدميها ... فدفعها حتى ارتمت على الأريكة .... و انحنى اليها يحاصرها و الغضب يزداد جنونا بعينيه و ملامحه ...
و همس أمام عينيها بشراسة
( ألم تلمحي إعجابه !! .... نظراته لكِ !!! .... طريقة نطقه لإسمك !!! )
هتفت كرمة بجنون
( هذا كله من وحي خيالك .... حاتم حديث العمل معنا , أي بعد أن نلت ترقيتي و ..... )
لم تكمل حين ارتطمت يده بوجنتها مجددا بقوة وهو يصرخ بهياج
( لا تنطقي اسمه أمامي ..... لا تتجرأي على نطق اسمه ..... )
صمتت كرمة تماما ... و كأنها فقدت روحها كفقدها القدرة على النطق ....
لم تكن صفعاته هي التي أصابتها بالتبلد .... و إنما نظرة عينيه وهو يتكلم بشراسة ربما تراها منه للمرة الأولى وهو يتابع مقتربا بوجهه من وجهها كمجنونٍ يهذي ....
و استطاعت بذهول ادراك أنه كان متعاطيا شيئا ما .... لم تستطع تحديده بالضبط ....
( هل هو الرجل الذي يليق بك ؟! .... سيارته .... ملابسه .... مكانته .... وضعه ...... و من يعلم ربما يمنحك الطفل الذي تتوقين له ... )
حينها لم تدري بنفسها الا وهي تصفعه بكل قوتها صارخة
( اخرس ........... )
اتسعت عيناه للحظات بذهول ... بينما اتسعت عيناها هي الأخرى بارتياع ... و هي ترى أصابعها المرسومة باحمرار على وجنته ... بينما لم تتحرك عضلة في جسده القوي الا من تشنجه بصورة ملحوظة ...
همست كرمة بذهول
( محمد ............ )
الا أن اسمه المرتجف من بين شفتيها .... كان هو اشارة هياج المزيد من جنونه و هو يصفعها ... مرة و اثنتين ...
بينما كانت هي تحاول جاهدة البقاء واعية لما يحدث بصعوبة .....
و حين انتهى أمسك شعرها بقوة يرفع وجهها اليه ليصرخ غاضبا
( اعترفي ....... اعترفي أنه الرجل الذي تتمنين ...... اعترفي أنكِ بتِ تخجلين مني ... و من عجزي .... اعترفييييييي )
كانت تشهق برعب عدة شهقات مختنقة ... لكن دون بكاء ... و كأن دموعها قد نضبت , و من حيث لا تعلم همست فجأة بصوتٍ ميت
( هل تضربني لأن بيني و بينه شيء .... أم لأنه الرجل الذي يليق بي ؟؟ ...... )
صدم للحظات .... و تسمر مكانه .... لكنها تابعت بنفس الصوت الفاقد للروح
( هل تظن فعلا .... انني أصدق شكك ولو للحظة ؟!!! ........ لأنك وجدت مكالمة وحيدة .... أو لأنه ينطق اسمي مجردا ...... أو ربما لأنه ينظر الي كأي رجل ينظر لأمرأة ..... )
و كأن الموضوع يحتاج الى مزيد من الاشتعال كي تزيد جنونه بما نطقت أخيرا .... فهبطت على وجهها صفعة جديدة سمرتها مكانها ... لكنها ظلت تنظر الى عينيه بثبات بينما شفاها ترتجفان كالأطفال ....
كانت مزيجا من القوة ... و الطفولة .... و القهر ....
مقسمين على انثى ما بين امرأةٍ منكسرة و طفلة مرتعبة ....... و كيان مهزوم ......
لذا نطقت أخيرا بخفوت ميت
( طلقني يا محمد ...... لا تقبل على نفسك أن تحمل اسمك امرأة تقدم خدمات مشبوهة لقاء تقدمها في حياتها ... )
صرخ محمد بجنون وهو يصفعها مجددا
( اخرسي ......... )
انساب خيط دم رفيع من زاوية شفتيها .... لكنها لم تشعر بأي ألم .....بينما هتف هو بخفوت يقطر ألما
( ذلك ما تتمنينه .... أليس كذلك ؟؟ .... أن أكون أنا الظالم و أحررك ضد رغبتك ... كي لا يلومك أحد و أنتِ تلبين أخيرا و بعد عذاب السنين نداء أمومتك ..... )
أمسك ذقنها يرفع وجهها اليه ... و همس بقهر
( أخبريني يا كرمة ...... أخبريني كم تتمنين طفلا !! .... كم يشتاق صدرك لضم طفلٍ اليه .... كم تهفو روحك لسماع كلمة أمي ...... أخبريني كيف تشعرين كل يوم بأنكِ قد خدعتِ في تلك الزيجة من أولها لآخرها بحيث لم تحصلي منها على شيء يجبرك على الإستمرار .... )
ظلت تنظر اليه بصمت طويلا ... الى أن انسابت دمعة على وجنتها و كأنها تموت مثلها ....
ثم همست أخيرا بلا حياة
( أشتاق لأن أكون أما يا محمد ..... في كل لحظة ..... في كل لحظة من حياتي , يهتاج رحمي صارخا برغبته في ضم جنين صغير ينمو بين جدرانه ..... يحن صدري لإرضاع طفلٍ لم أعرفه بعد .....
نعم أشتاق يا محمد ...... أشتاق جدا .... و لو تبعت شوقي لكنت تركتك من اليوم الأول الذي عرفت به ......
لكنك أنت ..... أنت .... أنت كنت طفلي و حبيبي و ابني ... و أبي ... و أخي .... و كل عائلتي ....
كنت ........ كنت ...... لا مزيد .... فقط كنت ...... )
أطرقت برأسها أمام عينيه المطعونتين غدرا ... ثم تابعت بخفوت
( اذهب يا محمد ...... اذهب الى زوجتك , فلم يعد لدي ما أمنحه لك ..... و ليس عندك ما تمنحه لي .... )
ترك ذقنها بقوةٍ كي يقبض على عنقها بقسوة .... حتى كادت أن تختنق ... الا أن عينيها لم تتسعان برعب ... فكم كانت ترحب بالموت في تلك اللحظة , حيث كان الراحة الوحيدة لها حاليا ....
صرخ محمد بقهرٍ وعذاب .....
(لو خرجتِ من هذا الباب ستكونين ... طالق .... طالق .... طالق ... لا مأوى لكِ .... لا بيت و لا عائلة ..... لا شيء .... لا أحد ..... )
همست كرمة كالأموات
( ظننتك تعتقد أنني أتمنى الخروج لألحق بمن يليق بي !! ....... )
الأ انه لم يرد .... فقط نظرة كالجحيم منه اخبرته الإجابة قبل أن تخبرها .....
لقد انتقم منها ..... لأنه وجد من يتمناها ..... و يليق بها في آنٍ واحد ......
انتقم منها و أفرغ بها كل ما كان يقض مضجعه ......
انتقم منها رغم معرفته أن لا سبيل لها كي تبتعد عنه ..... لكن هناك من يدور حولها ..... و هي تتساهل معه!!!!! ........
ابتعد عنها بجنون ... مندفعا كالثور ....
راقبته و هو يدور في الشقةِ كالمهووس ..... يدخل غرفتهما ليخرج منها بعد لحظات ممسكا كل ملابسها الأنيقة كحفنةٍ مهملة بين ذراعيه ... ليدس بعضا منها في سلة المهملات ....
راقبته وهو يلقي فوقها البنزين .... ثم يشعل بها عود ثقاب ..... قطعة خلف قطعة ......
راقبته و الوقت يمر ببطء ... و ألسنة اللهب بينهما تزيد من موتهما البطيء حرقا .....
راقبته و هو يندفع الى حقيبتها .... مخرجا بطاقة هويتها و كل أوراقها , يدسها في جيبيه ....
كانت كالميتة .... تراقبه يفعل ما يريد .... و ما أن انتهى وقف لاهثا , ينظر اليها و تنظر اليه ......
ثم قال أخيرا بخفوت شرس .....
( لن أحيا ليومٍ آخر كرجل و أنا أرى آخر ينظر اليكِ بتلك الصورة .... و لتذهب كل أحلامك للجحيم , لم أهتم لها منذ البداية ...... و من اليوم سأعلمك معنى أن تحفظي اسمي بكل جوارحك ..... )
اقترب منها ببطء ... فابتعدت الى آخر الأريكة رغما عنها .....لكنه انحنى اليها دون أن يمسها .... ثم همس
( كنت أحتاج البرهان حين رأيته ليلة أمس ..... فقط البرهان .... و حصلت عليه حين سمعت اسمك من بين شفتيه ....... هذا الرجل انتهى ..... يمكنك نسيانه للأبد ...... )
همست كرمة بلا روح
( و أنا ؟!! ......... مذنبة أم بريئة ؟؟!!! ...... )
قبض على فكها مرة أخرى ينظر الى عينيها طويلا ..... ثم لم يلبث أن دفعها بقوة ليبتعد عنها متجها الى الباب .... لكن و قبل أن يخرج نظر اليها ليقول وهو يلهث ....
( بيني و بينك هذا الباب يا كرمة ..... فلو أردتِ الحياة معي في الحرام , تخطيه ...... لأنني لن أحررك )
خرج صافقا الباب خلفه ..... بينما ظلت مكانها تنظر الي نفس الباب ........
لكن الباب لم يكن هو الباب ....... لم يعد حاجزا ...... لقد ترآى لها مفتوحا ...... مفتوحا على مصرعيه .....
.................................................. .................................................. ......................
شعوره بالإحباط و العجز جعله يبقى في العمل طويلا ... و كأنه غير قادر على العودة للبيت و التنعم بالراحة بينما كرمة في حالٍ لا يعلمه الا الله ...
لكن في النهاية حين أدرك أن حارسي الأمن لن يغادرا قبل أن يغادر هو اضطر الى النزول الى سيارته بتثاقل و صدر موغر مهموم .....
كان مرآب السيارات فارغا ..... و قد رحل الجميع ...
لم تبقى سوى سيارته فاتجه اليها ببطء .... لكن و قبل أن يصلها لاحظ حركة قريبة منه فرفع وجهه ...
ليرى الهمجى واقفا أمامه مستندا بظهره الى جدار المرآب .... بهيئة مشعثة تتلائم مع شخصيته ....
توقف حاتم مكانه بهدوء ينظر اليه بصمت .... ثم كرر سؤاله ذو الكلمة الواحدة الذي سأله في الهاتف و لم يحصل على إجابة
( نعم ؟!!! ......... )
رفع محمد وجها غير مقروءا الى حاتم .... لكن حاتم استطاع قراءة الشر في عينيه جليا ....
ظل محمد ينظر اليه طويلا ... ثم تحرك أخيرا .... ليخرج من خلف ظهره عصا غليظة تشبه عصا التحطيب .... و أخذ يقترب من حاتم ببطىء وهو يقول بصوتٍ تردد صداه في المرآب
( أن تنظر الى مالا يخصك .... و تظن بسذاجتك أن نظراتك ستمر مرور الكرام ... فهذا خطأ لا يغتفر ....
أما أن تحاول الإلتفاف لأخذ ما لا يخصك ..... و تظن أنك قد تنجح , فهذا ...... ستتجرعه ندما ... و حالا )
لم تهتز شعرة في حاتم وهو ينظر اليه بصمت ..... منتظرا ....
و بالفعل ما أن أنهى محمد آخر كلمة كان قد وصل الى سيارة حاتم ...فرفع عصاه حاليا ليهبط بها بكل قوة ساعديه العاملين على زجاج السيارة الأمامي ليهشمه بكل فظاعة ....
ابتعد حاتم خطوتين , الا أنه لم يهتز لمرآى سيارته و هي تتحطم دون توقف ....
بينما محمد يهتف غضبا بوجهٍ محمر شيطاني .....
مع المصابيح .... مقدمة السيارة ... النوافذ ..... سقف السيارة .....
( هذه لأنك نظرت اليها ..... و هذه لأنك ناديت اسمها .... و هذه لأنك هاتفتها ........ )
ظل حاتم واقفا مكانه بملامح غامضة تماما .... بينما كان صدره يقصف بعنف .....
و ما أن انتهى محمد من سيارته .... حتى استدار اليه وهو يلهث .....
ووقفا ينظران الى بعضهما بتحدي من الجحيم ......
ثم اقترب محمد خطوة و همس لاهثا
( و الآن ....... هناك حساب بيني و بينك .... هناك زوجتي ...... )
وقف حاتم أمامه بصلابة و دون أي تعبير معين ..... ثم تكلم أخيرا
( لم تقترف أي خطأ ....... لا تتهور معها كي لا تندم فيما بعد , لم أرى من هي أكثر احتراما منها .... )
ضحك محمد وهو يهز رأسه .... بينما كانت ضحكته ل تحمل أي أثر للمرح ... و أنما الشراسة ...
ثم نظر الى حاتم أخيرا بعينين مخيفتين ليقول بخفوت
( هل ستعلمني كيف أتعامل مع زوجتي ؟!!! ............. )
رد حاتم بقوة
( نعم ............ و أنا أهلا لها لو اقتضى الأمر , فأنت من أتيت الى هنا بقدميك .... لا أنا من ذهبت اليك , لذا ستتلقى رغما عنك ما يتوجب عليك سماعه........ لا تتوقع مني البقاء صامتا .... )
عاد محمد ليضحك عاليا , ثم نظر اليه بعدها ليقول بازدراء يضم الغضب المجنون
( هل هذه هي اقصى قدرتك ؟!!!!! ..... الا تبقى صامتا ؟!!!!!! ...... )
لم يرد حاتم ..... بل ازدادت عيناه غموضا ...... فاقترب محمد منه وهو يرفع عصاه ليقول بشراسة
( اذن دعني أعلمك مواجهة الرجال ..... فقد تركنا الحديث للنساء )
هبط محمد بالعصا بأقصى قوته في اتجاه رأس حاتم ...... الا أنه انحنى بسرعة و مهارة ليتفادها و ما أن نهض واقفا حتى عاجله محمد بضربة على جانبه جعلته يسقط على كبتيه متأوها بقوة ....
و لم يسمعه محمد و هو يهمس من بين شفتيه
" هذه لأجلك يا كرمة .... "
ثم نهض بسرعة ... متشبثا بطرف العصا قبل أن يضربه بها محمد مجددا .... و استمر صراع الأعين بينهما طويلا ..... و كلا منهما ممسكا بطرف العصا .... الى أن سحبها حاتم بكل قوته ... و ساقه تلتف على ساقي محمد فباغته ليسقطه أرضا .... حينها تمكن من انتزاع العصا منه و رماها بعيدا ....
ثم وقف مكانه دون حركة !! .......
استلقى محمد على الأرض عدة لحظات ... ثم لم يلبث أن قفز واقفا .... يواجه حاتم الواقف مكانه , ثم قال بشراسة
( حسنا ...... لا عصا .... أرني مدى قوتك )
لم يتحرك حاتم من مكانه .... بل ظل واقفا , وهو ينظر الى هجوم محمد الوشيك عليه , .... و بالفعل لكمه محمد بشدة جعلته ينحني ليبصق بضع قطرات دم....
همس حاتم مجددا بينه و بين نفسه
" و هذه ايضا من أجلك يا كرمة ........ "
استقام واقفا وهو يحك فكه ..... لكن محمد كان قد سارع بضربه بركبته في معدته .... فسقط حاتم أرضا على ركبتيه وهو يكتم تأوهه
و همس مجددا
" و هذه لك يا كرمة ..... جزاء ما اقترفت في حقك "
نظر محمد الى حاتم الصامت مكانه دون أن يحاول الدفاع عن نفسه ... فاستشاط جنونا ليمسك شعره ... ثم ضرب فكه بركبته مجددا ....
اندفع الدم من بين شفتي حاتم بغزارة ..... وهو يسقط ارضا للخلف ... و ما أن أبصر محمد يوشك أن يدهسه بقدمه حتى رفع ذراعيه أمام وجهه يحميه تاركا أضلعه مكشوفة ...
و بالفعل ضرب محمد أضلاعه ... حتى سمع صوت تكسر أحدها واضحا ....
تأوه حاتم عاليا ...... لكنه لم ينهض من مكانه ..... و همس في داخله بسيطرة
" أنا سأحميكِ يا كرمة ...... لقد كنت السبب فيما حدث لكِ .... و أنا من سيحميكِ "
فصرخ محمد بجنون
(؛ انهض دافع عن نفسك ....... انهض )
نهض حاتم بالفعل و بصعوبة شديدة وهو يمسك جانب صدره ذو الضلع المكسور ....
ثم وقف أمام محمد يلهث بعنف ....
و التقت أعينهما من جديد ...... و على الرغم من أصابات حاتم الفظيعة ... الا أن عيناه كانت تشعان غضبا و كرها .... و قوة .... تماثل قوة محمد .... في الدفاع عمن يحب ... حتى و لو لم تكن من حقه ....
هجم عليه محمد مجددا يمسك بكتفيه بكلتا قبضتيه .... ثم رفع ركبته يضرب جانبه المصاب مجددا , ليكسر ضلعا آخر ....
حينها تأوه حاتم أكثر و أكثر وهو يسقط أرضا .....
و أحنى رأسها باصقا بعض قطرات الدم .... ثم لم يلبث أن همس لنفسه وهو يتألم بشدة
" حسنا ..... هذا يكفي , هذا كفيلا بإبعاده عنكِ يا كرمة .... مؤقتا "
نهض من مكانه فجأة مقاوما ألمه الشديد .... ليتجه في خطى لم يفهمها محمد على الفور ... ليضغط على زر في الحائط المقابل ... أصدر رنين انذار عالٍ ... جعل محمد ينظر حوله ....
و ما أن أعاد نظره الى حاتم .... حتى فوجىء به يعاجله بحركة مقص من ساقه مرة أخرى ليسقطه أرضا .... و جثا فوقه متشبثا بقميصه ....
اندفع أربع حراس أمن في نفس اللحظة الى المرآب بسرعة ما أن صدر صوت الإنذار ... و ما أن رأوا المنظر أمامهم و حاتم المصاب بشدة يتمسك بمحمد الملقى أرضا بكل قوته .. حتى اندفعوا اليه ليمسكوا به بكل قوتهم على الرغم من تلويه الشرس ....
استقام حاتم بصعوبة وهو يلهث ... ماسحا الدم عن وجهه .... ناظرا الى محمد الذي كان يصرخ بهياج
( أيها الجبان ....... واجهني بمفردك أيها الجبان .... )
هتف أحد حراس الأمن الممسكين بمحمد بذعر
( سيد حاتم .... لم نكن نعلم أنه سيتهجم عليك .... أنه زوج السيدة كرمة و قد اظهر هويتها و هويته ... و ادعى المجيء اليك لامرٍ يخصها ..... )
قال حاتم بقوة و صرامة
( لا أريد خدشا واحدا يصيبه ..... و اطلبوا الشرطة حالا , حذارٍ أن يفلت منكم الآن .... و الا حملتكم نتيجة تسلله الى هنا ........ )
استدار حاتم بعيدا عنه ..... و اخذ يلهث بعنف و ألم مفكرا .... أنه نجح في ابعاده عنها لبعض الوقت ....
لكن ..... هل فات الأوان !!!!! ........
.................................................. .................................................. ...................
كانت تتحرك كجثة .... و هي تلتقط احدى عبائاتها السوداء التي ابتاعها لها محمد .....
لم يترك غيرها في الدولاب بعد أن أحرق جميع ملابسها ....
اغلقت كبسات العباءة فوق قميص نومها .... ثم أخذت تلف وشاحها الأسود الذي ما ارتدته يوما من قبل .... و إنما ارتدته الآن لتخفي به كدمات وجهها ....
ثبتته جيدا ... و جذبته فوق وجنتيها ... لكنه لم يخفي تورم جانبي عينيها ... و نزيف شفتيها .....
ثم تحركت بصعوبة .... تجر ساقيها الى أن وقفت في منتصف صالة البيت تنظر الي الباب المغلق .....
كانت ملامحها ميتة بدرجة مخيفة ....
تنظر الى الباب الشامخ الذي وقف ينظر اليها متحديا ......
لم تعلم كم مر من الوقت .... و هي واقفة مكانها , قبل أن تهمس أخيرا
( لقد ....... أوشكت على أن ...... أكرهه !!! ..... )
ظلت تنظر بعينيها الى الباب طويلا .... ثم عدلت من وضع وشاحها على وجنتيها , لتجر ساقيها جرا ....
و ما ان وصلت اليه ... حتى توقفت لحظة ..... ثم مدت يدا ترتجف و فتحت الباب ببطء شديد ....
ثم رفعت رأسها تنظر الى إطاره المفتوح ..... تتأمله بصمت ..... تموت .... تقسم أنها تموت حاليا ....
نظرت من اطار الباب الى باب الxxxx الخارجي .... و منه الى الطريق .....
ثم أخذت نفسا مرتجفا .... لتغمض عينيها .... و تخطو خارجه !!! .......................
.................................................. .................................................. ....................
خرج حاتم وهو يتعثر مترنحا من شدة الألم من قسم الشرطة بعد أن اطمئن الى الامساك بمحمد ...
حيث انه ارتكب عدة كوارث دفعة واحدة ....
التسلل الى مصرف .... مهاجمة مدير المصرف و اصابته اصابة بالغة .... تخريب سيارته عمدا ... حتى العصا عتبرت كسلاح مع نية التقصد .....
و الأدهى أنه كان يبدو متعاطيا أحد المكيفات .... و سيتم التحقيق في الأمر ....
لكن حاتم كان واضحا في ايصال أن الأمر بعيدا بعدا كل البعد عن المصرف كي لا يضيع محمد في خبر كان ...
ليس خوفا عليه .... بل أن الحقير لا يستحق ذرة شفقة ... و إنما لأنه لا يزال زوج كرمة .... و هذا كافٍ جدا كي يوضح للضابط المسؤول أن الخلاف شخصي بحت بينه و بين محمد خاصة أنه سبق التشاحن بينهما فيما سبق بشهادة الموظفين .....
جلس حاتم خلف مقود سيارته بتعب و ألم ..... ثم نظر شاردا الى قطع الزجاج المهشم أمامه .... و كأنه يحل أحجية ما ....
ثم لم يلبث أن همس بقلق
( كرمة ......... أحفظ عنوانك عن ظهر قلب , فهل أتجرأ على الوصول اليكِ ؟!! ... )
احنى رأسه يسنده الى كفيه اللذي انغرسا في خصلات شعره ... و همس لنفسه بقوة
( ما هذا العذاب ؟!! ....... كيف لا يمتلك الإنسان الحق في الإطمئنان على من سكن قلبه دون اذن ؟!! .... بأي حق يتم منعي ؟!! .... بأي حق يتم منعي ...... )
رفع حاتم رأسه ببطئ وهو ينظر الى قطع الزجاج المسرطنة كأخطبوط طويل الأذرع ... ثم همس بصلابة مكررا
( بأي حق يتم منعي ؟؟؟؟ ....... )
و دون كلمةٍ أخرى ... أدار السيارة بسرعة , لينطلق بها و علامات البأس ظاهرة عليه ......
.................................................. .................................................. ......................
كانت تسير على غير هدى .... مطرقة الرأس .... يدا تمسك الوشاح تحكم تغطية وجنتها ... و أخرى تمسك طرف العباءة محكمة لفها !! .....
كان العالم يدور من حولها بشدة ... و رأسها تضرب بها مطارق قوية .... و الألم يكاد أن يفجر عينيها ....
رفعت وجهها الى البعيد لتهمس فجأة
" لقد طلقني محمد !! .... "
شعرت بنفسها فجأة تطفو بفراغ منعدمة الوزن ..... و الكيان ......
انعقد حاجباها بألم .... و أوشكت على الصراخ ... الا أن صوتا ملهوفا من خلفها منعها بقوة
( كرمة !!!! ....... )
استدارت ببطء .... لترى حاتم خلفها , دامي الوجه .. ممسكا بجانبه ... متألما بوضوح ....
لكنه لم يكن ليهتم ولو لذرة بألمه .... كل ما نطق به متأوها ...
( كرمة !! ..... يا لهي !! .... يا الهي !! ..... )
اقترب منها بسرعة ليهمس متابعا بعذاب
( أنا السبب ....... ماذا فعل بكِ ؟!!! ....... )
رفعت يدا مرتجفة تعدل من وشاحهها فوق وجنتها ثم همست بعدم تركيز
( حاتم ...... أنا أحتاج لمكان .... أي مكان بعيدا عن هنا ..... لا أستطيع أن أحجز غرفة بفندق لأن محمد أخذ بطاقة هويتي و كل أوراقي .... و لن يمكنني أن .... )
صمتت فجأة و هي ترفع يدا مرتجفة الى شفتيها تغطى شهقة بكاء خائنة و هي تهمس بانهيار مذهول
( ياللهي ........... )
اقترب منها حاتم بسرعة يعرج قليلا , ثم أمسك بمرفقها وهو يهمس بقسوة
( تعالي معي يا كرمة ...... ها هي سيارتي هناك .... )
لم تنظر اليه كرمة و هي تهمس باكية بذهول
( ليس ...... ليس معي اية نقود أو ... بطاقة هوية .... أو ..... )
هتف حاتم بصرامة يقاطعها
( انسي كل شيء و تعالي معي ......... )
جذب مرفقها .... الا أنه وجدها مسمرة مكانها و هي تنظر للبعيد كالعمياء ....
عبس حاتم ناظرا اليها يسألها بقلق
( كرمة ؟!!! ......... )
فهمست بضياع دون أن تنظر اليه
( لقد وقع ........... )
ازداد عبوس حاتم وهو ينظر اليها بخوف .... ثم همس مستفسرا
( ما هو الذي وقع ؟!!! ........ )
همست بضياع أكبر دون أن تنظر اليه
( يمين الطلاق ........... )
بريق حاد اشتعل بعينيه فجأة ....وهو ينظر اليها بقوة و صدره يخفق بشراسة ٍ أكثر عنفا و ألما من ألم أضلعه المكسورة ... يخفق .... يخفق ... يخفق ... حتى شعر بدوار لذيذ ... ثم لم يلبث أن همس بصوتٍ كالهدير
( تعالي ............ )
.................................................. .................................................. .....................
أغلقت ملك المحل ليلا .... فهبت ريح باردة جعلتها ترتجف بشدة .... فأخذت تدلك ذراعها بقوة و هي تحكم غلق القفل الحديدي ....
لكنها انتفضت فجأة حين حط معطف سميك على كتفيها و استشعرت نعومة دفئه الثمين ...
استدارت ملك لتراه أمامها ... فعبست ... الا أن يدها كانت تتحس نعومة المعطف رغما عنها ... قالت أخيرا بجفاء
( ألن تتوقف عن التجسد لي بتلك الصورة ؟!! ...... )
ابتسم و تلألأت أسنانه في الظلام و همس بخفوت
( أتتذكرين نافذة عنبر الفتيات ؟ ...... )
ازداد عبوسها و هي تقول بجدية
( و كيف أنسى ؟؟!!! .... كنت كالوطواط .... لا توقفك نافذة و لا يمنعك سياج )
ارتجفت ابتسامته قليلا ... لكنه صمت يتأملها و يشبع عينيه من جمالها .... فنظرت اليه هي الأخرى بشجاعة ... تضم طرفي معطفه ...
انه وسيم .... لقد ازداد وسامة و رجولة بشعره الناعم الطويل نوعا ما كحاله في صغره .... لكنه بات أكثر تهذيبا و أناقة و قد قص على يد محترف .... عيناه جميلتان ...
فعلا ازداد جمالهما حين تصلب فكه و ازدادت رجولته ....
ارتجف شيء خفي بداخل ملك و هي تتأمله .... لم تكن تشعر بالتوتر و الخجل أمامه من قبل كما تشعر في تلك اللحظة ....
نظراته النهمة ازدادت نهما بطريقة مختلفة عن نهم الصبي الصغير .... بها شيء عابث ....لكن في نفس الوقت يشعرها بأنوثتها ....
و لقد اختبرت شيئا من عبثه في وقت سابق قريب ....
ارتجفت ملك أكثر فضمت طرفي المعطف أكثر ....
همس كريم لها بجدية و قد اختفت ابتسامته .... بصوتٍ يصفر و يثير رعشةٍ ما في جسدها ....
( هل سامحتني يا ملك ؟ ....... )
أطرقت برأسها قليلا .... لكنها همست بجدية
( هل تعتقد أنه تصرف قد يغتفر ؟!! ...... )
اقترب منها خطوة ثم همس بخفوت مشتعل
( لو من شخص غريب لكان غفرانه مستحيل ...... لكن أنا يا ملك .... أنا !! .... ما بيننا كبير ... أكبر من أن ننساه في لحظة .... )
ابتسمت ملك رغما عنها ....... لكنها همست بجدية
( كنا أطفالا يا شادي ..... أما الآن ..... )
لم تتابع حين مد يده و أمسك يدها الطليقة بكفيه ... فسرى دفئهما تلقائيا بشحناتٍ كهربية الى جسدها و نظر في عينيها ليقول بصوتٍ قوي
( سنعود أطفالا من جديد ..... سنعود الى نفس النقطة التي تركتك عندها ... من يستطيع أن يمنعنا .. و من هذه النقطة سنتابع ...... )
ابتسمت ملك و هي تنظر الى كفها بين يديه .... ثم همست بفتور
( استغرقت بضعة سنوات كي تعود ...... )
شدد قبضتيه على يدها وهو يقول بقوة
( أعرف ..... كانت طويلة ... طويلة جدا أطول مما تخيلت )
رفعت ملك وجهها تنظر اليه ثم قالت بهدوء مبتسمة
( ليست طويلة للغاية ... فقط بضع سنوات ... أنا شخصيا اعتقدت أنك ستستغرق وقتا أطول ... )
تألقت عيناه و هو ينظر اليها ... ثم همس بأمل
( كل كنتِ تعرفين بأنني سآتي اليكِ ؟؟ ......... )
استسلمت أخيرا و هي تبتسم ناظرة اليه تعض على باطن خدها .... و قالت بهدوء
( كنت واثقة أنك ستعود ........ ذلك الصبي المعتوه المجنون , لم يكن ليتركني أبتعد بسهولة )
حينها برقت كل ملامحه ... و اشتعلت النيران بعينيه .... و كادت أن تلتهمها .....
عيناه تتمواجان بسرعةٍ رهيبة ما بين الهزل و الجدية المخيفة .... تتعاقب عليهما مشاعر هوجاء شتى ... لطالما كان صبيا جامحا غير مروض الأخلاق أو المشاعر ....
أحيانا .... أحيانا نادرة كانت تخاف منه بالفعل .... لكنه سرعان ما كان يعيدها الى حماقته المستساغة ....
حسنا كريم كان أول علاقة في حياتها .... ليست بالضرورة أن تندرج تحت مسمى الحب .... لكنها كانت علاقةٍ غريبة ... تحمد الله أنها خمدت برحيله قبل أن تتطور طبيعيا بتقدم عمريهما ....
لكنه عاد الآن .... و بدا أكثر جموحا و قوة .... و هي أكثر جدية و رزانة .. و رضا بحياتها ....
تعلمت متى تقول لا .... و متى تضع الحدود ....
فهل يخضع هو لتلك الحدود ؟؟ ....... و لما لا ؟؟ ....... سيخضع للحدود .....
دوما كانت تمتلك الثقة ..... بهدوء و بساطة هي تمتلك الثقة بنفسها ..... ستخضعه للحدود طالما أنه يرفض تركها .....
انتبهت أنها تنظر الى عينيه بتركيز و شرود في نفس الوقت ..... بينما هام هو في سحر شفتيها و ازدادت سرعة انفاسه ... فاحمر وجهها و أطرقت و هي تقول بصرامة
( عيناك تقتلان الفرصة التي أنوي أن أمنحها لك في مهدها ..... )
ضغط على أصابعها بقوة ... حتى أجفلت قليلا و اشتدت ملامحه .... لكنه قال بهدوء
( الفرصة خلقت و انتهى الأمر ...... )
قالت ملك بخفوت
( هل هذا تهديد ؟!! ......... )
ابتسم ليقول بهزل سخيف وهو يعود لحماقته
( بل انذار شديد اللهجة ........ )
ظلت تنظر اليه طويلا و هي تميل رأسها بتأمل ... ثم ابتسمت لتقول وهي ترفع يدها الممسكة بمعطفه تؤدي التحية العسكرية
( حاضر سيدي ......... )
سقط معطفه الثمين على الأرض المبللة بأمطارٍ هطلت للتو قبل خروجها ... فتأوهت بذعر و هي تهتف منحنية اليه تلتقطه
( شادي ..... لقد تبلل معطفك الثمين !! .... )
الا أنه انحنى معها يلتقطه مانعا يدها من التبلل وهمس في اذنها
( فداء لكِ .... لجمالك ... لعينيكِ .... لسلاسل الذهب المنسابة حتى خصرك .... فداء لك يا مليكة )
ارتجفت بشدة ووجهها قريب من وجهه و انتبهت أنهما منحنيان أرضا ... حتى أن ضفيرتها لامست بركة ماء متخلفة من المطر .... فالتقطها كريم بين كفيه بشرود ... ليعصر طرفها أمام عينيها الذاهلتين ...
فانتفضت واقفة ... لكنها تأوهت و بقت منحنية وهو جاثٍ مكانه ممسكا بطرف ضفيرتها ....
فقالت بخوف
( اتركني ....... )
الا أنه ابتسم ناظرا لعينيها القريبتين منها ... و جذب ضفيرتها أكثر فاقتربت منه أكثر و هتفت بقسوة
( اتركني و الا قسما بالله فسوف ..... )
تركها قبل أن تكمل قسمها فاستقامت متذمرة مغتاظة و هي تراه يستقيم هو الأخر .... ناظرا اليها مبتسما بعبث ....
ثم همس بخفوت
( أرأيتِ أنني أتغير للأفضل ..... ما أن تأمر الأميرة حتى أسارع بتلبية أمرها )
مطت شفتيها و استدارت بعيدا عنه ترتجف .... لكن المعطف في يده كان يقطر ماءا .... و لم يعد صالحا لأن يدفئها ....
فجأة بدأ رذاذ المطر في التساقط من جديد .. فمدت ملك يدها المفرودة تستشعره وهي تنظر بقلق للسماء السوداء المغبشة بغيومٍ بيضاء تناقض سوادها و تجعلها أكثر رهبة ....
قال كريم من خلفها بخفوت
( ستمرضين ............ )
استدارت اليه و هي ترتجف بالفعل , ثم قالت بحدة و قد بدأ المطر يزداد قوة فوقهما ....
( سأصعد الى غرفتي الآن ...... هيا اذهب )
الا أن كريم بقى مسمرا مكانه تحت الماء مبتسما .... ثم قال متحديا بخبث
( هل نسيتِ الجري تحت المطر ؟!! ........ حتى تلك الطفلة الرزينة ذات الضفيرة و التي عرفتها منذ سنوات لم تستطع مقاومته يوما ...... )
برقت عيناها ... الا أنها عادت لتهز راسها نفيا بسرعة و هي تقول بحدةٍ أعلى من المطر
( كفى جنونا و عد لبيتك .... سأموت من البرد لو بقيت هنا لحظة اضافية )
هتف وهو يمسك يدها
( ليس ان بدأتِ بالجري كي تدفئي نفسك ...... )
فتحت فمها لترفض الا أن ذراعها جذبتها تحت قوة يده لتجري خلفه بسرعة ما أن بدأ في الجري تحت الأمطار !! .....
صرخت ملك به أن يتوقف أو أن يترك يدها .... لكنه لم يأبه .... و كان يستدير اليها ضاحكا بقوة بين لحظةٍ و أخرى .... أما هي فتحولت صرخاتها الغاضبة الى أخرى ضاحكة .... و بجنون ...
خاصة أن الطريق قد خلا من المارة في غمرة هذا المطر العنيف !!!
كان وقتا لن تنساه أبدا ..... عرفت ذلك بداخلها .... كما عرفت أنها ستخدع نفسها لو ظنت للحظة أن بإمكانها اقتلاعه من حياتها بالقوة بعد أن عاد !!! ......
وقفت ترتجف بشدة كأرنب صغير مبتل و هي تفتح باب غرفتها متجمدة من البرد .... وهو كان خلفها ! ....
همس لها قبل أن تدخل
( هل سأراكِ غدا ؟!! ......... )
استدارت اليه .... تنظر الى منظره الجامح كأغلفة الروايات و قميصه ابتل و أصبح شفاف ملتصق بعضلات صدره ....
عقدت حاجبيها و هي تفكر
" متى نمت له مثل تلك العضلات ؟!! "
الا أنها هزت رأسها من جنون أفكارها .... و وقفت مكانها تلهث من البرد ... و هي تنظر اليه .... لتقول بخفوت
( الى اللقاء ...... غدا ...)
أخذ نفسا عميقا ..... مجنونا .... و همس باحتراق
( شكرا مليكة ....... شكرا .... )
ثم انصرف جريا نزولا على السلالم ... و بقت هي تنظر في اثره .... و لاحظت أن ارتجافها تضاعف حتى تحول الى انتفاضات قوية ... جعلتها تشحب و هي تشعر بأنها منبعثة من داخلها .... و ليس من الجو أبدا !!
.................................................. .................................................. ..................
ياللروعة المال !!
نعم ذلك ما فكرت به و هي تتذوق من هذا الطبق ... و من ذاك ...
أصنافٍ لم تتخيل وجودها من قبل .... حتى الطاولة رائعة ... و مفرشها خرافي الجمال .... و أطقم المائدة من معالق و سكاكين ذهبية أكثر من مذهلة ....
كما أن هناك شمعة !!
شمعة أضيئت لهما خصيصا ...... و كأنه حدث قومي يتم تسجيله في التاريخ ليشهد على اجتماعهما في مثل هذا اليوم ...
كانت وعد لا تزال تنظر بانبهار الى الشمعة ... حتى قال سيف بخفوت عميق و صدره يخفق برغبةٍ لا تنضب بها أبدا ....
( بماذا تفكرين ؟؟ ........ )
رفعت وجهها اليه بعينين متسعتين انبهارا و تقديرا للمكان الذي تتواجد فيه حاليا .... دون أن ترد على الفور ... فقال سيف مبتسما بتكاسل نمر سيبدأ في الجوع حالا ...
( اعطيكِ مئة جنيه مقابل أفكارك ........ )
ابتسمت و مدت يدا مفرودة و هي تقول ببساطة
( هات المئة جنيه ........ )
ارتفع حاجبي سيف بدهشة ... الا أن ملامحها كانت جدية تماما , فسألها بتحدي
( هل سأخذينها بالفعل ؟!! ....... )
أومأت برأسها بكل جدية ..... و قالت بتهديد
( و الا سأصرف ورقة مهري ...... )
عبس سيف و قال بصرامة
( سأقتلك قبل أن تمسيها ........ )
الا أن وعد ظلت فاردة يدها منتظرة .... فهز رأسه بيأس ليخرج محفظته , ثم أخرج منها ورقة مالية ... و قبل أن تنتشلها منه ... كان قد أبعدها عن مرمى يدها بمهارة و هو ينظر اليها بملامح متصلبة ...
ثم لم يلبث أن أخذ قلمه ليكتب عليها .... قائلا ما يكتبه بصوته العميق الذي جعلها ترتجف
" الى وعد .... في ذكرى ثاني أيام شهر عسلنا ...... لليلةٍ و صباحٍ لا ينسيا .... سيف "
احمر وجه وعد بشدة .... و همست بامتعاض
( لا أصدق أنك كتبت ذلك ........... )
طبقها سيف ثم وضعها برزانةٍ في يدها المفرودة ... ليقول بهدوء
( كي أضمن الا تصرفيها .......... )
ثم تابع وهو يراقبها تعيد قراءة الورقة عدة مرات ...
( اذن بماذا كنتِ تفكرين ؟؟ ............ )
رفعت وجهها اليه ... لتبتسم فجأة قائلة بثقة
( أن المال رااااااااااااااائع ......... )
عاد حاجبيه ليرتفعا مجددا ... و ملامح الإحباط ترتسم على وجهه ....
لكن الحق يقال .... أنها لم تكن تترك إحباطه منها يتزايد , سرعان ما تذوب به لتنسيه كل ذرةٍ منه ....
اسند ذقنه الى اصبعه يراقبها على ضوء الشمعة الجميلة .... و التي يختفي جمالها أمام جمال وعد ....
تبدو و كأنها ازدادت جمالا بزواجها منه عشرات المرات .....
عيناها الرماديتان المكحلتان تبرقانِ في وجهها الشهي .... و شفتاها الكبيرتان تلمعان بحباتِ ندى كوردة متفتحة تنتظر قطفها ..... و آآآآآه كم قطفها و لم يشبع منهما بعد .....
لقد وصلت حقيبة ملابسها اليوم صباحا .... و كم أمتعه انبهارها بالملابس الجديدة .....
لقد تعمد أن يطلب لها ملابس تلائم ذوقها ... مع تعديل الخامات .....
و الآن وهو ينظر اليها .... تجلس أمامه .... ترتدي قميصا حريريا ذهبيا ....على بنطال بني ناعم منسدل على قوامها النحيف ... و يحد خصرها حزام نحاسي اللون .... يظهر نحافته أكثر و أكثر .....
أما شعرها .... فكان قصة جميلة ..... فوضويا !!! .....
قررت فجأة أن تنثر به نسماتٍ من الفوضى .... بعد أن كان منسدلا ناعما .....
أصبح يراقبها قبل أن يخرجا من غرفتهما و هي تنحني و تنهض عدة مرات لتبث فيه الروح و الفوضى ....
و تثير الفوضى كذلك بحواسه المشتعلة التي يحاول السيطرة عليها دون جدوى ....
و كل مرة من المحاولة تنتهي بفشل ذريع ........
همست برقة و هي تسند ذقنها الى كفها
( بماذا تفكر ؟!! ......... )
لم يرد على الفور وهو يتأملها مجددا براحته .. ثم مد يده المفرودة و هو يقول بخفوت عميق
( هاتِ المئة جنيه ........ )
هزت رأسها رفضا ... و قالت بخفوت
( إنها تحتوي على أسرار عائلية ..... كن محترما ... )
برقت عيناه وهو يهمس بصوتٍ أجش
( و يالها من أسرار .... سر... خلف سر... خلف سر ....خلف سر ...... )
احمر وجهها بشدة ... الا أنهاعقدت حاجبيها تقول مجددا بصرامة
( كن محترما ......... )
ثم لم تلبث أن رفعت ثلاث أصابع لتقول بجدية
( كانو ثلاث أسرار فقط ....... )
عبس سيف عبوسا مسرحيا .... ثم همس بخشونة
( ياله من تقصير !! ........ )
ثم نظر الى ساعة معصمه ليقول بجدية
( حسنا .... إن كنتِ قد أنهيتِ طعامك , فهيا لنصعد الى غرفتنا , كي أخبرك بالسر الرابع ... )
اخفضت وجهها بعد أن انتابها الحياء أخيرا .....
راقبها مبتسما و هي تبتسم بخجل كذلك .... ثم تنهد بقوة ... و صدره يمتلىء بمرآى جمالها ....
فهمس أخيرا بصوتٍ أجش
( وعد ....... هيا لنصعد غرفتنا ..... )
و على الرغم من حيائها النادر ... الا أنها أومأت برأسها بصمت و طاعة ......
.................................................. .................................................. ...................
وقفت وعد تنظر اليه بجمود من بعيد .....
كان منفعلا أثناء كلامه مع ورد التي اتصلت به ما أن دخلا الى الغرفة ..... و من بعض اجزاء الحوار
استطاعت أن تتبين أنه يقول معتذرا ....
( اسبوعان ...... اسبوعان يا ورد ...... انتبهي لأمي فقط لاسبوعين ..... )
كانت وعد واقفة بملامح رخامية .... مستنتجة أن شهر العسل تم اختزاله من الشهر الذي أخبرها به الى اسبوعين ..... لأن ورد ووالدته تريان أن فترة شهر كثيرة عليها .....
استدار سيف أثناء كلامه الحاد .... ففوجىء بوعد لا تزال واقفة مكانها تستمع اليه .... فصمت للحظة و هو ينظر اليها .... ثم قال بخفوت
( لحظة يا ورد ...... انتظري قليلا ... )
ابعد الهاتف عن أذنه ..... ليتجه الى باب الغرفة متجاوزا وعد ... ثم خرج بكل هدوء !! ...
بقت وعد مكانها تنظر برأسها للخلف قليلا بجمود ..... ثم أعادت وجهها أمامها و قد تجمدت عيناها ...
اتجهت بعد عدة لحظات الى غرفة النوم الملحقة بالجناح لتخرج هاتفها من مخبأه .... ثم فتحته لترى من كلمها ....
عبست قليلا حين لاحظت أن لا مكالمات من كرمة أو ملك ....
بينما هناك مكالمة من علي ....
و ...... أربع مكالمات من نفس الرقم .... لصاحبه ... ماذا قال اسمه ؟!!!
يوسف .... يوسف الشهاوي !! .....
رفعت وعد رأسها بحيرة تفكر فيما يريده هذا الرجل منها .... ليست من الغباء لتصدق قصة الميراث تلك !!
من يسأل علن أصحاب ميراث لم يطالبو بحقهم !!
لا بد و أن يكون مجنونا ليفعل ذلك ..... او أن يكون مصمما لها فخا من أي نوع ....
شيئا ما جعلها تطلب هذا الرقم بسرعة قبل مجيء سيف ....
لحظات من التوتر و رد عليها نفس الصوت الرخيم ... لكنه مشتدا قليلا
( آنسة وعد !!! .... أخيرا تعطفتِ بالإتصال بعد أربع مكالمات ..... هل يمكننا الآن التكلم ؟؟ .... )
عقدت وعد حاجبيها قليلا ... ثم قالت بخفوت جامد
(تفضل ............. )
سمعت صوت زفرة حانقة ... ثم أعاد ما قاله
( آنسة وعد ..... لقد اتصلتِ بي طلبا لميراثك المتأخر ... ثم بعدها أغلقتِ هاتفك دون ترك أي معلومة , فهل أستطيع أن أفهم ؟ ....... )
قالت وعد بجمود و حذر
( لم أتصل لاسأل عن ميراث ...... كنت أسأل عن أمي .... )
ساد صمت ثقيل ....... لفترة طويلة ....
ثم قال الصوت الرخيم بنبرة أقل جفاءا
( ألم يكن لديكِ علم بوفاة والدتك ؟!! .......... )
ردت بفتور
( معلومات لم تكن مأكدة تماما ............ )
سمعت صوت تنفس خشن ... ثم قال المدعو يوسف
( اذن أنا آسف لخسارتك ..... آنسة وعد .... السيدة صفا والدتك كانت زوجة والدي و قد ورثت عنه بعد وفاته ..... و بالتالي فبموتها يكون لكِ ميراث .... أنتِ و أخت لكِ تدعي ملك ابراهيم .... )
قالت وعد و عقلها يعمل في كل الإتجاهات
( نعم إنها معي ............ )
قال يوسف
( حسنا ممتاز ..... هل تأتيا بنفسيكما الى هنا , أم تقوما بتوكيل لأحدٍ ما ؟؟ .... )
قالت وعد بجمود
( لا توكيل .......... )
قال يوسف ببرود
( حسنا ..... متى أتوقع وصولك ؟؟ ....... )
نظرت وعد الى الهاتف قليلا ... ثم لم تلبث أن أغلقت الخط ..... و لم تراه وهو ينظر الي الهاتف بذهول
ليقول غاضبا
( لا حول و لا قوة الا بالله ....... ما تلك العاهة !!! )
ظلت وعد مستيقظة في سريرها لفترة طويلة ..... و لم تدري متى نامت .... و متى استيقظت على ذراعين قويتين خشنتين تجذبانها الي صدر ٍ قوي بشيءٍ من العنف ..... و حرارة عواطف لم تملك سوى أن تبتسم لها .......
↚
أوقف سيارته أخيرا ..... ثم استكان مكانه , ينظر للبعيد .... صدره كان يتضخم مع كل لحظةٍ تمر بطريقٍ طويل .......
لم يكن يتضخم ألما على الرغم من ضلعيه المكسورين ... و إنما بسبب إحساسه بأنها بجواره أخيرا ... أنه يطير بها بعيدا عما قد يؤذيها .....
سأله نفسه بصوتٍ ما بين عقله و قلبه
" ماهذا الذي تفعله يا حاتم ؟!! ..... انكِ تختطفها بقوة كلمة .... مجرد كلمة سمعتها من بين شفتيها و لم تتأكد منها حتى !! ...... "
هتف صوت غاضب آخر بداخله ينفي التهمة عنه
" تلك الكلمة .... لم تغير من الواقع شيء ... كان سيتصرف بالمثل حتى و لو لم يسمع لفظ الطلاق منها ... لم يكن لينتظر حتى يقرأ ذات يوم خبر مقتلها بالخطأ على يد زوجها الهمجي "
نظر اليها بقسوة ... ثم قال بصوتٍ رقيق خافت تمرد على قسوة و صلابة نظراته
( انزلي يا كرمة ......... )
رفعت و جهها ببطىء و هي تنظر الى ما حولها ... ثم همست ببراءة
( أين أنا ؟!! ......... )
اللعنة! ...... الوضع كله يشعره بأنه وغد دنيء .....
لكنه أخذ نفسا عميقا كي يكبت ذلك الشور البغيض .... ثم قال بخشونة
( سأوصلك الى من يُعنى بكِ ......... )
كانت تنظر من النافذة دون أن تمكنه من رؤية ملامحها و انطباعها ..... فقال بخفوت قوي
( أتثقين بي ؟؟ ........... )
لم تتحرك للحظات طويلة ..... حتى أنه ظن بأنها لم تسمعه ... لكن و قبل أن يعيد السؤال متوترا
التفتت تنظر اليه بصمت .... و حينها تاه قلبه عدة مرات ثم عاد .....
كانت عيناها جميلتان .... ناعمتان .... مقهورتان دون محاولة للإظهار
جمالها السري الذي يسبي القلوب قادر على العبث بقلبه هو بمنتهى البساطة ....
حين تكلمت اخيرا قالت بصوتٍ مهتز
( ربما لو انتظرت وعد ....... حتى تعود من شهر عسلها , ربما لو طلبت المساعدة من بيت زوجها مؤقتا ...... )
ارتفع حاجبا حاتم و كأنه يستمع الى مجنونةٍ تهذي .... ثم همس ذاهلا بخشونة
( هل أنتِ مدركة حتى لما تقولين ؟!!! ...... )
همست كرمة بوجهٍ ممتقع
( ربما لو بحثت عن شقة مفروشة ........... )
قاطعها بصرامة لا تقبل الجدل
( كرمة ....... أنتِ وحيدة بلا هوية أو حتى ملابس .... هل تدركين معنى بحثك عن شقةٍ بهذا الوضع ؟!!! ... و ما هي النتائج المفزعة التي قد تتعرضين لها ؟!!! ...... )
انحنى حاجباها قليلا بمزيدٍ من الضياع ......
بينما كان يراقب هو كل اختلاجاتها و صراعها الداخلي .... عيناها تتصراعان ما بين فكرة و أخرى ... و أصابعها تنقبض رغما عنها بارتجاف مع كل فكرة تطوف براسها .....
و على الرغم من اشفاقه عليها من ذلك الصراع ... الا أنه لم يكن ليتركها أبدا ... فقال بقوةٍ جعلتها تنتفض من افكارها
( انزلي يا كرمة ....... )
ارتجفت قليلا ... فانقبض قلبه من توقع موجة رفض عاتية ... و تعلقت عيناه بحركاتها , الا أنها تحركت ...
و بالفعل وجدها تمد يدها الى مقبض الباب !! .....
حينها استطاع أن يلتقط نفسه المتحشرج ....... برضا .....
.................................................. .................................................. ....................
( من ضربكما ؟؟؟ ......... )
تهرب من نظرات أمينة المتفحصة له بصرامة ....
تلك السيدة أصبحت فضولية بطريقة لا تطاق .... ما لها لا تترك ملحوظة عابرة دون أن تتطفل حاشرة أنفها بها !!!! ......
قال حاتم بخشونة و هو يتلاهى عنها بالبحث في احدى الخزائن عن بعض أدوات للإسعافات الطبية ...
( انه مجرد حادث يا أمينة ....... لا تتركي لموهبة التأليف لديك حرية التألق حاليا ... )
قالت السيدة متوسطة العمر ذات الملامح الجامدة
( هناك أصابع حمراء مرتسمة بوضوح على وجه تلك الفتاة التي أحضرتها الى هنا ...... )
لم ينظر اليها .... لكن مجرد الوصف أشعل غضبه مجددا , فتمتم شاتما ... وهو يضرب باب الخازينة مجددا بقوة .... فقالت أمينة بصرامة
( بماذا تتمتم ؟!! ...... أسمعني ..... )
تأفف حاتم بنفاذ صبر ... ثم التفت اليها يقول بحدة
( أمينة ..... الا ترين أن الوضع لا يتحمل تطفلك حاليا ...... )
لم تهتز ملامحها و هي تنظر اليه بوجهٍ محدق لكل تفاصيله .... لكنه أخذ نفسا قويا ثم زفره بشدة محاولا تهدئة نفسه ....
نظر االيها بعد فترة يقول بإيجاز
( سأصطحب محمد معي لشقتي القديمة ......... بينما ستبقى كرمة هنا معك .... )
صمت للحظة ... ثم قال بجدية
( لا أريد أن أعيد توصيتك يا أمينة ...... اهتمي بها و كأنها محمد نفسه .... )
قالت أمينة بشدة و هي تضرب الطاولة بيدها بخفة
( لن أفعل قبل أن أعرف من تكون تلك الشابة التي ستخرج من أجلها أنت و ابنك من بيتكما ....... )
تأفف حاتم مجددا .... ثم قال بصوتٍ مكبوت
( بإختصار يا أمينة هي زميلتي في العمل ...... و قد تعرضنا لحادث و كفى .... )
عقدت حاجبيها بعدم تصديق واضح ... ثم قالت بسخرية مبطنة
( تلك الفتاة ذات الكدمات و العباءة السوداء ..... زميلتك في العمل ؟!!! )
همس حاتم بشراسة
( أمينة .... اعفيني رجاءا من استجوابك الرسمي هذا ...... أنا لست في وضعٍ يسمح الآن ... )
رفعت إحدى حاجبيها لتقول بتحدى و هي تراقبه
( أنت في وضعٍ يتطلب مشفى بالمناسبة ..... )
رفع احدى كفيه وهو يغلق عينيه للحظات ... ثم قال بهدوء
( أنتِ فقط ...... اعتني بها هي ..... رجاءا ... )
فتح عينيه ينظر الى وجهها المحدق به ..... و حين تكلمت أخيرا قالت بخفوت
( لن تستطيع السيطرة على محمد وحدك ..... سيحيل أيامك عذابا .... )
ضحك حاتم بحنق ... ثم قال بخشونة
( عليه أن يتأقلم معي عاجلا أم آجلا ........ )
ثم قال أخيرا مغلقا باب الحوار
( هاتي العصير ........ )
رفعت إحدى حاجبيها تقول باهتمام
( ستحمل لها العصير بنفسك ؟!! ........ )
زفر حاتم وهو يمسك بكوب العصير ... هامسا بداخله
( يالله ..... لو كان لدي غيرك , لما اضطررت لتحملك ... )
خرج غاضبا .... بينما هي تقف في اثره ناظرة الى رب عملها و ابنها في المقام المعنوي .... وهي تراه خارجا مطحونا مضروبا من معركة غير متكافئة على ما يبدو ... ساحبا خلفه شابه , تشهد لها أنها جميلة ذات جمال خاص ليس مبهر كأشعة الشمس .... لكنه جذاب .... يتناقض مع هيئتها المثيرة للشفقة ....
ماذا جرى لحاتم كي يأتي بهذه النوعية من الفتيات للبيت ؟!! ...... و كيف تم ضربه من الأساس وهو في حجم الباب ذو الضرفتين !!!
.................................................. .................................................. ..................
أخذ يراقبها و هي جالسة على حافة الأريكة ... تبدو في حالة ضياع مرعبه . قلبه ينتفض بين ضلوعه من اجلها ...
تورمات وجهها تؤلمه .... و عيناه تسرحان بقسوة فوق شفتيها المنتفختين المكدومتين .... و جانب وجنتها المزرق ......
انها حتى لم تسأله على الخطوة التالية .... لم تكن تلك هي كرمة القوية التي عرفها .....
كرمة التي تتصرف كالرجال أحيانا .... الآن تبدو و كأنها لا تستطيع عبور الطريق بمفردها ....
اقترب منها و نبضاته تعطي مؤشرا اعلى مع كل خطوة .... عيناه تتيهان بها و هو لا يصدق في اكثر أحلامه جنونا انها في بيته ... تجلس على اريكته الخاصة ....
و على الرغم من مدى احساسه بدناءة لا تغتفر ... الا أن عيناه غدرتا به و هما ترسمان صورة لهما معا فوق الاريكة و هو يطرحها عليها مبددا حرمان قاسي ... جائع .....
وصل اليها ثم انحنى ليضع كوب عصير في يدها المرتجفة ... حاجبيه انعقدا ألما مع انحناءته ... حيث أن ضلعاه يصرخان وجعا ... لكنه لم يأبه وهو يهمس بصوت اجش
( خذي يا كرمة .... اشربي هذا ..... )
نظرت كرمة الى الكوب بشرود .... حتى أنه اضطر الى تثبيت أصابعها من حوله كي لا تريقه على نفسها ...
لكن و ما أن فعل حتى سرت رعشة شرسة مجنونة في جسده .... فانتفض مبتعدا عنها يستقيم واقفا ... و عيناه تلتهمانها بجوع ... حتى مع كدمات وجهها و عباءتها السوداء البسيطة التي تسترها عنه .....
استدار بعيدا عنها .... ينظر من النافذة الى البعيد .... ثم قال بهدوء
( ستبقين هنا الى أن نحصل على بدل فاقد لبطاقة هويتك .... و الى أن ..... يطيب وجهك .... )
انخفض صوته مع الكلمة الأخيرة حتى صمت تماما .... لكن كرمة رفعت يدا مرتجفة تتلمس وجنتها بشرود و كأنها تتذكر للتو صفعات محمد ...
لم تكن صفعات محمد تمثل لها شيئا .... لطالما كانت لها القدرة عل تحمل زلات غضبه ....
الصفعات ليست شيئا يذكر .......
حتى حين خرجت من باب بيتهما ... موقعة اليمين ... لم تكن الصفعات هي السبب .....
و إنما .....
إنه ذلك الشعور المرعب .... الذي راودها للمرة الأولى .....
أنها أوشكت على كرهه !!!
كيف تستطيع الوقوف على بعد شعرةٍ واحدة بين شعورين متناقضين بهذه الدقة ؟!!
كيف استطاعت الخروج قبل أن تكرهه بالفعل ؟!!
هي نفسها لا تعلم كيف تمكنت من تحقيق ذلك في لحظةٍ واحدة بمنتهى المهارة ....
لو كانت بقت مكانها للحظةٍ واحدة زائدة .... لكانت كرهته بالفعل ..... و كان هذا ليكون نهايتها .... نهاية كرمة ..... كرمة لن تكره محمد مهما فعل ..... لذا فهي لن تسمح له بفعل المزيد .....
أما الآن ........
رفعت كرمة وجهها تنظر بصلابةٍ أمامها ...... بعيدة تماما عما حولها .... و بداخلها سؤالٍ يهمس
" محمد ..... هل ستسامحني يوما ؟؟ ...... و تعلم أنه لم يعد لدي البديل ..... "
كانت أمينة قد دخلت في تلك اللحظة .... حاملة قدح القهوة الخاص بحاتم ... و هي تتدقق بعدم رضا لتلك الشابة المريبة .... و التي استشعرت أنها لن تجلب سوى المصائب على هذا البيت ....
انتبه حاتم لدخولها فالتفت اليها يقول بهدوء
( لم أعرفك على أمينة يا كرمة ...... هي من ستعتني بكِ , معها ستشعرين و كأنكِ ببيتك تماما .... )
انعقد حاجباها بشرود للحظةٍ خاطفة
" كأنني بيتي !!! ...... وهل سيكون لي يوما بيت بدون محمد !! "
أخذت كرمة نفسا قويا .... ثم قالت بهدوء
( بيت من هذا يا حاتم ؟؟ .......... )
عقد حاجبيه قليلا ... ثم انحنى الى أمينة يهمس بخفوت
( إنها على الأرجح ستمر بمرحلة صدمة متأخرة الآن ..... و ربما سيصاحبها بعض الدراما , لذا أريدك أن تحتويها على قدر استطاعتك .... )
همست أمينة و عيناها على كرمة و كأنها تخشى أن تحيد بنظرهاعنها للحظة ... فتسرق فضيات البيت
( هذا ما كان ينقصنا حاليا في مثل هذا البيت !! ..... المزيد من الدراما .... بعد طليقتك ... و ابنك .... بدأت أشك في أنك أنت شخصيا من يجتذب الدراما أينما ذهبت ..... )
لم يرد حاتم على أمينة و هو يحدجها بنظرة تحذير ... ثم قال مطمئنا لكرمة
( إنه بيت آمن يا كرمة ..... لن يستطيع أي انسان التعرض إليكِ بسوء ما دمتِ هنا ....اطمئني . )
نهضت كرمة من مكانها ببطىء ... فانزلق وشاحها اخيرا عن شعرها .... و بدت نظراتها مسيطرة على الوضع بعكس اللحظات الماضية ...
ثم قالت بخفوت
( لا يمكنني البقاء ببيتك يا حاتم ... شكرا لاهتمامك , لكنى كنت في حالة غير سوية و لم استطع التمييز .... )
انعقد حاجبي حاتم بقسوة وهو يقول معترضا طريقها على الرغم من عدم تحركها .... لكنه كان على وشكِ أن يلقيها الى الأريكة لو فكرت بالخروج ...
( تلك الحالة الغير سوية لم يكد يمضي عليها عدة لحظات ...... هل تتوقعين مني تركك ترحلين بمثل تلك الحالة ؟!!! .......... )
ما تلك السيطرة على الذات ؟!!!
منذ لحظات أقسم أنها ليست كرمة من شدة ضياعها .... و الآن تبدو و كأنها قد استعادت روحها الجدارية ....
انتبه فجأة الى أنها كانت تحدق بوجهه عاقدة حاجبيها ..... تتأمل عيناه ... ملامحه ... تتوقف عند فمه ...
ابتلع ريقه فجأة و هو يشعر بنفسه على حافة بئر عميق موشكا على السقوط بها بكل رحابة صدر .....
الا أنها همست فجأة بذهول و هي لا تزال عاقدة حاجبيها
(ماذا حدث لوجهك ؟!! .......... )
الآن فقط انتبهت ؟!!! ..... انتابه تفكير عقيم أنها لم تشعر بآلامه في اللحظات السابقة كما كان يشعر هو بالعذاب لأجلها ....
عنف نفسه بشدة .... وهو يتسائل عن مدى غباؤه و أنانيته .... على الأقل ها هي تهتم الآن ...
نظر اليها صامتا .... فانفك انعقاد حاجبيها .. و ارتفعا بخوف ... ثم لم تلبث أن همست بذعر و هي ترفع يدها الى فمها المرتجف
( ياللهي !!! ........ لا ... )
اقترب حاتم منها خطوة ثم توقف ... ليقول بهدوء و لطف
( لا تخافي يا كرمة ....... الأمر أبسط مما ترينه .... اطمئني ..... )
الا أنها لم تسمعه تماما و الرعب ينتشر بداخلها ... فقالت بسرعة
( أين هو ؟؟ ....... أين محمد ؟؟؟؟ )
لو أخبره أحدهم أن شيطانا ما قد تلبسه في تلك اللحظة .... كان ليسخر من مدى سذاجة الوصف بالنسبة لما شعر به ....
حريق مستعر كاد أن يودي بكل تحضره و سيطرته الخادعة .... و هو يكتشف أنها لم تفكر سوى به .....
بزوجها الذي ضربها وطردها ...... و أذلها طويلا ......
إنها لا تزال تحبه !!! ....... بعد كل ما فعل ! ....
شعر حاتم في تلك اللحظة بأنه مهزوم ... متعب ... و أن أوجع أضلعه المكسورة قد تفجرت الآن ....
فانحنى ليجلس على أقرب كرسي بهزيمة .....
و السؤال يتردد مجددا .... " ماذا ستجني من كل ذلك يا حاتم ؟! ........ غير الوجع !! ......
اقتربت منه كرمة بسرعة .... لدرجة أنها جثت على ركبتيها أمام كرسيه .... ممسكة بذراع المقعد بتردد ..
ثم همست بتوسل غريب
( أين محمد الآن يا حاتم ؟؟ ...... أرجوك أجبني ... أعلم أنه هو من فعل ذلك .... )
رفع وجهه لينظر الي عينيها مباشرة .... يسبح بهما بكل قوته ضد تيارهما ... ثم قال بصلابة
( و لماذا أنتِ متأكدة من أنه هو من فعل ذلك ؟؟ ...... )
احمر وجهها رغما عنها و أجفلت ..... فأخفضت رأسها عنه .... ماذا ستقول له الآن ؟!! ....
ترى ماذا قال له محمد ؟؟ .... هي تعلمه جديدا في اشد حالات غضبه و تعلم انه يفقد السيطرة على كل منطق .....
هل أفقدها كل ذرة من احترامها لنفسها بأن باح لحاتم بشكوكه ؟!!! ......
عضت على شفتها و هي تغمض عينيها بخزي .... لكنها عادت لتفتحهما و هي تقول بصلابة تحتوى الرجاء
( أين محمد يا حاتم ؟؟؟ ...... هل تركته يرحل ؟؟ .... لو كنت تركته يرحل لكان عاد الي .... )
لم تحيد عيناه عن عينيها ..... طويلا ... الى أن قال بوضوح
( انه محتجز .......... )
للحظة بدا و كأنها لم تستوعب ما قاله ... ثم لم تلبث أن فغرت شفتيها قليلا بذهول .... و همست
( طلبت الشرطة لمحمد يا حاتم ؟!! ....... إنها جناية !!! ...... )
هدرت عيناه نارا كالجحيم وهو يميل للأمام فجأة دون أن يشعر بألم صدره ... صارخا بعنف و جنون
( انظري الى ما فعله ..... لقد تهجم على مدير مصرف .. و أصابه بشدة و حطم سيارته .... ماذا تريدين مني أن أفعل ؟؟؟ ......... )
كانت تنظر اليه كالميتة و قد فقد وجهها المكدوم الدم .... ثم همست بذهول
( لكنه زوجي يا حاتم !! ..... كنت على الأقل قدم حسابا لخاطري ....... )
عيناه محمرتان بلون الدم وهو ينظر اليها ..... ودون أن يتمكن من السيطرة على نفسه مد يده يقبض على كفها بعنف يسحبه الى أن وضعها مفرودة على صدره ذو القلب الصارخ و الخافق كطاحونة الحجر .. وهو يقول بعنف غير مباليا بألم ضغط يدها على صدره ...
( تحسسي هذا ...... لقد كسر لي ضلعين ........)
" أنتِ أحدهما يا كرمة ....... " .....
هذا ما صرخ به قلبه المنتفض تحت كفها .....
حاولت كرمة جذب يدها بعنف ... لكنها لم تفلح الا بعد أن تركها بإرادته يرميها بعيدا .... فصرخت كرمة على الرغم من احساسها بالخجل مما تتسبب به محمد .... لكن خوفها عليه كان أكبر ...
( و لماذا لم تدافع عن نفسك ؟!! ..... أنت قوى رياضي .... بينما محمد لم يتعلم أي رياضة دفاع عن النفس بعمره ..... لماذا سمحت له بالتمادي ؟!! )
" إنها ذكية ...... إنها ذكية حتى في أسوأ حالاتها "
لكنه ادعى الغباء هاتفا بحنق حقيقي
( لا أصدق أنكِ تلومينني أنا !!! ..... كان من المفترض أن أتجه للمشفى و أرفق التقرير الطبي بالمحضر .... و ها أنتِ تلومينني .... ربما من الأفضل لو مت و أرحت الجميع من وجودي الثقيل .... لكن أخشى وقتها أن تلومينني على اتهامه بالقتل الخطأ !!! .................. )
كانت تنظر اليه بغضب ... بعجز .... بخزي .... باحراج ....
لكن كل ما فات لا يقارن بخوفها من فكرة ان محمد متهم بجناية بسببها .....
فهمست بضعف و هي تقاوم كل ضغوطها و صدمة طلاقها الحديث مؤقتا ...
( تنازل عن المحضر يا حاتم رجاءا ....... )
همس بشراسة و لسانه يسبق ذهول عينيه
( مستحيل .............. )
صرخت كرمة بغضب
( انه زوجي يا حاتم ...... أرجوك )
هتف حاتم كي يفيقها على الواقع الذي لم تصحو له بعد
( كان ...... كان زوجك يا كرمة ....... )
هتفت دون تفكير
( يمكنه أن يردني في أي وقت ما أن يعلم .......... )
صمتت فجأة .... و صمت هو كذلك .... لا تدري ما الداعي لتلك العبارة الدخيلة ....
لذا .... وجدت أنها ما أن تكثر الحديث في حالتها المهزوزة تلك .... فستخطىء و تهذي أكثر و أكثر ....
لذا نهضت من مكانها ببطىء .... حتى أنها ترنحت قليلا ما أن استقامت من هول ما تمر به حاليا ...
فنهض حاتم بسرعة وهو يقول مهددا
( الى أين ....... )
لفت وشاحها الأسود حول وجهها من جديد ثم قالت بفتور و توجع
( ليس من حقك سؤالي ......... لكن عامة سألحق بمحمد , لن أتخلى عنه )
هتف حاتم بصوتٍ يزلزل جدران البيت وهو يرفع ذراعيه عاليا بيأس و عذاب
( لا أصدق ....... لا أصدق ........ أنتِ مثال الغباء نفسه )
همست و هي متابعة طريقها للباب دون أن تنظر اليه
( لا بأس ....... فليكن الغباء .... شكرا لك على كل ما فعلته ..... *)
صرخ حاتم خلفها بقوة
( اذن و أنتِ في طريقك للباب .... ستجدين مرآة هناك معلقة على الحائط .... انظري اليها لتري أي امرأة ذليلة تواجهك بوجهها المصفوع مرارا ... و كرامتها المراقة ..... و الثقة المنعدمة بها و بسلوكها ....
ثم لا تنسي بعدها أن تركعي عند قدميه كي يردك الى عصمته ..... . )
تسمرت مكانها للحظات دون أن تستدير اليه ..... فتأوه بداخله بعذاب ....
هذا ما كان ينقصها ..... المزيد من الألم ... و بفضل لسانه الغبي .........
استدارت اليه ببطء ..... تنظر من فوق كتفها بعينين دامعتين مقتولتين .... فكم بدت كلوحة من القهر الأنثوي الخالص ....... بوشاحها الأسود حول وجهها المكدوم ....
عادت لتستدير و كأنها فقدت القدرة على النطق ..... فصرخ من خلفها دون أن يعلم بأنه صوته
( انتظري .......... سآتي معك )
و لم يكن مدركا أن أمينة كانت لا تزال واقفة في أحد الأركان ... تستمع بذهول الى ما يجري
و ما أن خرج حاتم مهرولا خلف كرمة .... حتى همست و هي تضرب وجنتها بيدها
( تحب امرأة متزوجة يا خائب الرجا !!! ..... من قلة النساء !!! )
.................................................. .................................................. ......................
دخل محمد الى مكتب الضابط ....
فنظر الى ظهر المرأة الجالسة على احدى المقاعد ..... كانت رشيقة لكنه لم يتبينها من عبائتها السوداء ووشاحها المنتشران بكثرة في حيهم ....
خرج الضابط تاركا محمد ... و كرمة التي استدارت و هي تنهض لتواجهه ......
و للحظات طويلة توقف العالم من حوله ..... و لم يسمع صوتا سوى الهدير الطنان بداخل أذنيه .....
و لم يدري بنفسه وهو يهمس بذهول
( لقد خرجتِ !!!!........ )
ظلت تنظر اليه .... الى ملامحه و عينيه ... و كأنها تحاول الشبع منها قبل الرحيل .....
الى صدره .... الى ذراعاه القويين ..... الى كل ما فيه و كان ملكها يوما .....
ثم همست بخفوت
( لا تقلق يا محمد ..... ستتم تسوية الأمر )
ظل ينظر اليها بذهول ..... و بداخله هوة تتسع لتبتلعه ببطء .... كالرمال المتحركة التي تطبق على صدره و تمنع عنه نفس الحياة وهو يهمس مجددا
( لقد خرجتِ !!!!.........)
أطرقت كرمة بوجهها ... تتنفس بصعوبة .... لكنها قوت قلبها و هي تعاود الهمس بفتور
( لن أتركك الا بعد أن يتم التنازل عن المحضر و غلقه تماما ........)
هتف بقسوة و عيناه تحرقانها باحتراقه
( لقد خرجتِ!!!! ........... )
رفعت وجهها اليه ببطء .... عيناها تدمعان بانعدام رؤية , بينما شفتاها تبتسمان ... ابتسامة عذاب ... و اعتذار و أومأت .... فقط أومأت
فاتسعت عيناه برعبٍ مما خاف منه طويلا و لسنواتٍ طوال
كان بينهما حوار صامت طويل .... أطول حوار بينهما ربما .....
و دموعها تنساب على وجنتيها و شفتيها ترتجفان بابتسامة الاعتذار .....
لعنت دموعها التي تحجبه عنها في لحظات لقاؤهما الأخير .....
ثم همست بكل حب العالم و بكل صدق
( انه الأفضل لنا يا محمد ..... لحبنا ..... )
صرخ بعنف
( لن يحدث ..... لن يحدث ..... )
اقترب منها يمسك بكفيها بقوة و هو يهتف متوسلا لدموعها
( أنا آسف أنني ضربتك يا كرمة .... آسف صغيرتي .... أنتِ لا تعلمين كم أغار عليكِ لدرجة الرغبة في القتل ...... )
كان يتوسل لأنه يعرف ..... يعرف منذ سنوات طويلة أنها لو رغبت في الطلاق فستتحرر منه بكل سهولة
كل اطمئنانه كان يكمن في أن كرمة لن تحيا بدون محمد .... و محمد لن يكون بدون كرمة ....
لكنها الآن !! ..... نظرة عينيها !!! ..... ابتسامتها !!! ... دموعها !!! ......
تبدو كمن اتخذ قراره بالرحيل ......
أمال رأسه وهمس متأوها
( كرمة ......... لن أمسك بسوء مجددا ...... )
أخفضت وجهها ... ثم همست
( أريد منك أن ......... تنهى اجراءات الطلاق رسميا يا محمد )
عاد ليصرخ بجنون وهو يتشبث بكتفيها يهزها بقسوة
( لن يحدث ...... سأردك الى عصمتي , و لأرى من يمنعني ...... لن يحدث .....)
رفعت وجهها اليه ..... تتأمله طويلا ...
الا أن دخول الضابط على صوت صراخ محمد .... جعلها تنظر اليه معتذرة و هي تتلوى لتبتعد عن كفي محمد .. و ترجوه بنظراتها أن يعذرهما ... فعاد ليخرج ....
حينها استدارت كرمة تخفي وجهها عن محمد .....
ثم قالت بفتور بينما الدموع كانت تسيل أنهارا على وجهها
( لا يا محمد .......... )
صرخ بعنف يحوي الرجاء الذي يكاد أن يكون توسلا
( بلى يا كرمة ...... سأردك لي .... أنتِ زوجتي من الآن .... أنتِ زوجتي منذ أن خلقتِ في هذه الدنيا )
رفعت كرمة ذقنها دون أن تستدير اليه ... و قالت بهدوء بالرغم من الدموع المنسابة كالأنهار على وجنتيها
( أريد الطلاق يا محمد ......... )
صرخ محمد وهو يمسك كتفيها ليهمس بقرب أذنها
( أنتِ لا تريدين الطلاق يا كرمة ..... ليس لكِ سواي في هذه الدنيا .... غضبك هو الذي ينطق حاليا )
ارتجفت .... بل لم تتوقف عن الإرتجاف أصلا ....
قلبها ينتفض صارخا
" أحبك يا محمد ..... نعم أحبك رغم كل ما أكرهه بك ... لكني أحبك ... و ساظل أحبك ..... مجرد لمستك الآن تنسيني كدمات وجهي و روحي بسببك .... و هذا ما يحيلني الى إنسانة لا أريدها ..... انسانة ... تكرهك ! .... "
قال محمد مجددا وهو يستشعر ارتجافها راضيا
( أنتِ تريدينني ........ )
رفعت كرمة وجهها الذي لا يراه .... و نظرت بعينين ميتتين الى البعيد .... ثم قالت بعد فترة طويلة و بلا روح
( أريد طفلا يا محمد ....... )
أمكنها الإحساس بانتفاضة جسده عبر يديه الممسكتين بكتفيها .... أمكنها الإحساس بما شعر به في تلك اللحظة ... فأغمضت عينيها ألما و عذابا ....
همس محمد بصوتٍ غير مستوعب يحده ذهول و صدمة
( ماذا ؟؟ ............ )
قالت بنفس الصوت الميت و هي مغلقة عينيها قبل أن تستدير اليه و تطلبه غفرانه
( أريد أن أكون أما قبل أن يفوت الأوان ...... لقد خيرتني البقاء معك أو الرحيل منذ عدة سنوات , و أنا أخترت البقاء ....... أما الآن ... فلا أظنك من الأنانية بحيث تنكر حقي لو أردت استرداده ....قبل .... قبل فوات الأوان ...... )
قلبه كان ينزف صارخا على ظهرها .... و قلبها يحاكيه نزيفا .... بل أكثر .....
كان صوت لهاثه مسموعا لأذنها يكاد أن يستعر حريقا .... وهو يهمس
( تطلبين مني الاذن كي يمتلك رجلا آخر ؟!!!! ...... لماذا الآن ؟؟ ..... لماذا بعد كل تلك السنوات ؟؟ )
ظلت عيناها مغمضتان .... الا أن اشفتيها كانتا ترتجفان ببكاء صامت عنيف ... انتشر بجسدها كله ....
" لماذا ؟!!! ....... لأني ما عدت أحتمل جرحا منك بعد الآخر ..... لأني لا أحتمل غدرك و مشاركتك بأخرى ...... و السبيل الوحيد أن أكون أنا الجانية في القصة و أطلب منك تركها ..... و قد تقبل أو ..... ترفض ...
و إن رفضت !!! ..... ستقتلني مرة بعد مرة ..... ليلة بعد أخرى و أنا أبقى وحيدة في انتظارك .......
لأني لم أعد أتحمل صفعاتك ...... نظرة واحدة اليك و أنساها .... لكن ما أن تستدير على يعود الطعم الصدىء الى حلقي .......
بإختصار ........لأنني لم أعد أحتمل ......... "
لكنها لم تنطق بكلمة مما كانت روحها تصرخ به ..... بل اختارت عبارة مبتورة باردة كالجليد و هي تهمس
( أنت اخترت حياة جديدة لك ..... و من حقي أن أفكر بالمثل )
هزها محمد وهو يهتف بذهول ممتزجا بالألم و القسوة
( لكن هذا لم يكن رأيك منذ ليلةٍ واحدة ..... حين رقصت و رأسك على صدري ... حين أخبرتني تلك الليلة أنني رجلك الوحيد في العالم .....حين قضيت ليلة كاملة بين ذراعي تبثين غرامك لأذني )
ابتسمت بمرارة .....
كانت قد سامحته .... و في ساعةٍ واحدة قررت التخلي عن عملها و حلمها و حياتها لأجله .... لتشعره أنه الوحيد بحياتها و تقضي على الهوة بينهما
كانت قد قررت النزول درجة بعد أخرى لو تطلب الأمر ...... كانت لتتغاضى عن علياء و تشطبها من تريخهما معا .....
كانت و كانت ...... قبل أن ينفجر مظهرا لها كم هي حمقاء و غبية .... و أنها لم تكن يوما سوى مجرد ملكية مدموغة باسمه ... محددة بإطارٍ واحد يرسمه بيده ..... و إن تجرأت على تخطي الإطار ...
تصبح الظالمة و المتهمة ..... بل أسوأ .... ربما خائنة .....
أخذت نفسا مرتجفا عميقا ...... و هي تفتح عينيها ببطء ما أن سمحته يقول بسطحية
( لأنني ضربتك ؟؟!! ..... الآن تريدين طفلا , لأنني ضربتك في ساعة غضب ؟؟؟ ..... تردين لي الضربة يا كرمة !!!!!! )
قالت كرمة بخفوت بارد .... بينما قلبها يعتصر ألما
( ساعة الغضب امتدت معي بعد أن خرجت لساعات طويلة ..... ساعات .... فكرت فيها بما ينقصني ......)
صمتت لحظة .... ثم تابعت بصوت تمنت ألا يكون مختنقا
( أنت ستكون بخير يا محمد ..... مع زوجتك الجديدة .... التي أعطتك ما لم أستطع أنا أبدا ..... أراهن أنها لن تطعنك أو تؤلمك ..... أراهن أن تصرفاتها لن تكون محل شك أبدا .... عكسي انا .....
ستكون بخير معها يا محمد ...... و اعذرني إن أردت أن أكون بخير كذلك و أحصل على ....... ما أحتاجه ... )
هزها مرة أخرى وهو يهتف دون تفكير
( سأطلقها .......... )
تجمدت عينا كرمة أمامها .... مرت لحظة ... و اثنتين ...ثم قالت بصلابة
( ليس ذلك هو طلبي يا محمد ...... أريد الطلاق رسميا ..... لأنني اريد الحصول على طفل )
لم تسمع سوى لهاثه المضني .... و أصابعه تعصر كتفيها عصرا , لكن آلامها الجسدية لم تكن لتقارن بآلام روحها .....
همس بصوت انسان يحتضر
( و هل تظنين أنني أقبل !!! ....... أن أتركك لغيري !!! )
ابتلعت ريقها بصعوبة و شفتيها ترتجفان بشدة .... و دمعتان ثقيلتان تبعتا اللتين جفتا منذ لحظتين .... لكنها همست باختناق
( أتفضل أن أطلب منك الطلاق رسميا ؟!!! ...... و تعرف أمك و أخوتك السبب !! ... بعد أن ألصقت التهمة بي لسنوات طويلة ..... )
سحب نفسا مرتجفا .... صوته تردد كصدى يصم الآذان في الغرفة ... بينما همس بصوتٍ لا يكاد يسمع
( تفعليها !!! ...... )
رفعت عينيها عاليا و هي تعض على شفتيها المرتجفتين بكاءا ... لكنها همست بنبرة بكاء لم يسمعها من هول الكلمات نفسها
( أفعلها يا محمد ...... أفعلها ..... لقد فعلتها أنت بي لسنوات ... )
سقطت يداه عن كتفيها بقوة .... حينها أخفضت رأسها و هي تبكي بقوة ... و صمت ....
ثم همس بصوتٍ متحشرج مختنق ...
( اخرجي من هنا ....... لا أريدك هنا مجددا ...... لا أريد أن أراك مجددا .....)
سمعت صوت خطواته التي حفرت في الأرض وهو يخرج مندفعا مناديا كي يعيدوه لحجزه ....
و في تلك اللحظة أطلقت على نفسها رصاصة الرحمة و هي تترك العنان لشهقتها العالية ... منحنية تبكي بعنف تضم بطنها بذراعيها و كأنها بالفعل تحوي جنينا تحميه من نزيف روحها .....
استدارت تنظر الى الباب المغلق و همست من بين شهقات انهيارها
( أحبك ....... أقسم أنني أحبك و سأظل أحبك , لكنني لم أعد أستطيع المتابعة ...... )
.................................................. .................................................. ..................
سارت في الرواق مرتجفة ..... ساقاها غير قادرتان على حملها ... و الرؤية غير واضحة أمامها ....
الى أن اعترضها جسد رجولي طويل ... فتوقفت بهدوء و رفعت وجهها الى الوجه المألوف الذي تطفو مشاعر مختلفة على سطحه .... و أهمها الإهتمام ...
فهمس بقوة
( ماذا بكِ يا كرمة ؟؟ ..... ماذا حدث بالداخل ؟؟؟ )
ردت كرمة بخفوت
( هل أنهيت الأمر يا حاتم ؟؟ ........... )
صمت وهو يحب نفسا قاتما جامدا .... و أخذ ينظر اليها طويلا بجفاء, ثم قال أخيرا بلا تعبير
( نعم يا كرمة ..... تنازلت عن المحضر .... تنازلت عن حقي .... لكن لا يزال هناك بعض الاجراءات لا دخل لي بها ....... )
اومات براسها بهدوء ... ثم همست بايجاز
( شكرا يا حاتم ........ )
نظر الى عينيها الغائرتين العميقتي السواد بحمارهما الجذاب ..... و لم يرد .... لم يستطع أن يجد الكلمة التي تناسب الطوفان الهادر بداخله .....
الى أن نطقت كرمة فجأة و هي تنظر الى يده المفرودة على جانب صدره
( أنت تحتاج الى مشفى ........ )
ذابت عيناه .... لم يكونا يوما على تلك الدرجة من القرب .... و الحميمة ..... هو يراها حميمية .... يشعر بها حميمية ......
فهمس بصوتٍ أجش ... خشن ... مشحون
( لا تقلقي ..... لا تفكري سوى بنفسك )
لكنها هزت رأسها نفيا و هي تقول بخفوت
( بل سنخرج من هنا للمشفى ......... و حالا )
ارتسمت شبه ابتسامة لوعة على زاوية شفتيه و هو ينظر اليها بحنان يغمر قلبه .... و سار بجوارها ببطء ... يود لو لا ينتهى الطريق الطويل أبدا ... وهو قانعا بالسير معها ... بقربها ...
لكن الطريق لم يطول .... و هي تلتفت اليه رافعة رأسها لتقول بصوتٍ ميت لكن صادق تماما
( أنا ممتنة لك يا حاتم ..... جميلك سيأسرني العمر كله .... )
الصدق ..... لم يعرف أن أكثر ما ضرب صدره في تلك اللحظة هو الصدق في نبرتها ..... و كانت المرة الأولى التي يكره فيها الصدق !!!
نظر الى فكها الملتوي بعيدا عنه و هي تنظر الى نافذة السيارة الجانبية ....
فكها مرسوم بدقة .... ما بين المثلث و المربع ... تدير شعرها على الكتف الاخر بخبث كي تظهر له فكها و عنقها الطويل ... مشعلة بداخله شوق تلك الفترة السحرية سريعة التاثر المسماة بشهر العسل
أيام و أيام ... و هو يتهاوى ما بين المد و الجذر .... ما بين الطوفان العنيف و بين سيطرته التي بدأ في تعلمها شيئا فشيئا رأفة بها .....
ابتسم بجموح شارد وهو يتأملها .... ثم همس بلطف
( هل لازلتِ غاضبة مني ؟؟؟ .............. )
التفتت تنظر اليه قليلا ... ثم همست
( و لماذا أغضب منك ؟؟ ............. )
ابتسم بخبث وهو يقول متشدقا
( لأننا سنعود بعد اسبوعين فقط و ليس شهر ..... )
كانت تنظر اليه بعينيها الدخانيتين ... و كان يتوه هو بين الحين و الآخر بينهما و بين الطريق و بين شفتيها ... الا أنها حين تكلمت قالت بهدوء
( لا بأس ....... أنا مقدرة أنا أسرتك تحتاجك , ..... شهر فترة طويلة ...... )
رفع احدى حاجبيه ليقول بصوت غامض
( هل هذا اسلوب ضرب تحت الحزام ؟!!........ )
نظرت الى اليه بعينيها الكبيرتين البريئتين ببراءة ثم قالت ببساطة
( أبدا ....... ثم أن شهر العسل كان أكثر من كافٍ .... )
كان ينظر الي الطريق , ثم قال بصوت عابث قليلا
( هل اكتفيتِ حقا ؟!! ............. )
لم ترد .... فنظر اليها ليجد ابتسامة خبيثة مرتسمة على زاوية شفتيها ... حينها عبس وهو يقول بخشونة
( لا تنظري الي هكذا ............. )
رفعت حاجبيها و هي تسأله بوداعة
( و لما لا ؟!! ............ )
قال بصوتٍ أجش
( لأننا على طريقٍ سريع ..... و لن يمكنني التوقف كي أرد على نظرتك بالرد المناسب .... )
ضحكت قليلا ... ثم قالت
( الا يمكنك الرد أثناء القيادة ؟!! ........... )
انحرف بنظره عن الطريق كي ينظر اليها نظراتٍ ذات مغزى ليقول بعدها
( ما سأقوله لشفتيك .... لن أستطيع القيادة بعده ..... )
مطت شفتيها جانبا و هي ترد بفظاظة على على الرغم من احمرار وجهها ...
( بل لن تستطيع القيادة بعدها للأبد ...... بعد أن تكون قد أوديت بحياتنا في غمرة احدى نزواتك )
ضحك طويلا .... بينما امتدت يده تلتقط يدها الموضوعة على ركبتها ,
حاولت سحبها قليلا , الا إنه شدد عليها فتركتها تستكين بكفه القوية .... و نظرت أمامها الى الطريق الممتد ....
لكن سيف قطع الصمت مجددا وهو يقول بخفوت
( اتتذكرين المرة الاولى التي أمسكت بها بيدك ؟؟ ......... )
شردت عيناها قليلا ... لكنها همست كاذبة
(لا ..... لا أتذكر )
كانت أصابعه الآن تتلاعب بأصابعها بكل حرية ..... فارتبكت و هي تخفض نظرها الى كفها البيضاء بين أصابعه السمراء الضاغطة عليها
و همس بخشونة
( لكنني أتذكر ...... كنا في السيارة أيضا ..... )
ابتسمت قليلا ... لكنها همست
( ربما ............... )
فتابع سيف هامسا
( يومها أحسست أنها صغيرة و ناعمة للغاية ..... وددت لو أمسكتها طويلا و لا أفلتها )
رفعت احدى حاجبيها لتقول
( يدي ليست ناعمة .............. )
لم يرد على الفور ....بل رفع يدها الى وجهه , و أخذ يتحسس باطن كفها بذقنه الخشنة ....
ابتلعت وعد ريقها و هي تنظر اليه .... تنظر الى كفها على وجهه الأسمر .... بالفعل شعرت حينها بأن يدها جميلة للغاية بتناقضها مع بشرته البنية المشدودة ....
ابتسم سيف وهو يهمس فوق باطن كفها ... يقبله بين كلمة و أخرى ....
( انها بنعومة بشرة طفل صغير ........ )
كانت أعصابها تحترق و هي تنظر اليه .... , انه يتمكن من قلب كيانها بكلمةٍ واحدة, .... اشعال روحها بلمسة .... جعلها تنسى من تكون بقبلة .....
همست وعد بجدية بعد فترة طويلة
( ربما لم يكن أسبوعان كافيان بالفعل ........ )
عبس قليلا وهو يحاول الخروج من دوامة تنعمه بكفها على ذقنه .... ليقول بتشتيت
( ماذا ؟؟ ........... )
لم ترد ..... لكنه حين نظر اليها , وجدها تبتسم بخبث ابتسامة واسعة ... و وجنتيها تتلونان بألوان الربيع ....
و عيناها أوشكتا على أن تنقشع غيومهما .........
فهدرت أنفاسه بشدة و ترك يدها ليقول بخشونة
( وعد ........ هل يمكنك أن تسدي لي صنيعا و تلتزمي الصمت الى أن نصل للبيت )
اتسعت عيناها ببراءة لتقول
( أنت من فتحت باب الحوار ......... )
نظر اليها عابسا مرة أخرى ....... ثم قال بفظاظة
( حسنا ....... أغلقيه و اصمتي ....... )
تظاهرت بالعبوس كالأطفال ..... و مطت شفتيها ... لكنه و بنظرة واحدة قال آمرا
( و لمي شفتيكِ هاتين ........ )
همست بطاعة و هي تكتف ذراعيها
( هل من أوامر أخرى سيدي ؟!! ........ )
قال سيف بخشونة
( ليس حاليا يا ابنة خالي ...... صبرا الى أن نصل ... )
" ابنة خالي !! ....... "
انها المرة الأولى التي ينطقها بعد زواجهما .... لقد بدأت تشك في أنه نسي والدها تماما في الأيام الماضية ...
لقد شعرت خلال الاسبوعين الماضيين أنه تجاوز عن الماضي كله ....
لقد كان كأكثر الرجال شغفا ......
اربعة عشر يوما تمكن فيها من جعلها تظن فعلا بأنها زوجته .... ربما كان يتغير قليلا بعد كل مكالمة له مع امه او شقيقته ....
لكنه يعود اليها كل مرة و بفظاظة مشاعره المحتدمة ... ينسيان الجميع خلال اللحظات التالية .....
نظرت وعد من نافذة السيارة الى الطريق ..... تتسائل عن حياتها الآتية و كيف ستكون
و رغما عنها , تذكرت مكالمة ذلك المدعو يوسف ...... منذ فترة تجاهلت الأمر , وهو أيضا لم يتصل منتظرا أن تبادر هي ....
الأمر كله مشبوه و مثير للشك .....
لقد كانت تتصل برقم من الفترض أنه لأمها .... فرد عليها رجل غريب يطلب منها السفر اليه كي يعطيها ميراثها !!!
فهل هي غبية لتفعل !!! ........
مجرد كلمة ميراث كانت كفيلة بأن تجعلها تقفز فرحا مهما كان بسيطا , الا أنها في أشد الحاجة له ....
لكنها ليست من الغباء كي تسافر الى رجلٍ مجهول ربما كان من عصابة تجارة رقيق ....
حانت منها نظرة جانبية الى سيف ....
تشهد له بأنها بفضله تتنعم بحياةٍ لم تكن لتحلم بها من قبل .....
لكن على الرغم من ذلك كان هناك شيئا يجعلها غير مرتاحة ......
كل ما هي فيه مرهون بسيف .... الملابس الرائعة المطبقة في حقيبة السفر , هو اشتراها بنفسه ....
بطاقة الصرف كانت حركة رائعة منه .... لكنها تكفي مصاريفها اليومية و هي أكثر مما امتلكت من قبل ... لكنها ستعود و تطلب منه بعد حين !! ......
على الرغم من أنها عملت بعدة أعمال مهينة من قبل ..... الا أنها لم تعتد التسول أبدا .....
مطت شفتيها و هي تشتم نفسها
" أي تسول !! ........ إنها زوجته ! .... لكن لماذا لا تشعر بذلك الشعور من الناحية المادية ؟!! "
تنهدت قليلا و حاولت تهدئة أفكارها المشحونة
" عامة .... ستعود الى تدريبها الذي قطعته لأسبوعين , و بعدها ستنال وظيفتها التي وعدها سيف .... حتى لو كان راتبها لا يقارن بحياة سيف المرفهة ..... الا أنها لا تريد سوى أن تمتلك راتب من تعبها ... كي لا تضطر الى التسول منه كلما احتاجت شيئا .... "
على هذه الفكرة .. أرجعت رأسها للخلف ... و أغمضت عينيها مبتسمة ......
.................................................. .................................................. ..................
لكن الابتسامة لم تدم طويلا .....
و هي تقف بجوار سيف في بهو بيته ..... تراه يندفع الى امه يحتضنها بقوة ما أن دخلا ....
شعور غريب بالبرد انتابها ما ان دخلت للبيت ....
ادارت عينيها تنظر الى زواياه ..... انه البيت البارد الشاحب الذي تركته ....
هذا البيت يشعرها بالبرد .... على الرغم من أن كل ما فيه يوحي بالدفء .... لكنها تشعر ما أن تدخل أنها في مكان كئيب يود لو يلفظها ....
كانت واقفة بملامح واجمة .... تنظر الى سيف الذي نسيها تماما ما أن رأى والدته ....
لقد انتهى شهر العسل , و عليها الآن العودة الي تقبل إهانة أسرته .... كانت قد أوشكت على أن تنسى الصولات و الجولات بينها و بينهن ....
لكن ها هي عادت ......
استدار سيف للخلف ينظر الى وعد الواقفة بوجهٍ جامد لا يحمل اي ملمح من ملامح السعادة ...
فقال بنبرة آمرة قليلا
( وعد ....... تعالي و سلمي على أمي )
ظلت واقفة للحظة .... ثم أجبرت قدميها على التحرك تجاههما , بنظرات واجمة .... بينما كانت منيرة تنظر اليها دون ود كذلك , بل ملامح باهتة و عيناها تقطران حزنا ....
تنهدت وعد بداخلها ... و هي تفكر
" ها قد بدأنا الأسى المرتبط بوجودي ...... "
لكنها أرغمت شفتيها على الإبتسام ... ابتسامة باردة مجاملة و هي تمد يدها اليها هامسة بتردد
( مرحبا عمتي ............ )
كانت منيرة على وشكِ أن تمد يدها اليها ... لكنها و ما أن سمعت لفظ عمتي حتى اتسعت عينيها قليلا و كأنها شعرت بالصدمة .... فسحبت يدها قبل أن تسلم على وعد و نظرت منها الى سيف الذي بدت ملامحه مشتدة صلبة .... وهو ينظر الي أمه التي بدت في تلك اللحظة و كأنها قد نالت صفعة على وجهها ذو الملامح مكسورة الخاطر ....
بينما بقت يد وعد ممتدة في الهواء .... و هي تنظر بينهما كذلك ....
عادت منيرة لتنظر اليها مجددا ... تشملها كلها في لحظة واحدة , ثم قالت بصوت خافت منكسر
( عن اذنكما ........ سأرتاح قليلا .... )
ثم ابتعدت عنهما تاركة وعد تنظر اليها مذهولة و يدها لا تزال في الهواء .... لكن ما لم تتوقعه هو أن تمسك يد سيف بذراعها تديرها اليه لترى وجهه وقد تحول الى اللون القاتم و بدت عيناه مظلمتان و هو يهمس بصرامة
( هل تتقصدين ايلامها ؟!!! ......... )
اتسعت عينا وعد بذهول , لتهتف
( ماذا ؟!! ........ ماذا فعلت ؟؟ .... لم أنطق بكلمة ... )
قال سيف و يده تشتد على ذراعها
( بلى نطقتِ ........ ما هدفك من تلك الكلمة ؟ و الآن تحديدا ..... )
كانت وعد تنظر اليه كمخلوق فضائي من كوكب آخر ..... ثم همست بذهول
( عمتي !!!! .............. )
قال سيف بغضب أسود
( لا تخبريني بأنكِ لم تتقصدي الأمر ....... لم أنسى بعد نفس الكلمة بنفس الصوت البارد و أنتِ تضعين يدك على كفها بخطة شريرة كي تطعينها في مقتل .... )
فغرت وعد شفتيها بذهول .... و حاولت الكلام , و ما أن استطاعت النطق حتى همست بصدمة
( هل تتوقعان مني أن أستمر في تلقيبها بالسيدة منيرة ؟!!! ...... )
قال سيف بغضب و قد بدأ الشر يظهر بعينيه و هي تعلمه جيدا
( لا تتلاعبي معي يا وعد و تمثلي دور المظلومة ...... نيتك كانت شديدة الوضوح من صوتك الباهت و نظراتك الجليدية لها ..... و كأنك تخبرينها أنكِ هنا ..... و باقية رغما عنها .... )
كانت تنظر اليه مصدومة ..... و حين لم تجد المزيد لتضيفه , قالت بإيجاز
( حسنا يا سيف ..... أعتذر , و لن أكررها ..... هل يمكنني الصعود للغرفة ؟ .... أو ربما تم تجهيز غرفة خاصة لي بجوار المطبخ ..... )
هزها سيف قليلا وهو يقول بشدة و قد اسودت ملامحه
( توقفي عن ذلك .............. )
انعقد حاجبيها قليلا .. .. و هي تمد يدها دون تفكير بقرب يده الممسكة بذراعها بقوة ....
انخفضت عيناه الى يده كذلك حين عقدت حاجبيها بألم ... فترك ذراعها بسرعة .... ووقف أمامها يتنفس بغضب .... بينما همست وعد مجددا مطرقة الوجه
( هل يمكنني أن أصعد الى الغرفة ؟؟........ )
لم يرد سيف على الفور و كأنه يحاول أن يكبت نفسه .... لكنه قال أخيرا بصوتٍ جاف
( اذهبي ......... سألحق بكِ بعد قليل .... )
استدارت وعد لكن دون أن تنسى الهمس بفتور
( لا تشغل بالك ............. )
صعدت وعد دون أن تنتظر المزيد من ردوده الغاضبة ....
دخلت الى الغرفة المألوفة لها ..... تلك الغرفة تختلف عن البيت كله ...... إنها حبيبة لقلبها جدا ,
دارت بعينيها بين جدرانها , ثم توقفت على السرير الكبير الفخم ..... و ابتسمت رغما عنها ابتسامة حزن باهتة ....
هل يعقل أن تكون قد اشتاقت لهذا السرير الحديث عليها .....
نعم بالفعل ..... اشتاقت الى السرير الذي عرفت به طعم الحنان و الأمان للمرة الأولى في حياتها .....
اشتاقت للياليها البريئة و الغير بريئة مع سيف .....
اتسعت ابتسامتها قليلا .. و هي تتذكر دروسه .... كانت دروس صبر له في الواقع أكثر منها دروس تعليمية لها ....
لقد تعب الطريق بين الحمام و السرير من كثرة حمامات الماء البارد ... و كان يظنها نائمة .....
اقتربت ببطء من السرير لتجلس على حافته بوجه شاحب .... تتلمس أغطيته الحريرية الذهبية .....
ثم نظرت الى نفسها في المرآة المقابلة ....
كان وجهها شاحبا .... باهتا .....
و عيناها مخيفتان بكحلهما الأسود المقترن بلونهما الرمادي .....
لطالما علق سيف على جمال عينيها .... بينما لم تراهما جميلتين يوما ......
تتذكر في دار الرعاية .... كانت بعض الفتيات يلقبانها ب ( عيني الجثة )
و كبرت على الخوف من عينيها ......
فبخلاف لونهما الضبابي ... الا أنهما لا تبتسمان أبدا مهما حاولت .....
تنهدت وعد بقوة ... ثم همست
( لقد بدأت الحياة بواقعها هنا يا وعد .... و انتهى حلم شهر العسل الوردي )
تنهدت مرة اخرى و هي تتراجع للخلف الى أن استلقت الى السرير ... رافعة ذراعيها أعلى رأسها ...
ثم همست مجددا و هي تتثائب
( ربما أسبوعان لم يكونا كافيان ........... )
نامت أخيرا و هي تشعر بأن تعب الأيام السابقة كلها قد داهمها فجأة .....
استيقظت فجأة على صوت سيف يتخلل أنسجة العنكبوت حول عقلها بالقوة .... حاولت طرد صوته , و الإنسحاب الى داخل قوقعتها ... تحتاج المزيد من الراحة ....
الا أن يده تخللت الخيوط الواهية ..... فاستيقظت واعية فجأة .... لتنتفض جالسة و هي ترى قميصها المفتوح ... و سيف يقف أمامها بوجه جامد ....
فأسرعت بضم جانبي القميص الى بعضهما بسرعة و هي تشعر بأنها لم تستفيق بعد ...
أما سيف فقال بلهجة مختصرة
( متعبة ؟............. )
ارتبكت وعد قليلا و هي تدرك بأنها ما أن تستيقظ من نومها حتى تكون شفتيها في بياض الأموات ....
لكنها أومأت برأسها بتشتت .... فسألها سيف بخشونة
( هل تناولتِ أدويتك اليوم ؟؟ ............ )
عادت لتومىء برأسها دون رد ..... فاتجه سيف الى الدولاب يخلع قميصه بصمت و يليقيه بعيدا ....
بينما كانت عيناه عليها بقتامة .....
و لاحظ أنها لا تزال تمسك بطرفي القميص على بعضهما ...... فرفع حاجبه و قال ساخرا
( هل لا زلتِ تخجلين مني ؟!!! ........ )
بعد كل ما كان منها سابقا ... فإن منظرها الآن من الواضح أنه كان غبيا للغاية ....
لكنها قالت بتشوش بعد فترة طويلة ..
( لا أفضل أن تتطاول علي و أنا ...... نائمة ...... )
عبس بشدة وهو واقف أمامه ينظر اليها ... ثم قال بخشونة
( أتطاول عليك؟!!! ............. )
كانت تتنفس بارتباك .... لكنها همست بقسوة
( أفضل أن أكون واعية حين تتقرب مني ......... )
عقد سيف حاجبيه بشدة ..... ثم قال بغضب
( هل أنتِ مريضة نفسيا ؟!!! ............. )
هتفت وعد بحنق
( من يفعل تلك التصرفات هو المريض نفسيا ......... )
هتف سيف هو الآخر
( لم ألاحظ رفضك من قبل !!! ........ )
هتفت بحنق أكبر و هي تنهض واقفة لينفتح قميصها مجددا
( و ها أنا أرفض الآن .......... )
نظر ببرود و عمد الى قميصها المفتوح ... ثم قال بصوت خافت غريب
( بدلي ملابسك و ارتاحي قليلا يا وعد .... من الواضح أنكِ متعبة )
ثم استدار عنها بقصد ..... فاطرقت برأسها و قد استفاقت تماما و هرب النوم من عينيها ... بينما أخذت تزرر قميصها بأصابع مرتجفة ....
ماذا دهاها ؟!!!
رفعت وجهها الشاحب تنظر الى ظهره قوي العضلات .... ثم قالت بخفوت
( يجب أن أذهب لأبي ........ )
انتفضت حين صفق باب الدولاب بشدة .... ثم استدار اليها يضج بالقوة ... خاصة مع ملامحه المشتدة ....
ثم قال بصوت يقطر شرا
( الآن !!! ....... قررتِ هكذا فجأة الذهاب اليه و قد حل الظلام !! ..... )
قالت وعد باستفزاز
( وهل نحن نعيش في قرية ؟!! ...... أم أنت الذي لا تريد سماع اسمه )
جلس على حافة السرير يخلع حذائه بقوة ... ثم قذفه بعنف لدرجة أن وعد انتفضت ظنا منه أنه سيرميها به كما كان يفعل والدها ....
لكن سيف قال ببرود ووجهه يزداد خطورة
(في الواقع ..... لا أخفيكِ سرا ,..... "لا أريد سماع أسمه " .... هذا تعبير مهذب جدا بالنسبة لما أشعر به )
شعرت بالإهانة و الخزي لدرجة أن وجهها أصبح بلون قرمزي ... و هتفت
( كنت واضحة معك من البداية يا سيف ..... أنا لن أتخلى عن أبي مهما بلغت درجة كرهك له ..... )
ضحك سيف بسخرية ..... ثم قال بصوت هازىء دون أن ينظر اليها وهو يخلع جواربه
( لست أنا من جذبتك من يدك قسرا كي تأتي الى عتبة بابي ذات ليلة ..... هاتفة بتوسل ... أنجدني يا سيف ... أنا أخاف منه يا سيف .... لا أريد البقاء معه بمفردي يا سيف .....
لست أنا من جذبتك من يدك و أنتِ تأتين الى مكتبي دون سابق معرفة تتوسلين الي اعادته الى عمله لأنك لا تستطيعين تحمل بقاؤه في البيت ..... على الرغم من معرفتك بأنه ألد أعدائي ....... )
صمتت وعد تماما تنظر اليه مبهوتة .... و ما أن انتهى حتى بقت قليلا كتمثال رخامي
ثم همست بحيرة
( لماذا تجرحني ؟؟ ....... ماذا فعلت لك ؟؟ ...... )
رفع وجهه اليها .... يتأمل ملامحها الشاجبة و شفتيها المتشققتين ... ثم قال بصوتٍ قاتم
( لماذا تلبستِ شخصية الساحرة الشريرة مجددا ما أن وطأت قدمك هذا البيت ؟؟ ..... )
رفعت يدها الى صدرها و هي تهمس بذهول
( أنا ؟!!! ........... )
نهض سيف من مكانه ليقول بجمود
( اذهبي لتنامي الآن يا وعد .... ستسقطين من شدة التعب , غدا تذهبين اليه )
ثم تركها ليذهب الى الحمام مغلقا الباب خلفه بقوة ....
بينما بقت هي واقفة مكانها , لكنه كان محقا بشيءٍ واحد .... وهو أنها ستسقط من شدة التعب ....
و الشعور بالإهانة .....
لذا تحركت بتثاقل ... تفتح الدولاب الذي حوى بعض الملابس الفخمة لكن ليس الكثير منها ... فقط بعض القطع المحدودة .... إضافة الى ما في حقيبة السفر ... فهي تمثل كمية معقولة ....
فتناولت أول قميص نوم تصل يدها اليه .... أرجواني طويل ... بصدر دانتيل , على الرغم من أن مزاجها الحالي لم يكن يسمح بأي دانتيل في الأمر ......
ثم اتجهت الى السرير كي تندس بين أغطيته بإرهاق نفسي بالغ .....
حدقت في الظلام من حولها ..... ثم همست بخفوت
( لماذا انفجر كل ذلك دفعة واحدة ؟؟!! ..................... )
بعد فترة طويلة من انتظارها بلهفة متسعة العينين في الظلام .... خرج سيف من الحمام , مرتديا طاقم بيتي رياضي .... فنظرت اليه على ضوء الحمام من خلفه فبدا مخيفا و مهيبا في ذات الوقت بضخامته ....
و قبل أن تدعوه طالبة الصلح بإحدي حيل مكرها التي تعلمتها على يديه و التي يسارع الى تلبيتها بشوقٍ جارف ...
تكلم بجفاء خافت
( سأذهب لأتناول العشاء مع أمي لأنها لن تأكل الا بوجودي .... و سأحضر لكِ صينية العشاء هنا كي تأكلي ما أن تستيقظي ..... الآن ارتاحي قليلا ....)
ثم خرج دون أن يسمع ردها .....
هل هذه هي النتيجة الطبيعية ؟!! ..... أن تأكل وحدها كالخدم ؟!!! .....
بقت تنظر الى السقف طويلا .... ثم لم تلبث أن هزمها ضعف جسدها الأكثر ميلا للنوم هربا من أرهاقه الحتمي ......
لم تستيقظ بعدها الى في الساعات الأولى من الصباح .... بعد أن نالت عددا كافيا من ساعات النوم ...
لكن و ما أن فتحت عينيها .... حتى أبصرت ظلا بجوارها ... مستندا الى مرفقه يراقبها بتأمل متجهم .....
فشهقت عاليا ....
حينها ازداد عبوسه ... لكنه همس بخفوت
( هل هكذا سيظل الحال دائما ؟!!! ..... تشهقين كلما ...... تطاولت عليك ... )
انخفضت عينيها تلقائيا الى قميص نومها .... لكنها وجدته لا يزال ثابتا متحديا الإغراء ....
فرفعت عينيها الى وجه سيف الذي كان الآن مبتسما .......
فذابت ملامحها .... و تاقت لأن تغيب بين ذراعيه عن ذلك الواقع الذي تبغضه , فهمست بعذوبة و تنهد مشتاق به اعتذار و لا أجمل
( اشتقت اليك ......... )
لم تدري الا و هي محمولة في حركةٍ واحدةٍ على صدره ..... تتقبل منه شوق ليلة خصام ...
أول ليلة خصام بينهما .......
و بقى الطعام في الصينية باردا متجمدا ..... لكنه لا يحتاج الى تسخين ... فحرارة الغرفة اشتعلت و بقوة ....
.................................................. .................................................. ......................
جلست على احدى الصخور تنظر اليه مبتسمة ....
لا تزال بعد الملامح الشخصية و الشكلية منه حتوي بعض سمات الطفولة ....
لكنها متأكدة أنه لم يعد بريئا أبدا .... نظرته تخبرها بذلك .....
شيئا به يجعلها تشفق عليه , و تشعر في نفس الوقت بانجذاب قوي .....
لن تستطيع أن تنكر ... كريم يتخلل روحها بسرعة أكبر مما كانت تتمناها ....
يبدو وقت فراقهما ضئيل جدا .... و كأنه كان مجرد سفر لفترة وجيزة ...
ربما لصغر سنهما ..... لم تمر بالفعل الكثير من السنوات منذ مراهقتهما المبكرة ... و حتى التقاها ثانية في شبابهما
لكن ربما ليس هذا هو السبب الوحيد في شعورها بالتآلف معه ....
شيئا ما ربط بينهما منذ سنوات .... سواء كان صداقة أو أخوة .... أو حتى حب طفولي ...
أيا كان .... فهذا الشيء ينمو بسرعة مخيفة .... و كأنها بالفعل كانت تنتظره كما كان ينتظرها ....
تلاعبت ملك بضفيرتها بنظرة حنان و كأنها تنظر الى طفل أحمق .... ثم قالت بهدوء و صوتها يعلو على صوت أمواج البحر العاتية ....
( ستصاب بنزلة رئوية ......... أغلق قميصك )
لم يهتم لها وهو واقف على إحدى الصخور .... فاتحا قميصه و الذي يتطاير من خلفه ... مظهرا صدره و فاتحا ذراعيه للهواء و لرذاذ الأمواج المنعش .....
كانت ملامحه منتشية بدرجة خرافية .... و بالفعل قال بجموح و صوتٍ عال للغاية
( أشعر في تلك اللحظة بأنني أستطيع أمسك النجوم ......... )
ضحكت ملك على الرغم من احمرار وجهها الجميل
( حسنا انتظر الليل حتى تظهر النجوم على الأقل ..... و الآن تعال قبل أن تسقط في البحر و لا تدرك حينها حتى الإمساك بمصباح بيتكم ..... )
التفت اليها .... و كانت عيناه تأكلانها أكلا ...
فعبست و هي تشعر بالإرتباك ثم قالت متذمرة
(توقف عن النظر الي بتلك الطريقة و الا تركتك و ذهبت ..... )
قفز من صخرةٍ الى أخر .... ثم انحنى يجلس بجوارها وهو يلهث قائلا بعبث
( و ما هي الطريقة التي أنظر بها اليكِ ؟؟ ........... )
تأملته طويلا و هي تشعر بالسكر من رائحة عطره الممتزجة برائحة البحر ...
بينما وجهه المبلل , متلون بحمار الحياة و المتعة .... و ضحكته .... آآآآه من ضحكته , قلبت كيانها المتزن والذي لا ينقلب الا نادرا .....
العبث و جنون الحياة ينبثقان من ملامح وجهه الجميلة ..... فكيف تقاوم !! .....
من كان يتقوع أن يتحول فرخ البط الصغير .... الى ذلك الطاووس المبهج !! ......
أخفضت ملك وجهها و هي تهمس بخفوت
( أنت تعلم .......... فقط توقف , لا أحب ذلك .... )
اقترب بوجهه منها يهمس بحميمية
( حقا لا تحبينها ؟!! .......... )
أرجعت رأسها للخلف تقول بصرامة
( شادي توقف و الا غادرت ........... )
و بالفعل حاولت النهوض .... و هذه المرة لم يتحرك من مكانه و هو ينظر اليها مبتسما ...
فترددت لحظة .... ألن يهب لمنعها من المغادرة ؟!! .....
حينها انفجر كريم ضاحكا .... فضربته في كتفه بالقوة و هي تتذمر شاتمة و حاولت النهوض فعلا هذه المرة لكنه منعها ليقول بهمس حار
( لا ترحلي ....... كنت أراهن نفسي ان كنتِ ستتركيني أم لا ..... )
قالت بحدة
( و ها أنا أتركك في المرة الثانية ......... )
رد عليها بخفوت ووجهه يقترب منها .....
( لكن المرة الأولى لي .......... )
ارتجفت قليلا و هي تخفض عينيها , و رغما عنها انخفضت عينيها الى صدره , فأحمر وجهها بشدة ...
لكن عينيها تعلقتا بالسلسال الذهبي السميك من مستطيلات مترابطة ملتفة حول عنقه .... فعبست قليلا , ثم همست
( أتضع هذا السلسال دائما ؟!! ........ )
ابتسم وهو يخفض نظره الى سلساله ..... ثم نظر اليها مبتسما مما أظهر ابتسامة عميقة بوجنته , لم تلحظها في وجهه الصبي النحيل قديما .... من شدة نحول ذاك الوجه ...
قال كريم مبتسما
( إنها هدية من أمي .... لذا لا أخلعها أبدا ...... )
شعور بارد اجتاح صدرها .... الا أنها تجنبت الرد ..... و نظرت للبحر , فتابع نظرتها ليقول بنبرة غامضة
( ماذا بكِ ؟؟ ...... لماذا تغيرت ملامحك ؟؟ ..... )
هزت كتفها و هي تقول بهدوء
( لم تتغير ............. )
قال متحديا
( ألم يعجبك ؟؟؟ ...... إنه من الذهب الخالص و له اسم عالمي ... )
نظرت بطرف عينيها الى السلسال بلامبالاة .... ثم قالت بخفوت
( لا أفضل الذهب للرجال ......... )
اشتعلت عيناه .... و قست ملامحه قليلا ...و ظل بينهما كلام لا يقال , ذُكر بدلا منه مجرد توجيه
نظرت ملك للبحر مجددا و هي تنسى السلسال .... لكن دون أن تنسى كلمة " أمي " .. التي ذكرها ببساطة ...
لماذا أغضبتها ؟؟؟
لأنه حتى الآن لا يزال يخرجها من حياته .... يدخلها الى الأجزاء التي يسمح بها فقط ....
لكن يبقيها خارج أجزاء أخرى .... كأمه مثلا !!!
يكلمها كإنسانة غريبة عنه و لا تعلم نشأته .....
لم يكلمها يوما بالتفصيل عن أسرته ..... عن أمه التي أهدته السلسال .....
رأته يرفع يديه خلف عنقه .... و سرعان ما وجدت كفها مفرودة في يده و بها السلسال
وهو يقول بنبرة غريبة
( اذن لن يكون لرجل من اليوم ........ )
نظرت بعدم فهم الى السلسال في يدها .... ثم نظرت اليه لتقول بحيرة
( ماذا تقصد ؟!! ......... )
رد كريم ببساطة
( إنها مني لكِ ........ )
تجمدت عيناها , وهي تمد يدها بالسلسال اليه تقول بحزم
( لا أستطيع قبول هدية كهذه منك ..... و لا تكررها رجاءا ... )
لم يأخذه منها ..... بل قال ببساطة مستفزة
( و لماذا لا يمكنك ؟!! ...... اذن الأمر ليس له علاقة بكونه لا يعجبك على رجل !! ... بل المشكلة مع السلسال نفسه ...... )
ردت ملك دون أن يهتز لها رمش
( لا تراوغ معي يا شادي ...... أنا لا أقبل هدية غالية كهذه من رجال .... )
صرخ فجأة بغضب
( شادي ..... شادي ....... شادي ....... توقفي عن هذا الإسم , انه يثير استفزازي ... )
أجفلت بشدة من حدته المبالغ فيها ... حتى أنه صمت فجأة لينظر الى البحر ....
و استمر الصمت بينهما طويلا و قبضتها منغلقة على السلسال بقوة ... حتى أن أحرفه الحادة خدشت باطن كفها .....
ثم قال بفجأة بصوتٍ بدا شبيه بصوت الموج المتكسر على الصخور ... دون أن ينظر اليها
( دعينا ننسى هذا الاسم يا ملك ........ )
ظلت تنظر اليه طويلا ... ثم همست
( و هل تنسى ملك ؟؟ ........... )
نظر اليها و هالتها النار المتأججة في عينيه المخيفتين بتلك اللحظة ... فقال بصوتٍ خافت يشتعل بنارٍ زرقاء
( أنسى عمري و لا أنسى ملك .......... )
ارتبكت و انتفض قلبها ... مطالبا بتمرد أن يطير اليه , فهمست بحرارة
( و شادي جزء من حياة ملك ..... لماذا تريد انتزاعه منها ؟!! ..... )
نظر الى عينيها الجميلتين لفترة طويلة دون أن يرد .... ثم لم يلبث أن ابتسم فجأة بروحه الطفولية التي يستجلبها حين يحتاجها ... فقال برجاء يمس القلب
( أيا كان الإسم .... هل تقبلين برجاء صاحبه في أن يلف سلساله عنقك ؟؟ .... )
رغما عنها ارتعشت من الوصف ..... و حين رأى ترددها ... قال برجاء صعب أن يقاوم
( لا ترفضي طلبي يا ملك ..... دعيني ألبسك اياه .... )
قالت ملك بخفوت و هي مطرقة بوجهها
( لم أعتد أن أرتدي شيئا ثمينا كهذا .... أخاف أن يسرق مني )
اقترب منها أكثر ... ثم مد يده يفتح يدها ببطء ليلتقط منها السلسال ... ثم همس
( لو سرق سأحضر لكِ غيره ..... )
اقترب منها ليلبسها اياه بينما انخفضت رأسها ... شيء بداخلها جعلها ترضخ له .....
ربما سترجعه له يوما ما .... لكنها شعرت و كأنه يتمنى رؤيتها به في تلك اللحظة
ارتجفت أنفاسها بارتجاف أنفاسه بجانب أذنها وهو يلبسها إياه ..... أصابعه على مؤخرة عنقها ....
عيناه اللتان تلاحقان عينيها .... وهما تهربان منه كغزالٍ شارد ...
ابتعد عنها أخيرا .... الى أن وجدته ينظر لعنقها مبتسما ابتسامة تملك .... فأخفضت نظرها تنظر بوجوم الي الذهب الأصفر يلمع مضاهيا ضفيرتها البراقة بجواره ....
فقال كريم بصوتٍ يشع وهجا عاطفيا
( لا ينقصه سوى شيء واحد ............... )
همست ملك بحذر
( ما هو ؟؟ ...................... )
رد كريم بعينين تشعان
( حلي ضفيرتك ..... أريد أن أرى ذهب شعرك مع السلسال ... ينافسه و يثير حسده )
احمر وجهها بشدة ... و قالت بتزمت
( لا أحب حله لأنه أطول من اللازم ...... انسى )
ثم لم تلبث أن رفعت وجهها قائلة بإشراق
( لكنني حللته في زفاف أختي ....... )
صمتت قليلا , ثم قالت بدلال
( ادعوني الى زفاف ... وسأحله ...... )
غادرت الإبتسامة وجهه فجأة .... و تجمدت عيناه , فامتقع وجهها احراجا ... لتقول بسرعة
( كنت أمزح ........ لم أقصد أن أدعو نفسي لمكان .... )
ابتسم لها لكن ابتسامته كانت خالية من المرح و مفتعلة وهو يقول بخشونة
( اذن خطفت أنظار الرجال اليكِ .... و تحرميني أنا من مرآه )
" أنظار الرجال !!! "
امتعضت من أسلوبه في الحوار ....
لكنها كانت متأكدة أنه أجفل حين شك بأنها تريده أن يصطحبها لمكان يعرفه الناس فيه .....
عامة لا يمكنها لومه ..... مجرد اسبوعين تقابلا بهما بانتظام في أوقات راحتها .. ليست بالفترة الطويلة لكي تملك عليه الحقوق ....
قالت ملك فجأة و هي تنهض لتربت بقوة على تنورتها من الجينز و تزيح منها رمال الصخرة
( يجب أن أذهب يا شا .... يا كريم ... لقد أوشكت فترة راحتي على الإنتهاء ........ )
نهض دون أن يجادلها , ليقف أمامها .... و بينما كانت تعدل ملابسها لاحظت أنه واقف مكانه ثابتا لا يتحرك
فرفعت اليه عينيها بصمت , لتجد وجهه جدي لا يضحك ....
ثم قال أخيرا بخفوت
( و أنا أيضا يجب أن أعود الى والدي ..... لدينا اجتماع هام الليلة .... )
فغرت شفتيها قليلا , ثم قالت خفوت شارد
( يبدو أنه يعتمد عليك كثيرا .......... )
ابتسامة زهو ظهرت على شفتيه ...... زهو به تعطش غريب .... به امتلاك ... و قوة ....
ثم قال بنبرة منتشية
( أنا الأساس ......... )
عقدت ملك حاجبيها قليلا , ثم قالت بحيرة
( كيف ؟!! .......... )
رد كريم و هو يستدير للبحر فاتحا ذراعيه ... منتعشا برياحه الهوجاء و هي تضرب صدره
( أنا الوريث الوحيد لمحمود القاضي .........أنا الأساس بعمله و كل صفقاته ... تشربت كل كبيرة و صغيرة في العمل ...... . )
همست ملك بصوتٍ باهت
( وريث ؟!! .............. )
كان صوتها مجرد همسا .... الا أن أذنه التقطت همسها , فاستدار اليها متحديا يقول بنبرة خاصة ذات مغزى
( نعم يا ملك ...... وريث .... , لأني الابن الوحيد لمحمود القاضي , تلك الحقيقة لابد لكِ من أن تتعاملي معها .....و لا حقيقة غيرها )
انقبضت قليلا ... من .... شبه نبرة تهديد بصوته , جعلتها ترتجف , فقالت بحزم و هي ترفع ذقنها
( و لماذا يجب علي أن أتعامل معها ؟!!! ....... و ما دخلي أنا !! )
ظلت عيناه تتبعان عينيها .... الى أن أسرتاهما , فقال بصوت عاطفي به انفعال أجش
( الا دخل لكِ ؟!!! ....... لماذا أنتِ معي هنا اذن !! ....... )
لم تجد ما ترد به ...... فاقترب منها , ليرفع ذقنها مجددا بعد أن انخفض تلقائيا بقربه ... و ما أن نظرت لعينيه ... حتى ابتسم ليقول
( أنتِ هنا أنكِ ملكي يا ملك ......... )
هتفت بقوة و قد انتفض قلبها من تلك السرعة في تحركاته .....
( أنا لست ملكا لأحد .... و لن أكون أبدا ....... )
قال كريم بلهجة لا تقبل الجدل وهو يشدد على ذقنها قليلا
( أنتِ لستِ ملكا لأحد .... و لن تكوني أبدا ...... لأنكِ ملكي أنا ....... )
تاهت عيناها العسلية بعينيه النافذتين الى روحها ..... لكم تغير عن الطفل المتعلق بها .... و أصبح رجلا تملأه روح الإمتلاك ... لكن شيئا محببا في امتلاكه تسلل الى أوردتها ...
" اثبتي يا ملك ..... اثبتي ..... "
قالت ملك بخفوت لكن به نبرة الثبات
( أنت ترفض أن تدخلني الى حياتك يا ..... كريم ... , مهما أنكرت ..... فكيف تدعي أنني لك ؟؟ ..... )
ارتجفت عضلة بوجهه .... و تاهت أصابعه على بشرتها رغما عنه وهو يبدو شاردا ... ثم قال أخيرا
( يوما ما ستندمين على كلماتك القاسية تلك ......... )
همست بخفوت و خصلات شعرها الذهبية تتطاير أمام وجهها
( أخشى أن أندم على اليوم الذي أعطيتك فيه الفرصة ....... )
ابتسم بقوة ..... ثم همس بصوتٍ أجش ....
( طالما نحن معا ...... فأنا كفيل بتبديد أي ندم ..... )
.................................................. .................................................. ......................
وقفت أمام البوابة الضخمة !!!!
و تسائلت للمرة الألف عما تفعله هنا !!
لكنها لم تجد الجواب الشافي .... مجرد سؤال تردد في ذهنها
" أليس من حقك القاء نظرة على حياته !!! ...... و لماذا لم تلوميه حين فعل بالمثل و أكثر .... بل يكاد يكون اقتحم حياتك عنوة .... بعد أن راقبك طويلا , و درس إن كنتِ صالحة للوريث الوحيد أم لا ..... "
سحبت ملك نفسا عميقا ....
هي و شادي بينهما ماضي طويل ..... يعطيها بعض الحق في القاء نظرة .... مجرد نظرة ....
سحبت نفسا عميقا ما أن وقفت أمام حارس البوابة ... و رفعت الكارت البلاستيك المعلق بأناقة في عنقها ... لتقول بأدب و أبتسامة ساحرة ...
( معي باقة ورود للسيد عاطف الجمال ..... )
بعد المرور بالبوابة ... متمسكة بالباقة في يدها ... باقة ضخمة , كتلك التي قدمتها لزوج وعد من قبل ... بل أكثر منها بهاءا .... و كالعادة ستقضي على راتبها كله ... و ربما اقترضت جزءا من راتبها المقبل من السيدة ليلى ....
نظرت ملك حولها الى البيت الواسع ببهاء و جمال .... كان منتهى الروعة الهندسية و المعمارية ...
و أكثر البيوت التي رأتها جمالا .....
فغرت ملك شفتيها .... و هي تتأمل الأبهة و الفخامة .... ثم أفاقت على صوت الخادمة الشابة الأنيقة و هي تقول بأدب ...
( هل آخذ الباقة منكِ لو سمحتِ ؟؟ ..... )
تشبثت ملك بالباقة قليلا ... ثم ابتسمت قدر الإمكان باتزان و حرفية و هي تقول بتهذيب مماثل
( لابد من توقيع السيد عاطف ..... إنها باقة خاصة .... لمناسبة خاصة جدا ...... )
عاطف الجمال .... اسم ليس لديها أية فكرة عنه ...
كل ما تعرفه أنه اسم مضت به عدة بطاقات تمنى بالشفاء لعدة باقات ابتاعها كريم منها كحجة .....
و باقتين باسم والدته !! .....
سارت خلف الخادمة الى رواق طويل ..... متفرع من البهو ....
ثم لم تلبث أن دخلت الخادمة لحظتين بعد أن طرقت باب خشبي فخم .... و خرجت تشير اليها بالدخول ....
دخلت ملك ترتجف من شدة تهورها ...
مهما كان .... انها ببيت غريب ... تسأل عن رجل غريب عنها تماما ....
قوت نفسها و اخذت نفسا عميقا .... لقد فعلتها حين أرادت أن ترى أختها من قبل ... و لا بأس أن تكررها كي ترى عن كثب حياة الشاب الذي ينوي أن يرتبط بها ........
نظرت الى مكتبة رائعة الجمال تتطاول أرففها الى السقف ..... وتفوح منها رائحة الكتب القديمة .....
فغرت ملك شفتيها بذهول من منظر تلك المكتبة التي تطابق تماما المكتبات الأثرية التى تراها في الأفلام ...
كل هذه كتب !!!
انها كنز .... لقد وقعت في كنز ....
لقد نست في تلك اللحظة .. كريم ... و شادي .... و أم شادي ..... و لم تفكر سوى بسرقة بعض الكتب و الخروج بها جريا من هنا ....
المكان مذهل .... ورائحة الكتب أكثر من مذهلة ....
انتفضت على سماع صوت رخيم عميق هادىء النبرات يقول بثقة
( هل ستظلين على حالة ذهولك تلك طويلا يا فتاة ؟ .......... )
شهقت ملك و هي تضع يدها على صدرها الخافق بعنف ..... و هي تنظر الى رجل متقدم العمر تبدو عليه الهيبة و الوقار ... يجلس الى مقعد متحرك .....
ارتبكت ملك و ذعرت ... و نست كل ما حفظته كذبا كما فعلت مع زوج وعد تماما ....
نفس الخطة الفاشلة .... و لا تزال تنفذها حين لا تملك غيرها
الأمر لا يتطلب سوى باقة ورد غالية الثمن .... و دفتر توقيع ....
همست ملك بتوتر ...
( أنا ...... لقد كنت ..... لم أقصد أن ......... )
صمتت حين ازداد ذعرها من أن ينادي فرقة حراسة من المرابطة عند البوابة لرميها خارجا .....
الا أن الرجل المهيب قال بهدوء
( تعالي الى الضوء قليلا يا فتاة كي أراكِ عن قرب ...... لم أرى منكِ سوى فم مفتوح و ضفيرة ... و الباقي مختفٍ خلف النخلة التي تمسكين بها ..... )
اقتربت ملك بتوتر فوق خشب رائع
تكاد تقسم أن كل ما بهذه الغرفة أثريا .. بعكس باقي البيت العصري
و كأنها دخلت من بوابة زمنية خلفية الى زمن قديم آخر .......
وصلت الى قرب مناسب من الرجل ذي المقعد المتحرك ... تأملته لحظة فلاحظت أنه رجل لا تزال الوسامة بادية على ملامحه المهيبة رغم تقدم العمر بها ........
كفت عن تأمله ووقفت مطرقة الرأس فاقدة القدرة على الكذب ...
أخذ الرجل وقته في تأملها مليا على ضوء مصباح أرضي طويل ذهبي الضوء بجوار مقعده ....
ثم قال بلهجة متسلية
( رأيتك منذ لحظات مذهولة بكتبي ...... فهل تحبين القراءة بالفعل , أم أنه مجرد ذهول فطري ؟؟ )
ردت بسرعة و قد عادت لتألقها و اشراقها
( بل أعشقها ..... لدي مجموعة كتب رائعة وكنت أظن نفسي دودة كتب ... لكن بعد أن رأيت كتبك ...... )
صمتت بذهول و هي تهمس لنفسها
" ماهذا الذي تقولينه يا غبية ؟!!! ..... لقد أوشكتِ على نعت الرجل المهيب بالدودة الأكبر !!! "
أخذت نفسا مرتجفا و هي تغمض عينيها هامسة لنفسها
" يا رب أخرجني من هنا ... و أقسم أن تكون المرة الأخيرة التي أتخذ فيها تلك الحيلة لأتطفل على حياة البشر "
قال الرجل بنبرةٍ أكثر تسلية
( اقتربي أكثر .... هنا في الضوء )
اقتربت خطوة أخرى .....
فقال الرجل بنبرة بسيطة رغم هيبته الواضحة
( لطالما ظننت أن الجمال يتناقض مع العقل .... لكن على ما يبدو أن فكرتي ستثبت فشلها بعد هذا العمر الطويل .... )
ابتسمت ملك و هي تقول برقة
( شكرا ............. )
فرد الرجل بحيرة
( من قال أنني أتكلم عنكِ ؟!! ........ )
اختفت ابتسامتها و تحول وجهها الى قناع من الجبس و هي تحدجه بنظره متبلدة ...
فأشار اليها بيده أن تقترب أكثر ... لم تجد سوى أن تنحني اليه بعد أن اقتربت منه لأقرب مدى ...
حينها ناولها الكتاب القديم في يده .. فأمسكت به بيدها الخالية بحرص و رهبة و ذهول ...
بينما خلع هو نظارته ليرجع رأسه مغمضا عينيه بتعب ..... و قال بخفوت
( اقرأي لي قليلا .......... )
كانت واقفة كالبواب الذي أتى بمشتروات البيت .... و هي تحاول أن تتوازن بالباقة الضخمة .. و دفتر التوقيع و الكتاب الثقيل .....
قال الرجل بهدوء دون أن يفتح عينيه
( ضعي النخلة من يدك أولا ...... فلو سقط كتابي من يدك سأدق عنقك ..... )
وضعت ملك الباقة ذات القاعدة البلاستيكية التي تشبه الصندوق أرضا .... و معها دفترها ...
ثم التفتت حولها الى أن وجدت وسادة أرضية من المخمل القرمزي الداكن ... فجلست عليها .. و فتحت الكتاب من الشريط الذي يحدد الصفحة التي كان يقرأها .....
تنظر اليه بانبهار ...... و لم تستطع أن تقاوم رغبتها في أن تشم رائحته ... فرفعت الكتاب المفتوح الى أنفها ... و حينها أغمضت عينيها و هي تستنشق رائحته المسكرة .....
لم تدرك أن الرجل فتح عينيه و نظر اليها مبتسما بسعادة من مشهد انتشائها برائحة الكتاب ....
ثم أغمض عينيه مجددا ... مطمئنا أنه سيستمتع بالقراءة كي يريحهما قليلا ....
و استمتع بالفعل .... ابتسامة جميلة مغضنة ارتسمت على شفتيه وهو يستمع الى صوت عذب النبرات
جماله ينبع من تنغيم الفقرات بنغم موسيقي يشرح التأثير المقصود
القراءة بصوتها كانت متعة ...... صوتها نغمات .....
عاشت ملك حياة كاملة بين أسطر الكتاب و قد نسيت الرجل تماما .... متعتها سحرتها , حتى شعرت بنفسها تشدو ....
و لم تدرك ذلك الغريب الواقف عند باب المكتبة بملامح جامدة .... يستمع الى صوتها , لا يعلم منذ متى ظل واقفا تقريبا وهو يراقب تلك الفتاة ذات الشعر الذهبي الطويل في ضفيرة الى خصرها ....
تقريبا تغني الكتاب الذي بيدها و هي جالسة على الوسادة أرضا ...
و الضوء الشاحب يغمرها فيضفي عليها ظلالا تخفي الكثير منها ... بينما يتوهج شعرها مشتعلا !!
حين انتهت من فقرة معينة ... صمتت قليلا تتأمل الرجل المهيب ذو المقعد المتحرك ... و الذي بدا و كأنه نائم .... فارتبكت بشدة , الا أنها ابتسمت حين فتح عينيه ليقول مبتسما
( نعم ...... على ما يبدو أنني كنت مخطئا , و يمكن للجمال أن يقترن بالعقل ....... )
همست ملك مبتسمة ...
( هل أيقنت أنني أمتلك العقل من مجرد القراءة ؟؟ ......... )
ابتسم الرجل ليقول بهدوء
( أولا ... أنتِ مجددا تسرعتِ في الحكم و أنني أقصدك أنتِ بالجمال ... مما يعني أن احساسك بنفسك عالي جدا ..... )
أنكرت ملك بسرعة ... الا أنه رفع يده يقول بمنتهى الهدوء
( ثانيا ..... العقل يظهر من طريقة قرائتك .... تلحينك للمقاطع بنغمة اذاعية مميزة , تدل على أنكِ تفهمين ما تقرأين جيدا ... و لا تقرأين مجرد جرائد يومية باردة .... )
ابتسمت ملك بإحساس بالفخر .... لكن صوتا رجوليا قويا خلفها جعلها تنتفض و هو يتردد بين جدران الغرفة الأثرية
( يبدو أنني أتيت متأخرا .... فوجدت من تشغل مكاني !! .... )
استدار رأس ملك و هي تنظر الى رجل عند الباب مستندا الى اطاره مكتفا ذراعيه .... يبدو في منتصف الثلاثينات , جذاب الملامح و التي لها طابع رجولي مميز عن غيره ...
كان واقفا ينظر اليها بحدة جعلتها ترتجف قليلا ....
تلاقت نظراتهما عدة لحظات ... قبل أن تنتبه الى أنها مازالت جالسة أرضا ...
فانتفضت واقفة بسرعة و هي تحتضن الكتاب بين ذراعيها و كأنها تلميذةٍ مذنبة ....
بينما تملكها شعور غريب بأنها رأت هذا الرجل من قبل .... و منذ فترة قريبة .... قريبة جدا ...
لكنها لا تستطيع أن تحدد أين .......
ضحك الرجل المهيب ذو المقعد المتحرك و قال ببساطة
( تعال يا رائف ........كفانا من العقل , ربما بدد الجمال القليل من وحدتنا ..... )
لم يتحرك المدعو رائف من مكانه على الفور وهو ينظر اليها بقوة ... فارتبكت أكثر .... و أخفضت وجهها ....
قال رائف بهدوء و عينيه لا تزال على شعرها المسافر بعيدا
( المنافسة قوية يا عاطف ......... و ربما ضاع دوري في الشطرنج كذلك ..... )
ضحك الرجل المدعو عاطف ثم قال بصراحة
( الا الشطرنج ....... لا ألاعب أنثى الشطرنج أبدا ..... )
لا تعلم كيف اندفع لسانها الغبي من حيث لا تدري و هي تقول مبتسمة
( أنا ماهرة في الشطرنج ..... أدخل مسابقات الكترونية و أفوز بها ....... )
نظر اليها كلاهما مرة واحدة ... مما جعلها ترتبك و تلعن غباء ثرثرتها ....
لكن ذلك السيد عاطف قال أخيرا بصوتٍ متسلي
( آآآآآآه ....... العقل و الجمال مجددا , أخبريني .... الا تملكين لعبة شطرنج أصلية ؟؟ .... )
هزت ملك رأسها نفيا بارتباك ..... ثم همست
( لم أمسك قطعه من قبل ....... )
قال الرجل بصوتٍ محبط لطيف
( اذن فقد فاتتك المتعة نفسها ..... حين تمسكين القطعة الخشبية الفريدة المطعمة بالمعدن و العاج ...تتلمسين روعتها ... . لتغزين بها المكان .... )
ابتسمت ملك من روح الرجل ... و روح المكان ..... و كأنها في حلم جميل
فقال الرجل أخيرا بصوتٍ مجهد
( يوما ما ....... سأهديك واحدة أصلية .... بعد أن تغلبينني في اللعب )
كانت ابتسامتها حانية .... الرجل يعيش الوهم ... أو ربما هو ودود أكثر من اللازم كي يصادق مجرد بائعة .....
قال رائف بهدوء
( ألم أقل لك أن المنافسة خطيرة ..... ها أنت تتنازل من الجولة الأولى أن أحد أهم مبادئك )
نظرت ملك اليه بطرفِ عينيها فوجدته يدقق النظر بها .... فاحمر وجهها و ارتبكت ....
حتى الضفيرة غير نافعة , ربما تلجأ الى كعكات الشعر بعد ذلك حماية من الأعين المتلصصة ...
قال عاطف مقاطعا أفكارها
( صحيح ........ أين نخلتك ؟؟؟ ...... و ممن هي ؟ )
فغرت ملك شفتيها بذهول و هي تنظر الى الباقة الموضوعة أرضا .... لقد نست الأمر تماما خلال الفترة التي سبقت ... لقد سرقها سحر المكان تماما .....
كانت عينيها متسعتين و شفتيها مفتوحتين ... ثم لم تلبث أن أنحنت و هي تقول بتلعثم
( أنا ..... انها ........... )
قال عاطف بهدوء و ثبات قوي
( هاتي الكتاب أولا .............. )
استقامت بارتباك أزيد و ناولته الكتاب باحتراس .... ثم عادت تنحني عند قدمي رائف حيث الباقة ......
رفعت ملك الباقة الضخمة .... و قالت بتوتر و قد احمر وجهها الخائن بشدة فاضحة
( إنها من .......... )
توقفت لتتظاهر بالنظر الى البطاقة المرفقة بها ..... ثم قالت بصوت خفيض
( إنها من السيد كريم القاضي ......... )
أومأ الرجل برأسه دون اهتمام ...... الا أنها لمحت استياء ظاهر بعينيه ... و بدأت تتسائل عمن يكون هاذان الإثنان بالنسبة الى كريم .... و لماذا لا تبدو المحبة على وجه الأكبر سنا ....
نظرت نظرة خاطفة الى المدعو رائف ....
و لم تستطع تبين معنى نظراته اطلاقا ..... لكن ايا كانت , فهي كانت تعاود وجهتها الى شعرها مجددا ....
ثم الباقة ........
قال عاطف بخفوت
( هذا الولد كثرت باقاته مؤخرا ...... لم أعلم أن المودة بيننا قوية الى تلك الدرجة !! )
ارتبكت ملك بشدة و هي تشعر بأنها ورطت كريم جدا ..... لكن اهتمامها بعدم مودة الرجل كانت اكبر
كانت تريد أن تعرف المزيد عن كريم ... و مجرد نظرة الرجل كانت غير مشجعة .....
وضعت ملك الباقة على طاولة صغيرة ... ثم تراجعت خطوتين .... لتقول بخفوت
( يجب أن أذهب الآن ....و ..... شكرا للجلسة اللطيفة )
أومأ الرجل دون كلام ... و لوح لها كي تنصرف , بينما أرجع رأسه للخلف مجددا مغمضا عينيه .....
تجاوزت ملك المدعو رائف .... و ما أن مرت بكتفه حتى عاودها الشعور مجددا بأنها قد رأته من قبل ....
لكن صوته سمرها فجأة
( هل تعودين الى محلك وحدك ؟؟ ......... )
صدمت من مخاطبته لها دون داعٍ , لكنها أومأت برأسها دون صوت .... فقال ينظر اليها و هي واقفة بمحاذاته ....
( الطريق قد يكون خطيرا لفتاة صغيرة مثلك )
تعجبت من اسلوبه ....الا أنها قالت و هي ترفع ذقنها بثقة
( أستطيع حماية نفسي جيدا ...... شكرا لإهتمامك )
تحركت خطوة تتجاوزه ... الا أنه قال دون أن يستدير اليها
( فكري في الأمر ...... و لا تأتي الى هنا مجددا .... )
التفتت اليه بسرعة و هي تشعر بالريبة , لكنه تابع بهدوء
( ربما توظيف صبي لتوصيل الباقات سيكون من الحكمة ........ )
كانت ملك تنظر اليه بتحدٍ أكبر من سنها و قد استفزها على الرغم من أن كلامه يحمل طابع الإهتمام و الشهامة
فقالت بهدوء مستفز
( سأعرض فكرتك على صاحبة المحل ...... شكرا لك )
ثم ابتعدت بسرعة قبل أن يتكلم مجددا .... و في يدها دفتر لم يوقع عليه من كان من المفترض أن يفعل ...
ظل رائف واقفا مكانه .... ينظر الى الباب الذي خرجت منه الفتاة ذات الضفيرة الذهبية ....
لكن صوت عاطف جعله يلتفت وهو يقول بخفوت دون أن يفتح عينيه
( تعال و اضبط الصورة يا رائف ....... لقد حركتها جانبا حين وضعت الباقة )
اقترب رائف ببطء من الطاولة الموضوعة عليها الباقة ... ثم التقط صورة في اطار كانت منزاحة جانبا ...
مسح بكفه فوق زجاج الصورة .... ناظرا الى العينين الضاحكتين السوداوين ..... و الشعر الأسود الطويل ....
فابتسمت شفتاه ... ابتسامة تحمل الحزن و الإشتياق ..... أما عيناه .... عيناه حملتا حزنا دفينا لا يقارب حزن ابتسامته ...
ثم وضع الصورة مكانها ... و اخذ يضبطها مواجهة لعاطف بمنتهى الدقة .. و ما أن تركها حتى لامس ابهامه خاتم زواجٍ فضي في يده في حركةٍ بات معتادٍ عليها و كأنه يتأكد من وجوده .....
.................................................. .................................................. .................
دخل كريم متأخرا الى البيت يتلاعب بمفاتيحه ....
و قبل أن يتجه الى الجناح الأيمن الخاص به ووالده ووالدته ....
وجد رائف خارجا من الجناح الأيسر .... فابتسم له محييا بجبهته قائلا بتشدق
( خالي العزيز ....... )
ابتسم رائف ليقول بهدوء
( هل يجب أن أنتظرك ليلا كالأم القلقة على صغارها حتى أتمكن من رؤيتك ؟؟ ..... )
اقترب كريم يلف المفاتيح حول اصبعه .... وهو يقول بعبث
( ماذا أفعل لك ان كنت قد أصبحت عجوزا لا تشاركني الخروج أو اللهو .... )
عقد رائف حاجبيه ليقول
( عجوز !! ..... سأريك من هو العجوز يا صغير ؟؟ ..... )
ثم هجم عليه ... يوجه له ضربة تفاداها كريم ببراعة وهو يتلقاها على ساعده .... تبعها رائف باخرى فتلقاها كريم مجددا على ساعده الاخر ....
و تحركت ساق رائف وهو يدور حول نفسه , الا أن كريم تمكن من امساكها بين معصميه ... ضاحكا بشدة وهو يقول
( أرأيت من هو العجوز يا ......." خالو " ... )
قفز رائف على ساق واحدة ... وهو يقول
( كلمة خالو اصبحت سمجة منك و قد أصبحت كاللوح ....... )
و قبل أن يدري كريم .... و جد نفسه مندفعا بقوة ساق رائف التي لفته بسرعة , لتعرقله الأخرى فسقط أرضا ....
انحنى رائف اليه يجذبه من قميصه وهو يقول
( ارأيت من هو العجوز يا لوح ........ )
نفض كريم قميصه وهو يقول
( لا بأس يا خالو .... استمتع بجولتك هذه المرة , لقد أخذتني غدرا ..... )
قال رائف بهدوء
( و هل يستطيع أحد أن يأخذك غدرا !!! ....... أنت تغدر بالعالم كله و تعود بريء الوجه ... هيا يا صغير , تعال شاركني العشاء ...... )
رد كريم وهو يمط جسده
( ليس الآن يا رائف ...... أريد أن أناااااااااااااااااام ..... )
قال رائف قبل أن يغادر كريم
( حسنا قبل أن تصعد ..... أريد أن أشكرك على ما تقدمه لخالي و خال والدتك من اهتمام ...... )
كان كريم قد وضع قدمه على أول درجة .... بينما تابع رائف بمنتهى الهدوء
( باقة الورد كانت حركة رائعة منك اليوم ............. )
تسمر كريم مكانه ... ثم التفت الى رائف ناظرا بحذر .... فأشار رائف بذقنه الى الباقة التي أخرجها ووضعها في البهو ...
استطاع كريم تمييز الشريط الأخضر ذو الاطار الذهبي و الخاص بالمحل ....
بدت ملامحه متجمدة بلا تعابير و هو ينظر الى الباقة و كأنها يخشى أن تنطق ..... الا أن رائف هو من قال ببساطة
( أحضرتها فتاة ذات ضفيرة طويلة ........... )
ابتسم كريم ابتسامة مرحة .... بينما كانت عيناه مهتزتان بوضوح ..... و تمكن من القول بنبرة عادية
( انه ..... في مكانة جدي ....... فهو خال أمي ...... لذا بعض الورود قد تكون ..... )
لم يجد ما يتابع به ..... فتطوع رائف ليقول وهو يضع كفيه في جيبي بنطاله
( فكرة جيدة .............. )
أومأ كريم برأسه وهو يقول بخفوت شارد ..... حاد ...
( نعم ...... فكرة ماهرة للغاية ....... )
↚
دخلت وعد صباحا الى بيتها .... بيت عبد الحميد العمري
فوجدت الباب مفتوحا على اتساع جانبيه .....فعقدت حاجبيها بشدة و انتابها القلق
وخطت الى الداخل ملاحظة عدة تغيرات في المكان .....
ادارت عينيها بقلق ... الى أن وجدت تصميم وتوزيع الأثاث قد تبدل و انزاح في هيئة دائرة متسعة امام الجدران ... بينما البهو خالي و بمنتصفه بساط صغير أنيق على الرغم من قدمه ...
ثم تسمرت عيناها على فستان زفافها الفخم و الذي اشتراه سيف
كان واقفا !!!
اتسعت عيناها و هي تتأكد مما ترى ... و بالفعل وجدت الفستان واقفا يرتديه تمثال عرض نصفى دو ساق حديدية و قاعدة!!
كان واقفا في أحد الأركان يزين المكان بأضواء النهار التي انعكست بألوان مختلفة على ماساته ....
كانت وعد مذهولة من تلك التغيرات البسيطة الطارئة على المكان و التي جعلته لا يبدو كبيتٍ تماما ....
و قبل أن تتخذ أي خطوة .... وجدت علي خارجا من المطبخ وهو يقلب كوب شاي بمعلقة .. و السماعات في أذنه ... مدندنا بلحن قديم حزين
و ما أن أبصرها حتى توقف مكانه ينظر اليها ....... فهمس دون أن يزيل السماعات كي يسمع نفسه
( وعد !! ........... )
بان انبهار بريء في عينيه وهو يراها أمامه بشحمها و لحمها ..... لكنها كانت مختلفة ....
لم تكن تلك وعد زميلته في غرفة السعاة بالشركة .....
كانت أخرى بينه و بينها مسافات و أسوار ..... لا يستطيع تجاوزها , و إنما فقط النظر اليها .....
كانت الآن شابة أنيقة .... ترتدي معطفا و بنطالا أنيقا .....و حذاء عالي الكعبين .....
كان شعرها متمردا على قوة الهواء بالخارج .... و عيناها مكحلتان .....
هتفت وعد بدهشة
( علي ......... ماذا فعلت بالمكان ؟؟ .... )
أزاح السماعات أخيرا عن أذنه وهو ينظر الى شفتيها المتكلمتين بدهشة ... لكنه قال شاردا
( تبدين رائعة يا وعد ......... )
صمتت وعد قليلا .... ثم أهدته أحد أروع ابتساماتها و قالت بعد فترة
( شكرا يا علي ........... )
سألها علي همسا وعيناه تطوف عليها بحزن لم يستطع اخفاؤه
( هل ........ استمتعتِ ؟..... )
أخفضت وعد عينيها عمدا عن نظرات الحزن البريئة في عينيه ... لكنها همست و هي تومىء برأسها
( نعم يا علي ...... كان شهر عسل رائعا )
ساد الصمت قليلا ..... فرفعت عينيها الى وجهه البريء الوسيم و عينيه الشاردتين بها و عليها ... فقال علي بخفوت
( مبارك لكِ يا وعد ......... أنتِ تستحقين الأفضل )
ابتسمت وعد بعطف و هي تنظر الى براءة سنه ....و التي كانت تحمل جزءا منها حين كانت في مثل سنه أو ربما أصغر .... لكن البراءة ماتت تحت ضغط السنين ....
قالت وعد بهدوء مبتسمة برقة
( و أنت ...... كيف حالك ؟؟ ........ )
لم يرد و انما ابتسم .......
حينها شعرت وعد بالإشفاق عليه .... إنه يعيش حلم جميل يتناسب مع سنه , و هي بطلة هذا الحلم .....
كم تحسده على هذا الحلم .... على تلك البراءة و صفاء النفس ....
على حلم مراهقة لم تجد الوقت أو المجهود كي تحلمه سابقا ........
إنها تعشق صداقتها البسيطة بعلي ..... منذ عملهما معا ......
كل لحظة تقضيها معه , تجعلها تعيش سن السابعة عشر مجددا من خلاله هو .......
تنحنحت وعد لتخرجه من لحظة الشوق الطفولية تلك ...... ثم قالت بجدية و هي تدير ذراعيها باتساع المكان
( ما هذا الذي فعلته بالمكان ؟؟!! ........... )
تنهد علي وهو يضع كوب الشاي على طاولة صغيرة .... ثم قال بهدوء
( كنت أشعر بالفراغ ..... و في نفس الوقت طرأت الفكرة في رأسي قبل تسليم مجموعة الطلبات المنتهية ..... لذا بدلت قليلا في توزيع الأثاث و تركت الباب مفتوحا ..فبدا و كأنه مكان تفصيل و تصميم ... و الحي هنا ملائم رغم بساطته .... أما الشقة القديمة العريقة فهي تفي بالغرض و كأن تصميمها ساعد في ذلك ... )
كانت وعد غير مستوعبة بعد ..... لكنها سألت
( و هل سلمت كل القطع وفق البطاقات كما شرحت لك ؟؟ ....... )
أومأ برأسه قائلا
( نعم اطمئني ......... و لدي قائمة طويلة بطلبات جديدة و قياسات طالبيها )
اتسعت عينا وعد بذهول و هي تهتف غير مستوعبة
( هل أخذت قياس عيلاتي ؟!!!!!! ..... )
ابتسم علي بخبث و قد أطلت شقاوة من عينيه كعفاريت صغيرة وهو يقول
( آآآآه كانت تلك أفضل فترة عندي ....... لقد احترقت أعصابي تماما ... )
شهقت وعد وهي تضرب صدرها بيدها .... و هتفت بذهول
( أيها القذر !!! ...... هل فعلتها ؟؟ ..... إنه يعد تحرشا , إنها ليست وظيفتك !!!..... )
ضحك علي عاليا ... ثم قال أخيرا
( ستحيين و تموتين و أنتِ لازلتِ حمقاء ......و يمكن لطفل صغير أن يضع فوق جبهتك ملصق " غبية " دون أن تدرين ....... )
نفثت وعد نارا من أنفها و هي تقول ضاربة الأرض بقدمها
( أنت حقا أغبى شخص تعاملت معه ...... توقف عن تلك الحماقات و انضج قليلا .... )
ظل علي يضحك .... لكنه قال بعفوية
( حسنا سأتوقف ..... لكن بالفعل لدي قائمة طويلة من الطلبات و القياسات .... )
برقت عينا وعد تهديدا ... الا أنه سارع ليقول ضاحكا
( قبل أن تتهوري ...... ما أن انتهيت من تسليم الطلبات ووجدت أن هناك طلبات جديدة ... لم يطاوعني قلبي عن الإعتذار عنها ..... لذا ذهبت جريا الى أمي أسئلها عن فتاة تجيد الخياطة .... فدلتني بعد بحث على فتاة تسكن حيا مجاورا لحينا .... اتفقت معها .... فجائت تأتي الى هنا ساعتين كل صباح وهو الوقت الذي خصصناه لأخذ القياسات ..... و استلمنا القماش من أصحاب الطلبات .... و ....... )
ارتفع حاجب شرير .... فوق عين رمادية شريرة .... تصاحبها روح شريرة مذهولة بما تسمعه ....
وهي تهمس بتوعد خطر
( و ....... ماذا أيضا ؟!!! ......... )
تنحنح علي بحرج و احمر وجهه .... لكنه قال بخفوت
( و قامت الفتاة بقص القماش بالفعل ....... و .... لقد .... احم ..... استخدمت ماكينة ...... )
لم يستطع أن يكمل و هي تصرخ بجنون
( ماكينتي !!! ..... فتاة غريبة جلست أمام ماكينتي !!! .... في بيتي ...... قصت قماش زبوناتي!!!.... و عاثت في بيتي فسادا!!! ..... كل هذا من وراء ظهري .... )
اتسعت عينا علي بخوف من عينيها الشريرتين ... و حاول الهرب , الا أنها كانت قد وصلت اليه و أمسكته من مقدمة قميصه كالمجرمين و هي تهزه بقوة هاتفة
( ماكينتي التي اشتريتها بعرق جبيني و شقائي ....... تستبيحانها في غيابي ... )
رفع علي ذرعيه ثم هتف دفعة واحدة في غمرة غضبها
( بالمناسبة ...... راوية تقول أنها مجرد قطعة من الحديد البالي و ستأنف منها القمامة ما أن ترميها ..... )
كفى ..... الى هنا و انتهى الأمر ....
و تتجرأ المعتوهة راوية على نعت ماكينتها بذلك!!! ..... من هي راوية أصلا ؟!!! .....
فانتقل السؤال الى شفتيها تلقائيا بغضب و هي تهزه بقوة كالمحقق في أقسام الشرطة
( من هي راوية تلك ؟؟ ...... )
ارتبك علي وهو يقول بحذر
( انها الفتاة التي ............. )
الا أن وعد أكملت بالنيابة عنه وهي تهزه بالقوة
( تلك الفتاة التي تجرأت على استخدام ماكينتي في غيابي .... ثم تهينها بعد ذلك !!! .... )
رفع ذراعيه فوق رأسه ... تاركا لها فرصة التنفيس عن غضبها على الرغم من أنها أقصر منه و يستطيع أن يطيح بها لو أراد ....
هتفت وعد وهي تهزه مجددا
( و هل تجلسان هنا بمفردكما ؟!! ....... )
رفع علي حاجبيه ليقول بدهشة
( بمفردنا ؟!!! .... البيت كان كالسوق .... والدك بالداخل و معه الممرض ... انا و هي بالخارج ... الزبونات يدخلن و يخرجن .... و العم صلاح قطع اشتراك اقامة هنا .... لقد وجد نفسه بيننا ..... حتى أنني بت أراه أكثر من أمي ....... )
نظرت وعد رغما عنها الى غرفة والدها ذات الباب المفتوح قليلا .... فانقبض قلبها ...
الا انها تركت علي تدفعه عنها .... ثم قالت بحنق و تذمر
( هل كانت النقود التي أعطيتها لك قبل ذهابي كافية ؟؟ ......... )
رد علي ببساطة و رضا
( كانت أكثر من كافية .... حتى أنني اقتسمتها مع راوية )
عادت عينا وعد تتسع بدهشة و هي تقول
( لماذا ؟!! ......... )
قال علي ببساطة
( لأنها عملت بالفعل ..... كان يجب أن أعطيها ثمن عملها حتى لو كان بسيطا و اجره بسيط .... )
ظهر الإعجاب على وجهها رغما عنها لكنها أخفته بمهارة تحت قناع الغضب الذي لم يغادرها بعد .... ثم سألته بهدوء
( و هل أخذت عربون من أحد ؟؟ ........ )
قال علي
( لا ..... لأنني لم أكن واثقا من مهارتها الا أن أرى بعيني ..... لكني كنت مرتعبا من أن تفسد القماش )
تنهدت وعد بقسوة .... ثم قالت رغما عنها بعد فترة و عينيها على باب غرفة والدها مجددا
( كيف حال أبي ؟؟ ........... )
قال علي ببساطة
( ظننتك لن تسألي أبدا !! ...... انه بخير و المؤشر على ذلك أن لسانه كمبرد الخشب .... )
عاد صدرها لينقبض بذلك الشعور الصدىء من عدم تشوقها لرؤيته ... و هذا الشعور في حد ذاته يشعرها بالسقم ....
لكنها همست أخيرا بجفاء
( سأذهب لأراه ....... لكن ليكن بمعلومك أنني لم أنتهي منك بعد ..... )
ابتعدت عدة خطوات , ثم لم تلبث أن استدارت اليه عاقدة حاجبيها قائلة بتوجس
( بالمناسبة ..... ماذا يفعل فستان زفافي واقفا وحيدا شريدا في أحد الأركان ؟!!! ...... )
حك علي رأسه بحرج .....ثم قال بخفوت
( كان موضوعا هنا بعناية على ذراع الأريكة ...... لذا فضلت أن نستغله كواجهة عرض تراها العين و تنبهر ....... )
رفعت وعد ذراعيها ثم أسقطتهما و هي تقول بغضب و جنون
( هذا نصب !! .......إنه ليس من تفصيلي و لا حتى من تصميمي ..... إنه تصميم معرض مشهور )
ابتسم بحرج أكبر .... ثم قال محاولا التخفيف عنها رافعا إبهامه كعلامة الجودة و هو يقول ببراءة
( لكن حركاته أتت بنتائج مثمرة ......... )
تأففت وعد بشدة ثم اندفعت تغادر المكان قبل أن تقذفه بأول شيء تمسكه يدها و تصيبه بعاهة ....
راقبها علي و هي تبتعد طارقة الأرض بحذائها عالي الكعبين و شعرها الأسود يتمايل معها .... فوضع يده على صدره متأوها وهو يهمس بحزن
( لقد عادت أجمل من ذي !! ....... كيف سأتحمل وجودها الآن !!! ..... )
دخلت وعد ببطىء الى غرفة والدها , لكنها ترددت حين نظرت الى الممرض الواقف في الغرفة ... لكنه ابتسم لها بصمت ... انها تعرفه من قبل أن تسافر لذا حيته همسا بتردد و هي تبتسم باهتزاز
كانت لتسأله عن صحة والدها ....... لكنها وقفت أولا تنظر اليه بحذر ....
إنه يبدو نائما .... يبدو أكبر في العمر ....
اقتربت وعد منه ... تنحني اليه ثم ربتت على كتفه هامسة
( أبي ....... لقد عدت ..... )
فتح عينيه ببطىء و نظر اليها .... توقعت الا يتعرف عليها , لكنه سرعان ما همس بخشونة
( كل هذه الفترة تتركيني لأناس أغراب يا بنت ال **** .... دون حتى أن تسألي عني !! ... )
احمر وجهها بشدة في وجود الممرض الذي اعتذر فجأة و اسرع في الخروج من الغرفة تاركا لها مساحة من الخصوصية ....
فجلست على حافة السرير تنظر الى والدها بملامح جامدة من الإهانة العلنية التي لحقت بها للتو ....
ثم قالت بفتور
( لقد تزوجت سيف الدين فؤاد رضوان ..... ألم تكن هذه هي رغبتك ؟!! ..... )
بدا و كأنه يهمهم بغضب .... يشرد ثم يقول بخشونة
( أيادي تحملني .... و أيادي تضعني ...... )
رقت عيناها قليلا .... فانحنت تربت على ذراعه هامسة
( لا بأس يا أبي ..... سآتي لأراك و أقوم بطلباتك كل يوم ..... )
لكنها صدمت حين وجدته يجش بالبكاء فجأة كطفل صغير !! ..... حتى أن ملامحه المجعدة تجعدت أكثر ..
جلست تنظر اليه بذهول ثم همست بلوعة
( ماذا بك يا أبي ؟!! ....... لماذا تبكي ؟!! ...... )
قال لها بين بكاءه الخشن
( لأنهم يرفضون اطعامي .... و الجميع يسيء معاملتي ... )
نظرت اليه بذهول و قد ظهر الغضب الشرير في عينيها و هي تقول متوعدة
( يرفضون إطعامك !! ....... سنرى هذا )
ثم عادت لتنحني اليه قائلة برفق
( لا تقلق يا أبي لقد عدت ...... و لنرى من سيمسك بسوء في وجودي .... )
و دون أن تدري انحنت تعانقه برفق دون أن تخاف منه كسابق .... و حينها ارتفعت ذراعاه حولها بقوة و هو يعود ليجش بالبكاء الغير منطقي كطفل صغير !!
أخذت وعد تربت على ظهره و تهدهده الى أن نام بعد فترة .... فرفعت رأسها تنظر الى ملامحه الخشنة بتعبير غريب متألم ....
لقد كبر للغاية ..... لماذا يوجعها ذلك رغم أنها لم تكن متشوقة لتراه من البداية !!
استمرت فترة تربت على كفه المعرقة برفق ...
ثم قامت من مكانها بغضب و هي تتفحص كل ما حوله مما يحتاجه ... و من نظافته و نظافة ملابسه ....
لكنها وجدت كل شيء ممتاز ... لكنها لم تقتنع فخرجت للممرض في الخارج
و الذي وقف أمام نوبة غضبها صابرا ثم قال بهدوء
( لم يحدث ذلك يا سيدة وعد ..... نحن لا نمنع عنه الا ما يضره بأمر من الطبيب ....
والدك في مثل حالته سيشعر بمشاعر متناقضة دائما .... و كأنه يعود للطفولة , كبار السن دائما يمرون بتلك الحالة خاصة في مرضهم ..... يجب أن نتقبل ذلك سيدة وعد ..... حالة والدك الذهنية تتأخر بتقدم عمره و مرضه ..... )
امتقع وجهها رغما عنها ... لكنها هتفت بحدة و حزن
( لكن هذا ليس معناه أن نسيء معاملته !! ....... )
قال الممرض بصبر
( أقسم بالله لم يحدث سيدة وعد ...... والدك ينال الرعاية الكافية , لكن إن أحببت طلب ممرض آخر كي تطمئني فهذا حقك تماما ....... )
ارتبكت وعد ... و شردت عيناها بحزن .... ثم همست بخفوت و ألم
( أنا آسفة ...... لقد كنت حادة معك أكثر مما ينبغي ..... )
ابتسم برقة وهو يقول
( ليس هناك أغلى من الوالدين يا سيدة وعد ..... أنا أتفهمك تماما )
أومأت برأسها بحزن وشرود ..... نعم ليس هناك أغلى من الوالدين .......
.................................................. .................................................. ..................
عادت وعد الى البيت بعد يوم طويل ... صممت بقاءه في بيتها مع والدها ... حتى تأكدت من نومه ...
و بعدها عكفت على الخياطة ...
و الحق يقال ... أنها ما أن نظرت الى القماش المقصوص بعناية .. و كل قطعة ملفوفة دون اهمال في انتظار تخييطها ... حتى عرفت أن تلك العلقة المسماة راوية ذات يدٍ موهوبة ....
خاصة أنها وجدت فستانين أوشكا على الإنتهاء ... و بالفعل كان اخراجهما نظيفا و راقيا
ربما لو تخلت قليلا عن غيرتها على ماكينتها ستستعين بقدرات هذه الفتاة كلما زاد حجم العمل ....
دخلت وعد الي البيت ليلا و هي مرهقة بشدة .... لكنها تسمرت حين لاحظت أن أعين الجميع توقفت عليها ....
و لم يكن سيف ووالدته و شقيقتيه فقط .... بل كان هناك خطيب شقيقته مهرة ووالديه !!
لم تكن تعرف أنهم مدعوون الليلة !!
لكن عامة الحمد لله أنها متأنقة أكثر من أي مرةٍ شهدها هذا البيت ...
اقتربت بهدوء و هي تقول بصوت مهذب
( السلام عليكم ............... )
لاحظت أن التوتر عم المكان .... و ارتبك الجميع , فانتقل ارتباكهم اليها تلقائيا ... و حاولت فهم حقيقة ما يحدث ...
الا أن منيرة حين وجدت الصمت قد ثقل بشدة تطوعت و قالت بمودة زائفة
( هذه وعد ....... زوجة سيف , لم يسعدنا الحظ بتمكنكم من حضور الزفاف )
كانت ملامح حسام مبتسمة ودودة ... و كذلك والده نوعا ما ....
الا أن والدته قالت بخفوت و هي تحاول الإبتسام
( نعم رأيناها من قبل ...... ليلة قراءة الفاتحة .... )
عم صمت صادم المكان ., لم يتوقع أحد أن تتذكر ملامحها بتلك السهولة ...
.. امتقعت ملامح وعد و هي تتذكر ليلة قراءة الفاتحة ... لم تكن سوى خادمة !! ...
اغمضت عينيها للحظة ... ثم فتحتهما و هي تنظر الى سيف الذي كانت ملامحه جامدة ... شاحبة قليلا ..
منتظرة منه شيء .... أي شيء يحسن به صورتها ....
مجرد أن يذكر انها ابنة خاله , فسيجعل ذلك مساعدتها طبيعية لهم ليلة قراءة الفاتحة ....
لكن سيف تكلم و قال بهدوء
؛( تعالي اجلسي يا وعد ............ )
نظرت اليه و التقت أعينهما ..... و شعرت بأنها توشك على الصراخ به بعنف ...
لكنها جمدت نفسها و رفعت ذقنها لتقترب و تجلس بالقرب منه بكل ثقة زائفة .... ستمرر ذلك الموقف بكبرياء حاليا ....
لكن محاولتها الهشة ضاعت هباءا ما أن جلست حيث انتفضت مهرة واقفة لتقول بصوتٍ مختنق على وشكِ البكاء
( عن اذنكم ...................... )
ثم ابتعدت هرولة تكاد تكون جريا ... و هي تضع يدها على فمها ... فنهضت منيرة خلفها بسرعة و هي تعتذر لهم ...............
ارتبك الجميع و توترت الأجواء أكثر ... و اخذ كف وعد يرتجف بشدة فوق ركبتها و هي تضع ساقا فوق الاخرى ....
كانت عيناها مركزتين على نقطةٍ واحدةٍ على البساط لا تحيد عنها تأمر نفسها بالجمود ....
الى أن شعرت بكف سيف تغطي يدها فوق ركبتها ...
نظرت وعد الى الكف السمراء فوق يدها البيضاء .... فرفعت عينيها اليه , و لمحت في عينيه نظرة احتواء .... و لمحة اعتذار ....
ارتجفت شفتي وعد لكنها ابتسمت له ببرود و أناقة ... ثم التفتت اليهم بثقة .... و خيلاء ...
حينها تطوع حسام بتغيير الموضوع فورا و البدء في الكلام عن الزفاف المقبل ...
مرت دقائق و التهى الجميع قسرا عن الموقف السخيف من بدايته .... باستثناء ورد التي كانت عيناها مثبتتان على وعد باتهام صامت ....
ارتجفت وعد من نظرات ورد الفهدية .... فأخفضت وجهها عنها ....
كان يجب أن تعلم أن هكذا سيكون الوضع ..... لا عسل بدون نار .....
بعد فترة من الحديث , استأذنت وعد قليلا و ابتعدت تحت أنظار سيف ......
لتصعد السلالم بسرعة .... و شيئا ما دفعها الى الذهاب لغرفة مهرة .... كان صوتها مسموعا من خلف الباب و هي تصرخ
( أنتم فضحتموني أمام أهل خطيبي ...... هل رأيتِ نظرة والدة حسام ؟؟ .... )
اقتربت وعد من الباب ببطىء وسمعت منيرة ترجوها قائلة
( ششششش اخفضي صوتك يا مهرة .... سيمر الأمر و ينسى مع الوقت , الأمر لا يستحق كل هذا الغضب .... لا تفسدي تلك الليلة و انزلي لخطيبك و كأن شيئا لم يكن ..... )
( يبدو أن التلصص على الأبواب عادة اكتسبتها من الدار التي نشأتِ بها و لن تغادرك أبدا .... )
انتفضت وعد من الصوت الهادىء خلفها , فاستدارت تنظر الى ورد و يدها على صدرها ...
ظلت وعد واقفة مكانها تنظر اليها بعينيها الواسعتين دون أن تجد القدرة على الكلام ...
فرفعت ورد حاجبها و هي تكتف ذراعيها قائلة بابتسامة
( هل أكلت القطة لسانك الأطول منكِ ؟!! ..... عجبا !! .... )
لم تستطع وعد الكلام فبقت واقفة تنتظر أن تمر تلك الزوبعة المسماة ورد من أمامها ... لكن صراخ مهرة أجفلها من الداخل
( لقد تزوج من خادمة ..... و أصبح الجميع يعلم الآن , بعد أن كنت كالأميرة بينهم ...... )
تصلبت ملامح وعد .... و برقت عينا ورد و هي تنظر اليها مبتسمة ....
فدوى صوت منيرة من خلف الباب المغلق ....
( اصمتي يا مهرة أرجوكِ ..... لا تدعي أخاك يسمعك و تصبح مصيبة .... دعي تلك الليلة تمر )
صرخت مهرة و هي تبكي بقوة
( لقد أخبرني سيف أنها لن تكون موجودة ..... ما الذي أتى بها الآن ؟!! .... أنها تتقصد كل ذلك , ورد كانت محقة ...... )
شحبت ملامح وعد وهي تقف كتمثال من الحجر ....
ليأتيها صوت منيرة و هي تقول
( يا ابنتي كانوا ليعلموا في يومٍ ما ..... لن نستطيع إخفاءها للأبد ... )
ضحكة خافتة من ورد جعلت وعد تنظر اليها بتشوش ... فرفعت ورد حاجبها و هي تهمس بهدوء بطيء
( لماذا تبدو عليكِ الصدمة ؟!! ...... كان يجب عليكِ معرفة الفارق الضخم و تقدير حجمه من البداية ... )
رفعت وعد وجهها ثم قالت بخفوت
( هل تكرهينني لأن الفارق ضخم حقا ..... أم لأنني ابنة عبد الحميد العمري يا ورد !! )
أمالت ورد وجهها و هي تقول باستهانة
( أكرهك ؟!! ....... أنتِ تطرين نفسك أكثر من اللازم ... من أنتِ و ماذا تكونين كي أكرهك ؟؟ ... )
ردت وعد بخفوت ميت
( نفس أسلوب ميرال ...... نفس طريقة كلامها , هل تعتقدين أنني لم ألاحظ ما تحاوليه ؟!! ........ )
ابتسمت ورد أكثر و هي تقول بهدوء
( ليس هناك مجال للإعتقاد حبيبتي ........... )
صمتت قليلا ثم اقتربت ورد من وعد و همست بهدوء بطيء
( سيف سيتزوج ميرال ...... لن أكون ورد إن لم يحدث ذلك .... )
اتسعت عينا وعد بصدمة ... و شعرت وكأن شيئا ما قد طعن صدرها ... فقالت دون نفكير
( هل قال هو ذلك ؟!! ........ )
ابتسمت ورد ابتسامة انتصار ... ثم قالت بثقة
( الم تلاحظي إعجابه بها ؟!! .........ربما كنتِ دنيئة النفس .... لكنك بالتأكيد لستِ غبية أو عمياء ... . )
شحب وجه وعد و هي تنظر الي عيني ورد الصادقتين المنتصرتين ..... لكنها همست بخفوت
( سيف يريدني أنا ......... )
أومأت ورد برأسها و هي لا تزال مكتفة ذراعيها ثم همست ببساطة
( نعم ..... أوافقك .... سيف يريدك ..... و ها قد حصل عليكِ ...... )
ارتجفت وعد قليلا .... لكنها همست
( ماذا تقصدين ؟؟ ........... )
قالت ورد ببساطة
( لو أردتِ المعنى الواضح ..... فما يربطه بكِ مجرد رغبة زائلة لا أكثر .... الجميع يلاحظ ذلك ... نظراته لكِ .... اسلوبه معك ..... طريقة زواجكما .... سيف لا يحب الطرق الغير مشروعة لذا كان لابد له من الزواج منكِ ...... أما قلبه و اعجابه .... فهذا شيء آخر ..... )
حتى شفتيها ازرقتا و بدأت تشعر بالدوار من هول الكلام المسمم الملقى عليها حمام من الحمم ... فهمست بتشتت
( أنتِ وقحة ...... قليلة حياء .... حقودة ... قذرة ...... )
تصلبت عينا ورد بوحشيةٍ قليلا .... لكنها ابتسمت بهدوء .... و قالت
( لا بأس ...... سأمنحك عذرك , لأنني أقدر موقفك الآن ..... لكن اسمعيها مني جيدا )
صمتت قليلا و قالت بتأكيد خافت و عينيها في عيني وعد
( زواجك من سيف مؤقت ......... و أنتِ تعرفين ذلك جيدا فرجاءا مرري الفترة القادمة على خير كي تحصلي على ما تريدين بالمثل .... )
صمتت قليلا ... ثم لم تلبث أن همست بخفوت شديد
( و شيء آخر....... إياكِ ..... و الحمل ..... )
اتسعت عينا وعد بذهول و هي ترى أن وقاحة ورد قد تخطت الحد المقبول فهمست بوجع
( أنتِ مجنونة !! ............. )
اختفت ابتسامة ورد و هي تنظر اليها بصمت .... بينما استندت وعد بكفها الى الحائط بجوارها و قد بدأت تشعر بالدوار ....
و فاجأها صوت مهرة من جديد و هي تصرخ
( لا أريدها هنا يا أمي ..... أريدها خارج البيت )
ابتسمت ورد ... بينما تحركت وعد بتعثر الى غرفتها .... حتى جلست على حافة السرير .... بوجهٍ شاحب ...
ما الذي فاجأها في كلام ورد ؟!!
رغم أنها نفس المعلومات التي تعرفها جيدا ... و التي من أجلها أخفت خبر زواجها عن كرمة ومهرة ..
و التي كادت أن تخسر علاقتها بكرمة حين سمعتها منها ....
لكن أن تسمعها من ورد !!! ...... أن تتعرى بهذا الشكل !!!
" إياكِ و الحمل !! ........ "
منذ اول ليلة بزواجهما و هي تتناول أقراص منع الحمل بمعرفة سيف ..... و كانت قانعة بالوضع بمنتهى الخنوع .... أقراص لها موعد ثابت كل ليلة .. بمنتهى الرويتينة سواء اقترب منها أم لا .... و كأن الأقراص نفسها تشاركهما برودة الموقف ....
و على الرغم من ذلك .... فقد شعرت أن سيف يريدها زوجة بحق ....
حتى لو كان بين أسرتيهما ماضٍ أليم ....
حتى لو كان الفارق بينهما ضخما .... حتى لو لم يكن فخورا بها و بأي إنجاز لم تحققه يوما ...
حتى لو أشعرها أن والدته و شقيقتيه في المقدمة
لكن رغم كل ذلك كانت قد بدأت تشعر أنه سيبقيها زوجته .....
لكن كلام ورد أعادها للواقع ..... سيف و ميرال ....
هل من هناك سيف و ميرال ؟!! ..... هل خدعت نفسها حين أخفت ذلك الشعور المقيت برؤية نظرات الإعجاب في عينيه ؟!! ...
كلامه معها ..... نظراته اليها ......
رفعت وجهها و هي تفكر بقرارها القديم في الرحيل يوما .....تزوجت سيف و هي تخبىء بصدرها هذا القرار
لكن يوما بعد يوم ... باتت الحميمية تربطهما ببعضهما أكثر .... أصبحت توهنها و تضعف عزمها
ضحكت وعد بسخرية مريرة
" أي عزم ذلك !! .... أي عزم و هي مكبلة بوالدها و رعايته و مصاريفه .... و حياتها المتوقفة على وظيفة يمنحها سيف لها!! ..... أي عزم ذلك و هي بدون سيف لا تساوي شيئا .....
عاشت ستة و عشرين عاما لم تحقق بهم شيئا يذكر سوى انقاص قيمتها يوما بعد يوم ..... "
.................................................. .................................................. ..................
دخل سيف الغرفة بعد مغادرة الضيوف ....
كانت زيارة كارثية .... و تصرف مهرة كان مقيتا ...
لكن مهرة بالذات لم يكن ليقسو عليها كثيرا ... لذا منع نفسه بالقوة من الذهاب اليها و افراغ غضبه بها
وقف مكانه بعد أن دخل و اغلق الباب ينظر الى وعد التي كانت جالسة على كرسي طاولة الزينة الصغير
و ارتسمت ابتسامة شاحبة على شفتيه ...
وهو يراها تمشط شعرها بشرود ناظرة الى نفسها في المرآة ....
شعرها الأسود الجميل .... ليل يسافر في ظلامه
انتبه الى أنها تنظر الي عينيه في المرآة .... فابتسم لها بصمت ...
نهضت وعد من مكانها و استدارت لتواجهه بتعبير جامد ... نظر اليها كلها و هي كعادتها مؤخرا تأسره كل ليلة بشكلٍ يسحر القلوب ....
ترتدي قميص نوم حريري طويل أزرق داكن للغاية يقارب السواد .... به إغراء مهلك يزيدها بهاءا , فاقترب منها بهدوء الى أن وقف أمامها يتأمل كل جزء منها متمهلا .....
ثم مد يده يتجول بها على نعومة كتفها و ذراعها ببطىء شديد حتى أمسك بكفها الصغير ...
حينها رفع عينيه الى عينيها الصامتتين الشتويتين ....ثم قال بخفوت عميق
( ألازلتِ غاضبة ؟!! ........... )
لم ترد وعد و هي تنظر اليه دون تعبير ... فقال بخفوت أكثر و هو يضع يده على خصرها يجذبها اليه قليلا ...
( مهرة صغيرة ....... و مدللة البيت , لذا نتحمل منها الكثير من التصرفات الغير مسؤولة ... )
لو يعلم ما قالته كبيرة الأسرة منذ قليل !!!!
لكنها همست بجمود
( لست غاضبة من مهرة ............ )
جذبها اليه أكثر حتى التصقت به .... ثم همس في أذنها بصوتٍ أجش خافت
( آآه ....... اذن أنا المقصود بتلك النظرة القاتلة !! ...... )
لمست شفتاه أذنها ليهمس همسا هادرا في اذنها
( و هل أهون عليكِ ؟؟ ............. )
أدارت وجهها تنظر اليه بصمت حتى بدت شفتيها قريبتين من شفتيه للغاية فنظرت اليهما تلقائيا و همست بخفوت
( لا ............. )
ابتسم بانتصار ليهبط برأسه اليها مشبعا شوقه اليها في أول يوم تبتعد عنه فيه بعد زواجهما ...
و ما أن تركها كانت كانت مقطوعة الأنفاس منهكة القوى ... فهمس لها بخشونة و هو يضمها أكثر و بقوة أكبر من مقدرتها
( اليوم كان أطول من الزمن ..... اشتقت اليكِ , يبدو أنني أدمنتك ...... )
ابتسمت رغما عنها و همست
( حقا ؟!! .............. )
هزها الى أحضانه قليلا وهو يقول بخشونة قاسية
( هل عندك شك بذلك ؟؟ ..... أم أنكِ لا تشعرين بالمثل ؟!! ..... )
همست وعد بخفوت
( شعرت بالمثل ..... لكني أشك بشعورك , فحين تأخرت علي أتيت وحدي ...... )
ارتبكت ملامح سيف قليلا .. لكنه قال بهدوء
( لقد جئتِ أبكر مما تخيلت .... لو انتظرتِ قليلا كنت لآتي و أحضرك بنفسي ... )
حينها عقد حاجبيه وهو يقول بصرامة
( و هذا يذكرني أن أحذرك من تكرار هذا التصرف و استقلال مواصلات عامة ليلا بمفردك .... )
همست وعد بفتور
( الى متى أنتظر يا سيف ؟!! ..... لقد تعبت ..... )
رقت عيناه و قد بان شعور عميق على وجهه وهو يسمع جملتها البسيطة .... فمد يديه يحيط بهما وجهها و همس بين شفتيها بشغف و اعتذار
( أنا آسف ........... )
سيف الدين فؤاد رضوان يعتذر لها شخصيا !!! .... و يودع اعتذاره مبلغ اشواقه ....
لكن لماذا لم ترضى بعد ؟!!
فقالت بتصلب فوق قبلته الجامحة
( لماذا لم تخبرهم أنني ابنة خالك ؟!! ........... )
تجمدت عضلاته و ابعد وجهه عنها قليلا ... ثم قال بجفاء
( و بماذا يفيد ذلك ؟!! ....... )
اتسعت عينيها بصدمة .... لكنها التزمت الهدوء و هي تقول بفتور
( بماذا يفيد ؟!! ...... بخلاف أنهم أصبحوا من العائلة و أن التعارف لابد منه ..... فالسبب الأهم هو الا اكون تلك الخادمة نفسها التي رأوها ليلة قراءة الفاتحة !! .... )
أظلمت عينا سيف قليلا ... لكنه قال بخفوت به لمحة تصميم
( لم يكن ليفلح ذلك يا وعد ...... )
لكنها سألت بإصرار
( لماذا ؟!! ..... ألم يكن أفضل من ذلك الموقف الذي وضعتني به ؟؟!!! ..... )
تنهد سيف بقوة حتى ضغط صدره على صدرها بكبت دون أن يتخلى عنها ... ثم قال بحدة
( لأن وضعك كخادمة ليلة أن حضرتِ قراءة الفاتحة سيسيء الى منظرنا ما أن يعلموا بأنكِ ابنة خالي ..... )
اتسعت عينيها بذهول وهي تنظر اليه .... ثم همست بصدمة
( هل تخشى على منظركم ..... و لم يؤثر بكِ وضعي المخزي بأسفل منذ قليل ؟!!!! ... )
حاولت التلوي لتبتعد عنه الا أنه شدد ذراعيه من حولها بشراسة فهتفت بغضب
( ابتعد عني يا سيف ....... )
لكنه كان من القوة بحيث ثبتها مكانها وهو يقول بغضب
( اهدئي ........ اهدئي يا وعد .... )
لكنها ضربت ساقه بحنق و قد تفجر كل غضبها و ذلها في لحظةٍ واحدة , فتأوه سيف ألما وهو يقول من بين أسنانه
( أقسم أن أرد اليكِ الضربة يا وعد ......... )
لكنها لم تهتم و هي تحاول التملص منه ... حينها شدد من ذراعيه حول خصرها بقسوة جعلتها تتأوه ألما هي الأخرى ... فصرخ بغضب
( الآن كفي عن الغباء و اسمعيني ........ )
صرخت بغضب مماثل
( لا ......... )
هزها مجددا وهو يصرخ
( بلى ستسمعين مادمت قد فتحتِ الموضوع ...... )
حين أقرت بهزيمتها في مقاومته ... وقفت مكانها متسمرة كالثور العنيد بين ذراعيه و قد أمالت وجهها كي لا تنظر اليه ... " فل يقول ما بدا له ..... لقد سمعت ما بهِ الكفاية ... "
فأخذ نفسا نفسا عميقا قبل أن يقول بخشونة
( حين عقد قراننا ..... ألم أخبر جميع من في العمل بأنكِ ابنة خالي ؟!! ..... هل شعرت بالخجل منكِ ؟؟ ..... هل جعلت من زواجنا سرا كما كنتِ تخشين دائما ؟!! ..... )
لم ترد ..... و لم تلين ملامحها المتصلبة بعناد ... لكنه تابع بقسوة
( لم أفعل ..... لأنني لا أخجل من أي واقع يخصني .... و لست مضطرا لذلك ....
لكن مع مهرة الأمر يختلف ...... نعم لقد حدثت الكارثة بمعرفتهم أنكِ نفس الفتاة التي أتت لتنظيف البيت في ذاك اليوم ..... لكن أن تكون ابنة خالنا !!! ... ذلك سيسيء من صورة عائلة مهرة في نظر أهل خطيبها ألف مرة أكثر ...... و مهرة لا تستحق ذلك ....... )
نظرت وعد اليه بعينين رماديتين حزينتين كسماء ممطرة .... ثم همست بلا روح
( لكن أنا أستحق ....... اليس كذلك ؟!! ..... أنت تعترف أن الأمر كان مخزيا وقتها , و الأكثر خزيا هو أن تعترف الآن أمام أهل خطيب مهرة ..... )
مد يديه يمسك بوجهها من جديد ... و نظر في عينيها ليقول بقوة و صراحة
( نعم كان مخزيا ....... لكن هل تحاسبيني على تصرف كان في أول معرفتنا ببعضنا ..... و انتِ لا تمثلين لي سوى ابنة عبد الحميد العمري !! ..... أنتِ من أتيتِ الي بنفسك .... أنتِ من وافقتِ على العمل لدي ... و أنتِ من وافقت على الحضور لتنظيف المنزل ..... وقتها كان يدفعني شيطان الحقد ... و لم أكن لأتخيل أن تكوني لي أكثر من ذلك يوما ...... )
صمت قليلا يتنفس بسرعة و غضب .... ثم همس بخشونة
( لكنني ندمت ............ )
أجفلت فجأة من الكلمة ...... و نظرت اليه بصدمة , لكنه تابع دون خجل
( ندمت على ذلك اليوم بكل كياني .... و أتمنى لو أتمكن من محوه ...... )
انخفض جفناها بألم ...... فتابع سيف بقوة
( أنا لا أنتقم منكِ يا وعد ............ .... لقد مرت بيننا أيام غير مشرفة , لكنني لا أنتقم منكِ....... )
همست وعد بخفوت بعد فترة طويلة و كلاهما يتنفس بصعوبة
( تقول أنك لم تجعل من زواجنا سرا يا سيف !! ...... لكنني بدأت اتأكد الآن من أنك لم تجعله سرا كي تذيقني المزيد من المرار .... فلو كان سرا لما كنت واجهت كل ما أواجهه من هوان .... هنا و في العمل .... )
اهتزت عضلة بفك سيف المتصلب ..... ثم قال بخشونة و جفاء
( هل ذهب كلامي هباءا ؟؟................. )
ترقرقت دمعة في عينها .... سرعان ما انسابت على وجنتها المرتفعة ......
انعقد حاجباه قليلا ... ثم اقترب منها ليقبل تلك الدمعة هامسا فوق وجنتها
( نعم لقد ذهب هباءا ....... يبدو أننا لن نستطيع أن نتفاهم بالكلمات أبدا .... )
ثم لم يلبث أن قبل شفتيها برقة ... مرة و اثنتين ... قبل أن يغيب معها في قبلةٍ قوية .... جعلتها تغمض عينيها و هي تهرب الي تلك الراحة المؤقتة الشبيهة براحة المسكن الزائلة بعد حين ....
و حين رفع وجهه أخيرا .... كانت تتنفس بثقل ....مغمضة العينين وهو ينظر الي شفتيها الحمراوين بتأثير جنونه .... و ما أن فتحتهما حتى همست بأغرب ما قد يسمعه منها
( سيف ...... أريد طفلا منك .... )
.................................................. .................................................. ..................
صرخ محمد بشدة ضاربا بيده مزهرية ورد عتيقة موضوعة على رف قديم ... فطارت لتحط على الأرض في شظايا متناثرة حادة
( كيف لم تأتي الى هنا ؟!!! ...... أين هي ؟!!! ..... و كيف لم تبحثوا عنها الأيام الماضية !! .... )
تراجعت شقيقاته ما بين الخوف من غضبه الجنوني ... و بين الإستنكار من هول انفعاله ...
أمه هي التي وقفت أمامه ثابتة , لا يهتز لها جفن .... فهتفت بقوة تواجهه
( و كيف لنا أن نمسك بها ؟!! ...... إن كانت قد أوقعت يمين طلاقك و خرجت دون أن تأتي الى هنا !! .... الي البيت الوحيد الذي آواها !! ...... كيف لنا أن نمسك بها و نحن نجهل مكان وجودها من الأساس .... )
كانت ملامح محمد تعلوها تعابير شيطانية ... و عيناه حمراوان من التعب و السهر ... و جنون التفكير أثناء حجزه الأيام الماضية ....
صدره ينبض بجنون منذ ...... منذ اليوم الذي تركها بمكتب القسم و خرج ...... من يومها وهو يحيا جنون ووجع لا يطاق .... لا يصدق أن تبيعه كرمة بتلك السهولة ... بعد عشرة السنين بينهما ....
لا يصدق انها أوقعت يمينه و خرجت ! ...... و الأدهى أنها قررت الحصول على طفل .... و الأمر أنه عاد و لم يجدها , رغم علمه أن لا مكان لها كي تذهب اليه !! ...
و كأن والدته تقرأ أفكاره .... فاقتربت منه لتمسك ساعده بشدة و هي تقول بنبرة عنيفة
( تلك الفتاة قد باعت يا محمد و انتهى الأمر ......... )
التفت اليها محمد ينظر الى ملامحها الصلبة و التي فقدت فجأة كل أثر للحنان ... و الدلال الذي كان يخصه كابنها الوحيد ... و حل محلهما نظرة مشتدة .... تنظر الى عمق عينيه بمعانٍ لم يحتملها ....
لكنها لم ترحمه و تابعت بقسوة تشدد على كل حرف ... و اصابعها النحيلة تنغرز في ساعده كمخالب الطير مع كل كلمة
( انها لم توقع يمين الطلاق يا محمد ... بل أوقعت اسمك أرضا بخروجها من هنا و مبيتها في مكان مجهول كل تلك الأيام ..... كل الحي يعلم أنها خريجة دار رعاية و أن لا أهل لها كي تذهب اليهم .....
لقد اسقطت اسمك في و اسم والدك في الوحل ... فكيف تفكر في اعادتها !!! ..... اقسم بالله يا محمد إن أعدتها الى عصمتك , فلن تكون ابني بعدها ..... لن أعيش الأيام المتبقية لي و أنا منكسة الرأس بين جيراني )
صرخ محمد بهياج و هو ينتزع معصمه من يدها ... ليضرب الحائط بقبضته
( كفى يا أمي ........ كفى ....... )
الا أن أمه اقتربت من ظهره المحنى و مد يدها تمسك بكتفه , لتقول بصلابة
( لا تحمل نفسك ثقل الشبهة التي وضعت نفسها بها .... الا تعرف كيف ستتناولها الألسنة في الحي ؟!! .... مقطوعة الأصل و الجذور ... تختفي لمدة أسبوع خارج المأوى الوحيد لها و هي على ذمة رجل !! .... لا أحد يعلم لها مكان ... و لا حتى كبير كي نكلمه و نشكوها له ....
من البداية أخبرتك أنها لا تليق بك يا ابني ..... من ليس له أصل لا يتصرف الا بناء على ذلك ..... و حينها لا يمكنك معاتبته !! .... إن جاء العيب من أهل العيب يا ابني !! ... )
صرخ محمد بقوة وهو يستدير اليها كالمجنون
( كفي يا أمي .... أنت تتكلمين عن زوجتي ... أي أنكِ تطعنين في أنا .... ارحميني بالله عليك )
هتفت أمه بقوة مماثلة
( طلقها و ارمي نسبها اليك ... و حينها تكون غير مسؤول عن صرفاتها .... حتى لو أرادت بعدها أن تمشي في ال ...... )
صرخ محمد
( كفى ........ كفي ....... لا تتكلمي عنها هكذا يا أمي , تعلمين أن كرمة لم تلوث اسمي من قبل .... عشرة عشر سنوات ليست قليلة ... )
هتفت أمه بصرامة
( و ها قد فعلت الآن ........ ولكل شيء بداية ..... و الخطأ لا يتوقف عند الخطوة الأولى ... بل ينزلق حتى يصل الى الوحل ...... )
رفع محمد كفيه الى شعره يغرزهما به بقوة .... يكاد أن يقتلع خصلاته ..... الجنون يتربص بصدره , و الوجع لا يحتمل .....
كرمة ...... طفلته !! ..... كيف يبتعد عنها ؟!! ...... كيف يتركها لغيره كي يمتلكها و يمنحها الطفل الذي تهدىء به جوع قلبها ......
صرخ محمد عاليا كأسدٍ يزأر من اصابةٍ نازفة ... ثم اتجه الى الكالمجنون , فصرخت أمه من خلفه بخوف
( اتركها لحالها يا محمد ....... لا تلقي نفسك في المصائب من أجلها ..... إنها أرض بور لا تطرح و لا تثمر ..... اذهب لزوجتك بنت الاصول و أنسى اللقيطة ...... )
الا أن صراخها كان يهاجم الهواء في أثر محمد الذي فتح الباب و خرج كالمجنون , تلاحقه الشياطين من كل صوب ......
.................................................. .................................................. ......................
جلست كرمة بمكان اختارته في هذا البيت الواسع .... مكان يشبه جلسة أم محمد على الأريكة المنقوشة بجوار النافذة الخشبية المطلة على الطريق ....
لكن شتان ...
تلك الأريكة البيضاء الأنيقة ذات الوسائد الفيروزية ... و النافذة بحجم الحائط المطلة على حديقة لطيفة ذات ورود رقيقة ... كانت كفيلة بأن تجعلها تعيش جمالا مختلفا عما كانت تحياه ....
لكنها لم تستشعر لحظة من ذلك الجمال ... كانت روحها متبلدة بتبلد ملامح وجهها الشاحبة ... متحجرة كتحجر عينيها الجميلتين المتورمتين و اللتين فقدتا القدرة على البكاء ....
تقدمت منها أمينة و هي تتنهد غيظا ... ثم قالت أخيرا بهدوء
( الن تتحركي من مكانك يا ابنتي !! ........ انتِ تجلسين نفس الجلسة , بنفس الوضع منذ أن تستيقظي و حتى تنامي ... و إن كنت أشك في مسألة نومك تلك ..... )
رفعت كرمة وجهها مجفلة و كأن أمينة قد انتزعتها انتزاعا من عالم آخر ... غير ذلك المحيط بها ..
ارتبكت كرمة بشكل واضح ... ثم همست مرتبكة
( أتحتاجين مساعدة بشيء ؟؟ ....... أنا أثقلت عليكِ جدا خلال الأيام الماضية ....)
مطت أمينة شفتيها ... لكنها قالت بتهذيب
( لا أحتاج مساعدة بشيء ..... قد يقتلني حاتم , لو علم بأنني تركتك تمدين يدك بشيء ...)
احمر وجه كرمة من مدى احساسها بالخجل و التطفل و ارباك حياة الآخرين .... كانت قد نست هذا الشعور منذ فترة طويلة ...
لكن ما الحل الآن ؟!! .....
على الرغم من كل حالة الألم التي تحياها ... فهي تجبر نفسها اجبارا على عدم التوقف عن التفكير في وضعها ....
ربما لو تذهب لوعد بالفعل ؟!! .....
وضعها هنا غير ملائم أبدا ..... و فكرة سكنها بمفردها تخيفها .......
حتى الآن لم تكن قد ادخرت مالا خاصا بها ... كل راتبها الكبير كان يذهب الى البيت .. و خاصة في الفترة التي بقاها محمد دون عمل ...
و راتبها يكفي بالفعل أن تقوم باستئجار شقة في مكان راقي ... لكنه يكفي الإيجار وحده ... لن يتبقى معها مالا كي تصرف على نفسها ....
لكن لو اختارت السكن في مكان شعبي أو بسيط المستوى .... فهذا في حد ذاته كارثة و هي أدرى بتلك المناطق .... فكيف حين يجدون امرأة مطلقة تؤجر شقة بمفردها !!! .....
نظرت الى أمينة التي كانت تدقق النظر بها و بتعبيرات وجهها المتعقدة التفكير .... ثم قالت بخفوت
( ألن يأتي السيد حاتم الى هنا ؟؟ ....منذ عدة أيام وهو غائب ...... )
قالت أمينة بنبرات جامدة و عينين فضوليتين لقراءة مشاعر كرمة
( لا داعي للفظ سيد أمامي .... فأنا شخصيا أدعوه باسمه , و قد سمعتك تفعلين المثل ....
عامة حاتم اتصل و أخبرني أنه قادم اليوم ...... إن لم يكن لديكِ شيءٍ هام و تريدين الإتصال به الآن ... لقد أوصاني بذلك ...... )
هزت كرمة رأسها نفيا بشرود و ضياع ... ثم عادت تلتفت الى النافذة , و هي تعود للتفكير .....
خروجها من هنا يخيفها نوعا ما .... لا تصدق أن شعورا مفاجئا بالخوف سيداهمها بنفس قوة شعورها بالعذاب لطلاقها من محمد ...
انتباها الآن نفس الشعور بالخوف البارد ... الذي شعرت به و هي في السادسة عشر .. تجلس وحيدة على مقعد حجري ... معها حقيبة ملابس ... وورقة ذات عنوان ضائع .....
لم تعرف بيتا بعد الدار سوى بيت محمد ..... لم تعرف أهلا غير أهل محمد ....
و ها هي ..... امرأة ناضجة و تلتصق بمديرها في العمل كطفلة ضائعة من أهلها ......
تشوشت عيناها بطبقة رقيقة متبقية من طوفان الدموع الذي ذرفته طويلا .....
الى متى سيستمر الألم يا ترى ؟!! .......
دائما ما كانت تثور على المرأة التي تخضع للذل أو الغدر من زوجها ... بحجة أنه الزوج و السند و حتى الحبيب ....
كانت منافقة حين استثنت نفسها من تلك الثورة .... لكن و ما أن واجهت نفسها بمرآة مغبشةٍ لصورتها التي أصبحت عليها .... حتى أدركت أنها لن تستطيع المتابعة للحظة واحدة زائدة ....
لكن كان يجب أن تعلم ..... كان يجب أن تعلم أن الثمن باهظ ... و الألم فظيع .... و العشرة لا تهون ...
و كلمة طلاق تكاد تكون قاصمة للظهر .....
بقت مكانها في جلستها .... تشدد من ضم ركبتيها الى صدرها أكثر .....
حتى انها نسيت أمينة تماما و التي تنهدت بحنق و ابتعدت و هي تتذمر و تتمتم بتلك الخدمة الثقيلة الملقاة على عاتقها بالغصب .....
افاقت كرمة بعد فترة طويلة على صوت جرس الباب .... فرفعت وجهها الشاحب , لترى أمينة خارجة من المطبخ و هي تجفف يدها ....
فأنزلت كرمة ساقيها بتردد و جلست على حافة الأريكة تنتظر بارتباك .... و ضياع ......
دخل حاتم الى البيت .... و بيده العديد من الأكياس .... ناولها لأمينة و عيناه على كرمة ..... تبرقان ببريقٍ مشحون ....
اقترب منها ببطىء ... و عيناه لا تبارحانها .... حتى وقفت بتردد مطرقة برأسها , ترجع خصلة فارة من ربطة شعرها الى ما وراء أذنها .....
كم اشتاق اليها !! .....
وقف مكانه على بعدٍ منها .... و كأنه يمنح نفسح مساحة السيطرة على الذات ......
كانت قد تخلت أخيرا عن عبائتها السوداء و ارتدت طاقم رياضي أزرق بسيط .... زاد من جمالها .....
أخفض عينيه بالقوة الجبرية و هو يتنهد بقسوة ..... لكنه تمكن من الإبتسام وهو يقول بحنان
( كيف حالك يا كرمة ؟ ............. )
نظرت اليه بضعف , للحظة .... ثم همست
( بخير ........ كيف حالك أنت , و كيف حال اصابتك الآن ....... )
قال حاتم وهو يتقدم ليجلس على احد الكراسي بهدوء
( انها في حال أفضل .... لا تشغلي بالك بها ............. )
رفع وجهه اليها ,.... ينظر الى وجهها الجميل عدة لحظات ..... ثم قال بخفوت
( تعالي اجلسي بجواري ............. )
ظلت واقفة مكانها , تتلاعب بأصابعها بارتباك ..... و عيناه تتعلقان بأصابعها ككل حركةٍ منها .....
لكنه ربت على الأريكة الثنائية بجوار كرسيه .... و أعاد مجددا بهدوء , لكن به نبرة حزم
( تعالي اجلسي ......... أريد أن أتكلم معك .... )
اقتربت منه بخطوات بطيئة .... و شعر حاتم بشيء من الحنق , ... تبدو و كأنها خائفة منه ....
لكنه كتم شعوره ما أن جلست بجواره منفضة الوجه .... فقال مبتسما محاولا جرها للكلام
( متى خرجتِ ؟؟ ............. )
رفعت وجهها اليه بحيرة .... و قالت بسرعة و توجس
( لم أخرج اطلاقا ....... لماذا ؟؟ ..... )
ارتبك من تحفزها الظاهر ...... لكنه ابتسم بتوتر ليقول بخفوت
( الملابس ....... التي ترتدينها ........ )
نظرت كرمة الى طاقمها الرياضي .... و احمر وجهها بشدة , لكنها قالت بخفوت دون أن تنظر اليه
( لم أخرج ....... لقد خرجت أمينة , و ابتاعت لي كل ما أحتاجه ..... )
عقد حاتم حاجبيه , و قال بخشونة
( لقد أوصيتها أن تصطحبك معها لتختاري ما تريدين ........ )
سحبت كرمة نفسا مرتجفا لتقول بسرعة و اختناق
( نعم ...... لقد اخبرتني و أصرت ...... لكنني لم أشعر بالرغبة في الخروج )
لم يرد عليها حاتم و هو يتطلع الى جمال وجهها المحنى .... تلك المرأة ما هي الا لوحة مرسومة ......
الا أنها قطعت أفكاره شاكرة و هي تقول بعصبية
(أعتذر أنني بقيت في بيتك بمفردي عند خروجها ..... لكنني بقيت هنا على الأريكة لم أتحرك من مكاني الى أن عادت .... و أنا اصلا لا أتجول في البيت .... فقط الغرفة التي خصصتها لي ..... )
عبس محمد وهو يرى كبريائها الهش يصرخ بوجع .... بينما عيناها تحملان براءة طفلة ضائعة .....
فقال بخشونة و جفاء
( ليس هناك مبرر لكل تلك الحساسية الزائدة يا كرمة ...... تجولي في البيت كما تشائين , لكن ابتعدي فقط عن غرفتي ...... )
احمر وجهها أكثر و بدا و كأن الحرج موشكا على أن يخنقها ....
فضحك حاتم بخفوت .... حينها رفعت وجها غاضبا اليه لتقول بحدة مبالغ فيها
( هذا ليس ظريفا ............. )
قال حاتم ببساطة
( على الأقل عدتِ للبشر اللذين يمكن استفزازهم بسهولة ...... كنت قلقا عليكِ .... )
تنهدت كرمة و هي تبعد وجهها عنه ..... و تركها عدة لحظات تستجمع نفسها , الى أن التفتت اليه مجددا تنظر اليه دون كلام ....
حينها طال بهما النظر .... كان من الواضح أنها في عالم شارد بعيد ....
لكنه كان هنا ... أمامها و هي تنظر اليه .... عيناها بعينيه وهو يسبح بهما .... بعمقهما الأسود الدافىء ....
مصمما الا يحيد منهما .... لأنه لو فعل .... فسينحدر بعينيه الي شفتيها و ذلك فوق احتماله ....
حين تكلمت أخيرا قالت بخفوت به لمحة خوف تحاول أن تخفيها
( حاتم ..... أنا يجب أن أخرج من بيتك , سأذهب الى وعد ....... )
تجمدت ملامحه فجأة .... و تصلبت عيناه .....
بداخله طاقة بدائية لم يعرفها في نفسه سابقا .... طاقة تدفعه لأن يربطها بأحد مقاعد بيته ... طاقة تتجدد ما أن يستشعر أنها تنوي الرحيل من هنا
يندفع وقتها بداخله انسان همجي يكاد ان يغلق عليها الأبواب ....
كل ذلك الإنفعال لم يظهر منه شيء على ملامحه الجامدة و هو ينظر اليها دون تعبير ... ثم قال أخيرا بهدوء خافت
( صديقتك المتزوجة حديثا .... مجددا !!! ......)
تنهدت كرمة و هي تقول بعملية
( مؤقتا فقط الى أن آخذ راتبي و حينها سأبدأ البحث عن شقة للإيجار .....)
قال حاتم بلهجة غريبة
( أليس لديك حساب مصرفي ؟؟ .......... )
نظرت اليه لحظة بصمت .... فلم يحتاج لأن يعيد السؤال .... الا أنها قالت بلهجة دفاعية
( لسنا ممن ولودا و بأفواههم معالق من ذهب .... الحياة صعبة و النقود لدينا ليست للرفاهية )
عبس حاتم ليقول بقوة
( لماذا تبررين يا كرمة !!! ..... لماذا تبررين لكل سؤال أسأله و حتى قبل أن أفعل , التبرير هو أكثر ما أبغضه ....... )
اطرقت كرمة برأسها .... و هي تشعر بغصة في حلقها و قلبها , هو لن يفهمها .... و سيسيء الظن أكثر بمحمد .... محمد لم يكن يوما دنيئا و هى لا تريد أن تتركه و هي تضعه في ذلك الإطار .....
تنهد حاتم بكبت ... ثم لم يلبث أن قال بحزم وهو يخرج ورقة من حقيبة جلدية مسطحة كان قد دخل بها ....
مد الورقة اليها على الطاولة أمامهما و فوقها قلم .... ثم قال بصوتٍ لا يقبل الجدل
( وقعي هذه يا كرمة .......... )
نظرت الى الورقة و هي تكتف ذراعيها عاقدة حاجبيها بتوتر .... ثم قالت بلهجة توتر واضحة
( أوقع على ماذا ؟!!!! .......... )
كانت نبرة الشك واضحة في صوتها .... مما جعل ملامحه تتوتر و تشتد ... فقال بخفوت
( اقرئيها ........... إنها أمامك .... )
نظرت الى الورقة بتوجس دون أن تفك ذراعيها ..... ثم لم تلبث أن مدت يدا مرتجفة لترفع الورقة المهتزة الى مستوى وجهها .... و بعد لحظات رفعت وجها مصدوما الى حاتم و هي تهمس بدهشة
( عقد ايجار !! ............ مستحيل )
لم تهتز عضلة في ملامح حاتم وهو ينظر الى ملامحها المصدومة .... ثم قال بهدوء
( لماذا مستحيل ؟!! ..... ألم تتحدثي عن الإيجار منذ لحظات !! ...... )
فغرت شفتيها بذهول ... ثم وضعت الورقة مكانها لتقول بحدة
( هل أنت ساذج يا حاتم ؟!! ...... أولا هذا بيتك .... ثانيا راتبي لن يكفي ربع أيجار بيتٍ كهاذا ...... )
أرجع حاتم ظهره للخلف بهدوء .... ثم نظر الى عينيها بقوةٍ ليقول بحسم
( أولا ...... بيتي الأصلي هي شقتي التي أسكنها أنا ومحمد حاليا ..... هذا البيت جهزته حديثا ما أن عدت للبلاد ...... ثانيا .. انا لن آخذ منكِ هذا الربع الذي تتحدثين عنه ...... )
تصلبت ملامح كرمة و هي تقول
( أنا لن أقبل بوضعٍ كهذا ........... )
رد حاتم بثقة
( بل ستقبلين يا كرمة ........... )
استفزتها ثقته فهتفت بحنق
( ما تقوله مستحيل يا حاتم ....... كيف تتخلى عن بيتك ؟!! .... و تجبر ابنك على ذلك !! .... لأجل مجرد غريبة ...... )
" مجرد غريبة !!! "
كم بدت الكلمة سطحية تافهة من بين شفتيها !! ....
كم بدت باردة بغيضة لا تمت للواقع المستعر الذي يحياه بصلة !! ......
تلك الغريبة التي أسرت قلبه .... تلك الغريبة التي أصبحت وجها يطوف أحلامه كل ليلة .....
تلك الغريبة التي يعتبرها سكنه الذي لا يستطيع أن يطأه .......
تلك الغريبة التي تبتسم الدنيا ما أن تنظر اليه ..... و تبكي الدنيا مع بكائها ....
قالت كرمة بفظاظة
( فيما أنت شارد ؟!! ...... أنا أكلمك ..... هل سمعت كلمة مما قلت ؟!! ...... )
رد حاتم بهدوء دون أن يظهر على وجه ولو ذرة تناسب الجحيم الذي يحياه ...
( لو كان الأمر لا يناسبني لما عرضته يا كرمة ....... و أنتِ ..... لم تعودي غريبة يا كرمة , هذا بيتك ... و كلنا عائلتك ..... فلا تكرريها .... رجاءا .... )
أحمر وجه كرمة احراجا من فظاظتها ..... فأخفضت رأسها ببطىء ... ثم قالت بخفوت
( شكرا يا حاتم ..... لكنني لن أستطيع القبول بعرضك .... إنه ليس عرضا منطقيا أبدا ..... )
ظل ينظر اليها للحظات ... ثم قال بعملية
( ما الفارق بيني و بين أي مالك آخر ؟!! ..... أعتقد أنني أفضل .... )
زفرت كرمة بكبت ثم قالت بحدة ...
( انه مجرد عقد صوري ... و أنا لن أدفع الإيجار ... اذن لن أقبل , مع أي مالك آخر سيكون الأمر منتهى ... )
رد حاتم بخفوت به نبرة حدة
( لن تقومي باسئجار شقة في وضعك هذا يا كرمة ...... لا تعاندي و تتضرري في النهاية .... انه غباء و أنا لا أطيق الغباء ..... )
زفرت كرمة أقوى و انتفضت من مكانها متجهة الى النافذة و هي تنظر اليها .... معطية ظهرها الى حاتم الذي كان جالسا ينظر اليها و في صدره قلبٍ يعتصر شوقا و ألما ....
ثم لم يلبث أن نهض و اقترب منها ... ووقف خلفها , حينها تغضن حاجباه ألما لألمها .....
تظنه لا يشعر بها ..... لكنه يستشعر كل نبضة منها .....
همس حاتم بخفوت
( هوني عليكِ يا كرمة ............. )
و كانت عبارته الخافتة هي القشة الأخيرة التي استطاعت تحملها ..... فانحنت منثتية على نفسها و هي تشهق باكية بعنف .....
تأوه حاتم وهو يقترب منها خطوة أخرى ... و مد يديه يريد أن يمسك بكتفيها ...
لكن يديه توقفتها على بعد شعراتٍ من كتفيها .... فبدا و كأنه يمسك السراب !! ....
كانت تبكي بشدة .... و هو غير قادر حتى على لمسها مواسيا .... فانقبضت كفاه بشدة .... و استدار عنها لاعنا في نفسه ... ناظرا للسقف وهو يسحب نفسا عاليا يفوق قدرته على الإحتمال ....
كان ظهره لظهرها .... هي تبكي بشدة .... وهو يتألم و ملامحه تشتد مع كل شهقة ....
و ما أن خفتت شهقاتها قليلا .... حتى انتهز الفرضة ليقول بوجوم دون أن يستدير اليها
( سيخف الوجع يا كرمة ....... فقط امنحي نفسك الوقت )
سكتت شهقاتها الا من تنهيداتٍ خافتة .... تثير من جنونه و من شدة رغبته في الاستدارة اليها و ضمها الي صدره بقوة حتى تختفي بين ضلوعه ....
همست كرمة بتعب
( لن يختفي يا حاتم .......سيختفي حين يموت حبي له , و هذا لن يحدث ..... أبدا ...... )
أغمض عينيه .........
و تذكر حينها همسته لنفسه مع كل ضربةٍ من زوجها
" هذه من أجلك يا كرمة ...... "
الآن شعر بنفس الشعور ..... و بنفس الضربة على الصدر و بأشد وجعا ......
و حين تكلم أخيرا ..... قال بصوتٍ ميت
( عملك ...... و حياتك ..... سيأخذانك بعيدا ...... )
رفعت كرمة وجهها تنظر الي النافذة دون أن تستدير اليه ...... ثم قالت بخفوت ضائع
( المشكلة ........ المشكلة ...... المشكلة هي أنني أشعر بنفور غريب من العودة للعمل )
حينها استدار اليها كالطوفان ... ينظر الى ظهرها المنكسر .... و هدر قائلا
( ماذا!!! ....... هل تمزحين ؟!!! ...... )
ارتجفت شفتاها بشدة ....و الدموع بعينيها تعجزها عن الرؤية تماما .... و روحها تنتفض بقوة , و هي تهمس
( لا أتخيل ما هو أبعد من ذلك اليوم الذي سأعود فيه للعمل ...... بالرغم من أنه الشيء الوحيد المتبقي لي حاليا ..... فضلا عن أنني أحتاجه و بشدة ..... لكن احساسي أنه ..... أنه .... )
لم تستطع المتابعة و هي تغمض عينيها بشدةٍ تبتلع ألما قويا ...
الا أن حاتم اقترب منها خطوة .... وهو يتمنى ان يقتحم عقلها الصلب ... قد لا يكون لديه امل بقلبها , لكنه رغب بشدة في الدخول لعقلها ... لفكرها الذي تحجبه باتزان عن المحيطين بها ....
فهمس بقوة وحرارة
( أنه ماذا يا كرمة ؟؟ ....... تكلمي ..... )
رفعت كفيها الى وجهها تغطيه و هي تجش بالبكاء مجددا ... و تقول بصوتٍ مختنق يعذبه و يحرقه حيا
( أنه أفسد حياتي ........ )
ظل ينظر اليها بصمت و عيناه منحنيتان ألما .... و تركها تبكي قدر ما تشاء ... الى أن رفعت وجهها المتورم , تنظر بضياع الى النافذة ... ثم تابعت همسا
( و الآن ماذا ؟؟!! ....... ماذا ربحت ؟!! ...... لا شيء .... كل ما تمنيته و حلمت به يوما , يتجرد أمام عيني ....... )
صمت حاتم تماما بملامح متجمدة .... ثم قال بخفوت ما أن هدأت قليلا ...
( اذن لماذا اتخذت قرارك ...... لماذا لا تتراجعين فيه ببساطة ؟؟ ........ )
كان يقامر ... و الرعب يسكنه أن يخسر ....
ما نطقه كان أفظع ما قد يفعله ليمنحها الفرصة للفرار ....... و انتظر .... و انتظر .....
ينظر الي ظهرها و ملامحه يعلوها التأوه الصامت ....
الى أن نطقت أخيرا ..... همسا
( لأنني تعبت ...... لأنني لا أجد القدرة على التحمل بعد ...... لأنني أشعر و كأنني كبرت و مرونتي ضعفت ...... لأنني ...... أريد الراحة أكثر من ال ....... )
صمتت بعد أن خفت صوتها تماما ... فحثها ذلك بهمسٍ أجش , يخفي الكثير من ناره
( أكثر من ماذا ؟؟ ....... )
تنهدت تنهيدة أسى دون رد ...... و صمتت .... و كأنها أغلقت الطريق الذي فتحته بينهما ....
لكنه علم التتمة ..... علم دون الحاجة لسماع صوتها اليائس يهمس بالمزيد من شوقها ..... و حبها .....
نعم إنها تحب زوجها .... حب لا يفهمه إطلاقا ....
كان من المفترض أن يكون الوضع أسهل بعد كل ما عانته على يد زوجها ... ما عرفه و ما لم يعرفه بعد ....
الا أنه واقف الآن أمام حالة ميؤوس منها .... حب غريب يجمعها بانسان يؤذيها بكل فعل و كل تصرف ....
استدارت اليه أخيرا ... و منحته البهجة المؤلمة في النظر اليها ....
عيناها الحمراوان العميقتان ... شفتاها المنتفختان ......شرودها الجميل ....
ثم رفعت عينيها اليه .... فانتفض قلبه , قبل أن تهمس بضعف قلب كيانه
( لا أتخيل الذهاب للعمل يا حاتم ...... فماذا أفعل ؟!! ......... )
سحب حاتم نفسا عميقا .... و هو ينظر الى عينيها مليا , ..... من العذاب الا يستطيع ضمها لصدره ..... عذاب ما بعده عذاب .....
لكنه قال بخفوت فوق سطح التوتر
( ستذهبين يا كرمة ....... لقد حققتِ ما يشبه المستحيل و لن تتخلي عنه الآن ,........ سأكون بجوارك )
صرخت كرمة فجأة و هي ترفع ذراعيها لتسقطهما على جانبيها
( لا أريد سماع تلك الجملة ..... أصبحت أمقتها ..... أكرهها ..... ليتني لم أفعل ذلك المستحيل .... ليتني قنعت بحالي و بيتي ..... ليتنى حجمت أحلامي و تطلعاتي .... لكنت الآن أسعد امرأة ..... )
قال حاتم بقسوة
( هل هذا ما تظنينه ؟!!!! ............ )
صرخت كرمة بيأس
( و هل ترى غير ذلك ؟!!! ............ )
نظر اليها قليلا .... و عيناه تنطقانِ معانٍ و حكايات ... ثم قال أخيرا بخفوت صارم
( نعم ....... نعم يا كرمة أرى غير ذلك ...... لقد حباكِ الله مقدرة و عقلا لم يحظى به الكثيرين .... و ليس من حقك التذمر الآن ...... لو كنتِ قد حجمت أحلامك و عقلك كما تقولين .... فلن يعني ذلك اختفائهما ... أو تحولك لإنسانة أبسط فكرا و حلما ..... بل كنتِ لتعانين الأمرين ..... كنتِ لتلومي نفسك كل لحظة على ما كان يمكنك تحقيقه و تخاذلتِ .... و كنتِ ..... لتكرهينه ....... صدقيني .... )
صمتت كرمة و صدرها يلهث قليلا .... و هي تنظر اليه بسكينة
نعم ..... نعم ..... جزء كبير لحبها لمحمد هو سماحه بأن تكون ما هي عليه الآن ......
و معاناته في سبيل ذلك ......
أخفضت كرمة رأسها و هي ترفع يدا مرتجفة الى صدرها المتألم و هي تهمس لنفسها سرا
نعم ..... لهذا أحببتك ...... ليس قبل الزواج كأي قصة حب مراهقة .....
و إنما بعده ....... نعم لهذا أحببتك .......
لأنك اعطيتني البيت و العائلة ... و فتحت لي الطريق متذمرا .........
رفعت وجهها الى حاتم بملامح معذبة و همست تتابع أفكارها
( و أنا ماذا فعلت بالمقابل ؟!! ............ )
عقد حاجبيه بعدم فهم ... وهو يسألها بخفوت
( ماذا ؟!!! ............. )
أهتزت حدقتاها و هي تدرك أنها تخاطب حاتم .... فهزت رأسها نفيا بعدم تركيز ... و ابتلعت ريقها بتوتر لتقول بعدها
( انظر ماذا فعل بي استفزازك لي ........... )
ثم ابتسمت من بين دموعها و هي تنظر اليه برقة اذابت قلبه , لتقول بخفوت
( شكرا لعرضك يا حاتم ...... و لكل ما فعلته ...... لكن رجاءا اتركني كما أرتاح )
لم يرد على الفور و هو يشاهد قناع القوة يرفع في وجهه مجددا ... بعد أن سمحت له للحظات أن يخترق دفاعاتها ..... لكنه لم يستسلم وهو يقول بهدوء جاد
( شكرك مقبول ..... أما رفضك فلا ..... ستوقعين عقد الإيجار يا كرمة و حينها سيكون هذا بيتك مؤقتا أمام الجميع ....... و لو أتعبتِ نفسك بالتفكير للحظة , فستجدين أنني أفضل من أن تستأجري من شخص غريب قد يستغل وضعك ..... )
ظلت كرمة تنظر اليه و عقلها يصارعها .... على الرغم من كل ما حققته , لكنها على ما يبدو مجرد امرأة ضعيفة تعاني من مشاكل و عجز في الإستقلالية و تحتاج لرجل كي يؤمنها .......
لكنها رفعت و جهها و قالت بحسم أكثر منه رجاءا
( اذن لماذا لا تؤجر لي شقتك التي ذهبت اليها ...... و نكون قد حققنا عدة أهداف ...
أولا أنني سأتمكن من دفع إيجارها .... ثانيا تبقى أنت و أبنك في بيتكما ..... ثالثا أن تكون أنت الذي استأجرت منه و تكون مطمئنا و أنا كذلك ........ )
نظر اليها طويلا ..... ثم ابتسم أخيرا ...... انه يحب عقلها الغبي الذكي قبل جمالها ..... و لا يمكنه الإنكار أبدا ....
لكنه حين تكلم قال بهدوء
(حل عظيم ......... لكن ربما نظرت به بعد فترة ...... أما الآن و فربما تحتاجين لي بأي وقت .... و لن أستطيع الحضور اليكِ في xxxx مأهول بالسكان ممن يعرفونني جيدا .... لن يكون هذا مظهرا بريئا أبدا .... )
احمر وجه كرمة ... و توترت ملامحها و هي تقول بخفوت متعثر
( بالفعل ..... مجيئك يا حاتم لن .......... )
رفع يده كي يوقفها قبل أن تجرحه أكثر بكلماتها الطائشة هنا و هناك ........
ثم قال بجفاء
( لقد نسيت أن أخبرك أنها المرة الأخيرة التي آتي فيها الى هنا ...... الا اذا احتجتِ لشيء هام .... )
ارتسم الحزن و الحرج على وجه كرمة ..... و هي تنظر اليه , ثم همست باعتذار
( أنا آسفة يا حاتم ...... لكن أنت عشت بالخارج لفترة طويلة , بخلاف الحي الذي عشت أنا فيه ... أنت لا تعرف طريقة تفكير و كلام ال ............... )
قاطعها حاتم بحزم
( كرمة ...... أنا لست أجنبيا , أنا مدرك لذلك جيدا ...... و في بعض الأحيان أستطيع تمييز الصواب )
عادت لتبتسم من بين آلامها .....
و كأن بسمتها الشمس ..... تشرق ما بين حينٍ و آخر من خلف الغيامات القاتمة ......
قال حاتم أخيرا قبل أن يفقد سيطرته على انفعالات وجهه
( هل ستوقعين العقد يا كرمة ؟؟ ............. )
لم ترد و تجمدت ملامحها ..... فقال متملقا مبتسما بخفوت
( من فضلك ........... )
همست كرمة بعد فترة طويلة
( و تأخذ مني ربع الإيجار ؟؟ ............. )
ابتسم بعمق و قلبه يعرف معنى الراحة بعد أيام ..... فقال بهدوء بعد فترة
( و آخذ ربع الإيجار ........... )
ابتسمت كرمة بارتجاف و هي تنظر اليه بامتنان ....... ثم همست مجددا
( شكرا يا حاتم ............ )
اختفت ابتسامته وهو يفكر صارخا
" أرجوكِ توقفي عن الشكر ..... قلبي الخائن يرسم صورا أخرى له , و ما أنا بصنم !! "
↚
جلس مرابطا في نفس المكان ..... كأسدٍ هائج عنقه مقيد ......
منذ أيام وهو يجلس في نفس المكان منذ الصباح الباكر ..... لا حيلة له سوى ذلك ......
حيلة العاجز الذي يقبع في البرد صباحا على السور المواجه لمكان عملها .....
الشيء الوحيد الذي هو متأكد منه هو أنها لن تتخلى عن عملها أبدا مهما كان .....
منذ أيام وهو لا يعرف أي معلومةٍ عنها ..... منذ أيام طويلة و هي لا تأتي الى عملها بخلاف عادتها ....
لكنه لن ييأس ... و لن يغادر سوى بزوجته ....
ضم جانبي سترته القديمة كي يقي نفسه من برد الصباح ..... و هو متأكد مئة بالمئة أنها لن تأتي اليوم ككل يوم .....
و بينما حمار عينيه الشرستين يحارب برد الصباح الرمادي .... هناك أبصرها !!! .....
تنزل من سيارةٍ أنيقة .....بعد أن سارع السائق كي يفتح لها الباب !! ....
اتسعت عينا محمد وهو ينظر اليها ليتأكد من أنها كرمة بالفعل !! .....
و تركت قبضتاه جانبي سترته البالية ...... ينظر مبهوتا الى امرأة أنيقة ... ترتدي معطف أسود يصل الى ركبتيها , أسفله مباشرة حذاء أسود عالي الكعبين و الساقين حتى ركبتيها ......
شعرها مجموع في ذيل حصان طويل .... جمع خصلاته المتموجة المتراقصة خلف رأسها ....
و عيناها مختبئتان خلف نظارتها السوداء ....
هل هذه كرمة ؟!! ......
رفع كفه يحك ذقنه الغير حليقة بملامح طفل غريب .....
اقتربت منها قدماه دون أن يدرك ذلك بالفعل و ما أن صار على مقربةٍ منها ... صرخ عاليا
( كرمة !! ....... )
تسمرت مكانها للحظة ... ثم التفتت اليه دون أن تخلع نظارتها , لكن معالم الصدمة كانت ظاهرة على وجهها بوضوح و همست شفتيها باسمه دون صوت ....
وصل اليها في لحظة ليمسك بذراعها بقوة قائلا بقسوة
( أين كنتِ الأيام الماضية ........ )
همست كرمة برعب
( أخفض صوتك يا محمد ...... )
الا أنه هزها بعنف وهو يصرخ
( أين كنتِ يا كرمة الأيام الماضية ؟؟ ...... )
هتفت كرمة بذل
( أخرس يا محمد ..... أنت تهين نفسك قبل أن تهينني ... أرجوك ابتعد من هنا .... )
اقترب السائق سريعا كي يبعده الا أن كرمة أوقفته بكلمةٍ واحدة في قوة عشر رجال
( ابتعد ..... أنه أمر عائلي ..... )
ثم نظرت الى محمد تقول برجاء به حسم منتهي
( أبتعد عني يا محمد ..... دعنا على الأقل ننفصل بتحضر ... )
الا أنه لم يتخلى عن ذراعها وهو يصرخ و يهزها
( ليس قبل أن أعرف أين كنت ؟؟ ...... و من أين لكِ بكل ذلك ؟؟ ..... )
رفعت كرمة يدها الطليقة تغطي وجنتها الشاحبة من الذل و الهوان و هي ترى الأعين بدأت في الإلتفاف اليهما .... مجددا .... حتى باتت سمعتها الفضائحية معروفة في هذا المصرف ....
الا أنها سيطرت على ساقيها اللتين أوشكتا على السقوط و قالت ببأس
( أنا ..... استأجرت بيت ..... و الآن أخرج من حياتي يا محمد رجاءا ..... أنا لا أستحق منك كل ذلك .... )
صرخ محمد وهو يهزها بعنف
( و هل أنا أستحق منكِ كل ذلك ؟!!! ....... بعد كل ما فعلته من أجلك و ما قدمته لكِ !!! ...... )
صرخت كرمة و قد فقدت أعصابها بعد ضغط الأيام الماضية
( كفى يا محمد أرجوك ..... كفى فضائح ...... اخرج من حياتي , أريد أن أنسى كل ما فات ..... )
الا أنه كان قد وصل للحد الأخير وهو يجذبها من شعرها ليقول بعنف
( بل ستعودين الي بيتك ....... و الآن ...... و حينها سأعلمك أن زوجك .... )
صرخ به صوت عالي مجنون
( أنت أيها الحقير ..... اتركها حالا ..... )
أغمضت كرمة عينيها بعد أن سقطت نظارتها أرضا فداس عليها محمد و تهمشت بقسوة ... لتظهر عينيها المتورمتين المنتفختين من ليالي سهر و بكاء ....
" ها قد اكتملت ..... و ظهر حاتم مجددا .... "
أبعدها محمد خلف ظهره دون أن يترك شعرها و هي تئن ألما .... الى أن وصل اليه حاتم وهو يتشبث بقميصه ... بينما صرخت كرمة بجنون و هي تبكي
(كفى ..... كفى ....... )
لكن سيلا من الشتائم النابية انبثقت بينهما و هي في المنتصف مربوطة من شعرها و الجميع ملتف حولهم بذهول
فصرخ حاتم وهو متمسك بياقة قميص محمد دون أن يجرؤ على تخليص شعر كرمة من براثن الهمجي الذي كان بدوره يحاول ضربه بساقه و يده الطليقة
( أستدعوا الشرطة ..... حالا ...... )
و ألتف حراس الأمن في لحظة حول محمد يبعدوه عن حاتم بالقوة ... و كرمة شعرها يتقطع بين الجميع ...
الى أن تمكنوا من تحريرها بالقوة .... فصرخت عاليا و هي تلهث بعنف
( لا ..... لا شرطة .... أرجوك )
استدارت لحاتم تصرخ بهياج
( أرجوك ....... لا شرطة ........ )
نظر اليها غاضبا و هو ينظر الى عينيها المتورمتين يتنفس بسرعة ... شاعرا أنه على وشكِ إرتكاب جريمة
لكنها استغلت تردد الجميع للحظة واحدة ثم التفتت الى محمد تصرخ بجنون و هي تدفع صدره بقبضتيها
( كفى يا محمد ..... كفى ..... لقد كسرتني و انتهى الأمر ..... أخرج من حياتي..... أخرج من حياتي ... لا أريدك ..... لا أريدك .... لم أعد أريدك .... تحلى بقليل من الكرامة .... )
ساد صمت مريع بين الجميع ..... ووقفت كرمة و محمد ينظران الى بعضهما و هما يلهثان كمتصارعين في حلبة يحدها الذهول !! ......
و لم تدري كم مر من الوقت ..... قبل أن ينتزع محمد نفسه بالقوة من بين أيديهم ... ثم يبتعد في صمتٍ مهيب ....
استمر الصمت .... ووقفت هي في المنتص تلهث ..... و ما أن همس حاتم باسمها حتى صرخت بقوة
( كفى ..... كفى ..... سأغادر ..... )
ابتعدت ساقاها جريا .. و حاتم يتبعها مناديا عليها ... فاستدارت اليه تصرخ بعذاب غير حافلة بالأعين المراقبة بذهول
( كفى يا حاتم ..... كفى ..... كان مجيئي هنا اليوم خطأ كبير .... )
ثم ابتعدت جريا .... الا أن حاتم أشار الى السائق , الذي أسرع يفتح لها باب السيارة كي لا تهرب ... و بالفعل كانت أكثر من ممتنة الى المقعد الذي ارتمت فيه ....و الباب الذي أغلق عليها كي يحميها من أعين الناس .... فأرجعت رأسها للخلف و هي تغمض عينيها لتبكي و تشهق بمرارة ....
.................................................. .................................................. .................
بعد عدة أيام .....
دخل حاتم البيت بوجهٍ غامض .... بعد أن فتحت له أمينة الباب , فسألها بصوت خافت غريب
( أين كرمة ؟؟ ............. )
ردت أمينة بحنق
( على وضع يدك ....... على الأريكة عند النافذة تبكي حتى دون صوت .... لقد فقأت مرارتي )
تنهد حاتم بقوة .... لكن شيئا به كان يتألق .... نظرة عينيه تبرق على غير المعتاد ....
فدخل الى البهو و هو يتنحنح ما أن رآها ....
لم يبد عليها أنها سمعته ........ فناداها بصوتٍ حازم
( كرمة .......... )
أجفلت قليلا و ذقنها يرتفع عن ركبتيها ..... لكنها عادت و أخفضته دون أن تنظر الى حاتم .... مقررة البقاء في عزلتها ....
اشتدت ملامح حاتم بصرامة أكبر ... و اقترب منها ليقول بصلابة
( كرمة ....... كفي عن ذلك الدور الدرامي , فهو لا يليق بكِ ......... )
لم ترد عليه ... و لم تلتفت .... فقال بقوة
( لدي شيء لكِ .............. )
أيضا لم تهتم .... و لم تنظر ..... فبرقت عيناه غضبا ... و شيئا آخر .... ثم قال بمنتهى الهدوء
( من محمد ................ )
استدار رأسها الى حاتم كطلقة رصاص و هي تقول بلهفة
( محمد زوجي ؟!! ......... )
اشتد فكه بقوة ... و تصلبت ملامحه , بينما فقدت عيناه كل رقتهما ....
لكنه أطرق برأسه .... محاولا السيطرة على انفعالاته الأنانية .... ثم اقترب مخرجا ورقة مطوية وهو يقول بغموض
( لقد وصلتكِ هذه على المصرف اليوم ....... )
نهضت كرمة بساقين ترتجفان ..... و اقتربت من حاتم , لتلتقط منه الورقة المطوية ...بيدٍ ترتجف
و ما أن فتحتها حتى طالعتها الكلمات الرسمية المسجلة القاسية ....
كان حاتم يراقب عيناها الظاهرتان من خلف الورقة .... بينما الورقة تخفي باقي وجهها كنقاب يسترها عنه ...
انحنى حاجباها .... و ارتجفت الورقة بين أصابعها بشدة كارتجاف حدقتيها الجاريتين بتشوش دموعها تلاحق الكلمات الهاربة .....
همس صوتها وصله بوضوح كقصف ناري
( ورقة طلاقي .......... )
شعر بصدره ينقبض بشدة وهو يقول بوجوم
( نعم يا كرمة ........ لقد أصبحتِ حرة رسميا ..... )
سقطت كرمة جالسة على حافة الأريكة و هي ترفع الورقة الى وجهها و كأنها منديل .... لتودعها دموعها باكية ....
بينما وقف حاتم مكانه متسمرا .... يريد أن يضرب بكل حواجزه عرض الحائط و الجري اليها و احتضانها ليخبرها أنه سينسيها كل ألم عاشته .... يقسم أنه سينسيها ....
لكنه وقف مكانه و قبضتاه تنقبضان بألم ....
و ما أن وصلت أمينة على صوت بكاء كرمة حتى ربت حاتم على كتفها وهو يقول باختناق
( قدمي لي معروفا ....... و احتضنيها نيابة عني ...... )
ضربت أمينة على وجنتها و هي تنظر اليه تمط شفتيها هاتفة بهمس
( يا خيبتك .... يا خيبتك ...... )
لكنها اقتربت لتجلس بجوار كرمة و هي تسحبها الى صدرها مربتتة على ظهرها رغما عنها و هي تقول بحنق
( ابكي حبيبتي ..... ابكي ..... لكن ابقي بحضني أنا قبل أن يفضحنا خائب الرجا .... )
لم تفهمها كرمة و هي تبكي بشدة .... بينما كان حاتم واقفا مكانه ينظر اليها بعذاب ..... و حين شعر بأنه لن يتحمل أكثر ... اندفع خارجا ليصفق الباب خلفه بعنف زلزل جدران البيت بقوة ....
.................................................. .................................................. ......................
بعد ثلاث أشهر ....
كان حاتم واقفا خلف حاجز المطبخ الرخامي المكشوف يعد بعض الشطائر .....
و صوت ضربات الكرة على الحائط المجاور يكاد يطرق رأسه بمطارق من حديد .....
فقال بصوت مكبوت
( كفى يا محمد ......... )
الا أن الصبي النحيف الرياضي الجالس على الأريكة المريحة لم يبد أنه قد سمعه وهو يعاود ضرب الكرة مرة بعد مرة ... على الرغم من أن عينيه مثبتتين على وجه والده المحنى بتصميم ...
أخذ حاتم نفسا عميقا ... و التزم الهدوء وهو يقول مجددا
( كفى يا محمد ........ )
لكن الصبي لم يتوقف .... و حين شعر حاتم أن رأسه توشك على الإنفجار , رفع وجهه ليقول بقوة
( قلت كفى يا محمد ...... و الا تخلصت من تلك الكرة , الا يكفيك تدريب النادي !!! ..... )
قال الصبي بلهجة استفزازية
( لا ...... لا يكفيني ..... هل لي أن أعرف لماذا تركنا بيتنا ؟ ... و الى متى سنظل محتجزين بذلك الجحر ؟؟؟ )
رفع حاتم وجهه مجددا وهو يقول بغضب
( جحر ؟!!! ..... لأنك تعيش في شقة ؟!! .... انظر حولك جيدا ثم قارن هذا الجحر بمن لا يمتلك غرفة منه ... )
رفع الصبي الصغير عينيه وهو يقول بملل
( ها سنبدأ المواعظ .......... )
هتف حاتم بغضب و بصوت زلزل الجدران
( احترم نفسك يا ولد و تعلم كيف تكلم والدك .......... )
برقت عينا الصبي الشبيهة بعيني أبيه وهو ينظر اليه بتحدي .... ثم هتف بقوة
( ما دمت لا تتحملني ... و أنا لا أتحملك دعني أذهب الى أمي ...... توقف عن دور جليسة الأطفال الذي تتبعه معي .... لقد كبرنا أنا و أنت قليلا على هذا الدور ....... )
هتف حاتم بصرامة
( محمد ..... لا تجبرني على معاقبتك و التزم حدودك ........ )
أستقام محمد في جلسته و هو يصرخ دون خوف
( لما لا تتزوج و تنجب رضيعا صغيرا تبدأ معه من البداية و تكبر عقلك مني !! ..... )
هتف حاتم بصرامة و قسوة ....
( أنت قليل الأدب ..... و ذهابك الى أمك هو ما أفسد أخلاقك , لا تتحداني كي لا أمنعك عنها .... )
قال محمد رافعا ذقنه بتحدي
( لا تستطيع ............... )
وجد حاتم أنه وصل لجدار مسدود و أنه قد أنزل من قدره كوالد حين صغر عقله لعقل صبي في العاشرة ....
فأخفض رأسه وهو يحاول السيطرة على غضبه .... لأنه هو الخاسر , فابنه لا يخاف أبدا ... و كلما اشتد معه ستضيع هيبته .....
أعاد تركيزه الى الطبق في يده .... و أعاد محمد ضرب الكرة على الحائط المجاور .... فقرر حاتم تركه لحاله قليلا ثم يعاود التفاهم معه .....
لكنه لم يجد الفرصة حين ضرب محمد الطبق في يد حاتم بكرته فوقع الطبق و تناثرت أشلاؤه في كل مكان ....
حينها خرج حاتم كالمجنون من مكانه ليلتقط الكرة و سرعان ما طعنها بالسكين حتى ارتخت تماما أمام عيني محمد المصدومتين ....
نظر حاتم الى عيني ابنه .... و حينها شعر بالغضب من نفسه أكثر , الا أنه قال بصوتٍ خاقت جاف وهو يلقي الكرة في سلة المهملات
( اذهب الى غرفتك ...... و لا تخرج منها ....... )
اندفع محمد من مكانه جريا الى غرفته صارخا بجنون
( أنا لا أريد البقاء معك هنا للحظة واحدة ....... أريد الذهاب لأمي ..... حتى أنني أشعر بأن مراد هو أبي و ليس أنت .............. )
وقف حاتم ينظر بوجوم الى الباب الذي صفق في وجهه بعنف .....
فرمى نفسه على الأريكة بتعب وهو يتنهد يأسا ..... إن هذا الولد يخرج أسوأ ما فيه ... لم يكن يوما عديم الصبر لهذه الدرجة ....
مع أطفال الناس الآخرين يكون غاية في الصبر و اللطف .... حتى ان أطفال العائلة كلها يحبونه و بشدة
لكن لماذا يكون قاسيا هكذا مع ابنه .....أين يذهب صبره و طول باله مع غيره ممن هم في سنه و اصغر !!
تنهد حاتم بشدة .... ما قاله محمد طعنه في الصميم .....
رن هاتفه فجأة ليرى الرقم المثير للإستفزاز أكثر من أبنه ...... أم ابنه .....
تنهد بقوةٍ أكبر وهو يرجع رأسه للخلف هامسا
( هاتفه معه بالداخل ..... من المؤكد أنه أعطاها التمام .... )
ظل ينظر الى الهاتف الرنان .... الى أن تحول رنينه الى نواح و عويل .... فأمسكه يرد مرغما
و ما أن فتح الخط .... حتى خرق العويل طبلة أذنه و هي تصرخ مهددة و متوعدة و كأنه كوى ابنه بالنار !!!
ظل حاتم ينظر الى الهاتف قليلا ... ثم وضعه فوق الطاولة الى أن تنتهي ....
و بالفعل بعد فترة طويلة جدا سمع صوت صراخها
( حاتم ..... حاتم ..... أين ذهبت ؟؟؟ ...... )
أمسك حاتم الهاتف ليرد عليها بهدوء .... فقال
( نعم يا داليا أنا هنا ...... كنت أسمعك ..... )
صرخت وهي تتأفف
( هل يمكنك أن تخبرني لماذا تحتجز الولد في هذا الجحر ؟!!! ............ما خطب البيت ؟!! . )
أرجع حاتم رأسه للخلف ضاحكا ملىء فيه دون صوت ...
الآن عرف منبع الكلمة ......
لكنه رد بهدوء
( أولا شقتي ليست جحرا يا داليا .... أم نسيتِ أنها شقة زواجنا ؟!! ..... على الأقل تحمل لك ذكرى أو اثنتين جميلتين ....... )
صرخت داليا بغرور و تدلل
( توقف عن هذا الكلام يا حاتم ..... أنا امرأة متزوجة الآن ...... )
عاد حاتم ليضحك دون صوت وهو يرجع رأسه مستلقيا على ذراع الأريكة ....ثم سرعان ما اختفت ضحكته .. و شرد في السقف وهو يفكر بها .... و كأنه نسيها من الأساس !!
ثلاث أشهر كاملة منع نفسه عنها .... لم يرها .... مجرد اتصال سريع كل اسبوع ليرى ان كانت تحتاج شيئا ... و كانت ترد بخفوت و بروح ميتة بأنها لا تحتاج أي شيء .... و كأنها زهدت الحياة فجأة .....
اليوم تنتهي عدتها ....
اليوم كرمة انسانة حرة ..... من حقه حبها ......
لكن الوقت عدوه ..... إنها مصابة و بشدة .... و تحتاج الوقت الطويل كي تقف على قدميها من جديد !!!....
بينما هو يستعر ببطىء و ألم .......
اخترق صوت داليا أحلامه فاقشعرت اذنه ليختفي الحلم الجميل ... فقال بهدوء و إتقان
( ماذا !!! ..... ماذا !! .... داليا لا أسمعك ..... حاولي الكلام ..... اذهبي بجوار أقرب نافذة ... لا أسمعك ... سأطلبك مجددا .... الى اللقاء ..... )
أغلق الهاتف على صوت صراخها و هو يتنهد بارتياح .... بعض الحيل لا تموت , مهما انكشف سرها ....
و سرعان ما طارت أصابعه على رقم الهاتف الذي تركه لها .....
استمر الرنين طويلا .... و قلبه يتضخم مع كل رنة ......
الى أن سمع صوتها أخيرا ....... صوت عذب رقيق به شجن يقتله ....
فقال بخفوت وهو يغمض عينيه محتفلا معها بليلة حريتها
( كيف حالك يا كرمة ............. )
أجابته بصوت شارد حزين
( بخير ...... كيف حالك أنت يا حاتم ؟؟ .... )
رد حاتم وهو يتنهد
( صوتك لا يخبرني بأنكِ بخير أبدا ........... )
ردت كرمة بفتور
( لا تشغل بالك ........ يومين و يمضيا و سأكون بخير )
قال حاتم بخفوت قلبي
( يومين !!! .... لقد مضى ثلاثة أشهر .........)
ساد صمت طويل مشحون بينهما عبر الخطوط ...ثم سمع همسها الضائع و كأنها تحدث نفسها بشرود
( نعم ...... مضى ثلاثة أشهر ...... )
عاد قلبه لينقبض مجددا ..... لقد أصبح أستاذ و رئيس قسم في كيفية قراءة نبرة صوت كرمة .... و ترجمة ما تشعر به .....
قال حاتم بخفوت يتخلل حزنها
( كرمة ............أريد أن أراكِ )
ما لم يتوقعه ... أن ترد عليه بخفوت مماثل
( و أنا أيضا أريد أن أراك .......... )
اشتعلت عيناه و نبض صدره لاهثا .... لكنه سيطر على انفعالاته بمعجزة ليقول بهدوء يكاد يختنق به ببلاهة
( حسنا ........... هل أمر عليكِ غدا صباحا ؟!! ..... )
قالت كرمة بصوت لا حياة به
( حسنا ...... لكن لدي عدة أشياء أنجزها أولا خارج البيت ... و بعدها سأعود .. ربما لو انتظرتني قليلا )
" سأنتظرك العمر كله ..... "
لكن العبارة تأخرت في عقله مع عبارة أخرى أخترقت عقله ....
ستخرج غدا ؟!!! ....
انها المرة الأولى التي تخرج فيها بعد ما حدث آخر مرة .....
لم يستطع أن يمنع نفسه من النطق بقوة
( الى أين ستذهبين ؟!! ....... )
بدت نبرته فظة و حادة أكثر مما انتوى .... فساد الصمت بينهما مجددا ... فأغمض عينيه يلعن غباؤه
يبدو أن وجود محمد معه جعله فظا و متطفلا على الجميع ... لذا سارع ليقول ملطفا لهجته
( كي أرسل لكِ السيارة .......... )
ردت بعد فترة و بصوت ممتن
( شكرا لك يا حاتم ...... لكن أفضل الخروج وحدي قليلا , أحتاج ذلك ..... أنت لطيف جدا )
لطيف جدا !!!!
لماذا انتابه فجأة شعور بأنه دمية دب من الفراء و ذات شريط أحمر !!
لقد تضررت رجولته من مدحها .....
لكنه كتم احساسه بصبر و هو يقول من بين أسنانه
( شكرا .......... )
و استطاع بالقوة منع نفسه من الإلحاح في معرفة وجهة خروجها غدا ......
قالت كرمة أخيرا بخفوت
( الى اللقاء اذن ....... أراك غدا .... )
" انتظري قليلا ...لماذا أنتِ بخيلة هكذا !!! "
لكنه قال بهدوء
( الى الغد يا كرمة ........ )
أغلق الهاتف و هو يهمس متنهدا بقوة
( يا كرمتي ذات عناقيد العنب ...... )
.................................................. .................................................. ......................
دخل سيف الى مقهى الشركة في وقت الإستراحة ....
و رغما عنه بحثت عيناه عنها تلقائيا ككل يوم .... الى أن وجدها .....
كالعادة تجلس وحيدة على إحدى الطاولات البعيدة ..... تبدو كفتاة انطوائية حزينة هزيلة .....
شعر بصدره يغلي شوقا لها لم ينضب لمدة ثلاث أشهر كاملة !! ......
ذهب رغما عنه ليجلس الى طاولة أخرى حيث ينتظره أحد المدراء للنقاش في أمرٍ ما .....
جلس سيف يواجهها من بعيد و هي تجلس شاردة ... ذراعيها النحيلتين مستندتين الى سطح الطاولة ...
شعرها الفارق من المنتصف مجموع في ذيل حصان منخفض منسدل على إحدى كتفيها ....
و هي ترتدي نظارتها السوداء المثلثة ......
من مكانه استطاع أن يلمح توترها ..... كما استطاع أن يلمح ككل يوم همهمات و همسات الجميع تجاهها ...
منذ أن انتهى التدريب الذي فشلت به فشلا ذريعا ... و رسبت في اختباره النهائي ....
لم يجد أمامه سوى فعل شيء يخالف طبيعته تماما .... فمنحها الوظيفة على الرغم من أنها لا تستحقها أبدا ... و غيرها أحق منها .....
لكن إحساسه بالذنب تجاهها كان أكبر ......
منذ تلك الليلة المجنونة التي همست فيها له أنها تريد طفلا !!! .....
أي كلمة أكثر اثارة من الممكن أن يسمعها رجل من طلب امرأته أن يمنحها طفلا منه !! ......
لا يزال يذكر أن صدره تضخم وقتها بشدة .... و فارت الدماء بعروقه .... و حملها معه الي السرير و أودعها عواطف مجنونة عنيفة دون أي رحمة .....
حتى شعر أنها تنصهر به على الرغم من تسارع نبضات قلبها تحت كفيه .......
لكن ........
لكنه رفض !!! .........
لقد رفض بكل رقة و تهذيب ............
حتى الآن لا يزال يذكر عينيها المصدومتين برفضه الحاني ..........
و حين أخبرها برقة أنها لن تتحمل كل ذلك الجهد .... انقلبت على جانبها بصمت .... و نامت ... بينما هو يعلم حق اليقين أنها لم تنم ......
فسألها همسا إن كانت قد غضبت .... فهمست له دون أن تستدير اليه
( بالطبع لا ......... )
تلك الليلة ظل سهرانا بجوارها ...... يتلمس ذراعها و كتفها برقة ..... مرجعا خصلات شعرها للخلف .....
حمل طفل !! .....
هل يخبرها أن الطبيب قد أوصاه أن ينتظرا عدة أشهر بعد الزواج ؟!! ......
لكنه لم يرغب أن تعيش تلك الحالة مجددا ..... بعد المرة التي أخبرها فيها بمرضها ......
لقد فضل ترك الأمور تسير بطبيعية حتى يحين الوقت .......
لكنها صدمته بطلبها المفاجىء فلم يعرف بماذا يجيبها سوى الرفض بأدب !! ......
و من وقتها لم تعيده مجددا .....
و تحولت حياتهما الى نظام روتيني .... يذهبان معا الى العمل صباحا ... ثم يقلها سائق خاص الي بيت والدها حيث تبقى للمساء .... و يعود بها للبيت ....
لكن الروتينية لم تطل خلوتهما معا بعد ..... فقد كان شوقهما يتجدد ما أن يغلق عليهما باب ......
سواء كان باب غرفتهما بالبيت ... أو باب مكتبه في العمل ......
ابتسم بعبث وهو ينظر اليها جالسة بوجوم و اتزان في الطاولة البعيدة ....
تلك المتزنة الواجمة ...... لم تكن تتمكن في بعض الأحيان من إمساك ضحكتها العالية ما أن يتمادى بشوقه معها في مكتبه .... حتى يضطر الى أن يكمم فمها بيده ......
تنهد سيف وهو ينظر اليها .....
و الحقيقة أيضا أن وضعها ليس سهلا .... سواء بالبيت أو في العمل ........
فهي مكروهة في المكانين ..... تكاد تعامل أسوأ معاملة و تجاهل .....
فأمه و شقيقتيه يتجاهلانها تماما ...... و هنا موضوع تعينها دون وجه حق أثار الغضب تجاهها ......
خاصة و انها أيضا لا تبلي حسنا في متطلباتها الوظيفية ......
الوظيفة لا تناسبها إطلاقا .... و هي تكابر و لا تريد الإعتراف ....... لكنه قرر إلهائها بها قليلا كلعبة ..... الى أن يقنعها بتركها فيما بعد .......
رفعت وعد وجهها فالتقت أعينهما في لحظة ........ فغمز لها بقصد ....
و من مسافته البعيدة تمكن من رؤية احمرار وجهها ...... فابتسم .......
إنها جميلة ....... جميلة ....... وهو لا يكاد يجد القدرة على الصبر الى أن يقفل عليهما باب مجددا .....
.................................................. .................................................. ......................
نزلت وعد صباحا الى المطبخ كي تعد لنفسها كوب من الشاي ....
لكنها توقفت مكانها حين رأت ورد تقف بظهرها الى الباب .... و أمامها كوب مماثل ساخن موضوع فوق السطح الرخامي .....
تجمدت ملامح وعد و أوشكت على المغادرة بصمت .....
الا أن فضولا جعلها تنظر الى ورد التي كانت تميل بخصرها قليلا مع صوت فيروز المنبعث من المذياع ....
و كان شعرها العسلي الداكن مرفوعا لأعلى .... و يدها تتلاعب بالسماعة الظاهرة خلف أذنها .....
انحنى حاجبا وعد رغما عنها و هي تدرك بأن السبب في تلك الإصابة هو والدها ......
أحيانا ...... احيانا نادرة جدا تشعر بالتعاطف معها .....
فورد على الرغم من كل عنجهيتها لم تحظى بأي شيء يذكر .......حتى عملها البسيط تركته منذ فترة بسيطة بعد أن شتمت مديرها في العمل !! .....
أحيانا تراقبها و هي تتأمل صورة طفل رضيع في مجلة دون اهتمام ..... لكن تأملها يطول و يطول ......
و أحيانا تستطيع أن تلمح ارتباك وجهها ما أن يبدأ الكلام عن زفاف مهرة .......
ورد لا ينقصها الخاطبين أبدا .... حتى مع سنوات عمرها التي تجاوزت الثلاثين بسنةٍ أو اثنتين ......
فهي جميلة ..... صحيح جمالها من النوع الصلب الذي يشبه وسامة سيف .....
لكنها جميلة .... و أخت سيف الدين فؤاد رضوان ........
لكن المشكلة فيها هي ..... إنها سيئة الطبع بدرجة فظيعة ......
لقد حضر عريس لمقابلتها في البيت ..... و كانت النتيجة أنه تقريبا خرج مطرودا من البيت .....
كم تذكرها ورد بوالدها عبد الحميد .....
ورد تشبه خالها في الكثير من الطباع مهما أنكرت ............
رأتها وعد و هي تنتزع السماعة من خلف أذنها قليلا .... لكن و قبل أن تنتبه لها .. سقطت من يدها في كوب الشاي الساخن !! .....
ظلت يدها مرفوعة في الهواء بصدمة و هي تحدق بكوب الشاي .... ثم همست بوجوم
( ماذا الآن !!! ............ )
لا تعلم وعد لماذا هذا المشهد جعل بعض الدموع تترقرق في عينيها بصمت .... فاستدارت مبتعدة بسرعة قبل أن تخونها مشاعرها أكثر و تنال المزيد من التحقير و الإهانة ........
لكنها لم تعلم أن ذلك اليوم مساءا ..... حين كان سيف قد وصل للبيت قبلها .....
كانت ورد تعد لها مفاجأة ........
فما أن رأته جالسا يطالع حاسوبه بإهتمام حتى جاءت و جلست بجواره بابتسامة زهو .... فنظر اليها سيف متوجسا ثم لم يلبث أن عاد بإهتمامه الى حاسوبه ....
لكن ورد بدأت الكلام قائلة ببساطة
( هل ستتأخر وعد اليوم ؟؟ ............ )
رد سيف دون أن ينظر اليها
( لا تخبريني أن معجزة قد حدثت و أنكِ قد اشتقتِ اليها !!! ......... )
ابتسمت ورد و قالت بهدوء
( في الحقيقة لم أفعل ...... لكنني سمعت خبرا أدهشني ........ )
رد سيف بلامبالاة و دون أن ينظر اليها
( ما هو ؟؟ ................ )
قالت وعد بخفة
( هل تعلم أن زوجتك فتحت ورشة خياطة ؟؟؟ ...........)
توقفت أصابع سيف عن العمل .... ثم رفع وجهه الى ورد يقول بخفوت خطير
( ماذا ؟؟ ........ من اين لكِ بمثل هذا الخبر الساذج ؟!! ....... )
ابتسمت ورد و هي تقول بهدوء
( الخبر أكيد ...... لقد فتحت ورشة خياطة في بيتها , حيث تعمل بها كل مساء ..... و هل تعلم من يعمل معها بنفس البيت ؟؟ ...... ذلك الصبي الذي كان يعمل لديك ساعيا ....... " علي ")
اشتعلت نيرانا سوداء ملتهبة في عينيه فجأة ...... ثم همس بخطورة
( من أين لكِ بمثل ذلك الخبر ؟!!! .......... )
ضحكت ورد عاليا ... ثم قالت ببساطة
( نصف الموظفات لديك .... هن زبوناتٍ لديها ...... أنت الوحيد الذي لا تعلم !!!...... )
ولو كانت أشعلت نارا في غابة .... لم يكن ضوءها ليماثل اشتعال الغضب في عيني سيف في تلك اللحظة .....
.................................................. .................................................. ......................
نظرت وعد مبتسمة الى المدعوة راوية ..... تلك العلقة خضراء العينين و التي ألقيت عليها بالقوة الجبرية ....
كانت تغلق سحاب فستان إحدى الشابات ...... و علامات الفخر ظاهرة بوضوح على وجهها .....
تلك الفتاة موهوبة فعلا .....
لقد كانت نجدة من السماء .....
إنها فتاة طريفة .... جذابة الملامح , تشبه هند رستم ...... و هي بسيطة النشأة و تحتاج لعمل مثل وعد و مثل علي
لذا فإن الثلاث أشهر الأخيرة .... جمع بينهم العمل في علاقة صداقة متينة .....
و بالفعل تلك العلاقة أثمرت عن نجاح معقول جدا ........
هي و راوية تمكنا بمفردهما من تفصيل العديد من الأطقم و الفساتين خلال الثلاثة أشهر ..... حيث كانت راوية تعمل على الماكينة صباحا .... ووعد تعمل عليها مساءا .......
نظرت العروس الشابة الى نفسها في المرآة ... ثم همست بتأثر واضح ...
( انه رائع ............ )
كان هذا الفستان عملا مشتركا بين وعد و راوية .... فستان خطبة من الاورجانزا الوردية و و الشرائط الذهبية ........
و ما أن نطقت العروس بذلك حتى رفعت راوية يدها و أطلقت زغرودة عالية جدا .....
جعلت كلا من وعد و العروس تضحكان بشدة ......
ثم لم تلبث أن فتحت المذياع و أدارته على أغنية راقصة .... لتمسك بعدها بيدي العروس و هي تهتف
( لا ينقص سوى أن نجرب إن كان الفستان يرقص أم لا ....... )
ضحكت العروس بقوة و هي تتمايل يمينا و يسارا متراقصة بالفستان الهفهاف .....
ثم خرجن الى علي الذي كان منتظرا في البهو مسندا وجنته الى كفه بملل ... فاقتربت منه راوية تجذبه من يده و هي تهتف
( تعال و ارقص معنا ........ )
لكنه قال بخشونة
( هل أنتِ هنا للعمل أم للرقص ؟!! ...... )
لكنها هتفت و هي تميل قليلا
( ارقص يا هادم اللذات .......... )
ظل علي متسمرا مكانه بحنق قليلا .... ثم لم يلبث أن انفجر بالرقص بكل كيانه حتى شهقت وعد ضاحكة الى أن دمعت عينيها ........
صفقت لهم وهي تراى الثلاثة يرقصون أمامها ........
الثلاثة كانو صغار السن .... فراوية و علي في السابعة عشر .... بينما العروس نفسها في التاسعة عشر
وعد وحدها التي كانت تشعر بنفسها عجوزا بينهم .....
لكن علي اقترب منها يمسك يدها وهو يقول آمرا
( ارقصي ....... )
صرخت وعد
( مستحيل ........ )
لكن راوية أمسكت بيدها الأخرى و هي تهتف
( ارقصي من أجل العروس ......... )
تلقائيا بدأت وعد في التمايل مهم في دائرة ..... نست فيها كل همومها .......
و استمر المرح اغنية خلف أغنية .......
الى أن تسمرت وعد مكانها فجأة و هي ترى سيف واقفا بهيئته الضخمة في اطار الباب !!!......
و كان مظهره غريبا .... مرعبا ......
توقف الجميع عن الحركة و هم ينظرون اليه برهبة ..... لكن سيف تنازل عن عيني وعد لينظر الى علي الواقف أمامه بشجاعة ....
فقال سيف بخفوت
( ألم آمرك أن تبتعد عن زوجتي ؟!! ........ )
وما أن فتح علي فمه ليتكلم ..... حتى عاجله سيف بصفعة قوية على وجهه!! .....
صرخت وعد و راوية .... و العروس .....أما علي احمر وجهه بكرامة شاب في مقتبل عمره .... لكنه لم يفتح فمه بكلمة وهو يضع يده على وجنته .... ثم اندفع خارجا من البيت
ثم سيف صرخ عاليا
( الجميع الى الخارج حالا .......... )
و خلال دقائق كانت راوية و العروس خارج البيت بعد ان بدلت ثيابها و اخذت معها فستانها , تاركتين وعد لمصيرها المظلم ......
كانت وعد واقفة مكانها ترتجف بشدة و يديها على فمها ..... بينما سيف واقفا أمامها بشكلٍ خطير .... ثم قال أخيرا بهسيس مرعب
( ألم آمرك بأن تبتعدي عن ذلك الولد ؟؟ ....... ألم آمركِ أن تتركي الخياطة و الإختلاط بالأغراب ؟؟ ... )
أزاحت وعد كفيها عن وجهها لتهتف بخوف و غضب بينما عينيها تدمعان بشدة
( و أنا أخبرتك أنني لن أتخلى عن الخياطة أبدا ...... تلك الماكينة هي أغلى عندي من الكثير من البشر )
صمت سيف قليلا وهو ينظر اليها بشر و ملامح قاتمة .... ثم لم يلبث أن قال بخفوت
( تلك الماكينة ؟!!! ......... )
و دون تردد ..... اتجه اليها ليرفعها بيديه عاليا ..... ثم قذفها على الأرض بكل قوته تحت أنظار وعد المرتعبة .... فتحطمت بصوتٍ منفر جعلها تفقد الوعي !!
.................................................. .................................................. ......................
دخلت كرمة الي البيت حيث فتحت بالمفتاح الذي سلمها له حاتم ...
ثم لم تلبث أن أغمضت عينيها و زفرت بعمق .....
على الأرجح حاتم هنا ..... كان يجب أن تدق الجرس ....
حسنا ليس من المنطق أن تخرج و تغلق الباب لتدق الجرس من جديد ....
لذا دخلت بهدوء و هي تقول بصوت واضح
( السلام عليكم ....... لقد عدت )
لكن لم يرد أحد .... فأمينة حين تعمل في المطبخ لا تسمع أحدا ...
تقدمت كرمة بهدوء و هي تظن أن حاتم لم يصل بعد ..... لكنها تسمرت مكانها حين وجدته مستلقيا على الأريكة .... ذراعه تحت رأسه و غائبا في سباتٍ عميق !!.....
تصلبت كرمة بصدمة .... و شعرت أن الحرج يقتلها .... ووقفت لا تعلم كيف تتصرف .....
لكنها اقتربت منه ببطىء و دون صوت .... الى أن وصلت اليه ...
حينها طافت عيناها عليه دون تفكير ....
إنها المرة الأولى التي ترى فيها رجلا مستلقيا في سباتٍ عميق غير محمد !! .... و وزوجي اختيه اللزجين الممددين غالبا .... لكن شتان ....
محمد يختلف ..... و الآن ترى حاتم مختلف ....
انه ضخم لكنه رشيق .... صدره ذو الضلوع المكسورة سابقا يتنفس بثبات و قد بانت عضلاته القوية من أزرار قميصه العليا
إنه وسيم ولا شك ..... بل شديد الوسامة ...
ابتسمت بلطف و هي تلاحظ ذقنه الحليقة و الظلال تحت عينيه ...
لم يعرف حاتم الذقن الغير حليقة الا بعد أن تداخل في حياتها ......
يبدو أنه لا يرتاح في شقته الصغيرة .... و لا يعرف النوم هناك ...
و يبدو أن لها نفس التأثير الغير حليق على كل من يعرفها من الرجال ........
عامة كل ذلك سينتهي قريبا
ابتسمت أكثر على الرغم من حزن نظراتها و انحنت بحرج لتربت على كتفه هامسة
( حاتم ....... حاتم ..... لقد أتيت ...... )
تحرك قليلا مهمهما .( أين كنتِ ؟؟ ...... )
.... لكنه عاد لينام ... فانحنت اليه مجددا تربت على كتفه قائلة بعطف
( حاتم أنه أنا ...... كرمة )
تحرك حاتم مجددا .... و فجأة وجدت يده ترتفع لتمس يدها على كتفه ..... وهو يهمهم مبتسما همهمات لم تفهم منها سوى همسا واحد
( أحبك ....... يا كرمة .... )
شهقت كرمة و هي تنتفض مبتعدة بذعر ... متسعة العينين .... الى أن ارتطمت بأبعد حائط ...
تنظر الى حاتم بذهول و رعب وهو يعود للنوم على جانبه ....
في لحظات عادت اليها كل كلمات محمد ..... كل ما قاله و ذكره ......
لقد كان محقا ......
حاتم يحبها ..... إنه رجل و يحبها رغم أنها متزوجة ... أو كانت متزوجة .....
محمد كان محقا ......
رجلا أحب زوجته ..... فماذا كان ليفعل غير ذلك !!...........
كانت تتنفس بسرعة و ذعر ...... لا تعرف هل تسيء الظن به أم أنها ستجعله الحجة لفشل زواجها لأسباب أخرى عديدة
كل هذا مر في ذهنها خلال لحظات .....
لحظات تقفها ملتصقة بالحائط و هي تنظر اليه بذعر .... و بداخلها احساس مقيت بالخيانة .....
محمد كان محقا .... رجل و اشتعلت دماؤه لمعرفته أن آخر يحب زوجته ......
محمد كان محقا ..... حتى هي ضربت علياء ما أن عرفت بزواجه .........
نعم إنها خائنة ..... كيف تساهلت و سمحت بذلك ؟!! ..... نعم بداخلها شعور بالخيانة ......
ظلت مكانها لحظات أخرى الى أن أبصرته يفتح عينيه كتمساح مفترس يتنفس بسرعة و كأنه ينفض حلما قويا كان يعيشه ...
ينظر للسقف قليلا وهو يغمض عينيه و يفتحهما .... ثم لم يبلث أن استدار ببطىء ليتسمر مكانه وهو يراها واقفة ملتصقة بالحائط مذعورة !!
انتفض حاتم جالسا بسرعة ... وهو يقول بخفوت و حرج
( صباح الخير يا كرمة ............ أنا آسف جدا , لقد غلبني النعاس )
صمت بحرج , ثم لم يلبث أن ابتسم قائلا بهدوء
( الواقع أنني أنام على هذه الأريكة أمام التلفاز ..... لذا ما أن جلست عليها حتى قضت على مقاومتي )
لم ترد عليه و لم يظهر عليها أي بادرة حركة ....
فعبس بشدة وهو يرى ذعرها .... فمد يده تلقائيا تحسس قميصه و عضلاته و حتى بنطاله .... لكنه لم يجد اي وضع يخدش الحياء !!
انها تبدو في غاية الذعر و البراءة ...... لا تبدو كامرأة متزوجة منذ عشر سنوات ....
نهض حاتم من مكانه ليقول عاقدا حاجبيه
( ماذا بكِ يا كرمة ؟؟!! ........... )
ابتلعت كرمة ريقها ..... لكنها اخذت نفسا عميقا ثم رفعت وجهها و هي تستقيم قائلة باتزان
( حاتم ...... أريد الكلام معك قليلا في أمر هام ... )
توترت أعصابه من نبرة صوتها .... و أيقن أن ما سيسمعه لن يسره أبدا .......
لكنه عاد ليجلس بهدوء على الأريكة ... ثم ربت عليها بجواره وهو يقول كالمرة السابقة
( تعالي ...... اجلسي بجواري )
ظلت متسمرة مكانها عدة لحظات .... لكنها تحركت لتجلس على بعدٍ منه مخفضة رأسها ....
وهو ينظر اليها .... كانت بهية جميلة كأجمل ما في الصباح ......
ترتدي بنطال ضيق من الجينز الأزرق ... و عليه كنزة صوفية فضفاضة تكاد تغطى فخذيها بانتفاخ أنيق ... و تلف وشاح صوفي نبيذي حول عنقها ...
أما ذيل حصانها المتموج كان غاية في الطرافة و الميوعة .....
كانت تتنفس من شفتيها المنفرجتين ..... لا يعلم إن كان ذلك بردا أم توترا .......
و كم تمنى لو يدفئها أو يهدئها ..... أي شيء يدخلها في أحضانه و السلام ....
تكلمت كرمة أخيرا بصوتٍ مشتد كالوتر
( حاتم أنا ......... سأسافر ... )
لم يكن جاهزا لتلك الصدمة .... و كأنها ضربته في منتصف صدره
همس حاتم وهو يهز رأسه قليلا
( تسافرين !! ...... الى أين ..... و كيف ...... رحلة أم ...... )
قاطعته كرمة بهدوء
( لقد راسلت السيد عماد طويلا ..... و عرض علي منذ فترة أن أنقل عملي للخارج معه وهو سيساعدني )
كان ينظر اليها و كأنه تحول لتمثال حجري ....
كل هذا فعلته دون أن يدري !! ..... و هو الذي كان من الغباء بحيث اعتقد أنها تعتمد عليه كلية !!
كلمت رجلا آخر .... و قبلت عرض عمل بالخارج لتتركه بهذه البساطة !!!
هتف حاتم فجأة بقوة جعلتها تنتفض ....
( لن تسافري يا كرمة ........ )
رفعت وجهها المذهول اليه , لكنه لم يعبأ بذهولها بل التفت اليها بكليته ... حتى مالت بها الاريكة اليه ...
و قال بكل قوة و عينيه في عينيها
( أريد أن أتزوجك يا كرمة .......... )
شهقت عاليا للمرة الثانية و انتفضت واقفة و هي تصرخ
( مستحيل ......... )
الا أنه اندفع ناحيتها وهو يقول بعنف
( ليس مستحيلا يا كرمة ....... أنا لا أفعل ذلك لأنني أعرض عليك المساعدة أو أي معنى تافه كهذا ..... )
استدارت كرمة بعيدا عنه و هي تشهق بعنف
لكنه تابع بقوة و إصار
( أنا أفعل ذلك لأنني أريدك يا كرمة ........ )
صرخت كرمة بقوة
( أصمت .......... )
الا أنه كرر بقوةٍ أشد و أعنف
( بلى يا كرمة ..... أنا أريدك و منذ وقتٍ طويل ,...... لكنني كنت أنتظر أن تتأقلمي وتتعافي من فكرة انفصالك ....... أنا أريدك يا كرمة .... )
صرخت كرمة و هي تغطي أذنيها بكفيها
( قلت لك أصمت .............)
قال بعنف
( كنت صامتا ..... لكن ما أن أجدك على وشكِ الضياع مني مجددا , فاعذريني .... لن أصمت )
التفتت اليه بعنف و هي تقول بشراسة
( الضياع منك مجددا ؟!!! ....... متى كنت لك كي أضيع منك ؟؟؟ )
ارتبك قليلا و أجفل من هول هجومها الضاري ..... لكنه لم يتخاذل , بل قال بكل صلابة
( مجرد رغبتي بكِ و أنتِ بعيدة المنال هو الضياع في حد ذاته ...... )
مالت اليه كرمة تقول بعنف
( لم يكن من حقك ............ إنها خيانة )
رفع يده يقول بشراسة مدافعا
( لا ....... مشاعري الخاصة , لا سلطان لي عليها .... و ليس من حق أي مخلوق أن يحاسبني عليها )
قالت كرمة بشدة
( اذن انا لا دخل لي بذلك ...... لكن موضوع الزواج , انساه يا حاتم ..... أنت بالذات مرفوض تماما )
رجع للوراء و كأنها صفعته بشدة ... ثم ساد الصمت بينهما ليقول بخفوت به نبرة صدمة
( أنا بالذات !!! ....... هل أنا منفر لكِ ؟؟ ...... )
لا ليس منفرا أبدأ ..... انه لطيف و شهم ....
لكن مشاعره تجاهها أشعرتها بالخيانة و القذارة .... و أثارت كل ألمها من جديد , خاصة بعد أن عرفت أم محمد كان محقا .....
لكنها آثرت الصمت على أن تعطيه الأمل ..... فالعرض فعلا مرفوض ....
لذا كتفت ذراعيها و أطرقت برأسها بعمد ..... و صدرها يخفق بعنف .....
و لم تسمع حولها سوى صوت أنفاسه الهادرة
الى أن قال أخيرا بصوتٍ خافت متقطع
( حسنا يا كرمة ....... هذا حقك ...... لقد سحبت عرضي .... و أعتذر لكِ )
ثم ابتعد عنها الى اتجاه الباب .... لكنه استدار اليها قبل أن يرحل و قال بصوتٍ شاحب و ملامح ممزقة
( لكن أعيدي النظر في موضوع سفرك ........ لا تتركي بلدك لأيٍ كان يا كرمة )
ظلت كرمة مكتفة ذراعيها مطرقة برأسها ...... الى أن سمعت خطواته الغاضبة و صوت الباب يصفق بعنف
حينها رفعت وجهها الشاحب و هي تنظر للباب بوجوم و عينين غائرتين
" لقد طعنته بشدة .... و أهانت رجولته ...... لكن مشاعره ما هي الا خنجر غُرِز في خصر محمد ..... "
دمعت عيناها و ارتجفت شفتاها .....
ثم رفعت وجهها و همست
( يجب أن أخرج من هنا .......... و حالا ........)
.................................................. .................................................. .....................
وقفت مكانها تنظر اليه طويلا ....
من جانب أحد الأزقة دون أن تكون ظاهرة .... وقفت تراقبه وهو يعمل في ورشته ...
يعامل سيارة مفتوحة بيديه المشحمتين بالساعدين الأسمرين القويين ....
يبدو نحيلا .... وجنتيه غائرتين رغم لحيته النابتة ..... و عظام وجهه نافرة .....
عيناه ضائعتان بغضب وهو يصلح السيارة ..... أو ينتقم منها ...
استدارت كرمة لتستند بظهرها الى جدار الزقاق ..... و هي تتنفس بألم ......
لقد أتت و أوشكت على أن تعتذر له ... تطلب سماحه ... و تسامحه .....
لكنها كانت لحظة تهور عاطفية ..... أما الآن فعقلها يتكلم , هل تستطيع الصمود من جديد ؟!! .....
تحركت كرمة من مكانها .... تشد ساقيها كي لا تنصاع لتهورها
ستذهب لبيتها ... تجلب بعض أوراقها التي تحتاجها و لم تحصل عليها منذ ثلاثة أشهر ....
ثم تبقى مع نفسها لتفكر .... هل تهرب منه أم اليه .......
أخذت نفسا عميقا ثم أسرعت الخطا .... ......
المفتاح لا يزال معها .... وهو لن يدخل البيت الآن .....
لذا وقفت أمام الباب تنظر اليه ... يشهد على تمردها و خروجها من قطبان طاعة محمد ....
ثم مدت يدها تفتحه و دخلت تغلقه خلفها ....
دارت بعينيها في أرجاء المكان الذي عاشت فيه أكثر سنوات عمرها كمكان واحد مستقر
هو نفسه .... بأرجائه و أركانه ......
لكنها فجأة سمعت صوتا جعلها تشهق مذعورة .....
لتجد فتاة شابة خارجة بذعر مماثل من الحمام و هي ملتفة بمنشفتها البيضاء !!! منادية باسم ... محمد !!
اتسعت عينا كرمة بصدمة و هي تنظر الى علياء ذات القوام النحيف الرشيق , تقف أمامها ملتفة بمنشفتها البيضاء التي لا تخفي منها الكثير
شعرها يقطر ماءا ...... و هي تقف أمامها بنفس الصدمة و قد مات اسم محمد على شفتيها ما أن رأت كرمة أمامها ...
رفعت كرمة يدها الى صدرها اللاهث و هي تنظر الي غريمتها .... عيناها تطرقان كل ذرة من جسدها العاري دون خجل و إنما بتمزق ....
و رغما عنها طارت عينيها الى السرير المشعث ..... سريرها مع محمد لأكثر من عشر سنوات
و الظاهر من باب غرفة النوم المفتوح ...
ثم أعادت عينيها الذاهلتين الى علياء و فغرت شفتيها ........ و دون أن تدري اقتربت منها ببطىء بينما وجه علياء يتلون و يشحب و هي تهمس بأسى
( سيدة كرمة ..... لم أكن أدرك أن ........)
الا أنها صمتت حين وصلت اليها كرمة بذهول الصدمة ... ثم رفعت يدا مرتجفة تمسك بحافة المنشفة الملتفة على صدرها .... هامسة بإعياء
( تلك ......... منشفتي !!! .....)
فانقبضت عضلات علياء بتوجس و رعب و هي تظن أن كرمة ستسحب منها المنشفة .....
لكنها لم تفعل .... لأنها جرت على الحمام و انحنت الى المرحاض تتقيأ بعنف مصدرة صوتا مخيفا
جرت اليها علياء و انحنت اليها ... ممسكة المنشفة بيد , بينما تربت على ظهر كرمة بيدها الأخرى و هي تهتف بقلق
( سيدة كرمة ..... ماذا بكِ ؟!!! ..... سيدة كرمة .... هل أرسل من ينادي محمد ؟!! ..... سيدة كرمة ...)
الا أن كرمة نهضت بقوة على ساقيها و دفعت علياء بعنف .... ثم اتجهت لى المغسلة تغسل وجهها و فمها بشدة
و ما أن أنتهت حتى نظرت الى علياء بصرامة مخيفة رغم شحوبها و صرخت
( اذهبي و استري نفسك بأي شيء ريثما آخذ أغراضي الخاصة .......)
تركتها علياء و جرت تفر من أمامها ... بينما رفعت كرمة وجهها تنظر الى المرآة الصغيرة أمامها .....
كانت تنظر الى جثة مشوهة الملامح .... قاسية العينين ....
ثم لم تلبث أن نزعت المرآة من مكانها بعنف و قذفت بها الى الأرض بأقصى قوتها كي تتهشم الى شظايا ....
و بعد فترة طويلة و ما أن خرجت حاملة أوراقها التي وجدتها سليمة لحسن الحظ مخبأة في مكان بعيد عن يد محمد الطائشة ....
حتى رفعت هاتفها تطلب رقما ...... و ما أن سمعت صوته القلق حتى نظرت للبعيد بتجمد و قالت بصوت ميت
( حاتم ...... أنا ....................)
.................................................. .................................................. ....................
بعد اسبوع ....
قالت كرمة بجمود و عينين غير مدركتين و هي تتشبث بهاتفها
( وعد .........لدي خبر لكِ أنا سأتزوج ........محمد أصبح من الماضي بالنسبة لي .. )
ساد صمت مهيب لعدة لحظات .... قبل أن تسمع الجواب الصلب من الجهة المقابلة
( جيد ....... و أنا أحضر جواز سفري ......... سأسافر ....للأبد ..و يمكنك وضع سيف في نفس الماضي الذي يحتوي على محمد ثم أحرقيهما معا بأقدم زجاجة بنزين لديكِ ..... . )
↚
عيناها باردتان و صلبتان و هي تنظر من نافذة غرفتها للخارج ..... لم يسعادها الظلام كثيرا ...
لكنها كانت غير قادرة على أن تحيد بعينيها عن الخارج .... الحرية .... حلم الهرب القديم ....
سمعت صوت باب الغرفة من خلفها لكنها لم تستدر و لم تعره اهتماما
انه هو ..... صوت خطواته تعرفها جيدا .....
أغلق الباب ووقف خلفها دون كلام لفترة ..... ثم لم يلبث أن قال بجفاء
( هل تظنين أن اضرابك عن الطعام يعتبر تهديدا لي ؟!! .........)
لم تمنحه حتى تنازل الرد ..... و ظلت مكانها تنظر من نافذة غرفتها و هي مكتفة ذراعيها بصمت جليدي
فاقترب منها أكثر وهو يقول بصوتٍ قاتم ....
( أنتِ تستهلكين آخر درجات صبري يا وعد ..... و أنصحك بالتوقف عند هذا الحد ....)
لم ترد عليه ..... و ساد صمت مخيف الى ان زفر بغضب وهو يقترب منها ليجذبها من ذراعها و يديرها اليه بالقوة .... فواجهت ملامحه التي بدت مخيفة في تلك اللحظة ....
لكنها رفعت ذقنها و نظرت اليه دون ان يرمش لها جفن .... فقال بصوت خافت مشدود تحت سطحه غضب ظاهر بعينيه جليا
( حين اكلمك أنظري لي ..... و ردي على ما أقول , .... لو أردت الاحترام فتعلمي أن تقدميه قبلا ...... )
لم ترد و ظلت تنظر اليه بجمود ... عيناها بعينيه , مما أشعل غضبه اكثر فهزها بقوة وهو يهدر
( ردي يا وعد ........ ... )
ظلت صامتة عدة لحظات ثم قالت أخيرا بصوتٍ جامد ثابت
( حاضر ........... )
كان يتنفس بغضب وهو ينظر اليها .... منذ ما حدث بينهما و هي تتبع مع اسلوب البرود و هي تعلم أنه أكثر اسلوب قادر على إخراجه من طوره ..... خاصة وهو لم يتسامح معها بعد ....
لذا قال بجفاء
( أنا لم أعاقبك حتى الآن على فعلتك ...... فراعي لك رجاءا .... لأنني أحاول جاهدا حمايتك من بطشي )
ردت وعد بأدب و بصوت جامد لا نبرة له دون أن تهتز حدقتيها
( عاقبني يا سيف ............ )
أجفل قليلا وهو ينظر الى وجهها المرفوع ناحيته و قد هزه طلبها البسيط الواثق .... و رغما عنه انحدرت عيناه عليها بصمت ..... فابتلع ريقه و هو يشعر بجسده يطلب نوعا آخر من العقاب .....
الحقيقة أن العقاب الحقيقي هو يفرضه على نفسه ببعده عنها منذ ما حدث .....
أيام طويلة....... يتجنبها بينما هي توليه كل البرود الذي تستطيعه .....
أيام طويلة ...... لم يقربها بينما جسده يزأر بجوارها كل ليلة طالبا بحقه فيها .......
لكنه يعرف نفسه جيدا حين يحركه غضبه .... و إن فعل فستكون تلك هي النهاية بالفعل .....
نعم إنه يحاول جاهدا حمايتها من بطشه ......
لذا قال بهدوء محاولا السيطرة على رغبته و غضبه في آنٍ واحد .....
( أنا لم أمِسِك بسوء...... لم أوجه لكِ كلمة ..... و حتى لم أمنعك من معاودة الذهاب الى والدك , على الرغم من أن أيا من كان في مكاني , كان يفترض به أن يفقد ثقته بكِ للأبد و لا يسمح لكِ بالخروج من البيت .... )
الحقيقة أنه أحمق تماما ..... فقد استغلت ثقته المزعومة في تحضير أوراق سفرها خلال الفترة الماضية ... ممتنة للفرصة السانحة لها .... و الى الجحيم بثقته الغالية ......
جذبها اليه حتى ارتطمت بصدره ليهدر بما يجيش بصدره منذ أيام طويلة من السيطرة على الذات
( كيف أمكنك ؟!!! ....... كيف أمكنك استغفالي بهذا الشكل ؟!! ..... السماح لهذا الولد بأن يبقى معك في بيتك .... بعد أن طردته من العمل !! ...... كيف أمكنك أن تكوني بمثل هذا الإنحطاط و أنتِ تعرفين مشاعره تجاهك !!! ......
كيف أمكنك التنزيل من قدري و أنتِ تخيطين ملابس كل الموظفات لدي في حمام الشركة كالخادمات .... و أكون أنا آخر من يعلم !! .......
هل يمكنك تخيل الى أي حد أسأتِ الى كرامتي كرجل و زوج ... و رب عمل ! ..... )
لم تهتز بها عضلة و هي تستمع بهدوء الى هديره الغاضب .... و ما أن انتهى حتى قالت ببرود
( تزوجتني و أنت تعلم أنني أعمل خياطة .... و ساعية .... و أحيانا خادمة ..... تزوجتني علنا كي تضعني على خط النار مع الجميع .... و أنا أحاول التعامل مع ازدرائهم و ذهولهم ... و حتى شفقة البعض ..... )
صرخ وهو يهزها بقوة
( لكنني أوقفت كل ذلك قبل الزواج ...... منحتك اسمي .... و فرصة عمل لا تتاح الى مئات مثلك .... و كل ما طلبته منكِ هو مبادلتي الإحترام ....... )
سكت قليلا بينما وجهه منتفخ من شدة اندفاع الدم في أوردته ..... ثم هدر صارخا ليتابع
( ماذا استفدتِ من كل ذلك ؟!! ....... ماذا كان هدفك من تلك التصرفات ؟؟ ....... )
قالت وعد بقوة و قد اشتعلت عيناها
( أخبرتك أنني لن أترك الخياطة ..... أنها الشيء الوحيد الذي اخترته بنفسي .... أخبرتك أنني لن أتقبل أن يتحكم بي أحد من جديد ...... لقد تحملت والدي لسنوات طويلة لأنه والدي دون أن أختاره .....
لكنني لست مجبرة الآن على تحمل أحد ........ )
سكتت و هي تراه يجفل من هجومها فتابعت بقوةٍ أعلى
( فرصة العمل الغالية التي قدمتها لي ما هي الا عرض مسرحي سخيف .... لم يهدف سوى الى المزيد من التحقير من شأني و أنا أرى الجميع يزدروني على مكانٍ وهمي دون عمل ...... )
هتف فجأة دون تفكير
( و ما ذنبي إن كنتِ فاشلة !!! .......... )
عم الصمت المكان بينهما بينما ظلت كلماته معلقة بينهما .... الا أنه رفض التراجع الآن فهتف بقوة
( أتعلمين ما أنتِ ؟!! ...... أنتِ أكبر انسانة انهزامية عرفتها بحياتي ..... توقفتِ عند نقطة واحدة لتبكين على نفسك ليل نهار .... بينما لم تحاولي بذل الجهد مع نفسك ولو قليلا ....
جهد قد يكون أقل بكثير من مجهود الخياطة ... أو حمل السجاد و تنظيفه !! ......
أنت تعشقين التحقير من نفسك ........ بكل تصرفاتك و أفعالك ....
حين عرضت عليك الزواج كنت جادا ...... كنت جادا بطلبي لدرجة لعينة .... جعلتني أتحدى أمي و شقيقتي ... و المجتمع و الماضي .... و كل منطق يخبرني أنكِ لستِ الإنسانة المناسبة .... و أن التكافؤ بيننا غير موجود بالمرة .....و أن الغدر يجري بجيناتك )
صمت قليلا يأخذ نفسا حاد ..... ثم تابع
( لكنني راهنت عليكِ ...... أكتفيت برؤية الأفضل بكِ ....
بأنكِ مكافحة .....
بأنكِ استطعتِ اكمال تعليمك رغم كل ظروفك ..... و منحتك كل ما تحتاجين كي تبدأي ببناء هدف و كيان لكِ ...... لكن ماذا فعلتِ ؟!! ......
فشل بكل شيء ..... فشل بالتدريب و فشل بالوظيفة .... و فشل حتى في احترام لقبك الجديد كزوجة سيف الدين فؤاد رضوان ..... و حططتِ من شأنك و شأني و أنتِ تعملين بعمل لا يليق بوضعك الحالي ... تجرين خلفك شاب أحمق مدله بحبك ... حتى وصلت بكِ الوقاحة أن تصطحبيه الي بيتك كل يوم و كأنك تقيمين معه ..... تركتِ الهدف الذي رسمته لكِ و اخترتِ طريق يعيدك الى نفس النقطة التي تعشقين تمثيل دورها
وعد القادرة و العاشقة للشقاء ... متجاهلة تعليمها و صحتها و حتى كرامتها ......... )
انتهى من كلامه .... وهو يلهث من فرط غضبه , .... بينما كانت عيناها تنظران اليه بانعدام رؤية ....
نظر اليهما فوجدهما مغطاتين بغلاف زجاجي .... دون ان يظهر اثر لضعف الدموع على وجهها ...
عيناها كانتا قاسيتان للغاية ..... على الرغم من طبقة الدموع التي ظهرت بهما ...
و على الرغم من قسوتهما .... لكنه لا يزال يحبهما .... و بشدة ....
و طبقة الدموع تلك كانت أقسى عليه من العويل و النواح .....
أخذ نفسا عميقا .... ثم قال بجفاء و قد اتخذ قراره
( لقد انتهى عملك بالشركة يا وعد ..... و اليوم انهيت ورقك بها .....
لقد كنتِ محقة في أن الوضع كان اساءة ... ليس لكِ فحسب , بل لي أيضا ..... الجميع يواجهونني بنظرات لوم و رفض .... بسبب فرضك على العاملين هناك دون مؤهلات عملية ... و ليست مجرد شهادة ورقية لا فائدة منها ..... كان عندي أمل في أن تحاربي من أجل اثبات ذاتك ..... لكنك وضعت النهاية سريعا بفعلتك تلك على مرأى و مسمع من جميع العاملين لدي ........ )
صمت قليلا يتنهد ... ثم قال بخشونة
( اسمعي ..... ليس عيبا أن تكوني مجرد ربة منزل .... و الحقيقة أنني بت أرى أن ذلك هو الحل الأمثل لكِ و لي ..... و منذ اليوم ستحاولين جاهدة تحسين علاقتك بأمي و شقيتي ..... و تبدأين التعامل كزوجة تحترم زوجها و اسمه ...... )
سكت ينظر الي عينيها ثم مد يده فجأة ليقبض على ذقنها يرفع اليه بقسوة وهو يقول
( و أقسم بالله يا وعد .... لو علمت أنكِ حاولتِ التواصل مع ذلك الولد من جديد , فسيكون تصرفي معك حينها شديدا لدرجةٍ ستوجعك طويلا ..... )
تجمد الكلام بينهما .... و بقت تنظر اليه كتمثال بارد من الرخام .... مظهر الحياة الوحيد به . هو تثاقل طبقة الدموع بعينيها حتى سقطت بصمت منحدرة على وجهها ......
ارتعش فكه قليلا وهو يتأمل دمعتيها الصامتين .... لكنه لم يكن مستعدا لسماع صوتها الميت و هي تقول تذكره
( وعدتني ذات يوم الا تؤذيني ......... )
أجفل من عبارتها الميتة و النابعة من حلقها المتورم .....لكنه قال بجفاء صامت
( لن أفعل ..... لو تكبدتِ بعض الإحترام ..... )
ظلت وعد تنظر اليه من خلف دموعها ... ثم قالت أخيرا بنفس الصوت الميت
( لكنك فعلت .......... )
اهتزت شفتاه للحظة و كأنها صفعته ...... لكنه تركها فجأة ليقول بفتور
( حضري نفسك لتناول العشاء معنا .... و ستفعلين كل يوم منذ الآن فصاعدا )
ابتعد الى الباب مجددا .... لكنها استوقفته قائلة بهدوء
( سيف .......... )
توقف مكانه للحظات ... ثم استدار اليها بصمت و جفاء , فقالت بثقة ووعد
( ستدفع ثمن ماكينتي التي كسرتها ...... )
ابتسم بسخرية .... ثم قال بهدوء
( و ما الجديد ؟!! ..... أنا دائما أدفع ........ حددي المبلغ الذي تريدين و سأضيفه لحسابك ... )
ابتعد خطوة لكنه عاد ليلتفت اليها قائلا ساخرا
( و طبعا لن يكون ثمن قطعة الخردة التي كسرتها ..... اليس كذلك !... )
ثم ابتعد عنها خارجا ..... بينما وقفت تنظر الى الباب المغلق من خلف غلالة دموعها .... ثم قالت بصوت يهتز بقوة
( لقد حددت الثمن فعلا ........ يا سيف الدين فؤاد رضوان )
.................................................. .................................................. .....................
دخلت وعد بخيلاء الى غرفة الطعام ....
و نظرت الى الأعين التي ارتفعت اليها بتعبيرات متباينة .... لكن لم يكن من بينها أي تعبير ايجابي أو متعاطف ....
لكنها لم تهتم و اتجهت بهدوء الى أبعد كرسي و جلست دون كلام ....
و ما أن فعلت حتى نهضت مهرة من مكانها و هي تقول بحدة و صلف
( بعد اذنكم ...... لقد فقدت شهيتي , سأذهب الى غرفتي .... )
الا أنها و قبل أن تتحرك .... قصف صوت سيف عاليا بدرجة جعلت وعد نفسها تنتفض
( اجلسي مكانك ......... )
ارتجفت مهرة من صوته .... لكنها همست بصوت مختنق و شفتيها ترتجفان بشدة كالأطفال
( لكنني لا أريد الأكل ...... )
هدر صوت سيف مجددا
( و مع ذلك ستجلسين حتى و لو لم تأكلي ........ )
جلست مهرة ببطىء و قد امتلأت عيناها بالدموع غير مصدقة لمعاملة سيف ..... بينما كانت وعد تنقل نظراتها بينهم ببرود و كأن الأمر لا يعنيها .....
و التقت عيناها بعيني ورد .... فنظرت اليها بتحدي و هي ترفع وجهها ...
رفعت منيرة ذراعيها تستند بمرفقيها الى سطح الطاولة ... خافضة رأسها تستند الى كفيها و هي تتنهد بصمت ....
فقال سيف بهدوء
( ماذا بكِ يا أمي ؟؟ ......... هل أنتِ متعبة ؟؟ ....... )
هزت رأسها نفيا دون أن ترفعها .... بينما قالت ورد بهدوء
( الجميع كان بحالٍ أفضل منذ عدة أشهر ..... لينقلب فجأة حالنا بفعل سحر أسود .... )
قال سيف بقوة
( كفى يا ورد .......... )
تلاعبت وعد بطبقها ناظرة اليه بصمت .... بينما الجو المشحون يزيدها تبلد و جمود .... ثم قالت أخيرا بهدوء
( لقد سأل والدي عنكِ بالأمس ....... يا عمتي )
ارتفعت الرؤوس اليها مجددا و شعرت وعد و كأنها اصبحت هدفا لنيرانهم .... و سيف اكثر من الجميع , حيث قال بقسوة دون تفكير
( اخرسي و تناولي طعامك ....... )
رفعت عينيها اليه ..... و التقت أعينهما طويلا في حرب صامتة ... و همست بداخلها
" حسنا يا سيف ...... زد من الثمن ..... ليس هناك أقرب من وقت الحساب "
أخفضت وجهها الى طبقها .... الا أنها شعرت بصدمة حقيقية حين سمعت صوت منيرة يقول بخفوت
( ماذا قال ؟!! ....... )
نظرت وعد اليها بدهشة حقيقية ...... و لم تستطع منع نفسها من النظر الى سيف مجددا , لتجد أن عيناه تحولتا الى الجحيم بعينه .....
لكنها لم تمتثل لنظرة التهديد و التفتت الى منيرة تقول بجمود
( قال أنه يريد رؤيتك ......... )
هتفت ورد بقسوة تكاد أن يكون جنونا
( على جثتي ......... سأكسر قدمه قبل أن يخطو الى هنا )
نظرت اليها وعد بعينين قاسيتين منتفضتين تبرقان بغضب ..... لكنها أمسكت نفسها عن الرد , التفتت الى منيرة تقول بجفاء
( لم يعد بمقدوره الحركة الآن ........ حتى طلبه في رؤيتك ... نساه خلال دقائق ... لكن توجب علي أن أخبرك بذلك ....... )
كانت منيرة تنظر اليها بعينين معذبتين ... ثم قالت بخفوت
( ألم يذكر شيء آخر ؟!! ...... )
نظرت اليها وعد .... متجاهلة باقي الأعين الشاخصة اليها بجنون ..... ثم قالت بخفوت
( أراد أن يطلب منكِ السماح ........ )
أصدرت ورد صيحة استنكارية ساخرة ( هااااااااااااا...... ياللمهزلة !! )
لكن وعد تجاهلتها تماما .... و نظرت الى منيرة تقول ببرود و هي تهز كتفها
( هذا هو كل ما قاله ........... )
نظرت اليها منيرة طويلا ثم قالت بخفوت صادمة الجميع
( و أنتِ ؟؟ ...... ما هو رأيك ؟؟ .... )
صرخت ورد بجنون و هي ترمي معلقتها بوقاحة محدثة ضجيج عالي ( أمي !!!!!!! ..... هذا جنون )
.... بينما غطت مهرة أذنيها بكفيها .. مغمضة عينيها .....
لكن منيرة لم تنظر الى ورد بل ظلت ناظرة الى وعد .... و أعادت بنفس الخفوت
( ما رأيك ؟؟ ........... )
كانت وعد تنظر اليها بصدمة داخلية ...... إنها المرة الأولى التي تعيرها منيرة اهتماما ...
أخذت نفسا قصيرا بعد فترة ... ثم قالت بجفاء و هي تعاود النظر الى طبقها تتلاعب به ...
( رأيي !! ...... رأيي هو أنكِ رأيتِ من أخيكِ الكثير من الظلم ..... لذا لما لا تضغطين على نفسك مرة أخيرة .... و ترين طلبه للسماح ...... سيكون ذلك أفضل من موته دون أن يفعل ....لكِ و له ..... )
صرخت ورد و هي تنتفض من مكانها كالمجنونة
( هذا مستحيل ....... أقسم أن أترك البيت لو حدث ذلك ..... )
ثم التفتت الى سيف صارخة
( سيف ....... تصرف .... قل شيئا ....... هل نسيت ؟!!! ..... هل نسيت سجنه لك و صفعاته ....
و ماذا عني ..... ماذا عن ضربه لي حتى فقدت الوعي !! ....
و ماذا عن حقنا بالميراث و الذي سلبه رغم حاجتنا اليه لعلاج أبي .... و ربما لو كنا حصلنا عليه لكان أبي الآن لا يزال على قيد الحياة ...
و ماذا عن أمك التي أجبرها بالقوة على معاشرة رجل غير والدنا !!.....حتى مات والدي بعدها ان لم يكن بسبب المرض , فبالتأكيد بسبب القهر ..... . )
أغمضت منيرة عينيها و هي تشعر بالإنتهاك .... دون القدرة على الدفاع عن نفسها .....
لكن سيف لم يوقف ورد كالمرات السابقة ..... و نظر الى مهرة التي كانت لا تزال واضعة يديها على أذنيها و هي تهتز الى الأمام و الخلف مغمضة عينيها حتى تنتهي الأزمة .....
أفلتت شهقة باكية فجأة من ورد .... فرفعت يدها تغطي فمها ....
حينها نظرت وعد اليها بصدمة أخرى ..... ورد تبكي !! ..... لم تظنها تنتمي أبدا الى عالم البشر ......
نظر سيف الى ورد بصمت طويلا ..... بتعبير غير مقروء .....
ثم التفت الى وعد يقول بلهجة الأمر
( اخرجي من هنا ............. )
نظرت وعد اليه طويلا و التقت أعينهما ..... ثم نهضت دون كلام متجهة الى باب البيت ....
الا أن صوت سيف قصف من خلفها كدوي المدافع
( الى غرفتك ......... و ليس خارج باب البيت )
وقفت مكانها دون أن تستدير اليه ..... و باب البيت أمامها ....
لكنها تمكنت من السيطرة على نفسها في اللحظة الأخيرة بكل قوة ارادة ...... و استدارت مغيرة وجهتها حيث صعدت السلم .... الى غرفتهما ......
سقطت ورد على كرسيها مجددا و هي ترفع كفيها الى وجهها لتبكي بقوة ...... و سيف ينظر اليها بصمت ... ثم دون كلام نهض من مكانه و اتجه اليها , فانحنى يحاوطها بذراعه و ضمها الى صدره بقوة ....
هتفت ورد بصدره باكية بقوة
( أريد ان أموت ............. )
ابتسم قليلا و قال بخفوت
( سألحق بكِ لو فعلتِها ...... يا حمقاء , أتظنين أنني أستطيع الحياة بدون نكدك ؟!! .... )
هتفت ورد بإختناق و هي تخبىء وجهها بصدره
( لقد بكى أبي يا سيف ...... ليلة زواج أمي ..... دخلت غرفته لأجده يبكي ...... )
أظلمت عينا سيف بألم ....... و شدد من ضمها اليه .....
بينما نهضت منيرة من كرسيها بصمت كي تبتعد عنهما .......
.................................................. .................................................. ......................
جلست وعد على حافة السرير تنظر الي النافذة .... تنتظر اللحظة التي سيدخل فيها سيف الى الغرفة و يعطيها ما تستحقه من العقاب .... و كم كانت متلهفة اليه ....
فكل ما يفعله يزيدها قناعة .... و صلابة ..... و يقتل كل انجذاب أحمق شعرت به ذات يوم ......
لكنها على الرغم من انتظاره ... انتفضت رغما عنها حين سمعت صوت الباب يفتح خلفها
فاستدارت مذعورة ...... لكنها صدمت حين وجدت منيرة تدخل بهدوء مغلقة الباب خلفها ...........
توترت وعد و انقبضت كفيها و هي تنهض لتواجهها متوقعة الأسوأ ......
فاقتربت منها منيرة ..... ووقفت أمامها بصمت ... ثم رفعت يدها فجأة و تلمست وجنة وعد برقة ....
ارتجفت وعد تحت ملمس أصابعها الحانية ... بينما همست منيرة بتأمل
( أنتِ تشبهين أمك للغاية ...... كيف غفلت عن ذلك في المرة الأولى ؟!! ....... )
همست وعد بخفوت مذهول
( قلتِ من قبل ..... كيف غفلتِ عن عيني والدي ...... )
هزت منيرة رأسها نفيا و هي تبتسم بحزن ..... ثم همست
( بل تشبهين أمك ........ كانت جميلة مثلك .... )
همست وعد بأمل
( هل كنتِ تعرفينها جيدا ؟!! ........ )
ابتسمت منيرة و هي تقول بخفوت
( ليس تماما ......... لكني كنت أعرف ما تعانيه على يد والدك ..... )
همست وعد و هي تشعر بغصة في حلقها
( هل عانت الكثير ؟؟ ............ )
تنهدت منيرة بروح مثقلة ..... ثم همست
( نعم يا وعد عانت الكثير ..... حتى فقدت الكثير من مشاعرها , و باتت دمية بلا روح )
ابتلعت وعد تلك الغصة المسننة و دمعت عيناها .... ثم همست باختناق
( لقد نصبت نفسي حاكما عليها لسنوات طويلة ...... و لم ادرك أنني أتحول الى مثلها عاما بعد عام .... دمية بلا روح ........ )
انحنت عينا منيرة بحزن دون أن تفقد ابتسامتها ... و همست بقلب مهموم
( و أنا نصبت نفسي حاكما عليكِ لفترة طويلة ..... قبل أن أحاكم نفسي )
رفعت وجهها الى وعد تنظر اليها بصمت قليلا قبل أن تقول
( كان يجب أن أمنح احساسي الأول فرصة ......... )
همست وعد مستفسرة
( احساسك الأول ؟!! .......... )
أومأت منيرة برأسها ... ثم همست
( حين رأيتك لأول مرة ...... شعرت بقلبي يهفو اليكِ دون تفسير .... و بعدها ظللت الح على سيف كي يحضر الينا بصفة دائمة ...... )
ضحكت قليلا ثم تابعت مقلدة صوت سيف بخشونة
( لكنه قال بغضب " وعد ليست دمية يا أمي ... أحضرها كي تلعبين بها ".... )
ضحكت وعد قليلا بينما دمعت عينيها بغزارة ..... و كذلك منيرة التي تابعت تقول بجدية
( بكِ شيء نظيف يا وعد ....... حافظي عليه )
تابعت وعد تكمل الجملة و هي تضحك بأسى
( و العديد من الأشياء الغير نظيفة ........ )
ضحكت منيرة و هي تمسح دموعها ..... قبل أن همست
( كلنا كذلك ........... )
ثم رفعت و جهها .... تنظر الي وعد بقوة و همست
( سأذهب الى عبد الحميد ......... )
اتسعت عينا وعد بصدمة و همست بذهول
( حقا ؟!! .................. )
أومأت منيرة و هي تقول
( نعم ....... سيريحني ذلك )
ترددت وعد قليلا .... ثم أخفضت وجهها و همست
( أبي أصبح يمر بحالات من الخرف و النسيان ..... و فقد القدرة على الحركة و التصرف .... لو كنتِ ذاهبة كي تشمتين به فلا تفعلي ...... ليس من أجله , لكن صدقيني .... تلويث نفسك لن ينفعك , بل سيضرك جدا )
ابتسمت منيرة قليلا بحزن ... ثم همست
( من عاش الظلم طويلا ..... لن يمكنه الشماتة ..... فقط يتمنى الراحة ..... )
ابتلعت وعد ريقها .... و بداخلها كذبة , .....
كذبة ابتدعتها عن طلب والدها السماح من منيرة ...... لأنه لم يفعل في الواقع .......
لكن نجح هدفها .... و ها هي منيرة تصدق طلبه السماح و قد ترتاح أخيرا ......
قالت منيرة تقاطع أفكارها
( وعد ....... لو أرحت والدك في طلب سماحه , هل تردين لي المقابل ؟؟ ..... )
عقدت وعد حاجبيها بحيرة .... ثم همست
( و ما هو المقابل ؟!! ........ )
مدت منيرة يدها تحيط بها وجنة وعد .... ثم نظرت الى عينيها و همست
( المقابل الا تجرحي سيف ....... سيف قلبه معلق بكِ ..... لا تفطريه أرجوكِ .... )
فغرت وعد شفتيها .... ثم عادت و أغلقتهما بحزم لتقول بهدوء و هي تربت على كف منيرة
( قلب سيف لم يكن أبدا معلقا بي ....... لا تخافي , ... سيف يستحق الأفضل ..... )
انحنى حاجبي منيرة بحزن و قلق ..... لكن وعد تابعت و هي ترفع وجهها
( و أنا كذلك ............ )
تألمت ملامح منيرة ما بين خوف و حسرة .... لكن وعد بللت شفتيها و تظاهرت بالقوة و اللامبالاة و هي تقول متجهة الى أحد أدراجها
( هناك شيء آخر لكِ من أبي ....... لم أخبرك به بعد كي لا يسمعه أحد )
أخرجت وعد ورقة و ناولتها لمنيرة و هي تقول بهدوء
( هذا عقد تنازل عن الشقة لكِ ......... و هي آخر ما يملكه والدي في هذه الدنيا , اعتبريها جزء من حقك الذي سلبك اياه ...... )
أمسكت منيرة بالورقة مذهولة .... لا تصدق ما سمعته !! ...... هل وصل عبد الحميد لدرجة التنازل لها عن آخر ما يملك !!! ......
قالت منيرة و هي تضع الورقة في يد وعد رافضة بقوة .....
( لا .....إنها من حقك ...... )
الا أن وعد قبضت على يد منيرة و الورقة بكفيها و قالت بحزم
( لا ...... إنها وصية والدي في حياته , و أنا سأنفذها ...... لا مجال للرفض .... )
ارتجفت منيرة و هي تنظر الى الورقة بذهول ..... بينما تابعت وعد نظراته بشبه ابتسامة باهتة ....
ابتلعت منيرة غصة في حلقها و همست باختناق
( شكرا لكِ يا وعد ....... شكرا لأنكِ أخبرتني بما قاله عبد الحميد ..... )
أومأت وعد برأسها و الدموع تغشى عينيها بغزارة ... ثم همست بإختناق
( شكرا على إحساسك الأول ......... )
أومأت منيرة كذلك و الدموع تغلبها .... ثم خرجت بسرعة تطلب بعض الخلوة لنفسها .....
بينما وقفت وعد مكانها تستنشق نفسا .... شعرت به نظيفا للمرة الأولى .....
لكنها أدارت وجهها ما أن سمعت صوت صرير سيارة سيف ... ينطلق بها خارجا ككل ليلة .... فوقفت تنظر الى شبحها المنطلق في الظلام بجمود ..... و همست بفتور
( على الأقل لا عقاب الليلة .......... )
لكنها كانت مخطئة ...... فشياطينه السوداء أعادته اليها كما فكرت لاحقا ......
أما هو ..... فشعوره يختلف ....
أراد كرهها و بشدة .... و في نفس الوقت أراد حمايتها من نفسه في تلك اللحظة .....
لكن و بعد ساعات من الجنون بسيارته خارج المدينة .... أيقن أنه يجب أن يعود ....
أن يعود لعينيها ...... لم يعد يقوى الإبتعاد أكثر .....
وعد العمري هي احدى مكونات دمه .... شاء أم أبى ......
و عينيها هما نافذتي روحه ......
اندس قربها مضيئا ضوء المصباح الجانبي الخافت .... ليتأملها و هي توليه ظهرها على ضوؤه الذهبي .....
كانت كلوحة مرسومة .... لرمز الجمال في قميصها الحريري الطويل .....
تنهد بكبت وهو يطيل النظر ...... لقد فجرت بيته الليلة ... و أحرقت روحه بنار الغضب .....
و ها هو الآن بجوارها يشتعل بناره .....
مد يده يتلمسها برفق على طول جسدها ...... و سرعان ما أغمض عينيه ... و ياللعجب , مع لمسته الطويلة المحرقة لها ... كانت أول صورة قفزت الى خياله .... صورتها و هي تقف في مكتبه منحنية الرأس .... و ذلك حين رآها لأول مرة .....
حين رفعت وجهها و تلاقت أعينهما للمرة الأولى .......
رعشة جسده وقتها ..... كانت هي نفس رعشة جسده الآن وهو يتلمسها بحرية .....
حين شعر أنه وصل الى أقصى درجات قدرته على التحمل .... مد يده يديرها اليه و هي نائمة بملامح شاحبة مزرقة .....
فتأملها بصمت و عيناه تطرقان أرضه بثمارها ...... دون أن يغفل عن أي جزءٍ منها .....
و في النهاية مد يده يقبض على ذقنها و هبط برأسه اليها يشبع من جوعه العنيف ....
الا أنها انتفضت شاهقة بقوة ... محاولة استيعاب جنونه المفاجىء .... و ما أن استردت وعيها حتى أدركت أنه أحاطها بذراعيه بقسوة يضمها اليه , يكاد أن يكسر ظهرها ....
فتولد الرفض بداخلها بالغريزة بعد ما كان بينهما .....
مدت كلتا يديها تبعده عنها بقوة و هي تهتف بغضب
( ابتعد عني ........ )
لكنه كان كمن أشعل النار في الغابة و انتهى الأمر .....
ياللهي كم بدا غاضبا ..... و كم أثار ذلك المزيد من غضبها , فضربته في صدره بكلتا قبضتيها و صرخت
( ابتعد عني ........ ماذا تفعل ؟!! .... )
و على الرغم من فورة مشاعره الكاسحة .... الا أنه تمكن من النطق همسا فوق عنقها مثيرا بها نوبات من الغضب و الجنون و الرفض
( لقد فكرت في طلبك ....... و قررت أخيرا .... بما أنك ستبقين ببيتك ... أن تشغلي وقت .... فراغك بطفل صغير ...... يمنعك عن اذية الناس و افتعال المشاكل ..... )
كان ينطق كلماته الهادئة الباردة بينما تتخللها قبلات مجنونة كلما أنهى كلمة ....
أبعدت وجهه بكلتا يديها و هي تصرخ بذهول
( ماذا ؟!!! ...... أتظنني تحت أمرك ؟!! ......لو كنت تحيا في زمن الجواري لعاملت جاريتك بطريقة أفضل من ذلك !! ..... )
تسمر من مكانه و هو يشرف عليها .... و بدا وجهه ما بين احمرار الإثارة ... و قتامة الغضب
لكنه حين تكلم قال بخفوت شرس
( لقد زادت وقاحتك ..... و أنا حذرتك ..... )
صرخت وعد بجنون و هي تضربه في صدره بعنف
( اذهب انت و تحذيرك للجحيم ..... أنا أكرهك ..... أكرهك يا سيف .... ابتعد عني )
الا أنه التف حولها فجأة ليرفع ذراعيها فوق رأسها فانتابها الجنون و هي تتلوى صارخة ... الا أنه كتم صرختها ببركان ثورته ..... و سرعان ما سيطر عليها كلية ... حتى بدا تنفسها كشهقات موجعة ....
حاولت الرفض و المقاومة .... الا إنها لم تستطع أكثر ....
فأغمضت عينيها و هي تبكي بصمت
" ياللهي .... لم تتناول أقراص منع الحمل منذ فترة .... "
صرخت مجددا برعب من فشل مخططها
( ارجوك يا سيف ...... ارجوك اتركني ..... )
رفع وجهه عنها وهو يلهث بجنون .... و استمر في النظر اليها طويلا .... ثم همس أخيرا
( أتذكرين أول مرة نظرت بها الى عينيكِ ؟؟ ....... )
سكنت فجأة و هي تعقد حاجبيها ... بينما شهقاتها تتوالى بجهد و عذاب .... فتابع سيف وهو يخفض فمه الى ان لامس أذنها
( تلك اللحظة ...... عرفت أنكِ الخطر بعينه و كنت محقا ...... )
تلمست شفتيه وجهها المرتجف برفق .... بينما اطبقت جفنيها بشدة , فتابع هامسا بغضب اسود
( لماذا تتصرفين بهذا الشكل دائما ؟؟ ...... لماذا تثيرين جنوني لتلك الدرجة ؟؟ ...... )
بكت وعد بصمت بينما ارتخى جسدها بتعب ..... ثم همست
( ليس الآن يا سيف ....... أرجوك ..... ليس الآن ..... )
لكن سيف همس بصوتٍ أجش .....
( سأحتقر نفسي لهذا طويلا ...... لكنني مضطر للنطق بها كي تغلقي فمك البشع .... أنا أحبك يا وعد .... )
تجمدت تحته تماما ..... و فغرت شفتيها و هي تنظر اليه عاقدة حاجبيها بذهول و همست بعد فترة طويلة جدا
( لماذا ؟!! ........... )
ضحك وهو يهز رأسه بغضب واضح .... لكنه لم يتنازل للرد .... و كان الفعل هو أبلغ رد على سؤالها المنطقي .....
الا أنه لم يكن كافيا ...... هذا ما فكرت به بجمود و هي تستلقي بجواره منهكة القوى بعد أن راح في سبات عميق
.................................................. .................................................. ......................
بعد عدة أيام ...
صعد سيف غاضبا السلالم كل درجتين معا ......
يوشك على خنقها ..... لقد تأخرت في الوصول الى البيت ... بالإضافة الى اغلاقها هاتفها منذ الصباح ...
تلك الغبية تستنفذ كل صبره ....
منذ تلك الليلة المجنونة بينهما و هي تلتزم الصمت بعناد الدواب .....
يكاد صمتها و برودها اللذان تزايدا جدا بعدها يفقدانه صوابه ..... لقد اعترف لها بحبه !!!
و لو كان قد توقع منها أي استجابة فقد خاب أمله ....
نعم هذا هو السبب الحقيقي لغضبه الآن ..... لم تهتز ولو شعرة فيها لاعترافه .....
لعن ضعفه الذي جعله يعترف لها بمثل هذا الإعتراف رغما عنه على الرغم من أنه لم يتسامح و لم يمنحها ثقته من جديد .....
وصل الي باب شقة والدها ... و طرقه بقوة ....
لكن قلقا غريبا اندلع بصدره وهو يرى الظلام المدقع ظاهرا من الشراع الزجاجي للباب ....
توقفت يده عن الطرق قليلا ..... و عقد حاجبيه بشدة , ثم لم يلبث أن أخرج مفتاح البيت الذي حصل على نسخة منه للضرورة و فتح الباب بيدين ترتجفان ... ثم أشعل الأضواء ....
و أمام ذهوله كان البيت خاليا من ساكنيه .....
لو كانت وعد وحدها .... لربما فكر في أنها في طريقها للبيت ....
لكن ما صدمه هو عدم وجود عبد الحميد في سريره .... و الذي كان مرتبا !! ......
تحرك حول نفسه كالمجنون ..... الى أن أبصر ظرفا أبيضا على الطاولة المرتبة
فتحه ممزقا ورقه بعنف ... و قرأ الأسطر المتشابكة أمام عينيه المتوحشتين
" سيف ..... أعلم أنكِ الآن تبحث عنا كالمجنون لا لشيء سوى ارضاء لهوس التملك الذي ينتابك دون رادع .... لكن لا تحاول كثيرا .... لقد رحلت أنا و أبي بعيدا ..... لمكان لن تجده مهما حاولت ....
لقد انتهى زواجنا منذ اللحظة التي كسرت فيها ماكينتي ..... و ثمنها هو زواجنا .....
لو كان حبك المزعوم حقيقيا , لكنت عرفت ما يؤلمني ... و ما أجده فيه العزاء الوحيد ....
لقد أخبرت أمك ذات مرة ... بأنني لست دمية للعب بها .....
لكن كان حريا بك أن تصدقها أنت أولا قبل أن تقولها .....
زواجنا كان مجرد نزوة قصيرة الأمد .... لكنني و على الرغم من ذلك سأظل ممتنة لك على كل شيء قدمته لي ....
لقد وقعت على عقد تنازل عن الشقة لوالدتك .... و بذلك أكون قد قدمت لها شيئا بسيطا من دين والدي لكم ..... و لو كنت أملك أكثر لما ترددت في تسديد ديني كله لك ....
أتمنى لك الأفضل يا سيف كما ذكرت ..... و شكرا على الأيام الجميلة .... كانت مشاعر هوجاء بالفعل و لقد استمتعت بها ...... وعد "
انقبضت يده بذهول على الورقة وهو ينظر حوله بعدم تصديق ..... ثم لم يلبث أن صرخ كحيوان متوحش مصاب بشدة
( وعد ............... )
.................................................. .................................................. ......................
نزلت وعد من الطيارة و هي تشعر بالغثيان و اختلال في الضغط ....
و أنهت الاجراءات بصعوبة و جهل مطبق .... اثار شفقة الجميع .... فاستغرقت وقتا اطول ...
ثم جرت كرسي والدها المتحرك و هي تنظر برعب يمينا و يسارا .... مدركة حركة التهور العنيفة التي ارتكبتها بالسفر الى المجهول ....
توقفت و تركت الكرسي قليلا و هي تنظر حولها ....
ثم لم تلبث أن انحنت الى والدها و قالت بتوتر و خفقات قلبها تتوتر أكثر
( أبي ...... سأذهب للبحث عمن ينتظرنا ... ابقى هنا قليلا )
ثم ابتعدت تدور حول نفسها كل حين و قد بدأ الرعب في التمكن منها
لكنها فجأة اصطدمت بجدار ضخم ... فشهقت و هي تستدير .... لتجد أمامها صدر انسان ....
تتبعت نهايته بخوف الى أن وصلت لوجه رجولي غاية في الجاذبية ....
لكنها لم تستطع ادراك تلك الجاذبية .... لأنها ببساطة سقطت بين ذراعيه قبل أن تسمع سؤاله الروتيني بصوت رخيم
( آنسة وعد ؟؟ ........... )
و ظل السؤال على حافة شفتيه وهو يجد نفسه منحنيا ليلتقطها قبل أن تسقط أرضا ....
و خلال لحظات نظر حوله بذهول وهو يحمل فتاة شابة مصابة بالإغماء بين ذراعيه ..... و الجميع ينظر اليه .... فهمس لنفسه بحنق
( حسنا ...... كم هذا رائعا !! ..... لقد ماتت من الصدمة !! ..... ماذا الآن !!! )
.................................................. .................................................. ......................
نظر اليها بتوتر يفترسه كل لحظة ....
توتر ممتزج بلهيب ساطع ... يشتعل بداخله كألعاب العيد .....
لا يزال يتذكر تلك اللحظة الفارقة التي بدأت فيها الحياة تبتسم له ....
وهو مرتميا على الأريكة بيأس .... يعاني من مرارة رفضها .... يكابد خوف فراقها إن هي قررت السفر بالفعل ....
و سرعان ما وجد اسمها يرن بنغم جميل على هاتفه .... فانتفض جالسا وهو يجيب بلهفة متأكدا من انها في مأزق و تطلب مساعدته ....
و كانت اجمل صدمات حياته .... حين سمع صوتها العذب على الرغم من جمود نبراته
( حاتم ...... أنا ....... موافقة على عرضك , لو كان قائما ......)
وقتها لم يفهم .... فعبس وهو يقول بغباء
( أي عرض ؟!!! .......... )
صمتت و سمع صوت نشيج خافت .... فقفز من مكانه هاتفا
( كرمة ....... أين أنتِ ؟؟ ...... )
ردت عليه بصوت كانت الدموع به واضحة
( أنا أمام بيتي ......... )
عبس حاتم وهو يسارع لإلتقاط سترته قائلا بحيرة
( هل عدتِ الى البيت ؟؟ ...... اذن ما المشكلة ؟؟ .... )
صمت قليلا و تسمر مكانه و هو يسمع نشيجها من جديد ... فهتف و قد توترت أعصابه و تشنجت عضلاته
( ماذا حدث يا كرمة ..... تكلمي !! ... )
عادت لتبكي و جنونه يزيد .... ثم همست باختناق
( تعال و خذني يا حاتم ........... )
هتف وهو بالفعل يستقل سيارته
( اين انتِ تحديدا ؟؟ ............ )
همست بصوتٍ قتله
( أمام بيتي ........ لا .... أمام بيت محمد .... الذي كان بيتي يوما ما .... )
توقفت عضلاته عن العمل .... و نبض الألم في قلبه ...
و حتى الآن وهو ينظر اليها في طاقمها الأبيض لا يزال يشعر بنفس الألم ....
لا يصدق انها ستكون ملكه خلال لحظات !! .... اي قدرٍ كان رحيما به الى تلك الدرجة
من كان ليتخيل ان يلتقطها مستندة الى احد اعمدة الضوء في الطريق تبكي بصمت ....
و ما ان فتح الباب المجاور له حتى مال بجسده قائلا بصرامة
( اركبي ......... )
جلست ببطىء و هي تنظر امامها دون ان تبصر شيئا .... و كانت ملامحها تنبض بكل معاني العذاب .. لكنه كان من القهر و الغضب بحيث قال بفظاظة
( ماذا كنتِ تفعلين هنا ؟!! ......... )
همست كرمة بعد ان تجمدت دموعها قليلا
( كنت اجلب اوراقي الخاصة ............. )
هتف حاتم بقلق
( و هل فعل لكِ شيئا ؟!! .... هل مسك بسوء ؟؟ ..... هل مسكِ اصلا ؟؟ ... )
كان مجنونا و يعلم ذلك .... كان هذيانه واضحا , لكنه كان يقاوم تيارا عنيفا ... و الشيء الوحيد الذي هدأ من هذيانه قليلا هو همسها الضائع
( لم أره ........... )
تنهد براحة .... لكن بقى الطعم الصدىء وهو يتخيل بكائها شوقا له ..... لذا سألها بصوتٍ أجشٍ خافت
( اذن لماذا تبكين يا كرمة ؟؟ .......... )
حينها ظلت صامتة قليلا .... ثم نظرت اليه لتقول بخفوت
( هل عرضك للزواج لا يزال قائما ؟!! ....... )
تذكر وقتها أنه تفادى رجلا يعبر الطريق بأعجوبة ..... مصدرا صريرا عاليا , ليهتف بعدها وهو يلهث
( اللعنة !!! .......... )
و مرت الأيام التالية بعد تلك اللعنة سريعا دون ان يشعر بها .... و ها هما في انتظار المأذون .....
نظر الي توترها و حنقها على الطاقم الأبيض الذي اشتراه بنفسه لها ....
بدت فيه كلاسيكية و جميلة .... خاصة مع شعرها الذي تركته منسابا على ظهرها يقدم وصلة رقصه الخاصة ....
حين أظهر لها الطاقم الابيض المزين بشريط حريري فضي يربط خصره .... نظرت اليه بهلع و كأنه رداء المجانين .....
و رفضت بشدة ارتداء لونا ابيضا .... لكنه أصر .... و كان اصراره أقوى من طاقة كرمته المسكينة الضعيفة ....
منذ ايام و هي تنظر بهلع لكل شيء حولها ..... هل يعلم انها تسرعت نتيجة صدمة ما لم تخبره بها بعد ؟؟؟
نعم هو يعلم ذلك علم اليقين .....
لكنه اختار الأنانية بكل تعمد و اصرار ..... الفرصة لا تتاح للمرء سوى مرة واحدة كي يمنح فيها الحياة ...
فإما أن يستغلها .... و إما أن يقضي عمره كله يبكي عليها ....
انتهت الإجراءات سريعا أمام عيني كرمة المذهولتين .... و مدت يدا مرتجفة توقع بها في دفتر المأذون ...
ثم رفعت عينين مصدومتين الى حاتم الذي كان ينظر اليها دون ابتسام .... لكنها ما أن ضبطته حتى ابتسم لها بتشجيع و عيناه تتألقان بشدة .....
" كرمة أصبحت زوجته ......... "
بعد أن انتهى عقد القران و غادر الجميع ......دخلت أمينة المصدومة الى المطبخ و هي تمتم بشيء على ما يبدو انه مثل شعبي عن دجاجة باضت له في القفص ......
لكن حاتم كان كل انشغاله مع كرمة التى وقفت متسمرة مكانها ... ناظرة الى البساط بشرود و حاجباها منعقدان و كأنها تحل معضلة فزيائية .....
فاقترب منها وقلبه يهفو شوقا .... و عطفا ....
طافت بذاكرته حديث دار بينهما عن زوجها حين كرر عليها السؤال عما أبكاها ... و تطور الحوار فعلم منها انه سعيد مع زوجته الثانية الآن ...
حينها اتسعت عيناه بذهول و هو لا يصدق أن هناك من يمتلك عقلا راجحا و يتزوج أخرى بخلاف تلك الجميلة المسماة كرمة ..... هل فقد عقله !!! ....
و لم يستطع منع نفسه من سؤالها عن السبب .... فنظرت الي عينيه طويلا , ثم لم تلبث أن اعترفت و هي تطرق بوجهها
( لأنه ...... أراد طفلا ..... )
شعر بألم حاد يمزق قلبه عليها ..... فهو لديه ابن اغلى من العالم كله ... و لا يريد المزيد ... أما هي !!
تلك المرأة التي تمتلك عيناها مواصفات الحنان و الأمومة كلها !!! ...
أقسم بداخله وقتها أنه سيكون ابنها و اباها و أخاها .... و كل ما لها .......
توقفت أفكاره على بعد خطوةٍ منها ... و بدأ قلبه في الخفق بسرعة عنيفة ..... ثم لم يلبث أن مد يديه يحيط بوجهها فتشنجت تلقائيا و هي تنظر اليه بتهديد و توتر ... و عينين متسعتين ...
لكنه ابتسم لعينيها و انحنى يقبل جبهتها ..... طابعا شفتيه بقوة ... حتى أغمض عينيه بضياع جسدي ملتهب ... و ما أن ابتعد عنها حتى همس بصوتٍ أجش
( مبارك يا كرمة ......... )
لم ترد و هي تنظر اليه بذهول .... لكنه كان أول من استطاع لملمة شتات نفسه وهو يقول بخشونة
( يجب أن أرحل الآن ...... )
ثم ابتسم هامسا لعينيها وهو يقول بخفوت اجش
( عدة أيام ..... فقط عدة أيا و سنكون أسرة معا و لن أتركك بعدها أبدا .... )
كان بامكانه سماع أنفاسها المتحشرجة .....و رؤية رفضها التلقائي ,,, لكنه رفض للألم أن يفسد عليه روعة تلك اللحظة .... لذا همس بجموح واعد
( أراكِ قريبا .............. )
لكنه و ما أن ابتعد خطوتين حتى عاد اليها بسرعة يجذب كفها بقوة حتى ارتمت على صدره شاهقة و لم تدري الا و كان يضمها بعنفٍ ليه ساحقا كل كلمات الرفض تحت شفتيه الشهوانيتين و اللتين طال بهما اشتياق المحبين .... و يداه المتحركتان بعنفٍ على ظهرها تمنعها من القدرة على التحرك ....
تحرك وجه كرمة الذاهل و المصدوم يمينا و يسارا بفعل تحرك شفتيه القاسيتين بفعل شوقٍ يائس ... مُنِح الفرصة الأولى .... و ما أن تركها لاهثا حتى هدر همسا بخشونة و انفعال ناظرا الى ذهولها و رعبها ...
و شفتيها المنتفختين المفتوحتين
( اراكِ قريبا يا كرمتي ...... )
ثم اندفع مغادرا قبل أن يتهور أكثر و يخسر كل شيء ......
كانت كرمة تشعر بانتهاك يكاد يكون اغتصابا من رجلٍ غريبٍ عنها تماما ..... فرفعت يدها الى وجنتها الشاحبة و همست بذعر للفراغ من حولها
( ياللهي ...... ماذا فعلت بنفسي !!! ........ )
.................................................. .................................................. ......................
دخلت ببطىء الى محل الورود .... ساقاها الرشيقتان تتقاطعان بأناقة , بهدوء و رقة ....
صوت اسطوانات الهواء تناغم ما بين رائحة الورود من الداخل و رائحة عطرها الكثيف اللذي ملأ المكان فجأة ....
مما جعل ملك تلتفت بسرعةٍ لباب .... و ما أن رأتها حتى هتفت بفرحة حقيقية
( سيدة شيراز !!! ....... يالها من مفاجأة !! .... )
وقفت شيراز في منتصف المحل تنظر الي ملك بابتسامة شاحبة .... ثم قالت بخفوت
( كيف حالك يا ملك ........ )
عيناها ..... عيناها كانتا مختلفتان ... اختلافا لم تستطع ملك أن تتبينه أو أن تتعرف سببه .....
لكن شيراز كانت دائما مختلفة ... لا يمكن للمرء أن يسبر أغوارها بسهولة ... و مع ذلك بها شيء جديد مختلف
هل هو بريق جديد ؟؟
ام هو حزن دفين و استسلام لشيء مجهول ؟!! .....
أيا كان الإختلاف ... فقد نبذته ملك مؤقتا و هي تندفع من خلف منضدة البيع ... لتقف أمام شيراز ناظرة اليها بلهفة ... مدققة بكل تفاصيلها , بدءا من شعرها الأشقر الذي فقد لونه المصبوغ و تحول الى اشقر اكثر قتامة من شعرها هي ... و قد استطال حتى كاد يلامس منتصف ظهرها ...
وجهها البريء الطفولي بدا خاليا من الزينة على غير عادتها ... لكنها بدت كشابة رقيقة يمكن لنسيم الهواء ان يطيرها .....
ودون ان تفكر اتبعت غزيرتها فمالت اليها تحتضنها بقوة ... و هي تربت على شعرها المتطاير الناعم ...
بدت شيراز جامدة بين ذراعيها عدة لحظات ثم لم تلبث أن رفعت ذراعيها ببطىء لتضم ملك اليها في المقابل ...
و بقوة متزايدة تدريجيا .....
حتى بدا تشبثا مع مرور اللحظات .... فضمتها اليها ملك اكثر تمنحها بعض الأمان ثم همست في اذنها
( لقد اختفيتِ تماما ..... شهورُ طويلة مضت على غيابك ... كنت اشعر باحساس رهيب بالذنب لأنني كنت السبب في تشجيعك على تلك الرحلة ...... أين كنتِ ؟؟ ...... )
لم ترد شيراز و هي تتشبث بملك مغمضة عينيها .... فعقدت ملك حاجبيها و قلقها يتزايد
على الرغم من رؤيتها لشيراز آمنة و بخير ..... لكنها مختلفة و مهزومة نوعا ما .... فهمست ملك مجددا دون أن تتركها
( سيدة شيراز ....... شيراز !! ....... )
رفعت شيراز وجهها ببطء ... و ازداد انعقاد حاجبي ملك و هي تراها تمسح دمعة واحدة بدت كقطرة كرستالية ..... على الرغم من ابتسامتها الجذابة ... ثم قالت أخيرا بصوتها المغري بدرجات أنوثة مختلفة
( لقد طالت رحلتي اكثر مما انتويت ......... )
نظرت ملك اليها مليا بقلق ثم قالت بحذر
(......... هل استمتعتِ ؟؟ )
شردت عينا شيراز الخضراوين بعيدا و كأنها سافرت الى عالم بعيد ... فحانت منها شبه ابتسامةِ حالمة على طرفِ شفتيها .... ثم همست بخفوت
استمتعت ؟!! ...... لا أعلم كيف يمكن للاستمتاع أن يكون وجها آخر للألم)
في وقتِ ما عرفت أن الألم عند بعضهم هو المتعة ..... لكني خلال الشهور الماضية عرفت أن نهاية كل متعةِ ألم..........)
انعقد حاجبي ملك .... و أظلمت عيناها بمزيد من القلق على تلك الشابة التي لا يربطها بها الكثير ..... و إنما في نفس الوقت تشعر بأنهما لا تنفصمان أبدا
و كل وجع تشعر به شيراز .... تجد ملك ترددا له بداخلها ......
أخيرا رفعت شيراز وجهها تبتسم بإغرائها المعتاد متظاهرة باللامبالاة و هي تقول بمرح زائف
( عامة لكل شيء نهاية ...... و قد آن الأوان كي أعود الى حياتي )
ابتسمت ملك دون اقتناع و هي تومىء برأسها .... ثم قالت مبتسمة بهدوء
( متى وصلتِ ؟؟ ...... هل صعدتِ الى شقتك ؟؟ ... على الأرجح تحتاج لتنظيف كثير)
هزت شيراز رأسها نفيا و قالت بخفوت
(لم أصعد بعد....... )
سكنت ملك ثم ابتسمت لها و هي تهمس
؟! ....... ) هل أتيتِ الي أولا)
شردت شيراز تنظر اليها طويلا ... ثم همست بدعابة تفتقر الى روح المرح
........ ) أتيت كي أرى إن كنتِ قد قصصتِ ضفيرتك)
أمسكت ملك بضفيرتها بحماية رغما عنها ... و ضحكت و هي تتلاعب بها قليلا هامسة
...... ) لم أقصها )
همست شيراز دون تركيز
( جيد ......... )
ثم رفعت يدها الناعمة الي شعرها الخفيف المتطاير بشرود ... و الحزن يرسم ابتسامتها ... فقالت ملك برقة تحاول جذبها الى عالم الأحياء كما تفعل معها دائما
( لقد استطال شعرك ....... تبدين جميلة للغاية سيدة شيراز )
انتبهت اليها شيراز بعينيها الخضراوين البعيدتين و همست برقة شاردة
( حقا ؟!! ............ )
قالت ملك مؤكدة بحرارة
( نعم ....... تبدين مختلفة .... سمراء سمار البحر الذهبي و عيناكِ تتألقان .... )
و بالفعل تألقت عينا شيراز قليلا ... و ذكريات الأشهر الماضية تطوف كشريط سريع في مخيلتها .... ثم لا تلبث أن تخبو مجددا .... مبددة أمل ملك في جذبها الى ذلك الركن المشمس من تفكيرها ....
أخيرا قالت ملك بحماس و صدق اشتياق
( ما رأيك أن تصعدي لترتاحي قليلا .... و أنا سآخذ الإذن من السيدة ليلى و أتبعك كي أنظف لكِ الشقة تنظيفا سريعا .... ثم أقلم لكِ أظافرك و أمشط لكِ شعرك كما اعتدتِ مني ...... أريني ... )
مدت ملك يدها تمسك كف شيراز الرقيقة ... تنظر اليها بعناية , ثم لم تلبث أن رفعت حاجبيها بدهشة و هي تقول
( أظافرك غير مقلمة بالمرة !! ..... و هذه ليست عادتك أبدا .... )
ابتسمت شيراز و هي تقبض بكفها على يد ملك ثم قالت بهدوء
( لم يكن يشغلني هناك سوى البحر و الرمال ........ )
رفعت ملك عينيها الى شيراز ثم قالت مبتسمة
( هل هناك ما تخفينه عني سيدة شيراز ؟!! ............. )
ظلت شيراز تنظر اليها قليلا ... ثم قالت بلا تعبير
( و هل كنتِ تعرفين التفاصيل السابقة لحياتي من قبل ؟!! ....... )
لم تختفي ابتسامة ملك و هي تقول بمرح
( و مع ذلك أشعر أن هذه السفرة تختلف عن كل سفراتك السابقة ...... )
أطرقت شيراز بوجهها دون تعبير معين ... و عيناها تبتعدان مجددا ... ثم قالت اخيرا بخفوت
( كانت سفرة و انتهت ......... سواء اختلفت أم لا ..... )
و قبل أن تضيف ملك المزيد رفعت شيراز وجهها و قالت دون حماس
( ملك ...... أنا أريد أن أرتاح قليلا .... سأصعد الى شقتي و أنام قليلا .... و دعي التنظيف و تقليم الأظافر لوقتٍ آخر ...... )
أومأت ملك برأسها و هي تنظر اليها بتدقيق ..... دون أن تصل لسرها ... ثم قالت بخفوت
( هل أوصلك الى باب شقتك ؟؟ ...... تبدين متعبة !! ..... )
نظرت اليها شيراز قليلا ثم تنهدت لتقول
( نعم أنا متعبة جدا ....... لكن لا داعي لتوصيلي , لقد أتيت لأراكِ فقط .... )
ابتعدت بعد آخر كلماتها تلحقها بابتسامة شاحبة ..... ثم استدارت لتخرج من المحل بهدوء كما دخلت و هي تقول
( أراكِ لاحقا يا ملك ......... )
أومأت ملك برأسها دون أن تراها شيراز .... و هي تتبعها بنظراتها الى أن اختفت .....
كم شغلت شيراز بالها في الفترة الماضية ...... كانت تفكر بها كل ليلة .... تتسائل عن سر طول غيبتها , فهي لم ترد ايا من اتصالاتها رغم هاتفها المفتوح .....
لقد سافرت شيراز من قبل ..... مرتين ...... و طالت غيبتها بهما .... و في كل مرة كانت تعود بشكل جديد و بعينين مختلفتين .....
في المرة الأولى عات بعينين منهارتين ..... حمراوين منتفختين بكاءا على شيء هام ضاع منها ...
أما في المرة الثانية عادت بعينين قاسيتين كالجليد الملتهب .... و على الرغم من ذلك كان الألم بهما عميق و كأنها قد خرجت من محنة صعبة .....
لكن هذه المرة .... ها هي تعود بعينين شاردتين .... حائرتين ... ما بين تألق ..... و يأس .....
شيراز ستظل معضلة .......ستظل معضلة لنفسها قبل أن تكون معضلة لمن حولها ........
↚
دخلت شيراز الى شقتها المعتمة بصمت ...... ثم أغلقت الباب خلفها بهدوء ووقفت في مكانها تنظر الى المكان الخاوى الرطب المظلم .....
كم بدت الشقة الأنيقة مخيفة و كئيبة !! .....
تلك الشقة التي دفعت من أجلها الكثير ..... و بالوسيلة الوحيدة التي تعرفها ......
تبدو الآن موحشة ..... تحثها على الفرار الى الشمس من جديد ......
رمت حقيبتها الغالية بعيدا دون اهتمام .... لترتمي على الأريكة دون أن تهتم بفتح النوافذ أو اشعال الضوء على الأقل .... ثم أرجعت رأسها للخلف تنظر الى السقف المظلم .... و ما لبثت أن ابتسمت .....
ابتسمت حين لاحت لها ذكراه رغما عنها .... و على الرغم من قرارها الطويل خلال ساعات السفر من نسيانه لللأبد ....
لكنها لم تستطع التحكم بذاكرتها .....
ذلك الفظ الهمجي ..... الكائن الأقرب للغوريلا على الرغم من وسامته ......
وليد !! .......
متى بدأت تتعلق به بالفعل ؟!! ....... متى غدر بها و أصبح كل عالمها دون أن تسمح له بذلك ؟!! .....
متى تحول الأسبوعين الى شهر ...... ثم توالت الأشهر بعدها مسروقة من الزمن دون أن تشعر ......
أغمضت شيراز عينيها قليلا و هي تتذكر كل ضحكاتهما ....... كل مشاجراتهما ....و كل شتائمهما المتبادلة و انصرافهما غاضبين ..... ليعودا و يتصافا صباحا ......
كل رحلاتهما معا ... البرية و البحرية .....
صلفه و عنجهيته في القاء الأوامر يمينا و يسارا .... حتى في تحكمه بملابسها و اتجاه نظراتها !!! .....
فجأة تحول الي جزء من حياتها تلقائيا ..... فظ التصرفات .... رقيق القلب .... ذو غضب شرس عند اللزوم .....
صداقة ..... ذلك هو الوصف الذي أطلقته على تلك العلاقة الغريبة ..... سامحة لذلك الغريب أن يحتويها و يمنحها من الأمان ما لم تعرفه قبلا .... أو على الأقل ما لم يدم ابدا !! ......
متى كانت تلك اللحظة الفارقة بينهما ؟!! ....
تكاد تجزم أنها تلك الليلة حين بكت على صدره طويلا حتى شروق الشمس !
تاهت ذكراها الى تلك الليلة .... ليلة دعاها فيها الى مشاهدة فيلما اجنبيا في دار عرض ضخمة ملحقة بالفندق ....
جلست بجواره في الظلام و هي تشعر بنفسها سعيدة على غير العادة .... هل كان ليصدق انها المرة الأولى التي تحضر فيها دور عرض سينيمائية ؟!!
فأيا من أزواجها لم يهتم باصطحابها .... و هي بالتالي لم تهتم بالذهاب ....فدور العرض خاصة بالمراهقين و الأحبة .....
كانت منفعلة و مبتهجة و هي تحمل صندوقا ورقيا ضخما من الذرة ..... و كانت تشعر به يتأملها بطرفِ عينيه بين لحظةٍ و أخرى ..... كان في عينيه انفعال قوي لم تستطع وقتها تبريره .....
و ركزت على لحظة سعادتها الحالية ..... لكن تلك اللحظات لم تدم طويلا ......
فالفيلم كان فيلما معقدا و يحتوي على عدة نفسيات شاذة .... و على الرغم من أنها لم تفهم ما قيل معظمه ...
لكنها كانت خبيرة في أحداث الفيلم و بمهارة !!
حيث كان يتناول رجلا ذو مركز عظيم ... لكنه شاذ و ذو نفسية مختلة .. و كان يهوي السادية و يتفنن في الألم و استجلاب صرخات حبيباته من بائعات الهوى !! ....
و مشاهد الفيلم أخذت في التعمق بدءا من تقييدهن في السرير و ممارسة ساديته المقرفة من استجلاب ألم و اذلال ..... حيث كان ذلك نوعا من المتعة المعترف بها ....
تجمدت عينا شيراز و هي تلاحق الصور بعينيها ..... حتى بدت حدقتاها و كأنهما من الزجاج المبلل البارد ... تراقب الفيلم كدمية رخامية .....
ما تشاهده لم يكن يفرق الكثير عن زواجها الأخير .... لقطات الألم و التفنن في الإذلال بدعوى المتعة .....
لم تدرك وقتها أن ارتجافها بات واضحا و هي تشاهد .... كانت تنتفض و هي تتسائل كيف تمكنت من تحمل كل ذلك ؟!! .... و أي مبلغ يوازي ما قدمته ؟!!!
صحيح أنها لم تسلط الشفرة على عنقه من فراغ ...... لقد أوشكت على قتله بالفعل إن لم يفي بوعده و يطلقها و يحررها أخيرا من ساديته ..... المختل المريض القذر .......
حينها انتفضت فجأة على يدٍ دافئة تمسك بيدها بقوة و حماية .... فرفعت عينيها المبللتين في الظلام تنظر الى أخرى عميقتين .... استطاعتا أن تحتوياها و تحميانها من عمق الظلام المحيط بهما .....
وصوته الرجولي يهمس بنسيمٍ دافىء بالقرب من أذنها
( هل أنتِ بخير ؟!! ........... )
ظلت تنظر اليه بصمت عدة لحظات دون أن تسحب يدها من يده ..... ثم أومأت برأسها دون رد
لكنه لم يقتنع و هو يدقق النظر بها بحدة , فلم يلبث أن انحنى اليها و همس بخفوت في أذنها
( هل تودين المغادرة ؟؟ ....... )
رفعت عينين مترجيتين اليه و أومأت كطفلة ممتنة له لإخراجها من فيلم رعب .... لكنها لم ترى التعبير الذي ظهر على وجهه حينها .... و دون كلام نهض من مكانه وهو لايزال ممسكا بيدها يجذبها معه كي تنهض و تتبعه و كأنه معتاد على تلك الحركة بأريحية منذ سنوات ....
سارا بعدها بصمت فوق الرمال الرطبة ليلا .... و كان القمر يضيء طريقهما بشعاع فضي ....
ذراعها ملتفة حول خصرها ... بينما اليد الأخرى قابعة في يده باستسلام .....
توقف وليد فجأة مجبرا اياها على التوقف و النظر اليه بتساؤل , فقال بخفوت وهو ينظر اليها مليا
( هل تشعرين بالبرد ؟؟ .......... )
هزت رأسها نفيا تلقائيا .... لكنه و مع ذلك لم يعر ردها اهتماما فتلوى خالعا سترة رياضية خفيفة كان يرتديها و سرعان ما وضعها على كتفيها .....
شعرت وقتها بحنان تلك السترة الناعمة ....فضمتها اليها و هي تغمض عينيها بصمت ......
ظل ينظر اليها طويلا ... ثم همس مجددا بخشونة
( هل أنتِ بخير ؟؟ ........ )
لم تفتح عينيها .... لكنها أومأت برأسها مجددا دون كلام و هي تتنشق نسيم البحر الليلي النظيف و النقي ....
فقال وليد عابسا
( لقد ضايقك الفيلم .......... )
لم يكن ذلك سؤالا ...... بل مجرد اقرار بأمرٍ واقع ......
ارتبكت قليلا .... لكنها فتحت عينيها تنظر الي البحر متجنبة عينيه ثم همست كاذبة بخفوت
( لا أحب تلك المشاهد ....... )
جذبها اليه قليلا حتى اقتربت منه تماما .... و انتظر لحظتين ثم همس في أذنها
( لم أعلم بها ....... هل تسامحيني ؟؟ ..... )
رفعت اليه عينين مندهشتين ... ثم همست برهبة
( على ماذا ؟!!! .......... )
لم يرد وهو ينظر الي عينيها البريئتين ..... و لم تدري وقتها لماذا اندفعت الدموع الخبيثة من خلف جدار قلبها الحجري و الذي فقد آدميته منذ سنوات طويلة ...
فاستدارت بعيدا عنه كي لا يرى دموعها ... الا أنها ما أن ابتعدت حتى وجدت ذراعها تعيقها حيث يدها لا تزال بكفه .... متشبثا بها بقوة ...
حاولت جذبها لكنه شدد عليها .... فبقت مكانها على بعد خطوتين منه و ذراعها المفرودة تصر على جذبها اليه ....
اختنقت شيراز بدموعها و هي تحاول جاهدة ابتلاعها كي تنحدر على قلبها و لا تذرفها عينيها .... لكنها بدت كمن يبتلع اشواك مؤلمة ...
و استمر عذابها عدة لحظات الى أن قال وليد بصوت خافت لكنه قوي حازم
( بشرى ....... انظري الي ..... )
لكنها رفضت النظر أو الإستدارة اليه ..... بل قالت بصوتٍ مختنق صلب حاد النبرات دون ارادة منها
( اسمي شيراز ........... )
قال وليد بخفوت و صلابة
( اخبرتك انني افضل اسم بشرى ......... )
انتابتها حدة مفاجئة و استدارت اليه و هي تهتف دون أن تستطيع أن تمنع نفسها
( ما تفضله لا يعنيني ...... توقف عن كونك بمثل ذلك التسلط ... )
لم يرد عليها بل نظر الي عينيها .... فهتفت بغضب
( توقف عن ذلك ...... أنا لست فأر تجارب ... )
لم يرد أيضا ..... و كان صمته يشعل جنونها و يخبرها بوضوح أنه يراها مجنونة ... فهتفت و هي تحاول جذب يدها منه
( أتعرف ماذا ....... أنا أكره وجودك معي , منذ اللحظة الأولى و أنت تحلل تصرفاتي و تتمعن بي بعينيك ..... لقد سئمت نظراتك .... كف عينك عني )
لم يرد عليها على الفور .... ثم قال بصوته الرجولي بعد فترة
( هل عدنا مجددا لعيني و يدي و كل تلك الأوهام ؟!! ...... كل هذه الضجة لأنني سألتك إن كانت مشاهد الفيلم قد آذت شعورك !! ...... )
ارتبكت فجأة و ألجم لسانها .... و نظرت اليه بالمقابل
ثم أخفضت نظرها حين صدمتها عيناه مجددا ..... لكنه لم يتركها فريسة لأفكارها مجددا و قال بصوتٍ قوي
( كل ما أردت قوله ....... هو أنني أعرف مدى حساسيتك و أصدقها ..... )
رفعت عينيها اليه ...... و هي تسمع كلاما غريبا منه , لا ينطبق عليها
أي حساسية ؟!! ........ تلك التي يصدقها !!! ......
لقد مات لديها الإحساس منذ زمن بعيد !! ....... تبا .. كل هذا بسبب تلك الرحلة الغبية ....
تلك الرحلة التي جعلت الدموع لديها غزيرة كطفلة صغيرة
هل تبكي الآن !!! ..... لقد صمدت طوال فترة زواجها بكل صلابة و شجاعة تكاد تكون احترافية ......
فهل تجرؤ على البكاء الآن !! .......
ام هل تبكي على زوجها الثاني الذي لا تزال مشاعره حية بقلبها ..... وهي تراه ليل نهار سعيدا بصحبة أسرته من حولها دون ان يبصرها ......
تنهدت شيراز و هي تنظر للبحر الأسود أمامها ..... و يدها لا تزال بكف وليد ....
و دون أن تدري صدرت منها شهقة بكاء خافتة .... و هي تحاول أن تعض على شفتيها كي تكتمها ...
لكن فجأة وجدت يداه تجذبانها بقوةٍ الى صدره !! ..... حاولت مقاومته لكنها فشلت فهتفت بصوتِ مختنق
( اتركني يا وليد ....... )
الا أنها بدت كم يزحزح حجرا ... الى أن قال أخيرا بخفوت وهو يشل حركتها
( وعدتك أن تبتسمين كل يوم من أيام عطلتك ...... لكن أجدني لا أفعل سوى أن أبكيكِ )
صرخت و هي تحاول التحرر منه
( لذا قررت أن تنتهز الفرصة !!....... ابعد يديك عني ذلك لن يجعلني أبتسم , بل سيجعلني اشق بطنك بشفرة حادة ...... )
تركها فجأة فتعثرت عدة خطوات على الرمال الا أنه سارع لإمساكها قبل أن تقع .... و ما ان استقرت حتى تركها متجهما ..... و قال بغضب
( ياللهي ..... الشفرة الوحيدة هنا هي لسانك , كل ما كنت أريده هو أن أضمك لصدري .... )
صرخت بجنون
( كم هذا رقيق بشكل مثير للإهتمام ...... و ربما الصعود معك الى سريرك سيكون أكثر رقة )
صرخ وليد بغضب مماثل بينما اتسعت عيناه ذهولا ...
( أنتِ قليلة الحياء و لسانك لا يصنف كلسان سيدة محترمة أبدا ..... )
فصرخت هي الأخرى
( من أخبرك أنني سيدة محترمة أصلا !!! ........ اذهب لأي سائحة ممن ينتظرن نظرة منك و هي ستكون أكثر من شاكرة لصدرك الرحب ..... أما أنا فلا ..... )
كان ينظر اليها بغضب مخيف .... لكن فجأة بدأت حرارة الغضب تخفت شيئا فشيئا .... و بانت رقة متزايدة ... تبعها طيف ابتسامة .... ثم قال أخيرا بهدوء
( حسنا يا بنت البلد ..... لقد وضعتني عند حدي ..... )
لم يختف غضبها و هي تنظر اليه بحنق رغم وجهها اللذي لا يزال نديا من الدموع .... ثم قالت بغيظ
( ما كان هذا ...... اختبار أخلاق !! ...... )
استدارت عنه كي تبتعد .... و هي تقول بحنق
( سأرحل من هنا ..... تواصلنا أصلا خطأ .... )
لكنها ما أن ابتعدت عدة خطوات حتى سمعت صوته القوي يناديها
( بشرى ......... )
توقفت مكانها ..... دون ان تستدير اليه .... كان يستحيل عليها مقاومة ندائه القوي ثابت النبرة ...
فتابع وليد بجدية
( لا تخافي مني ....... )
كانت تتنفس بسرعة دون ان تعلم السبب ....لكنها قالت ببرود
( لست خائفة منك ......... رفضي لأي تجاوز من أيٍ كان ليس خوفا .... )
سمعت صوته الثابت يقول بثقة استفزتها
( بلى أنتِ خائفة ......... )
لم ترد عليه ..... أي خوف يتحدث عنه ذلك الأحمق !!! ..... لقد تزوجت ثلاث مرات و تعرضت لتحرشات بعدد شعر رأسها ....
لكن لماذا ينبض قلبها بسرعة ..... و لماذا ينتابها التوتر كلما اقترب منها احد .....
الغريب انها لم تخاف أيا من ازواجها ..... حتى الثالث بساديته المقرفة و المؤلمة .......
لكن شيئا بداخلها ... يجعلها تخاف ممن يحاول أن ينتهكها دون أن يدفع الثمن .....
و الثمن عندها لا معنى له سوى بالحلال ........
تابع وليد حين لاحظ أن صمتها امتد
(أختي التي أخبرتك عنها تشبهك ..... ربما ليس شكلا , لكنها تشبهك رغم ذلك ... تذكريني بها , لذا يستحيل علي أن أضر بكِ .... )
ظلت متسمرة مكانها ثم استدارت اليه قليلا ... و نظرت اليه بصمت قبل أن تقول بخفوت
( لكم فتاة قلت تلك العبارة بغرض ايقاعها في حبائلك ؟؟ ....... )
ابتسم فجأة حتى شملت ابتسامته وجهه كله .... ثم قال بهدوء
( إنها المرة الأولى التي استخدم فيها شقيقتي كطعم ..... لكن لا تنكري أن الأمر ناجح للغاية ... )
ابتسمت رغما عنها ... و مدت يدها تمسح وجهها ..... ذلك الغوريلا يمكنه أن يكون ظريفا أحيانا ....
لكنها قالت بتوتر
( يبدو أن ذلك الفيلم قد وترني فعلا ............ )
اقترب وليد منها الى أن وقف أمامها .... ثم قال بجدية
( أريد أن أبدد خوفك .......... )
رفعت وجهها اليه بصدمة ... ثم قالت بلهجة متنازلة
( أخبرتك أنني لا أخافك ................ )
قال بهدوء
( ليس أنا على وجه التحديد ......... )
ظلت تنظر اليه قليلا .... ثم همست
( و لماذا تريد ذلك لو كان هناك ما يخيفني بالفعل ؟؟ ....... نحن مجرد غريبين تلاقينا و سنفترق بعد فترة قصيرة ...... )
قال وليد بعزم
( ألم اخبرك أنني أنوي أن أجعلها رحلة سعيدة لكِ ..... لذا لن تكتمل سعادتك الا بعد أن تبددي كل مخاوفك )
همست شيراز مبتسمة
( هل أنت دائما بمثل هذا الإهتمام بكل عابر في حياتك ؟؟ ........ )
ابتسم ليقول صادقا ببساطة
( لا ............ )
حينها كاد ردها الوحيد هو ..... ابتسامة عميقة .... لم تهتم لمعناها الذي قد يخطىء تفسيره ... لكنها شعرت بابتسامة حقيقية ترسم وجهها .. لم تبتسمها منذ فترةٍ طويلة جدا ....
مد وليد يده بهدوء يدعوها كي تضع يدها .... فنظرت اليها بصمت .... قبل أن تمد يدها ببطىء حتى وضعتها بيده فأطبق عليها برقة وهو يبتسم ...
ثم انحنى فجأة ليجلس أرضا على الرمال مما اضطرها لأن تجلس بقربه ... و هي لا تزال متشبثة بسترته ...
و كانت هذه الجلسة هي بداية ليلة طويلة ..... قضاياها على الرمال ... و في لحظةٍ ما كانت تستند الى صدره بالفعل .... و بكائها الصامت لا يتوقف ....
و هذه المرة تركها تبكي قدر استطاعتها ..... و ذراعه تحاوطها بقوةٍ تمنحها احساسا بالأمان
ومرت الساعات الطويلة .... و ما أن أطل الشروق بألوانه الشاحبة الخافتة ..... كانت دموعها الباردة قد جفت على وجنتيها .... فقال وليد بخفوت وهو يجذبها اليه قليلا
( ألن تخبريني ببعضٍ مما يبكيكِ ؟؟ ........ )
ظلت صامتة قليلا .... ثم همست و هي تتنعم بذلك الملاذ الدافى الآمن .... و الغريب ....
( لا أعرف ....... صدقني لا أعرف .....لم أشعر يوما بأنني ممن يذرفن الدموع بغزارة .... لكن ربما هو جو الرحلة ..... يجعلني أرغب في البكاء ..... )
لم يرد عليها .... لكن كفه كانت تتحرك بقوة على كتفها متناغمة مع كل كلمة تنطق بها .... بينما تابعت
( الا تشعر أحيانا بالرغبة في البكاء لمجرد البكاء ؟؟؟ ...... )
ضحك قليلا .... و ضمها اليه أكثر وهو يحاوطها بسترته .... ثم همس لها بخفوت تكسر الموج قريبا من أقدامهما
( الأمر عند الرجل مختلف قليلا ..... أشعر أحيانا بالرغبة في ضرب أحدهم لمجرد الضرب )
ضحكت فجأة بقوة و انفعال .... و كأنه تكلمة لحالة انفعالاتها الغير طبيعية
ثم استراحت برأسها الى صدره و أغمضت عينيها ..... و ياللعجب .. كانت في تلك اللحظة تشعر بأمان لم تشعر به من قبل ... حتى مع زوجها الثاني .....
أفاقت من أحلامها على صوت رنين هاتفها ... فانتفضت و كأنه صفير انذار لها كي تفيق على الواقع المر
في شقتها الخاوية الباردة المظلمة .....
فنظرت إليه بخوف ... و كأنه سيلتهمها ... و ما أن أمسكته حتى تنهدت بيأس
و وجمت ملامحها و تجمدت عيناها
و ظل الرقم برنينه المزعج يحثها على الرد بينما قلبها يرفض تماما
لكن و قبل الرنة الأخيرة امتدت يدها دون ارادة منها و فتحت الخط لتضع الهاتف على أذنها بصمت ... فأتاها الصوت الخشن الكريه
(...... أحببت أن أكون أول من يهنئك بسلامة وصولك)
ارتفع حاجبي شيراز بصدمة ... ثم همست بخفوت
(...... هل تراقبني سيد علوان ؟؟ )
سمعت صوت ضحكة خافتة أجشة متمهلة ... ارسلت قشعريرة بجسدها , ثم قال بخفوت
( أراقبك !! ..... هل هكذا تنظرين الى انتظاري وصولك بفارغ الصبر ؟ )
كانت عيناها مظلمتان بشدة ... لكنها همست بفتور
(...... آسفة )
كادت ان تسمع الابتسامة الجائعة في صوته وهو يقول
( كلمة الأسف من بين شفتيكِ لها مذاق الخمر ..... مسكرة )
ارتبكت و ارتجفت شفتيها رغما عنها ....... لكنها تمكنت من الهمس بانوثةِ و دلال لا تشعر بهما في الواقع
( سيد علوان ...... كلامك يخجلني , لم اعتده منك )
عاد ليضحك من جديد .... ثم همس بصوتٍ اجش ساخن
( من قبل كنتِ متزوجة من رابح ..... و كنت أحترق منتظرا طلاقك )
عاد ليضحك من جديد ثم قال بخفوت شرس
(أكاد أتذكر كل ليلةِ مضنية من ليالي سهرنا ... و أنا اراكِ تغادرين معه , منتظرا اليوم الذي يرميكِ فيه لألتقطتك أنا )
أظلمت عيناها أكثر و أكثر ... ثم همست بجمود رغما عنها
(...... يرميني )
قال بصوت متملق متشدق
(آآآآآه لا تأخذيها بمحمل الإهانة ..... هذا طبع رابح دائما ... يختار كل جميلة صغيرة تقع في طريقه .... ليمتصها حتى يستهلكها , ثم يرميها لا حول لها و لا قوة .... باستثناء ما ربحته بالمقابل ...... )
رفعت شيراز ذقنها .... ثم قالت ببأس
( لعلمك يا سيد علوان ..... أنا من رميت رابح , .... و كان يتذلل لي متوسلا كي أبقى معه و أنا من رفضت ....... استهلاكي ليس بالسهولة التي تظنها .... )
عاد ليضحك ضحكته المقيتة ..... ثم قال بصوتٍ لاهث
( أعلم علم اليقين أنه لا يزال بكِ الكثير من السعادة التي قد تمنحينها لرجل ....... و هذا سبب انتظاري لكِ )
هتفت رغما عنها
( لست بضاعة تتناقلها الأيدي يا سيد علوان ....... لو أردت الزواج مني فعلا فعليكِ التوقف عن اهانتي ... )
قال علوان بصوتٍ بغيض بعد فترة صمت
( آآآآه النمرة الصغيرة شرسة كما توقعت ........ ألم أخبرك أن بكِ المزيد .....و المزيد ..... كم أتشوق لليلٍ يجمعنا سويا ... تتمكنين فيه من تفجير طاقاتك و طاقاتي كلها ..... اللعين كان يحتفظ بكِ متباهيا لوقتٍ طويل .... )
هتفت بغضب و شعور خانق بالإذلال
( سيد علوان ............ كفى )
الا أنه قال بهدوء ضاحكا
( حسنا يا نمرتي ...... لا تحتدي على علوان المسكين المنتظر منذ أشهر طويلة ..... ارتاحي الآن من رحلتك الطويلة ..... و بعدها سنتحدث عن اجراءات الزواج ... )
كانت تتنفس بسرعة .... و علامات من النفور مرتسمة على وجهها بوضوح ... لكنها قالت كي تنهي المكالمة سريعا
( حسنا لا بأس ......... الى اللقاء حاليا .... فأنا أريد أن آخذ حماما ساخنا و بشدة )
سمعت ضحكة خشنة ثم همس صوته الممطوط
( آه يا ليتني كنت معك ........ )
أغلقت الخط سريعا و كأنها تسحق صرصورا بقدمها .... ثم ألقت هاتفها على الأريكة بغضب
و نظرت أمامها ترتجف بشدة
علوان رجل أعمال ثقيل العيار ... في نهاية الأربعينات من عمره.... شريك لرابح في عدة أعمال ..... كانت تعرفه من سهرات العمل و العشاء المتعلق بالصفقات ...
و كان دائما ما يشيعها بنظرات متمهلة و هو يشرب من كأسه .....
تعلم أن معظم الرجال يجدون بها جاذبية معينة ..... لذا لم تهتم أبدا خاصة أنه لم يتجاوز حدوده معها من قبل ....
لكن ما صدمها أنها تلقت منه مكالمة منذ اسبوع .... لا ... تحديدا عشرة أيام و ثمانية عشر ساعة ....
مكالمة لم تتوقعها أبدا ..... حيث كانت تعيش فترة من أجمل فترات حياتها مع وليد ..... تتألق بين يديه ... و تتعالى ضحكاتها لعينيه الى أن يأمرها بالسكوت .... تبكي على صدره كثيرا و قد تفهم عدم رغبتها في اجابة السؤال مجددا .....
كانت مكالمة علوان مختصرة .... و اذهلتها فقد عرض عليها الزواج !! ......
ظلت وقتها صامتة بذهول الى أن أخبرها بهدوء أنه انتظر عودتها من رحلتها لكنه تعجب من مدتها التي طالت الى أشهر !! .....
لا تتذكر تحديدا الباقي من المكالمة الصادمة ..... لكن كل ما تعرفه أنها أغلقت الخط على وعد بالتفكير في الأمر .....
و خلال عشرة أيام كانت قد جمعت حاجياتها و سوت حساب الفندق و غادرت ......
جلست شيراز تحدق بالظلام أمامها بوجهٍ ممتقع ......
أي أملٍ لها غير الزواج !! ..... مدخراتها ليست ضخمة الى هذا الحد ... خاصة بعد الرحلة التي طالت جدا و استهلكت مبلغا يعد ثروة صغيرة ..... و هي لا تملك شهادة كي تعمل عملا محترم .....
أما العمل المضني فقد نبذته ..... لن تعود لحياة الفقر مجددا .... لقد ذاقت الراحة و الرخاء و من المستحيل أن تكد و تشقى في أشغالٍ لن تعيلها أبدا .....
و في النهاية سينهشها كل من يستطيع .... و مجانا .......
لم تدرك أن الظلام تشوش أمامها بموجات من الدموع السوداء ترقرقت في عينيها .....
و صورة وليد تتجلى أمامها ..... فأغمضت عينيها كي تسمح لدموعها بالإنسياب في صمت ......
.................................................. .................................................. ......................
مدت ملك يدها تفتح باب غرفتها .... الا أنها فوجئت به يحيطها بذراعيه من الخلف ليرفعها عاليا و يدور بها ...
فشهقت مغمضة عينيها و هي تشعر بالذعر و الدوار ... و ما أن أنزلها ضاحكا حتى استدارت اليه بجنون و غضب تضربه بكلتا يديها و هو يحاول حماية وجهه من ضرباتها الأنثوية الرقيقة ....
ثم هتفت بغضب
( أيها الأحمق ....... توقف عن إرعابي ..... و توقف عن الظهور من الظلام كمصاصين الدماء )
ابتسم كريم بعبث وهو يعود ليجذب خصرها اليه هامسا بالقرب من عنقها
( أممممممم مصاص دماء !! ...... لماذا يروق لي ذلك و يمنحني أفكارا مدهشة .... )
تلوت من بين ذراعيه و انتفضت تتحرر عنقها من شفتيه و هي تقول بغضب
( احترم نفسك يا شادي ........لو تكررت تجاوزاتك معي فلن أسمح لك بمقابلتي مجددا ..... . )
ضحك بخفوت وهو يعاود جذبها الى جسده هامسا في أذنها
( اتظنين أن الخروج من الباب كسهولة الدخول منه !! ........... )
حاولت إبعاد يديه الا أنه كان يخادعها و يدور بوجهه مع تحركاتها فيصدمها نفسه الساخن و الذي يرسل القشعريرة بعروقها كالبرد المحيط بهما تماما ... و همس امام شفتيها بعاطفة تحترق
( أنتِ ملكي يا مليكة ...... لن ينتزعك مني شيء )
كانت عيناه تحترقان وهو ينظر اليها ..... فسكنت قليلا و قلبها ينبض له بعنف ......
لقد نجح ..... صبي الدار الصغير ... نجح في ما كان ينجح به دائما
اخضاعها .....
حين كانت طفلة كانت تستلم لمراهقته المبكرة .... قبل أن تبني مبادئها الخاصة ....
أما الآن و بعد أن كونت عازلها الأخلاقي الخاص ضد الخطأ ....
عاد ليهاجم مشاعرها تجاه صبي الدار .....
و كأنها كانت مشاعر كانت كامنة في أعماقها تنتظره ..... لم تشعر بتلك المشاعر تجاه أي شاب من قبل !! ...
تماما كما لم تشعر بمثلها تجاه أي صبي آخر في الدار ....
دائما كان كريم هو صفة المذكر الوحيدة في حياتها .... طفلة و شابة .....
و الآن كل ما تعانيه هي محاولة كبت جموح عواطفه مرة بعد مرة ..... حتى أنها بدأت تشعر بالإرهاق من تلك الحرب العاطفية التي يشنها بكل أسلحته منذ ثلاثة أشهر ......
كانت تظن دائما أن طريق الصواب سهل كشرب ماء رقراق .....
لكنها اكتشفت أن مقاومة الخطأ حين يتجلى بإغراءه هو من أصعب ما يمكن ......
يكفي أن تنظر الي عينيه الجريئتين الملونتين بألوان مختلفة تجعلهما تبدوان كأمواج البحر .....
وضعت يديها على كفيه المستقرتين فوق خصرها .... و نظرت لعينيه الجميلتين ثم همست برقة
( شادي ........ أرجوك توقف )
لم تكن مأهلة لتلك الآآآه العميقة التي صدرت عنه وهو يهمس بجوار فكها الناعم
( آآآآآآه ....... رقتك تهلكني , تثير في همجية كل العصور ... تجعلني أرغب في اقتناص تلك الرقة و التي لم يختبرها غيري ..... )
أخذت تبعد وجهها عنه بكل اصرار بينما قلبها يشتعل و حواسها ترسل مفرقعات نارية استجابة له
ثم تمكنت من القول أخيرا
( كريم ........ أرجوك , أنت تخلف وعدك لي ...... )
اقترب منها يتنشق رائحة شعرها الناعم وهو يهمس و كأنه في عالم آخر
( أي وعدٍ كان ؟!! .......... )
قالت ملك بغضب ...... و هي تحاول التملص منه
( أن تحترمني ........... )
عاد ليجذبها اليه و شفتيه تهمسان على زاوية شفتيها بجنون
( كل احترامي لكِ ..... اقتربي مني اكثر )
صرخت ملك و هي تضربه في صدره بقوةٍ حتى ابتعدت عنه أخيرا
( توقف أو أقسم بالله سيكون ذلك نهاية ما بيننا ....... )
أخذ نفسا مشتعلا و قد تبخر الهزل من ملامحه .... و بدا في تلك اللحظة كأحد المشردين مما جعلهم الجوع أكثر شراسة .... و على وشك فعل اي شيء في سبيل الوصول للشبع ....
ارتجفت ملك رغما عنها و تراجعت خطوتين .....
أحيانا تخاف منه بالفعل ..... و رغما عنها تذكرت ذلك اليوم الذي أتى اليها هائجا مسعورا غاضبا بسبب اقتحامها بيته كما تكرم و قال ....
يومها ارتعبت من عينيه المخيفتين .... و قطعت علاقتها به .... لكن ليس للابد ....
لم يكد يمر اسبوع حتى عاد اليها .... ليقف أمامها صامتا دون كلام .... و حينها كانت عيناه المعذبتان هما السبب في قبولها للعودة ..... العودة الى شادي و ملك من جديد ......
و هذا هو الحال دائما ..... حاله يخيفها احيانا ......
لكنها لم تعد تستطيع الإبتعاد عنه بعد الآن ..... همست ملك بخفوت
( لماذا تخيفني منك؟؟ ........ )
أجفل قليلا .... و توترت ملامحه , لكنه قال بعد فترة بصوتٍ جامد
( أنا لا أخيفك ...... ببساطة مشاعري تجاهك غير قابلة للتحديد بأي نوع من الحدود .... )
احمر وجهها و ذابت عيناها استجابة لكلماته فاقترب منها مرة أخرى .... الا أنه توقف حين لاحظ تصلبها و ابتعادها .... فهدر بنفسٍ ملتهب ليقول بقوة
( انها أقوى من أن أحاول مقاومتها ......... )
هتفت ملك بقوة تماثل قوته على الرغم من ساقيها اللتين تحولتا الى سائل منصهر ...
( اذن اتركني ...... إن كنت لا تستطيع منع نفسك من الوقوع في الخطأ اتركني يا شادي ..... لأنني أرفض أن أكون أداة متعة ..... )
رجع رأسه للخلف قليلا و كأنها صفعته .... ثم همس بذهول
( هل هكذا ترين نفسك بعيني ؟!! ........ )
" لا ..... الحقيقة أنها ترى في عينيه الكثير ... لكنها لن تتراجع الآن "
فقالت بهدوء و عيناها في عينيه
( هذا ما تحاول أن تثبته لي مرة بعد مرة ........ أي شيء آخر تقدمه لي سوى محاولاتك المستمرة في اضعاف مقاومتي بمشاعر حسية ؟!! ....... أنا لا أعرف أي شيء عن حياتك ... عن أهلك ... و المرة الوحيدة التي تجرأت فيها على دخول بيتك أوشكت على أن تبطش بي .... و كأنني جارية لا تليق بك و بأسرتك ...... أنت ترفض أن تكلمني عن حياتك الجديدة ..... ترفض ربط نفسك بي .... )
كانت عيناه تشتعلان مع توالي اتهاماتها .... قال بخفوت
( أنتِ تعلمين كل شيء .......... )
هتفت و هي تطوح ذراعيها
( بل لا أعرف أكثر مما قد يعرفه من يجلس بجوارك في المواصلات العامة و تبادل معك حديثا تافها لعدة دقائق قبل إنصرافه ...... )
سكتت قليلا ... ثم لم تلبث أن هزت رأسها ضاحكة بمرارة
( آآه عذرا ..... لقد نسيت أنك من المستحيل أن تستقل مواصلات عامة ..... )
زفر كريم بعمق و احتراق وهو يستدير بعيدا عنها و يديه في خصره .... ينظر الى السماء السوداء حولهما .... و كم بدا بعيدا عنها في تلك اللحظة .....
رق قلبها إليه ... وودت لو تخبره أنها معه و أنها لن تهتم بأي تفاصيل ... لكن كيف وهو يحاصرها بكل اتجاه و هي تضعف مع كل يوم يمر بينهما ......
لذا قالت بصوت هامس كئيب
( سأسالك للمرة الأخيرة يا شادي ........ ماذا تريد مني ؟؟ ... و الى أين سينتهى ارتباطنا ؟؟ )
لم يبد عليه أنه سمعها .... موليا ظهره لها دون حراك .... فجمدت عيناها و تشعب ألم نازف في صدرها ....
لكنه لم يستمر طويلا ..... فقد التفت اليها ببطىء ليقول بهدوء و كأنه قد حسم أمره
( سنتزوج يا ملك ............ )
اتسعت عيناها و توقف قلبها .... لم تعتقد أن يحسم أمره بمثل هذه السرعة .... فهمست تريد التأكيد
( ماذا ؟!! ........ )
اقترب منها خطوة و قال مجددا مشددا على كل حرف
( س.... ن ....ت ..ز .... وج ..... )
فغرت شفتيها و رفعت يدها الى صدرها .... و ارتبكت لا تعلم ماذا تقول ... لكنها قالت بارتباك
( لكن أسرتك لا تعلم عني شيء !! ....... )
قال بهدوء و عيناه تتحديان عينيها
( هل تهتمين كثيرا لعائلة القاضي ؟؟ ...... )
قالت دون تفكير
( و لا للحظة ........ لكن هل ستخبرهم بزواجك و خروجك من بيتهم على الأقل ؟؟ .... )
حينها صمت وهو يخفض رأسه ...... فنبع الرفض بداخلها بغضب و هي تقول دون تراجع و قد أدركت حقيقة الأمر
( لن أتزوج في السر يا شادي ........ )
رفع وجهه اليها ينظر لها بصمت .... و نظرت اليه ...... فعرفت أن الأمر أصعب مما تخيلت بالنسبة اليه ... و كم أشعرها ذلك بالقنوط فهمست بصوت فاتر
( أنت تخجل مني يا كريم القاضي ..... أنا لا أليق بك .... اليس كذلك .؟؟؟ )
اتسعت عيناه بوحشية ... ثم اندفع اليها يمسك بذراعيها بقوة وهو يقول من بين أسنانه
( هل أنتِ مجنونة ؟!!! ...... أخجل من نفسي ؟؟ ......أنتِ أنا ... كم مرة يجب علي افهامك ذلك ؟؟ )
همست بيأس امام عينيه
( اذن ما الأمر ؟؟ ....... ماذا يعيقنا ؟؟ ..... الفائدة الوحيدة من يتمنا هي أننا أحرار ..... لا وجود لمن يمكنه تقييدنا ...... )
نظر الى عينيها بحرارة ثم قال
( الأمر أكثر تعقيدا من ذلك يا ملك ........ )
نظرت اليه بيأس طويلا .... ثم همست أخيرا بفتور
( حسنا اذن ........ ابتعد عني الى أن تستقر أمورك )
شدد أصابعه على كتفيها حتى أغمضت عينيها و تأوهت ألما ... و هدر قائلا
( ابتعادي عنكِ مستحيل ....... انسيه تماما )
هتفت هي الأخرى بصوتٍ
( و استمرارنا بهذا الشكل مستحيل ....... )
صمتت قليلا حين لاحظت عذاب يتصارع فوق ملامحه ..... فهمست بعد فترة طويلة
( أنا على استعداد لإنتظارك القدر الذي تحتاجه لترتيب أمورك ....... لكن الى هذا الوقت .. ارجوك ابتعد )
توحشت عيناه الجميلتان كما توقعت ..... عيناه غريبتا الألوان و القادرتان على اخافتها و جذبها في نفس الوقت ....
قال بعدها بغضب
( لن أبتعد عنك للحظة واحدة ....... سنتزوج و ستكونين ملكي أمام العالم كله ... )
ارتجفت ابتسامة صغيرة على شفتيها الجميلتين و هي تهمس بروعة
( حقا يا شادي ؟!! .......... )
مد يديه يتحسس وجهها و هو يراقب كل تفاصيله بوله .... حتى ارتجفت بين يديه , ثم همس لعينيها
( كيف تمكنت من الإبتعاد عنكِ كل تلك الفترة ؟!! ...... أنا نفسي لا أعلم )
ابتسمت لعينيه ثم همست
( لكنني كنت أنتظرك ...... دون حتى أن أدرك ذلك ...... )
ذابت عيناه لها ... و همس وهو يقترب منها أكثر
( أنتِ جزء مني يا ملك ..... انفصاله عني يعني موتي )
همست بكلمة واحدة و هي ترفع يديها لتضعهما فوق كفيه على وجهها و هي تنظر الي عينيه برقة كي يقرأ بهما كلمتها
( أحبك يا شادي .......... )
اتسعت عيناه بصدمة من صراحتها الرقيقة التي جاءت كقصف مفاجىء ضرب قلبه ..... فهمس بذهول
؛( بهذه البساطة ؟!! ....... )
ابتسمت أكثر و هي تهمس
( نعم بهذه البساطة ........ مشاعري تجاهك لا تخجلني و سأحافظ على نقائها دائما ... أعدك بذلك )
تأوه بقوة وهو يهمس بوحشية مشددا على وجهها
( أعشقك ........ أعشقك صوتك و شعرك ..... أعشق عسل عينيكِ و قلبك ......أعشقك جمالك .... )
همست بالمقابل و هي تنظر لعينيه المتوهجتين
( أحبك ............ )
ارتجف جسده بمشاعر لم يعرفها مع فتاة من قبلها .... مشاعر جسدية و روحية منبعها تلك الفتاة التي هي جزء من ماضيه و حاضره .... جزء منه منذ أن أبصرها ......
قال كريم أخيرا
( سنتزوج ؟؟؟ ........... )
ابتسمت و هي تقول مؤكدة
( رغما عنك ........... )
تأوه وهو يقول
( أكاد أموت لأتذوق شفتيكِ ...... أتذوق كلمة الحب منهما .... أتذوق توقيعك الشفوي بالموافقة على زواجنا .... هذا ظلم ...... )
احمر وجهها و أسبلت جفنيها ترتجف رغما عنها ثم همست
( لو تحبني بصدق انتظر الى أن أصبح لك ...... أمام العالم كله ..... حينها سيكون للكلمة مذاق آخر .... )
رفعت وجهها و نظرت اليه تقول بصدق
( مذاق لا تشوبه شائبة ........... )
عقد حاجبيه و همس امام شفتيها
( لماذا تبدين هكذا ؟!! ......... دائما متزنة بدرجة قد تجمد قارة بأكملها )
ضحكت قليلا ثم همست
( قارة بأكملها ؟!! ........ لا .... يكفيني فقط أن أكون متزنة بدرجة تكفينا معا , نظرا لأنك منفلت الإرادة و الإتزان معا ....... )
ضحك عاليا وهو يضمها قليلا اليه على الرغم من تشنجها التلقائي .....
ثم همس في أذنها بجنون
( ربما لو دغدغتك الآن فستفقدين كل اتزانك المزعوم ذلك في لحظة و ترتمين عند قدمي ككتلة مرح ... كما كنت تفعلين و انت طفلة ...... )
احمر وجهها بشدة فضربته و هي تقول بغضب مرتجف على الرغم من شقاوة عينيها
( احترم نفسك ......... لم أعد طفلة )
تألقت عينا كريم ببريق عابث خبيث وهو يقول
( هل نجرب ؟؟ .......... )
صرخت و هي تنتفض مبتعدة عنه
( إياك .......... ستكون نهايتك لو مددت يدك )
ضحك عاليا ... فرفعت اصبعها الى فمها بقلق و هي تهمس
( هشششششش ..... لقد نسينا أين نحن , ستكون كارثة لو صعد أحد الساكنين الي السطح الآن ... )
تأمل المكان من حوله وهو يضع يديه المرتجفتين بالرغبة في جيبي بنطاله .... ثم قال بخفوت
( بالمناسبة ...... الا تشعرين بالبرد في هذه الغرفة ؟؟ ....... )
نظرت حولها هي الأخرى .... ثم قالت برضا
( لا ليس تماما ...... انا ادفىء نفسي جيدا )
نظر الى معطفها الذي لا تمتلك غيره ..... معطف احمر راقي يحدد معالم جسدها ... لكنه قديم و على ما يبدو ان احدى السيدات الراقيات اعطته لها في نوبة كرم بعد ان استهلكته سنين طويلة ....
فقال بهدوء
( لا اظن معطفك كافي لتحمل البرد هنا ........ )
ارتبكت قليلا و مدت يديها تغلق طرفي المعطف و هي تحيد بوجهها عنه .... فاقترب من خلفها ليلف ذراعيه حولها ممسكا بجانبي المعطف مثلها هامسا في اذنها
( سأكسوكِ بالفراء .......... )
تجمدت ملامحها و حاولت الفرار من بين يديه و هي تهمس بفتور
( هداياك مرفوضة يا كريم ........... )
عقد حاجبيه وهو يقول بشر دون أن يحررها
( لماذا ؟!! ........... )
لم ترد على الفور ..... لكنها أخذت نفسا عميقا و قالت بصلابة
( هدايا كريم القاضي مرفوضة ...... )
أدارها اليه بشراسة و هو ينظر اليها بعينين مخيفتين
( وضحي كلامك ........ هل ترين أنني لا أستحق المال الذي أملكه )
أبعدت وجهها عنه ... و قالت بهدوء
( لم أقل ذلك ...... قد تملكه برغبة من يمنحوك المال , لكن أنا لا أمتلك الحق في الحصول على مثل تلك الهدايا الثمينة ....... )
أبعدها عنه بقوة وهو يصرخ
( ليكن بمعلومك ...... أنا أستحق كل ما أملكه , كريم القاضي هو محور عائلة القاضي ..... و لا غبار على ذلك ..... )
قالت بقلق
( اخفض صوتك ....... ستتسبب في طردي من هذا الxxxx و من العمل لو علم أحد بوجودك ..... )
الا انه هتف بقوة و قد بان الجنون على وجهه
( أنتِ ترين أنني عالة ..... طفيلي ...... اليس كذلك ؟؟؟ ....كلها عقد البقاء في دار الرعاية حتى سن الشباب ..... لا يمكنك التغلب عليها اليس كذلك ؟؟ ..... . )
قالت بقسوة على الرغم من الألم الحاد الذي طعنها
( أنت تحرف كلامي ........ و أعتقد أنك لن تتمكن من الفهم الصحيح الآن بمثل حالتك تلك , لذا من فضلك غادر الآن ....... )
ظل ينظر اليها وهو يتنفس بسرعة و غضب .... بينما هي تواجهه رافعة وجهها بصلابة و دون اهتزاز .....
فتنهد أخيرا بكبت ليقول صاغرا
( ملك سامحيني لم أقصد أن أحتد عليكِ ......... )
استدارت توليه ظهرها و هي تضم جانبي معطفها لتقول بفتور
( من فضلك غادر يا كريم ........... )
ظل ينظر اليها بوجوم و عذاب ..... ثم غادر أخيرا .......و سمعت خطواته تنحر الأرض بقوة ...
تقريبا معظم مرات مقابلتهما يفترقان بنفس الطريقة حين يفقد سيطرته على نفسه لسببٍ ما .....
استدارت ملك تنظر الى مكانه الفارغ بأسى ...... لقد جرحها بشدة كما يفعل دائما , لكن مع ذلك تسامحه ....
نظرت الى معطفها البالي على الرغم من جماله القديم .....
الفارق بين مظهرها و مظهره ضخم جدا ..... فهو يرتدي معطف مذهل , تعتقد أن ثمنه يوازي ثمن حاسوبها الذي اشترته بالتقسيط لمدة عام كامل .....
رفعت وجهها بكرامة و هي تتشبث بموقفها اكثر ...... حتى لو كانت معقدة بعقد الدار كما يقول ..... لكنها ستظل كما هي و لن تتغير ......
لكن بداخلها شيء يخبرها أن حياته لم تكن بمثل تلك السهولة ..... لذلك تسامحه دوما .....
لقد سألته يوما عن أمه ....... و كم رغبت في مقابلتها يوم أن ذهبت لبيته .....
لكن حينها توترت ملامحه قليلا .... و ظنت أنها تتوهم ذلك ..... و لا تزال تتذكر رده المختصر
( انها سيدة لطيفة ...... لم تكن متقبلة وجودي في البداية .... لكن مع مرور السنوات أصبحت علاقتنا جيدة )
تنهدت ملك و هي تتسائل بارتجاف عن الطريق الذي تسيرها به مشاعرها الهوجاء .....
ترى هل بالفعل تمتلك من الإتزان ما يكفيهما معا ؟!!!!!
.................................................. .................................................. .....................
اتجهت شيراز بتثاقل الى الباب كي تفتحه ..... و ما أن رأت ملك حتى ابتسمت بجهد و هي تقول بخفوت
( ماذا تريدين ؟؟ ........ العصافير لا تزال نائمة .... )
ابتسمت ملك باشراق و هي تمد اليها كيس ممتلىء بالمخبوزات و قالت برقة
( ذهبت للمخبز قبل أن أفتح المحل و أحضرت لكِ أنواعا مختلفة من المخبوزات كي تتناولي فطورك .... )
نظرت شيراز الى الكيس ثم تركت الباب و دخلت الى الشقة ترتمي على الأريكة و هي تشعث شعرها بشرود
فتبعتها ملك تلقائيا و أغلقت الباب ..... ثم لم تلبث أن عقدت حاجبيها و قالت
( كما توقعت ..... الشقة جوها مكتوم جدا .... اليوم في فترة راحتي سآتي اليكِ كي أنظفها لكِ )
رفعت شيراز ركبتيها الى صدرها و قالت بملل
( توقفي عن الثرثرة يا ملك ....... لا أشعر بالرغبة في الكلام أو السماع )
نظرت ملك اليها مليا ..... ثم اتجهت لتجلس بجوارها و مدت يدها تلامس خصلات شعر رأس شيراز المنحني على ركبتيها ثم همست
( اشتقت اليكِ سيدة شيراز ........ )
لم ترد شيراز و كأنها لم تسمعها ..... لكن ملك لم تنتظر منها رد , فالسيدة شيراز لم تكن من محبي المشاعر الرقيقة بين البشر ..... لكنها رغم ذلك رغبت في أن تمنحها ذلك الإحساس ....
فالسيدة شيراز من أكثر الناس الذين تحمل لهم ملك امتنانا لا يوفيه الكلام حقه ...... لذا فهي تتقبلها كما هي بكل عيوبها .. و لم تحاكمها يوما في قرارة نفسها .....
تابعت ملك بخفوت
( الا تريدين أن تقصي علي تفاصيل رحلتك ؟؟ ....... )
لم ترد شيراز و لم ترفع رأسها .... فقالت ملك بهدوء
( لا تبتئسي هكذا ......... ارفعي رأسك ..... )
شعرت بها ترتجف تحت يدها .....
" ارفعي رأسك ...... "
كانت تلك هي عبارته حين وجدها محنية الرأس فوق الحاجز الخشبي الممتد في عمق البحر ....
يومها مد يده يربت على رأسها المحنى و يداعب شعرها تماما كما تفعل ملك الآن .....
و رفعت رأسها تنظر اليه بصمت ..... لكنه لم يسحب يده من شعرها و كأنه يلاعب طفلة ... فابتسم لعينيها الحمراوين و قال بخفوت
( لا تحني رأسك مجددا ....... أبدا ..... )
أفاقت على واقعها لتجد أنها تنظر الى ملك و ليس وليد .....
فتنهدت بقوة و أبعدت وجهها تنظر للبعيد .... و كانت ملك تتبعها بعينيها بقلق ثم قالت بخفوت
( حسنا ....... ربما تريدين معرفة تفاصيل حياتي في الأشهر السابقة ... )
لم يظهر الإهتمام على وجه شيراز الصامت .... لكن ملك تعرف أنها تمثل لها شيء ما ..... فهي الشخص الأول الذي رغبت شيراز في رؤيته ما أن عادت من السفر .....
لذا قالت ملك مبتسمة بخفوت
( لقد عثرت على أختي ........ )
ارتد رأس شيراز فجأة بقوة و هي تهتف بصدمة
( وعد !!!! ............ )
ساد صمت مهيب .... حينها ابتسمت ملك دون مفاجأة ابتسامة عريضة شملت وجهها كله بينما الجمت شيراز لسانها و ارتبكت بقوة .... لكن ملك همست برقة و عذوبة
( نعم وعد ........ يا بشرى ... )
اهتزت عينا شيراز و ابعدت وجهها بصمت ..... فقالت ملك ببساطة
( لماذا يظن الجميع أنني لا أعرفهم ؟!! ....... لماذا لا تكون الحياة أبسط من ذلك ؟!! ..... لما لا نعتبر أنفسنا زملاء يتقابلون في لقاء دوري كلما سرقتهم الحياة من بعضهم ...... لكننا لم نكن مجرد زملاء .... كنا أخوة ... ما يربط بيننا أكثر مما يربط الزملاء ببعضهم .....
لقد تشاركنا الطعام و الملبس و الفراش ..... و تشاركنا الألم ..... فكيف نسمح للحياة بأن تبعدنا متظاهرين بأن كلا منا لا يعرف الآخر و كأنه مصدر للخزي ...... أقدارنا لم نصنعها بأيدينا كي نخجل من أنفسنا )
ابتلعت شيراز غصة في حلقها و نظرت الى ملك بصمت .... ثم ابتسمت بألم قائلة بخفوت
( لقد كبرتِ للغاية ....... لطالما أخبرتني عيناكِ أنكِ تتذكرينني جيدا ..... لكنني لم أهتم بالتوضيح .... التظاهر بعدم المعرفة أسهل من مناقشة الماضي ........ )
قالت ملك بحرارة و هي تمد يدها لتمسك بيد شيراز و تقول
( لا داعي لمناقشة الماضي ...... مجرد كلمة " أنا هنا بجوارك " تكفي .... و تريح )
ابتسمت شيراز بسخرية مريرة ..... لكنها قالت بصوتٍ مختنق
( أتعرفين أنني ما أن وجدتك حتى اعتبرتك أمانة لدي ....... وعد كانت ......... )
تنهدت بقوة و هي تشعر بالغصة تقتلها ......
تتذكر وعد الصغيرة التي كانت تقوم من فراشها بسرعة ما أن تعود شيراز الى العنبر بعد هجوم المشرف القذر على جسدها الصغير .....
وعد كانت تضمها و تجففها و تهدهدها .......
لطالما وقفت وعد بجوارها و هي تدافع بصوت طفولي جهوري ضد تعنت المشرفة تجاه اللقطاء عامة و تجاهها هي شخصيا ..... حتى أنها تعرضت للعقاب كثيرا بسببها .....
لم تكونا صديقتين أبدا ...... لكن وعد كانت تساعدها كلما وقعت في أزمة أو تعرضت لظلم .......
و كانت بشرى وقتها تشعر بالغيرة تدب في أعماقها تجاه صديقة وعد التي تحوذ على كل اهتمامها .... تلك التي كان اسمها " كرمة "
كانت تريد اهتمام وعد .... و صداقتها و ليس فقط المساعدة .....
كانت تريد الإهتمام .......
لكن الوقت كان ينضجها أسرع منهن جميعا ..... لقد كبر جسدها على معرفة لم تعرفها معظمهن ....
لقد كبر جسدها و تعلم على يدين قذرتين عابثتين ..... و كانت ذلك هو أول تعليم تتلقاه في حياتها .....
لذلك هربت بشرى من الدار و هي تحمل في قلبها امتنانا لوعد ..... و ما أن مرت السنوات ووجدت ملك بعد أن سعت لذلك بقوة .... حتى اعتبرتها أمانتها الخاصة .....
أخذت شيراز نفسا مختنقا ثم تظاهرت بالإبتسام و هي تقول بخفوت
( كيف هي وعد ؟؟؟ ......... )
ردت ملك ببرود و ايجاز
( لقد تزوجت ما أن عثرت عليها ........ لم أجد الوقت كي اتقرب منها .... لطالما كانت وعد ماهرة في الهرب بنفسها ........ )
ثم ضحكت و هي تقول بمزاح
( لكن ليس بقدرك ....... لقد اشتعل الدار بعد فرارك و نلنا جميعا عقابا لا زلت اتذكره حتى الآن .... )
لكن شيراز لم تشاركها المرح و هي تقول بقوة
( تزوجت ؟!!! ....... عن حب أم ........؟؟ .... )
قالت ملك ببساطة
( لا أمتلك الكثير من المعلومات ..... لكن اظن ذلك , لقد تزوجت ابن عمتها و هو يبدو مفتونا بها لدرجة الجنون ..... ليلة زفافهما كان يبدو كمن أمسك النجوم بيديه ...... )
أظلمت عينا شيراز دون ارادة منها فنظرت أمامها و قد تشوشت الرؤية أمامها ..... بينما تابعت ملك بعفوية تسرد تفاصيل حياة وعد
( لقد أكملت تعليمها الجامعي لحسن الحظ ........ الحقيقة أنها ماشاء الله أوفرنا حظا ..... و زوجها ذو مستوى مادي مبهر ..... لقد فرحت لها من كل قلبي رغم أنها أخفت خبر زواجها عني في البداية .... )
كانت الكلمات تجلد شيراز كالسياط الموجعة ..... بينما ملك تتابع دون رحمة
( و كرمة ...... اتتذكرينها ..... لقد اصبحت مديرة مصرف .... هل تتخيلي ذلك ؟!! .... لكنها تبدو لي ليست سعيدة في زواجها ..... كما لم تنجب أطفال ..... )
نهضت شيراز من مكانها و هي تقول بصوتٍ قاتم ....
( ملك ....... أريد أن أنام قليلا ..... )
ارتبكت ملك ووقفت بهدوء .... ثم همست
( لم أخبرك أنني ........هناك من تقدم لخطبتي ...... )
أغمضت شيراز عينيها .... و شعرت بنصل حاد من الغيرة السوداء .... غيرة غير مسببة ...
لقد تزوجت ثلاثة مرات .... و لا يزال هناك رابع يكاد يخضع عند قدميها حتى قبل أن تحصل على الطلاق ... و بعضهم يمتلكون أكثر مما قد يمتلكه أزواج زميلاتها مجتمعين .....
قالت فجأة بصوتٍ مظلم
( اذهبي الآن يا ملك ............. )
شعرت ملك بالوجوم و الحزن .... لماذا شعرت أنها في حاجةٍ الى شيراز أكثر من احتياج شيراز لها ....
لكن شيراز تابعت بصوت أخف حدة
( أرجوكِ ......... )
ابتسمت ملك قليلا .... لكنها همست
( حسنا لا بأس ...... إن احتجتِ لأي شيء فقط اطلبيني .... )
أومأت شيراز برأسها و هي تحاول كبت الغصة التي تهدد بالخروج في صرخةٍ قوية ضد الجميع .....
.................................................. .................................................. ......................
مدت ملك يدها تلتقط سماعة هاتف المحل ....
و بدأت تلقائيا في تسجيل طلب لباقة ورد خاصة .... و ما أن بدأت في تسجيل العنوان حتى توقفت و رفعت القلم و هي تبتسم برقة ....
حينها توقف الصوت الخشن المتنكر عن المتابعة وهو يقول بخفوت
( ألازلتِ غاضبة من خادمك فظ الأخلاق ... مليكة ؟؟؟ ............. )
عضت على شفتيها ... و بدأت أصابعها في التلاعب بنهاية ضفيرتها الذهبية .... ثم قالت بخفوت و صرامة زائفة
( هذا وقت عمل ....... الا عمل لديك أهم من اللعب بالأصوات ؟!! .... كم عمرك ؟!! )
قال بلهجةٍ آمرة صلفة
( و من قال أنني لا أتصل بهدف العمل ؟؟ ....... لديك باقة مسجلة عندك تحتاج الى توصيل ... )
اختفى الهزل من ملامحها و حل محله الدهشة و قالت بشك
( هل أنت جاد ؟!! ....... هل تريدني دخول بيتك مجددا ؟؟ ...... )
أصدر صوت استهجان ثم قال بسخرية
( محلكم هذا لا يتصف عامليه بالإحترافية أبدا ........ )
ضحكت قليلا بينما قلبها يقصف بعنف ... ثم همست
( حاضر سيدي ....... في أي وقت تريدها ؟؟ ...... )
صمت قليلا و استطاعت سماع صوت نفسه الأجش .... ليقول بعدها بصوتٍ خافت على الرغم من سخونته
( أريدها .... و كم أريدها .... أريدها الآن و كل يوم ..... أريدها الا تفارق أحضاني .... أريد أن أرتشف نداها ...... )
احمر وجهها بشدة ... و عضت شفتها حتى أدمتها , ثم قالت بوجوم متلعثم
( تبدو متحرشا سيدي ..... و من الأفضل الا آتي ..... )
سمعت ضحكته ليقول بعدها بثقة
( تجرأي على ذلك ...... و حينها سآتي لألفك بورق ذهبي و شريط وردي ... و أحملك رأسا الى .... )
شهقت و هي تقول بحدة
( اخرس و الا والله سأغلق الخط ......... )
صوت ضحكه أسعدها .... و جعلها تبتسم بحنان , .... لأنها تعلم .... تعلم توتره من ادخالها بيته ,
بداخله يريد فصل الماضي القاسي عن حاضره المبهر
لكنها تمثل عقبة في ذلك الفصل , لأنه لا يتمكن من اخراجها من حياته ..... و كم يسعدها ذلك ... و في نفس الوقت يخيفها .....
.................................................. .................................................. ......................
اتجهت شيراز الى باب شقتها تفتحه بغضب و ما أن فعلت حتى هتفت بحنق
( ابتعدي عني يا ملك !!! ........ و توقفي عن التطفل على حياتي .... )
لكنها صمتت بذهول و هي تنظر الى الجسد الضخم و الوجه الوسيم وهو يقف مستندا الى اطار الباب , مكتفا ذراعيه ... و تعلو وجهه امارات الغضب المكبوت بمهارة ...
قال وليد بخشونة لا تحمل أثر للمرح
( لقد غيرت اسم ملك ..... فهو يبدو انثويا قليلا .... لكنني لن أبتعد عن حياتك )
همست شيراز بذهول وهي تنظر اليه بعينين متورمتين من البكاء
( وليييد !! ......... كيف عرفت عنواني ؟؟ ..... )
لم يتنازل للرد ..... لكن عيناه احتوتها كلها وهو يقول دون مقدمات
( لماذا رحلتِ دون خبر ؟!!! .......... )
زفرت بعذاب ..... و تشبثت بالباب فربما تجد به الحماية من نفسها قبل أن يكون منه ..... ثم همست بيأس
( كان يجب لتلك الرحلة أن تنتهي في وقتٍ ما ........ )
استقام في وقفته ثم دخل الى البيت دون استئذان فتراجعت رغما عنها ليغلق الباب خلفه .... ثم وقف ليقول مجددا بصوت منفعل بعواطف مشحونة
( لماذا رحلتِ يا بشرى ؟!! ....... هل أخفتك بمشاعري ؟!!! ...... )
ظلت تنظر اليه بصمت ..... ثم أومأت برأسها دون كلام و هي تعجز عن ايجاد الحجة المناسبة
↚
اشتمت رائحة عطر قوي ...... و شعرت بيدٍ قوية تربت على وجنتها الناعمة ..... باطن تلك اليد علة وجنتها اليمنى ... لتتحرك و يتلمس ظاهرها الوجنة اليسرى ....
و سمعت صوتها يهمس من بعيد و كأنها تستغيث به
( سيف !!!........... )
لكن الصوت الرخيم الذي اخترق أذنها قال بهدوء
(أمممم لا ..... بل يوسف ... )
فتحت عينيها ببطىء ترمش بهما عدة مرات و هي تحاول جاهدة الخروج من تلك الشرنقة التي تبتلعها ....
و ما أن وعت الى نفسها .... حتى وجدت وجها منحني اليها بقلق .... و خلفه العشرات من الوجوه متعددة الجنسيات و الألوان !!!
و ما أن عقدت حاجبيها حتى وجدتهم يضحكون و يهللون و كأنهم يهنئون أنفسهم !!! .....
كانت تنظر اليهم بتوجس .... وهي تدرك أنها جالسة في مقعد من أحد مقاعد صالة المطار ......
فهمست بخوف
( أين أنا ؟!! .......... )
عبس صاحب الوجه الأقرب ... ثم قال بهدوء ليتبين أنه هو صاحب الصوت الرخيم
( آنسة وعد ....... أنتِ لازلتِ في المطار ..... لقد أصبتِ بالإغماء بعد وصولك ..... )
استقامت في جلستها و هي تحك شعرها محاولة الإستيعاب ...... ثم همست بتوتر
( آه .... نعم .... نعم تذكرت ..... أنت صاحب الميراث ... اليس كذلك ؟!! ... )
رفع احد حاجبيه وهو يفكر ...
" صاحب الميراث !! ...... لماذا يشعر و كأنه بائع حليب يمر عليها كل صباح !! "
فقال مصححا باتزان وهو يمد يده
( يوسف الشهاوي ....... رجل أعمال مقيم هنا منذ سنوات , و أنا ابن ....... يمكنك القول حاليا أنني صاحب الميراث بالفعل ... و الذي تواصلتِ معه مؤخرا ... )
نظرت الى يده الممدودة بتوجس ...... دون أن ترفع يدها .... فسحبها و هو يتنحنح بحرج ناظرا حوله ليرى إن كان هناك من رآى ذلك الإحراج العلني ....
ثم قال بهدوء
( هل نغادر الآن ..... لو كنتِ بخير ... )
أومأت برأسها بتوجس واضح و هي تنظر اليه كمفترس ..... بينما هو يرمقها بطرفِ عينيه ... ماشيا بجوارها ... و ما أن تعثرت حتى وجدت ذراعاه حولها في حلقةٍ مفتوحة دون أن يمسكها و كأنه يحاوط دجاجة كي لا تهرب .....
الا انها رفعت ذراعيها بتشنج و هي تقول
( أنا بخير ..... أنا بخير ...... ابعد ذراعيك ... )
زفر يوسف بنفاذ صبر و هو يرمقها بغيظ .... و ما أن خطت خارج البوابة ... حتى تسمرت مكانها و شهقت بذهول و هي تضرب صدرها بيدها
( يا اللمصيبة ...... لقد نسيت أبي ..... لقد أضعت أبي ..... نسيته على الطائرة !!! ..... )
نظر يوسف حوله بحرج و الجميع ينظرون اليهما .... بينما همس بتوتر
( آنسة وعد .... آنسة ...... توقفي عن النواح ..... أنتِ يا فتاة بالله عليك افتحي اذنيك .... أنتِ لم تنسي والدك على الطائرة ..... والدك الآن في سيارةٍ خاصة متجها للبيت .... لا تخافي ..... )
نظرت اليه و هي تلهث برعب تقريبا .... فقال مؤكدا
( صدقا ........... )
أومأت برأسها بتردد ..... ثم تبعته بصمت و سار هو متنهد بغضب ....
لماذا بحق الله واتته نوبة الضمير في اخبار تلك الكائن عن ميراثها !!! ..... إنها تبدو كبطريق أتى الى بلادٍ حارة عن طريق الخطأ !!
.................................................. .................................................. .....................
دخلت وعد خلف يوسف الى بيت مشرق .... من أروع ما شاهدت يوما ....
سارت خلفه و هي تنظر حولها الي بيت جدرانه معظمها من الزجاج الذي يطل على حديقة زاهية الخضار .... بينما أثاثه كله باللون الأبيض !! ....
فقط بعض الوسائد هنا و هناك .... لها ألوان فيروزية و زرقاء زاهية !! ...
استدار اليها يوسف فجأة يقول
( والدك الآن ....!!! .... )
صمت وهو يراها ناظرة للسقف فاغرة فمها ..... فانتظرها الى أن تنزل اليه بصبر .....
و ما أن ان نظرت اليه حتى أغلقت فمها و احمر وجهها قليلا ثم همست بارتباك
( عذرا ....... ماذا قلت ؟!! ........... )
قال لها بخفوت
( والدك الآن في غرفة خاصة له ....... لو وددت الإطمئنان عليه , لكن أنا أفضل أن تصعدي الى غرفتك أولا ...... فأنتِ شاحبة للغاية .... )
أومأت برأسها بصمت ..... بينما تابع يوسف قائلا
( لقد أمرت بتجهيز نفس الغرفة الخاصة بوالدتك رحمها الله ...... )
اتسعت عينا وعد بصدمة و همست قبل أن تمنع نفسها
( حقا !! ........... )
أومأ يوسف برأسه ..... ليقول بهدوء
( الغرفة لم تتغير ...... لا تزال غرفتها كما تركتها و لم يستخدمها أحد بعد والدي ووالدتك .... حتى أغراضها الخاصة لا تزال بها ...... لكن لو كان ذلك يثير خوفك .... فهناك غرفة أخرى جديدة مجهزة تحسبا .... )
أسرعت وعد لتقول بقوة
( لا أرجوك ...... أريد الصعود الى تلك الغرفة )
نظر اليها قليلا ...... تلك الفتاة الهزيلة , تمتلك جاذبية معينة ذات سطوةٍ خاصة ..... هل هي حماقتها أم المكر الظاهر في عينيها الرماديتين .... أم هما عينيها نفسهما !!! ....
أبعد تلك الأفكار عن ذهنه .... ثم قال
( اذن تفضلي ........ ستسبقك ماريا الى الغرفة )
نظرت وعد الى خادمة أنيقة بيضاء ..... تبدو كطبق القشدة .... تسبقها بالفعل متوقعة من وعد أن تتبعها ....
و بالفعل تبعتها الى غرفة بالطابق الثاني .... ذان باب أبيض ككل ما في البيت
.... ثم ابتسمت للخادمة بتردد لتغلق الباب بعد انصرافها ....
استدارت وعد تنظر الى الغرفة ذات الأثاث الراقي و الأنيق ..... فأغمضت عينيها تشعر و كأن أحد يهمس لها ... ففتحت عينيها بسرعة لتقول بصوتٍ مسموع
( أعوذ بالله ..... تعقلي يا وعد ...... )
ثم تنهدت و هي تنظر حولها بلهفة .... الى أن تسمرت عيناها على صورةٍ معلقةٍ على الحائط ....
لوجه امرأةٍ جميلة ...... جذابة بفجور ..... عيناها السوداوان صريحتان حد الوقاحة ....
ففغرت وعد شفتيها بصمت ...
" نعم ..... نعم إنها هي ...... هي صفا كما تتذكرها .... "
تنهدت وعد بارتجاف و عيناها مأسورتان بالصورة ..... ثم رفعت يديها و أغمضت عينيها عن تلك الصورة لتقرأ الفاتحة ......
و ما أن انتهت .... حتى فتحت عيناها الحزينتان بصمت مثقل ... و اتجهت بتيه الى أن أوصلتها قدماها الى الدولاب العريض .... ففتحته بحذر ....
لترى ملابس مرتبة .... متراصة خلف بعضها بترتيب الألوان ... و معظمها حريرية .....
اخذت من اول الحائط الى آخره !!! ....
بينما هناك رفان بأسفل متراصة عليهما أزواج من الأحذية عالية الكعبين بكل الألوان !! .......
مدت وعد وجهها تستنشق عطر الملابس ...... فعادت لتغمض عينيها و كأنها تشم رائحة صفا .... و كأنها تتنعم بعناق أمها .... و الذي ضاع من ذاكرتها تماما .....
سمعت طرقا على الباب .... فانتفضت و أغلقت الدولاب على مشاعرها الخائنة و هي تقول ماسحة طرف عينيها
( تفضل ............. )
دخلت الخادمة .... محضرة حقيبة وعد الوحيدة ... و معها حقيبة يدها .... ثم توقفت لتخبرها بلغتها الأجنبية
أن الغذاء سيكون جاهزا خلال دقائق ......
فابتسمت لها وعد شاكرة ..... و ما أن خرجت حتى رفعت وعد حقيبتها لتضعها على السرير و فتحتها لتنظر بداخلها ..... ترى ماذا ترتدي !! .....
لقد أحضرت ملابسها التي خاطتها بنفسها !! ....... لذا قررت بعدم رضا ارتداء القميص الوردي مع التنورة الرمادية .....
و ما أن انتهت من حمامها و من ارتداء ملابسها .... مشطت شعرها و تركته حرا يلمع فوق كتفيها ....
فأخذت تمشطه بشرود .... لتغمض عينيها للحظات ...... لا بل لحظة .... لحظة ذكرى فقط ثم تنزل الى السيد يوسف ....
لحظة ذكرى ليدين سمراوين .... ألتقطتا منها فرشاة الشعر ذات يوم و هي تقف أمام المرآة ....
وعيناه تلتهمان صورتها المنعكسة ..... بينما يداه تلتهمان الأصل .....
ابتسمت بحزن و هي تتذكر انحنائها و هي تهتف ضاحكة بإثارة
( توقف يا سيف ........ أرجوك ....... )
لكنه لم يتوقف .... بل أنحنى ليضع ذراعه تحت ركبتيها و يرفعها الى صدره فتعلقت بعنقه و هي تهمس بدلال كالأطفال
( أرجووك .......لا ... ليس الآن .... )
فهمس لها في أذنها بصوته الأجش
( حسنا .سأتركك ..... لكن قوليها مجددا .... )
فهمست مبتسمة
( أرجوووووووووك .......... )
اشتعلت عيناه حينها و هتف بجموح وهو يحملها الى سريرهما المنتظر منذ اثني عشرة ساعةٍ كاملة
( من ذا الذي يستطيع أن يقاوم رجاءٍ كهذا ........ )
تأوهت وعد بصوت و هي تطبق جفنيها و الصور المتلاحقة لا ترحمها ......
فتحت عينيها بالقوة و هي تنظر الى نفسها ..... و همست بقسوة
( كم كان الفراش رائعا بينكما !! ........ هل هذا هو ما تشتاقين اليه !! .... الى أي حد ستبيعين نفسك بعد !! .... ربما الى أن تتحولي لسلعة مجانية يرميها في نهاية المطاف ..... أفيقي ..... سيف لم يكن لك منذ البداية و لقد أوضح لكِ ذلك بكل الطرق الممكنة ...... )
صمتت قليلا ثم قالت بجمود و جفاء
( أما الإشتياق ........ فلتعتاديه , فلقد تعودتِ الفقد منذ صغرك ....... )
نفضت شعرها بعنف ثم خرجت من الغرفة بتصميم و ارادة ..... و عيناها على عيني والدتها قبل أن تغلق الباب خلفها
نزلت وعد الى مكان مائدة الطعام التي أرشدتها اليها الخادمة .... فوجدت يوسف جالسا الى رأس المائدة .... ووالدها على كرسيه بجواره .....
فابتسمت بتوتر لتقترب منهما .... و جلست بحذر على المقعد المجاور لوالدها .... فسألها يوسف بأدب بعد أن تأملها خلسة فترة أطول مما يلزم
( هل أنتِ أفضل الآن ؟؟ ....... )
أومأت برأسها و هي تهمس
( نعم ...... شكرا لك ........ )
فقال بهدوء
( اذن اريدك انهاء كل هذا الطعام اللذي أمامك كي يعود بعض اللون الى وجهك ..... )
أغمضت وعد عينيها للحظة .... و روحها تتذكر عبارة تشبه تلك .......
" سيف !! ........ ابتعد عن ذاكرتي , رجاءا "
فتحت عينيها على صوت والدها الذي صرخ فجأة بصوتٍ أجش ذو حروفٍ ثقيلة صعبة الفهم
( أنتِ يا حمقاء ..... أين طعامي !! ...... و أقراصي ...... أقراصي الحمراء و الصفراء ..... )
ارتبكت قليلا في وجود يوسف .... لكنها مالت اليه تقول بخفوت
( سأسكب لك الطعام و أطعمك بنفسي يا أبي ..... و لا تقلق لم أنسى ميعاد اقراصك )
الا أنه صرخ وهو يدفع يدها بعيدا ....
( ساعات و أنت تتركيني بمفردي يا بنت ال **** و الآن تريدين وضع القمامة في فمي ! )
نظرت وعد أمامها بعينين لا تبصران من شدة الخزي ...... لكن والدها تابع بهذيان
( أنتِ يا بنت الفاجرة ..... لماذا لا تردين ! .... )
شعرت فجأة أن الدنيا تميد بها ..... لكن قبل أن تصاب بالإغماء مجددا ... صرخت بعنف و هي تضرب المائدة بقبضتيها فتراقصت االأكواب و الأطباق في قرقعاتٍ عنيفة
( كفى ..... كفى ...... كفى ..... ارحمني ..... )
رفع يوسف يده الى فمه و هو ينظر الى طبقه بصدمة .... بينما نهضت وعد من مكانها شاهقة بعنف .... و بقى عبد الحميد مكانه يهذي بخفوت
( هذا ما تفعله صفا دائما .... كلما سرقت شيئا تهرب بعده .... دائما تهرب ... و أناديها و لا ترد .... )
همس يوسف وهو ينظر الى عبد الحميد ....
( يالهول ! ....... )
الا أن عبد الحميد نظر اليه و همس بخشونة
؛( اخرس ايها القذر ......و اغلق فمك قبل أن أدس حذائي به ... . )
.................................................. .................................................. ......................
أن تكون اللحظات أثمن من أن تضيع إحداها ... و يزأر العقل بذلك ....
لكن في نفس الوقت يصيب العضلات وهن مصدره صدر نازف ... أصدر قلب يسكن بداخله الأوامر للساقين بأن تتساقط لوقت من الزمن .....
هذا ما كان عليه حاله ... و هو يجلس على الأريكة البسيطة في الشقة المظلمة .... مستندا بمرفقيه الى ركبتيه
كفه قابضة على الورقة المتجعدة .... عيناه تطوفان في الفراغ المظلم من حوله ....
و بداخله اسم واحد يتردد .... " وعد " ....
و صوت آخر ينازعه صارخا
" قم .... انهض من مكانك .... ابحث عنها قبل أن تحلق بعيدا .... فهي ملكك .... من يوم أن خطت الى مكتبك بقدميها و هي ملك لك ..... انهض و اعثر عليها و أذقها المرار ... لكن في النهاية ابقِها بين أحضانك ... أسيرة صدرك ..... انهض و لا تتخاذل ..... "
لكن الوهن الغريب كان يتسلل غادرا لكل أعضاء جسده الضخم .... و عيناه المظلمتان تحدقان من حوله بحثا عنها ... لا يزال بداخله شعور مجنون يخبره بأنها مجرد مزحة سخيفة منها ... و أنها ستطل الآن من إحدى
الغرف بتعابير وجهها الطفولية ما أن تقرر أن تنبذ جمودها المعتاد .....
لتهتف جذلة " ضحكت عليك ..... أظننت حقا أنني أستطيع الإبتعاد عنك !! "
جنونها نما على يده هو ..... مرحها الجديد تتلمذ على يديه ..... عاطفتها الجامحة التي كانت ترويه دون حساب كان هو مصدرها .....
لذلك ستظهر الآن وعد التي ظهرت على يديه ..... تلك الضاحكة بدهشة و كأنها تختبر مذاق الضحك للمرة الأولى ....
تشاغبه و يعاقبها .... و في النهاية ينتهي بهما الأمر بين أحضان بعضهما منهكين من سيل العواطف المحمومة التي تلفهما ... و تفهمها ... و تعرف كلا منهما حق المعرفة ....
لو ظهرت الآن ... لن يهتم أن يكون سريرها هو وجهتهما .... و الذي كان في مرة سابقة ميدان صراعه النفسي , حيث أذاها دون قصد ....
لو ظهرت الآن ... سيحملها بين ذراعيه و يدور بها .... و ينتهي بهما الأمر كجسد واحد وروح واحدة ...
حيث لا وجود لعبد الحميد أو بيته أو ذكرى لما حدث لوالدته مقترنة بوعد ....
لو ظهرت الآن ... سيعاقبها كي لا تتجرأ مطلقا على تكرار تلك المزحة ال ....... القاتلة ...
و همس فجأة بصوت أجوف .... بعيد
( وعد !! ........ )
ثم لم يلبث أن رفع وجهه و قد توحشت عيناه .... و انبثقت القوة المفقودة في جسده وهو ينتفض من مكانه كمارد ....
وعد جزء منه ..... لن يسمح لمخلوق بابعادها عنه .... حتى لو كان المخلوق هي نفسها ......
فليس من حقها أن تتخذ قرارها بسلب روحه من بين ضلوعه .......
و خلال ساعات كانت تلك الروح تصرخ بفزع بين جنبات صدره وهو يقود سيارته كالمجنون بحثا عنها في كل مكان و قد تأخرت ساعات الليل ....
كانت عيناه تنظران الى الطريق بقسوة ... بينما يقبع خلف تلك القسوة خوف مما يمكن أن يكون قد أصابها ...
أي مكان يمكن أن تتجه اليه ؟!! .... وهي محملة بوالد مسن مريض ...
حتى المال الذي تركه لها لا يكاد يكفيها لقضاء ليلتين في فندق محترم ....
ضرب على المقود بقوة شاتما بعنف و هياج ...
أين يمكن أن تذهب الغبية المجنونة وحدها .... دون مال أو مكان تلجأ اليه خاصة بعد أن تنازلت عن شقتها !!
ملك !! ....
ضاقت عيناه ... و هو يتسائل بغباء عن السبب الذي جعله ينسى وجود ملك !!
و دون ارادة منه داست قدمه أكثر لتزيد من سرعته الجنونية ....
نهضت ملك مفزوعة من نومها على صوت طرق لباب غرفتها .... فجرت متعثرة ووقفت خلفه و هي تسأل برعب
( من ؟!!! ......... )
سرعان ما سمعت صوتا أجش يقول بهدوء
( أنا سيف يا ملك ...... زوج .... وعد )
اتسعت عينا ملك قليلا ... ثم نظرت الى ساعة الحائط و قد تجاوزت منتصف الليل بساعتين ... فعبست بشدة و سرعان ما فتحت الباب لتنظر الي هيئته المشعثة و هتفت بخوف
( سيد سيف !! .... ماذا حدث ؟؟ .... هل أصاب وعد شيء !! ؟؟ )
تجمدت ملامحه أكثر و قست عيناه أكثر و أكثر .... و دون تفكير دفع الباب و دخل مزيحا ملك التي هتفت بارتباك
( سيد سيف !! ....... سيف !! ... ما الأمر ؟!! ..... ماذا تفعل ؟!! .... )
لكن سيف لم يجبها و هو يجيل نظره في أرجاء المكان الضيق ... و سرعان ما التفت اليها ليقول بصرامة
( أين وعد يا ملك ؟؟ ........ )
اتسعت عيناها بخوف أكبر و همست بارتباك
( وعد !! ..... ماذا بها ؟!! ..... ألم تعد للبيت ؟!! .... )
هتف سيف بقسوة
( ملك توقفي عن خداعي ...... أين وعد ؟؟ .... )
عقدت حاجبيها و توترت وبان الخوف على ملامحها .... بينما ظل سيف ينظر اليها بجفاء , ثم لم يلبث أن زفر بعمق ليقول بعد فترة بصوت أكثر رفقا
؛( ملك ..... اعذريني على حدتي معك , لكن مساعدتك لوعد على الهرب ليست الحل ... وعد زوجة و لها مسؤوليات عليها تحملها ... و ما تفعله هو تصرف أطفال ... )
قالت ملك بقوة و توتر
( انتظر لحظة واحدة يا سيف ......ما فهمته هو أن وعد ليست في البيت حاليا .... لكن ما الذي يجعلك تظنها هربت ؟!! .... لماذا لا يكون قد أصابها مكروه !! ... اليس هذا أجدر و أولى أن يشغل تفكيرك حاليا ..... )
زفر سيف بحد و هو يرفع يده ليغرز أصابعه في خصلات شعره بقوة ... ثم قال بحدة
( ملك .... رجاءا هذا ليس وقت تلاعب بأعصابي , وعد تركت رسالة محددة لي .... فهلا تكرمتِ رجاءا بإخباري عن مكانها ؟!! ....... )
عقدت ملك حاجبيها أكثر و همست بشرود
( تركت رسالة !! ............ )
هتف سيف بغضب مما جعلها تنتفض في مكانها و ترتطم بالباب المتشبثة به
( ملك !!! .......... )
توقف حين وجدها تنظر اليه بخوف .... بدت صغيرة للغاية بقميص نومها الطويل حتى الكاحلين و الذي يبتلعها تماما .... بينما انساب شعرها الذهبي الطويل على كتفها ليزيد من صورة برائتها ...
من المستحيل أن تكون تلك الشابة الصغيرة مخادعة إطلاقا ,..... لكن مع هذا ربما ينتابها غباء مؤقت يجعلها تصدق أنها تحمي وعد منه ....
لذا اقترب منها خطوة ليقول بصوت خافت به نبرة ترجي لم يعهدها بنفسه من قبل
( ملك ..... اسمعيني جيدا , ..... وعد ليست في حالة تسمح لها بالإعتماد على نفسها حاليا , حتى أنتِ لن تتمكني من مساعدتها ...... )
همست ملك بخوف
( صدقني لا أعرف عنها أي شيء ..... ولو كنت أعرف لكنت أخبرتك , لأن الهرب ليس حلا ...... )
تنهد سيف بقوة ليقول بكبت
( ملك ...... هذا أول رجاء مني ....... أرجوكِ ..... )
هزت رأسها نفيا ببطء لتهمس بعدها و قد امتلأت عيناها بالدموع
( لا أعلم عنها أي شيء ..... و لو قررت الهرب فأنا آخر انسانة يمكنها أن تلجأ اليها , العلاقة بيننا ليست قوية الى تلك الدرجة ....... أنا علمت بزواجكما بالصدفة ..... حتى أشهر قليلة , لم أكن أعلم عنها اي شيء .... )
ظل سيف ينظر اليها طويلا بعذاب به لمحات من القسوة ... ثم قال أخيرا
( ملك .....وعد صحتها ....... لا تتحمل المزيد من الشقاء .... )
فغرت ملك شفتيها و انسابت دمعة خائنة على وجنتها بصمت دون ان تعرف لها سببا ... ثم همست
( ماذا عن صحتها ؟!! ....... هل هي مريضة ؟؟ .... )
تنهد سيف بقوة وهو يرفع رأسه عاليا ... واضعا يديه في خصره يكاد يسحب كل هواء الغرفة الضيقة في نفس مكبوت قلق .. معذب ....
فهمست ملك تقول بتوسل
( أرجوك أخبرني ...... أريد أن أطمئن عليها .... )
نظر اليها سيف بصمت طويلا ... ثم قال
( بعد أن أطمئن أنا ...... حينها سأطمئنك ... )
ثم اندفع خارجا من الغرفة ... الا أن ملك نادته قائلة ..
( سيف ....... )
استدار اليها سيف بصمت ... فهمست ملك بخفوت و هي تتشبث بالباب
( هل آذيتها ؟!! ......... )
للحظات بهتت ملامحه .... ثم لم يلبث أن عاد وجهه سريعا لقناع الجمود وهو يقول بخفوت
( نعم يا ملك ...... لكن بدرجةٍ أكبر مما ظننتها على ما يبدو .... )
استدار مجددا ليتجه الى السلم ... لكن ملك نادته مجددا و هي تخرج خلفه خطوة , فاستدار اليها ...
حينها قالت بخفوت
( كرمة هي اقرب شخص لوعد ......... )
تسمر سيف مكانه .... نعم ... كرمة بالفعل ....
فعاد الى ملك يقول بلهفة
( هل لديكِ عنوانها أو رقم هاتفها ؟؟ ......... )
هزت ملك رأسها و همست
( للأسف لا ...... لم أظن أنني قد أحتاج اليهما .... نحن نرى بعضنا نادرا .... لكن أكيد أنت تعلم المصرف الذي تعمل به ...... )
برقت عينا سيف ... ثم هتف بقوة
( شكرا يا ملك ........ )
و اندفع نازلا السلم ... و صوتها خلفه يقول بقلق
( لا تنسى أن تطمئنني يا سيف ........ )
لكنها لم تسمع همسه يعيد مكررا بعزم
" حين أطمئن أنا أولا يا ملك ...... "
.................................................. .................................................. ......................
جالسة تضم ركبتيها الى صدرها .... تنظر أمامها بلا ابصار .... تتلمس برعب شفتيها المنتفختين من قبلة رجل غريب !! .....
و صوت آخر يتردد في ذاكرتها من بعيد
" أخشى أن يرتفع شأنك ذات يوم .... فتتركينني ... "
و صوت ضحكها يتداخل مع الذكرى لتقول بمرح و تعجب
" أتركك يا أحمق !! ..... أترك عائلتي الوحيدة !! .... أترك بيتي !! ..... "
اظلمت عيناها و هي تتذكر اقترابها منه بدلال لتهمس فوق صدره اللاهث بقوة مشاعره الجائعة
" أترك زوجي .... و أبي .... و أخي ...و ابني ..... و .... و حبيبي !!! .... و أصل الي هذا الشأن العالي بمفردي !!...
لأكون حينها عجوزا وحيدة بشعة الروح و حاقدة على كل المحبين !!! ...... "
ضمت كرمة نفسها بقوة و هي تستشعر عضلاته و كأنها لا تزال حية تحيط بها ... و ليست مجرد ذكرى لرجلٍ يضمها بقوة .... يثيرها بلمساته التي تعرف كل ذرةٍ من جسدها حق المعرفة ....
و صوته يقول بخشونة
" قد تجدين من هو أفضل مني حين تكبرين ....... "
حينها ضحكت بقوة و هي تندس بصدره هامسة بغنج و سحر
" أفضل منك !! ..... هل هناك أفضل من بطلي !! ..... بطلي الذي وجدني و حارب العالم من أجلي !! ... بطلي الذي تنازل و قبل وحدتي و تقبل أنه لا كبير لي ليضع يده بيديه و يصاهره ....
بطلي الذي منحني اسمه و عرضه دون سابق معرفة أو أصل يسأل عنه ليطمئنه لهذا النسب ....
بطلي الذي حقق لي حلما ما كان ليتحقق بدونه ...... "
صمتت لترفع رأسها و نظرت في عينيه لتكمل هامسة بجدية
" كل قرش دفعته من تعبك و شقائك على أكمال دراستي رفعني درجة .... و ها أنا لم يتبق لي سوى عامين و أحقق الجزء الأكبر من حلمي .... "
انعقد حاجبي كرمة بألم حين تذكرت رده الخافت القلق
" أخشى أن يكون مجرد عرفان بالجميل ...... "
صمت أذناها ضحكتها العالية المتدفقة في ذلك الوقت ... و رأت عيناها نفسها و هي في سن الثامنة عشر .. و مع هذا كانت قد أصبحت امرأة ناضجة نضجا مبكرا على يديه .... تقترب منه بحركات مدروسة .. و يداها الخبيثتان تمتدان اليه بعبث هامسة بقلة حياء
" هل يشبه هذا عرفانا للجميل ؟!! .......... "
لا تزال حتى الآن تتذكر أنفاسه التي تحشرجت بفعل يديها و عضلاته التي توترت و تشنجت .. مما منحها الثقة أكثر و زادت من جرأتها و هي تتابع همسا
" و هذا !! .......... و هذا !!! ..... "
أغمضت عينيها بقوة و هي لا تزال تشعر بألم في جسدها من مجرد ذكرى الطوفان الرجولي الذي جرفها فيه بقسوة كانت تحبها .... بل تعشقها ....
و تذكرت صوتها الهامس بعد فترة طويلة
" يداك الخشنة السمراء ... تشعرني بأنني في نعومة الحرير .... قادرة على تحويلي الى أنثى رقيقة وديعة ... لا أعرفها الا معك ..... "
ابتلعت كرمة غصة مسننة في حلقها بصوت مختنق و هي تطبق جفنيها .... لتهمس بهذيان مختنق
( كيف أمكنك !! ....... كيف أمكنك !! ....... كيف أمكنك استبدالي بهذه السرعة ؟!! .....)
فتحت عينيها الحمراوين لتهمس الى الجدار أمامها
( على الأقل احزن ..... خذ وقتك في البكاء من بعدي ..... التقط اي ذكرى جميلة كانت بيننا يوما و تحسر عليها ...... نم على فراشنا بدوني .... و تشوق لزوجةٍ كانت تستقبل كل ما تمنحه لها و تزيده اشتعالا .....
زوجة تحملت اشتعال ذلك الفراش ليالٍ ..... و برودته ليالٍ أكثر منها .......
زوجة استلقت على ذلك الفراش تحديدا تنتظرك كل ليلة ,محاولة أن تعيدك الى شوق القديم .... مستخدمة سحر الغانيات دون حرج أو تردد ..... فقط لتعيدك اليها .... لتخبرك أنك أهم لديها من العالم كله )
صمتت لتغمض عينيها بقوةٍ مجددا ...و هي تهمس بعذاب
( كيف أمكنك ؟!! ....... كيف أمكنك أن تنمي بداخلي الرغبة في كسر قلبك !! ...... في لحظةٍ واحدة وجدت أن كل ما تمنيته فيها هو كسر قلبك في المقابل ..... كما كسرت قلبي )
نطقت كلمتها الأخيرة و هي تجش بالبكاء مطبقة جفنيها بقوة .... رافعة يدها الى فمها ....
ذلك الفم الذي استقبل قبل رجلٍ آخر الليلة غير محمد .... و كم أشعرها ذلك بالرعب !! ..... و كأنها تصرفت تصرفا محرما ... لا يحله شرع !! ....
انتفضت كرمة فجأة من مكانها على صوت رنين هاتفها ... ففتحت عينيها المتورمتين تنظر اليه و كأنه أفعى سامة .... و بالفعل وجدت آخر اسم تتمنى أن تتعامل معه حاليا ... " حاتم " ...
و كان رد الفعل الأول لها هو أنها اندست تحت الغطاء و رفعته فوق رأسها و هي تهمس بصوت مسموع و كأنه يسمعها
( أنا نائمة ............ )
لكن الرنين استمر .... و ازداد انطباق جفنيها و همست مجددا بجمود
( أنا نائمة ........... من حقي أن أكون نائمة .... )
سكت الرنين ففتحت عينيها و تنفست الصعداء براحة من بين شفتيها المرتجفتين .... لكن صوت رسالة وصلتها على الهاتف جعلتها ترفع رأسها بتوجس و هي تنظر اليه ....
لذا فتحتها بأصابع مرتجفة ... و قرأت الرسالة
" بمعرفتي بكِ .... أجد أنه من المستحيل أن تكوني نائمة الآن نظرا لكل ما ممرتِ به مؤخرا ... لذا و بما أنكِ تتظاهرين بالنوم و تتجاهلينني .... فمن المؤكد أنكِ تمرين بوقتٍ عصيب بمفردك حاليا .... و أنا لن أسمح لكِ باقصائي من حياتك منذ هذه اللحظة ........ أنا في طريقي اليكِ لأهبك قبلة الحياة يا أميرتي النائمة .....
ملحوظة : .... لا تتعبي نفسك بالنهوض من السرير , المفتاح لا زال بجيبي "
شهقت كرمة و هي تنهض من السرير .... و سرعان ما هتفت بغضب
( المفتاح معه !!! ........ و أنا التي وثقت به !! ...... ما هذا التطفل !! .... )
ضربت أسمه بحنق و رفعت الهاتف الى أذنها و هي تنفض شعرها بثورة .... و سرعان ما جاءها صوته مسترخيا
( آآآه اذن استيقظتِ دون المزيد من القبلات !! ...... كم هذا مؤسف ! .... )
قالت بصوتٍ فظ أكثر مما انتوته
( هذا ليس مضحك يا حاتم ........... هل معك المفتاح حقا ؟!! ..... )
لفترة لم تسمع صوتا فتوترت أكثر .... لكن حين جاء صوته , كان غريبا بلا تعبير معين
( نعم معي المفتاح ...... هل هناك مشكلة في ذلك ؟؟ ..... )
ارتبكت قليلا .... و هي تستفيق لما تفوهت به , انه بيته و من المؤكد انه يملك عدة نسخ من المفتاح بخلاف الذي سلمه لها منذ فترة .... لكن و مع ذلك .......
همست كرمة بتوتر
( الأمر أن ..........أن تكون ببيت و أنت تشعر في كل لحظة ان هناك من قد يفتح الباب و يدخل في اي لحظة ليس امرا مريحا ....... )
ساد صمت قاس لفترة اخرى .... ثم قال حاتم بصوت متصلب
( إن كنتِ تتحدثين عن الفترة الماضية .... فللبيت عدة مفاتيح و بالطبع نسيت ان اسلمها كلها لكِ.... لكن كنت أعتقد أن هناك مساحة للثقة بيننا ...... أما إن كنتِ تتحدثين بدئا من الليلة ..... فالأمر قد اختلف !! ... )
بدت جملته الأخيرة أكثر صلابة .... تكاد تمثل تهديدا معينا ... أم أنها تتوهم !! ....
فلم تستطع أن تمنع نفسها من الهمس بتوجس رغما عنها
( اختلف .... كيف !! ...... )
عاد ليسود الصمت مجددا !! .... تبا لماذا يثير أعصابها بتلك الطريقة السخيفة !! ... الا أنه تكلم أخيرا قائلا بهدوء و ثقة .... بهما صلابة أكثر وضوحا
( البيت عاد بيتي من جديد ...... و أنتِ زوجتي ..... )
أغمضت عينيها و رفعت يدها الى صدرها اللاهث ....ثم همست بصوت مشدود لم تتعرف عليه أذناها
( حاتم ....... هل يمكن لو ........ )
قاطعها بقوة قبل أن تتابع
( نامي الآن يا كرمة ...... صوتك يخبرني بوضوح عن اقترابك من حد الإنهيار .... غدا سنتكلم .... )
كانت ترتجف بوضوح .... لكنها همست بصوتٍ يكاد يكون باكٍ
( ح..... حسنا ....... )
و انتظرت ان يغلق الخط ..... لكن الصمت طال مجددا , ليقول بعدها بخفوت
( كرمة ............ )
ابتلعت ريقها بارتباك .... ثم همست بصوت مختنق
( نعم ........... )
رد عليها بصوت يكاد أن يكون لهيبه قد وصل الى اذنها فأحرقها ...
( الليلة ....... كنتِ في جمال القمر الفضي ..... , حين نظرت اليكِ تسائلت في لحظة .... أي عمل جيد فعلته في حياتي كي استحق امرأة مثلك ..... أصبحت لي بين ليلةٍ و ضحاها ..... فشكرت القدر و حظي الذي لم أعرفه سعيدا الا الليلة ...... )
كانت مغمضة عينيها بقوة و ملامحها تكاد أن تكون ممزقة من ضغط ما تشعر به حاليا , لذا صرخت بحدة قبل أن تستطيع منع نفسها
( توقف ...... فقط توقف عن مثل ذلك الكلام التافه ...... أنت لست محظوظا بأي طريقة من الطرق .... لذا توقف عن ترديد ذلك الكلام , أنه يثير جنوني ...... توقف .... أرجوك توقف .... )
لم تعلم أنها قد بدأت في البكاء بالفعل في الكلمة الأخيرة ...... و استمر نشيجها عنيفا .... الى أن سمعت أو بمعنى اصح تجاهلت سماع صوته الأجش العنيف في همسه
( تصبحين على خير ......... )
ثم اغلق الخط ....... حينها ارتمت كرمة على وسادتها تفرغ الباقي من الدموع التي أمسكتها بقوةٍ لمدة ساعات قبل عقد القران ..... لكن صوت حاتم الآن و كلماته كانت أكبر من قدرتها على تحمل ....
كلمات نطق بها محمد ذات يوم ..... لكنه تفنن في تبديد معنى كل حرفٍ منها ......
بعد فترة طويلة ... انتهى بكاءها كنشيج متعب ... تبعته عدة شهقات خافتة .... ثم لم تلبث أن تنهدت بصمت ... و همست
( ياللهي يا كرمة !!! ....... ماذا بكِ ؟!! ..... أين تلك القوة التي كنتِ تدعينها !! .... لقد تحملتِ مع محمد الكثير و لم تنهاري يوما ..... فأين تلك القوة الآن ؟!! ..... هل هو من كان يمدك بها ؟! .... مجرد وجوده في حياتك كان الحافز لكِ كي تستجمعي قواكِ كلها !! ...... )
رفعت كفيها الى وجهها و همست بخفوت محدثة نفسها
( هل كنتِ مجرد ظل ؟!! ........ هل كان وهما ذلك الكيان الذي بنيته لنفسك لسنوات طويلة !!! ..... و الآن بعد طلاقك تكتشفين أنكِ مجرد لا شيء بدون زوجك !!! ....... )
رفعت كرمة وجهها تنظر أمامها بوجوم .... و عيناها المتورمتان فقدتا القدرة أخيرا على البكاء بعد ساعات الإستنزاف الطويلة .... ثم همست
( هل زواجك من حاتم كان بالفعل مجرد رغبة في كسر قلب محمد !!! .... أم أنكِ ببساطة شعرتِ في لحظةٍ خائنة بالرعب من حياتك بدون ظل رجل تحتمين به !! ..... نفس المعنى العقيم الذي نشأتِ فيه لسنوات ... ها أنتِ تطبقينه بكل مهارة .......... كنتِ تخدعين نفسك لسنواتٍ طويلة يا كرمة ..... و تظنين أنكِ بنيتِ لنفسك كيان يختلف عن كل النساء من حولك ...... )
صمتت قليلا ..... ثم نهضت من مكانها ببطىء و تثاقل .... حتى نظرت الى المرآة التي تحمل صورة مشوهة لها .... و قد سال الكحل الأسود على وجهها , فأظهر لها بوضوح شخصها الحقيقي دون زينة .... دون شعارات كاذبة .....
ثم همست بفتور ميت لا حياة فيه
( حسنا ....... لقد تهورتِ و حدث ما حدث ...... و ها أنتِ أصبحتِ على ذمة رجل آخر ..... فتقبلي الأمر و تعاملي معه ...... أنتِ لست عذراء مذعورة , .... أنتِ امرأة ناضجة , كانت متزوجة لعشر سنواتٍ كاملة ..... عشر سنوات ........ )
صمتت قليلا .... ثم ارتجفت شفتيها بقوة , امتلأت عيناها بالدموع من جديد و هي تهذي همسا
( عشر سنوات !! ...... ياللهي عشر سوات كاملة ...... عشر سنوات !! ..... )
دخلت أمينة في تلك اللحظة بعد أن طرقت الباب لكن لا حياة لمن تنادي ....
لكن و ما أن خطت الى الغرفة تحمل كوب حليب و بعض الشطائر , حتى تسمرت مكانها و رفعت حاجبها توجسا و ريبة و هي تجد عروس البيت واقفة أمام المرآة ..... تهمس بذعرٍ باكٍ
( عشر سنوات ...... عشر سنوات ........ عشر سنوات ..... )
فهمست و هي تضع يدها على صدرها
( صبرني يا رب !! ..... و كأن البيت كان ينقصه المزيد من البلايا البشرية ..... )
تنهدت أمينة بيأس ... ثم قالت بفتور ...
( العشاء يا سيدة كرمة ............ )
الا أن كرمة كانت تهمس لنفسها
( عشر سنوات !! ......... كيف أمحوها بجرِ القلم ؟!! ...... )
رفعت أمينة عينيها الى السماء .... ثم حاولت مجددا
( أنتِ لم تضعي في فمك لقمة منذ الصباح ......... تعالي و تناولي شيئا )
لكن كرمة كانت تهز وجهها نفيا و هي تهمس بشرود
( عشر سنوات أوهمت بها نفسي أنني بخير ..... لكنني لم أكن ..... و ها أنا الآن لا أستطيع حتى الخروج منها ............)
وضعت امينة الطعام من يدها ...... ثم استدارت اليها و قالت بامتعاض
( انظري للنصف الممتلىء من الكوب و هو أنكِ على مشارف السنة الحادية عشر .... لذا تخطي الأمر سريعا و تعالي كُلي ...... )
لكن كرمة كانت تهز رأسها نفيا في حوار صامت مع عينيها المقابلتين لها في المرآة ......
فزفرت أمينة بقوة ... ثم اتجهت للباب و هي تقول
( شفاكِ الله ....... عقد قران مبشر بالخير و بمستقبل مبهر ..بصراحة !! ...... )
ثم خرجت من الغرفة و هي تتمتم بغضب
( الفالح .. فالح من يومه الأول ...... و حاتم هذا مكتوبٌة له الخيبة في كل خطوة ...... )
اغلقت الباب خلفها ثم خرجت بحنق .... و ما ان اتجهت الى المطبخ , حتى سمعت رنين هاتف البيت , فاستدارت اليه و اتجهت اليه حانقة ... و ما أن رفعته حتى سمعت الصوت الأجش يقول بخفوت و دون الحاجة للسؤال عن هوية من رفع السماعة
( كيف حالها الآن يا أمينة ؟!! ......... )
ردت عليه دون مجاملة
( الحقيقة أنني لا أريد أن اخدعك ..... لبئس من وقع عليها اختيارك بعد صبر سنوات من العزوبية !!!...
و قبلها الصبر على زوجتك المجنونة الأولى ..... لكن الآن ماشاء الله , فأنا أخشى عليك من الحسد ....
حيث أعتقد أنك الوحيد الذي واتته الفرصة للزواج من مجنونتين على التوالي ...... كيف فعلتها بالله عليك؟!! .... أنت حتى لو كنت متقصدا ذلك , لم تكن لتفعلها بمثل تلك المهارة !!! ....... )
سمعت تنهيدة عميقة محملة بالكثير من المعاني ....قبل أن يقول بخفوت أكبر
( هل حالتها بمثل هذا السوء !!! ........ )
هتفت أمينة و قد عيل صبرها
( إنها تهذي !! ...... و تكلم نفسها ....... و لا ينقصها سوى وضع ريشة على شعرها و الخروج حافية الي الطريق ...... أين كان عقلك الرياضي و أنت تختارها تقع في حبها يا خائب الرجا !! ...... )
الا ان حاتم همس بصوتٍ أجش يحمل الكثير
( بماذا تهذي ؟!! .............. )
رفعت أمينة راسها الى السماء ثم ضربت وركها بيدها و هي تهتف بحنق
( هل هذا كل ما يهمك في ما قلته ؟!! ...... بما تهذي به البسكويتة؟!!! ..... حسنا إنها لا تنفك تردد .... عشر سنوات .... عشر سنوات .... و كأنها أحد محصلين عدادات الماء و الكهرباء !! ...... )
لم تكن تدري أنه أثناء كلامها العفوي .... على الجهة المقابلة , كانت ملامح حاتم قد تحولت الى قاتمة بشكلٍ عنيف و توهجت عيناه بشدة
" عشر سنوات ..... " ... انه بالتأكيد يعرف حق المعرفة معناها بالنسبة الى كرمة .....
سنوات زواجها من الحبيب الذي عاملها أسوأ معاملة على مرآى و مسمع من الجميع .....
و رغم ذلك .... ها هي تفكر به في ليلة زواجهما !! ...... بينما قصته هو بأشد نبرةٍ لديها خارج دائرة حزنها ... طردته و أوصدت خلفه أبواب قلبها ..... بينما تركت زوجها الأول خلف تلك الأبواب المغلقة ....
همس بصوت ميت لا تعبير له ....
( اعطها قرصا من أقراصي النومة يا أمينة .... و اسهري معها قليلا الى أن تتأكدي من نومها ..... رجاءا )
ردت أمينة بتذمر
( هذا ما ينقصني ..... أن أكون جليسة اطفال لشخص آخر بخلاف ابنك ذو اللسانين ...... )
قال حاتم بصوت أجش
( لن أقول لكِ من اجل خاطري يا أمينة ..... إنما من أجلها هي ..... إنها انسان جميل للغاية من أجمل من عرفتهم في حياتي ..... و ستتأكدين بذلك بنفسك .... فقط أعتني بها , رجاءا ..... )
تنهدت أمينة و قالت
( يا مسكين ...... ستعاني طويلا ...... لقد وضعت قلبك في صندوق امرأة , لكن مفتاحه مع غيرك )
اظلمت عينا حاتم و أغلق الخط بهدوء ....
و شعر بقبضةٍ ثلجيةٍ تعتصر صدره ..... ما سمعه الآن يفوق قدرة أي رجل على التحمل .... حتى اكثر من طليقها نفسه ....
على الأقل طليقها كانت النيران تستعر بداخله رغم معرفة أنها تحبه هو ..... كان يحترق لمجرد أن لاحظ حب آخر لها
أما الآن ...... فهي زوجته و تحب غيره ..... فأي عذابٍ هذا !! ....
نهض حاتم من مكانه بعد أن رمى هاتفه بجنون .... و سار بلا اتجاه محدد داخل جدران شقته المحدودة ... التي شعر في تلك اللحظة انه يكرهها بل يمقتها من كل قلبه ...
رفع يده الي شعره بقوةٍ و هو يزفر نارا لا هواءا ....
النار تحترق بصدره كالجحيم .... كان يعلم تمام العلم ما هو مقدما عليه ... و أقسم بداخله أن يتحمل الى أن تخرج متعافية من نقاهة طلاقها الحديث ....
لكنه لم يتخيل أن يكون الألم فظيعا الى تلك الدرجة .......
حتى قبلته لها جاءت مفاجئة له قبل أن تكون مفاجئة لها .... حيث كان على وشكِ المغادرة تاركا لها الفرصة للإستيعاب .....
لكن و ما أن تحركت قدماه حتى وجد بداخله قوة همجية تهدر بداخله أن كرمة اصبحت زوجته !! ....
تلك النجمة العالية في السماء و التي كان أقصى أمانيه هو مجرد النظر اليها .... أصبحت في يده .....
بكل بهائها و جمالها ..... كانت كالقمر في تمامه ....
عيناها النجلاوين ... شفتاها المكتنزتين بسخاء .... شعرها المتراقص في أمواجه و الذي طالمها أحرق قلبه وهو يستفز أصابعه ... يتحداها أن تتخلل و تغوص في أمواجه المجنونة ....
كل ذلك تكالب عليه في لحظةٍ واحدةٍ و لم يدري الا وهي بين ذراعيه ....
يغيب معها في جنةٍ لم تكن لتقارن بكل ما عرفه من أحلامٍ عنها من قبل .....
كان يرتوى من شفتيها بشعورٍ لم يعرفه سابقا رغم سنوات عمره كلها ..... و كانت .... ياللهي .....
كانت مستسلمة ترتعش بين ذراعيه بذهول و كأنها عذراء تتذوق الحب للمرة الأولى
دون أي انطباع أو شعور .... فقط عيناها المتسعتان بذهول أخبرتاه أنه تسرع ..... لكن للجحيم بكل التسرع ...
لم يكن ليمنع نفسه عنها أبدا و هي بكل ذلك الجمال !! ..... الذنب ذنبها هي ....
لم يطلب منها أحد أن تتصف بكل ذلك الجمال .... من الداخل و الخارج ...... و كأن الجمال أتى عندها و تحول الى موجةٍ دوامية .... طافت بها فشملتها من داخلها الى خارجها ...... لتصبح آية للنظر .....
عاد حاتم ليزفر بقوةٍ جبارة و هو يلقي نفسه على الأريكة اللعينة مجددا ......
تبا ..... تبا الف مرة ....... لو يضمن أن أقراص المنوم لن تسبب لها ضرر , لكان دس لها العشرات كي تغرق في موجاتٍ معتمة .... تبعدها عن التفكير بغيره .....
أفاق من أفكاره القاتمة على ابنه محمد وهو يخرج من غرفته متجها الى المطبخ .... و ما أن نظر الى حال والده حتى قال بفتور
( هل طردتك العروس ؟!! ........ )
رد حاتم بجفاء
( محمد ....... خذ ما تريده من المطبخ ثم عد الى غرفتك ..... الليلة لا تنقصك )
ضحك محمد وهو يسير بخفه المنزلي الضخم الى الثلاجة .... و أخرج منها علبة حليبه ... لكنه لم ينسى أن يرمي الكلمة الأخيرة قبل الرحيل
( لكي تعلم ان معي الحق فيما أحياه ..... إن كانت عروسك نفسها لم تقدر على وجودك من أول ليلة )
نهض حاتم من جلسته هادرا بغضب
( تأدب يا ولد و احترم نفسك .......... )
نظر اليه محمد دون رهبة .... لكنه قال بهدوء
( حسنا حسنا ...... ها أنت تنفعل علي بسبب زوجتك الجديدة , فماذا ستفعل تاليا ..... تضربني !! ..... أمي تقول لو مستني زوجتك بسوء فستقاضيكما و ساذهب للعيش معها ...... و هذا هو ما أتمناه ..... )
اتسعت عينا حاتم بذهول ... ثم لم يلبث ان هتف بغضب
( و ماذا قالت امك عنها غير ذلك .؟؟؟ ............ )
هز محمد كتفيه وهو يقول ببساطة
( أنا لا أهتم بمعظم كلام الفتيات ......لكن يكفي أن أقول لك أنه كان خطأ كبيرا حين ذكرت هويتها لأمي ... فقد بحثت و عرفت عنها الكثير .... و هي غير راضية أبدا بما عرفته .... )
عبس حاتم بشدة .... و اشتعلت عيناه ببرق الغضب الأسود ... لكنه لم يستطع أن يمنع نفسه من السؤال بحذر
( لماذا ؟؟ ............. )
قال محمد ببراءة و بساطة و كأن الأمر لا يعنيه
( كانت مهتاجة و هي تصرخ ...... من تلك التي يساويها بي !! ...... آخر الطريق يحضر امرأة مطلقة ومن دار رعاية لتحل محلي أنا ؟!!! ......)
كان محمد يرفع من صوته مقلدا صوت والدته تمام التقليد ماطا شفتيه مثلها ... حتى حركات يديه الملوحة فإن حاتم يعرفها جيدا .. فصرخ بسرعة
( كفى ............ )
صمت محمد لكنه لم يخاف بل قال بشجاعة
( لماذا تصرخ بي ؟!! ...... ألست أنت من طلبت أن تعرف ؟؟ ..... و لماذا أخبرتها عن هوية المرأة التي ستتزوجها طالما أنكِ تريد إخفاء معلومات عن حياتها السابقة ..... )
صرخ حاتم مجددا
( اخرس يا ولد ........... )
لكن فجأة شعر حاتم أنه ظلم محمد بالفعل ..... فما ذنبه .... بالفعل لم يكن من المفترض أن يخبر داليا عن كرمة أو هويتها .... فهي بالتأكيد علمت عنها الكثير خاصة أنها زميلته في المصرف .....
لكن الحق عليه هو ..... لقد عاملها بتحضر .... كأم قلقة و من حقها أن تتعرف على هوية السيدة التي ستعيش مع ابنها ...... لكنها هي داليا و لن تتغير أبدا .... بعنجهيتها و دلالها و فراغ عقلها ....
أخذ حاتم نفسا مشحونا ثقيلا .... ثم لم يلبث أن قال بهدوء
( تعال يا محمد أريد أن أتكلم معك قليلا ....... )
اتجه محمد اليه ببساطة .... و دون اهتمام حقيقي ... فأحاط حاتم كتفيه بذراعه ليجلسه بجواره على الأريكة المشؤومة .... ثم قال بهدوء
( محمد أنت الآن أصبح شابا صغيرا و لست طفلا ...... لذا هناك بعض التصرفات أصبحت لا تليق بك ... أولا ..... زوجة ابيك ليس اسمها امراة ..... هي لها اسم ... و اسم جميل , اسمها " كرمة " ....
ثانيا .... هي ليست زوجة أب بالمفهوم التقليدي و الذي تصوره الأفلام ..... إنها شابة صغيرة جميلة ... تقاربك طولا .... و هي حنونة بدرجة تكاد أن تجعلها حمقاء ... و مثيرة للجنون في كثير من الأحيان )
كان ينطق كلماته الأخيرة بشرود و كأنه يحدث نفسه من بين أسنانه بغيظ واضح .....
فقال محمد ببساطة
( ياسلام على الإحترام !!! ........... )
عبس حاتم بشدة وهو ينتبه الى ما قاله .... فاسرع يقول مرتبكا
( حسنا ...... انتظر لحظة , هل يمكنك أن تمحو المقطع الأخير ؟؟ ....... )
ابتسم محمد وهو يهز رأسه و كأنه يعامل طفلا صغيرا .... لكنه قال
( حسنا لا بأس ....... كالمعتاد .... )
تنهد حاتم بنفاذ صبر ثم قال اخيرا بهدوء
( اسمع يا محمد ..... بعض المعلومات لم يكن من الواجب أن تعرفها ... ليس لأنها مخجلة .... إطلاقا .... لكن لأنها معلومات شخصية عن كرمة .... و ليس من حقنا أن ننتهكها بتلك الصورة ..... لكن و بما أنك عرفت و انتهى الأمر ..... لذا يجب أن تعرف أنها بالفعل كانت متزوجة من قبل .... لكن ما المشكلة ؟؟ ...
أحيانا قد يفشل الزواج و هذا ليس معناه أن يكون أحد الطرفين سيئا بالضرورة ..... لكن معناه الوحيد أن الحياة .... قد استحالت بينهما في نقطةٍ ما ...... أنا مطلق .... ووالدتك كانت مطلقة ..... لذا نحن لا نختلف عن كرمة ...... )
قال محمد بهدوء
( لكنما قررتما أن الحياة قد استحالت بينكما دون الرجوع الى الطرف الثالث ....... الذي لم تعتبره طرفا في القضية بالمناسبة ........ تماما كما تجاهلت وجوده وقت الطلاق ...... )
علت الدهشة ملامح حاتم وهو يسمع محمد يتحدث بتلك الطريقة ...... إنها المرة الأولى التي يبدي فيها اهتماما بطلاقهما !! ...... كان يظن دائما أنه كان غير مهتم ... و أن كل ما يهمه هو الإقامة مع والدته ....
لقد كان محمد دائما فاتر الشعور تجاه موضوع الطلاق ..... حتى أن حاتم حمد الله كثيرا أن الولد لم يمر بمراحل هياج او بكاء عنيفة عند معرفته بالطلاق .....
لكن الآن !!! ..........
أطرق حاتم برأسه ليقول بخفوت
( ربما معك حق ......... لكن .... )
الا أن محمد قاطعه ليقول بهدوء مستفز
( حسنا و ما هو الأمر الآخر ؟؟ ........... )
رفع حاتم وجهه ينظر الى محمد بصمت .... ثم قال أخيرا بوجوم
( نعم الأمر الآخر ........ موضوع دار الرعاية ...... هذا شيء لا يعيب الإنسان , كان يمكن أن تكون في مكانها ...... أيا منا كان من الممكن أن يكون مكانها .... لكن كرمة تحدت كل ظروفها و تفوقت بشدة حتى نالت نفس المكانة التي أنالها أنا ..... أي أننا في النهاية تساوينا على مقعدين متشاتبهين تقريبا في المصرف .... )
ظل محمد صامتا ينظر الى حاتم بهدوء .... ثم قال أخيرا
( على فكرة ...... لماذا تشرح لي كل ذلك ؟؟ ... لست أنا المستاء .... عليك اقناع أمي , فهي المستاءة و لست أنا ......... )
هتف حاتم بغضب
( ليس من حقها أن تستاء ..... و ليس علي أن أبرر لها شيء ..... هل بررت هي أي شيء حين تزوجت ؟؟ ...... )
صمت حاتم فجأة و هو يشعر بأنه قد داس في الاواني محدثا قرقعة مؤذية ...... منذ متى يتحدث بالسوء عن داليا أمام محمد ؟!! ..... انه ليس في أفضل حالاته إطلاقا اليوم .....
تنهد حاتم بقوة .... ثم قال أخيرا بكبت
( ملخص كل ما فات ..... هل يمكنني أن أطلب منك أن تحسن عاملة كرمة ؟؟؟ ..... فلقد مرت بالكثير من الظروف الصعبة في حياتها و نحن لا نريد أن نزيد الضغط عليها ....... )
رفع وجه الى محمد و قال بخفوت
( هل يمكنك ذلك يا محمد ؟؟ .......... )
لم يرد محمد على الفور وهو ينظر الى وجه والده بهدوء .... ثم قال أخيرا ....
( هل يمكنني الذهاب للنوم الآن ؟؟ ....... )
نظر حاتم اليه بيأس ثم لم يلبث أن قال بهدوء
( اذهب يا محمد ........ تصبح على خير )
قام محمد من مكانه دون رد .... بينما تابعه حاتم بعينيه .... و همس أخيرا بصوتٍ يحترق
( ماذا فعلتِ بي يا كرمتي ؟!! ...... تفكيري ضائع عليكِ و قلبي تركته عندك ..... و أنتِ و لا أنتِ هنا .... )
.................................................. .................................................. .....................
كانت تشعر بأنها تختنق و تختنق .... التنفس صار صعبا جدا ... و الظلام يشتد من حولها .....
تحاول الوصول الى عملها لكن دون جدوى .... الطريق مظلم لا تبصره .... اليس الوقت صباحا ؟!!! ... لماذا الظلام اذن ؟؟؟ .... انها لا ترى حتى موقع قدميها ....
و فجأة رأت الأستاذة نوال واقفة من بعيد .... كانت تتحدث الى السيد مراد .... كانا منهمكين في الحديث و بين حين و آخر ينظران اليها مبتسمين ......
على ما يبدو أن السيد مراد يخبر الأستاذة نوال أنها أبلت حسنا في عملها .... و يطلب منها أن تزيد من درجاتها في دفتر أطفال الدار .....
ابتسمت و هي تشعر بالفخر من نفسها .... لكن فجأة و هي تسير ... و جدت نفسها تسقط في هوة مظلمة سحيقة لم تبصرها من شدة الظلام المنتشر حولهم .....
أخذت تصرخ و تصرخ .... لكن صوتها كان يرفض الخروج .... تريد أن تستنجد بالسيد مراد و الأستاذة نوال كي يخرجاها لكن صوتها مختنق في حلقها ......
كانا ينظران اليها مبتسمين !!! ..... فأخذت تلوح وتلوح ... و تشعر بأن الإختناق يزيد .....
الى أن أمسكت بها ذراعان قويتان .... جذبتها بقوة ٍ الى صدرٍ عريض مريح و مطمئن .... فتشبثت به بكل قوتها الى ان أخرجها من هوتها السحيقة و ما أن رفعت وجهها اليه شاكرة ...
حتى وجدته وجه محمد ينظر اليها بكل عشقه ..... فابتسمت من قلبها ..... و كم تمنت ان تطول تلك اللحظة العمر كله .....
ثم همست برقة ( شكرا ......... )
كل الاختناق تحول الى ضربات قلبٍ سريعة .... وهي تراه يخفض وجهه اليها
و سرعان ما وجدت نفسها تضيع بين قبلاته الشغوفة ..... يخبرها بأن جوعه لها ما هو الا حالة خطر ....
ابتسمت أكثر و هي تبادله بكل ما تعرفه عن فن القبلات .... و كان جنونه معها يزيد ....
كم تمنت أن يظل الوقت بينهما ما بين شوقٍ و تقبيل .... فلا يصبح للفوارق معنى ..... كم كرهت تلك الكلمة ... يداها تتحركان على صدره ..... بينما يداه تستبيحانها بجرأةٍ مهكلة ....
أما أنفاسه فكانت تلفح أذنها و هو يهمس في اذنها مرارا ...
( نعم ...... نعم يا كرمتي ..... آآآآه نعم يا كرمتي ..... )
حين استكانت أخيرا و سقطت ذراعاها .... استدعى كل قواه الداخلية و الخارجية .... كي يبعد جسده الثائر عنها .... فتمكن أخيرا من قلبها على ظهرها قبل أن يرفع الغطاء و يدثرها جيدا ....بينما كان هو يلهث بصوتٍ مسموع ....
ابتعد عنها بقوة وهو ينهض بظهره ناظرا اليها بملامح مصدومة ....ثم زفر نفسا عميقا من شفتيه المتكورتين و المشتعلتين .....
كل ما أحضره الى هنا هو أن يطمئن أن الأقراص المنومة قد أدت مفعولها !!!
لم يكن يتخيل أن تكون أقراصا مثيرة للرغبة !!! .....
نظر اليها مرة أخرى بذهول و هو يراها نائمة مبتسمة كطفلة تسبح في عالم المثلجات .... بينما يسبح هو في عالم المفرقعات النووية !! ...
خرج مسرعا من الغرفة بعد أن أغلق بابها بإحكام .....وهو يفكر بجنون ..
حسنا يا سيد حاتم .... فلتذهب الآن لتنام في الأريكة العفنة .... و لتحاول السيطرة على براكين جسدك الخائن .... فهذا جزاء الآباء الأنذال حين يتركون أبنائهم نائمين بمفردهم ... كي يطمئنوا على زواجاتهم و مفعول الأقراص المنومة !! .....
.................................................. .................................................. ......................
دخل رائف الى المطبخ الفخم قبيل ساعات الصباح الأولى .....
لا فائدة من النوم ..... النوم اصبح بالنسبةِ له كعملة صعبة , يستعصي الحصول عليها ......
آن الأوان كي يعترف أن فراشه لن يعرف النوم الهادىء مجددا .... لذا فليحضر قهوته و ليعمل قليلا, عسى أن يسقط تعبا في النهاية ....
لكن و ما أن دخل حتى وجد أخته جالسة بصمت على احد الكراسي .... أمامها كأس من الشراب اللعين ... تنظر الى حافته البراقة بصمت .... بينما تنفث دخان سيجارتها ببطء متعمد و هي تراقب دوائر الدخان الناعمة الملتفة من فوق الكأس بفن .....
زفر رائف بغضب .... حالة ميساء وصلت الى أسوا الدرجات .....
فقد تحولت الى شاربة كوحليات و مدخنة شرهة ...... من كان ليظن أن تتحول ابنة الحاج العارف بأصول دينه الى تلك الصورة المأسوية !!! .....
نظر اليها بصمت طويلا .....
ميساء لا تزال في منتهى الجمال على الرغم من سنوات عمرها التي قاربت منتصف الأربعينات ...
و جسدها جسد شابة في الثلاثين بكل جدارة ......
كانت لا تزال فتية ومذهلة .... و أينما ذهبت تتبعها أعين مرضى النفس ..... لكنها كانت صلبة قوية تجاه الجميع .... فالحب بينها و بين أكرم كان قصة يضرب بها المثل ...
كم مر على زواجهما حتى الآن ؟؟...... حوالي خمسة و عشرون عاما !! ..... ربع قرن كاملا !! ....
و كان هو شاهدا على تلك القصة العنيفة ..... على الرغم من كونه طفلا حين تزوجا ....
فالفارق بينه و بينهما في العمر حوالي عشر سنوات كاملة ..... و كان دائما ما ينظر اليها على أنها مثال الأنوثة و الجمال ..... لكن ذلك الجمال خبا خلف العينين الحزينتين .... و الشبه ميتتين ..... دون أي تعبير ... سوى بعضا من هذا الحزن !! .......
اقترب رائف بصمت دون أن تلحظه الى أن سحب كرسيا و جلس أمامها مباشرة ... فأجفلت قليلا ثم همست
( لماذا لست نائما ؟؟ ........ )
ابتسم رائف بحنان ليقول بخفوت
( ربما علي أن أسألك نفس السؤال ؟؟ ...... فأنا لدي بعض العمل , أما أنت ...... ماذا تفعلين هنا في مثل هذا الوقت باستثناء قتل نفسك ببطىء ؟؟!! .... )
و دون أن ينتظر منها ردا مد يده الى كأسها و نهض مباشرة دون أن يعبأ بهتافها الغاضب ... و سكب محتوايته في المغسلة ...
ثم استدار اليها بمنتهى الهدوء ..... و لم يصدم حين وجدها كما توقع .... تقف أمامه كأنثى النمر ... مشعثة الشعر بعينين متوهجتين بالغضب .... و هي تهتف بجنون
( أخبرتك ألف مرة يا رائف أن تتوقف عن مثل هذا التصرف ...... أنا لست طفلة صغيرة تحتاج الى تقويم ... )
لم تهتز عضلة بوجهه ...... ثم قال بهدوء
( لو كنتِ طفلة صغيرة لكنت عاقبتك ...... لكن المشكلة أنكِ امرأة ناضجة .....و أنا لن أمل من محاولة ابعادك عن ذلك المحرم ..... )
هتفت بغضب و هي تلوح بذراعيها
( ماذا تظن نفسك ؟؟!! ........ واعظا ؟!! ..... )
قال رائف بهدوء
( لست واعظا ..... و لا أدعي ذلك , لكن المكان الذي أنا به سأحاول جليا تنظيفه ... هذا طبع ليس الا ..... )
صرخت ميساء بجنون
( اغرب عن وجههي يا رائف .... لا أنوي تحمل أي من تطفلاتك حاليا ...... )
سحبت نفسا مرتجفا عصبيا من سيجارتها بيدٍ ترتجف كذلك , ثم نفثته في الهواء و هي ترفع رأسها مغمضة عينيها ....
فراقبها رائف بصمت وهو يكتف ذراعيه ... ثم قال بجمود
( الا تشعرين بالبرد ؟!! ........ )
فتحت عينيها .... ثم اخفضتهما الى روبها الحريري المفتوح .... و تحته قميص نوم حريري يماثله لونا ,,, بلون الشراب الذي أراقه للتو ..... و الذي لا يكاد أن يصل الى ركبتيها .... بخلاف صدره المفتوح !!
ثم نظرت الى رائف بهدوء و نفثت نفسا آخر ... لتقول بعدها ببرود
( لو أحسست بضيق من منظري , يمكنك المغادرة ......... )
لم تتغير ملامحه الا من بعض القسوة ..... لكنه لم يلبث ان تنهد بقوة , ليقول بعدها بخفوت
( لماذا اصبحتِ عصبية بهذا القدر يا ميساء ؟!! ......أنت تهلكين روحك بتلك الطريقة ... )
زفرت بعنف ثم هتفت بغيظ و نفاذ صبر
( و الآن دور المصلح النفسي !! ....... لقد تحولت الى كائن فضولي متطفل منذ أن ماتت " رؤى " ... )
اظلمت عيناه فجأة .... و انتشر الألم بصدره دون رحمة .... و ما أن التقت عيناه بعيني ميساء .... حتى تأوهت فجأة .... ثم سقطت جالسة على الكرسي و هي تبكي بخفوت ....
ظل رائف ينظر اليها طويلا بملامح متجمدة .... ثم لم يلبث ان اقترب منها ليجلس هو الآخر على كرسيه .. ووضع يده فوق يدها على الطاولة ... ليقول بخفوت
( ماذا بكِ يا ميساء ؟؟ ..... اخبريني .... كنت اقرب شخص لكِ فيما مضى ..... )
رفعت وجهها اليه بصمت ... ثم مسحت دموعها لتقول بفتور
( و لا زلت يا رائف ...... لكن أنا فقط أشعر بالإختناق و الوحدة , .... لا شيء مهم ... لا تقلق ... )
قال رائف بعد فترة
( لماذا لا تخبرين أكرم بشعورك هذا ؟؟ .......... )
ضحكت بمرارة ... ثم قالت بقسوة
( أكرم !!! ...... أكرم بات لا يفكر الا بصفقاته التي توحش بها حتى يكاد أن يبتلع كل من حوله , .... أنا لم أعد أراه حتى ..... )
قال رائف بغضب مكبوت
( لكن هذا غير سليم ........ حياتكما تنحدر للأسفل شيئا فشيئا .... و يجب أن تصلحا زواجكما ..... )
عادت لتضحك بمرار .... ثم قالت بيأس
( لقد فات الأوان ....... لقد كبرت .... وهو كذلك ..... و كما قال لي أن زمن تلك العواطف السخيفة قد انتهى , و لا يتوجب علي الآن سوى الاهتمام بمسؤولياتي ..... )
قال رائف بصرامة
( هذا أسخف ما سمعته ........... )
صمت قليلا .... وهو يدقق النظر اليها , ثم قال بخفوت أكثر من المعتاد
( ماذا عن ......... حياتكما .... معا ..... )
رفعت ميساء وجهها اليه وضحكت بقوة ..... ثم لم تلبث أن قالت و هي تسعل من بين ضحكاتها
( لا أصدق هذا يا رائف .... لقد قاربت منتصف الثلاثينات و ها أنت تدور حول سؤال تخشى أن تسأله صراحة ...... انت تقصد علاقتنا الزوجية اليس كذلك !! ...... )
رغما عنه احمر وجهه قليلا من وقاحتها الغير معهودة ..... و عاد ليسأل نفسه ...
" أين ذهبت أخته رمز الأنوثة و الرقة و الحياء !!! "
قالت ميساء تقاطع أفكاره بمنتهى الفتور
( لقد كبرنا يا رائف ............ )
هتف رائف بغضب
( ما هذا الهراء ؟!! ............ )
ابتسمت بمرارةٍ لتقول بهدوء
( أتظنني لا أعلم شيئا عن مغامراته العاطفية في كل بلد !! ...... لكن كلمة عاطفية تكاد تكون ظلما له , ... انه مجرد شحن لقواه ..... فأنا لم أعد أفي بالغرض ...... )
رفع رائف يده الى فكه المتصلب وهو يهمس بغضب
( ياللهي !! ....... توقفي ...... )
همست ميساء بحسرة دون أي مرح
( الازلت تخجل يا رائف !!! ........ أم تريد أن توهمني بأنك لا تعرف جيدا ما أقوله و تظنني غافلة !! ...
أكرم تغير عن ذلك الذي كنت توصل اليه رسائل حبي و أنت طفل ...... لقد ..... لقد كبرنا .... و آخر جملة سمعتها منه منذ عدة أيام هي ... " اهتمي بمشاكل ابنك يا ميساء .... فهو يحتاجك " ..... )
عادت لتضحك عاليا بهيستيريا ... و هي تغطي عينيها بكفها هاتفة
( انه يكذب الكذبة و يصدق نفسه !!!! ...... يااللهي .... ابني الذي تخطى الخامسة و العشرين !! .... ابني الذي أحضره صبيا ذات يوم في بلاد الغربة ... و اخبرني أنه ابننا .... أمام العالم كله سيكون ابننا بدلا من ابننا الذي مات !! .... خاصة بعد جراحتى و التي فقدت بها رحمي ..... و آخر أمل في أن أصبح أم ...... )
رفعت وجهها المعذب الي رائف ثم همست بخفوت
( أتعلم يا رائف ..... وقتها كان لا يزال على عشقي ..... كان بإمكانه أن يتزوج من أخرى .... لكنه فضل أن يحضر ولدا مجهول النسب على أن ينجب ابنا من صلبه ...... لهذا أنا أسامحه دائما )
زفر رائف بغضب واضح ... و صدره يغلي بثورة .... ثم قال بخشونة
( لو كان هذا كل هدفه .... لماذا لم يتبنى رضيعا كي تشبعي به غريزة أمومتك !! .... لماذا استبدل ابنك رحمه الله بصبي من نفس العمر .... ثم عدتما به الى البلاد على أن ابنكما حيا يرزق !! ..... لا تخدعي نفسك يا ميساء ..... ابنك كان اسمه على العديد من الصفقات التي لا يستطيع أكرم وضع اسمه عليها .... لذا كان يحتاج الى نفس الوريث و نفس الاسم بسرعة .......... لكنكما خالفتما الشرع و القانون بما فعلتماه )
هتفت ميساء بقسوة
( لا تظلمه يا رائف ....... أكرم أحب كريم بنفس مقدار حبه لابننا ..... أحبه أكثر من نفسه )
رد رائف بكبت
( و أنا أيضا أحببته كأخ صغير ......أحببته بشدة حتى اقتنعت بالفعل أنه ابن شقيقتي الوحيدة , لكن ذلك لا يمنع احساسي المرير بأنني مشارك في الخطأ ...... )
همست ميساء بخفوت و رقة
( ماذا كنت لتفعل !! ....... تبلغ عنا ؟!!! ...... )
تنهد رائف بغضب .... ثم لم يلبث أن قال بخفوت
( أنتِ الوحيدة التي لم تحبيه بهذا القدر .......... )
شردت عيناها قليلا ..... ثم همست بلا حياة
( هل تظن أن الأم يمكنها أن تستبدل ابنها بمن يأخذ مكانه بهذه السهولة !! ...... )
ثم عادت لتنفث دخان سيجارتها ببطىء و عيناها تعودان للبرود ..... وشعر رائف أنها ابتعد عنه لأميال ...
و استمر الصمت بينهما لفترة طويلة ..... و كلا منهما في عالمه .... هي في عالمها و هو في عالمها كذلك دون راحة .....
و فجأة سمعا صوت .... ثم دخل كريم الى المطبخ .... يرتدي بنطاله من الجينز .... عاري الصدر !! ...
اقترب ليقول بصوتٍ مرح مسترخٍ
( مساء الورد على الورد ......... الأحباب مجتمعون الليلة !! )
بالصدفة التقطت عينا رائف عينا ميساء .... كانت تطوفان بشرود على صدر كريم .... و هي تنفث دخان سيجارتها ببطىء و تراخي ....
و حين انحنى كريم ليقبل وجنتها .... لمحها رائف تغمض عينيها للحظة .... و وجد اصابعها تنقر بعصبية على سطح الطاولة أمامه بحركةٍ عصبية لا إرادية !! ...
نفث رائف نفسا كالجحيم ..... هل تخادعه عيناه فيما شك به طويلا !! .....
ثم رفع كريم وجهه وهو يهمس برقة
( كيف حال الجميل ؟؟ ......... )
لم ترد ميساء ..... بل استمرت في تدخين سيجارتها ببرود و هي تتأمله بوضوح, مما جعله يلتفت الى رائف قائلا بمرح
( كيف حالك " خالو " ....... )
رد رائف باقتضاب
( الا قميص لديك كي ترتديه في مثل هذا الجو !! ....... )
ضحك كريم قائلا وهو يتناول زجاجة مياه غازية من الثلاجة .... ليقول بفخر
( كان تحديا بيني و بين صديق لي أن أعود للبيت عاري الصدر دون أن توقفني لجنة شرطة ..... )
شرب جرعة كبيرة بعطش .... ثم مسح فمه بظاهر يده ليقول بعدها
( لكن أوقفتني لجنة بالفعل ..... و قبل اتهامي بارتكاب مشهد غير لائق , تركوني ما أن عرفوا بهويتي .... )
عاد ليضحك بصوتٍ عالٍ ..... بينما ميساء تراقبه بصمت الى أن همست أخيرا
( ظننتك مع أكرم في الشركة !! ............ )
نظر كريم الى عينيها ثم قال بهدوء
( كنت معه بالفعل .... ثم خرجنا سويا بعد سلسلة من الأعمال المضنية ..... انا ذهبت لمقابلة أصدقائي وهو ...... ظننته قد عاد للبيت بالفعل .... )
صمت قليلا ثم نظر الى ميسا و قال ببراءة
( ألم يعد بعد !! ........... )
لم ترد ميساء .... بل تحجرت ملامحها تماما , فاقترب منها كريم ملتقطا احد الكراسي ليجلس عليه بالمقلوب أمامها تماما .... وجها لوجه ...... أقرب من رائف نفسه .... ثم قال بخفوت ...
( لا أحب تركك وحيدة أنا ايضا ...... لكن عملنا كبحر يبتلعنا دون رحمة ...... )
..... نظرت ميساء الى وجهه و دون وعيٍ منها وجدت نفسها ترفع ساقا فوق أخرى .... فانحدرت عينا كريم تلقائيا الى ساقيها .....
حينها انتفض رائف كالمجنون ليقول بخشونة
( كريم ...... تعال معي ..... أريدك في موضوع يخص العمل )
نظر اليه كريم بدهشة .... ثم قال بهدوء
( الا ينفع الكلام هنا ....... أمي ليست غريبة عن العمل !)
ضحكت ميساء فجأة بعنف ..... و سرعان ما أخرجت سيجارة أخرى أشعلتها و هي تضحك و تضحك ...
ثم لم تلبث أن همست ما بين ضحكاتها
( اعذراني ....... كلمة أمي تثير ضحكي ........ انه أطول مني بعشرات السانتيمترات )
تجمدت عينا كريم .... و ظهر شعاع البرود منهما كالجليد و هو يراقب ضحكها العنيف ....
بينما سحبه رائف بالقوة من ذراعه ... ليخرجه من المطبخ ... و ما ان انفرد به حتى قال بخشونة لم يعتدها معه
( كريم ...... الا ترى أن تصرفاتك أصبحت لا تليق بالبيت ..... )
اتسعت عينا كريم بدهشة وهو يقول
( اي تصرفات ؟؟ .......... )
اشار اليه رائف وهو يقول بغضب
(؛ قدومك للبيت مثلا بهذا الشكل .......... )
هز كريم كتفيه وهو يقول
( ومن في البيت .... سواك انت و جدي ..... و أمي ...... )
هتف رائف بغضب
( كريم ..... لا تتحاذق معي ....... أنت تعلم جيدا ان تصرفاتك تصبح اكثر جرأة يوما بعد آخر ..... )
قال كريم ببساطة .... وهو يدس كفيه بجيبي بنطاله
( لم الاحظ حرصكم في التزمت بالنسبة للملابس من قبل !!! ...... )
كان قصده واضح .... وهو ميساء , لكن رائف رفض ذلك الإستدراج ... لذا حاول السيطرة على نفسه , ثم قال بهدوء
( اسمع يا كريم ..... لقد كبرت و أصبحت رجلا ..... تحتاج الى الحرية و تحتاج لأن تعيش حياتك بحرية الشباب .... و أن تكون لك مساحتك الخاصة ....... لذا أفضل حل هو أن تستقل في المسكن ..... انتقي أفخم و أروع شقة .....)
بهتت ملامح كريم بصدق هذه المرة ثم قال بخفوت
( أتطردني يا خالي ؟!! ........... )
شعر رائف بقلبه يعتصر فجأة ...... كلمة " خالي " صدرت من كريم عفوية للغاية و صادقة تماما ..... حتى انه لم يقل " خالو " ... كما اعتاد ان يمزح بها .....
لطالما كان كريم أخيه الأصغر ..... و كم كانت العلاقة بينهما مميزة .... لم يبخل عليه رائف بصداقته و أخوته أبدا ......
لكن للأسف .... ما بني على باطل فهو باطل ..........
مد رائف يده يمسك بذراع كريم بقوة ..... و قال بصدق
( لم أكن لأطردك يا كريم ....... سيظل هذا بيتك دائما و أبدا ..... أنا فقط ابحث عن راحتك و حريتك )
نظر كريم بصمت الى كف رائف الممسكة بذراعه .... ثم لم يلبث ان نزع ذراعه ببطء و قصد ....
ليرفع عينيه الى عيني كريم و يقول بوضوح
( لو وافق أبي ........ فسأنفذ على الفور .... لنرى رأيه في الأمر .... )
ثم استدار ليغادر .... لكنه توقف لحظة ليقول بجمود دون أن يستدير
( تصبح على خير ......... يا خالي ..... )
ثم ابتعد تاركا رائف مكانه ..... يستشعر خطرا محدقا و في نفس الوقت .... امتلأ صدره هما من جرح كريم بتلك الصورة القاسية ...... انها المرة الاولى التي يفعلها ......
" نعم ..... ما بني على باطل فهو باطل " .....
↚
وضعت ملك باقة الورود الخوخية على الطاولة أمام السيد عاطف .... فانحنت الصورة في الإطار مجددا
فقال بخفوت
( عدلي من وضع الصورة من فضلك .......... )
نظرت ملك الى الصورة الجميلة ثم همست بسرعة و هي تعدلها
( آسفة جدا ............ )
ثم همست مبتسمة ....
( من تلك الجميلة ؟!! ............... )
نظر السيد عاطف الي الصورة بصمت ثم قال بهدوء مبتسما بفخر
( إنها ابنتي ........" رؤى " ... )
قالت ملك بود و اعجاب
( كم هي جميلة ..... كاسمها تماما ...... )
همس السيد عاطف و عيناه على الصورة بشرود
( نعم ........ جميلة ........ )
ثم رفع وجهه الى ملك مبتسما
( مثلك تماما ............ )
ضحكت و هي تقول برقة
( اشكرك من كل قلبي ....... لكن لا اعتقد انني بمثل جمالها , فعيناها تنبضان بالحياة ...... )
عاد السيد عاطف ليومىء برأسه بشرود ..... فقالت ملك بفضول
( هل هي تسكن هنا معك ....... أم إنها متزوجة ؟؟ ........... )
قال السيد عاطف مبتسما
( اتتذكرين ذاك الفظ الذي قابلتيه هنا أول مرة ........ انه يكون زوجها ..... )
ارتبكت ملامح ملك قليلا ..... ذكرى هذا الرجل تربكها دون سبب ... جديته و ملامح وجهه التي لا تقبل الهزل ....... و عيناه تبدوان و كأنهما تنفذان الى روح من ينظر اليه .....
لكنها قالت برقة
( فليسعدهما الله ............... انه محظوظ بها )
ضحك السيد عاطف دون ان يصل المرح الى عينيه وهو يقول بخفوت
( نعم ...... انه اكثر من محظوظ )
ثم لم يلبث ان قال بمرح
( هيا يا فتاة كفى عن الثرثرة ......و احضري طاولة الشطرنج من هناك ..... )
ابتسمت ملك و ذهبت لتنفذ الأمر مبتهجة .... الحقيقة أن العدة مرات التي حضرت فيها الى هنا من أجل كريم ... تحولت بالتدريج الى رغبة صادقة في مقابلة ذلك الرجل الطيب و تقبل صداقته ....
كانت تقرأ له .... و أحيانا أخرى يلعبان الشطرنج ..... دور واحد لم ينتهى حتى الآن .... و يبدو أنه سيطول ....
كان يضحكها ..... و كانت تضحكه ...... لا تتذكر أنها حظيت بمثل تلك الصداقة من قبل ......
و كم هي في حاجة اليه .... بعد سفر وعد ..... لا تعلم لماذا يصيبها غياب وعد كل مرة بنفس الصدمة !!!
على الرغم من انها أقنعت نفسها بكل قوة أنها لم تعد تهتم .... و أن لكلا منهما حياتها الخاصة .....
لكن لا فائدة ...... تستمر وعد في صدمها .... و تستمر هي في الشعور بالصدمة ......
تنهدت و هي تحرك قطعتها المفضلة ....... بينما كريم يشغل بالها الآن .......
ربما آن الأوان لكي تبدأ بناء بيتها الخاص ......
ابتسمت بشرود و هي تشاهد السيد عاطف يحرك قطعته ......
تذكرت المرة السابقة ..... حين خرجت من غرفة السيد عاطف و عيناها تبحثان عن شادي خلسة .... و فجأة جذبتها يد قوية الى أحد أركان الرواق المظلمة !! ...
و قبل أن تشهق كانت شهقتها قد ضاعت في قبلة قوية من شخص مظلم .....
للحظة ..... للحظة فقط أغمضت عينيها و مشاعرها تصرخ في طوفان جامح ....
لكنها مجرد لحظة ..... دفعته بعدها بكل قوتها و صرخت لكن همسا من بين اسنانها
( أيها القذر ..... كان يجب أن أعلم أن الثقة فيك خسارة ..... )
لكنه لم يبتعد .... و تألقت ابتسامته أكثر وهو يقترب منها ليهمس في اذنها
( أنتِ بخيلة جدا يا مليكة ...... جدا ... و هذا منتهى الظلم , لم أعرف عاشقا من قبل يعيش صائما مثلي ... )
هتفت حينها بغضب هامس
( أنا لا أتبع تلك المدرسة من العشق يا شادي ...... أنا لا أتبع سوى مدرسة واحدة , المأذون ..... )
ضحك قليلا بتوتر ثم همس
( كم أنتِ واقعية ....... )
ارتجفت شفتيها حينها ثم همست
( أشعر أنك لا تريد الزواج مني يا شادي ..... و أنا لا ألومك , لكن من فضلك ابتعد عني ... أنا فتاة بسيطة و أحلامي أبسط مما قد تتخيل ...... )
نظر اليها مليا وهو يتلمس وجهها بشرود ثم همس
( لا أريد الزواج منكِ !!!! ..... الزواج هو اسم بسيط جدا لما أريده منكِ ..... أريد أن أدخلك الى كياني كما هو مكانك الطبيعي ..... أريد أن أراكِ في كل لحظةٍ من حياتي ..... حتى بمنامي ... لأستيقظ و أراكِ بجواري ...... )
همست ملك بحب و قد ارتعش قلبها فرحا
( اذن هل فاتحت السيد أكرم القاضي في موضوع زواجنا ؟!! ........ )
أطرق برأسه بصمت ..... حينها شعرت بالإحباط باردا كالثلج بداخلها ... الى أن قال كريم
( امنحيني فقط عدة أيام يا ملك ...... فقط عدة أيام و سآتي عارضا عليكِ الزواج ..... )
ارتسمت ابتسامة على شفتيها .... و ها هي تنتظر ....
أجفلت فجأة على صوت السيد عاطف يقول بتأمل
( أنا أنتظر دورك منذ أكثر من دقيقتين ...... لكني كنت أتمتع فيهما بتأمل ملامحك الجميلة الشاردة )
ابتسمت ملك و هي تنظر الى وجهه الراقي ... ثم قالت بخجل
( أنت تغازلني يا سيد عاطف ..... احترس , فقد لا آتي الى هنا مجددا ...... )
ضحك قليلا ثم قال بخفوت
( وصف الجمال ليس مغازلة دنيئة ...... الإنسان يحيا ليتأمل كل جميل )
ضحكت ملك بمرح ثم قالت
( انها مغازلة ........ لكنها مغازلة قديمة جدا , كم مر من الوقت منذ أن غازلت فتاة .... )
تظاهر بالتأمل وهو يهمس مفكرا
( يااااااااه ......... )
ثم نظر اليها ليقول بهدوء
( حوالي ساعتين ....... قبلها كنت أتغزل بعيني الفتاة التي تحضر لي قهوتي ... فهي ذات عينين تشبه عيون الغزلان ...... )
ضحكت ملك و هي تهز رأسها يأسا ..... ثم همست بجدية
( ربما عليك أن تتزوج يا سيد عاطف ....... خاصة بعد زواج ابنتك .... )
ارجع عاطف رأسه للخلف و ضحك عاليا ....... ثم نظر اليها ليقول
( أنتِ عفوية جدا يا فتاة ....... لم أرى فتاة تكلمني بذلك التباسط من قبل ...... )
ابتسمت باشراق و هي تقول بصدق
( أنا اتكلم بجدية ........ الزواج هو اقدس علاقة بين اثنين ...... لا يهم العمر أو الفوارق ..... المهم الوحيد هو أن تجد الروح روحا تشاركها الأحلام و الابتسامة ...... الزواج هو النسخة البراقة من الصداقة )
نظر اليها عاطف مبتسما وهو يسند فكه الى اصبعه .... يستمع الى أحلامها البريئة و كأنها حمامة تشدو ... ثم قال أخيرا بهدوء
( أنتِ طائر جميل ...... لا يزال يعد جناحيه الصغيرين استعدادا للتحليق بعيد في السماوات الواسعة .... )
صمت قليلا ثم قال أخيرا
( اذن ما رأيك لو نفذت نصيحتك و تجاهلت فارق العمر و تزوجتك !! ....... )
احمر وجهها بشدة و هي تضحك عاليا ثم قالت
( أنتِ لا تأخذ الكلام بجدية أبدا يا سيد عاطف ...... لكن عامة انا كان ليشرفني جدا )
صمتت قليلا و هي تبتسم بخجل و وجنتيها تحمران في حمرة الورود التي جلبتها .... ثم همست
( لكن أنا مخطوبة ............ )
رفع عاطف حاجبيه ليقول
( حقا ........ لم أرى خاتما في أصابعك !! ...... )
همست ملك و هي تفرك أصابعها
( أنا في انتظار قدومه للتقدم لي رسميا ...... و حينها لن يتأخر في شراء الخاتم , حتى لو كان من الورق المعدني .... فأنا سأكون سعيدة وراضية ..... )
همس عاطف بتأمل مبتسما
( ياله من محظوظ !! ........... )
ابتسمت ملك بإشراق أكبر و أطرقت برأسها لتهمس برقة
( و أنا أيضا محظوظة ....... لم أتخيل أن يجدني بعد كل تلك السنوات , كنا كالأخوة في طفولتنا ..... و ما أن رأينا بعضنا في شبابنا حتى تعرفنا على ملامحنا من فورنا ....... )
همس عاطف مجددا برقة
(يالها من قصة !! .............. )
أومأت ووجهها يتألق ما بين احمراره الرائع و ابتسامتها العاشقة .... ثم همست
( نعم ....... إنها قصة صداقة تحولت الى عشق ..... )
قال عاطف مبتسما بخفوت
( لكن أرجو الا يمنعك من القدوم الى هنا فيما بعد ......... )
ضحكت بمرح سري .... ثم قالت بعفوية
( بل سأكون هنا كل يوم ........ أنا لا أتخلى عن أصدقائي أبدا ..... )
نظرت الى ساعة معصمها .... ثم نهضت لتقول بسرعة
( لقد تأخرت .... يجب أن أذهب الآن , حافظ على مكان القطع ...... لا أعلم متى سينتهي هذا الدور المعقد )
قال عاطف وهو يراها تحرك طاولة الشطرنج بحذر الى مكانها ...
( أود لو لا ينتهي ...... ففي نهاية كل لعبة , فراق )
نظرت اليه عاتبة ثم قالت
( لا تكن متشائما ........ سأظل على قلبك يا سيد عاطف )
عاد ليضحك عاليا و بقوة ...... وهو يقول من بين ضحكاته
( أنتِ حقا قطعة من أرض هذه البلد ...... من خبزه و ماؤه ..... )
قالت ملك ببساطة و هي تتجه الى الباب
( متوفرة لكن ذات رواسب !! .................. )
عاد ليضحك عاليا ..... حتى أنه لم يستطع الرد عليها فصرفها بيده وهو لا يزال يضحك بقوة ...
فلوحت له ضاحكة و خرجت بسرعة .... و كعادتها ظلت عيناها تبحث عن شادي , ألن تراه اليوم !! ....
لكن أثناء التفاتها الى الخلف علها تراه أثناء مشيها ..... ارتطمت بصدرٍ جبار قوي ...
فشهقت و هي تبتعد بسرعة ..... لتجده أمامها .....
الرجل الغامض .... ثابت الملامح ....... ذو العينين النافذتين .......
وقفا يتواجهان لفترة من الزمن ..... كانت تلهث بقوة .... و لا تعلم لماذا تسمرت ساقيها عن الحركة و لسانها عن الكلام !!! ......
بينما وقف هو أمامها يتأملها بصمت ..... كما فعل في المرة السابقة .....
عيناه تطوفان على ضفيرتها ذات اللا نهاية !! ........ و دون ارادة منها رمت ضفيرتها بقوة الى خلف ظهرها ....
و كانت تلك الحركة هي التي بثت الحياة في التمثال الحجري الضخم ......
فتحركت عضلاته قليلا ,, مما جعل ملك تتراجع خطوة للخلف بخوف ..... لكنه لم يتحرك من مكانه وهو يقول بصوته العميق اللذي لا يحمل تعبير معين
( هذا ثاني اصطدام ....... أتسائل عن مكان الثالث !! ..... )
عقدت حاجبيها و همست بلعثم و ارتباك واضح
( أنا لم ......... المرة السابقة ..... لم ...... اصطدم .... بحضرتك .... )
لم يرد عليها على الفور ....بل برقت عيناه للحظات , مما جعلها تتسائل عن قصده
ثم قال بصلابة خافتة
( باقة ورد جديدة ...... ألم اطلب منكِ الا تأتي الى هنا مجددا ؟؟ ..... )
اتسعت عيناها بصدمة من مدى تسلطه .... و ظلت تنظر اليه بذهول قليلا , ثم رفعت ذقنها لتقول بشجاعة
( ربما من الأفضل لو توقفتم عن طلب الورد من محلنا اذن ...... سيدي ... )
تجمدت عيناه .... و لا تعلم لماذا انتابها شعور غريب أنه على وشك ضربها ... فتراجعت خطوة أخرى ....
بينما قال بصوتٍ خافت لكنه غير مريح اطلاقا
( الا يوجد صبي ليوصل الباقات ؟؟ .......... )
أطرقت برأسها و قلبها ينبض بارتباك واضح ..... لكنها قالت بتوتر
( حاليا ........ لا ....... )
قال لها وهو يتقدم منها خطوة
( اذن هاتفي البيت هنا .... و أنا سأخصص من سيأتي ليحضرها .... )
ارتجفت ملك من قربه الضخم ... لكنها قالت بشجاعة رغم التوتر و الإرتباك
( عفوا سيدي ....... هل بدر مني ما يسيء الى سمعة المحل ؟؟ .... )
اقترب منها خطوة أخرى ... ثم قال بخفوت قاسٍ
( الأجدر بكِ الحفاظ على سمعتك أنتِ ............ )
اتسعت عيناها بذهول .... بينما هتفت بغضب
( سمعتي !!! ...... ماذا بها سمعتي يا سيد !! ...... )
اقترب خطوة أخرى حتى انقضت المسافات بينهما .... فهتفت برعب و هي تلتصق بالجدار
( من فضلك ابتعد ........ لو تصرف أي تصرف مشين سأصرخ و أجمع أهل البيت )
ارتسمت ابتسامة ساخرة قاسية على شفتيه , ثم قال بخفوت
( كان الأجدر بكِ التفكير جيدا قبل الدخول الى بيوت غريبة ...... فلو أراد اصحابها الإساءة اليكِ , فلن يعينك أهلها أبدا ........ )
أخذت تتراجع على الحائط حتى أصبحت واقفة على أطراف أصابعها .... فأدارت وجهها جانبها بخوف وهو يحاصرها .... و أخذت تهمس بيأس
" أين أنت يا شادي ........ أين أنت ..... "
ودت لو صرخت على السيد عاطف .... لكن اثارة الفضيحة في بيت القاضي لن يفيدها أبدا في الأيام المقبلة ....
فهمست و هي تلهث و صدرها ينخفض و يعلو برعب ....
( رجاءا يا سيدي ........ ابتعد , أنا مجرد عاملة بسيطة ..... و ما تفعله لا يليق بشخصك و مقامك .... )
لم تسمع منه ردا على الفور ... و ما أن طال بهما الصمت ... حتى تجرأت و أدارت وجهها اليه .... فوجدته على بعد خطوةٍ منها و لم يتحرك ..... ينظر اليها بصمت ..... و عيناه تتنقلان ما بين عنقها و ضفيرتها ...
و للغرابة .... شعرت بالغباء فجأة .....
لأنها شعرت شعور مؤكدا أنه لا ينوي بها أي ضرر .....و تساءلت عن السبب الذي جعلها تفتعل كل تلك الدراما المخزية .....
فعضت على شفيتها بتوتر ..... ذلك الرجل الغريب يثير بها كل أنوا المشاعر الخاطئة ..... و يخرجها عن طورها تماما ....
أخيرا تكلم بصوتٍ آمر ......
( اخرجي من هنا و لا تعودي مجددا........ هذا آخر ما قد أفعله من أجلك , ....... )
فغرت شفتيها و هي تنظر اليه ..... لماذا تشعر أن تلميحه يفوق مجرد الحديث العابر الى بائعة ورد !!!
هل يعرفها !!! ....... أيا كانت اجابة السؤال , الا أنها لم تجد سوى اطلاق ساقيها للريح و الهرب ما أن ابتعد عنها ........
بينما وقف ينظر بصمت الى ضفيرتها الذهبية المتطايرة من خلفها ...........
.................................................. .................................................. ......................
سمعت كرمة صوت رنين الباب ظهرا .... فنظرت الى المطبخ تنتظر أمينة أن تفتح , لكنها على ما يبدو كانت مشغولة ...
لذا اتجهت الى الباب كي تفتحه ...... لكنها ما أن فعلت حتى توقفت مكانها حين وجدت أمامها صبي صغير .... يلبس لبسا رياضيا و يحمل فوق ظهره حقيبة رياضية مناسبة ......
و دون الحاجة للسؤال عرفته ..... فابتسمت ....
ياللهي .... كم يشبه والده !!! ..... بل هو اشد وسامة منه ....
نفس العينين و نفس الشعر البراق الجميل المصفف بنعومةٍ للخلف ........
قال كرمة مبتسمة بخفوت
( مرحبا ........... )
الا أنها لم تتوقع أن يرتفع حاجبي الصبي بدهشة قوية و هو يتأملها ليقول فجأة بلهجة مصدومة
( الله !!! ...... الله !!! ...... ماذا لدينا هنا !!!! ..... )
اختفت ابتسامة كرمة بعدم فهم .... لكنها ارتبكت , فتجاوزها وهو يزيح الباب و يدخل بيته بأريحية ......
أغلقت كرمة الباب و استدارت اليه بتوتر ..... فالتفت اليها قائلا بلهجة مصدومة
( الآن عرفت لماذا تركنا بيتنا ........ هل يمكنك اخباري عما تفعله سيدة جميلة هنا بمفردها في بيت والدي !! )
اتسعت عينا كرمة بذهول و هي تنظر اليه !!! ..... ألم يخبره حاتم بزواجهما !!! .... ألم يخبره !!!
كيف لم تسأله سؤالا هاما كهذا ؟!!! ...... لكنها ظنته أمرا بديهيا لا يحتاج للسؤال ....
رفعت يدا مرتبكة الى صدرها و همست بتوتر تعرف عن نفسها
( أنا ....... كرمة .... زميلة والدك بالعمل )
لوح الولد بذراعيه بصورةٍ مسرحية وهو يلقي حقيبته أرضا ليقول
( و ماذا تفعل كرمة زميلة والدي في بيتنا بينما نحن خارجه !!! ........ )
ازداد ضغط يد كرمة على صدرها المتوتر .....
" تبا لك يا حاتم !!! ..... ماذا أفعل الآن ؟!! ...... هل أخبره أنا , و حينها ستسؤ علاقته بك تماما ؟؟ .... أم أنتظر الى أن تخبره بنفسك ...... لكن منظري غريب جدا هنا .... تبا لك يا حاتم !! "
أخذت تجلي حنجرتها قليلا .... و بدأت في الهمس
( احم .... أنا ....... ما اسمك بالمناسبة ؟؟ .... أعتقد أن والدك أخبرني ذات مرة لكنني نسيت على ما يبدو )
رد الصبي قائلا ببرود و بملامح لا تلين
( محمد .......... )
ما أن نطق الإسم حتى عادت اليها ذكرى حلم الأمس فجأة !!!
لم تكن قد تذكرته منذ أن أفاقت صباحا ...... لكن الإسم جعلها تتذكر كل تفاصيل الحلم , فارتجفت بقوة و همست بداخلها برعب
" استغفر الله العظيم !!! ......... "
ثم أظلمت عيناها بألم و هي تتسائل
" هل جاء اليوم الذي تستغفر فيه الله لحلمها بمحمد !!!!! ...... لو أخبرها أحد بذلك سابقا لضحكت بجنون .... الى أين سارت بها الأيام ؟!! "
أفاقت بقوة على صوت محمد وهو يهتف ملوحا بيده
( هاااااااي ....... أين ذهبتِ يا زميلة والدك !! ...... هل يمكنك تفسير وجودك هنا !! )
فغرت كرمة شفتيها و شعرت و كأنها تلميذة مذنبة أمام ناظر المدرسة .... فهمست بإرتباك
( أنا ........ أنا ....... ياللهي ماذا أفعل الآن !! ..... )
توقفت فجأة حين سمعت صوت ضحك أمينة من خلفها و الذي امتزج بضحك محمد اللذي أمسك بطنه
فعبست بشدة و هي تنقل نظراتها بينهما ....
كانا يضحكان بصوتٍ و سماجة .... ضحكات سمجة متقطعة !! .....
فوضعت يديها في خصرها و هي تقول بحنق
( ها ..... ها .... ها ...... كم هذا ظريف !! ... )
الا أن أمينة قالت و هي تضع صينية العصير من يدها
( والله أحمق مثل والدك .......... اشتقت الي شقاوتك يا قرد .... )
ذهب اليها ليحتضنها , ثم قال بلهجةٍ ذات مغزى
( منه لله من كان السبب و فرقنا .......... )
ارتبكت كرمة أكثر ..... لكنها قالت و هي تمد يدها
( حسنا ........ لنبدأ من جديد ,.... مرحبا يا .... محمد , أنا كرمة زوجة والدك )
تجاهل يدها الممتدة .... ثم أخذ يدور من حولها وهو يقيمها بنظراته .... فرفعت كرمة حاجبها مرتابة من نظراته البعيدة عن الطفولة .....
الى أن قال أخيرا
( امممممم ..... حسنا لقد أجاد الإختيار ...... لا بأس بكِ )
احمر وجهها قليلا , بينما تابع بهدوء
( لكن ماذا أعجبك به ؟!!! ......... )
عبست و هي تضيق عينيها , بينما قالت أمينة
( احترم نفسك يا ولد ....... و تعال لأعد لك بعض مما تأكله .... )
لكن محمد قال بهدوء
( حسنا اذهبي أنتِ و أنا سألحق بك ........ )
قالت أمينة
( اياك و مضايقة كرمة و الا سيغضب والدك ....... أوامره صارمة بخصوصها )
قال محمد بخفوت و عينيه على كرمة
( الله .. الله .... سيدي يا سيدي .... كرمة فوق رؤوسنا و في أعيننا ... و في بيتنا .... بينما نحن خارجه !! )
ارتبكت كرمة أكثر و عضت على شفتيها لتقول بخفوت
( هذا وضع مؤقت ...... أنت ووالدك ستأتيان الى هنا ..... خلال يومين ... )
هتف محمد قائلا
( شكرا للكرم الفائض يا كمرة ........... )
قالت كرمة بفتور مصححة
( " كرمة " ............. )
فقال محمد عفويا
( آه نعم ...... آسف , كرمة ...... الخاصة بالعنب أو شيئا كهذا .... )
قالت كرمة بنفس الفتور و حاجبها يرتفع بعدوانية
( نعم شيئا كهذا ............. )
جلس محمد بأريحية على الأريكة كجلسة ابيه تماما .... ثم قال بهدوء مربتا على المكان الخالي بجواره
( تعالي ..... اجلسي )
ابتسمت كرمة رغما عنها , فهذه الحركة هي حركة حاتم تماما حين يرغب في أن يحدثها بأمرٍ هام ....
كانت مقتنعة دائما أن الأطفال يرثون جينات ابائهم الشكلية .... لكن ما كان يذهلها
هو أن تكون لهم نفس الحركات و الإيماءات .... و غالبا ما تخيلت طفلا بحركات و ايماءات محمد ....
عادت ملامحها لتتصلب و هزت رأسها قليلا لتنفض ذلك المنحنى ...
ثم اتجهت طالبة الحماية الفكرية من محمد ..... الصغير ....
جلست بجواره بصمت و أناقة , تنظر اليه بطرفِ عينيها .... و هو ينظر اليها ببساطة متفحصا إياها و كأنها هي الصغيرة و ليس هو .....
قالت كرمة أخيرا قاطعة الصمت
( هل يعلم والدك أنك هنا ؟؟ ........... )
هز رأسه نفيا دون رد .....فقالت بدهشة
( اذن كيف أتيت الى هنا بمفردك ؟؟ ....... )
قال لها ببساطة
( النادي بقرب البيت تماما .... لهذا اختاره والدي .... )
أومأت كرمة برأسها ... ثم عادت الصمت بينهما , فقال محمد
( لم تجيبي عن سؤالي ...... ماذا أعجبك فيه ؟؟ ..... )
نظرت كرمة اليه متفاجئة .... آملة أن ينسى السؤال ... لكن من الواضح أنه لم يفعل , لذا قالت بحذر و خفوت
( والدك ..... شهم جدا , و مراعي لمشاعر غيره .... كما أنه ناجح في عمله جدا )
رفع حاجبيه بدهشة ..... ثم قال أخيرا
( الا تحبينه ؟!!! ............ )
صدمت من جرأته و نظرت اليه بتعجب بينما احمر وجهها بشدة .... فقالت باقتضاب
( كل من يعرف والدك يحبه ........ انه محبوب في العمل جدا )
قال محمد ببساطة
( لكن هذا ليس رأيي أمي .......... )
اتسعت عينا كرمة بصدمة و هي تنظر أمامها ...... لا تتجرأ حتى على الإلتفات اليه ..... و ظلت صامتة كي تمر تلك المنطقة الخطرة .... لكنه لم ييأس فقال بهدوء متابعا
( أمي تقول أنه أذاقها الويل ........ )
اتسعت عينا كرمة أكثر ... و ظلت جالسة على حافة الأريكة تنظر أمامها .....
" أذاقها الويل !!! ..... حاتم !!! ..... هل كان يضربها و يهينها !!! ... ياللهي !! .... و ما الذي تعرفه عنه سوى الظاهر فقط !! ...... "
كم ودت لو سألت محمد إن كان حاتم يضرب أمه !! ...... لكنها ضغطت على أسنانها بحزم ... و قوت نفسها و هي تفكر
" اجمدي يا كرمة ...... لا تدعيه يستدرجك فتقعين في أكبر خطأ !! ....... لو حاتم من هذا النوع فأنا خير كفيلة بأن أدافع عن نفسي ...... لقد تحملت محمد لأنني كنت أحبه و ما بيننا كان أكبرمن أي شيء
, أما الآن فلا شيء في الدنيا يجبرني على تحمل الإساءة مجددا ...... اطلاقا ..... "
كانت تتنفس بسرعة و هي تجلس مكانها ..... الى أن سمعت صوت المفتاح في الباب , فنهضت قافزة تتنفس الصعداء .... و ما أن رأت حاتم يدخل حتى شعرت بالإمتنان لتخليصها من تلك الورطة ...... و نسيت تماما خلافها معه بالأمس بخصوص موضوع المفتاح ......
توقف حاتم مكانه ما أن رآها واقفة كالبدر تنظر اليه و كأنها تنتظره ....
و يا الله !!! ...... اندفعت ذكرى ليلة أمس حية أمامه بكل تفاصيلها .......
حتى الآن لا يصدق أن تلك الفرس الجامحة كانت بين ذراعيه مروضة ..... تموء كقطةٍ راضية ......
رائحتها لا تزال تزكم أنفه .... رغم ثقته بأنه لم يكن عطرا , بل كانت رائحتها الخاصة و الشبيهة برائحة الأطفال ...... ممتزجة بأنوثة طاغية و كأنها أنثى الطاووس تنادي شريكها في موسم التزاوج !!
زفر بقوة بين شفتيه ..... ليقول هامسا بدلا من التحية
( ما أجملك كأول شيء في الصباح !! ......... )
اختفت ابتسامتها بذعر و اتسعت عيناها بتحذير و هي تشير بحدقتيها جانبا ....
عقد حاجبيه وهو ينظر الى ما تشير اليه ...... ثم لم يلبث أن رفع حاجبيه دهشة و هو يرى محمد جالسا على الأريكة براحة .... ينظر اليه مبتسما و هو مادا كلتا ذراعيه على ظهر الأريكة .....
هتف حاتم مقتربا
(ماذا تفعل هنا !!!! ..........هل هربت من السائق مجددا ؟!!! )
قال محمد ببساطة
( فضلت أن آتي لبيتي ...... أطمئن إن كانت أمينة أو كمرة تحتاجان الي شيء ما ..... )
ضغط حاتم شفتيه بغضب , لكنه سيطر على نفسه و هو ينظر الى كرمة قائلا
( هل فعل ما يغضبك ؟؟ ....... هل تجاوز حده معك ؟؟ ...... أنا أعرفه جيدا ... )
سارعت كرمة تقول
( على العكس ....... لقد أتى فعلا لرؤيتنا , .... كان تصرفا شهما جدا من قبله )
قال حاتم بصرامة وهو ينظر الى محمد مجددا
( ليس حين يهرب من السائق للمرة الثالثة هذا الأسبوع ......... )
أطرقت كرمة برأسها و تمنت لو لا يعنف محمد أمامها كي لا يكرهها ......
لكن حاتم قال بصوتٍ حازم
( حسنا أيها الشاب , ادخل الى الحمام و نظف نفسك قليلا ..... كي تأتي معنا أنا و كرمة للغذاء خارجا )
نهض محمد ببساطة .....لكن قبل ان يختفي لم ينسى أن يقول من خلف ظهره
( على الأقل مسموح لنا باستخدام الحمام ......... ربما سيكون غرفتي لاحقا )
استدار اليه حاتم غاضبا .... فجرى مسرعا ليدخل الحمام صافقا الباب خلفه بقوة
بينما وقفت كرمة مرتبكة تراقبهما ...... الحقيقة وجود صبي في البيت أمر غريب عليها تماما .....
لكن ياللعجب .... شعور غريب من الدفىء تسلل أعماقها بخبث ..... حتى جدالهما و خلافهما لذيذ .... و كأنهما نسختان طفوليتان .... مع اختلاف الأحجام فقط .....
نظر اليها حاتم بصمت ليقول بعدها بصوتٍ خافت
( آسف على ذلك ....... كان يجب أن احذرك منه )
قالت كرمة مسرعة
( إنه رائع ......... وهو يشبهك تماما )
برقت عيناه فجأة .... بريقٍ أخافها , و قبل أن تفلح في الهرب كان قد اقترب منها ليجذبها بين ذراعيه محيطا خصرها بقوة ...و هو يهمس ملامسا أذنها بشفتيه
( هل هو رائع لأنه يشبهني ؟!! ...... لأن هذا هو ما فهمته من كلامك )
فأخذت تتلوى منه بذعر و هي تهمس
( حاتم ابتعد ....... ابنك سيعود في اي لحظة )
الا أنه كان يستنشق رائحتها بمنتهى الراحة و الحرية .... يلامس عنقها بأنفه , ثم همس
( ابني قارب أن يصبح شابا ............ )
أغمضت كرمة عينيها و هي تقوي نفسها ..... تتنفس ببطىء و تعد حتى العشرة ....
لكن و ما أن تجرأت يدا حاتم لأماكن خاصة جدا حتى انتفضت شاهقة بعنف و هي تقفز مبتعدة عنه حتى وصلت لآخر جدار ... و هي تلهث بصدمة ....
بينما ظل حاتم ينظر اليها بصمت .... دون تعبير معين على وجهه .....
و استمر الصمت بينهما ...... وانخفضت عيناها أمام تحقيق عينيه الصارمتين .....
لكن دخول محمد في هذه اللحظة كان هو الراحة العظمى ....... فتنهدت بصوتٍ هامس , و سارعت للقول
( سأذهب لأبدل ملابسي ......... )
و جرت الى غرفتها تحت أنظار حاتم القاتمة .......
.................................................. .................................................. ..................
خلعت كرمة ملابسها ..... و أمسكت بفستان صوفي ذا لون أحمر قاتم للغاية ... بحزام خصر أسود جلدي .....
ووقفت تنظر الي نفسها في المرآة مجددا و هي ترتجف بعينين كبيرتين حزينتين و مصدومتين
.... ثم همست أخيرا و مجددا ...
( واجهي تصرفاتك يا كرمة و تحملي تبعاتها ........ إنه زوجك ..... إنه زوجك ..... )
تنهدت وهي تغمض عينيها و همست مجددا
( إنه ....... زوجك ........ )
سمعت طرقة على الباب أجفلتها ......ففتحت عينيها بسرعة و قالت بحذر
( من ؟؟ ........... )
سمعت بصدمة صوت حاتم وهو يقول بهدوء
( إنه أنا يا كرمة ....... اردت أخذ شيء من الغرفة ... )
استعت عينيها و هي ترى مقبض الباب يتحرك فصرخت
( انتظر ...... انتظر ...... لا تفتح الباب .... )
لكن كلامها ضاع في شهقة خجل مرعب و هي تراه يقف أمامها .... قبل أن يدخل مغلقا الباب خلفه بهدوء
ضمت كرمة الفستان الى صدرها و جرت الى خلف السرير الذي لم يخفي سوى ركبتيها !!!
و هتفت بينما وجنتيها تتلونان بلون الفستان الذي تتشبث به
( أخرج من هنا لو سمحت .......... )
لكن عيناه حدقتا بها دون خجل ..... كلها دون استثناء , معلنا رفضه لأي حاجز بينهما .....
بينما وقفت كرمة مغمضة عينيها بشدة لهذا الانتهاك السافر منه ...... فهتفت بقوة دون ان تفتح عينيها
( اخرج من هنا حالااااا ..... من فضلك )
الا أنها لم تسمع صوتا و ما ان فتحت عينيها حتى وجدت امامها في نفس الجهة من السرير .... و قبل أن تنطق كان قد امسك بوجهها بين كفيه .... ليقبلها بقوة هامسا بين شفتيها باصرار
( نسيت أن أقبلك قبلة اليوم ..... و أنا لن..... أتنازل .... عنها ...... ضعي ذلك .... ببالك )
" ببالك " الأخيرة كان لها مذاق آخر وهو يتوسع و ينتشر و هي تهمس بين أنفاسه الملتهبة
( ياللم....صيبة !!! ...... )
و ما أن تركها أخيرا حتى نظر الى عينيها يقول برقة من بين أنفاسه اللاهثة
( نسيت ساعة معصمي هنا ليلة أمس ...... سآخذها و أخرج )
انحدرت نظراته بقصدٍ عليها ..... دون أن تدرك أن الفستان قد وقع من بين يديها .... ثم همس بخفوت دون أن يبعد عينيه الثائرتين
( خذي راحتك ......... )
و بعد فترةٍ ظنتها دهرا ....... اتجه الى الجهة الأخرى , ليلتقط ساعة معصمه من خلف المصباح ثم خرج بهدوء مغلقا الباب خلفه .....
بينما سقطت كرمة جالسة على السرير و هي تبعد شعرها خلف أذنيها ..... واضعة كفيها على وجنتيها المشتعلتين .....
و بعد فترة ..... تساءلت بحيرة ....
" ما الذي أتى بساعة معصمه هنا ؟!!! ........ "
.................................................. .................................................. ....................
رفعت عينيها اليه ما أن دخل الى المحل .......
بدا مشعث الشعر بنعومته و جماله ..... حتى ذقنه الغير حليقة بدت جميلة عليه .....
كم اشتاقت اليه من كل قلبها ..... لقد مرت عدة أيام طويلة كالسنين منذ أن رأته آخر مرة .....
اقترب منها بصمت و عيناه عليها بشوقٍ سافر .... و قبل أن يتكلم بادرته تقول و هي تتلمس إحدى الوردات
( اشتقت اليك ............ )
اشتعلت عينا كريم وهو ينظر اليها .... و دون كلام اتجه اليها مسرعا , لينتزع الوردة من يدها و يرميها بعيدا ,, ثم أمسك بكفيها ليقول بقوة ناظرا في عينينها .....
( مليكة ........ تزوجيني , الآن .... )
اتسعت عيناها بذهول ثم هتفت
( هل أخبرت والدك ؟؟!!!! ...... ماذا قال ؟؟ ...... )
توترت كفاه فوق يديها بتشنج ملحوظ ..... ثم أخفض عيناه فهمست بهلع
( هل رفض ؟!!! ..........)
رفع عينيه اليها بصمت ..... و نظر اليها طويلا قبل أن يقول بخفوت لا روح فيه
( نعم رفض ............ )
بهتت ملامح ملك فجأة .... و ذبلت عيناها الجميلتان ,و همست باختناق هامس
( لكن ..... لماذا ؟!!! , أنا أحق الناس بك !!! ...... أنا أعرفك قبلهم .... لماذا يرفض ؟!! .... )
شدد كريم قبضتيه على كفيها ليقول بعنف
( سنتزوج .......... أليس هذا ما قلتيه سابقا ؟!! ..... سنضع الجميع أمام الأمر الواقع .... )
فغرت شفتيها برعب قليلا ... ثم همست
( و هل أنت على إستعداد لتتخلى عن كل حياتك الحالية من أجلي ؟!!! ........ )
لم يرد عليها ..... و بانت على وجهه , ملامح زادتها رعبا , فهمست بصوت جليدي
( تريد أن تتزوجني في السر ...... اليس كذلك ؟؟؟ ..... )
عقد حاجبيه و قال بغموض
( هل يشكل ذلك فارقا لكِ ؟؟؟ ...... قلتِ أنكِ غير مهتمة بعائلة القاضي !! )
همست ملك بتأكيد
( لا أهتم بهم ولو لذرة ...... لكن لنعلن زواجنا كشادي و ملك .... و ليعرف العالم كله و حينها سأبدأ معك من الصفر ..... فلتترك لهم كل ما يملكون إن كانت تلك هي وسيلة الضغط عليك )
هتف كريم بغيظ
( كفي عن الأحلام الوردية يا ملك و تعقلي ..... ما تنطقين به هو مجرد هراء .... )
الشعور بالصدمة غلف ملامحها و هي تهمس بوجوم
( هراء يا شادي ؟!!! ........... ظننت أنني عندك أهم من مالهم ؟!! )
رد بغضب و هو يشدد قبضتيه عليها
( المسألة ليست مسألة مال يا ملك ...... ليت الأمر كان بمثل تلك البساطة ...... أنا صرت معلقا بتلك العائلة للأبد ....... )
هتفت ملك بحيرة
( لماذا ؟؟!!! ...... ما هي سلطتهم كي منعوك عن الزواج من الفتاة التي تحبها ؟!!! .... )
هتف كريم مجددا بغضب و ثورة
( سلطتهم هي الإسم ....... والدي لن يستطيع أن يغامر بادخال احد من الماضي الى حياتي , الا انتهى الأمر بنا جميعا للسجن ...... كل الصفقات التي أنا شريك بها موقعة باسم كريم القاضي .... و تريدين أن أخرج للعالم بمنتهى السهولة معلنا أنه لا وجود لكريم القاضي .... و أنه مجرد شخصية وهمية ؟!!! .... )
صمتت ملك تماما و هي تستمع اليه برعب .... الموضوع فعلا أكبر مما كانت تظن ......
فتابع كريم بوضوح
( و حينها سأقضي الباقي من عمري خلف القضبان ..... بعيدا عنكِ ..... )
ترقرقت عيناها بالدموع و بغزارة .... ثم همست بإختناق و هي تهز كتفيها باستسلام
( اذن اذهب ......... لا أملك الكثير لأقوله ..... )
قال كريم بقوة وهو يضمها الى صدره
( لن أتركك بعد أن وجدتك ........ ترك روحي أهون )
بكت على صدره بألم و همست
( ماذا بيدي أن أفعله ....... أنت تطلب المستحيل , البقاء في السر الى آخر العمر , أمر مستحيل و أنا أريد بيت و اسرة و أطفال ..... الكثير من الأطفال )
همست الكلمة الأخيرة و هي تجش ببكاء عنيف .....
أخذت يده تربت على شعرها بحنان وهو يهمس لها كي تهدأ
( و أنا أيضا أتمنى هذا من كل قلبي ...... صدقيني مليكة )
همست على صدره بإختناق
( اذن ماذا سنفعل ؟!! ............. )
قال كريم بصوتٍ لا يقبل الجدل
( نتزوج و نضعهم أمام الأمر الواقع ..... لكننا سنخفي الأمر عن العالم الخارجي , و هم لن يستطيعو اثارة أي فضيحة ..... لأنها ستكون عليهم بالمثل ..... )
رفعت ملك وجهها اليه و همست بخوف
( لكن الى متى سأظل في الخفاء ...... أنا أيضا لدي حياتي و أناس محيطون بي .... و لن أستطيع إخفاء الأمر طويلا ....... )
قال كريم وهو يحيط وجهها بكفيه ناظرا الي عينيها
( لن يطول الأمر .... مجرد أشهر قليلة و سيقتنعون بعدها .... و ستنضمين الى عائلة القاضي رسميا )
شردت عينا ملك بعيدا باهتزاز واضح ...... ثم لم تلبث ان التفتت اليه تقول بلهفة
( لماذا لا تستعين بأمك يا شادي ...... النساء قلوبهن أضعف و قد تحنن قلب أبيك قبل أن نتهور )
اظلمت عينا كريم فجأة ... و تجمدت أصابعه على وجه ملك , ثم ضحك بقسوة , ليقول بعدها
( أمي !!! ..... هل هذا هو ما تظنينه , السيدة ميساء لم تهتم لوجودي بالبيت منذ اليوم الأول .... كان رفضها لي واضحا , و كان تجنبها لي أشد قسوة من الإساءة الجسدية ..... فهل تتخيلين الآن أن تساعدني ؟!! )
كانت ملك تستمع اليه بعطف .... و قلبها يئن لوعة على الصبي اليتيم المسكين .... فهمست بخفوت و هي تمسح وجهها
( هل تكرهها لذلك يا شادي ؟؟ ......... )
رد شادي بقسوةٍ بعد فترة
( أنا لا أكرهها ....... أنا فقط اشرح لكِ أنها آخر شخص قد يساعدني ..... )
همست ملك بخفوت
( أشعر أنك تعاقبها يا شادي ......... )
نظر الى عينيها بقوة , ثم لم يلبث أن ضحك وهو يقول بعشق
( ها أنتِ قد نسيتِ زواجنا و تحولتِ الى محاولة معالجتي نفسيا ........ )
ابتسمت ملك على الرغم من عينيها الحمراوين المنتفختين و همست برقة
( لن أعالجك نفسيا ....... الأمر أبسط من ذلك , ...... سأكون أنا أمك )
نظر الي عينيها بصدمة .... و بقلب ملتاع رأت عيناه تترقرقان بالدموع الحبيسة .......
فابتسمت له على الرغم من اعتصار قلبها ...... فهمس لها بأمل
( ستتزوجينني ؟؟ ............ )
ابتسمت و هي تهمس
( سأتزوجك ............. )
تنهد بقوةٍ و بصوتٍ عالٍ و هو يضمها الى قلبه .... و كأنه ارتاح بعد سباقٍ طويل .....
ثم همس فوق شعرها
( سنتزوج باسمي الحقيقي ..... شادي ..... بشهادة ميلاد قديمة مستصدرة من الدار ..... كنت أحتفظ بها )
و لم يرى ابتسامتها المرسومة على صدره بعد ما سمعته للتو !!!!!!!
.................................................. .................................................. ......................
جلست كرمة بجواره في صمت مطبق بعدما أنزل محمد الي شقتهما .....
و استمر الصمت بينهما طويلا وهو ينظر اليها بين الحين و الآخر .......
ثم قال بهدوء
( هل يمكن أن أعرف سبب غضبك مني ؟؟ ........ )
قالت كرمة و هي تنظر من نافذتها
( لست غاضبة ........... )
قال حاتم بسخرية
( حقا !!! ........ ليتك اذن ترين جانب وجهي من موقعي هذا )
ردت كرمة بهدوء بارد ....
( يؤسفني أن شكلي و انطبعاتي لا تعجبك ..... يمكنك الا تنظر )
نظر اليها بحدة .... ثم عاد لينظر الى الطريق من أمامه ... و قال بجفاء
( على الأقل من حقي أن أعرف السبب في تلك المعاملة الجافة ..... أما مشكلة الشكل فلا تحملي همي بسببها , فأنا وضحت لكِ أكثر من مرة و بطريقة عملية عن رأيي بشكلك و كل إنطباعاتك .... و ما أن نصل للبيت سأوضح لك المزيد ..... )
التفتت اليه كرمة لتقول بانفعال
( هلا توقفت رجاءا عن مثل هذا الكلام الصريح ..... أنا لست معتادة عليه ..... )
نظر اليها بطرف عينيها ثم قال بخفوت ذو مغزى
( الكلام الصريح لم يبدأ بعد يا كرمة ..... لكنني لم أظنك بمثل هذه البراءة )
نظرت أمامها دون تعبير .... بينما كان صدرها يضيق أكثر و أكثر ......
كانت تعاني بوضوح .... فرق قلبه لها , مد يده يمسك بيدها بقوة رغما عنها ... وهو يهمس برقة
( حبيبتي ........... )
هتفت كرمة بعذاب و يأس
( أرجووووك توقف عن تلك الكلمة .......... )
لم يرد على الفور ... و لم يترك يدها , لكنه قال بخفوت
( هل تؤلمك ؟؟ .......... عامة أم مني أنا تحديدا ؟؟ .... )
تنهدت بألم و هي تخفض رأسها ..... فقال حاتم بصلابة
( هل ترفضين حبي ؟؟ ....... تشعرين بأن ضميرك مثقلا بسببه ؟؟ .... )
صدرت عنها شهقة صغيرة ... فنظر اليها ليجدها تبكي بصمت .... فعاد لينظر الي الطريق أمامه بملامح قاتمة .... الى أن قال بجدية
( يؤسفني اذا أن أطلب منكِ محاولة التأقلم معه ..... و هذا أبسط ما أطلبه منكِ خاصة أنني لم أطلب منكِ مبادلتي الحب بالمثل ...... )
همست كرمة بعد فترة طويلة و دموعها منسابة على وجنتيها
( اعذرني يا حاتم ........ أنا فقط لست ..... أنت فاجئتني حين ....... )
قال حاتم يتابع بخفوت
( حين أخبرتك بأنني أحببتك قبل حتى طلاقك و انفصالك .... اليس كذلك ؟؟ .... ترينني مجرما ... )
ارتجفت قليلا ثم همست و هي تنظر من النافذة
( الأمر حساس جدا ........ و أنا ....... )
قاطعها حاتم يقول بصلابة
( اذن لماذا قبلتِ بالزواج بي بتلك السرعة ؟؟ ........ )
أغمضت عينيها و ابتلعت غصة في حلقها ثم همست بصوتٍ لا يكاد أن يسمع
( لقد ...... تسرعت ...... )
لم ترى ملامحه التى تحولت في تلك اللحظة الى قسوةٍ لم يعرفها هذا الوجه بهذه الدرجة من قبل .....
لكنه حين تكلم كان صوته باردا خافتا
( و ماذا ترين الحل المناسب الآن ؟؟ ...... الطلاق ربما ؟؟ ...... )
ارتجفت بشدة و هي تسمع الكلمة البشعة مجددا .... و فركت أصابعها بتوتر و عصبية .... كانت على شفا الانهيار بوضوح .... و كانت تقريبا تعاني من عدة صدمات متأخرة ....
لكن حاتم سهل عليها الأمر حين قال بجفاء
( وفري عنكِ عناء التفكير يا كرمة ...... لأنه رغم أسفي لشعورك بالتسرع , الا أنني أرفض الطلاق كحل ... نحن حتى لم نتزوج فعليا كي نفكر بالطلاق )
لم نتزوج فعليا !!! .... لو يعلم أن هذا تحديدا ما يوترها
كيف تسمح لرجل غريب بأن .........
انها لم تعرف سوى محمد منذ سن السادسة عشر ...... فكيف .......
تنهدت بارتجاف ..... ثم نظرت فجأة الى أصابعه التي تخللت أصابعها برقة .... فنظرت الى وجهه , لكنه كان ينظر أمامه .... فقال بخفوت
( هل أطلب الكثير لو طلبت منكِ الوثوق بي ؟؟ .........)
هزت رأسها نفيا ببطىء ..... و كأنها تحتاج لذلك ....... فقال دون أن ينظر اليها
( لم أسمع ............... )
همست كرمة بخفوت
( لا ليس كثيرا ........ سأحاول )
ضحك حاتم بقوة ..... ثم قال بهدوء
( يالهذا الكرم !!! ............ )
ابتسمت كرمة على الرغم من دموعها و همست
( أنت نسخة من ابنك ............ )
نظر اليها بتعبير جارف في مشاعره على الرغم من الحزن الواضح في عينيه .. ثم قال بثقة
( سنكون أسرة سعيدة يا كرمة .......أعدك بذلك )
صمت قليلا ..... ثم قال بهدوء
( هذا لو لم تطلبي الشرطة لمحمد بعد يومين من إقامته معك .......... )
ضحكت قليلا .... ثم قالت بمودة
( أنه لطيف للغاية...... أنت تظلمه ...... )
قال مبتسا دون أن يتخلى عن يدها
( أنتِ أدرى يا كمرة ......... )
ضحكت بخفوت و هي تطرق برأسها .... بينما نظر اليها حاتم بوجوم بطرف عينيه ليقول بداخله بغضب و ألم
" تبا لجمالك ........الرحمة يا رب "
.................................................. .................................................. ......................
حين عادا للبيت ..... فتحت لهما أمينة لتقول لكرمة بقلق
( هناك ضيف ينتظرك منذ فترة طويلة و أبى الرحيل الا بعد أن يراكِ ......... )
توترت كرمة ... و رغما عنها طارت عيناها حلما الى الداخل ..... هل يكون .....
بينما اشتدت قبضة حاتم على كفها بخشونة و توحشت ملامحه وهو يقول
( من يكون ؟؟؟ ........... )
قالت أمينة بهدوء
( اسمه السيد سيف دين فؤاد رضوان ......... )
قالت كرمة فجأة
( انه زوج وعد .............. )
فقال حاتم بخشونة
( و ماذا يريد ؟؟ ............... )
قالت كرمة بخفوت
( ربما لو تركت يدي قليلا يا حاتم لعرفت ما يريده بدلا من قبضة الهاربين من العدالة تلك ...... )
تركها حاتم على مضض وهو يقول بلهجة الامر
( سأقابله معك ............ )
سارت كرمة الى الداخل و هي تفكر بخوف
" ربما من الأفضل أن تقابله معي ........ فهو على وشكِ قتلي "
وصلت كرمة الى سيف الذي نهض من مقعده ما أن رآها ....فتنهدت بأسى من أن رأته
كان مشعث الملبس ..... غير حليق الذقن .... عيناه حمراوان و قاسيتان , تفيضان بالعذاب .......
" ياللهي يا وعد ..... ماذا فعلت؟؟ ..... و كيف طاوعك قلبك !! "
بادرها سيف قائلا بخفوت
( تعبت كثيرا حتى وصلت لعنوانك ..... و رقم هاتفك ليس معي )
اقتربت كرمة لتقول بخفوت
( مرحبا سيد سيف ....... كيف حالك ؟؟ .... )
شعرت بغباء السؤال ..... بينما ابتسم هو بسخريةٍ مريرة ليقول بخفوت
( كما ترين .......... )
انحنى حاجباها بألم , ثم لم تلبث أن قالت بخفوت و هي تمد يدها الى حاتم هامسة بتوتر
( ح ..... حاتم .... زو .... جي )
كانت تشعر بالخزي حيث أنها حضرت زفاف سيف ووعد منذ فترة ليست ببعيدة و كان معها محمد تراقصه
لذا وجود حاتم الآن بجوارها بدا منظر غريب منفر !!! .....
لكن سيف كان غافلا تماما وهو يصافح حاتم بشرود ..... فتنفست الصعداء أنه نسي زوجها السابق .... كي لا تظهر كمتعددة أزواج ....
التفت سيف يقول لكرمة بهدوء صلب
( أين وعد يا كرمة ؟؟ .............. )
ارتبكت كرمة .... لكنها همست بصدق
( صدقني لا أعرف أين هي ........... )
احتدت ملامح سيف وهو يقول بحدة
( لا يبدو عليكِ الإندهاش من غيابها و كأنكِ تتوقيع الأمر ....... أين وعد يا كرمة ؟؟ ..... )
لم ترد كرمة و هي تتنهد بقوة بينما كتفت ذراعيها كي تحمي نفسها بتوتر .... فقال سيف بصوتٍ أكثر خفوتا
( وعد ليس لها أحد سواي .......و هي لن تتحمل العالم الحقيقي بمفردها , حياتها سابقا كانت محدودة ..... و الآن لقد وسعت دائرة حياتها دون علمي و هي تظن أنها قد تنجح في الإستقلال بحياتها ....
وعد ليست أنتِ يا كرمة ..... في العمل و مع البشر ... و حتى مع صحتها ...... أرجوك يا كرمة أخبريني بمكانها ...... لو تهمك مصلحتها أخبريني أين هي ....... )
نظرت اليه كرمة تقول بكل صدق
( صدقني لا أعلم ...... كل ما أعرفه هو أنها سافرت , لكنها رفضت أن تخبرني الى أين كي لا يعثر عليها أحد ......... )
ذهل سيف وهو يهمس بضياع
( سافرت !! ...... كيف ؟؟ ..... إنها لا تملك حتى ثمن تذكرتي طائرة .... لقد رحلت بدون ملابسها ... )
كان يبدو كمن يكلم نفسه .....فقالت كرمة بألم و هي تشفق على حاله
( صدقني حاولت أن أعرف منها وجهتها أو أي معلومات عما تنتويه ... لكنها رفضت ...... )
قال سيف بفظاظة و عدم تصديق
( أتقسمين على ذلك ؟؟ ............... )
تقدم حاتم بوجهٍ مظلم وهو يقول
( الآن اسمع يا سيد لقد تجاوزت حدك .......... )
لكن كرمة أمسكت بذراعه و هي تقول بهدوء
( أقسم بالله العظيم أنني لا أعلم أين هي ............ )
صمتت قليلا تنظر الى ملامحه المجهدة و التي ينازعها الشك ... ثم همست
( لكن بمعرفتي بوعد ........ أستطيع أن أخبرك أنها بخير , من مجرد لهجتها ...... تبدو كمن رتبت أمورها مسبقا ...... وعد ليست بمثل تلك الهشاشة يا سيد سيف ...... إنها قوية و قد اعتنت بنفسها و بوالدها في ظروف من أصعب ما يكون ..... دون حتى أن تطلب المساعدة مني أنا شخصيا .... و نحن أكثر من أخوات ..... صحيح أنني لست راضية عن تصرفها مطلقا ......
لكن على الأقل أترك القلق جانبا مؤقتا ....... لهجة وعد حين هاتفتني آخر مرة كانت لهجة شخص مطمئن واثق .......... )
هتف سيف بغضب و عذاب
( أترك القلق !!! ...... اتعرفين ما يمكن أن يحدث لفتاة مثلها , و كم شخص حقير من الممكن أن يستغل ظروفها ؟!!!! ...... )
قالت كرمة بصدق
( وعد لن تسمح لأحد باستغلالها أو نيل ما لا تريده منها ......... )
قال سيف بلهجة باهتة متعبة و كأنه يحدث نفسه
( بل ستفعل ....... فقد فعلت من قبل ......... )
ثم ابتعد دون أن يضيف المزيد .... فتابعته كرمة بنظراتها الحزينة و هي تتسائل هل كانت بمثل قسوة وعد حين قابلت محمد للمرة الأخيرة ؟!!! ..... ربما كانت أشد قسوة ..... لكن لا مفر .... فلماذا تدين وعد الآن ؟!!
.................................................. .................................................. .....................
حين استلقت ملك على فراشها تلك الليلة تحدق الى السقف بصمت ..... تتنهد مع نفسها و هي تهمس
( ماذا الآن يا وعد !! ....... هل اتخذت القرار المناسب أم لا ؟!! ..... أشعر بأنني لم أعد أقوى على الإبتعاد عن شادي أكثر ..... و حياته لم تكن باختياره تماما , .... لذا الا يتوجب علي أن أخوض معه الحياة .... طالما أنني أحبه ..... اليس هذا هو الحب !!! )
الكلام الى وعد يريحها ..... وعد بصورتها و هي طفلة ..... و ليست وعد الكبيرة ......
سمعت رنين هاتفها فجأة .... و حين نظرت اليه وجدت رقما مخفيا فردت بحذر .... ليأتيها صوت وعد هادئا على غير توقع !!!
قفزت ملك من فراشها و هي تصرخ
( أين أنتِ يا وعد ..... تبا لكِ و لكل ما تفعلينه بمن حولك !!! )
ساد صمت مذهول ... فسألت وعد بدهشة و عدم ثقة
( ملك ؟!!!! ............. )
صرخت ملك بروح مشحونة
( والله لا علم لي .... هل طلبتِ ملك , أم البقال الذي هو تحت بيتك ؟!!!! ..... )
قالت وعد بقلق
( ماذا بكِ يا ملك ؟؟ ........ إنها المرة الأولى التي أسمعك تصرخين بها !!! ..... )
رفعت ملك رأسها للسماء و هي تهتف بغضب
( تبا للبرود ....... يا الله !!!! ..... برودك لم يوصف من قبل !! .... )
هتفت وعد بذهول
( اهدئي يا ملك بالله عليك !! ..... لا ينقص سوى أن تعطيني صفعتيني !!! .... )
هتفت ملك بقوة
( هذا ما تحتاجينه فعلا كي تعرفي المعنى الحقيقي للزواج ..... منذ الليلة الأولى و أنا و كرمة لاحظنا ميولك للهرب .... لكننا لم نصدق أن تفعليها ..... زوجك يدور بحثا عنكِ كالمجنون ...... )
ساد الصمت مجددا .... ثم قالت وعد بخفوت
( هل سألك عني ؟!!! ..... ماذا قال ؟؟ .... و كيف كان يبدو ؟؟ ..... )
هتفت ملك و هي تلوح بذراعيها
( كيف يبدو ؟!!! ..... معذبا ... ضائعا .... خائفا حد الموت تبا لك و لقسوة قلبك ...... )
قالت وعد بخفوت باهت
( أنتِ تجرحيني و بشدة يا ملك .......... )
هتفت ملك بشدة
( و أنتِ ؟!! ....... ألم تجرحي كل من حولك ؟!! ....... )
سمعت صوت تنهد وعد بارتجاف .... لكنها رفضت ان تضعف أمامها .... فصمتت بجفاء الى أن قالت وعد أخيرا بخفوت لكن به نبرة الحزم
( اسمعيني جيدا يا ملك ......... سأرسل لكِ شخص معين , ستوقعين له توكيل ...... )
عقدت ملك حاجبيها بقوة و هي تقول
( توكيل لأي شيء بالضبط ؟!! ...... أين أنتِ ؟؟ ...... )
عادت وعد لتتنهد ... ثم قالت بخفوت
( لقد سافرت لإستلام ميراثنا أنا و أنتِ لأمنا رحمها الله ........ )
سكنت ملك تماما .... و بهتت ملامحها , ثم همست بشرود
( هل ماتت أمي ؟!! .......... )
ردت وعد بصوت رقيق خافت
( نعم يا ملك ....... منذ فترة طويلة , منذ عامين تقريبا , أما أنا فلم أعرف الا مؤخرا ...... )
انعقد حاجبي ملك بألم ..... بينما انحنت عيناها حزنا دون أن تعرف السبب , فهي لا تتذكرها تماما .....
فقالت وعد برقة
( ملك ...... اسمعيني حبيبتي , لا وقت للحزن حاليا , ..... هذا حقك و يجب أن تناليه .... )
ردت ملك بصوتٍ لا روح فيه
( لا أريد شيئا يا وعد ...... خذيه أنتِ إن أردتِ ........ )
هتفت وعد بقوة
( كفي عن تلك السذاجة ...... أنا لا أريدك أن تحتاجي لأحد , حتى لي أنا ..... ميراثك من حقك و ستأخذينه )
قالت ملك بعتاب و ألم
( و لماذا لم تخبريني من قبل !!! ...... أنا بالنسبة ِ لكِ ما أنا سوى ورقة أوقعها ثم ترتاحين منها .... )
هتفت وعد من الجهة المقابلة
( لم أخبرك لأنني كنت أقامر ..... لقد سافرت أنا و أبي الى المجهول , لا أملك سوى مكالمة من رجل غريب .... و أنا كنت قد وصلت الى نهاية حياتي هنا ..... لذا قررت أنني لن أخسر الكثير مهما حدث .....أما الآن فلقد اطمأنيت الى كل شيء ... بالأوراق كاملة .... و ميراث كلا منا معقول جدا , سيغنينا عن احتياج الآخرين .... )
هتفت ملك بقسوة
( و هل زوجك من هؤلاء الآخرين !!!! ....... هل يسري عليه حلم استقلالك ؟!! .... )
قالت وعد بصوت باهت
( اتركي سيف خارج الأمر يا ملك ..... بيننا الكثير مما لا تعرفينه فلا تجرحيني دون معرفة .... )
فتحت ملك فمها لتصرخ بها ..... لكنها صمتت أخيرا , متى كانت بمثل تلك القسوة !!!
انها بالفعل لا تعلم طبيعة العلاقة بين سيف ووعد ..... فهل تعاقبها على خذلانها لها كل مرة ؟!!! .....
قالت وعد أخيرا ......
( ملك ....... ربما قد لا أحتاج الى توكيل , سأرسل لكِ ثمن تذاكر الطيارة و أجهز لكِ الإقامة هنا ... فقط جهزي أوراق سفرك ..... )
عقدت ملك حاجبيها .... ثم قالت
( من قال أنني أريد أن أسافر ؟!!! ...... أنا حياتي هنا و أنا راضية عنها تماما ..... )
قالت وعد بحدة
( راضية عن حياتك أم راضية عن ذلك الشاب الذي تخرجين معه ؟!! ....... )
اتسعت عينا ملك بدهشة ... ثم قالت بتردد
( أي شاب ؟!! ......... )
قالت وعد بقسوة و حدة
( لا تكذبي علي يا ملك ...... قبل أن أسافر أتيت اليكِ كي أودعك , لكن و أنا لا أزال في سيارة الأجرة وجدتك تركبين سيارة فارهة بجوار شاب كان يضحك لكِ و تنظرين اليه بوله ....... )
صمتت ملك طويلا ...... ثم لم تلبث أن قالت بهدوء
( أنا لست مضطرة للكذب يا وعد ....... أنا فعلا مرتبطة بشخص أنا أحبه و هو يحبني و أنا لن أتركه لأي سببٍ كان ...... )
هتفت وعد بحدة
( من سيارته أستطيع أن أخبرك أنه يتلاعب بكِ ...... أفيقي قبل أن تجرحي مثلي ...... )
قالت ملك بهدوء
( هل عرفتِ أنه يتلاعب بي من مجرد سيارته !!! ...... أنتِ مكشوف عنك الحجاب اذن ... )
أخذت وعد نفسا حادا ثم قالت بهدوء
( ملك ...... لن يفلح الكلام في الهاتف , أرجوكِ تعالي الي ....... منذ أن رأيت ذلك الشاب و أنا لا أنام من القلق )
قالت ملك بخفوت
( لا تقلقي يا وعد ...... أنا لن أضر نفسي أبدا و الأمر ليس كما تظنينه ..... فكما هي علاقتك بسيف لها أبعاد أنا لا أعرفها ..... أنا وهو أيضا علاقتنا لها أبعاد لا معرفة لكِ بها ..... )
قالت وعد بقلق
( الن تحكي لي على الأقل كي يطمئن قلبي ؟!! ....... )
ترددت ملك قليلا ... ثم قالت بخفوت
( لو كنتِ هنا .... لكنت حكوت لكِ , فأنا أحتاجك الآن أكثر من أى وقتٍ مضى ..... )
تنفست وعد بحدة .... ثم قالت بقلق
( حسنا ....... هل تعديني أنكِ لن تتهوري بأي تصرف قبل عودتي ؟؟؟ ..... )
ردت عليها ملك بتردد
( و متى ستعودين ؟؟............... )
قالت وعد بقوة
( خلال ستة أشهر على الأكثر يا ملك ..... عديني .... )
فغرت ملك شفتيها بصدمة
" ستة أشهر كاملة !!! ...... لن أتمكن من انتظار كل هذا الوقت !! "
قالت وعد مجددا ....
( عديني يا ملك ........... )
قالت ملك بهدوء
( لا تقلقي يا وعد ..... و لا تشغلي بالك بموضوع الميراث .... سأوقع التوكيل و تصرفي أنتِ )
هتفت وعد
( عديني يا ملك الا تسيئي لنفسك ...... عديني ..... )
قالت ملك بعد فترة
( أعدك يا وعد ............ )
سمعت وعد وهي تتنهد براحة .... ثم قالت أخيرا .....
( يجب أن أذهب الآن لأمرٍ هام ...... ملك , هذه المكالمة سر بيني و بينك .... اتفقنا ؟؟ .... )
أومأت ملك برأسها ببطىء ..... ثم قالت بفتور
( لا تقلقي ......... )
ثم أغلقت الهاتف ..... لتعود و تستلقي و تنظر الي السقف .... و همست برقة و شرود
( أن أبحث عن سعادتي ..... ليس معناه كسري للوعد ..... لأنه ليس تصرفا يسيء لي ... بل العكس )
ثم دون تردد أمسكت هاتفها و ضغطت على رقم معين و هي تهمس
( اعذريني يا وعد ............. )
.................................................. .................................................. ...............
دخل سيف الى غرفته في ساعات الصباح الأولى ..... متعبا ... مرهقا .... مهزوما ....
لم يترك مكانا محتمل الا وبحث عنها فيه .... حتى بعد أن أخبرته كرمة بسفرها .... استمر بالبحث ....
و كلف فريق معين بالبحث عن اسمها في المطارات لمعرفة وجهة سفرها ......
ارتمى على سريره بملابسه ..... قبل أن يستدير بوجهه لينظر الى قميص نومها الحريري الذي وضعه على وسادتها منذ أن رحلت .....
فالتقطه ليتشممه برقة و عذوبة .... و كم كانت رائحته مسكرة .........
انه القميص الذي ارتدته في الليلة التي أفضى فيها اليها بحبه .......
فرفع يده على صدره قوي العضلات ... جهة القلب وهمس يخاطبه بصوتٍ مبحوح
( أين هي !!! ....... لماذا تعطلت اشاراتك ؟!! ..... اين الحب الذي ادعيته ؟؟ .... اليس من المفترض أن ترشدني الى مكانها دون الحاجة الى السؤال !! ...... )
أغمض عينيه وهو يتخيلها مصابة بالإغماء في أحد الأزقة !! ....
فاستقام يصرخ بغضب و عذاب
( ياللهي ..... أين أنتِ بالله عليك !! ....... )
فجأة سمع رنين هاتفه .... فاندفع اليه ليرد مسرعا علها تكون هي .... تستغيث به كعادتها ....
لكنه سمع صوت ملك بدلا منها ..... و بعد حوار قصير .....
كانت ملامحه تتلون ما بين وهج الإنتصار ..... و بريق الأمل ..... و ..... ملامح الخوف ... ميراث!!!! ... وعد !!! ....
أنهت ملك مكالمتها قائلة بخفوت
( لكنها لم تخبرني اي معلومات !! ......... هذا هو كل ما عرفته و أحببت أن أطمئنك عليها )
قال سيف بصوتٍ يلهث من فرض انفعاله
( لا بأس يا ملك ....... ما قلته أكثر من كافٍ حاليا .... )
أغلق الهاتف بقوة ..... و أخفضه ليدور في الغرفة كالمجنون .....
ميراث !! ...... كل ذلك دون علمه !!! .....
أي أن المسألة ليست جرح كرامة منها ..... بل النية كانت مبيتة لديها منذ وقتٍ طويل
عاد ليصرخ بقوة
( تبا لكِ يا وعد ........ تبا لكِ ......... )
توقف مكانه وهو يلهث ..... ناظرا الى السرير الفارغ البارد ......
ليراها عليه فجأة ..... تجلس على ركبتيها .... لا ترتدي شيء سوى سترة بيجامته الحريرية .... و هي تلعب بهاتفه ببراءة و انبهار ....
و رغما عنه .... و رغم كل جنون الغضب الظاهر على وجهه ..... ابتسم .....
ابتسم لمجرد ذكراها جاثية على سريره ........
فرفع هاتفه مجددا .... يقلب في الصور .... الى أن وجد الصور التي صورتها لنفسها بهاتفه ....
فسقط جالسا على أقرب كرسي .... و هو يقلبها بوجهٍ يصرخ ما بين الغضب ... و الجرح .... و الإشتياق ...... بينما الابتسامة الحزينة تزين شفتيه ....
" كم هي جميلة .... و هي تضحك .... و هي تتصنع الحماقة .... و هي تعقد حاجبيها .... "
همس فجأة وهو يتلمس صورتها الضاحكة الناظرة جانبا ..... كانت تنظر اليه هو , لأنه كان يناديها في تلك اللحظة
( هل آلمتك ؟!! ...... هل آذيتك ؟!! ..... و ربما أكون قد أسأت معاملتك ..... و أنتِ كذلك .... لكن على الأقل أنا هنا .... باقٍ هنا .... لا أخرج الا لأبحث عنكِ , كي أعيدك الى أحضاني .... و بعدها لنقتل بعضنا .... لا يهمني ...... المهم هو انني هنا ....هل فقدتِ احتياجك لي الآن !!! ..... لم أعد ذلك المنقذ الذي تستغيثين به كلما احتجتِ اليه !!! ....
لكن الأمور ليست بمثل تلك البساطة يا سيدة وعد ..... العالم لا يدور في فلك ......
أن تخرجيني ما أن تقرري ذلك !! ..... لا والله لن يكون ..... انتِ ملكي و لو ملكتِ كنوز الأرض ... ستظلين ملكي .... في حاجةٍ لي ..... لا ملجأ لكِ سوى صدري ..... )
أغلق صورتها الضاحكة بقوة ..... ثم طلب رقما معينا ... و ما ان رد عليه صوتا ناعسا
حتى قال سيف بقوةٍ آمرا ....
( حسين ..... أفق معي و اسمعني جيدا ..... أريد بيت ..... نعم بيت لظروف طارئة و في اسرع وقت ممكن ... بيت صغير ... على أطراف المدينة .... ذو أسوارٍ عالية ... يصعب الفرار منه أو اليه ..... لا .... لا ...... لا وقت للبناء ..... أبحث عن بيت معروض للبيع بتلك المواصفات ..... و أريد اقتراحات موفقة خلال يومين على الأكثر ....... نعم أريده كمصيدة بالمعنى الأصح ...... )
قال الكلمة الأخيرة و عيناه تبرقان بشراسة ........
↚
( لماذا رحلتِ يا بشرى ؟!! ....... هل أخفتك بمشاعري ؟!!! ...... )
ظلت تنظر اليه بصمت ..... ثم أومأت برأسها دون كلام و هي تعجز عن ايجاد الحجة المناسبة ...
كان ينظر اليها بجفاء ... بينما نظرات عينيه تبوح بأشياء لم ترغب في قرائتها حاليا ....
فاستدارت بعيدا عنه كي تمنح نفسها القوة اللازمة كي تأخذ نفسا عميقا ثم تقول بهدوء كاذب
( ارحل من هنا الآن يا وليد ....... رجاءا )
لم يرد على الفور ... لكن طاقة غضبه وصلتها واضحة , ثم قال بخفوت جاف
( هل تطردينني ؟؟ ........... )
ارتجف النفس الخارج من بين شفتيها المرتعشتين , فهمست بخفوت و هي تطرق برأسها
( وجودك هنا خاطىء .... و أنت تدرك ذلك )
قال لها بخشونة وهو يقترب خطوة
( لم تتركي لي البديل برحيلك المفاجىء ....... )
أغمضت عينيها و قالت بتصلب دون أن تستدير اليه
( لا تقترب أكثر من فضلك .... و الأفضل أن تغادر الآن .... )
تسمر مكانه .... ووقف يحدق في بنيتها الضعيفة الهشة و رأسها المنحني ذو الشعر المتطاير الأشقر بطبيعته دون أصباغه الأولى و المنفرة ....
ثم قال بخفوت شرس
( هل عدتِ للخوف مني مجددا ؟؟ ........ )
تنهدت شيراز دون رغبة منها ثم همست بعد فترة طويلة دون أن تفتح عينيها أو أن ترفع رأسها
( لن أخاف منك ...... أبدا ...... )
ما لم تتوقع سماعه هو صوته الأجش يقول بإنفعال خافت
( اذن يجب عليك أن تبدأي بالخوف .......... )
فتحت عينيها و استدارت اليه بسرعة البرق و هي تنظر اليه بصدرٍ لاهث و همست بتوتر
( هل تهددني ؟؟!.......... )
لكن عيناه كانتا تحملان انفعال قوي ..... شملها كلها ... فاقترب منها تحت نظراتها المذهولة و دون كلام مد ذراعيه يجذبها اليه من خصرها ....يرفعها على أطراف أقدامها و هي ترفع اليه وجهها ناظرة الى عينيه البراقتين فهمس بجوار شفتيها
( بل أهدد نفسي ......... تلك الفترة التي قضيناها كانت من الروعة و الجمال .... بحيث اشعلت الجحيم بداخلي )
شهقت شيراز دون صوت فاغرة شفتيها ... و عيناها متسعتان على أقصاهما ... و حاولت محاولاتٍ واهية للتلوي من بين ذراعيه لكن يداه ثبتتا ظهرها بقوة ... فارتاحت يداها على صدره و همست بترجي اقرب الي نفسها
( وليد ..... لا تفعل , أرجوك ... )
همس بخشونة و يداه تتحركان على ظهرها الهش .. تطبعانها فوق صدره
( هذا ما بت أردده لنفسي بيأسٍ كل يوم ...... " وليد لا تفعل , أرجوووك " )
اغمضت عينيها ووجهها مرفوع اليه كوردة تنتظر حبات مطرٍ تحييها .... فزفر لهيبا غاضبا لفح بشرة وجهها و همس بجنون و يداه تشاركانه ذلك الجنون
( أوقفيني يا بشرى .... الآن , أين ذهب لسانك الشبيه بلسان العقرب ..... )
همست تئن بنشيجٍ يائس
( أنا ...... أكثر إجاهدا من أن ....... أفعل ..... )
تأوه بغضب وهو يعصرها على صدره هامسا بخشونة
( ياللهي ......... )
لكنه أغمض عينيه ليأخذ نفسا خشنا مرتجفا ثم سحب يديها عن صدره و أمسك بكتفيها يبعدها عنه لينظر الى وجهها مغمض العينين ... فهمس بقوة
( افتحي عينيكِ ......... )
هزت رأسها نفيا دون أن ترد ..... فقال لها بعنف مترجي هامس
( افتحي عينيكِ يا بشرى ....... ارجوكِ )
هتفت بنشيج ناعم و قد انسابت دمعتان على وجنتيها من خلف جفنيها المطبقين
( أكره أسم بشرى هذا ...... أمقته .... أمقته من كل قلبي )
شدد على كتفيها ليقول بقوة
( دعيني أساعدك ...... اسمحي لي أن أدخل حياتك و أساعدك .... لا أن تخرجيني منها كما فعلتِ !! .. )
كانت تهز رأسها نفيا بصمت و الدموع تتلألأ على وجنتيها .... فرفع يده يمسح تلك الدموع برقةٍ أذابت قلبها
ملمس بشرتها جعل رعشة رقيقة تسري بجسده الضخم ... و رغم رقتها أجفل من تأثيرها الذي بدا كصاعق كهربائي .....
تلك الشابة الغريبة المتناقضة ..... دخلت حياته فجأة .... و رسمت لها دورا هناك دون اذن منه .....
وها هو يقف أمامه يستجدي منها السماح لأنه تساعده ..... و تبقيه بحياتها التي لا يعرف عنها الكثير !! ...
ارتجفت تحت ملمس اصابعه .... و شعر هو برجفتها , فابتسم رغم عنه ,. فهو يمتلك من المعرفة ما يستطيع به ان يفرق به بين رجفة الخوف .... و رجفة الرضا ....
في البداية كانت ترتجف منه خوفا .... و كأن الفرق بين حجميهما يخيفها ... ضخامته توترها ... و كأنها متأهبة لأي هجوم منه في أي لحظة ....
لكن مؤخرا و بعد الفترة التي قضياها معا .... بات من المستحيل على كل منهما انكار تأثير الآخر عليه ....
ابتسم بحنان اكبر وهو يتلمس وجهها المرفوع اليه بحزن .... مسيطرا بكل طاقاته الرياضية المكتسبة على رغبة جسده الدنيئة !! ....
قد لا تكون أجمل النساء و لا أعلاهن قدرا .... و قد يكون تعليمها و ثقافتها و بيئتها أقل حتى مما تخيل ... و هذا ما خبره خلال أشهر من التعامل معها رغم تظاهرها بالعكس
لكنها احتلت مكانه بداخله .... مثيرة به احساس جارف بالحماية ... احساس يكاد يكون وحشي تجاه اي كائن مذكر يقترب منها ......
فتحت عيناها الخضراوان أخيرا ... تنظر اليه ... فانتفض قلبه مرتطما بأضلعه بغباء ....
عيناها تحملان الوقاحة و الخوف !.... فكيف كونت ذلك المزيج المهلك لأي رجل يتباهى برجولته ....
قال لها أخيرا متهما بخشونة
( عيناك جميلتان .......... )
رغما عنها ابتسمت .... و همست
( كم فتاة سمعت تلك العبارة منك !! ........ )
همس بخشونةٍ عاقدا حاجبيه
( الكثيرات .......... )
مطت شفتيها مبتسمة ثم همست ببساطة
( أرني عرض كتفيك و اخرج من هنا اذن ...... أراهن أنهن في انتظارك )
مد يده الأخرى .... ترافق الأولى في تحسس وجهها الناعم , شاعرا بكل الرضا لتقبلها للمساته .... على الرغم من دنائة احساسه هذا .....
ثم قال بصدق
( لكنني لم ألحق أيا منهن لآلاف الكيلو مترات كالمجنون ما أن أكتشفت رحيلها الوقح المفاجىء ... )
انخفض جفناها امام نظراته .... فقال بجدية مجددا
( لماذا رحلتِ بتلك الصورة !! ...... الليلة التي سبقت رحيلك ظننت ..... ظننت أن .... )
رفعت وجهها تنظر اليه بوجه ميت و عينان انطفأت الحياة بهما ... ثم همست بفتور
( أن ماذا ؟!!! ............. )
ظل صامتا قليلا .....ثم همس وهو يقربها منه ليقول بصراحة
( لقد أوشكت أن ....... أقبلك .... )
احمر وجهها بشدة .... بفتنةٍ تألقت في عينيه , بينما هي شعرت بالذهول من اشتعال وجنتيها !!!
تماما حين اقترب منها تلك الليلة ووجدت شفتيه تهبطان الى شفتيها ..... اصابها الذهول من ارتباك دقات قلبها و الإحمرار العنيف الذي هاجم وجنتيها !!
هل لا يزال للحياء دور في حياتها ؟!!!
هي نفسها لم تعلم أنها لا تزال تمتلك شيئا منه !!
أطرقت شيراز برأسها بارتباك .... لكنه رفع ذقنها اليه يرفض أن تهرب من عينيه , ثم همس بقوة
( لقد أخفتك ....... و أنا لم أقصد ذلك , لكن ما أشعر به تجاهك كان قد تفاقم تلك الليلة .... )
صمت قليلا يراقبها برضا و هي فاغرة شفتيها تلهث قليلا .... و كأنما لم تعلم من قبل !!...
فقربها منه يهمس في اذنها
( لكن من المستحيل أن أؤذيك .... حتى لو احترقت في جحيم رغبتي بكِ )
شهقت شيراز بصمت ... بينما شردت عيناها و هي تهمس بأسى
( رغبتك بي!! ......... )
عقد حاجبيه قليلا أمام حزنها المفاجىء .... فقال غاضبا , لكن الصدق يغلف نبرته
( نعم رغبتي بكِ ...... الا أنها رغبة بكل نواحيها , لم تكوني ابدا مجرد جسد لي ..... بل أن الأصح أن جسدك يكاد يكون جسد طفلة مشردة لا يغري الكثيرين ..... و ملامحك لا ينقصها سوى بضع قطبات من مطواة منتقمة لتكتمل صورتك ....... )
عقدت شيراز حاجبيها و هي تهمس و قد فقدت تواصل المشاعر الحميمية فجأة
( أمممممم ... هل من المفترض أن أشكرك !! ... )
ابتسم فجأة ليقول بحنان و بخفوت
( أردت أخبرك أن سر جاذبيتك ليس كامنا في جسدك ....... بل السر بكِ أنتِ .... بطفولتك ... بشرودك ... بشجاعتك ...... بشراستك في الدفاع عن نفسك ...... )
عاد يصمت وهو ينظر الى عينيها الخضاروين المرتفعتين اليه بذهول .... تسمع كلام لم تسمعه من قبل ... فتابع يهمس لعينيها
( السر بكِ أنتِ يا بشرى ......... أنتِ الجمال نفسه .... و جسدك هو أخر مقومات هذا الجمال ... )
صدر تأوه مرتجف من بين شفتيها .... و هزت رأسها قليلا بينما تابع مبتسما بخبث
( و إن كان آخر تلك المقومات له ... عدة جاذبيات معينة .... لو ركزنا النظر عليها لوجدنا أن .... )
هتفت و هي تضرب صدره ضخم العضلات و اهتزت عضلاته المرعبة تحت قبضتها الطفولية
( أخرس ...... قذر ... )
عبس فجأة .....و برقت عيناه غضبا , فأمسك ذقنها يرفع وجهها اليه وهو يقول بحنق
( بالله عليكِ .... أتعرفين ما هو أكبر مجهود سأبذله معك ؟!!! ...... تنظيف لسانك بالماء و الصابون مع مادة الكلور كذلك ..... و أعتقد أن كل ذلك لن يكون كافيا بعد ...... )
كانت تنظر اليه عاقدة حاجبيها بغضب دون ان تضحك ..... فهتفت
( الكلور احتفظ به لنظراتك الدنيئة لعله يذهب بصرك الوقح ...... ففي النهاية أنت رجل ككل رجال هذا العالم , لا يهتم سوى بشيء واحد ....... ... آآآآآآآآه ..... )
لم تتابع كلماتها التي ذهب آخر شهقاتها بين ظلماتِ قبلةٍ قوية انكبت فجأة عليها ....... اسكرتها ......
اغمضت شيراز عينيها بذهول و هي تهمس بداخلها برعب
" ما هذا !!! ...... هل هذه تسمى قبلة!!! ...... "
ضاعت بين روائع قبلته ..... ما بين رقتها التي لم تتخيلها يوما و كأنه يخبرها بأنواعٍ من القبل لم تكن تعرف عنها شيء من قبل ..... و بين قوة امساكه لها دون عنف ليجعلها تتذوق حلاوة ما يشعر به .....
" لقد ضعتِ يا شيراز ............و من قبلة ! "
انهى قبلته القوية بثلاث قبلاتٍ صغيرة على شفتيها كلمسةِ ورقة وردة ..... ثم ابتسم ......
ليهمس بعدها بضياع يماثل ضياعها ....
( فمك له مذاق العسل ممتزجا بالفانليا ....... تشبهين سكرة كنت أحب أن أرتشف حلاوتها و أنا طفل )
نظرت اليه بذهول و شك .... دون أن تستفيق بعد
" هل كان هذا الكائن طفلا من قبل !! ..... "
الا أنها همست بذهول و بصوتٍ ذاهب الأنفاس
( لماذا ....... فعلت ..... ذلك ؟!! ..... )
قال بهدوء و جدية
( لأنكِ لم تسمعي كلمة واحدة مما نطقت بها ....... لم تستوعبي حرفا مما قلته لقلبك قبل أذنيكِ , لذا من العدل أن أنفذ ما تراه نظرتك بي طالما أن كلامي لا يجدي ...... )
أخذت ترتجف بقوة و عنف .... حينها عقد حاجبيه و هو يمسك كتفيها يدلكهما بأصابعه وهو يقول بقلق حقيقي
( بشرى ........ بشرى هل أنتِ بخير , ..... ياللهي .... أنا آسف حبيبتي , لم أقصد إرعابك للمرة الثانية ...... أجبيني بالله عليكِ .... )
انحنى يحملها بين ذراعيه .... و اتجه الى أقرب أريكة فجلس عليها و أجلسها على ركبتيه , ليرجع رأسها للخلف على كتفه و أخذ يربت على وجنتها بقوة وهو يقول عابسا
( بشرى !! ....... بشرى !!! .... )
أخذت ترمش بعينيها عدة مرات و صدرها يخفق بعنف ..... وهو يربت على وجنتها أقوى هامسا بقلق اكبر
( لم أقصد إرعابك ...... حبيبتي !! ... )
ارتفع حاجبا واحدا من حاجبيها فجأة
" ماذا قال !! ..... ماذا قال للتو ؟!!! ... "
استمرت ضرباته حتى اهتزت الرؤية أمام عينيها ... فقالت بخفوت
( وليد ...... هلا توقفت عن صفعي .... )
عبس ورفع يده بسرعة وهو يرفعها اليه قليلا كطفل رضيع ... ثم قال بخشونة
( لم أكن أصفعك ...... كنت أربت على وجنتك ... )
ردت و هي تدلك وجنتها
( هذا لو كنت تمتلك كفا تشبه كفوف البشر الطبيعين ....... )
رفع ذقنها ... و انحنى ليقبل مكان صفعاته هامسا مع كل قبلة
( هذه ... قبلة .... لكل ..... صفعة ...... )
رفعت وجهها اليه .... و همست بوجوم بينما روحها تشتعل و تهدد بالإنفلات
( كفى أرجوك ....... أنت ..... لست عادلا ..... )
أمسك بذقنها مجددا ليقول لعينيها مبتسا
( متى كانت حرب الحب عادلة !! ......... )
صرخت فجأة باندفاع
( أي حب !! ...... أي حب !!! ...... توقف أرجوك .... لقد كانت مشاعر اجازة صيف , تتكسر مع أولى موجات الشتاء ....... )
هتف بغضب و هو يشدد من إمساكه بها
( ليس من حقك أن تحكمي على ما أشعر به تجاهك .......... )
حاولت النهوض ... الا أنه لم يسمح لها ... و أجبرها على مواجهة عينيه الغاضبتين ليقول بقوة
( أنظري الي ......... أنظري ألي , أنا أحبك يا بشرى ..... و أعتقد أن ذلك حدث منذ وقت طويل قبل حتى أن أدركه ..... )
أغمضت عينيها و هي تهز رأسها بيأس .... فقال محاصرا إياها
( كنتِ تدركين ذلك ...... كنت تشعرين به , لا تحاولي ايهامي بالعكس ...... لكن لماذا رحلتِ فجأة ؟؟
هل لأنني أخفتك بمشاعري المفاجأة حقا !! ..... لكنك تغيرتِ منذ عشرة أيام تحديدا ..... بكِ شيء تغير و بعينيكِ رأيت ضياعا مفاجئا !!! ....... و كأنكِ سمعتِ خبرا ضايقك .....
حاولت كل جهدي لأن أخترق ذلك الجدار الصلب الذي ارتفع فجأة بيننا لكني لم أستطع ...... ما الذي حدث منذ عشرة أيام يا بشرى ؟؟ ....... أخبريني .... لا تخافي و لا تصمتي هكذا !!! .... )
ارتجف النفس الخارج من بين شفتيها المرتعشتين .... و همست بداخلها بأسى و مرار
" آآآه لو تعلم ....... لقد بعت نفسي مجددا و في انتظار تسليم البضاعة المستهلكة لبائع يهوى جمع التحف القديمة و التي حملت بصمات جعلت منها تحدي أكثر منها باعة تالفة ..... حب الإقتناء من يدٍ لأخرى "
قال وليد بصوت قوي وهو يتابع محصارتها من كل اتجاه و هي تحاول النهوض من بين ذراعيه الآسرتين ....
( أم لأنني أخبرتك برغبة أختي في رؤيتك و التعرف اليكِ بعد ما سمعته مني عنكِ !!! ..... )
سكنت مكانها تماما .....
نعم ..... نعم لقد أصابتها صدمة مرعبة حين سمعت رغبته .......
الموضوع يتضاخم .... و يخرج من بين اصابعها .... و ها هو يريد أن يعرفها الى أخته !! ... بنت الأصل الكريم و الأخلاق العالية ....
تنهدت شيراز بارتجاف .... ثم لم تلبث أن أطبقت جفنيها و شهقت باكية بعنف و هي ترفع يدها المضمومة الى عينيها كطفلة صغيرة ....
تسمر وليد مكانه و هو ينظر اليها بصمت .... ثم لم يلبث أن قال بخفوت و صدره يعتصر عليها
( ساعديني كي أساعدك ...... لا تخشي شيء .... فقط ثقي بي .... أرجوكِ أن تثقي بي )
مسحت وجهها و هي تشرد في عالمها البعيد عنه ..... حينها تنهد بقوة و كبت وهو ينظر اليها ...
ثم قال أخيرا بصوتٍ أكثر لطفا
( حسنا ...... لما لا نترك الأمر الآن , لأنني بصراحة متعب من عشر ساعات قيادة ..... فهل تكونين كريمة معي و تحضرين لي ما آكله ...... )
رفعت وجهها المحمر اليه بتعجب ..... ثم قالت بخفوت قبل حتى أن تفكر
( ربما .... لو تركتني أنهض من على ركبتيك !! ..... )
ابتسم بخبث ... ثم قال وهو يداعب ركبتها
( أنا شخصيا مرتاح هكذا ..... فكأنني أحمل طفل صغير ... )
مدت قبضتها تضربه و هي تضغط على أسنانها , الا أنه أمسك قبضتها بسهولة بين قبضته الضخمة فحاولت بالأخرى فالتقطها كذلك بكل يسر .... فظلت تقاومه و لسانها لا يترك لفظا خادشا الا و نطقت به ... بينما هو يضحك عاليا ليقول و هو يهز رأسه بيأس
( كم سأستمتع بتنظيف لسانك ........ و أعتقد أن لدي بعض الأفكار بخلاف الكلور ... )
.................................................. .................................................. .................
وقفت في المطبخ تنظر اليه ...........
ضخامته تحتل المطبخ كله .... و شكله طريف وهو يرتدي مريول المطبخ أثناء اعداده لطبق السلطة
ماذا يفعل هنا ؟!!! ..... و ماذا لو كان علوان يراقبها الآن !!
رفعت ذقنها بغضب و هي تفكر
" فليذهب الى الجحيم ...... إن كان لديه ادنى اعتراض فليذهب الى الجحيم .... و ستكون هي الرابحة "
نظر اليها وليد بطرف عينيه مبتسما ثم قال
( الحقيقة أنكِ تعبت معي جدا في تحضير الطعام ....... عامة خذي راحتك و كأنك ببيتك )
ابتسمت مسحورة .... ثم همست
( لا أجيد تحضير الكثير ...... )
ضحك وليد ليقول
( لا بأس سيدتي ..... انتِ ارتاحي و أنا سأقوم بكل شيء حبيبتي )
فغرت شفتيها و اتسعت عينيها .... بينما نظر الى ذهولها برضا و أعاد نظره الى ما يفعله
رن جرس الباب فجأة .... فالتفت الى الخلف عاقدا حاجبيه ليقول
( هل تنتظرين أحد ؟؟ ............. )
ردت بخفوت
( إنا ملك ........ لقد اتصلت بها و طلبت منها بعض الأغراض للعشاء )
ابتسم وهو يقول
( آآه ملك اسمي الأول ........... ها قد أتت اذن )
ضحكت برقة ثم نهضت الى الباب تفتحه .... و بالفعل دخلت ملك تقول بحيوية
( احضرت لكِ طعاما يكفي جيشا بأكمله .....طبعا الست الخادمة للسيدة شيراز المص...... )
صمتت ملك فجأة و هي تفغر شفتيها و تفتح عينيها بذهول ناظرة خلف شيراز ..... فاستدارت شيراز ببطىء تنظر الى وليد بكل ضخامته ووسامته وهو يطل من المطبخ .... ثم قال مبتسما
( ملك المنقذة ........ تشرفنا , " الشيف " الخاص بالسيدة كان يحتاج الى مشترواتك .... كلنا في خدمتها )
تناول الأكياس من بين يديها وهي لا تزال فاغرة شفتيها .... ثم اتجه عائدا الى المطبخ تحت أنظار شيراز الغاضبة و التي عضت على شفتها و قد احمر وجهها بشدة ....
رمشت ملك بجفنيها عدة مرات ..... ثم همست وقد احمر وجهها بشدة
( يبدو أنني قد جئت في وقت غير مناسب ........آسفة جدا )
ثم استدارت تنوي الهرب .... الا أنها لم تلبث أن عقدت حاجبيها لتلتفت الى شيراز قائلة بغضب
( الست انت من طلبت من احضار المشتروات !!! ...... علام أعتذر اذن !!! )
اقتربت منها بسرعة لتهمس بذهول
( من كتلة العضلات الوسيمة تلك !!!! ........ )
قالت شيراز بغضب
( لا تسيئي فهم الأمر ....... انه ..... انه ....... )
رفعت ملك حاجبيها منتظرة.... و هي تميل برأسها مع كل " إنه " ... علها تأتي بتفسير مقنع , ثم لم تلبث أن هتف
( هيا اخرجي من هنا ....... لست مضطرة للتبرير )
ظلت ملك واقفة مكانها تنظر الي شيراز بوجوم ..... ثم لم تلبث أن همست
( بشرى .......... )
رفعت شيراز وجهها المرتبك الى ملك بصمت .... فقالت ملك بثقة
( أنا واثقة أنكِ لا ترتكبين خطأ ............ )
ارتجفت شفتي شيراز قليلا .... و انحنت عيناها بغباء .... لكن بقلبها قبعت ضحت مريرة كالعلقم
خرج وليد الى شيراز بعد أن رحلت ملك قائلا بهدوء
( انها قطعة من الجمال نفسه .............. )
استدارت اليه شيراز بذهول و بعينين مجنونتين ثم همست بتهديد
( من هي تلك !! ............ )
نظر اليها بهدوء ليقول مبتسما بقصد
( الصغيرة ملك ................ )
اتسعت عينا شيراز أكثر ... ثم صرخت بغضب
( إياك أن تقترب منها و الا اقتلعت عينيك من جذورهما ....... )
برقت عينا وليد برضا و هو يرى شراستها ..... لكنها صرخت بغضب و هي تدفعه بقوة
( اخرج من هنا ........ هي اخرج ..... لكن لو علمت أنك اقتربت منها فسوف ...... )
أمسك بقبضتيها بكل قوته و هزها قليلا بصرامة كي ينظر الي عينيها ...... ثم لم يلبث أن قال بخفوت و ادراك
( أنتِ خائفة عليها مني حقا !!! ..... للحظة ظننت .... أو تمنيت ..... أن تكون غيرة )
اتسعت عيناها .... و هتفت باستنكار
( غيرة !!! ............ أنا أغار من ملك !! ...... أنا ....... )
جذبها الى صدره ليهمس بخفوت ناظرا الى عينيها الخضراوين
( غيرة علي أنا ........ ....... )
صمتت تنظر اليه برهبة ...... ثم لم تلبث أن تنهدت بكبت و قهر لتدمع عينيها فجأة ....
عبس وليد وهو يضمها اليه هامسا
( لماذا الدموع الآن ؟!!! ................. )
همست شيراز باختناق و هي تبكي
( نعم أنا أغار منها ............و بشدة ... )
ازداد عبوسه .... ليقول باهتمام
( لماذا ....... ماذا تمتلك و لا تملكينه أنتِ ؟؟ ........ )
أخذت تنشج بضعف وهو يشدد من ضمها اليه عله يخفف من جرحها المجهول و نفسها المكسورة , الى أن همست من بين شهقاتها
( إنها ....... إنها ....... تمتلك ضفيرة طويلة .......... )
اتسعت عينا وليد بذهول للحظة ...... ثم لم يلبث أن أرجع رأسه للخلف ضاحكا بقوة .... بينما هي لا تزال تبكي على صدره ......
و ما أن هدأت ضحكاته قليلا ..... حتى مد كلتا يديه ليطير خصلات شعرها الخفيفة الهفهافة وهو يقول باعجاب و رقة
( أنا شخصيا أحب تلك الخصلات المتطايرة و التي تشبه شعر طفل ..... و بعد العشاء سأضفرها لكِ.... هل أنت راضية الآن ؟؟؟ .......... )
لكن شيراز همست و هي تبكي بمرارةٍ على صدره تتشبث بقميصه
( ضفيرة لم تحل بعد ............. )
.................................................. .................................................. .................
استمرت مكالمة يوسف الخاصة بالعمل طويلا وهو يدور في مكتبه الخاص بداخل بيته ....
يتكلم بلغة البلد الأجنبية ..بحدةٍ أحيانا و شرحٍ يطول أحيانا أخرى .... و أثناء كلامه المستفيض كانا مارا بجانب نافذة مكتبه المطلة على الحديقة ... فألقى عليها نظرة عفوية ... ثم أكمل طريقه متحدثا ...
لكنه فجأة توقف مكانه و رفع حاجبيه ارتيابا ... ثم عاد بظهره لينظر من النافذة مجددا ... و حينها اتسعت عيناه وهو يراقب الفتاة الجليدية التي حلت ضيفة على بيته و هي تجري و تلعب مع كلبه الألماني الضخم ....
ارتفع حاجباه وهو يراها تركض خلفه وهو يجري مستغيثا منها !!! ....
كانت تضحك للمرة الأولى ... حتى أن صوت ضحكاتها و هتافها له كان يصله واضحا من زجاج نافذته !!
انتبه فجأة الى أن توقف عن الكلام .... فاعتذر قائلا
( أعتذر أعتذر ..... نتابع لاحقا من فضلك )
ثم أغلق هاتفه و كتف ذراعيه يتأملها بصمت , من كان ليظن أن فتاة الجليد من الممكن أن تصدر عنها مثل تلك التصرفات ... تلك الشابة المحملة بوالد مقعد سليط اللسان ضائع التركيز و الذاكرة ....
عيناها الزجاجيتان تنظران بلا تعبير لكل شيء ... الا من بعض الإنبهار أحيانا .....
لكن بخلاف ذلك فهي تبدو و كأنها شخص فقد بهجة الحياة ..... و ليست أبدا كشابة على وشكِ نيل ميراثها المتأخر !!
لكن في تلك اللحظة وهو يراقبها ... و قد عقد صداقة بالقوة الجبرية مع كلبه المسكين ....
تبدو كمراهقة نوعا ما ...... ارتفع حاجبيه أكثر وهو يراها تعتليه !!! .....
حينها عقد حاجبيه وهو يقول بهدوء
( اثبت مكانك يا صديقي .... سآتي لأنقذك ... )
ثم استدار خارجا من مكتبه بعزم .....
.................................................. .................................................. ....................
شعره ناعم .... لكنه مقزز , دائما ما كانت تكره الكلاب بشدة ....
لكنها رغم عنها أحبت اللعب معه .... حركاته مضحكة بشدة .... أو ربما هي التي تستجدي الضحك كي ينقذها من المشاعر الداخلية التي تفترسها ....
جثت على ركبتيها بجواره فوق عشب الحديقة ... و هي تتلاعب بشعره الناعم شاردة ....
و عيناها سارحتان في البعيد .... ثم همست أخيرا زافرة بغضب
( توقف عن الإلحاح على ذاكرتي و ابتعد ..... أوووووووووف )
كانت أصابعها تلاعب شعر الكلب بنعومة و شرود بينما تقول بغضب و كبت
(؛ الا يوجد رجل غيرك يجيد التقبيل ... و الملامسة ... و ..... أوووووووف )
فجأة طرحها الكلب أرضا بقوة و جثا فوقها يلعق وجهها فصرخت بتقزز و هي تضحك محاولة إبعاد وجهها عنه ...
( ابتعد يا مقرف ..... مقزز ..... أنت حتما لا تجيد التقبيل .... )
هتف صوت صارم من بعيد
( روكس ........ أجلس .... )
ابتعد الكلب فجأة بتهذيب و جلس مكانه يلهث .... فقامت وعد من مكانها و هي تنفض بنطالها الجينز بيديها مرتبكة ناظرة الى وجه المدعو يوسف ....
ثم اقتربت منه بحرج .... فقال لها بصوتٍ رخيم
( وعد ........ أريدك قليلا .......)
أومأت برأسها بصمت .... فاستدارتاركا لها أن تلحقه ......
كانت تريد أن تستحم أولا ... و ترتب شعرها ... لكنها وجدت أنه اتجه الى باب مكتبه ليقول بهدوء
( تفضلي .......... )
تبعته صامتة ...... ثم جلست دون تفكير على مقعد أبيض أنيق أمام مكتبه ... و لم تره وهو يرفع يده الى جبهته ناظرا الى مؤخرة بنطالها الجينز المتسخة و التي حطت فوق الكرسي بمنتهى البساطة و العفوية !!
أغمض عينيه للحظات وهو يهمس بغيظ
( ياللهي !! ......... )
ثم لم يلبث أن اتجه اليها ليجلس أمامها على الكرسي المواجه لها متحسرا على بياض كرسيه ....
و دون مقدمات تناول ملفا على سطح المكتب و مده اليها ليقول بهدوء
( من فضلك راجعي ذلك يا وعد ......)
ابتسمت لطريقة نطقه لاسمها .... على الرغم من أنه يصر على تحدث العربية معها ... الا أن السنوات الطويلة له في الغربة ... جعلت حرف العين لديه مخفيا
لذا فاسمها يخرج من بين شفتيه جذابا للغاية ..... بعكس طريقة نطق سيف لأسمها ...
فحروف سيف كانت واضحة مؤكدة .... متلذذة بنطق اسمها ... حتى أن شبه ابتسامة كانت ترتسم تلقائيا على زاوية شفتيه كلما نطق اسمها .....
أما عن أوقاتهما الخاصة فكان يهمس ب .....
زفرت بحنق و هي تفتح الملف بعنف
( أووووووووف ............ )
فأجفل يوسف وهو ينظر اليها ليقول بحيرة
( عفوا !!! ...... هل هناك شيئا خاطىء !! .... )
همست بغضب من بين أسنانها و هي تقتلع صفحات الملف
( فقط ابتعد ......... )
ارتفع حاجباه بصدمة ليقول فجأة بقوة
( لماذا ؟!!! ................ )
رفعت وجهها اليه تقول بحيرة
( لماذا ماذا !! ........... )
رد يوسف مادا يده بتعجب
( لقد قلتِ للتو .... ابتعد !! )
قالت وعد بخفوت مدركة
( آآآه ..... عذرا , لست أقصدك ..... )
نظر يوسف يمينا و يسارا قليلا بتوجس .... ثم تنهد بنفاذ صبر ...
" حسنا .... العامل الوراثي عليه عامل , لذا لا يجب أن أتحامل عليها بقوة "
نظر اليها و هي ترفع نظارتها السوداء المعلقة بسلسال أنيق في عنقها فوق عينيها ..... ثم انحنت تقرأ الورق
الموضوع على الطاولة الصغيرة أمامها ....
كان شعرها هائجا و كأن الريح قد عبثت به للتو ..... ممتلىء بالعشب و الأوراق الخضراء التي تتنافر مع سواده !!! .....
كانت باردة بعينين جليديتين رماديتين ..... بينما البرية تفوح منها برائحة العشب الندي !!!
ابتلع ريقه بتوتر من ذلك المزيج الجبار ..... و تأفف رغما عنه !!
نظر اليها طويلا و هي تقرأ كل صفحةٍ على أقل من مهلها ...... أصابعها تتلاعب بطرف خصلةٍ على صدرها .... مسقطة ورقة عشب صغيرةٍ على الملف .... فتبعدها بيدها الأخرى لتسقط أرضا دون اكتراث لبساطه الفاتح !! ....
لكن هذه المرة لم يهتم للبساط ...... بل كان يتأمل حركاتها و عينيها المتظاهرتان بالفهم ....
فقال بهدوء
( أنتِ لم تفهمي أي شيء مطلقا ....... )
رفعت وجهها اليه بدهشة .... ثم لم تلبث أن أحمرت وجنتيها ارتباكا ... و قالت بحرج
( لا ...... في الواقع ليس تماما .... )
ابتسم بهدوء .... ثم لم يلبث أن مال الى الطاولة بينهما يقول بأدب
( اقتربي ...... سأشرح لكِ ... تلك أوراق خاصة بميراثك أنتِ و أختك ... يجب أن تفهميها كلمة كلمة )
مالت اليه بشرود و اقترب رأسها منه .... و تاهت ذكراها رغما عنها بسيف اللذي كان يجلس معها كل ليلة على سريرهما يشرح لها ما تلقته بالتدريب ... و في الآخر يعلن يأسه , ليبدا بعدها نجاحه في مجالٍ آخر أكثر حميمية .... تنهدت مغمضة عينيها للحظة ...
بينما تنهد يوسف مستنشقا رائحة الأرض البرية من شعرها العطر !! .........
بعد أن انتهى أخيرا ..... بصعوبةٍ شديدة لكليهما , رفعت وعد رأسها فقال يوسف بهدوء
( هل هناك أي شيء تودين الإستفسار عنه ؟؟ ...... اسألي دون حرج ..... )
هزت وعد رأسها نفيا بصمت ...... فقال لها مؤكدا
( هل فهمتِ ؟؟ ..... كيف تمت حساب نسبتك و نسبة أختك .... و كيفية تحويلها الى سيولة مالية ... )
أومأت برأسها بصمت مجددا ......
فقال يوسف يتأملها
( لا تبدو عليكِ الفرحة ..... أو على الأقل الحماس ....... )
ابتسمت بحزن رغم عنها ..... ثم قالت بخفوت
( يوما ما ظننت أن المال هو تذكرة السفر الى الراحة ......... لكن الآن أشعر بأنه شيء عادي )
ضحكت قليلا لتهمس بحزن
( لست منبهرة كما تخيلت ............. )
قال يوسف بخفوت بعد فترة
( لكنه عامل مساعد بلا شك ..... ربما ليس هو الأساس في الراحة .... لكنه يساعد .... سيساعدك و يساعد والدك كما فهمت ...... )
أومأت برأسها بصمت .... ثم قالت فجأة
( كيف كانت أمي ؟؟ .......... )
ارتفع حاحبيه قليلا ..... ثم قال بدهشة
( لماذا تذكرتها الآن ؟!! ......... )
ابتسمت وهي تقول بخفوت
( لماذا تذكرتها ؟!! ....... غرفتها التي أمكث بها تكاد تتحدث عنها في كل ركن ..... أستطيع أن أقول أنها كانت استعراضية قليلا ..... رغم أنني أتذكر القليل عنها , الا أنها لم تكن تملك البيئة المناسبة لتغذية ميولها الإستعراضية ...... )
ابتسم يوسف هو الآخر ..... ثم قال بهدوء
( حسنا يجب علي أن أعترف أن العلاقة بيننا لم تكن جيدة تماما منذ أن تزوجها والدي رحمه الله ..... لكنها كانت محبة للحياة ..... لا ليس تماما , بل كانت تميل لأن تنهل منها ما تستطيعه و كأنها قد أضاعت الكثير من حياتها ...... رغم عدم توافقي معها .... الا أنني كنت أستطيع أن أرى أن بها عطب تحاول التغلب عليه ... و أرجعت ذلك لزواجها الأول ...... و اعذريني .... لكن نوعا ما كانت نظرتي صحيحة )
عبد الحميد العمري ....... تستطيع أن تدرك ما يقصده تماما , و على الرغم من كل هوسه بصفا ......
أطرقت برأسها قليلا .... فقال يوسف بهدوء
( أنتِ تشبهينها الى حدٍ كبير ........ )
رفعت وجهها اليه تتحقق من كلامه ... ثم ضحكت بمرارةٍ لتقول
( حتى وقتٍ قريب كنت أعتبر تلك الجملة إهانة لي ......... رحمها الله على كل حال )
قال يوسف باتزان
( لم أكن أقصد شخصها ......... بل أظن أنكِ أبعد ما يكون عن شخصها )
اطرقت برأسها مجددا .... فقال يوسف بلهجته الأجنبية قليلا
( وعد ......... )
رفعت وجهها اليه بتساؤل , فقال بهدوء
( دعيها تذهب ......... لقد انتهى الأمر , فلا تشغلي بالك طويلا بالأموات .... فكري في أختك مثلا ..... والدك ... )
ظلت تنظر اليه طويلا ..... ثم تظاهرت بالمرح الزائف و هي تقول
( نعم أبي ......... لقد أثار فوضى عارمة ببيتك الرائع النظام خلال الفترة السابقة .... )
نظر يوسف الى الكرسي الأبيض تحت جينزها المتسخ بوحل الحديقة ..... ثم الى البساط حيث تقبع الأعشاب و الأوحال من حذائها الخفيف ... و منه الى شعرها البري الجمال ذو الأغصان الخضراء المتشابكة معه ...
فقال بهدوء
( لا تقلقي ....... طالما أن الخادمات لا يفهمن لغة شتائمه , فالباقي مقدور عليه ..... )
ضحكت وعد بخجل ..... ثم رفعت يدها تدفع شعرها للخلف .... فقال يوسف
( هل هناك ما تحتاجينه أثناء اقامتك هنا و لم تجديه ؟؟ ....... )
رفعت وعد اليه وجها متفائلا بسؤاله .... ثم قالت بامتنان
( نعم .... من فضلك ....... أريد شراء ماكينة خياطة ......و معرفة مكان لبيع أقمشة متميزة )
و كان رده الوحيد هو ...... ارتفاع حاجبيه
.................................................. .................................................. ......................
وقفت أمام المرآة تنظر الي نفسها بوجهٍ باهت و عينين غائرتين ......
كانت ترتدي قميص نوم فاضح .... هذا أقل ما يقال عنه ..... وهو أنه فاضح !! .....
لكن و ما المشكلة ؟!! ..... لطالما عشقت قمصان النوم الفاضحة ......
و بعضها كان يفوق ذلك القميص الأبيض الطويل الذي ترتديه ..... من الحرير الأبيض بصدر من الدانتيل و شقين طويلين يكادا أن يصلا الى خصرها بلا حياء أو مراعاةٍ لشعور البشر .....
رفعت أصابعها تتخلل بها خصلات شعرها الجامح .... و همست بخفوت بائس
( لا بأس يا كرمة ....... إنه ليس شخص غريب .... إنه زوجك .... إنه زوجك .... )
لكنها انتفضت شاهقة بصوتٍ عالٍ حين سمعت طرقة على الباب و صوت حاتم يأتي هادئا بشكل مخيف
( كرمة ....... هل أدخل الآن ؟؟ ...... )
أغمضت عينيها و هي ترفع يدها الى صدرها الخافق بجنون ....
اليوم انتقل حاتم الي البيت ... أو بمعنى أصح عاد الى بيته ... و طبعا من البديهي أن تكون الليلة هي ليلة زفافهما .... و ليلة الزفاف ليس لها سوى معنى واحد !
و الدليل الذي لا يقبل الشكل أنه سرعان ما اتخذ اجراءاته بارسال أمينة الى بيتها في أجازة لعدة أيام ... و ارسال محمد الى أمه لنفس المدة !
كانت كرمة تدور حول نفسها دون رد .... لكنه لم ينتظر الحصول على رد ... بل فتح الباب مجددا ....
و دخل ...... نظرت اليه كرمة وهي واقفة في منتصف الغرفة بملامح باهتة مصدومة قليلا ... وهو يدخل لا يرتدي شيئا سوى مرتديا بيجاما من الحرير الأسود ....
يبدو كرجل عابث يريد بها شرا و ليس المدير اللطيف الذي عرفته في عملها ......
كان يبدو كذئب بشري بمنتهى الإختصار ....
ابتلعت كرمة ريقها بصعوبة وعيناها تنظران بذهول الى عضلات صدره القوية ..... و ذراعيه المفتولتين ....
بينما كان حاتم في نفس الوقت ينظر اليها مبهورا ......
كل جمالها المرة السابقة لا يعادل ذرة من جمالها الآن و هي تقف أمامه بكل ذلك البهاء .... و ذلك الجسد اليانع بثماره دون حرج ....
تاهت عيناه على صدرها و خصرها و ساقيها برهبة .... لا يصدق أنها أصبحت ملكه أخيرا .....
من كان ليصدق !!
من كان ليصدق !!
كانت اليه حلما مستحيلا .... و تحقق قبل حتى أن يرمش بعينيه .....
في هذه اللحظة شعر أن كل عذابه السابق قد اختفى .... شعر و كأنه لم يعرفها سوى ليوم واحد ... يوم واحد ليعشقها بكل عشق المحبين جميعا .....
اقترب منها خطوة .... ليهمس بصوته الذي باتت تعرف نبرته المثارة جيدا
( ما أجملك !! ...... )
أطرقت كرمة برأسها و هي تغمض عينيها تنتظر انتهاء الأمر بأي طريقةٍ كانت ..... و ما أن وصل اليها حتى انتفضت من مجرد نفسه الساخن اللافح لوجهها مطيرا خصلتين على جانبيه وجنتيها ....
و ما أن رفع يده ليلحق شريط قميص نومها المعلق على كتفها حتى همست دون أن تستطيع أن تمنع نفسها
( ياللهي !! ........ )
نطقتها من بين أسنانها و هي تطبق جفنيها بقوة .... و لم ترى نظرة الحزن في عينيه ....
شعرت بشريط قميص نومها يهبط عن كتفها ببطىء ..... فأخذت نفسا عميقا و هي تشعر بالهواء البارد
يلامس بشرتها ....... فهمست بسرعة دون أن تفتح عينيها
( أشعر بالدوار ..... لا أستطيع الوقوف أكثر .... )
شعرت به ينحني الي أسفل لتجد نفسها مرفوعة الى أعلى في لمح البصر ..... و كأنها في وزن ريشة ....
و رغما عنها و لإحساسها بالدوار تعلقت يداها بعنقه ... الى أن شعرت بجسدها المرتجف يحط فوق السرير الواسع بأغطيته الحريرية الباردة على جسدها بدرجة زادتها ارتجافا .....
ابتعدت كرمة الى حافة السرير ما أن تركها .... و شعرت به يندس الى جوارها ......
كل هذا و هي مغمضة عينيها لا تجرؤ على فتحهما .... ظلت تهدىء نفسها داخليا و تستدعي كل قواها الإيجابية في اقناع نفسها بأن الأمر طبيعي و أن ذلك الرجل بجوارها ما هو الا زوجها ....
لكن و ما أن شعرت بيده تلمسها و بحميمية لم تتوقعها حتى شهقت عاليا و هتفت بقوة و هي تفتح عينيها لتقول ما لم تقرره سابقا ..
( حاتم ........... )
نظرت اليه للمرة الأولى و هالها أن يكون وجهه قريبا منها الى تلك الدرجة .... كان مبتسما ووجهه متلون بلونٍ داكن من شدة ما يشعر به ... و كانت الإثارة بادية عليه بوضوح ....
لكنه همس في أذنها بلهجةٍ خاتفة أرسلت قشعريرةٍ الى أطرافها
( عيني حاتم ........ )
ابتلعت ريقها و همست بارتجاف
( هل يمكنني أن أطلب منك ....... طلب ؟؟ ..... )
كان الطلب واضحا في عينيها دون الحاجة للكلام .... بل كان رجاءا ..... و كانت عينا حاتم تريان قسوة ما تعانيه ...... و جسده يستشعر نفورها بوضوح ......
فقال بهدوء و بلا تعبير
( طلباتك أوامر يا كرمة .......... )
ارتجفت و رمشت بعينيها عدة مرات و هي تنظر اليه ..... و عقلها يصرخ
" و ما فائدة التأجيل ؟!!! ..... اليس من الأفضل إنهاء الأمر بسرعة , ربما كانت المرة الأولى هي الأكثر حرجا و بعدها يصبح الأمر منطقيا أكثر !! ... "
طال صمتها فأخذ حاتم المبادرة ليقول بجفاء
( ماذا يا كرمة ؟؟ ...... هل تفضلين أن يكون زواجنا صوريا ؟؟ ....هل هذا هو طلبك ؟؟ )
اتسعت عيناها و فغرت شفتيها قليلا .... الا أنها لم تلبث أن ابتسمت ابتسامةٍ مائلةٍ بمرارة ... لتقول ساخرة
( لا اطمئن ..... أعرف أن لا وجود لمثل هذا الإقتراح في عالمكم .... قد تستطيع الصبر يوم .... اثنين على الأكثر ...... لكن في النهاية ستنال حقوقك ولو رغما عني ..... )
أظلمت عيناه بشدة .... و انتشر لون قاتم على وجنتيه .... و طافت عيناه بتعمد على جسدها المكشوف ...
في لحظاتٍ بدت دهرا ....
ثم رفع الغطاء فوقها فجأة .... ليقول ببرود
( تصبحين على خير يا كرمة ....... استمتعي بليلتك كما تفضلينها ..... )
صمت قليلا ازاء ذهولها ... ثم تابع بصرامة
( لكن ملحوظة واحدة قبل أن أتركك هانئة بسريرك البارد .......
كلمة واحدة مثل كلمة " عالمكم " تلك ... تجمعين فيها بيني و بين رجل آخر مرة أخرى .... صدقيني حينها لن تعجبك ردة فعلي .... إن أردتِ أن يراعي من حولك شعورك فتعلمي أن تقدمي المثل أولا ....... )
نظرت اليه بذهول و هي تراه يبتعد عنها .... لكن كل ذلك مرة أمامها في لحظةٍ واحدة
حيث أمسكت بذراعه قبل أن ينهض تماما تجذبه كي يعود الى السرير .... فنظر اليها بجفاء دون كلام , حينها هتفت بصدق
( لن أقوى على الإنتظار ....... التوتر يقتلني كعذراء مجنونة ...... أريد أن أنهي الأمر ... )
أغمض عينيه بجنون و هو يغرس اصابعه في خصلات شعره بغضب أهوج وهو يهمس
( ياللهي !! ......... )
كل كلماتها كانت كنصال خناجرٍ مسممة موجهة الى صدره دون رحمةٍ منها .....
و كانت همجية الرجل الشرقي المدفونة بداخله توشك على أن تنفجر في أي لحظةٍ ..... لكنها تابعت بإنهيار تتشبث به
( أرجوك ساعدني ...... و لا تجعلني أترقب الأمر أكثر من هذا ..... أنا ....أنا ....... لطالما كنت أنا المبادرة بكل شيء ... بكل خطوة .... حتى في أكثر الأمور حميمية ... و كانت النتيجة كارثية .... أما الآن فأنا ...... )
صرخ فجأة بغضب أرعبها ....
( أخرسي ........ اخرسي يا كرمة ......... )
و قبل أن تنطق بكلمةٍ أخرى كان قد انكب عليها بجنون يخرس كل كلمة قاتلة منها .... يفهمها هوية زوجها الحالي .... غضبه تقريبا خارج كل سيطرة و عنفه كان واضحا .....
فأغمضت عينيها و أرغمت نفسها على تقبل الوضع المألوف لديها ...... هكذا أسهل .... نعم هكذا أسهل ....
صوت تمزق بضع انشات من قماش قميص نومها الحريري كان في أذنها واضحا كناقوس خطر ....
لكنها أرغمت نفسها على الهدوء ....
لكنه لم يستمر بجنون شوقه الممتزج بغضبه أكثر من عدة دقائق ليبتعد عنها بعدها بقوة قاهرة ... ناظرا اليها وهو يلهث بجنون ..... و عيناه تنظران الى استسلامها بحزن ... ثم لم يلبث أن قال بلهاث ٍ خافت كئيب
( لن أكون في نفس الصورة مهما حاولتِ أن تضعيني في اطارها يا كرمة ........ )
الا إنها عادت لتتشبث بذراعه شبه باكية بهمس
( لن أقوى على الإنتظار ...... أعصابي تنهار ببطىء ..... أرجوك ... )
نظر اليها باكتئاب .... عيناه تضمان مشاعر ثائرة متناقضة ..... و جسده يتصارع في حربٍ مضنية مع عقله و قلبه ..... ثم لم يلبث أن انحنى اليها ببطىء .....
مستخدما كل رقته و نعومته ..... كل هدية أقسم على أن يهديها بها .....
كل لمسة و كل همسةٍ ناعمة في أذنها ...... كان يعذبها بلا رحمة ..... برقةٍ كادت أن تذيب عظامها ...
فشعرت بالرعب و اخذت تلوي رأسها يمينا و يسارا بجنون و هي تهمس لنفسها
( لا ..... ليس هكذا ..... ليس هكذا ........ لا .... )
لكنه أصمت أفكارها مع نفسها بقبلاتٍ عذبتها في نعومتها و رقتها ..... حتى بات ارتجافها جنونا .... بينما قلبها يصرخ بأن ما تعيشه حاليا خيانة لا تغتفر ..... لكن عقلها غير مدرك تماما خيانة لمن ؟؟؟!!!
سمعا فجأة صوت رنين الباب ..... فبدا كقصف المدافع بينهما ....
تشنج جسد حاتم فوقها قليلا.... لكنه لم يلبث أن استسلم لأشواقه من جديد .... الا أنها كانت ممتنة للفرصة الذهبية فأخذت تبعد وجهه و هي تهتف بامتنان
( الباب ....... الباب يا حاتم ...... أمينة ليست هنا )
همس حاتم في أذنها وهو يغيبها معه في عالمه من جديد
( تجاهليه ...... كل القوى الدنيوية لن تبعدني عنك حاليا ...... )
تاهت قليلا بذهول و عيناها تتسعان بغباء أمام ما يفعله .... لكنها استجمعت كل قواها و صرخت أمام رنين الباب المستمر
( حاتم ...... من المؤكد أنه أمر هام ...... أرجوك أنظر من بالباب ..... )
تسمر حاتم قليلا و صدره يضرب صدرها بعنف وجنون .... ثم لم يلبث أن رمى نفسه صارخا بهياج
( أقسم أن ...... أن .... بل س .... اقسم أن ي...... تبا تبا تبا ... )
بينما كانت كرمة تسحب الغطاء عليها و هي تراقبه يندفع خارجا كالمجنون من الغرفة ...
ثم شهقت بعنف عدة مرات .... لقد استسلمت .... لقد استسلمت تماما لرقته الخائنة ....
.................................................. .................................................. ......................
كان حاتم لا يزال يقسك بأغلظ الأيمان وهو يندفع الى الباب مصمما على قتل زائره أيا كان ......
لكن و ما أن فتح الباب بعنف حتى تسمر مكانه وهو ينظر الي تلك الشقراء الواقفة أمامه بصلف و عنجهية
و منها الى محمد الذي يقف أمامها بوجوم مطرقا برأسه ...
قال حاتم بذهول
( داليا !! ........ ما الأمر ؟!! ........ )
ابتسمت داليا بسخرية و قالت بترفع
( هل هذا استقبال يليق بأم ابنك !!! ...... لازلت بنفس الذوق القديم .... )
لكن حاتم لم يحاول حتى تجميل لهجته و هتف وهو يمسك برأس محمد ....
( ماذا هناك يا داليا كي تأتي في هذه الساعة !! ...... هل محمد مريض ؟!!! .... ماذا بك يا محمد !! )
لم يرد الصبي الصغير ... و لم يرفع رأسه .....
لكن داليا قالت بصلف
( محمد بخير ....... لكن عماد أتته سفرة عمل مفاجئة .... وهو لا يسافر بدوني .... و لم أجد الوقت كي أتدبر مكان لمحمد ... لذا يمكنه أن يبقى معك ..... )
صرخ حاتم بجنون
( ماذا !!! ........ أمينة ليست هنا ...... )
ابتسمت داليا و هي تقول برقة
( هل تترفع زوجتك عن تحضير عشاء أو كوب حليب ؟!!! ..... كم هذا رائع !!! ..... لتدرك الآن الفرق بينها و بين عماد زوجي الذي يكاد يحمل محمد من شدة دلاله له ..... )
نظر حاتم اليها بذهول وهو يوشك على أن يطيح برأسها .... بينما محمد صامت و مطرق الرأس ........
كان واقفا مكانه ينظر الي نفسها الخبيثة و الظاهرة في نظرات عينيها المبتسمة .... الا أن نظرت الخبث خبت ما أن تطلعت الى شيء ما خلفه ....
فاستدار حاتم بتساؤل ليجد كرمة واقفة عند الرواق .... مرتدية روب أبيض حريري فضفاض زادها جمالا فوق جمال هيئتها الفوضوية .....
كانت كرمة تنظر الى الموقف و هي تشعر بأنها عاشت موقفا شبيها به من قبل .......
حين نظرت الى محمد ... و رأت علياء من خلفه .....
كم انقلبت الأدوار !!..... و أصبحت هي الواقفة بجانب الرواق ....
لكن الجديد على المشهد .... هو ذلك الصبي المطرق الرأس و الواقف في المنتصف .......
هو وحده من هزم المشهدين بداخلها ....
فتقدمت رافعة رأسها مشعث الشعر ...... حتى وصلت الى حاتم ووقفت بجانبه لتقول مبتسمة بخفوت
( مساء الخير ......... أنتِ أم محمد اليس كذلك ؟؟؟ ... تفضلي بالدخول , لماذا تقفين بالباب ؟!! ... )
كانت نظرة داليا اليها متعالية بوضوح تكاد تصل الى احتقار واضح و هي ترمقها من أعلاها الى أسفلها
فارتجفت كرمة من تلك النظرات التي تدرك معناها جيدا .... فقد اعتادتها منذ صغرها ....
قالت داليا أخيرا بترفع .... و هي ترمقهما باحتقار
( يبدو أنني قد جئت في وقت غير مناسب ...... )
توتر حاتم و ياللعجب كان هو من احمر وجهه .... بينما قالت كرمة تشد صدرها بثقة
( أنتِ دائما مرحب بكِ ....... )
ثم مدت ذراعها تقول بهدوء
( تعال يا محمد لأجهز لك غرفتك .......... )
ثم نظرت الى داليا تقول بابتسامة خجولة
( أمينة ليست هنا ....... لكن لا تقلقي .... فمحمد في أيدٍ أمينة ..أي نفس النتيجة . )
ثم ضحكت لدعابتها بسماجة ..... فرفع محمد رأسه يضحك بصوت ضحكته السمجة ما أن سمع طرفتها
بينما كان حاتم في حالٍ مأسوي بائس ...... وهو يرى محمد يدخل ببساطة ملقيا حقيبته على كتفه ....
.................................................. .................................................. .....................
كان ينتفض في نومه ... و جسده الحار يلمع بقطرات العرق ...
بينما صدره يلهث بقوة من تلك اللحظات التي يعيشها معها ........ فهمس لها مبهورا و يداه تتحققان من نعومتها
( اشتقت اليكِ ......اين كنتِ ...... )
ضحكت عيناها الشتويتان مع صوتِ ضحكةٍ كالأنغام من بينِ شفتيها ......
عيناها و كم اشتاق لعينيها و كما وعد نفسه , لم يترك شيئا بقلبه الا و سيهمس به لأذنها ما أن يراها
فهمس يقربها منه
( اشتقت لعينيكِ حبيبتٍي ....... اشتقت لغيامات المطر بهما )
تعلقت بعنقه تمنحه الفرصة كي يمسك بخصرها و كأنها آلة موسيقية سيعزف عليها أشواقه ... فهمست له
( اشتقت اليك يا سيف ...... لماذا لم تبحث خلفي ؟؟ ..... )
أغمض عينيه يتأوه وهو يستنشق عطر شعرها .... ثم همس
( أين أبحث عنكِ ...... فقط أخبريني ....... )
عادت لتضحك مجددا فاشتعلت ناره أكثر ... و ضمها الي قلبه يود لو يأسرها بداخله للأبد ......
شعر بالإختناق أخذ يلهث من شدة اشواقه بها ...... و صوت ضحكاتها يعلو و يعلو ... و ناره تشتعل أكثر و أكثر .... حتى انتفض فجأة هاتفا بقوة
( وعد ........... )
وجد نفسه مستلقيا على سريرهما ... في غرفتهما ..... بينما العرق يتصبب منه و جسده يؤلمه بوضوح ....
نظر حوله بصدمة .... ليدرك أنه كان يحلم و أنها ليست هنا .....
ارتمى رأسه للخلف محدقا بالسقف وهو يهمس
( لا ..... لا ..... كان حقيقيا ..... كان جسدها حقيقيا بين يدي ...... )
أغمض عينيه و انعقد حاجبيه بألم .. كم مر على غيابها حتى الآن .... شهر كامل , ثلاثين يوما دون أن يعرف أين هي .... كل ما يعرفه هو أنها في بلدٍ غير بلده ... و أرض غير الأرض التي يعيش تائها عليها الآن .....
كيف هي ..... و كيف حال صحتها بدونه ؟؟ .....
هل تحتاج الى رعاية ؟؟ ...... أم أنها ببساطةٍ بخيرٍ أكثر مما كانت معه .....
أصابه هذا التفكير بوجوم خانق .....
رفع يده الى صدره العاري و همس يقول بخشونة
( إياكِ أن تكوني بخير بعيدا عني ........ فقط كوني بصحة جيدة , لكن لا أكثر من ذلك ..... )
رفع هاتفه من أسفل وسادته لينظر الى صورها التي يقلب بها كل ليلة
فهمس اليها
( اشتقت لقهوتك ...........لم أعد أستسيغ مذاقها من يدٍ غير يدك , القهوة عندي تلازمت مع مرآى عينيكِ الشتويتين ....... أتذكرين كل صباح حين كنتِ تخطين بصمتٍ باتجاه مكتبي ! ..... حاملة قهوة مذاقها كمذاق قبلتك التي خبرتها لاحقا .....
كنت أنظر اليكِ في الخفاء ..... أراقبك ..... أراقب سكون عينيكِ الموشكتين على عاصفة .....
أحببت تهذيبك و رقتك ..... حتى برودك أحببته , لأنني تحديت أن أحوله نارا .....
اما قسوتك ......
اما قسوتك .......
فأنا من غذيتها كمن يغذي نارا موقدة .......... )
صمت قليلا ينظر الى عينيها الضاحكتين ....و قال بخفوت
( احببت انبهارك الذي كنت ارويه قطرة قطرة ....... كنتِ كرضيع بالنسبةِ لي , ظننت بكل صلف و غرور انني استطيع تشكيله من جديد بعيدا عن الماضي و كل علوم الوراثة .....
لكنني اغفلت انكِ امرأة ....... امرأة عاشت وحيدة لفترة طويلة ....و حيدة بداخلها أكثر من وحدتها الخارجية .... تجاهلت وحدتك ..... فكانت أن طعنتني على حين غفلة .... )
عاد ليصمت مجددا ثم همس بخفوت
( تعالي يا وعد ........... )
انتفض وهو يرى مقبض الباب يتحرك ببطىء دون طرق للباب ..... و من يملك الحق ليفعلها غيرها !!!
استقام جالسا وهو يرى الهيئة الأنوثية المظلمة من شق الباب المضيء .....
فهتف دون تركيز
( وعد ............ )
تسمرت مكانها ثم همست بفتور
( أنا ورد يا سيف ............. )
صمت سيف ... ثم قال بصوت أجوف
( تعالي يا ورد ........... )
ثم أضاء المصباح المجاور و عاد ليخفي هاتفه تحت وسادته .... بينما اقتربت ورد منه بصمت و هي تدس كفيها في جيبي سترتها الرياضية .... مطرقة الرأس ,ثم قالت
( اعتذر أنني دخلت دون أن أطرق الباب ...... أردت الإطمئنان عليك دون أن أوقظك , فأنت لم تنام مؤخرا الا نادرا ..... )
تنهد دون رد .... بينما فركت أصابعه ذقنه الغير حليقة , ليقول بعدها بصوت لا حياة به
( كيف أنام يا ورد و أنا لا أعلم مكان زوجتي ..... أو ما يمكن أن يصيبها في أي وقت )
ازداد اطراقها برأسها .... لكنها اقتربت منه لتجلس بجواره على حافة السرير .... ثم همست دون أن ترفع رأسها اليه
( أنا آسفة ............ )
قال سيف بخفوت
( علام ؟!! ........... )
قالت ورد بجفاء ( لأنني كنت السبب في رحيلها .......أكره أن أكون سببا في ألمك و لم أتخيل يوما أن تعيش تلك الحالة بسببي ..... لكني لست آسفة لها هي بوجهٍ خاص .....)
تنهد سيف بقوة و كبت .... ثم قال أخيرا بخفوت
( وعد لم ترحل بسببك يا ورد ...... أنا من آذيتها .... و مع ذلك لم يكن من حقها الرحيل بكل هذا القدر من القسوة ....... )
رفعت وجهها اليه بصمت ثم قالت دون أي مقدمات
؛( أنا سأتزوج يا سيف ....... )
عقد حاجبيه بشدة ..... و استقام أكثر ليقول بحدة
( ماذا ؟!! ...... ما هذا القرار المفاجىء ؟!! ... و هل أنا آخر من يعلم !! )
عادت لتطرق براسها ثم قالت
( لم يمر على فتح الأمر يومين ..... لقد تقدم لي رجل بمواصفات معقولة ... و قررت القبول )
هتف سيف بغضب
( من تقدم لمن ؟؟ .... و أين ؟؟ ..... أليس الكِ أهل يطلبك منهم ؟!!! )
قالت ورد بخفوت
( وضع البيت لم يكن مناسبا .... و أنت أيضا ..... هو جار احدى زميلاتي في عملي السابق .... )
رد سيف بغضب
( و أين رأيته ؟؟!!!! ........ )
قالت ورد بجمود
( لم أره بعد .......... )
اتسعت عينا سيف بقوة ..... ثم قال بهياج
( لم تريه بعد و تخبرينني الآن أنكِ قد قررتِ الزواج منه !! ....... )
تنهدت ورد لتقول
( هو موافق على أي عروس مناسبة من سني ......... )
هتف سيف بغضب
( لماذا يا ورد ....... لماذا هذا الإستسلام المفاجىء!!! .... لقد خرج بعض الخاطبين شبه مطرودين تصحبهم اللعنات منك ...... )
رفعت وجهها اليه .... ثم قالت بصوت ميت
( وعد ستعود يا سيف ......... لأنك تحبها , .... و أنا لن أكون السبب في رحيلها مجددا , لأني سأفعل إن بقيت ....... الماضي متمكن مني أكثر مما يفرضه المنطق , صورة أبي في أواخر حياته لا تبارح نظري منذ أن أتت وعد الى هذا البيت ...... و سرقتها لقلبك تزيد من قهري ..... هذا شيء لا أستطيع السيطرة عليه يا سيف ...... سامحني ..... )
هتف سيف بغضب
( ووجدتِ الحل في قبول شخصٍ دون حتى أن تريه !!! ....... ما تلك السطحية بالله عليكِ ! )
تنهد بقوة .... ثم قال وهو يرجع شعره للخلف بقسوة
( زواجك هو أكثر ما أتمناه يا ورد ...... لكن فقط في حالٍ واحد , وهو أن تكوني متألقة بالسعادة .... ليس أقل من ذلك لأنني لن أقبل ..... أما بالنسبة لوعد ... فهي لن تعود الى هذا البيت مجددا ....
كان احضارها الى هنا أكبر خطأ ارتكبته ..... لقد جرحتها و جرحت أمي و جرحتك أنت و مهرة ....
ظننت بكل حماقة أننا نستطيع طي الماضي ...... لكنني أغفلت حقيقة أنني لم أطوه بداخلي قبلا ..... )
نظرت اليه ورد بصمت ثم قالت بكبت
( أمك تبدو و كأنها قد طوته ...... منذ زيارتها لعبد الحميد ...... التي حتى لم يتعرف عليها فيها , مجرد دقائق وصلت الى ساعة ..... جعلت منها انسانة راضية .... بل و حزينة على زوجة ابنها التي هربت )
هتف سيف بصرامة
( لا تذكري تلك الكلمة مجددا يا ورد ........... )
قالت بهدوء
( هل تخدع نفسك ؟!! ........ لقد هربت ...... )
صرخ سيف بغضب
( كفى .......... )
فقالت بهدوء ( هربت ......... )
صرخ سيف
( اخرجي من هنا ....... اخرجي .... )
ثم تناول وسادة ضربها في رأسها بقوة وهو يصرخ ( اخرجي من هنا تبا لك ............ )
خرجت بسرعة صافقة الباب خلفها بينما قال سيف بجنون
( أما أنت يا وعد ....... فصبرك الى أن تقعي في قبضتي ..... )
↚
في اليوم التالي بمكتب سيف ...
حتى الصغيرة ملك تخونه .... تغدر به ....
فبعد أن كان ينال كل دعمها ... اليوم صرخ بها غاضبا كالمجنون في الهاتف حتى انفجرت باكية
فصرخ بغضب أعلى
( لماذا تبكين الآن ؟!!! ....... )
لكنه لم يسمع سوى نشيجها الناعم , فصرخ بها
( توقفي عن البكاء يا ملك .......... )
لكن بكائها الرقيق زادعلوا .... فزفر بجنون وهو يشعر بقلبه يتألم من أجلها ... فقال بصوتٍ أهدأ قليلا
( ملك صغيرتي .... ضعي نفسك محلي , أنا احترق يا ملك و أنتِ ترفضين مساعدتي .... )
لم ترد و لم يتوقف بكائها فصرخ مجددا وهو يضرب حائط مكتبه بقوة صارخا
( أنا أموت ..... و أنتِ تبكين .....اسمعي لو حدث شيء لوعد سيكون الذنب ذنبك .... أفهمتِ , كيف ستتعايشين مع نفسك بعدها ... .. )
كان صوت بكائها أعلى .... فتنهد بقوة , ليقول بعدها
( حسنا توقفي عن البكاء ...... ملك ..... ملك ..... أنا آسف .... أنا آسف )
هدأت قليلا ... لكن نشيجها استمر مرا في أذنيه ... ثم قالت باختناق بين شهقاتها
( لقد طمأنتك عليها ...... هي بخير و سالمة تماما ..... لكني لا أستطيع خيانتها .... )
صرخ وهو يضرب الحائط مرة أخرى حتى تورمت قبضته
( خيانتها !!! ...... خيانتها !!! ...... أنا زوجها ...... زوجها يا ملك ...... )
هتفت ببكاء
( أعلم يا سيف ..... أقسم بالله أنني في صفك أنت , لكن في النهاية هي انسانة ناضجة و أرادت الإبتعاد ... فبأي حق أخبرك عن مكانها دون علمها ..... )
صرخ سيف بغضب أسود
( بل قولي الحقيقة ...... ان ذكر كلمة ميراث جعلت عيناكِ تبرقان مثلها فأغلقت قلبك و ضميرك بعد أن تعهدتِ بمساعدتي .....فأنتِ أختها في النهاية و ابنة صفا حتى و إن لم تكوني ابنة عبد الحميد .. )
سمع صوت شهقتها واضحا .... ثم لم تلبث أن انفجرت في البكاء بعنف دون أن ترد على هذا الإتهام الباطل
حينها سقط سيف جالسا على كرسيه ..... لم يبعد الهاتف عن أذنه , بل أبقاه بقوة حتى ابيضت مفاصل أصابعه .... سماعها و هي تبكي كان أفضل عقاب له .....
قالت ملك بإختناق شديد من بين بكاء عنيف
( أنا ...... يجب أن ...... أذهب ....لكن قبلا ....... أمي توفيت .. و أنت لا يحق لك ...... )
صمتت تختنق ببكائها الا أن سيف قال بخفوت
( أنا أحبها .............. )
سكن صوت بكاء ملك قليلا دون التوقف عن النشيج , فتابع سيف بصوت ميت
( أنا أحبها ......... أنتِ صغيرة جدا يا ملك , قد .... قد تعرفين الحب الوردي ..... لكن هناك حب أسود , يجرح فيه الأشخاص بعضهم بشدة ... من شدة حبهم و في نفس الوقت يموتون يأسا مما جنته أيديهم ....
لقد آلمتها كثيرا ..... تماما كما فعلت معك الآن , و قد يكون بدرجةٍ أشد وطأة ....... لكن هي أيضا آلمتني و كل ما أريده أن تكون بين يدي ..... في بيتي ..... أطمئن الى وجودها ...... و بعدها أقسم أن أكسر عظامها واحدة تلو الأخرى ..... )
صمتت ملك بصدمة و هي لم تتوقع العبارة الأخيرة , بل ظنته سيقول أنه سيبكي عند قدميها ....
لكنها ضحكت فجأة من بين بكائها
فابتسم سيف بحزن لصوت ضحكتها .... ثم قال بخفوت
( هذا أفضل ............. )
ساد الصمت بينهما قليلا ... فقال سيف بحنان و خفوت
( أنتِ طيبة جدا يا ملك ......... )
همست ملك بعد عدة لحظات
( و أنت كذلك ........ أحيانا .........)
قال سيف بلهجة بريئة و هالة ملائكية تعلو رأسه و لا ينقصه سوى بروز جناحين له مثل الأفلام الكارتونية
( حسنا ........ هلا أخبرتني بمكانها الآن ...... )
قالت ملك بكل تهذيب
( لا ................ )
أظلمت عينا سيف بشدة و صرخ كالمجنون
( ملك !!!! ............. )
الا أنها قالت بخفوت
( الآن زاد اصراري يا سيف ..... أعلم أنك تتعذب قلقا و خوفا عليها , لكن غضبك يفوق قدرتك على السيطرة , لذا الإجبار لن ينفع ...... امنحها الفرصة كي تعود وحدها ..... صدقني .... )
صرخ سيف وهو يضرب سطح مكتبه بقوة
( كم عمرك كي تنصحينني !!!! ............. ماذا تعرفين في الحياة أصلا ... )
قالت ملك بخفوت
( و كم عمرك كي تتصرف مثل تلك التصرفات !!! ....... و التي كانت السبب الأساسي في هروب زوجتك ) صرخ سيف و قبضته تضرب المكتب بجنون
( أقسم أنني على وشكِ القدوم اليكِ و قصف عنقك يا ملك ......... )
همست ملك بتعاطف حقيقي
( لا بأس ...لن أغضب منك , أنا مقدرة حالتك .......... خذ نفسا عميقا و عد حتى العشر )
نهض سيف من مكانه كالمجنون وهو يصرخ
( يا فتاة أنا على وشكِ قتل أحدهم الآن ....... تكلمي بالله عليكِ ..... )
قالت ملك بخفوت
( اذن هذا سبب أدعى كي لا أخبرك ........ أنتما الإثنان تحتاجان فترة من الإبتعاد كي تقيمان مشاعركما بعيدا عن العنف و الغضب .... وكل تاريخكما الغير مشرف .... ماذا تركتما للأطفال!!! ..... لقد مللت حقا ..... صدقني لقد حاولت معها طويلا ..... لكنها تتصرف بنفس تصرفاتك ..... )
كان سيف أثناء استماعه لها يضغط على أسنانه و يهمس بكل الشتائم النابية التي يعرفها دون صوت ويده تمزق ورق نباتٍ بمكتبه بمنتهى الشراسة و الجنون شر تمزيق .....
أغمض عينيه ما أن صمتت ..... يحاول السيطرة بكل قوته على عنفه ووحشيته في تلك اللحظة ....
ثم قال أخيرا
( هل هي حقا بخير ؟؟ .......... )
صمتت ملك عدة لحظات تستوعب السؤال ..... ثم قالت بكل رقة ووضوح
( إنها بكل الخير ......... صوتها حزين , لكن به نبرة قوة جديدة ...... نبرة ثقة .... لا أعلم تحديدا , لكنه شيئا يخبرني أنها بخير ....... )
أظلمت عينا سيف ... و لسبب ما لم يشعر بالرضا لما سمعه منها ..... فقال بخفوت
( أريد أن أسمع صوتها ............ )
صمتت ملك قليلا , ثم قالت بخفوت
( لن تقبل ....... لقد حاولت .... )
قال سيف بهدوء بينما عيناه الحمراوان تترجيان نظرة من عينيها الشتويتين و كأنها هي التي يترجاها و ليست ملك
( أرجوكِ يا ملك .......... )
صمتت ملك قليلا .... ثم همست أخيرا
( إنها تهاتفني في وقت متأخر من الليل ...... فكيف ستأتي وقتها ؟!! ..... )
قال سيف بقوة و أمل .....
( سآتي ولو قبيل الفجر ......... )
تلجلجت ملك بتحرج ... ثم همست
( ليست تلك هي المشكلة ........... )
قاطعها سيف بخشونة
( نعم نعم فهمت ........ آسف , لم ألحظ مسألة سكنك بمفردك )
قال بخشونة
( ملك ....... أنا لا أفهم سبب بقائك وحدك ..... لقد عرضت عليكِ أكثر من مرة أن تأتي للسكن ببيتي ... أمي سترحب بك جدا .... )
توترت ملك بشدة ..... بقائها وحدها بات مسألة أيام محدودة و بعدها !! ........
فقالت بارتباك
( لن نفتح الأمر أكثر يا سيف ...... تعلم أنه وضع مستحيل , حيث أنني لا أملك صفة للإقامة لديكم .... كما أنني ...... لا أرتاح سوى بالبقاء وحدي بجوار محل عملي ..... لا أريد قلب حياتي ... و الا لكنت سافرت الى وعد كما طلبت مني ..... )
هتف سيف بقوة
( سافري اليها يا ملك ......... أرجوكِ .... )
تنهدت ملك بقوة وهي تهمس
( يالله من شدة الحاحك ........ الآن فقط قدرت موقفها ....... سيف , أنا لن أسافر و لن أمكنك من الذهاب اليها بالقوة ..... يجب أن تقتنع هي أولا .......لقد أقسمت على ذلك )
تأفف سيف بغضب , ثم قال أخيرا
( أريد سماع صوتها يا ملك ...... بأي طريقة , أرجوكِ ..... )
صمتت ملك قليلا بكبت ..... ثم قالت بخفوت
( حسنا فليكن بعد غد ....... سأقنعها غدا أن تهاتفني في وقت مبكر بأي حجة ..... لكن أتمنى أن تصدقني )
قال سيف متنهدا بثقل رهيب بينما صدره ينبض بعنف من تخيل سماع صوتها بعد ساعات .....
( شكرا لكِ يا ملك ......... شكرا لكِ ..... )
أغلق الهاتف ثم جلس الى كرسي مكتبه .... مسندا رأسه الى كفيه , .......
" يالله !! ..... كم يحتاج الآن الى فنجان قهوة من يديها الجميلتين ..... لكن قبلا , يرتوي برحيق شفتيها و يتدثر بشتاء عينيها .......و يخفيها بصدره "
.................................................. .................................................. .................
جلست وعد بجوار والدها ..... ترسم بصمت رسما سريعا ....... فقال لها بصوت ذااهب الأنفاس
( صفا ........ )
مالت اليه وهو نصف مستلقٍ في سريره و قالت
( ماذا تريد يا أبي ........ )
مد يده قليلا ... فأمسكت بها تهمس
( أتريد شيئا ؟؟؟ ........ ماذا ؟؟ ........ )
قال لها بخفوت متقطع ...
( أريد ..... وعد ......... )
ارتفع حاجبيها قليلا فمالت اليه أكثر لتهمس
( أنا وعد يا أبي ....... انا هنا بجوارك .......... )
رد عبد الحميد بصوته الخشن
( ابقي هنا يا فتاة و لا ..... ترحلي كعادتك ...... )
شددت وعد على كفه لتقول بهدوء
( أنا هنا يا ابي ...... أنا لا اغادر الا لدرس التصميم و اعود سريعا ...... )
لم يبدو انه قد فهم معنى عبارة درس التصميم ....
فمنذ فترة وجيزة و حين لمحها يوسف ترسم رسما مبدئيا لفستان ... اشترت قماشه مسبقا ... فأبدا اعجابه ليقول لها بلكنته اللطيفة
( أنتِ تجيدين الرسم ..... هل يمكنك بالفعل تنفيذ ما رسمتِ ؟!! ..... )
أومأت وعد برأسها و هي تقول مبتهجة
( كل ملابسي رسمتها و نفذتها ..... ربما ليست رائعة , لكنني عملت لفترة بالخياطة ..... و صممت فساتين اجمل و قد اعجبت بها شابات من كل المستويات .... )
نظر يوسف اليها باعجاب وهو يسير بجوارها في حديقة منزله
( أنا لا أفهم في التصميم كثيرا ..... لكنى لاحظت أن رسمك ليس مدروسا , بل هو أقرب للعفوية ... )
أومأت برأسها ثم قالت
( لم أدرس تصميم أبدا ..... لم يكن لدي الوقت لذلك , كما أن عملي لم يزدهر الى تلك الدرجة .... )
استدار اليها يوسف يوقفها .... ثم قال بهدوء
( و الآن لديك كل الوقت ...... و الحال هنا أفضل بكثير من حيث مدارس التصميم .... لما لا تبدأي بأخذ درس ..... و بعدها لتبدأي بالتنفيذ ..... و يمكنك بيع القطعة الواحدة بمبلغ مجزي ..... )
برقت عيناها قليلا من ذلك الحلم الوردي ..... لكنها عادت و انطفأت من جديد ,
ان كانت لم تفلح في بلدها ..... هل تنجح نكرة مثلها هنا !!!
هزت رأسها نفيا لتقول ...
( لا أعتقد أنني بمثل ذلك المستوى الذي تتخيله ............ )
نظر اليها مليا ..... يتسائل عن ذلك البريق الذي يلمحه في عينيها لحظات .... ثم سرعان ما يختفي بعدم ثقة !!
فقال لها بقوة
( أنتِ لديكِ يدٍ ماهرة ..... و عقلٍ مبتكر .... استطاعا تنفيذ بضع قطع نالت اعجاب من اشتراها و هذا دون أي دراسة أو تخطيط ........ لذا فانت خامة جيدة للنجاح بإبهار تحت الظروف المناسبة ..... )
عضت على شفتيها بقوة و هي تخشى الأمل من جديد .....
أحيانا كل ما يطوف بفكرها هو أن تأخذ ميراثها في سيولةٍ مالية و تضعه في أي مصرف و ليكن عند كرمة ... لتستفيد من أرباحه !!! ... فليس هناك من عقل راجح يقول ان تجازف بعمل مشروع قد يتسبب في خسارتها للمال الوحيد الذي ستناله في حياتها
( وعد ........... )
رفعت رأسها تنظر الي يوسف الذي كان يتأملها ..... ثم قال بثقة وهو يبتسم لها بوسامةٍ و جمال
( هل أحجز لكِ في دورة تصميم ؟؟؟ ....... )
ارتبكت قليلا .... ثم قالت بخفوت
( أنا لن أستقر هنا طويلا ...... لدي العديد من المشاكل في بلدي يجب علي تخطيها )
فقال بإهتمام
( ما فهمته هو أنكِ ليس لديكِ سوى أختك ........ لماذا لا ترسلين اليها كي تستقر معكِ هنا ؟.... )
ارتبكت وعد و هي تتلاعب بدفتر رسومها ... ثم قالت أخيرا و هي تبعد شعرها عن وجهها
( أولا لأنها مستقرة هناك و لديها خطط و آمال عريضة ....... )
صمتت قليلا .... تنظر الى البعيد , فحثها يوسف ليقول باهتمام
( و ثانيا !! ............. )
رفعت وجهها اليه بعد فترة لتقول بحزم
( ثانيا أنني أريد الحصول على الطلاق ........ و ذلك سيكون بعد معركةٍ طويلةٍ على ما يبدو ..... )
لا زالت تتذكر الصدمة التي ارتسمت على وجهه حينها .... و سؤاله من كلمةٍ واحدة
( متزوجة ؟!!!! ......... )
لينال ردا منها و من كلمةٍ واحدةٍ كذلك
( كنت ..................... )
عادت وعد من تلك الذكرى الى النظر لوالدها الشارد بعيدا بعقله المتداخل الأفكار و الذكريات ......
ثم تذكرت وعدها لملك بأن تهاتفها مبكرا .... مراعية فروق التوقيت .....
لذا أمسكت هاتفها دون أن تترك يد والدها .... و طلبت رقم ملك .....
استمر الرنين طويلا .... الى أن فتح الخط أخيرا فقالت وعد مبتسمة
( صباح الخير يا ملك .......... )
ساد صمت طويل ...... لا ليس صمتا أبدا ..... بل صوت نفس هادر تعرفه حق المعرفة .....
صوت لم و لن تخطئه ابدا ......
أغمضت عينيها و اطبقت على هاتفها و هي تهمس بداخلها بجنون
" لماذا يا ملك ؟؟ ....... لماذا .... "
ارتجفت شفتيها و هي تزفر بخفوت مرتعش ... و فتحت جفنيها المسبلين قليلا .....
كل هذا دون أن يصدر صوت بينهما .....
و على الجهة الأخرى .... كان سيف مبتسما ......
لقد عرفته من مجرد صوت نفسه ..... و لم تغلق الخط حتى .......
ربما كان في أشد حالات غضبه منها ..... لكن هذه اللحظة سيستمتع بها للنهاية .... وهو يكاد يسمع دقات قلبها العنيفة .....
الى أن تكلمت ..... كانت هي من بدأت فقالت بهدوء
( سيف ............... )
اظلمت عيناه ... و انتفض قلبه , فأغمضهما .......... لحظة مجرد لحظة ....
قبل أن يفتحهما مجددا و يقول بصوتٍ خطير
( جيد أنكِ لا زلتِ تتذكرين اسمي ........ )
قالت وعد بهدوء بعد فترة صمت
( كيف لا أتذكرك يا سيف !! .............. ... أنا لن أنساك في عمري كله )
عقد حاجبيه بشدة و نبض قلبه بجنون ..... مجرد كلماتها الهادئة توشك على أن تطيح بقلبه بكل وحشية .....
للحظات شعر بأنه قد نسي كل الحوار الذي بقى لليلةٍ كاملةٍ يحفظه .....
لقد هزه هدوءها ..... فأخذ نفسا عميقا محاولا السيطرة على غضبه المتنامي بسرعة البرق ..... لكنه لم يفلح فصرخ عاليا في لحظةٍ واحدة
( أتجرؤين على الرد بمثل هذا الهدوء !!! ..... بعد كل ما تسببتِ به من مصائب !!! .... )
أبعدت وعد الهاتف عن أإذنها قليلا كي لا يخرق طبلة أذنها بصوته الجهوري و ما أن صمت قليلا ... حتى أعادت الهاتف لتجده يقول
( اسمعيني جيدا يا وعد ........و دون مقدمات ..... أريد معلوماتٍ محددة عن مكان تواجدك بكل تهذيب , و الا فقسما بالله يا وعد .... سترين مني معاملة .... لا تقارن بكل ما أغضبك يوما .... )
صمت يأخذ نفسه بارتجاف الغضب المشتعل ثم أضاف بعنف بينما كانت ملك تضرب على رأسها بيديها من شدة غيظها منه
( لم يجرؤ احد مطلقا .... ابدا .... على التصرف معي بشاكلة تصرفاتك ..... لا أدب و لا تربية و لا تقدير للمسؤولية !!! ...... )
كان يصرخ بالكلمة الأخيرة بجنون ..... ثم أضاف هادرا
( وعد غضبت ..... وعد شعرت بالإهانة ...... وعد استاءت لكسر ماكينتها الصدئة!!!!! .... فماذا تفعل !!!!!
تخطط و تسافر هربا .... ليلا كاللصوص و المجرمين ..... دون أي شرف في التعامل ....... )
كانت وعد تستمع اليه بهدوء ... تتنهد بصمت و هي تطرق برأسها .....
الى أن صمت تماما .... و ما أن فتحت شفتيها لترد , حتى صرخ بجنون قبلا
( أقسم لو أغلقت الخط فأنتزعك عبر الخطوط من حلقك حتى تخرج حنجرتك في يدي ...... )
ابتسمت وعد رغما عنها ...... و تسائلت بداخلها
" هل كانت أيامهما معا هي الأسعد في حياتها ؟؟!!! .......حتى لو كانت قد امتهنت من كرامتها و اعتزازها بنفسها كانسانة محترمة ! ..... "
بهتت ابتسامتها .... ثم ابتلعت ريقها بصمت , فقال لها فجأة
( هل أنت ِ حامل ؟؟؟ ...........)
اتسعت عيناها بذهول !!! ..... سبحن الله أحمق مثل أخته تماما ..... فقالت وعد بصوت جليدي
( هل ملك بجوارك ؟!!! ....... هل تسأل هذا السؤال أمامها !! )
هتف صارخا
( و ماذا به السؤال ؟!!! ....... هل هو خادش للحياء ام سؤال فاضح ؟!!! ...... أو ربما أسأله لسيدةٍ ليست زوجتي لا سمح الله !!!! )
أغمضت عينيها بصدمة و هي ترفع حاجبيها !! ...... ثم أخذت نفسا عميقا و قالت بهدوء
( لا لست حامل ......... )
هتف بنوعٍ من الوجوم الغبي
( هل أنتِ متأكدة ؟!!! .......)
لم تستطع منع ضحكة من الإفلات من بين شفتيها .... و لم تدري أن شبه التواءة زينت زاوية شفتيه ... فهمس بخشونة
( وعد ........ أين أنتِ ؟؟ ......هل بهذه البساطة تتركيني ؟؟ .... )
أغمضت وعد عينيها و لم تدرك أنها تشدد قبضتها على يد والدها تلتمس منه التشجيع للمرة الأولى
ثم قالت بهدوء بعد فترة صمت
( ليس بهذه البساطة أبدا يا سيف ...... لكن زواجنا انتهى ..... )
التمعت عيناه بوحشية وهو يصرخ
( انتهى !!! ....... أنتِ قررتِ ذلك !!! ..... هل تظنين نفسك محور الكون و الجميع يدور من حولك ..... )
صمت يلتقط أنفاسه وهو على وشكِ الإصابة بنوبةٍ قلبية من فرط غضبه ...
ثم قال بعنف لكن أقل صراخا
( هل كل ذلك لأنني كسرت ماكينتك ؟!! ............... أم لأنني منعتك من العمل , أم لأنني أردت أن أنفذ طلبك في الحصول على طفل !! ....... )
قالت وعد بصوت خافت
( هل ملك بجوارك حقا و أنت تنطق هذا الكلام !!! ........ )
صرخ سيف بجنون
( وعد ........ انسي ملك الآن قبل أن أقتلكما معا ....و أجيبيني ... )
قالت وعد بعد فترة
( ألم تصلك رسالتي ؟؟ .......... )
ضحك عاليا و بقساوة .... حتى أنها ارتجفت رغما عنها , ثم قال بوحشية
( نعم ...... رسالتك , قصاصة ورق لم تتعدى بضعة أسطر ........ كلها انتقام و سواد قلب ... )
قالت وعد و هي تقوي قلبها بداخل صدرها المنتفض
( ليس انتقاما ...... بل فقصدت كل كلمةٍ قلتها يا سيف , أنا سأظل ممتنة لك حياتي كلها ..... أنت الرجل الأول بحياتي و الذي ساعدني ووقف بجواري في أحلك أوقاتي ...... و أنت الوحيد الذي شعرت معه أنني أمرأة .... و شعرت ..... شعرت ....... )
صمتت قليلا .تتنهد بعمق بينما سيف يغمض عينيه بألم .... ثم تابعت
( لقد أمضيت معك أجمل وقت بحياتي دون مبالغة ...... لكنك آلمتني , ..... أعلم أنك لم تقصد ذلك بالفعل , لكن كان ذلك هو التطور المنطقي لعلاقتنا ..... أن نجرح بعضنا .....
أنا لست من عالمك يا سيف .... مهما حاولت أن تجذبني اليه , الا أنك كنت تشعر في قرارة نفسك بالخزي من الزواج مني ..... من خادمتك و ساعيتك .... و كنت تشعر بالغضب لأرتباطك بابنة أكثر رجل كرهته في هذا العالم ......
أنا متفهمة كل ذلك يا سيف و لست ألومك ....... لقد فعلت لي أكثر من أن أحاول لومك ....
لكن زواجنا كان مجرد مرحلة قصيرة في حياتنا و أنت تعلم ذلك ... فلا تدعي غيره ......
من المستحيل أن أبقى في تلك المرحلة الدنيا بجوار الرجل الذي يرفعني ليلا الى سحب من المشاعر الجياشة .....أنا ....... )
صمتت قليلا ... ثم تابعت بصوت أكثر خفوتا
( أنا لا أحترم نفسي و أنا معك يا سيف ...... لقد حولتني الى إنسانة وضيعة مخزية ...... و هذا الوضع تحملته حين لم يكن لدي البديل ..... )
عادت لتصمت قليلا تلتقط أنفاسها المجهدة ..... ثم تابعت بهدوء
( لكن الآن وضعي اختلف ..... لقد بدأت بالتخطيط لعملي الخاص , و أنا أدرس التصميم حاليا .... لي مالي الخاص ... و ما أن أعود حتى أبحث عن بيت مناسب لي ولملك ...... )
أطرقت برأسها .... بينما هو الجانب الآخر كان لا يزال مغمضا عينيه ألما وهو يسمعها تشرح تفاصيل رسالتها المختصرة بوضوح أكبر و أشد وجعا .....
ثم تابعت وعد بخفوت
( أنا لم أعد أحتاجك يا سيف ....... و حين اختفت حاجتي اليك , اكتشفت أنني لم أعد أقبل بالوضع المتدني الذي كنت فيه و أنا معك ....... أنا أستحق أفضل من ذلك .... لأن حالي أصبح افضل ..... )
فتح سيف عينيه بصدمة ..... لا يصدق مدى قساوتها .... مدى سمك القشرة الجليدية من حولها ... ليسمعها تتابع أخيرا
( أنا أريد الطلاق يا سيف ...... و مصرة عليه ..... سأنحك فترة عدة أشهر حتى أعود , و إن لم يحدث سأضطر الى طلب الطلاق عن طريق المحاكم ....... لكن رجاءا لا تضطرني الى ذلك .... )
صمتت تلهث .... و لم تجد ردا .... فأغمضت عينيها , بينما كان سيف صامتا يسمع عبارتها تتردد بداخله بكل عنف
" أنا لم أعد أحتاجك يا سيف ...... أنا لم أعد أحتاجك يا سيف .... "
نطقت وعد بخفوت و هي ترتجف قليلا
؛( سيف ..... سأرد لك كل قرش أخذته منك , ليس نكرانا للجميل ..... لكن لأنني امتلك بالفعل ما يكفي .... )
عادت لتصمت .... و الصمت ينتشر بين الموجات الفاصلة بينهما .... فعقدت حاجبيها تهمس بألم
( سيف ............... )
همس أخيرا بصوتٍ أجوف قاسٍ
( لقد منحتك حبي !!........... )
صمتت وعد تغمض عينيها بوجع حقيقي .... لكنها قالت مغمضة العينين
( و أنا منحتك نفسي ........ لكنني أخبرتك بأنني لا أمتلك القدرة على قطع الوعود ......آسفة إن كان ما قد نلته مني لا يوازي ما منحتني إياه ........... )
عاد الصمت ليسود بينهما ...... فتنهدت و هي ترفع يدها الي صدرها المتألم ....
و حين تكلم سيف قال أخيراٍ بصوته العميق الذي ينفذ الى أعماقها مرسلا الرجفة الى جسدها كله
( لن أطلقك قبل أن أراكِ ............ )
فتحت عينيها بصدمة ..... هذا ما كانت تخشاه !! .... الكلام في الهاتف أسهل جدا ......
همست وعد بارتباك
( لن آتي قبل عدة أشهر ...... أرجوك انهي الآمر الآن و لا تجعلنا نعاني في متاهاتٍ أطول من ذلك .... )
قال سيف بجفاء
( أتبخلين علي بمرةٍ واحدةٍ أرى فيها عينيكِ و هما لا تزالان ملكي ؟!! ........ )
تأوهت وعد دون صوت .... لكنها قالت بعد لحظة بحدة
( إن ظننت انك تستطيع أن تخضعني كما تفعل كل مرة فأنت مخطىء يا سيف ....... )
ضحك سيف بمرارة ... ثم قال بهدوء
( أخضعك يا وعد !! ...... ...... ظننت علاقتنا أفضل من ذلك ! ...... )
أغمضت عينيها و هي تهمس بداخلها
" بالفعل كانت أفضل ... كانت أفضل كثيرا ...... كان تواصل روحينا في تناغم لا يكاد يوصف من روعته "
قال سيف بنبرةٍ أجفلتها بقوة
( لن أطلقك قبل أن أراكِ ......... و بيدك أنتِ أن تطيلي الأمر كما تحبين ..... )
هتفت وعد بيأس
( سيف ما تفعله ليس من المنطق ب............ )
لكنها كانت تخاطب نفسها حين أغلق الخط في وجهها بقوة جعلتها تنظر الى الهاتف بذهول و صدمة !!!
و نفسها تحدثها أنه ...... وافق ...... لقد وافق سيف على طلاقها ..... لكن ليس قبل أن يذلها أولا ....
مد سيف يده بالهاتف الى ملك ..... فالتقطته بصمت , و ما أن رفع وجهه اليها حتى وجد وجهها مغرق بالدموع و شفتيها ترتجفان بشدة ....
ظل سيف ينظر اليها طويلا ...... ثم ابتسم لها بألم دون مرح ..... ابتسامة رجل مجروح ......
ليربت على وجنتها فجأة قائلا
( لا تحزني كل هذا الحزن .............. )
همست ملك برقة من بين دموعها
( ستتطلقان ! ......... أخبرتك أن تتركها تهدأ قليلا فلم تسمع كلامي ...... )
قست ابتسامته قليلا .... لكنه قال بهدوء
( ألم تسمعيني آمرها أن تأتي أولا !! ........... ليس هناك من ينتزع مني ما هو لي ..... لقد فعلها عبد الحميد من قبل , لكنني لن أسمح لأبنته بأن تعيدها ..... )
ظلت ملك تنظر اليه دون فهم ..... لكنه ربت على وجنتها مجددا ليغادر .... بقوة ..... لكن ظهره كان محنى انحناءة رجل هزمت قلبه امرأة ......
.................................................. .................................................. ......................
تمددت ميساء بإغراء على سريرها الفخم المذهب بعظمة ...... تدخن سيجارة من سجائرها الرفيعة الذهبية ...
لا تترك للمخيلة شيء و هي تكشف جسدها كله أمام ناظريه المشغولين بحاسبه أثناء عقده لربطة عنقه أمام المرآة في نفس الوقت ......
كان لا يزال وسيما رغم السنوات المتلاحقة في سرعة الريح .....
نفثت سيجارتها ببطىء و هي تراقبه بتعبير لا معنى له ..... رفعت ساقا فوق أخرى و هي مستلقية على السرير ... الا أنه لم ينظر اليها حتى ولو لنظرةٍ في المرآة أمامه .....
ابتسمت بسخرية و هي تتذكر أن ذلك الرجل يوما كان قادرا على ازهاق روحها بعنف عاطفته .....
كان غرامهما مشتعلا حد الجنون ....
و مهما ارتدت أو لم ترتدي ..... فقد كانت تشعل جنون رغبته باستمرار .....
عادت لتمط شفتيها و هي تنظر الى جمود ملامحه المنحنية الى الحاسب المفتوح فوق طاولة الزينة أمامه ....
تساءلت من باب الفضول فقط ترى اي عشيقة له ستشبع حاجته في سفرته تلك ؟!!!
سمراء .... بيضاء .... حمراء الشعر ....
ضحكت بصوت و هي تتذكر أن بعضهن إن لم يكن معظمهن .... أقل منها جمالا بدرجة مخزية ......
لكنه حتى لم ينتبه الى صوت ضحكتها الساخرة .....
عادت لتنفث دخان سيجارتها بصمت و هي تراقبه دون أن ترفع عينيها عنه ....
ثم مدت يدها تلتقط الكأس الموضوع على الطاولة الصغيرة بجوار السرير .... و رشفت منه رشفة متمهلة ...
ثم تلاعبت بسطحه الذهبي المتألق .... لتقول من فوق حافته بتأمل
( متى ستعود ؟؟ ............ )
تكرم حينها و رفع عينيه اليها في المرآة ...... ثم قال بهدوء وهو يرتدي سترته الثمينة
( شهر على الأكثر .......... )
عادت لتسحب نفسا متمهلا من سيجارته وهي تنظر اليه بسكون ثم قالت برقة و دلال
( هل ستصطحب ... ابنك .... معك ..... )
نظر الي عينيها الساخرتين في المرآة ملاحظا تشديدها على كلمة " ابنك " ..... لكنه عاد ليهتم بعطره الذي ملأ المكان بقوة خانقة قائلا بهدوء
( لا ...... كريم سيظل هنا ..... اطمئني ..... )
ضحكت برقة .... ثم همست بدلال زائف
( يبدو أنها ستكون احدى سفراتك الأكثر انشغالا ...... تلك التي لا تصطحب فيها ابنك الغالي .... )
زفر أكرم بملل وهو ينحني لإغلاق حاسبه بقوة .... ثم قال بجفاء
( ليس الآن يا ميساء من فضلك ..... أمامي رحلة من ست ساعات كاملة ..... فلا تبدأي الآن )
نفثت دخان سيجارتها و هي تستقيم ببطء ليسقط شريط قميص نومها القصير عن كتفها بإغراء دون أن يلقى منه اثارة .... فقالت ضاحكة ببساطة
( لست أنوى البدء بشيء يا أكرم ...... فقط اخبرني , كم امرأة ستعاشر بهذا الشهر ..... اثنتين ؟؟ .... ثلاثة ؟؟؟ ..... )
نظر اليها بقسوة جليدية بينما رفعت حاجبها و هي تتابع مبتسمة بميوعة .... هامسة بلهجة قطة نهمة
( ام واحدة فقط ؟؟ ...... واحدة تشبع كل جوعك لمدة ثلاثين يوما ...... اممممم واحدة متميزة تبدو لي اكثر اثارة ....... )
هدر أكرم بغضب
(؛ يبدو أنكِ مخمورة ........ و أنا ليس لدي الوقت للإستماع لجنونك و غباء سكرك ..... )
التقط حاسبه و حقيبته و اندفع في اتجاه الباب .... الا أن كيانها المحبط ثار فجأة و كرامتها المراقة اشتعلت .... و أنوثتها المهدورة تحت حذائيه الغاليين ثمنا صرخت بهياج .....
فاندفعت تقفز خلفه حتى وصلت اليه ما أن فتح باب غرفة نومهما .... فأمسكت بسترته الثمينة تديره اليها بجنون و هي تصرخ مجلجلة و قد فقدت سيطرتها على روحها المهدورة
( أنا مجنونة !!! ...... أنا مجنونة يا خائن ..... يا حقير ....... يا قذر !!! )
مد أكرم كلتا كفيه ليقبض على يديها المتشبثتين بسترته ينزعهما بغضب مهول وهو يهدر بقوة
( اخرسي ايتها المخمورة البائسة .......... احترمي مقامك كسيدة البيت لمرة واحدة و انظري لنفسك ..... )
ابتعد عنها متجها الى السلم .....لكنها جرت خلف و امسكت بذراعه بأظافرها و هي تصرخ كالمجانين ....
( و هل تعرف الإحترام يا عديم الإحترام ...... هل واتتك الجرأة لتهينني أنا بينما أنت ذاهب لإحدى قاذوراتك المنتظرات في كل مكان !!! ..... )
خرج الخدم من غرفهم على صوت صراخ السيد و السيدة ...... ينظرون برهبة لما يحدث أعلى السلم
بينما قبض اكرم على كتفي ميساء وهو يهزها بعنف صارخا
( توقفي عن تصرفاتك الى تشبه تصرفات بنات الشوارع و احترمي نفسك ...... )
صرخت و هي تضربه بقبضتيها على صدره بجنون ....
( بنات الشوارع هن من تعاشرهن في الفنادق في كل سفرة من سفراتك ايها القذر .. السافل .... الحقير .... )
كان كريم قد خرج من غرفته على صوت تلك المهذلة ليراقب ما يحدث بصمت ....
فرأى والده يرفع يده ليصفع ميساء بكل قوةٍ اسقطتها أرضا بعد أن ترنحت قليلا ...... ثم صرخ بجنون
( اقسم ان لم تحترمي نفسك لأضعكِ في مصحٍ للأبد ........ و حينها سنرتاح جميعا )
استدار بعدها ليهبط السلم مندفعا ..... بينما مكثت ميساء مكانها أرضا تحت انظار الخدم المذهولين و هي تشهق بجنون وتركل الأرض بساقيها و قبضتيها .... صارخة بهذيان ...
حينها تقدم منها كريم ببطىء .... الى أن وصل اليها فجثا بجوارها وأمسك بذراعها ليقول بهدوء
( انهضي يا أمي ........ تعالي معي ..... )
رفعت وجهها المتورم تنظر اليه بجنون ثم صرخت وهي تصفعه بكل قوتها فجأة
( ابتعد عني أيها اللقيط ........... )
تجمدت عينا كريم و تصلبت ملامحه بشكل مخيف وهو يتسمر مكانه بعينين مخيفتين لم تلحظهما .... ثم نظر الى الخدم الأجانب و اللذين على الأرجح لم يفهم أحدهم معنى الكلمة ......
عاد ليلتفت اليها ببطىء شديد ... ثم أمسك بذراعيها بقوة لينهض و يجذبها معه كي تقف وهو يقول بهدوء
( هيا يا ميساء الى غرفتك ....... كفى فضائح )
كانت أضعف من أن تقاومه خاصة و أن الخمر قد فعل مفعوله معها .... فتركته يجرها الى غرفتها ....
دخل كريم الى غرفة ميساء و أكرم .. ثم أسندها حتى أوصلها الى السرير ... فتركها تسقط عليه و هي تشهق باكية بعنف لتستدير على جانبها دافنة وجهها في الوسادة الحريرية لتنفث بها كل هستيريتها ....
بينما وقف كريم مشرفا عليها ..... ينظر اليها بنظراتٍ قاتمة لا تحمل أثرا للعطف .....
لكنه استدار ليمسك بقنينة الخمر الشبه فارغة ينظر اليها .... ثم قال بهدوء
( لقد أسرفت في الشرب الليلة ......... )
لكنها لم ترد عليه و هي تتابع بكائها العنيف .... حينها انحنى ليجلس بجوارها , ثم جذبها اليه بقوة كي تستقيم جالسة ..... قبل أن يضمها الى صدره هامسا بخفوت وهو يتلاعب بشعرها
( شششش ...... كفى بكاءا ...... )
هتفت ميساء دون ان تقاومه بجدية
( ابتعد عني ............ )
لكنه همس وهو يربت على شعرها و ظهرها
( هششششش ........... )
أغمضت ميساء عينيها على صدره و ارتجفت شهقاتها قليلا ..... بينما تحول جسدها الى انتفاضات مؤلمة ..
و كلما زاد ارتجافها كان يزيد من ضمها اليه .......
فغرت ميساء شفتيها بنفسٍ مرتجف و ملامحها تتأوه دون صوت .... بينما كانت قبضتها تنقبض بقوة على حافة قميص نومها القصير ....
رفع كريم وجهه ليقبل جبهتها بقبلةٍ طوية جعلتها تهمس بكلمةٍ غير مسموعة ذاهبة الأنفاس دون أن تفتح عينيها ......
ثم أبعده عنه فجأة بقوة ..... لينظر الى وجهها المتورم و عينيها المصدومتين وهو يقول مبتسما
( الآن أنتِ أفضل ......... )
اخفضت ميساء عينيها و هي تلهث قليلا بعذاب ..... تبتلع ريقها بتشج ..... ثم قالت بصوتٍ ميت
( أين رائف ؟؟ ........... أريده ..... )
ابتسم كريم دون مرح وهو يستقيم واقفا ليقول ببساطة
( لم يأتِ بعد ......... للأسف حظك أنني أنا الموجود .....نامي الآن ... )
ثم تركها ليخرج مختالا بجسده الشاب مفتول العضلات .... سامحا لها بتأمل ظهره بحرية ..... قبل أن يغلق الباب بقوة جعلتها تنتفض في مكانها .... ظلت تنظر الي الباب المغلق طويلا و هي تلهث بتعب لترفع يديها الى رأسها فجأة صارخة و هي تغمض عينيها بقوة
( يالهي انقذنيييييي ............... )
.................................................. .................................................. .....................
دخل رائف الى مكتبة عاطف بهدوء ..... ثم ابتسم وهو يراه جالسا مكانه ينظر من النافذة بصمت .... فقال بصوتٍ هادىء
( علمت أنني سأجدك مستيقظا حتى الآن ......... )
نظر اليه عاطف مبتسما .... ثم قال بخفوت
( الوحدة سلاح قاتل موجه للنوم .........حينها يتقلب الفكر في كل الطرقات الغير مرغوب بها .... )
اقترب منه رائف مبتسما ليسحب كرسيا و يجلس أمامه ثم قال
( آآآآه ........ الكلام موجه بلومٍ لي شخصيا )
قال عاطف عابسا
( اسكت يا ولد و كفاك دور جليسة الأطفال ذاك ........ أحيانا وجودك يخنقنى من كثرته )
ضحك رائف وهو يميل قليلا ليعدل من وضع صورة " رؤى " ... ثم نظر الي عاطف ليقول بخفوت
( ما رأيك بدور شطرنج قبل النوم ......... )
عبس عاطف ليقول بجفاء
( لا .............. الدور معها لم ينتهي بعد )
اظلمت ملامح رائف ليسأل على الرغم من معرفته بالجواب مسبقا
( الدور مع من ؟؟ .......... )
نظر اليه عاطف رافعا حاجبيه ليقول باستهزاء
( العجب أنك فاشل في الكذب فشل السمكة للطيران .... و مع ذلك لا تيأس من المحاولة منذ أن كنت طفلا صغيرا )
تنهد رائف بغضب وهو يميل ليستند بمرفقه الى ركبته دون رد ...... فقال عاطف متأملا
( لقد غزت بعض الشعيرات الفضية رأسك يا ولد ........ )
رفع رائف وجهه الى عاطف ينظر اليه بصمت ثم قال بفتور
( و لما لا ؟؟ ....... العمر يمر سريعا ... )
نظر رائف الى صورة رؤى تلقائيا و شرد بها .... فلاحق عاطف نظرته بحزن .....ثم قال بابتهاج زائف و بلهجته المعروفة
( لما لا تأتني بها يا ولد ........ ذلك الفتى النذل عاد لطبيعته أخيرا الحمد لله .... لم أصدق كرمه و إهتمامه للحظةٍ واحدة ... )
عقد رائف حاجبيه وهو يهز رأسه قليلا ليجلي أفكاره ثم قال
( لحظة لحظة ....... آتيك بمن ؟؟ .... و من هو النذل ؟؟!! ..... )
تأفف عاطف بصوتٍ عالٍ ثم قال بنفاذ صبر
( النذل هو ابن ميساء و من غيره ....... لقد انتهت مسرحية كرمه أخيرا و توقفت باقاته ....و التي لم أعرف هدفها حتى الآن ....... )
ضغط رائف شفتيه بقوة .... ثم تنهد دون صوت بينما سأله عاطف بهدوء يتأمله مليا
( لم تسألني بمن ستأتيني ؟؟ ........... )
رفع رائف عينيه باستسلام اليه ثم قال بهدوء
( بمن سآتيك ؟؟ ........ )
هز عاطف رأسه يأسا ..... ثم قال ببساطة
( فتاة الورد ........ لن نتمكن أنا و أنت من لعب الشطرنج مجددا إن لم أنهي دوري معها .... )
أظلمت عينا رائف .... لكنه تدبر هدوء ملامحه ليقول بهدوء
( الباقات انتهى طلبها يا خالي ....... فبأي حجةٍ سآتي اليك ...... بفتاة الورد !! .... )
لوح عاطف بكفه بقوة وهو يهتف
( لا اهتم بالحجة ......... فقد تعال بها الى هنا ..... اذهب و احضر وردا لأي مناسبةٍ لهذا البيت الكئيب الذي تخلو منه المناسبات و لا يأتيه الورد الا كواجب لرجلٍ مريضٍ مثلي ....... )
نظر اليه رائف بصمتٍ قليلا .... ثم قال أخيرا
(اذن فقد اشتريت جمالها و بعتني ....... شكرا يا خالي , كان هذا هو العشم ..... )
هتف عاطف بنفاذ صبر
(انظر الى نفسك و انظر اليها ... ثم ضع نفسك مكاني .... من منكما ستختار لتلعب معه ..... )
ضحك رائف قليلا .... لكنه همس دون تفكير
( ذات الضفيرة طبعا .............. )
لم يلحظ انه دعاها بلقبٍ آخر ......لكن خاله لاحظ جيدا .... فقال بخفوت
( و الآن اذهب من هنا و اتركني وحدي ...... لكن لا تنسى أن تحضرها لي غدا .... )
نهض رائف من مكانه وهو يقول بخففوت ( تصبح على خير ...... )
لكن عاطف ناداه قبل أن يخرج و قال
( لقد سافر زوج اختك اليوم ........ و ودعته بفضيحةٍ كالمعتاد ...... اهتم بأختك في غياب زوجها و لا تتركها بمفردها يا رائف ........ )
عقد رائف حاجبيه قليلا و القلق يغمره ..... لكنه قال بجفاء
( تصبح عل خير يا خالي ............. )
خرج رائف من المكتبة وعيناه تتطلعان لأعلى بشرود حيث يقبع جناح ميساء ... و كريم ....
ثم توقف مفكرا .... ربما آن الأوان لكي يتزوج الصغير , خير حل له
ابنة احد اصحاب المصالح الكبرى ستكون كماسةٍ نفيسة في عيني أكرم و لن يستطيع كريم الرفض
بدلا من جرحه و طلب الرحيل منه كالمرة السابقة .....
اتجه رائف الى جناحه بعزم ..... لا يقلقه سوى أنه مضطرا الى الإنتظار شهرا ...... حتى يعود أكرم .....
" فتاة الورد ...... "
أوقفه اللفظ قليلا وهو يتردد بداخل رأسه ...... أيحضرها .... أم يبعدها ...... ولماذا يهتم أصلا ......
تأفف بصوتٍ عالٍ ثم صعد الى غرفته كل درجتين معا ...... ابعادها افضل ......
.................................................. .................................................. ......................
وقفت ملك مكانها تنسق بضع وردات بهدوء .... بينما داخلها ابعد ما يكون عن الهدوء .....
بعد ثلاث ايام ...... فقط ثلاث أيام .....
سيتزوجا .......
ابتسمت بارتجاف و هي تتذكر وجه شادي وعيناه المشعتان وهو يتفق معها على الموعد .......
فأغمضت عينيها بترقب ...... ثلاث أيام فقط و بعدها سيأخذها الي بيته كي يضعهم أمام الأمر الواقع
فإما أن يطردوهما ..... و إما أن يتقبلوهما .... و هي ستكون معه في كل الأحوال
و كان هذا هو شرطها الوحيد على القبول بالزواج .....
لن يتم الزواج بينهما فعليا الا بعد اعلام أهله .....و قبل شادي بعد أن علم أنها لن تتزوجه الا وفقا لهذا الشرط
حتى لو اضطرا للإنتظار أشهر ..... لن تسمح له بأن يكون زوجها فعليا الا بمعرفة الجميع
المهم أن يكون لديهما عقد زواج كي يضغطان به على عائلة القاضي ....
رفعت ملك يدها الى صدرها الخافق و همست
( يا رب ....... يا رب اجعله قرارا صائبا ......)
سمعت صوتا رجوليا من خلفها يقول بهدوء
(حكمي عقلك جيدا ............. )
استدارت شاهقة و يدها لا تزال على صدرها لتجد نفسها أمام المدعو رائف ..... خال شادي ... بل خال كريم .... بهيئته الرجولية الضخمة البنيان ... ينظر اليها بصمت واضعا يديهفي جيبي بنطاله
حتى أنها شكت في أنه تكلم من الأساس
ارتجفت ملك أكثر و أخذت تعصر تفكيرها لتتذكر ان كانت قد همست باسم كريم أو عائلة القاضي أو أي مما يخص أمر زواجها المقبل ......
ثم همست اخيرا بقلق و توتر
( ماذا تفعل هنا سيد رائف ؟؟ ........ هل جئت كي تحدد مجال عملي هنا أيضا ؟؟ ..... )
ظل ينظر اليها واقفة بين الورود ..... ثم قال أخيرا بهدوء
( بل جئت ببساطة طالبا لباقة ورد ........ )
أسرعت ملك بالقول
( لا أصدقك ........... )
رفع رائف حاجبيه ليقول باهتمام
( على الأقل أنتِ صادقة .............. )
قالت ملك بقوة
( لا شيء يدفعني لألا أكون صادقة ........ )
قال رائف بملامح جامدة
( هل أنتِ متأكدة من ذلك ؟؟ ............... )
هتفت ملك بقوة
( سيد رائف من فضلك هذا محل عمل ....... أخرج من هنا , أنا لست مجبرة على سماع اهاناتك )
كانت عيناها تبرقان بغضب و شجاعة و هي تواجهه ..... فتألقت عيناه اعجابا لحظة خاطفة وهو يتأمل البريق القوي في عينيها العسليتين .....لكن لم يبث بريق عينيه أن خبا قبل أن يقول بهدوء
( لست هنا لإهانتك ........أنا هنا لطلب باقة ورد كي تأتين بها بنفسك ...... صدقي أو لا ...... )
قالت مجددا بقوة
( لا أصدقك ............ )
لكن رائف لم يهتز وهو ينظر اليها بثبات .... ثم قال بهدوء
( باختصار ....... هناك لعبة يجب أن تنهيها ....... )
عقدت حاجبيها و أوشكت على الهتاف غضبا كي توقفه عند حده .... الا أنه رفع يده يوقفها بإشارة منه قبل أن تتهور كسيدٍ آمر .....
فأغلقت فمها تنظر اليه وهي ترتجف قليلا من القلق ليتابع هو بهدوء
( خالي يريدك أن تكملي معه دور الشطرنج ......... )
اتسعت عيناها بدهشة حقيقية ....... لم يكن ذلك ما توقعت سماعه مطلقا .....
ظلت على صمتها ..... و لم يبد على عجلةٍ من أمره وهو يتأمل أفكارها المتعاقبة على وجهها ..... الى أن قالت أخيرا بخفوت
( لقد أمرتني بالإبتعاد المرة السابقة ........ )
هز كتفيه دون اهتمام ..... ثم قال
( و لازلت آمل في ابتعادك ..... لكن خالي هو من طلبك بالإسم ...... )
ارتبكت قليلا و هي تنظر الي عينيه الجامدتين و فكه الصلب .... بدا و كأنه تمثالٍ ضخم قد من حجر ....
همست ملك بخفوت
( لكنها ليست ظيفتي سيد رائف ........... )
قال بجفاء
( اذن لماذا بدأت اللعبة طالما أن لا نية لديكِ في إنهائها ؟؟ ........)
ارتبكت أكثر و هي لا تصدق أنها تقف في موقف اتهام ... في موضوعٍ تافه كهذا
لكنها شعرت بتأنيب الضمير و هي تصف اللعب بينها و بين عاطف بموضوعٍ تافه ..... لقد كان بالفعل وقتا مميزا لها كما كان مميزا له .....
أطرقت ملك برأسها قليلا ....ثم همست
( لن أتمكن من الحضور ....... قبل ثلاث أيام ...... )
نظر الى رأسها المحنى و ضفيرتها المستريحة على الحاجز الرخامي أمامها .... ثم قال أخيرا بخفوت
( فليكن اذن ....... بعد ثلاث أيام ....... )
خرج بعدها دون اضافة كلمة أخرى و كأنه انتهى لتوه من واجب ثقيل ..... بينما وقفت ملك مكانها تشع بانقباض في صدرها بعد أن كانت مترقبة انقضاء الثلاث أيام ...
.................................................. .................................................. ...................
بعد ثلاث أيام ....
نظرت ملك الى شادي أمامها الذي كان يبدو كمن استرد روحه ..... لقد عقدا قرانهما للتو ....
في مكتب مأذون شرعي ...و كما وعدها فانه تزوجها ببطاقة بدل فاقد باسمه الحقيقي .... و صورة من شهادة ميلاده المستخرجة من الدار ....
رفع كريم وجهه اليها ليهمس بذهول
( مبارك يا مليكة .......... )
ضحكت بخجل و هي تطرق برأسها ثم همست
( بارك الله بك ........... )
كان ينظر اليها مذهولا ..... لا يصدق هذا الجمال الخيالي .....و هي ترتدي فستان وردي حريري
و شعرها مزين في ضفيرة متشابكة كالسنبلة على كتفها .... تزينها ورود وردية و صفراء ...
" لقد أصبحت مليكة ملكه ..... مليكته .... "
برقت عيناه بنشوة جامحة و العبارة تقتص من جسده الثائر ......
كل أيام الدار طافت بذهنه في تلك اللحظة .... كل ذكرياتهما معا ...... كل قبلات طفولتهما .... و جنونه الغير مفسر بها
و ها هي قد استوت أمامه أميرة ..... مليكة .....
لقد ملك الماضي و الحاضر و المستقبل ......شعر في تلك اللحظة بجنون عظمة كاد أن يودي بعقله
فمد يده اليها وهو يتنفس بعوبة ...... ابتسمت ملك بجمال لا يوصف و هي تمد يدها لتضعها في يده الممدودة ....
ثم خرجا معا ...... جلست ملك بجواره في احدى سياراته .... و نظرت اليه بقلق لتقول
( هل سنذهب اليهم الآن ؟؟ ......... )
لم يرد كريم على الفور .... بل ظل ينظر أمامه بوجه غامض الملامح .... فهمست بقلق
( شادي !!! ............ )
نظر الى عينيها .... ثم ابتسم بعمق , ليقول بخفوت
( سنذهب ....... لكن ليس قبل أن أقبلك )
احمر وجهها بشدة و قالت بتوتر بينما قلبها يخفق بعنف
( شادي لقد عقدنا اتفاقا!!! ............ )
ضحك كريم عاليا ...... ثم قال بعبث و عيناه تبرقان بجنون
( اتفقنا على أن نؤجل فعلية زواجنا ...... فهل هذا ما تظنينه يحدث بعد الزفاف ... مجرد قبلة قد تحملين منها ؟!!! )
هتفت ملك بغضب و قد احمر وجهها حتى اصبح بلون الطماطم
(شادي ....... اخرس و احترم نفسك )
نظر اليها بجموح يلتهمها بنظراته غازيا كل اسرار جسدها البريء ..... ثم قال بلهجةٍ أخافتها قليلا
( لم يعد هناك مجال للإحترام بيننا يا ملك ...... سنفذ اتفاقنا , لكنني سأقبلك كيفما أشاء و لا سأنفجر .... )
ارتبكت ملك و هي تطرق برأسها و تفرك أصابعها بتوتر
أن تمنعه من التقبيل بعد زواجهما ...... فهذا أمر مخالف للعقل و المنطق .....
لذا ظلت صامتة طويلا ...... فانطلق كريم بسيارته بجنون محدثا صريرا عاليا .....
ملامح وجهه ثائرة بالرغبة ....... و عضلات صدره و ذراعيه متشنجة في قيادة متهورة .... عائدا الى غرفتها
.................................................. .................................................. ...............
فتح كريم باب غرفتها ثم دعاها للدخول أولا ..... فسبقته للدخول بتوتر بعد أن تسللا جريا على السلالم وهما يضحكان بجنون و بصمت دون أن يلحظهما احد
و ما أن أغلق الباب خلفهما .....
حتى استدار اليها في ضوء المغيب القاتم و المنبعث من ستائرها البرتقالية ....
كانت خلابة بين الألوان الحمراء و البرتقالية و الوردية .... و شعاع المغيب يحيط بها فيجعلها داكنه .... غامضة .....
فهمس كريم بذهول
( أخيرا يا مليكة !!! ....... )
ابتلعت ملك ريقها بخوف مفاجىء و هي ترى جوعا غير مروض مرتسما بوضوح فوق ملامحه
همس كريم بقساوة ملتهبة
( تعالي الي مليكة ........ أرجوك )
اقتربت منه ملك بتعثر في حرير فستانها الوردي ...... حتى وقفت أمامه مطرقة برأسها و قلبها يكاد يتوقف من شدة جنونه
ثم همست بخجل قاتل
( قبلة واحدة يا شادي .,............. )
جذبها من خصرها اليه بيدين ترتجفان لملمس جسدها الغض تحت القماش الحريري
ثم اقترب منها ليلامس عنقها بأنفه مغمضا عينيه ....... فهمست ملك بخوف مجددا
( قبلة واحدة يا شادي .......... )
الا أنه فتح عينيه فجأة بشراسة ليهجم على شفتيها بجنون جعلها تشهق صارخة بين انفاسه الكاتمة لها
حاولت ملك التلوي بين ذراعيه .... لكن قوته كانت عنيفة بدرجة لم تتخيلها من قبل .....
أغمضت عينيها و سكنت ربما يقبلها ثم يتركها كما وعدها ...... لكن قبلاته ازدادت بجنون و يديه طافتا على جسدها كالمحموم ......
حينها تحول خوفها الى هلع و هي تهتف متجنبة فمه قدر الإمكان
( كفى ........ كفى يا شادي لا أريد ...... )
الا أنه كان كمن أفلتت كل أحصنته الجامحة .... فهمس بذهنٍ غير واعي وهو ينهل من فمها و عنقها و وجنتيها
( كفى!!! ...... لن اكتفي منك العمر كله يا مليكة )
كان رعب ملك قد وصل لأقصى حدوده وهي تصرخ دون جدوى أن يسمعها أحد خاصة و أن صراخها كان مكتوما بفمه الهمجي
فجأة انحنى كريم ليحملها بين ذراعيه .... فاتسعت عيناها رعبا و هي تصرخ
( ماذا تفعل ...... شادي ماذا تفعل ..... اتركني ...... رد علي لا تصمت هكذا ..... أنت ترعبني )
رماها دون كلام فوق سريرها و جثا فوقها بملامح مرعبة هائجة .... بينما كانت هي تتلوى صارخة
( ابتعد عني يا شادي ...... لا أريد ...... ابتعد عني ...... )
لكنها كانت كمن تصرخ بمجنون هائج .... رفع يديها فوق رأسها بقبضةٍ واحدة بينما هبط برأسه اليها لينهل من كل مكانٍ بجسدها بقوةٍ آلمتها ....
و سرعان ما سمعت صوت تمزق فستانها الحريري مختلطا بصوت صراخها ....
أم هو فقد تحول الى فاقد السمع لصراخها ..... أعمى عن كل شيء الا جسدها الغض و الذي كشفه كله بحيوانية مجنونة ..... فاقدا الإحساس بالعالم من حوله , الا الرغبة في امتلاكها ....
و استمرت حرب الرعب بينهما .... الى أن صرخت فجأة بشدة .... لتفقد الوعي بعدها بعقلٍ تمنى الموت قبل جسدها الممزق