رواية بعينيك وعد الفصل الرابع 4 بقلم تميمه نبيل
رواية بعينيك وعد الفصل الرابع 4 هى رواية من اجمل الروايات الرومانسية السعودية رواية بعينيك وعد الفصل الرابع 4 صدر لاول مرة على موقع التواصل الاجتماعى فيسبوك رواية بعينيك وعد الفصل الرابع 4 حقق تفاعل كبير على الفيسبوك لذلك سنعرض لكم رواية بعينيك وعد الفصل الرابع 4
رواية بعينيك وعد الفصل الرابع 4
أغمضت عينيها و ابتسامة حزينة ترتسم على شفتيها
كانت لأصابعه فعل المخدر الساري في أوردتها .... اصابعه الدافئة بشكلٍ غريب و هي تدلك خصلات شعرها واصلة الى بشرة رأسها ... متلمسة اذنيها الصغيرتين بين الحين و الآخر ....
تضم ركبتيها الى صدرها و هي مستندة بظهرها الى صدره ....حيث يجلس خلفها أرضا ... و كأن الأرض ملكهما باتساعها .....
كانت تحيا الحلم كاملا حتى يعلن عن قدوم الصباح منتهيا ....
لكن على ما يبدو انه هو من انتهى اولا ... حيث شعرت بقوتين تجذبانها من خلف اذنيها .. ففتحت عينيها و هي تسمعه يقول بصوتٍ اجشٍ مبتسم جاذبا ضفيرتين صغيرتين من شعرها
( ها قد انتهيت ...... و اصبح لك ضفيرتين صغيرتين تشبهانك )
رفعت يديها خلف رأسها تتلمس يديه الممسكتين بالضفيرتين .... فسرى تيار دافيء بجسدها كله ,
و تركته يقبض على يديها اللتين امسكتا بالضفيرتين وهو يميل اليها هامسا في اذنها
( لشعرك ألوان الرمال ..... بدئا من جذوره متدرجا حتى نهايته )
ارتجفت من قربه .و رمشت بعينيها عدة مرات فهمست بفتور
( انها بقايا صبغاتٍ متنوعة ........... )
سمعت صوت ضحكة خافتة أجشة منه تهدر كنسيم دافىء داخل تجويف أذنها ثم همس
( لن يقلل لسانك اللاذع من اعجابي به الآن .......... حتى أكثر من اعجابي في المرة الأولى )
ارتفع حاجبيها و هي تقول بحيرة
( المرة الأولى !!! ........... )
أومأ وهو يحيط بذراعيها ... ثم همس بصوتٍ رقيق رغم خشونته
( نعم ...... حين رأيتك في المرة الأولى ... )
عقدت حاجبيها و هي تهمس
( حين صفعتني !! .............. )
عقد حاجبيه هو الآخر .... و ظهر الإحساس بالذنب في عينيه جليا .. ثم قال بهدوء
( ألن أستطيع في جعلك تنسين تلك الذكرى ؟!! .......... )
ابتسمت رغما عنها ... ثم قالت بخبث
( لا بأس ....... لن أكرر مرة أخرى أن أصابعي قد تركت علامتها على وجنتك ... )
شعرت بصدره يضرب ظهرها بغضب فضحكت قليلا ... ثم قالت برقة
( أنت من ذكرت الموقف البائس مجددا ...... فلا تتذمر الآن )
شعرت به يتأفف بحنق .... لكنه لم يلبث أن قال بخفوت
( اخرسي قليلا و دعيني أكمل ما شعرت به لحظة رأيتك للمرة الأولى ........ )
ارتجفت ابتسامتها قليلا .... لكنها قالت برهبة
( ماذا !! ............... ماذا شعرت ؟!! ....... )
ضمها اليه أكثر ... ثم همس لها بهدوء جعلها تميل برأسها مع رأسه و هي تنظر أمامها و كأنها تتذكر ذلك اليوم بوضوح
( حين رأيت تلك الشقراء الأجنبية الصغيرة القامة تدخل من باب الفندق ..... أنيقة ... جذابة بدرجة مهلكة للقلب .... تقذف بلفائف شعرها يمينا و يسارا و هي لا تلقي بالا بالدنيا من حولها ....
و كأن الناس أقل منها شأنا ..... تتلفت باستعلاء هنا و هناك .. و هي تطرق الأرض الملساء بكعبي حذائيها تباهيا و خيلاء ..... حينها .... )
صمت عن عمد .... فهمست بانبهار تترجاه الا يصمت
( حينها ؟!!! ............. )
قال بكل هدوء غافلا عن الطوفان الذي كان يثيره بداخلها
( حينها قررت في لحظةٍ واحدة أن أعرفها حق المعرفة قبل ان تنتهي رحلتها ...... متجاهلا كل رفضي السابق لهذا النوع من التعارف الرخيص .... لكن ..... شيئا ما بها جذبني أكثر من أن أستطيع مقاومته ... عليائها ... نظرتها لمن حولها ..... و التى تخفي بداخل غرورها توتر كان مجهولا لي وقتها ..... )
كانت عينا شيراز تتسعان مع كلماته الصادمة .... بينما تابع هو بنفور مفاجىء
( الى أن حدث ما حدث ......... )
امتقع وجه شيراز و بهتت ملامحها و هي تطرق برأسها قليلا هامسة باعتراف واجم هامس
( نعم ............ )
مال رأسه اليها و شعرت بأنفاسه الساخنة تداعب بشرة رأسها الظاهرة من فرق الضفيرتين فارتجفت و هي تشعر بشعيراتها الشقراء الدقيقة تتصلب واقفة تحت تأثير نفسه الملتهب
بينما تابع هو بخفوت أجش
( انقلبت كل قراراتي و أنا أرى بكِ نموذجا كرهته بشدة ..... نموذجا مستعرضا بتمثيل رخيص )
أغمضت عينيها و هي تطرق برأسها أكثر .... و مال هو اليها كذلك ليهمس عند مؤخرة عنقها
( لكن يوما بعد يوم ..... وجدت أن الإستعراض ما هو الا دفاع عن كيان طفلة مرتعبة .... طفلة تعرضت للكثير .... طفلة ترفض مساعدتي ..... طفلة سمحت لي بتخطي كل الحواجز , ... ثم هربت قبل رافضة أن أتخطى الحاجز الأخير ...... حينها ..... )
همست بإختناق مجددا دون أن ترفع رأسها
( حينها ؟!! .............. )
ابتسم برقة و هو ينظر بافتتان الى فرق ضفيرتيها الذهبيتين ... ثم همس مجددا
( حينها انقلبت قراراتي مجددا ...... أو بمعنى أصح اعتدلت قراراتي من انقلابها و قررت أن أقتحم أسوار طفلتي قبل أن تهرب مجددا ...... )
صمت قليلا ثم قال ببساطة
( و هنا قررت أن ألحق بكِ .... كي أعيد الأمور الى نصابها الصحيح )
همست دون أن ترغب في ذلك
( ياللهي !! .............. )
فجأة شعرت من أنفاسه برأسه تنخفض أكثر حتى قبّل الفرق بين ضفيرتيها في مؤخرة رأسها بشفتيه الدافئتين ....
شهقت شيراز بهلع و انتفضت قافزة على قدميها بينما بقى هو جالسا أرضا ينظر اليها ضاحكا
فصرخت بغضب
( توقف عن تلك التصرفات .......... توقف عن الضحك أيها الأحمق )
الا أن ضحكه زاد و علا صوته فصرخت وهي تمد اصبعها في اتجاه الباب
( اخرج من هنا حالا ........... هيا )
الا أنه نظر اليها ببساطة وهو يرفع ركبته و يستند بذراعه اليها قائلا بتكاسل
( انها رابع مرة تقريبا و التي تطرديني بها ...... دون أن تتخذي فعلا جديا حيال الأمر )
صرخت و هي تضرب الأرض بقدمها
( كم أنت سميك الجلد مثل ثور عنيد ...... أخرج من هنا ....... )
ابتسم قائلا
( تعالي و اطرديني بنفسك ....... هيا ..... )
نظرت اليه برهبةٍ نوعا ما ... و هو يتمدد على أرض شقتها غير مباليا , ... ناظرا اليه بتحدي و كأن البيت بيته !! ....
أخفضت شيراز وجهها و هي تستدير بعيدا عنه .... ثم اتجهت الى مرآةٍ مذهبة معلقة على الحائط لتنظر الى نفسها ...
فانحنت عيناها و شفتاها بابتسامةٍ جميلة حزينة و هي ترى نفسها مرتدية عباءة منزلة فضفاضة مطرزة ...
و شعرها قد استقر في ضفيرتين جميلتين تصلان الى كتفيها ... بينما ترك خصلة شريدة ترتاح فوق وجنتها بنعومة .... لتكمل من منظرها الرقيق و الذي لم تعتاده
لم تشعر به ينهض دون صوت ... حتى وصل اليها ووقف خلفها ... فالتقت أعينهما في المرآة ....
لم تدري ان كان هو من همس باسمها ام هي من همست باسمه ....
لكنها شعرت بذراعيه تلتفان من حولها ليضمها الى صدره مجددا فأخفضت رأسها و هي تتأوه بصمت ...
ثم لم تلبث أن همست بخفوت ضائع
( وجودك هنا خطأ يا وليد ..... يجب أن تغادر الآن )
شدد عليها الى صدره و همس في اذنها بصوته الأجش
( هذه المرة الخامسة ...... لكنها تعجبني أكثر )
ابتلعت ريقها ثم رفعت وجهها تواجه عينيه في المرآة مجددا ثم قالت بعصبية رغم نبضات قلبها القالصف بعنف
( أنا أسكن هنا بمفردي و سرعان ما سيعرف الجميع أنني استضفت رجلا غريب ...... و حينها سيجعلون حياتي جحيما أكثر مما كانو قبلا ..... )
لم يرد لفترة ... بل كان ينظر الى عينيها الخائفتين , يكاد ينفذ الى داخلها معريا روحها الهشة .... لكنه حين تكلم قال أخيرا بصوتٍ أجش خافت لكن قوى
( و هل يهمك رأي الناس كثيرا !! .......... )
شردت عيناها قليلا ... و تاهت عنه و هي تفكر
" منذ متى اهتمت برأي الناس !! ..... و تحديدا سكان هذا الxxxx !! ..... ففي زواجيها الأخيرين كانت تبتعد لفترات طويلة دون أن يعلم أحدهم عنها شيئا .... لتعود رافعة رأسها تنظر الى احتقارهم الواضح بازدراء ..... حتى في عطلتها الأخيرة .... سافرت و عادت أمامهم دون ان تهتم لهم .......
فلماذا تهتم الآن بما سيظنوه بوليد .... بالرغم من أنهم من المؤكد قد رسموا لها سابقا عشراتٍ من التخيلات المنحلة ........ "
ظلت صامتة شاردة .... و هي تفكر في السبب الذي يجعلها تهتم الآن !!!
ربما لأنها لا تخشى الناس بقدر خوفها من نفسها هي !!
لأول مرة تشعر بأنها قد تخطىء ..... لأول مرة تشعر بأنها قد تنزلق لخطيئة لم ترتكبها قبلا .....
فهي لم تكن لرجلٍ بدون زواج من قبل ..... و لم تشعر يوما بأنها عرضة للإنزلاق ....
أما الآن مع وليد !! ...... تشعر بمشاعر غريبة .... مشاعر لم تعرفها قبلا ..... مشاعر كانت تظن بأنها كبرت و تخطت السن الذي تشعر فيه الأنثى بتلك المشاعر تجاه رجل ...
بل على العكس ... كانت تشعر بالنفور من كل رجل يقترب منها .... لذا لم تكن عرضة للإنزلاق ابدا
لذا بالتالي لم تهتم لذرة بنظرة الناس لها .....
فيكفيها أنها كانت تعلم بأنها من المستحيل أن تزل الى الخطأ بدافع حقير كالمشاعر .... و انما الزواج هو الثمن العادل لكي تمنح نفسها لرجل و تقبض الثمن ... و تلك كانت أفضل حلولها في الحياة ....
ازاء تلك الأفكار رفعت وجهها تنظر اليه بفتور ... ثم قالت بصوتٍ ميت
( نعم يا وليد ......أنا ... يهمني رأي الناس .... )
ابتسم ببطىء ..... وهو ينظر الي عينيها المتوترتين , ثم اقترب منها خطوة ليقول بهدوء
( اذن مارأيك أن نخرس الألسنة ؟؟ .......... )
عقدت حاجبيها و ابتعدت خطوة و هي تقول بحيرة معقدة خائفة
( ماذا تقصد ؟!! ................. )
اقترب منها الخطوة التي ابتعدتها ... ثم قال ببساطة أذهلتها
( نتزوج ................. )
شهقت شيراز عاليا و هي ترفع يدها الى صدرها ... تنظر اليه بعينين ذاهلتين و شفتين فاغرتين .. لتهمس بغباء امام عينيه المتسليتين الحانيتين
( ماذا ؟؟!!! ........ ماذا قلت ؟؟ ...... )
اقترب منها خطوة أخرى ليمسك بوجهها بين كفيه يرفعه اليه .... ثم أعاد مشددا على كل حرف مبتسما
( ن .... ت ... ز .... وج ....... )
انتفضت من بين يديه و هي تدور حول نفسها لتنظر اليه بجنون ...... ما بين ذهول و صاعقة .... ما بين غضب مهول و ........ و رعشة أمل .....
لكنها لم تلبث ان قتلت تلك الرعشة لتقول بقسوة
( هل تعبث بي ؟!! ........ هل هذه مزاحه قذرة من مزحاتك السمجة ؟!! ...... أحب أن أخبرك بأن ثقل ظلك و سخافة مزاحك قد فاقا كل الحدود ..... احترم طولك و عرضك .... و قبلهما احترم سنك .... و الأهم قبل كل هذا احترم نفسك ...... و الآن أخرج من هنا )
كان ينظر اليها بذهول رافعا احدى حاجبيه .... الى أن انتهت تماما , فأدخل اصبعه في اذنه يرجها قليلا وهو يهمس بتقزز
( ياللهي !!! ....... الحياة معك ستكون كارثية )
ثم لم يلبث أن وضع يديه على وركيه مطرقا برأسه مفكرا ...... و كأنه يتخذ قرارا هاما ...
الى أن قال أخيرا دون أن يرفع رأسه اليها
( لست متعجبا ردة فعلك يا بشرى ...... ربما فاجئتك قليلا ..... أو لنقل أنني صدمتك ..... )
صمت قليلا ثم رفع رأسه ينظر اليها .... ليقول بعدها بجدية
( لكن رغم كل ذلك ....... لم يكن هذا هو الرد الذي توقعته منكِ .... على الأقل توقعت ابتسامة .... )
صمت ليقترب منها قائلا بصوتٍ اكثر خفوتا
( همسة ............ )
صمت مجددا يقترب منها ليهمس مبتسما بصوتٍ مبحوح متابعا
( لمسة .......... )
كان الذهول مرتسما على وجهها المرفوع اليه و هو يتابع بنفس الإبتسامة المشتعلة
( صيحة فرح ... ثم تقفزين بجنون كي تتعلقين بعنقي كالأفلام .... )
صمت ينظر الى ذهولها مبتسما ثم قال بسعادة
( لطالما تمنيت أن أعيش موقفا مماثلا كالأفلام ......... لذا هيا ... فاجئيني ... )
فتح ذراعيه على امتدادهما .... مبتسما .... منتظرا .....
الا أنها صرخت وهي تضرب صدره فجأة بقبضتيها و بكل قوتها
( من أين ظهرت لي فجأة !!....... من أين ظهرت لي بحياتي فجأة !!....... هل أنت عمل مشعوذ بائس ربطه في قدم نملة ..... أم أنك لعنة تسلطت فوق عنقي ....كنت مرتاحة البال من قبلك ..... كنت راضة بحياتي قبل أن اعرفك ........ )
أمسك بقبضتيها بكل قوته يهزها قليلا كي تهدأ ... ناظرا اليها بصرامة ... ثم لم يلبث أن هتف بصوتٍ زلزل أعماقها
( لا ..... لم تكوني مرتاحة البال .... و لم تكوني راضية بحياتك .... و هذه هي وظيفتي في الأيام المقبلة ... أن أجعلك راضية عن حياتك ..... لكن قبلا هناك طلب بسيط .... بما أني سأصبح زوجك , فتعلمي رجاءا حفظ يديك و لسانك كي لا أقطهم لكِ ....... )
هتفت صارخة بغضب و جنون و هي تتلوى منه بينما هو يمسك بقبضتيها مرفوعتين و كأنما يمسك بأرنب يحاول الفرار جاهدا
( كفى ..... كفى ..... كفاك جنونا ..... اي زواج هذا اللذي تتحدث عنه ؟!! ..... هل تعرفني ؟؟ ..... هل تعرف اي شيء عني ؟؟ ....... عن اهلي .... اخلاقي .... هل سألت عني كما يفعل من يريد الزواج جديا بفتاة ؟!! .......)
ابتسم فجأة أجمل ابتساماته .... فضاع قلبها ... و رفت عيناها ....
ثم قال بخفوت دون أن يتخلى عن قبضة الأرنب المقبوض عليه .....
( أعرف ما أخبرتني به ......... أعرف ما عرفته عنك يوما بعد يوم خلال الأشهر الطويلة الماضية .... أعرف أنكِ بداخلي تتأقلمين و تجهزين لنفسك مكانا منذ مدة كافية ........ الا يكفي ذلك !! .... )
هزت رأسها نفيا بجنون و هي تصرخ
( لا ..... لا ..... ليس كافيا أبدا ........ من أدراك أنني لا أكذب عليك ؟!! ...... هل أنت حقا بمثل تلك البراءة ؟!! ....... أو السذاجة !! ...... )
اختفت ابتسامة الهزل عن شفتيه , ثم ترك يديها لكن لا ليحررها .... بل ليجذبها اليه بقوة معتقلا خصرها المتلوي .... ثم قال بخشونة
( هل تظنين أن بإمكانك أن تثيرين في النفور بكلامك هذا !!! ..... ربما سأهذبك عليه لاحقا ...لكنه لن ينجح في ابعادي عنكِ ....... مهما كان ما لم أعرفه بعد ..... )
ضمها الى صدره بقوة وهو ينظر الي عينيها المعذبتين ثم أعاد بقوة
( مهما كان ما لم أعرفه بعد ......... أتفهمين ذلك ؟!! ...... ضعيه حلقة بأذنك ..... )
همست بضياع و هي تهز رأسها يأسا
( أنت لم تسأل عني !! .............. )
ابتسم ليقول بهدوء
( هل هذا هو ما سيقنعك ؟؟ ....... أن أسال عنكِ و عن أسرتك لأحصل على بعض المعلومات الباهتة كوظيفة والدك ... عدد أطفال شقيقتيكِ ...... سمعة أعمامك .... عدد أبناء عمومتك ربما !! ....
هل تظنين أن تلك الأسئلة التي يحرص الجميع على السؤال عنها قبل الزواج ستضمن لي أخلاق من سأتزوجها ؟!!! ...... انها عادة ماتت منذ قرون يا بشرى ..... )
صمت قليلا ينظر الى عينيها الذاهلتين الدامعتين .... ثم ابتسم هامسا
( ليس هناك ضمان ورقي مختوم يضمن لي جودة الفتاة التي أريد ....... لكن هناك فقط عضو قوي بداخل صدري , يرسل اشارة الى زميله في رأسي .... ليخبره بأنه وجد ضالته المنشودة ..... )
ارتجفت شفتيها المنتفختين .... و همست بإعياء
( أنت مجنون !! ........... )
اتسعت ابتسامته ليقول بموافقة
(في هذه النقطة , لن أجادلك ...... فمن يملك القدرة على الإقتران بمن لها مثل لسانك فهو بالفعل مجنون .....)
شعرت بالدوار فجأة و اهتزت الصور أمام عينيها ..... من الدار للمشرف القذر الذي انتهكها طويلا طويلا ... و حتى فرارها ... ثم جميع محاولات مراودتها عن نفسها ... الى زواجها الأول ... ثم الثاني ... و أخيرا الثالث ... صورتها مقيدةٍ في سرير متعة و رجل سادي يقوم ب ....
شهقت فجأة طالة نفسا عميقا .... لكن ذراعي وليد كانتا من القوة بحيث منع سقوطها أرضا ....
فهتف بقلق
( بشرى !! ...... ماذا بكِ !!! ..... )
تشبثت بقميصه بقوة ... لامسة صدره القوي بوجهها الأبيض كالأموات .... بينما كان هو يدلك ظهرها بقلق ليهمس بخشونة
( ماذا بكِ !! ........ فقط تكلمي و لا تخافي ..... ماذا بكِ !! ..... )
لم ترد ... و كان تنفسها السريع على صدره يخبره بوضوح عن مدى حالتها المتوترة و المنهارة ...
رفع يدا يلامس بها مؤخرة رأسها الناعم بين ضفيرتيها ... ثم همس بلطف
( أيخجلك خلافك مع خالك !! ........ خالك لا يهمني البتة و إن لم يضع يده في يدي فسأتزوجك دون أي ذرة اهتمام به ....... )
اتسعت عيناها أكثر و فغرت شفتيها على صدره بشهقة موت صامتة
خالها !!!
ليست الكلمة غريبة على أذنها ...... كانت هي من اخترعتها ضمن سلسلة طويلة من الأكاذيب المتداخلة ....
تاهت ذكراها في ذلك الوقت الذي قضته تنظر خلسة الى زوجها الثاني ....
كم من مرةٍ نهرت نفسها عن مراقبته دون جدوى .... كم من مرةٍ حلمت بحضنه الآمن مجددا ....
كم من مرةٍ نظرت الى زوجته السعيدة بأسرتها واثقة من مكانتها رغم اي شيء .... و تمنت ان تكون مكانها في ظل هذا الرجل الذي تخلى عنها
الى ان تصطدم نظرتها بنظرة زوجته المزدرية .... و كانها تخبرها انها واثقة من نفسها لدرجةٍ تمنعها من قطع الرحلة و السفر بعدا عن شيراز
لقد بقت زوجته .... و اكملت رحلتها امام ناظري شيراز بكل تمتع و اريحيه
و حينها تساءلت شيراز ... هل يعقل الا يكون قد لاحظها كل هذه الايام ؟!!!
لم تلتقي نظرته بنظرتها ولو لمرةٍ واحدة ...... فهل علم بوجودها و تجنبها ؟!!!
ذلك الشعور في وقتها قتلها قتلا ..... ...حاولت جاهدة ابعاد نظرها عنهم و التركيز على وليد الذي بدأ في مرافقتها لكل مكان لكن دون جدوى
و كثيرا ما كانت تفيق من شرودها بزوجها الأسبق على عيني وليد القاسيتين الغامضتين ... فكانت تتلجلج و تحاول جاهدة المزاح بأي شيء كي تبرر شرودها في شيء ما خلفه .....
الى أن انهارت مقاومتها ذات يوم .....
كانت تسير على الشاطىء بشرود و هي تلف نفسها بوشاحها الشيفوني الوردي ....
وجهها يراقب الرمال المتلاعبة بأصابع قدميها .... بينما الهواء يطير شعرها ووشاحها ......
الى أن جذبه عن كتفيها بعيدا على الرمال .... تقدمت شيراز اليه بلا حماس ... لكن و ما أن انحنت تلتقطه و اعتدلت حتى رأته ....
زوجها ..... الأسبق .....
كان واقفا و ظهره لها ..... في نهاية الممر الخشبي الممتد الى داخل البحر ...
كان شاردا رغم أنها لم ترى وجهه .... واضعا يديه في جيبي بنطال قصير خاص بالشاطىء
جعله أصغر من عمره ......
ظلت تنظر اليه طويلا دون أن تدرك أنها تتحرك نحوه بنفسٍ كسيرة .... و ما أن وقفت خلفه حتى همست بعذاب
( شاكر ......... )
شعرت به يتصلب على الفور ... و انتظر لحظة حتى ظنت أنه سيتجاهلها , ... فانقبض قلبها ...
لكن بعد لحظتين استدار اليها بوجه حزين ..... حينها علمت ....
علمت أنه لم يفاجىء بوجودها ...... و بأنه رآها من قبل .... و بأنه كان يتجنب النظر اليها ....
ظلا ينظران لبعضهما طويلا ... الى أن قال بصوته الدافىء الحاني
( شيراااز ........ )
تنهدت و هي تغمض عينيها بابتسامة مشتاقة حزينة ..... لطالما كان ينطق اسمها ممتدا طويلا .....
و لطالما كان يدفئها صوته .....
قال متبرعا بخفوت
( كيف حالك حبيبتي ....... تبدين أجمل من أي مرة رأيتك بها )
فتحت عينيها المعذبتين اليه و همست بقهر
( لست بخير ....... لست بخير يا شاكر ....... لقد تعذبت كثيرا .... كثيرا ..... كثيرا يا شاكر )
أغمض عينيه للحظة ثم همس بحزن يائس
( شيراز ...... أرجوكِ , لا تقولي هذا ........... )
لكنها لم تدرك أن روحها قد بدأت استغاذتها المتأخرة به .. فهتفت بحرارة
( أنت لا تعلم ماذا جرى لي يا شاكر بدونك ......لقد انتهكت ... انسحقت تحت الأقدام ..... )
رفع وجها قاسيا اليها ليقول ببرود
( ليست أقدام يا شيراز .... بل قدما واحدة ..... قدم رابح ...... أتظنيني لم أعلم بمن تزوجتِ ؟!!... أو تظنين أن أحدا لا يعلم شخصيته المريضة و تعاملاته القذرة .... )
صمت ينظرالى الدموع المنسابة على وجهها بصمت ... ثم قال بهدوء حزين
( لقد رجوتك أن تهتمي بنفسك يا شيراز ..... لكنك أغفلتِ رجائي ...... لماذا ؟؟ .... لماذا حبيبتي ؟؟ ..... )
هتفت باكية بحرارة
( لم يكن لدي أي حلول أخرى يا شاكر ...... لم يكن لدي ........ أنت كنت العالم الوحيد الآمن الذي عرفته و لقد تخليت عني ...... لقد كنت في نفس احتياج اسرتك لك .... بل كنت أكثر احتياجا منهم لك ..... )
تنهد بقوة وهو ينظر عاليا الى السماء بوجهٍ مثقل بالحزن ...... ثم قال أخيرا بخفوت و بابتسامة حزينة متألمة
( لم أستطع أن أهدم بيتي حبيبتي ........ لم أستطع ........ )
صرخت و هي تبكي رافعة يدا ترتجف الى صدرها اللاهث
( كف عن ذكر كلمة حبيبتي تلك ...... هل أحببتني ؟!! ...... هل أحببتني و لو للحظةٍ واحدة ؟!! .... )
ابتسم بأسى وهو ينظر اليها دون أن يملك الحق في ضمها الى صدره .... ثم همس بخفوت
( للحب أنواع ..... و أنتِ .... أنتِ كنتِ طفلتي المدللة ......... كنتِ حب الحياة نفسه ... )
مسحت دموعها بيدٍ ترتجف ..... و همست ترتعش بقوة
( و أنا راضية .... أنا راضية بذلك .... لطالما كنت راضية و لم أعترض ...... )
و من حيث لا تعلم .... وجدت نفسها تهتف توسلا
( أعدني اليك ...... ارجوك أعدني اليك و أقسم ألا يعرف مخلوق بذلك ...... هذه المرة أقسم على أن أحفظ السر بحياتي ...... لكن أعدني الى حضنك الدافىء ..... أريد أمانك فلا تحرمني منه ...... )
رفع وجهه الى السماء مجددا مغمضا عينيه وهو يهمس
( ياللهي !! .............. )
صمتت مذهولة من نفسها ..... لا تصدق أنها فعلت ما فعلته للتو !!! .... و قبل أن تتراجع عن كلامها المجنون .... كان قد نظر اليها بوجوم ليقول بصوت حزين محمل بالذنب
( لا أستطيع أن أجرح زوجتي مرة ثانية ..... لقد اشتريت سعادتي سابقا و هي التي دفعت الثمن .... و أنا لا أجرؤ على تكرار جرحها ..... لقد صبرت و تعبت معي في مشوار الحياة الطويل ..... )
كانت تنظر اليه بذهول و كأنها تسمع شخصا آخر .... لكنه نفس الشخص ... و نفس الكلام الذي سبق و قاله ...
لكن في تلك اللحظة تحديدا شعرت أن شيئا بداخلها قد انكسر ...... شيء لن يعود مجددا ....
سرعان ما أفلتت منها شهقة باكية منكسرة ... فرفعت يدها الى فمها و استدارت باكية تجري و تجري بعيدا عنه ..... لاعنة الغباء و التهور الذي جعلها تعيش ذلك الموقف المخزي مجددا .....
و أثناء جريها اصطدمت بوليد .....
يداه دعمتانها كي لا تسقط .... فرفعت وجهها المحمر المغرق بدموع الخزي تنظر الى وجهه الصارم الغاضب .....
و دون أي مقدمات قال لها بصلابة
( من كان هذا الذي ظللتِ تنظرين اليه طوال الأسبوع ؟؟ ...... و لماذا تبكين ؟؟ ..... )
ابتلعت ريقها و ظلت تنظر اليه و قد خانها الكلام للحظات طويلة ..... حينها جذبها من مرفقها بقسوة يجرها وهو يقول
( أعتقد أن هناك حديثا طويلا بيننا ........... )
و أثناء الطريق الطويل الى مكان منفرد على الشاطىء .... تمكنت من ايجاد القصة المناسبة ... دون أن تدري الداعي من الكذب نفسه .... فهو لا يملك أي سلطان على حياتها كي يضطرها للكذب !!
و جاءت قصة أنه خالها الذي يرفض التواصل معها هي و شقيقتيها بعد أن لفظهما من حياته لخلاف عنيف مع والدتها قبل موتها على قطعة أرض كميراث بينهما .... رغم أنه القريب الوحيد المتبقي لها .... و هن ثلاث فتيات دون سند لهن في الحياة ...
لكن ها هما شقيقتها قد تزوجتا و بقت هي وحدها .....
و بكت و كم بكت أمام أنظار وليد الغاضبتين .... و الذي كان يتمتم شاتما مع كل ما تحكيه عن خالها .... حتى أنه يرفض أن تتواصل مع أبناءه .....
و من يومها و كأن وليد قد عهد بنفسه قريبا ووليا و كل ما لها .......
عادت من طوفان ذكرياتها و هي تنظر اليه ... بينما هو ينظر اليها مقطبا ... لا تعلم أنه هو كذلك يتذكر ذلك الحدث ... لكن من منظورٍ لم تراه و لم تعلم عنه شيئا ....
فبعد أن حكت له عن قسوة خالها و حقارته .... أوصلها الى غرفتها كي تستريح قليلا ....
و بعدها سار عائدا على الشاطىء الى أن وجد خالها واقفا بنفس مكانه ..... و دون أن يحاول منع نفسه اتجه اليه بكل قوته ... ثم قال بخشونة
( الا ترى أن وجودك هنا يحزنها أكثر مما فعلت سابقا ؟!!!....... )
استدار شاكر مندهشا متفاجئا بهذا الهجوم القوي من قبل شخص لا يعرفه ... فقال بخفوت
( عفوا !! ........ هل تكلمنى ؟!!! ........ )
هدر وليد غاضبا دون تمثيل او مقدمات
( نعم أكلمك انت ...... أكلم رجل تجرد من مشاعر انسانية بسيطة كي يرفض محاولة تقبل التواصل مجددا مع ابنة اخته التي لا قريب لها أو معين ....... )
ظل شاكر ينظر اليه طويلا بملامح صامتة ..... ثم قال أخيرا بخفوت
( لاحظت تقاربكما .......... )
اتسعت عينا وليد بوحشية ليقول صارما
( هل لديك الجرأة لتدعي الإهتمام ؟!!! ........ لقد رفضت حتى جعل عطلتها عائلية محببة و كل ذلك من أجل أطماع رخيصة ....... )
ظل شاكر ينظر اليه بوجه صامت واجم .... ثم قال أخيرا
( بعض البعد أفضل ...... قد تفهم حين تصل الى مثل سني , و حتى هذه اللحظة ..... عليك التعامل مع ما قصته عليك ..... فليس لدي المزيد لاضيفه ..... )
ثم استدار يعطيه ظهره ناظرا للبحر .... فقال وليد بلهجة تقزز
( لقد رأيتها لمدة أسبوع كامل .... و تجاهلت وجودها و كأنها مشبوهة أو تدعو للإزدراء ..... و حتى حين جاءتك عارضة الصلح لفظتها بحقارة ....... هل تنوي اكمال رحلتك هكذا بسهولة !!! ..... )
لم يرد شاكر على الفور ... و لم يستدير .... لكنه قال بعد فترة طويلة بصوت خافت و كأنه يحدث البحر
( ربما معك حق ...... لقد انتهت الرحلة و آن أوان العودة ....... )
و بعدها بيوم اختفى خالها و أسرته ....... بصمت و هدوء ..... و بقت بشرى له وحده .....
نظر اليها الآن وهما يقفان في شقتها .... و كل منهما شاردا بذكرياته ..... ثم قال بهدوء شرس
( حين كنت ألاحظ نظراتك له ... أشعر وقتها بأنني على وشك ارتكاب جريمة دون أن أدري السبب ..... لكن الآن عرفت ....... لأنني كنت أغااااااار ..... )
نظرت اليه ذهول و عيناها الخضراوان اشفافتان تدمعان بغزراة ... فابتسم لها بشفقةٍ و استياء ثم تابع بصوتٍ أجش
( نعم ...... لقد بدأت الغيرة مبكرا ...... مبكرا جدا ..... قبل حتى أن أعرف بأنني ..... أحبك .... )
ابتلعت ريقها بعذاب و هي تنظر اليه بذهول ..... و كأنه مخلوق من عالم آخر ....
فقال وليد مبتسما برقة و بصوته الرجولي الرائع
( اذن يا آنسة بشرى عبد العزيز ..... هل كل هذه أسباب منطقية لكِ كي توافقين بكرم أخلاقك و نبل صفاتك على الزواج من العبد الفقير الذي يقف أمامك متذللا على بابك ؟؟ ...... )
همست بضياع و حسرة ...... و دموعها تنساب على وجنتيها بصمت
( أنت لست فقيرا أبدا ..... أنت ثري .... ثري جدا ..... تمتلك كل شيء ... المال و الشباب و الشخصية المذهلة و الأخلاق و العائلة الكريمة .... تمتلك كل شيء ... كل شيء ... )
ضحك وليد برقة وهو يقول مداعبا
( " قل أعوذ برب الفلق " ...... هل هذا نظام حسد !!! .... دعيني أتزوجك أولا ولو ليوم واحد ثم احسديني من فضلك .... خاصة بالنسبة لموضوع الشباب ... فهذا أم هام بالنسبة لي حاليا لأنني سأحتاجه .... )
عضت على شفتها السفلى و هي تنظر الي تلتهمه بعينيها ... دون أن تتوقف دموعها الناعمة الصامتة ....
فمد يديه يمسحها برفق وهو يبتسم هامسا
( سأتجرأ على التفكير بأنها دموع الفرح ..... الإنبهار ربما .... الإمتنان للحظ المذهل في كوني وافقت متنازلا على الزواج بكِ ...... )
همست من بين دموعها
( كنت أعلم أنك ستفسد الكلمتين الرائعتين اللتين تفوهت بهما ..... لأنك أحمق بالسليقة .... )
رفع حاجبه ليقول بارتياب
( بالسليقة !!! ...... من أين أتيتِ بتلك الكلمة ؟!! .... نظرا لمعرفتي بمستواكِ المتدني في اللغة !! ..... )
مسحت دموعها و هي تهمس بحزن
( سمعتها من ملك ............ )
قال متفهما
( آآآه ..... ملك ذات الضفيرة الطويلة مجددا , يبدو أن لديكِ أحقادا دفينة أكثر مما ظننت ... لكن اطمئني , يمكنك تفريغ كل شحناتك الحاقدة بي حين نتزوج ..... )
همست و شفتاها ترتجفان بكائها الصامت
( ألن تمنحني فرصة للتفكير على الأقل ؟!!! ........... )
فرد ذراعيه وهو يقول بدهشة
( هل أنا فرصة تحتاج الى تفكير مرتين ؟!! ...... انظري و عايني البضاعة بنفسك .... )
نظرت تلقائيا الى صدره بحسرةٍ و دموعها تجري على وجنتيها في أنهارٍ صغيرة بريئة ..... فقال مبتسا بصوتٍ أجش
(يمكنك اللمس ............ )
هتفت و هي تبكي
( أنت قليل الأدب جدا بالمناسبة ............... )
ضحك وهو يقول بخبث
( بعد الزواج .... سأفحص بضاعتي بنفسي ..... لمسا ... شما .... دغدغة ... )
كان يداعبها بأنفه مع كل كلمة بينما هي تحاول الابتعاد عن وجهه .. و هي تضحك و تبكي في آنٍ واحد ...
ثم هتفت بحزم
( توقف ......... و احترم نفسك , .... ثم احذف صفة الأخلاق و التي أضفتها الى مميزاتك )
قال بحيرة وهو يضمها اليه
( أنا أيضا تعجبت من الصفة !!! ...... من الذي أوحى لكِ بها ؟!!!!! ..... )
أراحت وجنتها على صدره القوى تبتسم بحزن .... و دموعها تأبى النفاذ ....
ما هذا الحلم !!! ...... حتى في أكثر خيالها جنونا لم تحلم حلما كهذا !!! ......
فجأة رن هاتفها المرمي على الأريكة .... فانتفضت شاهقة من فوق صدره ..... تنظر برعب الى هاتفها ....
فتابع نظرتها اى الهاتف المضيء بحيرة ثم قال مقطبا
( ما الأمر ؟!! ...... هل هي مكالمة هامة ؟!! ....... )
نظرت الى الهاتف الذي يرن بإلحاح مقيت .... ثم ابتلعت ريقها لتقول همسا
( انها أختي .......... على الأرجح ستحدثني عن ..... السفر اليها .....و الإستقرار معها ... . )
كانت تلك عبارة مقتبسة من ملك .... جاءت عابرة في حديث لها لم تسمع منه الكثير ......
الا أن وليد هتف بغضب
( و أنتِ ....... ماذا قررتِ ؟؟ ...... )
ظلت تنظر الى الهاتف طويلا بصمت ... ثم التفتت الى وليد تقول بخفوت شارد
( هلا غادرت الآن ........ رجاءا يا وليد ...... لا أظنك تتمنى لي الضرر , ووجودك هنا أكثر ...... سيضر بي )
نظر اليها طويلا .... يخترق نعومة عينيها الخضراوين المعقدتين رغم شفافيتهما ... ثم قال أخيرا بخفوت شرس
( لن أسمح لكِ بالإبتعاد عني يا بشرى .... ضعي ذلك ببالك .... )
ارتجفت بين ذراعيه .... ثم نظرت اليه لتقول بخفوت
( اذهب الآن ..... أريد أن أفكر الأمر و أثناء ذلك ........ يمكنك السؤال عني ... )
ابتسم لعينيها ثم همس بنعومة
( لازلت مصرة ؟؟ ............... )
أومأت برأسها بصمت متردد دون أن تجيب ... و هي تعلم بأنها تودعه للأبد ... ثم عادت لتنتفض مع الرنين الذي تجدد بقسوة بينهما .. فهمست بخوف
( ارحل الآن أرجوك ........... )
ابتعد وليد عنها على مضض ...... ثم ذهب ليلتقط سترته و علقها على كتفه قبل أن يرفع يده ليداعب وجنتها هامسا برقة
( سأنتظر موافقتك .......... )
ابتسمت بحزن دون أن تجيب ... و تساءلت عن السبب الذي يجعل الحياة تمنحها ذلك الحلم المستحيل لعدة لحظات ..... حلم كل فتاة من أحسن العائلات .... جاء اليها صاغرا يأمرها أن تنهل منه قدر استطاعتها
لمدة ساعات .... فقط ساعات .....
خرج وليد بقوةٍ يمنع نفسه بقسوة من أن يشبع جوعه المحرم اليها ..... يحث نفسه على الإنتظار .....
بينما أغلقت الباب خلفه و استندت بجبهتها اليه تبكي بشدة مع تعالي رنين الهاتف مجددا ..... و كأن الشاري يرفض الإنتظار .......
.................................................. .................................................. .....................
استيقظت كرمة مع أول ساعات الصباح ...
و هي تعلم قبل أن تفتح عينيها بأنها قد نامت آمنة في سريرها الخالي كما وعدها .... أو بمعنى أصح في سريره الخالي ....
ظلت مستلقية عدة دقائق و هي تحدق في السقف بوجوم .... تتسائل في يومٍ جديد نفس السؤال الذي سألته لنفسها آلاف المرات ليلة أمس .... و هو كيف استطاعت أن تفعل ذلك ؟!!!
لقد تشبثت بذراعه و ترجته أن يبقى و ينهي الأمر بأي طريقة !!
ياللهى الى اي مستوى انحدرت !!!
لكن اعصابها كانت على شفا الانهيار .... و الأمر بالنسبة لها كان ضاغطا على أعصابها
أن تمنح رجلا غريبا تلك الخصوصية في التعامل مع جسدها !! .... كان شيء أكبر من أن تتحمله
هي ليست صغيرة او مذعورة .... لكن الأمر بالنسبة لها هو خصوصية لا ترغب في أن يتخطاها أحد غير ......
صمتت تبتلع مرارتها و هي تمنع نفسها بالقوة من ذكر اسمه ....
ارتجفت كرمة و هي تعض شفتيها متذكرة طريقة تعامل حاتم لها ..... طريقة لم تعرفها ابدا
طريقة خبيثة جعلتها شبه عبدة لمشاعرها الحميمية ... و كم اغضبها ذلك !! ....
كم اشعرها ذلك بالنفور منه و من نفسها في ما بعد .....
هي لم تتزوجه طمعا في تلك المشاعر .... لم تتخلى عن محمد كي تتنعم بأحضان رجلا رغب بها و هي متزوجة !!
انسياقها لمشاعرها الحميمية يجعل منها خائنة ..... مهما حاولت التبرير لنفسها ... لكن هذا هو شعورها بالفعل
و محمد لا يستحق ذلك منها ..... انها لم تتركه لهذا السبب الرخيص
و بينما هو يتعذب و يعاني ..... ها هي تتنعم في سرير رجل آخر ! ......
صحيح أنه متزوج .... و أنه تعمد نقل زوجته الى بيتهما الخاص و الي سريرها شخصيا .....
لكنها ليست من الحماقة كي تظنه سعيدا بدونه ....
تنهدت و هي تتذكر نظرة الألم في عينيه الكسيرتين آخر لقاء بينهما ......
انحنت عيناها بعذاب و هي تتذكر ذلك الموقف .... فهمست بمرار الى السقف و كأنها تحادثه
( أنا آآآآسفة ........ لكن أنت أيضا كسرت قلبي ...... )
أغمضت عينيها بألم ..... تريد لو تبقى في غرفتها للأبد و لا تخرج لتلك الحياة الجديدة التي اختارتها في لحظة ضعف و ألم .....
تنهدت بقوة و هي تفكر ..... لكنها لم تعتاد الفرار أبدا ... لكن لماذا تشعر بهذا الإجهاد .... أين ذهبت قوتها ؟؟
هل استهلكتها كلها ؟!! ........
ابتلعت ريقها و قررت النهوض لخوض معركة يوم جديد .... ما بين رجل يمتلك الحق فيها ... و ذكرى رجل يرفض أن يبارح قلبها على الرغم من كل ما فعله ..... فالتاريخ الطويل لا يمحى بجرة قلم !!
.................................................. .................................................. ......................
خرجت كرمة من غرفتها بحذر .... تتطلع حولها متوقعة أن يهجم عليها كحكم قضاء عاجل .....
لكنها لم تره ... و لم تعلم أين بات ليلته بعد أن تعللت بوجود محمد في البيت و أن هذا لا يليق ! .....
تقدمت في أنحاء البيت تتلفت حولها كلص حافظات ... تعلم أنها اقترفت الكثير و لا تزال ....
البيت كان هادىء بشكل مخيف ... و شعاع الصباح الباكر يدخل من النوافذ ليمنحه الرهبة و الجمال في آنٍ واحد .....
رفعت كرمة حاجبها بتوجس و هي تشعر بأنها وحيدة في البيت ....
لذا اتجهت الى غرفة محمد و طرقتها برقة ... مرة .... ثم مرتين .... و حين لم يرد تجرأت و فتحتها تنوي فقط التأكد من وجوده في سريره و أنها ليست وحيدة في هذا البيت الواسع ....
لكن الغرفة كانت خالية ....فخطت خطوة الى الداخل و هي تنظر حولها عاقدة حاجبيها ....
و سرعان ما اندلع صوت من خلفها يقول بهدوء
( هل تبحثين عن شيء في غرفتي ؟!! ........ )
شهقت كرمة و هي تضع يدها على صدرها و تستدير الى محمد الواقف ببساطة ممسكا بكرته ...
أخذت تلهث قليلا بينما هو ينتظر الرد بمنتهى الرزانة .... فابتلعت ريقها تقول بخفوت
( أين أبوك ؟؟ ........... )
ارتفع حاجب محمد وهو يقول
( هل تبحثين عنه في غرفتي صباح ليلة زفافكما ؟!! ....... هل طردتيه بهذه السرعة !! ..... كان يفعل ذلك حين كان يتشاجر مع أمي , كان يأتي لينام بجواري ..... هل أتفائل بأن هذا ما سيحدث مستقبلا !!! .... )
هز رأسه يأسا وهو يدخل غرفته راميا كرته ليقول ببساطة
( هذا الرجل ميؤوس منه ....... كم مرة يجب عليه أن يتزوج كي نجد من ترضى به !! ... )
قالت كرمة عاقدة حاجبيها
(عيب يا ولد ..... أنت تتحدث عن والدك )
نظر اليها يقول
( بسم الله ماشاء الله !!! ..... انظر من يتكلم !! .... لقد فقدتِ أثره من أول ليلة ! ... )
احمر وجه كرمة و هي تنظر اليه بذهول لا تصدق كم تغير هذا الجيل عن جيلهم حين كانو أطفالا
فقالت بتوتر
( يا ابني أنا ووالدك لم نتشاجر ...... لقد استيقظ مبكرا .... هذا كل ما في الأمر ! )
رفع حاجبيه وهو يتناول منشفته الخاصة و مزيل عرقه ناويا التوجه للحمام ثم قال ببساطة
( يااااا بنتي .... كان كلامك ليكون مقنعا لو لم استيقظ ليلا و أجده نائما على الأريكة كالمشردين و المعاقبين طردا ... أتصدقين أنني أشفقت عليه للحظة .... والله )
نظر اليها ثم قال واضعا يده على صدره باتزان
( لكني أعذرك ..... حقا ..... أنا أعذرك في أنه قادر على الدخول بين الإنسان و ملابسه دون اذن .... )
احمر وجه كرمة بشناعة من اللفظ , خاصة مع ذكريات ليلة أمس التي لم تكتمل ...
رغم أنه كان يقصد المعنى البريء للعبارة ..... " كما تتمنى !" .....
بينما تابع محمد ببساطة دون أن يدرك ما انتابها وهو يمد يده ليخرج حمالة قميصه القطني الداخلي من فتحة قميصه الخارجي و يقول متابعا بتعجب
( نعم .... نعم ..... صدقي هذا .... أنه يختار لون ملابسي الداخلية و يصر عليه ... فلا تتعجبي إن فعل معك المثل ........ )
احمر وجهها أكثر و ارتفع حاجبها بارتياب و هي تفكر
" هذا الولد متحرش !! ...... هناك تحرش لفظي يحدث الآن !!! "
ظلت تنظر اليه بشك بينما هو يقول ببساطة
( لذا ..... أنا لا أتعجب كثيرا من رؤيتك أنتِ في غرفتي صباحا بدلا منه..... لكن لا تعتادي الأمر ... و حاولي احترام بعض المساحات الخاصة رجاءا ..... )
كانت تنظر اليه بدهشة وهو يرتب ملابس نظيفة مع المنشفة و مزيل العرق الخاص .... فابتسمت رغما عنها و هي تراه يدقق بالتفاصيل كشاب ناضج ....
فقالت بهدوء و هي تدس يديها في جيبي بنطالها الجينز
( هل ستستحم ؟؟........... )
رفع وجهه اليها رافعا حاجبيه بدهشة .... ثم قال بهدوء
( أنتِ حقا أسوأ منه !! ............ هل لديك مانع !! .... يوجد ثلاث حمامات في البيت .... )
ابتسمت أكثر و هي تتلوى بدلال ثم قالت ببساطة
( كنت أسأل ..... لأنني ظننت أنه ربما ..... ربما .... تريد أن تؤجل استحمامك قليلا .... )
كان ينظر اليها عاقدا حاجبيه ... فاغرا فمه كمن ينظر الي مسكين عقليا .... ثم مد رأسه يتشمم الرائحة تحت ذراعه ليقول بعدها
( هل تعجبك الرائحة !!! ......... لقد شدد علي حاتم ألا أخرج لأي شخص آدمي بعد اللعب الا و قد تحممت مدة لا تقل عن عشرين دقيقة ..... لكن الحقيقة أن ذلك كان سذاجة منه .... فأنا أقضي خمسة عشر دقيقة منها ألعب على لوحي الإلكتروني ... و خمس دقائق فقط استحم بها ..... )
قالت كرمة بتعجب
( يا ابني تأدب ....... هذا والدك !! ..... )
قال لها ببساطة مقلدا لهجتها
( يا ابنتي خذيها ببساطة ........ اذن لماذا تريدين تأجيل استحمامي !! .... )
تنهدت كرمة و هي تقول بهدوء
( فكرت أنه ربما لو لعبنا بالكرة معا قليلا ...... عندي كبت أريد تفريغه بأي صورة )
حك محمد شعره وهو يقول
( كبت في أول يوم زواج !! ....... والله معذورة ان كان العريس هو حاتم ! .... لكنني لا ألاعب فتيات ... )
رفعت حاجبها تقول باستفزاز
( انظر الي جيدا و أعد التفكير في الأمر ....... هل تجدني فتاة !! .... لقد كنت أهزم كل ذكور طفولتي منذ زمن ليس ببعيد .... )
كان ينظر اليها بوجوم كما طلبت .... تبدو كبسكويتة !! ....
و ربما كانت تهزمهم لأنهم يتسابقون لسرقة قبلة منها كما يفعل بعض ذكور فصله المقززين و المعلم عليهم بصفة "ملتصقين فتيات "
تنهد محمد أخيرا وهو يقول على مضض
( هل أنتِ مصرة ؟!! ....... لما لا تذهبي الى المطبخ و تعدي كعكة الى أن يأتي حاتم ..... )
مدت كرمة يدها اليه و هي تقول بهدوء
( أنا أحاول أن أمد أواصر الصداقة بيننا ........... )
رفع حاجبه مجددا وهو ينظر الي يدها المفرودة ..... ثم قال بخفوت
( أنتِ فعلا مسكينة !! ............. )
ثم تنهد وهو يأخذ يدها مصافحا ليقول بتذمر
( أمري الى الله ....... هو يتزوج و أنا أسلي زوجته أثناء هربه )
مطت كرمة شفتيها و هي تقول بجدية
( يا ابني عييييييييب ......... )
ربت على كتفها يقول و كأنما ترى حاتم بشحمه و لحمه أمامها
( هيا ..... هيا الى الحديقة فليهديكِ الله و لا تستفزيني حاليا ........ )
.................................................. .................................................. ...................
وقفت كرمة منحنية الى الأمام ... تستعد لصد كرة عن مرماها الوهمي ....
تحتاج ذلك الإلهاء أكثر من أي شيء آخر حاليا .... الهاء عن التفكير برجلٍ غير زوجها ... و الهاء عن الشعور بالتقزز و الخيانة ....
خيانة تجاه الإثنين !!!!
ياللهي !! .... أي شعورٍ ذاك !!
لذا كم كانت ممتنة لإختفاء حاتم ... ووجود محمد الذي هو أكبر معين لها حاليا ...
هتف محمد يقول بملل
( مستعدة ؟؟ .............. )
هتفت هي الأخرى تقول ( مست............ )
لكن و قبل أن تكمل أحرف الكلمة التي ألهتها عن التركيز مع الكرة ..... كانت الكرة بالفعل قد انطلقت كقذيفةٍ لم تتخيل أن قوتها من صبي صغير مثل محمد ....
و قبل أن تستوعب كانت تلك القذيفة قد ضربتها في منتصف أنفها تماما شاملة باقي وجهها ....
لتظلم الدنيا بعدها تماما و هي تسقط أرضا ...... و آخر ما سمعته هو صوت محمد الذي جاء اليها جريا وهو يهتف بكلمة أمينة التي تلازم فمها دائما
( يا خيبتك .... يا خيبتك ..... لقد أثبتت البسكويتة أنها أكثر صلابةٍ منكِ ....كمرة !! .... كمرة !! ... )
استمر الظلام عدة لحظات ... ثم بدأت الرؤية تدريجيا للدنيا و هي تدور من حولها .... و كذلك السماء من فوقها تدور في دوائر سريعة
حاولت جاهدة تثبيت نظرها دون جدوى و سمعت صوت محمد يقول بسرعة
( ألحق زوجتك !!! .............. )
أخذت تتنفس بسرعة و هي تسمع صوتا رجوليا يهتف بعنف و أقدام خيلٍ تقترب منها بإندفاع حتى خشيت أن يسحق جمجتها لو لم يستطع التوقف في آخر لحظة ......
( ياللهي !! ........ كرمة ... ماذا بكِ حبيبتي ..... أنفك ينزف بغزارة ! ..... )
أخذت ترمش بعينيها عدة مرات ..... لكن و قبل أن تتمكن من الرد عليه كانت قد طارت في الهواء محمولة بين ذراعيه وهو يدخل بها الى الداخل صارخا بغضب
( ماذا فعلت بها يا محمد !! ...... أقسم أن فعلتك تلك لن تمر على خير ..... )
حاولت الهمس بصعوبة وهي تشعر بأن هناك كلبا مسعورا ممسكا بأنفها بين فكيه الشرسين
( لا ...... لا ...... لم يفعل ........ )
صرخ بها حاتم بغضب
( هلا صمتِ أنتِ من فضلك ............... )
عقدت حاجبيها و هي تفكر بغضب .... " ما هذا الأحمق !! ..... أينهرها و هي مكسورة الأنف ؟!! "
سار بها الى المطبخ ثم أجلسها فوق الطاولة الرخامية و أمسك بخصرها واقترب بوجهه منها يقول بقلق
( هل أنتِ واعية تماما ؟؟ ........ ألازلتِ تشعرين بالدوار ؟ ..... )
هزت رأسها نفيا ببطىء بينما دموعها تسيل رغما عنها بفعل الألم في أنفها ....
تركها حاتم قليلا وهو يشتم غضبا ... ليتناول مكعبات ثلج و ضماضات ... ثم عاد اليها و محمد يتبعه بهدوء واضعا يديه في جيبي بنطاله الرياضي القصير .... قائلا بهدوء
( المفترض أن تمسك الكرة بيديها ....... لا أن تشير بإصبعها بعلامة الموافقة .... فأثناء فعلها ذلك التبست الكرة في أنفها قبل أن تتداركها ! ........ لا أعلم لماذا تصر الفتيات على منافستنا من قبيل الإستعراض ليس الا ........ )
هتف حاتم ضاغطا على أسنانه
( اصمت يا محمد الآن ...... والا والله أنت من سيلتبس وعاء الثلج في رأسك الأحمق ...... أخرج من هنا حالا و لنا حساب آخر فيما بعد .... )
خرج محمد متذمرا من المطبخ
( أنت تخرج لتمرح صباح زفافك و أنا من يعتني بزوجتك و في النهاية أنال التقريع على هشاشتها .... ألم تجد من هي أقوى بنية قليلا .... اسبوعين معك و لن يبقى منها عضو واحد سليم و مع كل عضو مفقود سأعاقب أنا حيث ...... )
كان تذمره يصلهما بعد أن خرج من المطبخ , فصرخ حاتم بقوة جعلت كرمة تنتفض مكانها بذعر
( اخرس يا محمد ...... أنا أسمعك ........ )
التفت الى كرمة ينظر الى وجهها المطرق والقريب منه ثم همس بخشونة
( هل أنتِ بخير ؟؟ ......... هل تؤلمك ؟؟..... )
أومأت برأسها بصمت دون أن تنظر اليه , فقال بخفوت أكبر وهو يقرب وجهه منها
( نعم لأي من السؤالين ؟؟؟!! ........... )
رفعت اصبعيها السبابة و الوسطى أمام عينيه دون كلام .... فابتسم رغم عنه بينما صدره يغلي بانفعال منذ ليلة أمس و التي لم يذق بها طعم النوم للحظة ....
اخذ يمرر الثلج على أنفها المصاب وهو يرفع رأسها لأعلى و يدس قطن أبيض في فتحتي أنفها ....
فهمست تبكي بنعومة
( لا أريده مكسورا ....... لا أريد أنفا معقوفا للأبد ...... تصرف أرجوك .... )
ابتسم وهو يتابع عمله . ثم همس بصوتٍ أجش
( ليس مكسورا ........ لا تخافي ......و عامة فأنتِ تملكين وجها تناسبه كل الملامح .... فأنتِ الجمال نفسه ... . )
ارتبكت قليلا دون رد .... لكن جسدها تشنج بوضوح و قد استشعر هو ذلك من يده الموضوعة على خصرها .... لكنه لم يظهر أي ردة فعل الى أن وضع ضمادة ضاغطة فوق أنفها ... ثم همس لها بخفوت جاد
( الآن ستصبحين بخير ...... و سيخف ألمك قليلا .... )
صمت قليلا ينظر الى رأسها المنحني .... فوضع يديه على سطح الطاولة بجوار ساقيها يحاصرها ... ليقول بجفاء
( هل نمتِ جيدا ليلة أمس ؟ ......... )
تشنجت أكثر ... لكنها أومأت قائلة بفتور
( نعم ..... شكرا لك ..... )
ظهر الإستياء على وجهه جليا .... لكنه قال بتصلب
( جيد ...... لأنني لم أذق طعم النوم ...... )
ابتلعت ريقها دون أن تجد القدرة على رفع عينيها اليه لكن احمرار وجهها الشنيع فضح تظاهرها بعدم التذكر ما كان بينهما بالأمس من أسر و استعباد بالكامل ..... لكنها همست بنفس الفتور و بكل اقتدار
( هل يمكنني النزول من فضلك ؟؟ ....... )
تصلبت ملامحه أكثر .... لكنه قال بخشونة
( بعد لحظة من فضلك ........... )
ثم مد يده يحيط بوجنتها ليرفع وجهها اليه و سرعان ما منحها واحدة من قبلاته الغريبة !! .....
قبلة همجية في رقتها .... تجعلها تغمض عينيها و تشعر بالنفور و التقزز .... من نفسها !! .....
حاولت ابعاد صدره بضعف ... الا أنه كان أقوى منها وهو يلامسها بوعيٍ جديد عليها ... يجعلها عبدة احساس غريب
و هذا هو ما أثار نفورها ليلة أمس .... أن يستعبدها بتلك الطريقة ! ...
أن يحقق بها خيالاته المريضة حين كانت على ذمة رجل آخر .....
لذلك تشعر بالخيانة تجاه محمد ....
و تشعر بالخيانة تجاهه و هي تفكر بمحمد في تلك اللحظة تحديدا ....
هذه النقطة جعلتها تشهق رعبا و هي تدفعه بكل قوتها .. لتغلق أزرار قميصها برعب ...
تستغفر ربها مجددا !! ...... ياللهي ما أفظع ما تعيشه حاليا ....
رفعت وجهها المتصلب تنظر الى وجه حاتم الأحمر الداكن وهو يلهث بعنف ... بينما كانت عيناه غاضبتان .....
ثم قالت بصوت ضعيف غير مقنع و هي تشير الى أنفها المحشو بالقطن
( لا أستطيع التنفس ........ هناك قطن في أنفي و أنا ..... أحتاج فمي للتنفس .... )
لم تتحرك به أي عضلة .... باستثناء فكه الذي تصلب بصورة ملحوظة .... فأخفضت عينيها أمام قوة عينيه ...
حينها ابتعد عنها دون كلام وهو يفتح الثلاجة بعنف ... مخرجا بعض الأغراض , استنتجت منها أنه يعد الإفطار
الا أنه أثناء ذلك اسقط بيضتين أرضا ثم نظفهما بعنف .....
كانت تنظر اليه بوجوم و هي تتشبث بقبضتيها في حافة الطاولة ..... كان يضرب البيض في المقلاة ليتساقط القشر به ... فيتمتم غضبا
( تبا ......... )
نزلت من على الطاولة و اتجهت اليه بطء ثم همست بوجوم
( دعني أساعدك ....... )
نظر اليها بجفاء ثم قال
( تساعدين من بأنفك ذاك !! ...... اذهبي و ابحثي عن أي ركن و اجلسي به الى أن أحضر الأفطار لنا )
أخفضت رأسها قليلا .... ثم قررت المواجهة فقالت بهدوء
( حاتم ...... انا أحتاج بعض الوقت .... )
لم يتظاهر بأنه لم يفهم .... و باتت تعرف القليل من أسلوبه .. اكثر شيء يريحها أنهما لا يلفان و يدوران حول ما يريدان قوله
فقال حاتم بجرأة دون أن ينظر اليها
( لست أنا من تشبث بكِ ليلة أمس , لأترجاكِ أن تتمي المهمة .......... )
احمر وجهها بشدة و ابتلعت ريقها تنظر اليه بصمت ..... كيف تفهمه أنها لم تنتظر تلك الطريقة الناعمة كحد السيف !! .....
طريقة استعبادها بمشاعر حميمية خبيرة لم تتعرف نعومتها من قبل ....
كانت تنتظر انتهاء المهمة كما قال .... و ليس ما حدث ليلة أمس ......
ما حدث ليلة أمس غيبها عن الواقع في عالم مسكر .... لكنها ما أن أفاقت حتى شعر بالنفور و الخزي منه و من نفسها .....
وهو يتبع معها طريقة ناعمة يجذبها به الى فخه الحريري ببطىء مخادع ....
أغمضت عينيها و هي ترفع يدها الى جبهتها مفكرة بغضب
" رباه ...... كيف تفكر بزوجها بتلك الصورة الخسيسة ... بينما تأكل من أكله و تنام تحت سقف بيته !! "
" انها تشعر انها اكثر أهل الأرض دناءة تجاه الجميع .... و أمام نفسها قبل الجميع ..... "
نظر اليها فقبض على نظرةٍ منها مشبعة بال ...... الكره .... فأظلم وجهه بشدة ... الا أنه تكلم بصوت جدي
( لماذا تكرهينني ؟!! ............ )
هتفت بذهول و رعب ردا على سؤاله البسيط المفاجىء
( أنا لست .............. )
صمتت قليلا و صدرها يلهث بشدة ... بينما هو ينظر اليها بقوة رغم الألم الظاهر في عينيه
لذا قالت بعد فترة طويلة بخفوت شارد ....
( أنا أمر بمرحلة غير طبيعية ..... )
قلب الطعام أمامه بعنف .... ثم قال بقوة و غضب
( و اخبرتك أنني أعرف ..... و أقدر ذلك جيدا )
ترك الطعام من يده ليستدير اليها ثم قال بجفاء
( لكنك ترفضين المحاولة معي ..........و هذا يجعل "مهمتي" مستحيلة )
عضت على شفتيها و هي تنظر بعيدا ... ثم قالت بخفوت
( لم يكن ينبغي عليك أن ....... تصارحني بحبك )
اتسعت عيناه بقسوة و ذهول .... ثم لم يلبث أن قبض على كتفيها ليقول بصرامة
( من أنتِ لتمنعيني من التصريح بحبي للمرأة التي أحب !! .........)
هتفت بغضب رغما عنها
( تلك التي تحب هي أنا ....... و ذلك أحدث بداخلي كسر تجاه نفسي .... و أنت تعلم السبب )
صرخ يهزها قليلا
( لقد تزوجتك مكسورة يا كرمة .... فلا تلقي اللوم عليا بدناءة ....)
هتفت و هي ترفع يدها الى صدرها بذهول و احساس بالألم
؛( أنا دنيئة !! ............ )
صمت فجأة ينظر اليها بقسوة و غضب .... ثم لم يلبث أن مد يده يحيط بها وجنتها ليجذب رأسها اليه بقوة حتى ارتاحت جبهته على جبهتها ثم همس هناك بكبت
( أنت أروع امرأة عرفتها بعمري كله ..... على الرغم من أنني أتلقى منكِ كل ايذاءٍ و آخر ... مقصود و غير مقصود ..... لكنك مع هذا , الجمال نفسه ..... فقط اشعري بذلك لتري نفسك بعيني .... و حينها ستتعجبين أنني لا أصرخ بحبك من أعلى القمم ..... و ليس مجرد التصريح به !! ....)
تأوهت بألم و هي تستدير بعيدا عنه .... مغمضة عينيها بأسى ... لكنه قال بهدوء مفاجىء
( لكنني سأمنحك الوقت الذي تحتاجينه .......... )
استدارت اليه مجددا تنظر اليه بحيرة و توتر .... فقال بنفس الهدوء
( حضري المائدة الى أن أستحم .......... )
انتبهت فجأة الى أن قميصه القطني الأزرق الفاتح .. مبللا بالعرق ... فسألت بتوتر
( أين كنت صباحا ؟!! ............ )
ابتسم بخشونة و غضب ليقول لها متسليا
( هل افتقدتني ؟؟ ................. )
هزت رأسها نفيا بسرعة ... ثم قالت ملطفة من سرعة نفيها
( لكن ليس من الذوق أن تخرج و تتركني هنا أمام محمد ........... في صباح ليلة زواجنا )
لم يرد على الفور .... بل أخذ وقته في اطفاء الموقد ..... ثم استدار اليها ليقول بلهجة خاصة
( كنت أجري .......... )
عقدت حاجبيها و هي تسأل بحيرة
( تجري ؟!! ........... )
رفع حاجبه بمعنى خاص وهو يقول مؤكدا
( نعم كنت أجري سيدتي و الفضل لكِ ........ )
احمر وجهها بقوة حين ادركت قصده فأخفضت وجهها تقول ببراءة لتخفي ارتباكها
( أتأمر محمد المسكين الا يقترب من آدمي بعد الرياضة الا أن يأخذ حماما لمدة عشرين دقيقة ... بينما أنت هنا منذ ما يقرب من نصف ساعة دون ان تستحم !! ...... )
ارتفع حاجبا حاتم وهو يقول بتوجس
( كم من الوقت تحدثتما بمفردكما تحديدا ؟!! ........... )
صمت قليلا ثم ابتسم فجأة بعنف ليقول
(عامة رعبي عليك أنساني ......... و مع ذلك .... )
صمت دون أن يتابع فرفعت عينيها المهتزتين اليه .... فالتقط خصرها بين ذراعيه يرفعها عن الأرض وهو يتابع بعبث
( فالأمر بين الأزواج يختلف ........ )
فصرخت عاليا بغضب
( انزلني يا حاتم ..... قد يدخل محمد في أي لحظة .... )
ضحك حاتم وهو يقول ببساطة
( ما تشركناه على الطاولة كان أجرأ ..... و لم تلحظي وجود محمد من غيابه )
هتفت كرمة بوجه غاضب أحمر
( أنزلني يا حاتم .............. )
الا أنه رفع يدا بينما ظلت ذراعا واحدة تعتقل خصرها بكل سهولة ... أما يده الطليقة فانتزعت القطن من أنفها ليرميه في سلة المهملات بينما هي تتلوى بغضب لا تريد أن ترفع صوتها عاليا كي لا يسمعها محمد ....
بينما كانت رائحته الرجولية تزكم أنفها ..... رائحة طاقة غريبة ممتزجة بعطره القوي ....
قال حاتم بهدوء لا يناسب حمله لها و كأنها في وزن طفلة ....
( ها قد نزعنا حجتك يا أم أنف محشوة قطن ..... كي تستطيعين أن تتنفسي و أنا ..... )
لم يكمل جملته بينما هتفت كرمة رافضة احدى عبودياته الجديدة
( اياك !! ........... )
لكن آخر حروف كلمتها ضاعت مع جنون مشاعره المحرومة ..... كان جائعا ..... نهما .... مشتاقا و محروما ..... يقبلها كرجلٍ مشتاق لحبه وهو بين يديه ...
هامسا لها بين كل قبلةٍ مجنونة و أخرى
( ماذا أفعل بكِ ؟؟ ......... أين كان حبك مختبئا لي !! .......كنت قد سلمت بهدوء حياتي و استقرارها .... )
الدوار كان يلفها وهو يغيبها في مشاعر ذات وهج غير قابل للسيطرة ..... و كانت تهمس مع كلماته
( شششش ... لا تتكلم ........ رجاءا ....... )
و كان رده المجنون الوحيد وهو يدور بها قليلا و يده الطليقة تبعثر شعرها بجنون
( حاضر ............... )
بعد فترة طويلة ... كان ثلاثتهم يجلسون الى مائدة الإفطار و كم بدا حاتم و محمد وسيمين و قد تحمما و شعرهما المبلل ناعما ببريق أخاذ ....
لكنها لم تأخذ وقتها في تأملهما كما أحبت .... لأنه لم يرحمها لحظة من افتراسها بعينيه الملهوفتين ... حتى انها كانت تسعل في لقمةٍ بين كل لقمتين .... وهو كان يبتسم .... بينما محمد كان ينظر اليهما بوجوم وهو يأكل صامتا ... الى أن ضربت ساق حاتم ساقه تحت الطاولة مشيرا اليه ...
حينها مط شفتيه رغما عنه وهو يقول
( كمرة ........ أردت أن ........... )
الا أن حاتم ضربه بساقه مجددا ... فاستدرك بملل قائلا
( كم.... كمر .... كرمة ......... أردت أن أعتذر لكِ عن الإصابة المباشرة في أنفك ... لكن عامة شكلك هكذا ألطف .... )
قاطعه حاتم يقول
( حسنا هذا كافٍ لا داعي للمزيد من أراءك الفعالة ......... )
نظرت كرمة اليهما ثم قالت بخفوت
( هل أجبرته على الإعتذار .......... )
نطق كل من حاتم و محمد في وقتٍ واحد
( لا ...... نعم ..... )
فنظرت اليهما و هي ترفع يدها لتستند بذقنها اليها ثم قالت لحاتم بهدوء
( تماما كما تجبره على اختيار لون ملابسه الداخلية !! ........... )
نظر حاتم الى محمد بطرفِ عينيه نظرة قاتلة ... فارتبكت كرمة و خشت أن يعنفه مجددا و تكون هي السبب ..
الا أن حاتم نظر اليها و قال ببساطة
( نعم ....... أنا من يدفع ..... لذا أنا من يختار و سأفعل المثل معكِ و أختار ألوانها بنفسي ....... )
شهقت كرمة عاليا .... بينما رفع محمد رأسه وهو يضحك ضحكته السمجة ....
فمد حاتم قبضته اليه غامزا .... فضربها محمد بقبضته و هو لا يزال يضحك قائلا
( ربما الخاصة ب" سوبر مان " ...... أو الرجل العنكبوت كما كان يختارها لي منذ سنتين فقط .... )
ظلت كرمة تنظر اليهما بذهول و هما يضحكان بقوة ...... بينما تفكر بغضب
" الأب و أبنه متحرشان لفظيا ...... ما تلك التربية الفاسدة !! ...... هناك أشياء يجب أن تتغير جديا في هذا البيت "
↚
بعد عدة أيام ....... و بعد زواجهما
رمشت بعينيها عدة مرات و هي تستنشق عطرا قويا ...و صوت مرتعب يهتف
( ملك ..... ملك أفيقي ..... مليكة ..... آنا آسف ..... آسف ..... )
ورغم أن رعبا خاصا يأمرها بألا تستفيق .... يأمرها أن تظل محتمية بخيوط الإغماء الواهية و التي تحيط بوعيها المهتز ....
لكنها للأسف استفاقت .... حيث تمكنت من فتح عينيها أخيرا ....
و كانت عيناه القلقتان هما أول ما طالعتهما .....
و سرعان ما صرخت عاليا و هي تتراجع برعب الى نهاية السرير ... لكن الحركة قتلتها وجعا كسكين بارد نحر جسدها الغض ..
نظرت ملك برعب الى جسدها العاري المغط بالكدمات و صرخت مجددا بصوت ذاهب الأنفاس
بينما تمكنت يدها من جذب جزء من الغطاء الى صدرها و الرعب ينتشر بداخلها كمخالب شرسة تخبرها أن الكابوس لم يكن كابوسا بل كان حقيقة مرة .... بشعة .....
حاول كريم تهدئتها وهو يهتف بخفوت و رعب
( اهدئي يا ملك ...... اهدئي حبيبتي ... )
لكنها كانت في حالة هلع فلم يستطع معها سوى أن يضع يده على فمها يكممها بقوة كي لا يفتضح أمرهما ....
اتسعت عيناها بهلع أكبر و هي تنظر اليه من تحت كفه المكممة لفمها ... بينما اندس بجوارها مجددا يضم جسدها المتأذي الرافض اليه رغما عنها دون أن يترك فمها ... و ظل يهدهدها و هو يهمس بخوف في أذنها
( اهدئي ..... اهدئي حبيبتي ..... هذا شيئ طبيعي أنتِ زوجتي ..... و هذا طبيعي ..... أنا أحبك .... أعشقك و لم أستطع منع نفسي ...... اهديء قليلا .... )
الا أن صراخها من تحت يده لم يتوقف و هي تطبق جفنيها بشدة ... و جسدها يتصلب صارخا كي يبتعد عنها لكن دون جدوى ......
تحول ارتجافها الى جنون وهي تقاومه .... لكن كل حركةٍ منها كانت تؤلمها بشدة .... بينما شفتاه تتلمسان شعرها الطويل وهو ينظر ليه مسحورا .... هامسا لها بعذاب
( أنتِ زوجتى يا مليكة ..... و أخيرا زوجتي ..... أي جحيم كان ليمنعني عنكِ !!! .... لقد طلبتِ المستحيل , لكنك أصغر من أن تفهمي ذلك ...... )
بكت بشدة و انهارت سيولا من دموعها المرة من تحت جفنيها المطبقين بشدة .....
يداه تتلمسان جسدها بذهول و كأنه لا يصدق بعد أنها أصبحت ملكه ..... فأغمض عينيه مبتسما بنشوة اللحظة ... و همس لها ..
( يوما ما في القريب العاجل ستنسين خوفك ...... أنت زوجتى و حبيبتي و مليكتي ..... )
كل نفس يغادر رئتيها كان حادا كسكين تقطع بها .... و بدا تنفسها كشهقات متتابعة بإختناق ....
تريد الفرار .... لكنها لا تملك القوة حتى على دفعه ..... تتمنى أن تصاب بالإغماء عله يبتعد عنها ....
الإعياء يقتلها ..... لكن الإغماء يرفض أن ينقذها ....
جسدها كان يؤلمها بشناعة .... كل جزء منه كان يصرخ متلويا .... لكن الألم في روحها كان أبشع
لم تشعر بمتعةٍ ولو للحظة واحدة ....
ما أن انتهت قبلته الأولى حتى أدركت أنها وقعت في فخ مريع ... لا تقع به سوى معدومات العقل ....
لقد أرضت القبلة أنوثتها .... لكن ما بعدها أهدرها بأبشع الطرق ....
كيف ظنت أنه سيمتثل لها حقا ....
بكت بشدة تحت كفه .... لم تمتلك حتى القدرة على عض كفه كي يبعدها عن فمها .....
بل كانت تريد أن تعض أصابع الندم على ثقتها به .....
انه زوجها الآن .... و قد أظهر لها شيء بسيط مما سيحدث لها كلما حاولت المقاومة ....
فكيف ستتعايش معه الى أن يعلن زواجهما !!! ..... بل كيف ستتعايش معه وهو بمثل هذا العنف ! ....
كان جسدها ينتفض بين يديه المنتهكتين بينما سكنت صرخاتها المكتومة ... و تحولت دموعها الى أمواج منسكبة على كفه ....
أغمضت عينيها تلعن غبائها مجددا .... كيف تثق به بعد ما كان منه ! ......
شعرت به ينخفض بها حتى استلقيا مجددا ... فعادت لتتلوى صارخة تحت كفه و هي تحاول الإبتعاد عنه لكنه لم يتركها وهو يهمس لها بقسوة و غضب من مقاومتها
( كفى يا ملك ..... أنتِ تؤذين نفسك بهذا الشكل ..... ارتاحي قليلا ..... )
صمت قليلا ثم همس وهو يقبل خصلة الشعر الملامسة لوجنتها
( سارفع يدي الآن ..... لكن لا تصرخي ..... لا تنسي أننا هنا في غرفتك ... و لا أحد يعلم بزواجنا ... )
صمت مجددا ينظر الي عينيها المتورمتين الباكيتين الا أنها أومأت برأسها ببطىء و هي تئن بعذاب
فرفع يدها ببطىء عنها .... و أشرف عليها يتطلع الى وجهها الشاحب و المغرق بالدموع و الكدمات ... بينما موجات شعرها تطوف حولها بسحر يسبي القلوب ...
فمد يده يبعد خصلةٍ شاردة التصقت بدموعها .... ثم همس مسحورا
( أخيرا يا ملك !! ........ أخيرا !! ...... لقد فقتِ كل أحلامي ..... كل خيالي المجنون بكِ )
كانت شفتيها فاغرتين قليلا و ترتجفان بشدة .... بينما عيناها الحمراوين الميتتين تنظران اليه بصمت بعد أن مات هلعها المؤقت ... و حل محله وهن بارد حول اطرافها الى أطراف دمية خشبية ......
ابتسم لعينيها الميتتين ثم همس بحزن
( لقد آلمتك ....... أنا آسف ...... )
لم ترد و لم تظهر عليها اي بادرة حياة باستثناء دمعةٍ تدحرجت على وجنتها لاحقة بأخواتها ......
فلاحقها بظاهر اصبعه و صدره يهدر بقوةٍ ضاربا ضلوعها ليخبرها بمدى عنف مشاعره .... ثم همس باختناق
( ما فعلتها الا من حبي لكِ يا مليكة ...... بل أن كلمة حب تبدو ضئيلة جدا .....أنا أعشقك .... أعشقك ... )
مد يده يتخلل خصلات شعرها الطويلة يرفعها الى فمه كي يتمتع بنعومتها الساحرة و همس عليها مغمضا عينيه بشغف
( اعشق شعرك الطويل ....... يلتف على قلبي كأفعى تنتوي هلاكه ...... )
فتح عينيه ينظر الى عينيها العسليتين و تابع هامسا
( أعشق عسل عينيكِ ...... أعشق نظرتهما الي ..... و كأنهما تخبراني أنهما هنا .... و لن ترحلا عني أبدا ... لطالما نظرتِ الي بتلك النظرة منذ صغرنا ...... نظرة وعد ..... بأنكِ لن ترحلي عني أبدا .... )
أخفض رأسه ببطء و عيناه تحددان وجهة شفتيه .... بينما أنفاسه تتسارع و تتحول الى آتون مشتعل يحرق وجهها المكدوم .....
و قبل أن يلتهم شفتيها الفاغرتين المرتعشتين باستسلام ...... أمالت رأسها جانبا و هي تهمس بصوت لا يكاد يسمع
( اخرج ............. )
للحظةٍ لم يبدو أنه قد سمعها .... بل لم يرفع رأسه حتى ... و ظل وجهه قريبا من وجهها يكاد أن يلامسه ....
ثم لم يلبث حاجباه أن أنعقدا ببطىء شديد و برقت عيناه بشدة ليهمس في أذنها بخفوت أرسل قشعريرة بأوصالها
( ملك ..... لم يحدث خطأ , أنتِ زوجتي ....... )
لكنها لم تنظر اليه .... بل سكنت عدة لحظات ثم همست
( أخرج من هنا ...........)
مد يده يقبض على ذقنها يجذب وجهها اليه رغم عنها , لكنها لم تمتلك القدرة على مقاومته فنظرت اليه بعينيها الفاقدتي الروح .... فهدر يقول بلوعة
( مليكة ..... لا تفعلي ذلك بنا .... لقد انتظرنا سنوات طويلة .... لا تضيعي المزيد من عشقنا ..... أرجوكِ )
أغمضت عينيها كي تمحو وجهه منهما ..... ثم همست بقسوةٍ ممتزجة بالرجاء اليائس و الدموع تنساب مجددا من تحت جفنيها المطبقين
( أخرج من هنا ........ ابتعد عني ....... فقط ابتعد ..... لا أطيق قربك في تلك اللحظة ..... )
الا أنه ما كان منه أن دس ذراعيه تحتها و رفعها جالسة بالقوة يضمها الى صدره هامسا في خصلات شعرها المجنونة و التي غطت جسدها بأكمله
( مليكتي أنا آسف ......... أنا آسف ...... ستفهمين .... ربما ليس الآن لكن فيما بعد ستفهمين أنني لا استطيع منع نفسي عنكِ ...... أنتِ تطلبين المستحيل مليكة )
انتابتها قسوة مفاجئة فهتفت و هي تضرب صدره بقوة محاولة التلوي منه رغم كل آلامها
( اخرج من هنا يا شادي ..... ابتعد عني ..... لا أطيق لمستك ..... ابتعد ..... )
لكنه شدد عليها بقوة , ليمسك بوجهها بقوة يرفع اليها رغم ممانعتها الشرسة .... الى أن تصلبت تنظر اليه بعينين قاتلتين ..... لكنها ارتجفت حين رأت دموعا حبيسة بعينيه .....
ابتلعت ريقها و هي تنظر الي عينيه طويلا ..... و كان كمن فقد القدرة على الكلام و التصرف ....
الى أن همس بإختناق
( لم أقصد ايلامك ......... )
ظلت تنظر الى دموعه طويلا .... ثم لم تلبث أن هتفت و هي تضرب صدره بقوةٍ باكية بعنف
( لقد وثقت بك ....... لقد وثقت بك ........ )
تحمل ضرباتها وهو يحاول احتضانها مجددا , الا أن قوة مفاجئة انبعثت بها و هي تقاومه بشراسة مستمرة على هتافها
( لقد وثقت بك ........ كيف استطعت ...... )
شدد عليها يهزها قليلا ..... و هتف هامسا
( هششششش ..... اخفضي صوتك ....... )
الا أنها صرخت ببكاء عنيف
( لا .... لن أخفض صوتي ...... سأخبر العالم كله ........سأخبر عائلتك .... و ستفي بوعدك الآن .... حالا ... )
الا أن عيناه برقتا بعنف ... و احتقن وجهه و احتبست دموعه لتختفي بمعجزة .... فهتف قبل أن يستطيع أن يمنع نفسه
( والدي ليس هنا ....... انه مسافر ........ لن تتسببي سوى بفضيحة دون علمه .... و عند عودته سيقلب الدنيا رأسا على عقب ...... )
تسمرت مكانها فجأة و هي تنظر اليه بذهول من بين دموعها المنهمرة .... ثم همست بعدم فهم
( والدك مس.... مسافر !!! ......... لماذا أقنعتني اذن أننا ..... سنخرج من عند المأذون .... اليهم !! ..... مباشرة ....... )
تلجلج قليلا .... و ارتبكت ملامحه .... فماكان منها الا أن صرخت فجأة
( أخرج من هنا ....... أرجووووووك .... لا أطيق لمساتك و قربك الآن .... سأختنق .... سأختنق ... )
و بالفعل لم تكن تكذب ... فقد شحب وجهها و ابيضت شفتيها كنتيجة متأخرة للصدمة و الضغط و الألم .... كلها مجتمعة .... فهمست بإعياء
( أرجووك اتركني و اخرج .......... أرجووك ..... )
الا أنه همس لها بعذاب وهو يحاول يائسا
( دعيني أساعدك ...... لن أستطيع تركك في مثل تلك الحالة ..... ارجوكِ سأساعدك على النهوض كي ... )
الا أنها صرخت مجددا مغمضة عينيها بإعياء يتزايد
( أخرس ...... أخرس ....ارجووك اخرج ..... . )
ثم استطاعت التلوي منه كي ترتمي على جانبها دافنة وجهها المتورم في وسادتها الملونة الطفولية و بكت بصوتٍ مختنق .... لا تصدق الكابوس الذي تحياه ....
ظل كريم ينظر اليها بعذاب طويلا ... لكن العذاب يضم داخل نظراته بريقا غير مسيطر عليه ...
حتى و هو يراقب انهيارها ... كانت عيناه تتبعان خط ظهرها العاري المنحنى و شعرها الطويل الذي يمكل صورة و كانها لوحة من القرون الوسطى ..... كل هذا الجمال اصبح ملكه .....
مد يده يتبع صفحة بياض ظهرها ببطىء مغمضا عينيه .... فارتعشت و انكمشت ملتصقة بحافة السرير و بكائها يتزايد
حينها التقط نفسه المرتجف .... ليرمي نفسه من فوقها بسرعة قافزا على الأرض ... و دون أن ترفع رأسها أو تتوقف عن البكاء ... سمعت صوت حفيف ملابسه ...
و بعد فترة صمت طويلة .... سمعته يقول بخفوت
( سأتركك لترتاحي الآن ....... و هذا رغما عني .... لو بيدي لبقيت معك للأبد ...... )
صمت قليلا ينظر الى كتفها المهتز بصمت من البكاء .... ثم قال بخفوت أجش يحترق
( غدا ستكونين أفضل ...... و المرة التالية ستشعين كالشمس بين ذراعي ... حينها سيتبدد كل الألم الذي تشعرين به الآن ..... أعدك بذلك .... )
و دون كلمة أخرى خرج و أغلق الباب خلفه بصمت ..... اسسلمت ملك حينها الى بكاء طويل مرير دون توقف .... و هي تشعر بأنها خاضت للتو شيئا بشعا ...... دون أن تستطيع تحديده بالضبط ....
نهضت بعد فترة طويلة ....تتأوه مع كل حركةٍ و هي تلف الغطاء حول جسدها ....
الى أن وقفت أمام مرآتها ... و نظرت الى صورتها بهلع صامت فاغرة شفتيها .....
نعم .... نعم لقد كانت صورة أمرأة تعرضت لشيء شنيع للتو ......
ملامحها تشبهها الا أنها ملامح غائرة على الرغم من شحوبها ..... عيناها الكبيرتان عميقتان حد الألم و بهما ادراك جديد .... مخيف ....
بينما شعرها الهمجي حول جسدها الملتف بالغطاء كان مختلفا عن برائته التي لم يمسها أحد من قبل ....
فغرت ملك شفتيها و هي ترفع يدها الى وجنتها هامسة بإعياء
( ياللهي !! ....... يا اللهي !! ....... )
هل كانت تجهل الزواج ؟!! ...... أم كانت تجهله هو !!
ارتجفت بشدة و عقلها يرفض التفكير الخطوة التالية بعد تلك الكارثة ..... فهل سيفي بوعده !!
شهقت باختناق و هي تتابع مفكرة
" و هل ترغب في المتابعة أصلا ؟!! ....... "
صرخت بألم و هي تغمض عينيها تفرغ ما بداخلها من احساس بالإنتهاك عكس كل حلم تخيلته يوما ....
و سرعان ما أظلمت الدنيا من حولها مجددا و هي تسقط أرضا مرتطمة بها بقوةٍ لا تعادل قوة صدمة روحها الكسيرة
.................................................. .................................................. .....................
( ملك ...... ملك ....... أين أنتِ ؟؟ ...... هل أنتِ بالداخل ؟!! ..... )
كان الصوت يخترق الغيامة السوداء المحيطة بوجهها بعنف ... و كأنه مطارق تضرب رأسها بقوة
فتحت عينيها بصعوبةٍ للمرة الثانية .... و سرعان ما رفعت رأسها المصاب تنظر حولها بعدم استيعاب
بينما الطرق أخذ يتزايد و الهتاف يعلو
( ملك ...... هل أنتِ بالداخل ؟؟ ..... هل أنتِ بخير ؟؟ ...... )
مدت نفسها ترتفع قليلا بيديها على الأرض و هي تتأوه بخفوت ..... تنظر الى الباب , مدركة الصوت أخيرا
كان صوت شيراز و هي تناديها بقلق ....
حينها شهقت ملك بأسى و هي تنظر الى نفسها ... عارية مرمية أرضا و الغطاء نصف ملتف عليها .....
" ماذا تفعل هنا ؟!! ........ ماذا تفعل شيراز هنا الآن ؟!! ... "
لذا قاومت كل آلامها و نهضت تتعثر بقسوة ... تصارع مع الغطاء و تصارع مع كل ما تشعر به في تلك اللحظة .....
وقفت في منتصف الغرفة تنظر حولها بهلع .... ثم جرت الى دولابها الخشبي الصغير ... و أخذت منه قميص نوم طفولي ... ارتدته بسرعة و هي تتأوه و تئن بضعف و حسرة ٍ مع كل حركة ....
بينما صوت شيراز يعلو أكثر ..
( ملك .... هل أنتِ بخير ؟؟ ...... سأستدعي حارس الxxxx كي يكسر الباب ..... )
استدارت ملك بسرعة و هي تصرخ بنشيج
( أنا ...... أنا ...... بخير ...... لحظة واحدة ..... )
أخذت ترتب قميص النوم عليها و تنفض شعرها منه عله يخفيها كلها ..... عله يبتلعها فتختفي عن الأعين ....
نظرت الى نفسها في المرآة المقابلة فأدركت أن كدمات وجهها قد ازرقت و ازدادت قتامة ألوانها بوضوح ...
فتأوهت مجددا بذعر ... و نظرت حولها ... الى أن وجدت منشفتها ملقاة على الكرسي فأمسكتها قريبة من وجهها .... ثم اقتربت من الباب تقول بتلعثم و ارتجاف
( نعم ..... نعم سيدة شيراز ...... هل تحتاجين شيئا ؟؟ ...... )
لم تسمع ردا على الفور .... ثم قالت شيراز بصوت غاضب
( افتحي الباب ........... )
أغمضت ملك عينيها بعذاب و هي تتمنى الموت في تلك اللحظة ... و هو ليس شعور عروس مطلقا ....
لكنها أخذت نفسا مرتجفا ثم قالت بتعثر
( أنا ....... أنا ..... كنت أغتسل ..... انزلي الى شقتك و أنا سألحق ..... بكِ ..... )
الا أن شيراز قالت بصرامة
( افتحي الباب حالا ....... أنا لن أغادر حتى أراكِ ....... )
رفعت ملك يدها الى صدرها اللاهث و انحنت عيناها تريد البكاء مجددا .... الا أنها منعت نفسها بقوةٍ تستحق الإعجاب .... ثم مدت يدها المرتجفة لتفتح الباب قليلا و سرعان ما ابتعدت و هي تغطي وجهها بالمنشفة و كأنها تجففه ....
دخلت شيراز بغضب الى الغرفة ... و هي تهتف بصلف
( أين كنتِ ؟!! ....... هاتفتك و لم تردي ..... نزلت الى المحل فعرفت أنكِ لم تذهبي اليه اليوم .... سألت حارس الxxxx فقال أنكِ خرجتِ مبكرا لكنه لم يلحظ عودتك ........ )
لم تستدر ملك اليها .... بل كانت ترتجف بشدة و ساقيها غير قادرتين على حملها .... لكنها همست باختناق في المنشفة
( أنا كنت مرهقة ...... قليلا .... و فضلت أن أستريح اليوم ... )
قالت شيراز بلهجة اتهام عنيفة
( لقد خرجت منذ الصباح ............ )
ثم هتفت بقسوة تدفعها الأيام الماضية منذ ان غادر وليد شقتها دون خبر حتى اليوم ....
( أنا أدفع لكِ كي تخدمينني ..... لا أن تختفي في الوقت الذي تشائين ...... )
كانت تعلم أنها تبالغ و تتبع أقذر الطرق .... لكن الضغط الذي كان يسحقها يوما بعد يوم .... لا ... بل ساعة بعد ساعة منذ اختفاء وليد لعدة أيام كان أكبر من قدرتها على التحمل
اختفاؤه ليس له سوى معنى واحد ..... أنه اتبع نصيحتها و سأل عنها !! ........
مع كلِ ساعةٍ مرت خلال الأيام الماضية كانت تشعر بنفسها تموت و تحيى ... و هذا أخبرها بشيء واحد ...
أنها كانت تملك أملا مجنونا ......
ابتسمت بسخرية مريرة و هي تصل الى هذه النقطة .... ثم لم تلبث أن نظرت بشراسة الى ظهر ملك و شعرها الطويل الذي يتطاول الى أسفل خصرها ... فصرخت
( انظري الي و أنا أكلمك ......... )
الا أن ملك لم تستدر ... و لم ترفع المنشفة عن وجهها .....
حينها ازداد جنون شيراز و هي تندفع اليها لتجذبها من ذراعها تديرها اليها و هي تهتف بغضب
( ماذا بكِ اليوم ؟!! .......... حين أطلب شيء ..... أو أطلب حضورك عليكِ أن تكوني حاضرة ..... مفهوم ؟؟ .... )
أخفضت ملك المنشفة ببطىء شديد ..... و رفعت عينيها الميتتين الى وجه شيراز الشرس ... ثم همست بلا روح
( تحت أمرك سيدة شيراز ...........)
فغرت شيراز شفتيها قليلا .... ثم لم تلبث أن عقدت حاجبيها و عيناها تطوفان على كدمات ملك .....
بدت ردة فعلها الأولى في التنفس سريعا .... أسرع و أسرع ..... و عيناها تدركان شفتي ملك المتورمتين المكدومتين ..... و طال بها النظر الى عنقها ذو الآثار الدامغة بوحشية .....
و سرعان ما التقطت شعرها الأشعث و الذي تراه بهذه الصورة لأول مرة ......
ظل الصمت المرعب بينهما طويلا ... و أيا منهما لا تجرؤ على الكلام ....
ثم اتجهت عينا شيراز ببطىء شديد و خوف الى السرير المجنون بأغطيته المبعثرة في كل مكان ... و عليه
.... و عليه دليل دامغ لا يقبل الشك ......
حينها شهقت عاليا و هي ترفع يدها الى فمها ناظرة الى ملك الصامتة الشاحبة بذهول ......
ثم لم تلبث أن صرخت عاليا
( ماذا فعلت ؟!! ......... )
اندفعت اليها تجذبها من ذراعيها و أخذت تهزها بذهول و رعب و غضب مجنون صارخة
( ماذا فعلتِ ؟!!!! .........هل فرطتِ بشرفك !!! ... . )
أغمضت ملك عينيها و هي تبكي دون صوت .... لكنها قالت بقوة
( لقد تزوجت اليوم ......... )
تسمرت شيراز مكانها و هي تسمع الكلمة التي خرقت أذنها .... و عقلها ..... و قلبها ....
فهمست بهذيان
( تزوجتِ !!! ......من ؟؟؟ . وكيف ؟!! .... و أين ؟؟!! .... هنا ؟!! .... في غرفتك !! ....... ما هو نوع هذا الزواج ؟!! )
همست ملك بصوت ميت
( شاب لا تعرفينه ..... وظروف زواجنا صعبة قليلا ...... )
كانت شيراز تستمع الى كل كلمة و كأنها خنجر مسموم يخترق أذنها معذبا ..... ثم لم تلبث أن صرخت بجنون
( ظروف صعبة !!!! ....... تزوجتِ عرفيا !! ..... أم مجرد صيغة شفهية !!! ..... )
فتحت ملك عينيها تقول بوضوح رغم اعيائها
( تزوجت رسميا عند مأذون .............. )
صمتت شيراز قليلا تلهث ثم قالت بقسوة
( و لماذا هنا ؟!!! ........ اليس لكِ بيت ؟!! .... لماذا لم يجهز لكِ بيت و زفاف ..... )
أطرقت ملك برأسها و قالت بضعف
( ظروفنا صعبة ........... لقد كان زميلي بالدار ...... )
صرخت شيراز و هي تهزها بعنف
( تكلميني أنا عن الظروف الصعبة !!! ...... تكلميني أنا عن الدار !!!! ....ماذا كان ينقصك ؟!! .... لقد كنتِ تملكين كل شيء !! .... التعليم و المسكن .... فماذا كان ينقصك لتفعلي ذلك !!!. )
صرخت ملك فجأة بعنف و هي تبكي
( أنا حبه ....... وهو يحبني أكثر ....... هذا ما كان ينقصني ..... هو من كان ينقصني منذ سنوات .. )
جذبتها شيراز بعنف الى المرآة و صرخت بجنون
( انظري الى نفسك ....... انظري جيدا الى كدماتك ...... هل هذا هو مفهومه عن الحب !!! ...... )
لم ترد ملك و هي تبكي بعنف و هيستيرية ... بينما شيراز لم ترحمها و هي تجذبها بعنف أكبر الى السرير صارخة تهزها
( انظري الى السرير ....... هل هذا هو الحب الذي كنتِ تنتظرينه و تحلمين به !!! ........ افتحي عينيكِ و انظري ...... )
همست ملك بعذاب
( أرجوكِ ......... أشعر بالغثيان ........ )
توقفت شيراز تلهث و تلهث و كأنها كانت تتسلق حافة بركان ركضا ....... ثم همست فجأة
( لماذا !!! ........ فقط أخبريني لماذا ؟!! ....... كنتِ تملكين كل شيء ...... )
همست ملك و هي تتشبث بها
( أشعر بالغثيان .......... بشرى ساعديني .... )
جذبتها بشرى الى السرير بسرعة .... و ساعدتها كي تستلقي .....
ثم رفعت لها قميص نومها كي ترى مبلغ كدماتها .... فهمست بذعر و هي تعي جيدا نوع ذلك الحيوان
( الحيوان ........... القذر ...... )
تأوهت بجنون عالٍ و هي ترى دموع ملك التي أغرقت وجهها ...... ثم مدت يدها تمسح على وجهها لتهمس بأسى و عذاب
( سأحضر لكِ مشروب ....... و ثلج لكدماتك .... استلقي هنا ...... لن أغيب ..... )
أدارت ملك وجهها بعيدا و هي تبكي بصمت ....... فخرجت شيراز من الغرفة بعد أن نظرت اليها نظرة طويلة ...... نظرت يأس ....... لقد سقطت الوردة الأخيرة .......
.................................................. .................................................. ...................
خرجت كرمة من المطبخ تجفف يديها على صوت جرس الباب .....
المطبخ الرائع .... ياللهي ما أروعه بوجود كل ما هو حديث و جعل الوقوف به متعة!!
كان حاتم خارجا و ليس هناك سوى محمد في الخارج ... لذا خرجت سريعا الى الباب
لكنها أبصرت محمد و قد فتحه بالفعل ......
تسمرت كرمة مكانها و هي تتعرف هوية الزائر .....
تلك العباءة و هذا الوشاح !!
اقتربت كرمة بساقين تتعثران
و قلبها المتضخم يصرخ ناويا على ارسال اشارة مجنونة الى عقلها بارتكاب جريمة ....
سمعت صوتها المألوف و الناعم كالحية و هي تنحني الى محمد قائلة بخفوت
( هل السيدة كرمة موجودة ؟!! .......... )
أومأ محمد برأسه وهو يتأملها بريبة .... ثم قال بهدوء
( من لأخبرها ؟؟ ........... )
قالت الشابة بصوتها الخافت
( علياء ........ من فضلك ........... )
كانت كرمة تراقب الموقف و كأنها تشاهد فيلما ردئيا من بعيد .....
الا أن محمد صرخ مناديا
( كمرة ........ فتاة اسمها علياء تريدك ...... )
لكنه صمت ما أن أبصرها خلفه ..... فنقل عينيه منها الى علياء الشاحبة ذات العينين الحمراوين
كانت كرمة هي أول من تكلمت بصوت خافت ميت مبهوت
( ماذا تفعلين هنا ؟!! .......... )
ارتبكت علياء و هي تعدل من وضع شالها فوق رأسها ثم همست بضعف
( تعبت كثيرا حتى عرفت عنوان زوجك .......... سيدة كرمة أرجوكِ)
كانت القسوة تنشب مخالبها في صدرها بعنف ... و عيناها تصرخان بجنون ... و كل ذلك تحت واجهة شاحبة لإنسانة ميتة ....
فقالت بفتور
( كيف تجرؤين ؟!! ...... مجددا ..... ماذا أنتِ ..... شيطانة من الجحيم ؟!! .... )
ابتعلت علياء غصة في حلقها و هي تستمع الى كلمات كرمة الشبية بالسم الزعاف ... لكنها وقفت بشجاعة تنوي الصمود ... فقالت بخفوت و ترجي
( محمد يا سيدة كرمة ....... أنه يموت )
شهقت كرمة و هي تضرب صدرها بيدها صارخة
( ماذا ؟!! ............ )
بكت علياء بقوة و هي تهمس
( انه محتجز في قسم الحميات ....... مصاب بنوع خطير من الحصبة .... وهو لا ينطق سوى باسمك ليل نهار )
كانت أصابع كرمة ترتجف و هي تربت على صدرها النازف بألم فهمست تنتفض بقوة
( محمد لم يصاب بالحصبة في طفولته ...... ياللهي !! ....... )
همست علياء و هي تبكي بقوة
( لا اعلم ..... الأطباء يحاولون طمأنتي .... لكن .... لكن أنا أشعر بالرعب من هذيانه ..... أرجوك أنا وحدي و لا أعرف كيف ......... )
كانت كرمة تشهق باكية دون ان تدرك حتى ....... ثم لم تلبث أن نظرت بمحاولة الحفاظ على رباطة جأشها الى محمد المهتم ثم قالت بهدوء بينما روحها تحيا و تموت ألف مرة في اللحظة الواحدة
( تعال معي يا محمد ... .... )
نظر اليها مبتسما ...... مرجعا ظهره للخلف يستمع الى حديثها المرح ، و في مرحلة ما صدرت عنه ضحكة و كأنها أفلتت منه غصبا
حينها نظرت مذهولة الى ضحكته الشحيحة ثم لم تلبث أن هتفت بحرارة
يالله! !...... أخيرا ضحكت يا سيف ؟! ....... يجب أن نسجل هذا اليوم في التاريخ ))
خفتت ضحكته قليلا الا أنها لم تختفي تماما و هو يقول بهدوء
(أنت انسانة مرحة جدا يا ميرال و شخصيتك آسرة ...... )
برقت عيناها أمام مديحه الذي تنتظره كأمطار الصيف
ثم همست بنعومة و هي تتلاعب بقدح قهوتها
أشكرك يا سيف على هذا الإطراء ...... و أشكرك أنك أخيرا لبيت دعوتي رقم ستة بالخروج سويا))
عاد و جهه لجموده المعتاد دون أن يفقد ابتسامته تماما ،، الا أنها كانت ابتسامة جافة لا روح لها
ثم قال بهدوء
(اعذريني ميرال ..... أي رجل يكون أكثر من محظوظ بنيل دعوة من شخصية رائعة مثلك ...... )
همست بتأمل
لكن ليس أنت ....... أليس كذلك ؟.. ))
رفع عينيه اليها يتأملها طويلا ،، ثم قال ببساطة
لما لا ؟ ....... ها أنا هنا في النهاية.... ))
ابتسمت بجمال و هي ترفع قدحها الى فمها ثم همست بهدوء
(نعم ........ ها أنت هنا في النهاية )
قال سيف بصدق
لقد امضيت وقتا رائعا معك ...... كنت في حاجة أليه..... حقا ... ))
تألقت ابتسامتها و رسمت عينيها نجوما و هي تنظر اليه و تسمعه بقلبها ،، ثم قالت بعفوية
و أنا كذلك ....... لكن الفارق أنني كنت متأكدة مسبقا من أنه سيكون وقتا رائعا ))
ابتسم سيف ليقول بصوته العميق
و كنت على حق ............ ))
اتسعت ابتسامتها و فردت يدها و هي تقول بنعومة
(أنا دائما على حق ................ )
صمتت قليلا ثم قالت بهدوء
اذن سيد سيف ..... الم يئن الأوان بعد كي تمنحني الصداقة التي أطلبها ؟؟ ...... ))
صمتت تمرر اصبعها فوق حافة القدح لتتابع برقة
كما منحتني هذا القدح الذي ألححت في طلبه ........ ))
قال سيف ببساطة
أنت بالفعل صديقتي يا ميرال ...... و لهذا أنا هنا....... ))
قالت بنعومة و اصرار
اذن حدثني عن زواجك ............ ))
أظلمت عيناه ...... و توترت عضلات وجهه, لكنه تمكن من السيطرة على انفعالاته وهو يقول بصوتٍ قوي
( رجاءا يا ميرال ...... إن أردتِ أن يبقى الوقت بيننا رائعا فلا تتحدثي بالأمر ...... )
الا أنها لم تكن لتستسلم بسهولة .... فقالت تطرق الجرح بمهارة
( لست الوحيد اللذي يفشل زواجه ...... بل أنا لا أراه فشل أبدا ..... أنا أسميه بداية جديدة )
تنهد بقوةٍ وهو ينظر الى النافذة المجاورة قائلا بتحذير غاضب
( ميرال ............. )
الا أنها أصرت قائلة ....
( أعرف أنني أتعدى حدودي معك يا سيف ...... لكن أمرك يهمني ..... و هذا الزواج كان متسرعا من البداية و لم يكن يناسبك أبدا ....... )
رفع سيف يده يقول بصرامة
( ميرال ......... أولا أنتِ فعلا تتخطين حدودك ... ثانيا ... زواجي لم و لن يفشل ...... لن أسمح بذلك )
صمتت تنظر اليه بوجهٍ باهت .... عيناه غائرتان ووجه فقد الكثير من حيويته الفترة الماضية
و كأنه ...... و كأنه قد فقد نبض قلبه ......
كل يوم تنظر اليه و تتسائل عما عليها أن تفعله كي تجذبه اليها .... كي تعيده من سحر تلك الساعية !! ...
نعم سحر .... أي سحر ألقته عليه كي يحارب كل منطق و كل ما هو عادل و يرتبط بها هي ....
لذا قالت بصوت جليدي
( لقد هربت يا سيف ............ لم تحترم تلك الفرصة الذهبية التي منحتها اياها ....)
نظر سيف اليها بملامح مخيفة الا أنها رفضت أن يخيفها .... فرفعت ذقنها تواجه نظراته بشجاعة ... ثم قالت
( هل ستضربني ؟؟ .............. )
نظر اليها بجمود ثم قال بخفوت
( هل هذه هي نظرتك عني ؟!! ................ )
ضحكت و هي تتلاعب بخصلة شعر شقراء من شعرها ... ثم لم تلبث أن أدارت وجهها تستمع الى موسيقى ناعمة منبعثة في المكان , فهمست بنعومة
( كم أعشق ذلك اللحن ............... )
ثم عادت تنظر اليه مبتسمة لتقول بهدوء
( لا ....... ليست تلك هي نظرتي عنك ........ نظرتي عنك فوق محل الشبهات .... )
رفع احدى حاجبيه و قال مبتسما بسخرية
( حقا !! .............. )
ابتسمت هي الأخرى لتقول بثقة
( نعم ....... أنت رجل جاد .... صارم , لا تجيد التعامل مع النساء و لوعهن ... و في نفس الوقت أنت محارب ..... حاربت ماضيك و انتصرت على ظروفك بقوة ..... حتى كونت نجاحا أرفع له القبعة ..... أنت رائع ..... )
تجاهل الكلمة الأخيرة و نظر الى سطح القهوة متعمدا وهو يقول بجفاء
( صداقتك بورد على ما يبدو قد تطورت أكثر مما ظننت ........ )
ضحكت بخفة لتقول مرحة
( و هل يضايقك ذلك ؟!! ............ )
قال سيف بهدوء
( فقط حين أكون موضوع احاديثكما الخاصة .......... )
ضحكت ميرال عاليا ثم قالت بصراحة
( اذن ربما عليك البدء جديا في محاولة التفريق بيننا ............ )
ابتسم سيف بهدوء ثم قال
( آنستي خذا راحتكما ......... فالمحاولة غير مجدية في كل الأحوال ..... لقد سبق السيف العذل )
ابتسمت باشراق ثم قالت بصراحة
( اعذرني فأنت تهمني ........... )
ارتبك سيف قليلا و أخفض وجهه .... فابتسمت و هي تتأمل ارتباك ذلك الضخم الجميل .....
تلك الغبية وعد هل هي مجنونة .... أم هي مجرد مشعوذة ......
فقط نظرة العمق في عينيه تقتلها ..... تسحق شخصها الماثل أمامه كل يوم ......
لم تظن أن يخضع ذلك الرجل القوي لسحر امرأة !! .......
قالت ميرال بهدوء
( هي الخاسرة ........ و أنت الرابح بكل تأكيد ....... )
رفع عينيه اليها ليقول بقوة
( لا مزيد من الكلام عن زواجي يا ميرال ........ لأنني لا أريد افساد هذا الوقت حقا ..... )
تراجعت عن الإصرار لمجرد سماعها الكلمة الأخيرة ..... فابتسمت له لتقول بخفوت
( حسنا......... هل تدعوني للعشاء اليوم ؟؟ ........ )
ابتسم لها وهو ينظر اليها ثم قال بهدوء
( كنت أعلم أنني سأدفع ثمن قدح القهوة غاليا ....... )
رفعته ميرال الى شفتيها و هي ترفع احدى حاجبيها لتقول بثقة
( طبعا ............ )
.................................................. .................................................. .......................
أغلقت منيرة هاتفها بصدمة و هي تضعه بجوارها .... فقالت ورد بتوتر
( ما الأمر يا امي ؟!! ........ ماذا هناك ؟ ..... )
ردت منيرة بوجه بائس
( سيف سيبيت خارجا اليلة ........... )
انعقد حاجبي ورد و هي تجلس بجوار أمها ناظرة أمامها بصمت تتنهد بقسوة .... ثم لم تلبث أن قالت بغضب
( انه رجل يا أمي .......... يجب أن نعترف بذلك ..... )
هزت منيرة رأسها يأسا و هي تهمس
( ليس سيف ........ ليس سيف ........ )
ضحكت ورد باستهزاء و هي تقول
( ليس رجلا ككل الرجال ؟!!! ............ )
همست منيرة بحزن وقلب ممزق
( بل هو غير كل الرجال ....... انه ابني و أنا أعرفه ... الضياع في الخطأ ليس من طبعه ..... ابنى هو رجل امرأة واحدة ...)
ابتسمت ورد بسخرية تقول
( ربما عليك اعادة التفكير يا أمي .......... )
هزت منيرة رأسها نفيا و هي تقول
( لا ........ لقد أحبها ........ إنها امرأته و كان يجب أن نعترف بذلك شئنا أم أبينا..... فهو ابن أبيه ... و فراقه عن امرأته بعد أن وجدها ي........ )
سكتت و الدموع تخنق غصة في حلقها المرير .... الا أن ورد تابعت بحزن و مرار
( يقتله ............. )
رفعت منيرة يدها الى صدرها الممزق و همست باختناق بينما الدموع تنساب من عينيها بغزارة
( نعم ..... يقتله ..... يا ابني حبيبي .... لقد أحبها و كسرت قلبه كما كنت أخشى ...... و كسرت قلبها كذلك )
نظرت اليها ورد بوجوم .... ثم قالت بصوت ميت
( هل تظنينها مكسورة القلب حاليا ؟! ......... )
همست منيرة و هي تبكي دون صوت
( لا أظنها ...... بل أنا متأكدة ......... لقد خلقا حبيبين و كان يجب أن أعلم ..... كان يجب أن أعلم يا ورد ... فلقد خلقت أنا ووالدك حبيبين كذلك ...... )
كانت ورد تنظر اليها بألم و هي تتذكر لحظات موت والدها و نطقه باسم أمها دون غيرها ....
لكنها قالت بقسوة مختنقة و هي تمسح طرف عينيها
( لكن على ما يبدو أن سيف ليس ابن والده في هذه النقطة يا أمي ..... فلا تقنعيني أنه يبيت لياليه مناجيا طيفها بمفرده !! ...... )
عند هذه النقطة أغمضت منيرة عينيها بألم ..... ابنها يقتل المتبقي من قلبه حيا ......
.................................................. .................................................. ...................
أرجع ظهره للخلف ببطىء حتى استلقى على السرير الضيق .......
عيناه تلمحان طيفها ...... فأغمضهما على صورة عينيها الشتويتين وهما تضحكان له ......
هنا على سريرها الذي لا يزال يحتفظ برائحتها الخاصة و كأنه وفيا لها .... خائن له .......
ابتسم وهو مغمض العينين ليهمس بخفوت
( اشتقت اليكِ يا مجنونة ........... )
صمت يسمع صدى ضحكتها العالية النادرة و التي لم تخرج الا في مناسباتٍ ذهبية .... ثم همس مجددا
( اشتقت اليك يا وعدي و كل وعودي .......... )
اختفت ابتسامته و صوتها يتردد مع ضحكتها العالية و هي تقول بقسوة
" لم أعد في حاجةٍ اليك ........ لم أعد في حاجةٍ اليك ..... لم أعد في حاجةٍ اليك "
لم تكن تلك وعد ........لم تكن وعده ..... ليس من حقها أن تنطق بلسانها .....
همس مجددا بقسوة
( تعالي الي يا وعد ....... احتاجي الي مجددا ...... أحبيني كما أحببتك )
فتح عينيه على صوت رنين هاتفه فجأة ..... فأخرجه من جيب بنطاله ليطالع الرقم بفتور .... لكنه ما ان أبصر الرقم المجهول حتى استقام جالسا ببطء و عيناه تبرقان ... ثم وضعه على أذنه هاتفا بقوة
( وعد !! .............. )
لم يسمع سوى صوت همهمات من بعيد .... فعقد حاجبيه و صدره يعلو و يهبط بشراسة و قلبه بداخله يصرخ باسمها صراخا يصم أذنيه .....
فهتف مجددا بخوف
( وعد .... هل أنتِ بخير ؟ ........ وعد !! ........ أجيبيني )
سمع عدة أصوات مختنقة ..... ثم لم يلبث الصمت أن ساد قليلا و انتفض قلبه معه وهو يصرخ بعنف
( وعد ..... أين أنتِ ..... أجيبيني حبيبتي و لا تخشين شيئا .... أقسم أنني لن أؤذيك .... فقط تكلمي ... أخبريني أين أنتِ .... )
كانت تبتلع غصة بوضوح ..... فرفع يده الى صدره العاري و المنتفض باسمها
" رباه .... يوما ما ستتسبب في قتله .... "
الا أن صوتها المختنق وصله بوضوح قاتل
( سيف .............. )
أغمض عينيه يتنهد بقوة محاولا التعامل مع نبرة صوتها الغريبة .... و من دون أن يدري وجد نفسه يقول بادراك شبه مؤكد دون أن يفتح عينيه
( توفي والدك !! ................. )
ساد صمت مختنق قبل أن تهمس بإعياء
( نعم ............... توفي والدي يا سيف و أنا ..... أمسك بيده الآن ..... )
↚
( نعم ............... توفي والدي يا سيف و أنا ..... أمسك بيده الآن ..... )
ضاع صوتها المجهد بأنفاسها في نهاية أحرفها ..... بينما كان صدره يخفق بعنف
" مات عبد الحميد ؟!! ..... حقا !! .... "
لكنه اكتشف فجأة أن العبارة رغم رهبتها لم تقارن بخوفه عليها حاليا في تلك اللحظة ....
فهي الآن بالنسبة له مجرد " وعد " .... وعد تخصه بلا هوية و لا ماضي ....
لذا أخذ نفسا عميقا مشحونا ... ليقول ببطء و قوة
( وعد ..... اسمعيني جيدا , أين أنتِ الآن ؟!! ..... في مشفى ربما ؟؟ ..... )
كانت تهز رأسها نفيا بصمت ... فلم يرها ... لكنه سمع صوت نشيجها الهامس المختنق ... فأغمض عينيه وهو يشعر به حادا ينحر في صدره عميقا ...
فهمس بعمق محاولا اختراق نشيجها
( وعد .......... ردي علي )
لم ترد على الفور .... بل ظل صوت بكائها الخافت يقطع نياط قلبه ....
فأرجع رأسه للخلف يستند الى ظهر سريرها .... و همس بقوة بالرغم من ارتجافه
( حسنا لا تردي ...... لكن لا تغلقي الخط , ..... ابقي معي .... و أسمعيني جيدا .... )
صمت قليلا يأخذ نفسا مرتجفا اهتز له جسده الضخم .... ثم قال بصوتٍ أجش خافت
( أنا هنا .......... معك .... )
استمر صوت نشيجها الناعم ..... فتابع بتركيز مشددا على كل حرف
( لن أتركك أبدا ........... مهما تركك الجميع , و زاد عددهم ..... أنا لن أتركك ..... )
سمع صوت اختناقها فأغمض عينيه مجددا وهو يشعر برغبة همجية في اقتحام الأسلاك بينهما و الوصول اليها ... في منفاها المجهول ...
كم هي قريبة ....... و كم هي بعيدة ....
صوت بكائها يهدر في أذنه بكل نعومتها ... بينما يداه تحترتقان ليتلمسها .... ليتأكد أنها حقيقة و ليست مجرد سراب عبر حياته و انتهى .....
همست وعد فجأة بصوتها الباكي
( أتستطيع أن تضمن لي الا تموت ؟!! ............ )
انعقد حاجبيه وهو يسمع سؤالها الغير متوقع و بداخله ومض ضوء غريب
فاستقام مجددا وهو يقول بقوة
( لا .......... لا يا وعد ......... لن أعدك بذلك , لكنني هنا ..... بجوارك .... لن أتركك بعمري طالما كان القرار بيدي ...... )
همست ترتجف بشدة حتى أنه كاد أن يستشعر ارتجافها بوضوح
( أنا أخاف من الموت يا سيف .......... أخاف من الموت جدا ...... لقد لفظ والدي أنفاسه للتو ..... و يده منقبضة على يدي الآن ...... أنا خائفة يا سيف ..... أنا خائفة جدا .... )
قال بصوت صارم كي يخترق هذيانها . بينما في داخله كلمة الموت أرعبته ... وهو لم يعرف الرعب قبلها ! ......
( وعد أين أنتِ ؟!......... بأي مشفى ؟؟ ...... أخبريني و في ساعات سأكون عندك .... بجوارك ..... لن يمنعني عنكِ الا أن أكون ميتا ..... )
عادت لتبكي بإختناق فلعن غباءه ... فقال بهدوء محاولا السيطرة على انفعالاته
( أخبريني .......... وعدي , أين أنتِ ؟ ....... )
صمت قليلا ..... ثم همس بصوتٍ أجش
( أرجوووكِ .............. )
أخذت تتنفس بصوتٍ مفتعل محاولة استجماع قوتها ..... اللعنة ! ..... لا يريدها أن تعود للقناع الجليدي و تحاول ادعاء القوة ..... لأنها لن تتحمل ..... هذه المرة لن تتحمل .....
لقد تحملت طوال سنوات عمرها ما قد يحني الظهر ...... لكنه لم يكن موجودا .......
قالت وعد أخيرا بخفوت و هي تحاول استجماع بعض وعيها و صلابتها
( نحن ....... لسنا بمشفى , ...... أنا في غرفة أمي , ..... و أبي يرقد على سريرها ..... هذه الليلة أصر على مرافقتي ..... و قال أنه لا يريد الذهاب الى غرفته ..... كان متمسكا بي كطفل تائه ..... خائف ..... )
اختنق صوتها و اختفى فهتف سيف بصوتٍ أجش صارم
( وعد ......... لا تصمتي الآن ...... تكلمي ...... )
ابتلعت ريقها بصعوبة .... ثم قالت بصوت باهت
( أنا هنا .............. )
تنهد سيف بارتجاف ... ثم لم يلبث أن قال مؤكدا بقوة
( و أنا هنا ............ )
صمت للحظة ثم قال بحزم
( الآن اسمعيني يا وعد .......... أخرجي من الغرفة الآن قبل أي شيء ..... لكن لا تغلقي الخط ....و أنا سأظل معك .... )
قالت بصوت مرتجف
( لا أستطيع أن .......... أترك يده ..... )
تنفس سيف بحدة , لكنه قال بقوة
( اخرجي الآن يا وعد ....... بقائك هكذا لن ينفع ..... أخرجي و أبقي الهاتف على أذنك ..... )
لم ترد وعد في الجهة المقابلة .... بل ظلت تنظر الى وجه والدها و الذي أسبلت جفنيه بيدها للتو .....
وحاولت جاهدة ابعاد يدها عن يده الخشنة ذات العروق الزرقاء .... عيناها متجمدتان بدموع حارقة لا تعرف منبعها
لطالما قررت الهرب .... لطالما شعرت به حملا ثقيلا عليها ..... لطالما آذاها ......
لكن الآن ..... ها هي تطوى الصفحة دون الحاجة للهرب .... تطويها باسدال الملاءة على وجهه الساكن .....
رفعت وعد يدها على صدرها الخافق بعنف ... و تراجعت عدة خطوات .. تنظر الى الغرفة من حولها بخوف .... و نسيت أن الهاتف لا يزال على أذنها ... الى أن قال سيف بقوة
( وعد !! ......... )
شهقت منتفضة و هي ترتطم بظهرها بالباب .... فهتف مجددا
( ماذا بكِ ؟!! ....... هل أنتِ بخير ؟ ..... لا تصمتي هكذا !! ..... )
همست بإختناق
( أنا هنا ..... ...... )
قال سيف بصلابة
( هل خرجتِ من الغرفة ؟؟ ................ )
فتحت الباب و خرجت ..... ثم لم تلبث أن أغلقته بهدوء لترتمي على جدار الرواق مستندة برأسها اليها ثم أجشت ببكاء عنيف و هي ترفع يدها الى عينيها ....
انقبض صدر سيف من بكائها العنيف .... و شعر بأنفاسه تحترق و أصابع يده تنقبض بشدة , الا أنه منحها بضعة دقائق قبل أن يقول بصوتٍ أجش
( اهدئي الآن يا وعد ....... اهدئي ..... )
انعقد حاجباه و هو يهمس بداخله
" أريحي قلبك الصغير المجهد ....... فلو أصابه مكروه لضعت أنا "
قال سيف بخوف
( وعد ......... لا تنهاري و أنتِ بعيدة عني ..... تمسكي ببعض القوة )
همست باختناق من بين بكائها القوي
( لقد كنت قاسية معه يا سيف ...... لم يكن يستحق ذلك مني , كان علي أن أحاول إسعاده في آخر أيامه ..... دائما ما كان يبحث عني .... ما أن أخرج حتى يصيح مناديا باسمي ....... و أنا كنت أشعر بال .... بالإختناق .... )
قال سيف بقوة وهو ينهض من سريرها ... ليدور في الغرفة كأسدٍ حبيس عاجز
( لا ..... لا لم تكوني , لقد كنت شرسة في الدفاع عنه دائما ..... أتتذكرين وقوفك في وجهي دفاعا عنه و بقاءا معه .... حتى في أكثر لحظات خوفك منه , لم تتركيه أبدا ...... لقد كنت كل عالمه و الفرد الوحيد المتبقي له ...... لقد فعلتِ الكثير من أجله يا وعد , و ما تشعرين به الآن ما هي الا ردة فعل .... )
صمت قليلا وهو يشعر بأن عنف بكائها قد خفت قليلا ..... فتركها عدة لحظات ثم قال بقوة
( أين أنتِ يا وعد ؟ ........... يجب أن آتي اليكِ , لن تستطيعي التصرف وحدك الآن )
ساد صمت قليل و سمعها و هي تلتقط أنفاسها المتحشرجة ... ثم همست بصوتٍ واهٍ ذاهب الأنفاس
( لا ..... أعتقد أنني ........ لن يفيد قدومك يا سيف , فأنا على الأرجح سأبدأ حالا في اجراءات نقل والدي و العودة به كي يدفن في بلده ..... )
بريق مفاجىء ومض في قلبه و عينيه ...... فتحشرجت أنفاسه و تعثرت دقات قلبه ...
لكنه قال بإصرار محاولا السيطرة على نشوة صوته
( يجب أن آتي اليكِ ...... لن تتمكني من فعل كل ذلك بمفردك ...... )
قالت وعد غير مدركة لعدم صواب ما تنطق به
( لا بأس يا سيف ....... أعتقد أنه على الأرجح سيساعدني يوسف في الإجراءات ..... لا معنى لقدومك بينما اغادر في اليوم التالي )
ساد صمت غامض فجأة .... و اعتلى وجهه تعبير قاتم بينما تصلبت عيناه بتوتر مفاجىء وهو يقول بهدوء
( من يوسف ؟؟ ......... )
قالت وعد بخفوت و هي تحاول التظاهر بالصلابة استعدادا للساعات المقبلة
( يوسف الشهاوي ...... هو ابن زوج امي , و هو الذي بلغني بالميراث ...... )
صمت سيف بوجهٍ متصلب ....قاتم الملامح .... و الدم يهدر و يطوف بأوردته طوفان من الجحيم ...
لقد ذكرت أن والدها الآن في ..... غرفة والدتها ! ...
لكنه حين تكلم قال بصوتٍ بلا تعبير
( هل هو معك ...... بنفس البيت ؟؟ ...... )
ردت وعد و هي تمر بحالة من انعدام الوزن و القدرة على التفكير السليم
( نعم .......... لا تقلق , ...... سنبدأ الإجراءات على الفور .....لم يعد هناك معنى لوجودي هنا بعد وفاة والدي ..... لقد أنهيت اجراءات استلام الميراث .... و كأن والدي كان ينتظرها ليرحل و أعود بالميراث بدونه ... . )
لم تستطع أن تمنع نفسها من البكاء بصوت خافت ..... لكن سيف هذه المرة لم يشاركها حزنها ... بل كان يحاول جاهدا السيطرة على ما يجيش بصدره من ميول اجرامية .....
قال أخيرا بصوتٍ خطير
( هاتفيني اذن لتعلميني بموعد رحلتك ........... )
أومأت و هي تقول بخفوت
( حسنا لا بأس ........ يجب أن أذهب الآن ....... )
صمت دون أن ينطق بحرف واحد ... فتابعت تقول بخفوت مختنق
( سيف ....... آسفة لما فعلته للتو ...... لقد كنت في حالة هيستيرية , و لم أدرك ما أفعله ...... لم أدرك أن وفاة والدي س....... )
صمتت تبتلع غصة و هي ترفع يدها الى صدرها اللاهث ... و تنظر بألم الى باب الغرفة المغلق حيث يرقد والدها بلا روح .... بينما يداهمها احساس رهيب بالضياع و انعدام الهوية
تكلم سيف أخيرا بصوتٍ جاف لا يحمل ذرة من المشاعر
( هل ستكونين بخير ؟ ........... )
أومأت و هي تقول بخفوت
( سأكون بخير ....... لا تقلق ..... يوم على الأكثر أو أقل ..... و سأكون بالبلاد ..... )
قال بصوتٍ مؤكد ... خطير
( سأكون بانتظارك ......... ...... )
أغلقت وعد الخط و هي تنظر الي الباب المغلق .... تشعر أن فصلا من حياتها قد أغلق للأبد ....
حينها ارتجفت شفتاها مجددا و هي تستند الى الجدار ... و تنزلق عليه بصمت حتى جلست أرضا ... فرفعت ركبتيها الى صدرها و أجشت بنحيبٍ صامت و هي تدفن رأسها بركبتيها .....
.................................................. .................................................. ......................
وضع سيف هاتفه على طاولة الزينة القديمة الخاصة بها .... ليستند بكلتا يديه الى جانبي المرآة الرفيعة على الحائط ... ثم رفع وجهه الأحمر بشدة ينظر الي عينيه الشرستين وهو يهمس بوحشية
( زوجتي ........ زوجتي في مكانٍ ما .. ببيت رجلٍ غريب .... و أنا أبيت هنا الليلة ...... )
انقبضت احدى يديه تكورة في قبضةٍ ضربت الجدار فجأة و هو يصرخ
( تبا ...... تبا ....... تبا ........ )
ثم استدار حول نفسه بجنون .... سبحن من مكنه من السيطرة على نفسه !.... كيف استطاع كبح جنون ما شعر به في تلك اللحظة .... لقد شعر بأنه على وشكِ أن يقتلها .... يحطم اضلعها بين أصابعه حتى تصير فتاتا ....
نظر الى أرجاء غرفتها ... وهو يسمع صوت عبد الحميد فجأة يتردد في أذنه من بعيد ساخرا
" لكن تذكر ..... لو جئتني جاثيا طلبا لها ... فستكون نجوم السماء أقرب لك ... "
هتف سيف بقوة في انحاء الغرفة
( إنها زوجتي ........ ابنتك هي زوجتي .... في حياتك ومماتك هي زوجتي .... بحياتي و مماتي أنا ستظل زوجتي .....بتخطيطك أو رغم عنك , فهي زوجتي .... لن يحصل عليها غيري ....... )
أسند كفيه الى سطح طاولتها الخشبية التي كانت تقبع عليها ماكينتها التي كسرها .... يلهث بقوة ... يتنفس بنفسٍ مشبوب بألمه و غضبه في آنٍ واحد ....
ثم همس بصوتٍ قاسٍ شرس
( أنت السبب ...... أنت من أرسلتها الي بعد أن كنت قد نبذت الماضي كله ..... لقد فعلت الكثير و الكثير ... أكثر من أن أستطيع مسامحتك عليه ..... فظللت قابعا بركنٍ أسود خفي من صدري .... سوادا جعلني أرى عينيك كلما نظرت الى عينيها الجميلتين ...... )
صمت قليلا يتنفس بصعوبة ... ثم همس بقسوة و ألم
( هل كانت لعنة سلطها علي ؟!! ..... أم أنها ببساطة العمل الطيب الوحيد بحياتك .... أنا نفسي لا أعلم ! )
رفع رأسه ببطء ينظر أمامه بعينين متألمتين لا تبصران ثم قال بصوتٍ أجوف تردد صداه بداخله
( أيا كانت الإجابة ......... فالنتيجة واحدة .... ابنتك هي زوجتي ... و لهذا فأنا شاكرا لك )
صمت قليلا ينظر في أنحاء غرفتها عله يجدها تبتسم له .... ثم تابع بهمس
( لأنني أحبها ........ رغما عني و عنها .... و عنك و عن أمي و عن الجميع ..... أنا أحبها .... و لن أتركها الا بعد أن أزهق روحها وهي تهتف بحبي يوما ما ..... و بعدها أعيدها الى أحضاني من جديد ... )
أغمض عينيه بقوة .... و أخذ نفسا عميقا كي يمكنه من تحمل هذه الليلة التي ماثلت عشرات الليالي و زوجته بعيدة عنه .... تحت سطح أغرابٍ عنها .....
ثم لم يلبث أن استقام فاتحا عينيه ... و استدار الى حيث طاولة جانبية بجوار السرير .... عليها مصحف صغير ..... فابتسم بحزن وهو ينظر اليه ....
لقد قضى الليالي الماضية في تفتيش كل جزءٍ من بيتها .... كل ما تركته ....
كان ييتنشق عطرها البسيط المحيط به في كل ما يخصها .....
فستان زفافها الضخم و الذي لم ترتديه .... كان لا يزال معلقا بالخارج يهزأ منه بقسوة .....
حطام ماكينتها تتحداه أن يصلحها .... و لو أصلحها لعادت وعد .....
فستان واحد تركته في الدولاب ... ذلك الفستان بلون السكر و المنقوش بورود صغيرة ..... ذلك الذي سلب عقله ما أن رآها به .....
كل أغراضها الخاصة كانت تسخر من شوقه لها .... الا هذا المصحف الصغير ....
كانت قد أخبرته ذات مرة أنه كان معها منذ طفولتها بدار الرعاية ..... و كانت لا تستطيع النوم الا وهي ممسكة به تدعو الله الا يحدث لها و لملك شيئا مما كان يحدث لفتاة في مثل عمرها .... كانت تتعرض لشيء بشع كل ليلة دون أن يدرك أحد .....
و من يومها لم يفارقها ..... أخبرته أنها لم تتركه لملك كي لا تضيعه ... بل أخذته معها و ظل بيدها و هي تدعو الله أن يحفظ ملك الصغيرة ......
لم يدرك الا الآن أنها لم تأخذه معها الى بيته ..... لقد نسيته ....
تذكرت الإمساك به طوال سنوات عمرها ..... و نسيت أن تأخذه الى بيته ..... ربما لأن روحها كانت تخفي بداخلها وهما أن ذلك البيت لن يكون بيتها أبدا ....
تكلم سيف أخيرا بخفوت
( حسنا يا وعد ....... إن كنتِ قد نسيت أن تأخذيه الى بيتي .... فقد نسيتِ أخذه كذلك في سفرك .... لربما ضاع منك هناك .... لذا أنا من سأمسك به الآن و أدعو الله أن يعيدك ......و أن يخفف غضب قلبي عليكِ .. )
ارتجف نفسه وهو يتجه الى الحمام .... ليتوضأ و يحاول القراءة في المصحف قليلا عله يهدأ و يمحو سواد قلبه .....
و بالفعل وجد أن الماضي يطوف بعيدا ببطىء عن تفكيره ... وهو يدرك كم من الممكن أن تكون تلك الحياة قصيرة ... أقصر من أن ينازع فيها الإنسان كي يبقى بدور المظلوم طويلا ....
للموت رهبة ..... حتى ولو كان من رحل هو أشد من ظلم .... لكن يظل الإنسان ضئيلا تجاهه ... وهو يشعر بالرعب من فقد أحبابه .... من فقد قلبه و آدميته لو لم يشعر بتلك الرهبة ... و القدرة على السماح أخيرا ... أو على الأقل .. المحاولة ....
.................................................. .................................................. ...................
كم هي غريبة منظر السحب و هي تحتها ..... و كأن العالم أصبح صغيرا .... بعيدا .... بعيدا جدا بكل ما فيه
سمعت صوتا يقول فجأة بهدوء
( هل أنتِ بخير يا وعد ؟؟ ......... )
ابتعدت بوجهها عن نافذتها لتنظر اليه بصمت ثم قالت بخفوت
( أنا بخير سيد يوسف ....... لا تقلق .... )
عقد حاجبيه قليلا وهو ينظر الي عينيها الجامدتين على الرغم من لونهما الأحمر الجذاب ..... و بدت رماديتهما مع حمارهما كلوحةٍ من الجمال و الألم ..... القوة و الشجن ......
ابتسم يقول بهدوء
( لم تكادين تنطقين باسمي مجردا مرتين حتى عدتِ لإستخدام الألقاب مجددا ..... )
ابتسمت قليلا و هي تنظر اليه بحرج , ثم همست بفتور
( اعذرني ....... فارق السن و المكانة يحرجني )
رفع احدى حاجبيه ......وهو يعدل من ياقة قميصه واجما .... " هل تقدم به العمر لهذه الدرجة !! "
لكنه قال ببساطة مستفزة
( لا أعتقد أن فارق السن ملحوظا الى هذه الدرجة .... فأنتِ لستِ مراهقة ! .... )
مطت شفتيها و هي تنظر اليه بصمت , ثم قالت بهدوء
( أعلم أن البقاء بالخارج طويلا يجعل الإنسان صريحا ..... لكن ليس الى هذه الدرجة , الا يمكنك المجاملة ؟! ... )
ابتسم أعمق وهو ينظر الي عينيها ثم قال بسعادة
( لماذا التظاهر ..... ليس عيبا أن تكوني على مشارف الثلاثين ..... لم أظنك قديمة الطراز كي تخشين من العشرة الثالثة من عمرك .... )
مطت شفتيها أكثر و هي تقول
( لست على مشارف الثلاثين .......... )
رفع حاجبه يقول ببساطة
( بلى ...... لقد اقتربتِ جدا ...... )
ظلت تنظر اليه بوجوم لفترة .... ثم لم تلبث أن ضحكت قليلا بخفوت و همست
( أنت حقا محبط يا سيد يوسف .......... )
ظلت ابتسامته على جمالها ... تغضن زاويتي عينيه ... ثم قال بهدوء
( هكذا أفضل ..... اضحكي يا وعد .... , فلو كانت الدموع قادرة على ارجاع من فقدنا لبكينا للأبد ...... )
نظرت اليه بصمت و قد ماتت ضحكتها على شفتيها ... ثم لم تلبث أن قالت بصوت فاقد الحياة
( لم أتخيل أن أعود لبلدي أنا فوق ..... ووالدي بأسفل .... )
تنهد بقوة ... ثم مد يديه فجأة ليمسك بيدها الموضوعة فوق ذراع مقعدها بكل قوةٍ و نظر في عينيها قائلا بصوته الرخيم
( هل أنتِ بحاجة حقا لأن أخبرك أن يوم وفاته متواجد قبل حتى أن يتواجد هو ...... لكل منا يوم سنرحل فيه .. تلك هي الحقيقة الوحيدة في العالم .... )
رمشت بعينيها قليلا و أخفضت رأسها ..... و الخوف يعود اليها من أن تموت يوما وحيدة ...
ثم لم تلبث أن نظرت اليه لتقول بخفوت
( سيد يوسف ..... أنا ممتنة حقا لإصرارك على العودة معي ..... رغم أنه لم يكن هناك داعٍ لتعطيل نفسك و عملك !! ........ )
ابتسم يربت على يدها بلطف وهو يقول
( كانت فرصة لأقوم بزيارة متأخرة لبلدي ........ و أنتِ لم تكوني في حالةٍ تسمح لكِ بالتصرف وحدك )
قالت بتلقائية رغم تلك الرعشة المفاجئة و التي سرت في أوصالها
( زوجي سينتظرني ....... و يقوم باللازم )
تصلبت ملامحه قليلا .... لكنه قال بهدوء
( تقصدين طليقك ........... )
نظرت اليه طويلا بوجه جامد ثم قالت بخفوت
( لم يطلقني بعد ......... لكن ..... نحن في طريقنا لذلك )
نظرت فجأة الى يدها بين يديه .. فسحبتها ببطىء و حرج و عادت تنظر الى نافذتها بصمت وهي تعود بتفكيرها لذلك الوهج الدافىء ...
كم تبقى من الوقت كي ترى سيف ؟!! .....
لقد أكد لها أنه سينتظرها في المطار ...... ترى على تغاضى عن فعلتها و هربها منه و دون علمه!! ...
رجل كسيف لن يسمح لأي كان أن ينتقص من قدره أبدا ....و خاصة هي ... و مع ذلك فقد وصلت الى المرحلة التي تجبره فيها على التخلص منها للأبدا بعد أن أهدرت من كرامته بتلك الدرجة ....
ابتلعت ريقها و هي تنظر الى السحاب البعيد .....
"كم تبقى من الوقت كي تراه ؟ ........ و كم مضى على فراقهما ؟!! ...... و لماذا تشعر أن المتبقي من الوقت كي تراه , أطول من أيام فراقهما ؟!! ...... "
.................................................. .................................................. ......................
وقف مكانه ثابتا كتمثال رخامي ضخم الحجم ..... ثابت التنفس .... صلب الملامح و كأنها من حجر ...
يداه منقبضتان في جيبي بنطاله .... كان رمز القوة و الصلابة لمن ينظر اليه ....
دون أن يدرك ذلك الناظر أن بداخل ذلك التمثال الصامت الطويل طوفان من لهب يحترق و يفور في حممٍ تجري بأوردته .....
عيناه الجامدتان تطالعان أناسٍ من كل الأشكال أثناء خروجهم ... و صدره يصرخ باسمها منتظرا ....
و فجأة .... شعر بإشاراتٍ ترسل ذبذبات معينة بداخلة ....
رفرفة غريبة داخل أحشاءه تبعها تشنج عضلات جسده بتوتر و كل مراكز الإحساس لديه تنتبه فجأة
فبالتالي بدأت عيناه تبحثان عنها بجنون وهو يدرك قبل أن يراها أنها موجودة في مجال رؤيته ... لكن أين ...
الى أن تسمر .... و تسمرت معه كل انفعالاته في لحظةٍ خاطفة وهو يبصر ذلك الكيان النحيف الملتف بالسواد من بدايته حتى نهايته ....
لكن ليس أي سواد !!....
رفع سيف نظارته السوداء عن عينيه ببطء .... هل هي فعلا !!! ..... نعم إنها هي !!
نسى قلبه أن يدق عدة خفقات ..... وهو يرى أمامه شابة نحيفة ترتدي بنطالا أسود ... بداخل حذائين أسودين عاليين الساقين ...
يعلوهما قميص أسود ناعم منسدل على قوامها النحيف يغطي وركيها برقة ... و حول عنقها تركت وشاحا يتطاير عليه بحرية بنقوش النمر .....
عيناها كانتا مختفيتان تحت نظارةٍ سوداء كذلك ....بينما شعرها الذي استطال بشكلٍ ساحر في قصةٍ تبدو جديدة و غرتها منسدلة على جانبي وجهها حتى فكها .... و بيدها ترتاح حقيبة أنيقة بنقوش النمر كذلك ....
كان وجهها يلتفت يمينا و يسارا بلهفة ....أو ربما هذا ما تمناه ....
حتى رأته !! ..... حينها توقفت مكانها ...... و لم يظهر أي تعبير على ملامحها الساكنة ....
وقفت هناك بعيدة و الناس يطفون من حولها متقدمين .....
و للحظةٍ شعرا معا بأن كل البشر من حولهم قد اختفوا و هما ينظران الى بعضهما بصمت .... دون الحاجة للكلام المؤلم ....
بدت قدماه و كأنهما ترسختا في الأرض .... حاول التحرك في اتجاهها بوحشية .. لكن شيئا ما جعله متسمرا ... عاجزا انما بصلابة الوتد ....
كم مر من الوقت عليهما ؟؟ ..... كلاهما لم يعرف .....
ثم كانت هي من تحركت بإتجاهه ... ببطىء أولا ... ثم بدأت خطواتها تتسارع شيئا فشيئا ... حتى بدت تهرول تجاهه و كعبي حذائيها يطرقان الأرض المصقولة ....
كانت تبدو كحلم الليالي الماضية تماما .....
و هي تندفع متجاوزة الجميع كي تصل اليه .... و ما أن صارت على بعد خطوةٍ واحدةٍ منه حتى توقفت تلهث قليلا و هي تنظر اليه بصمت ....
ثم رفعت يدها كي تزيح نظراتها ببطىء الى أعلى شعرها .... ترجعه للخلف عن وجهها ....
حينها أبصر عينيها الضبابيتين الحزينتين حبيبتيه ..... نعم إنها هي .....
ظلت تنظر اليه قليلا و كأنها تستمد منه قوتها دون مشاعر معينة ...
ثم لم تلبث أن اندفعت فجأة لتستطيل على أطراف أصابعها تتعلق بعنقه بقوة عنيفة ... عنيفة جدا ... لدرجة أنها أغمضت عينيها بشدة و كأنها تطبع نفسها على صدره
لم يحتج سوى نبضة قلب واحدةٍ عنيفة ثم تأوه سيف وهو يقول بخشونة صدرت كزمجرةٍ خرجت من حنجرته
( وعد !! .............. )
فارتفعت ذراعاه تسحقانها الى صدره بعنف .... حتى أن أطراف أصابع قدميها ارتفعت عن الأرض عدة شعرات ...
لم يعبئا بمن حولهما .... لم يلحظا حتى النظرات الفضولية المصدومة اليهما و كلا منهما مطبق جفنيه بقوة ...
كانت هي تخنق عنقه خنقا ... بينما كانت ذراعاه تحطمان أضلعها و يداه تتحسسان ظهرها و كأنه غير مصدق بعد .... لقد أوشك على أن يفقد الأمل .... أكان يجب أن يتوفى أحدهم كي يعانقها حد الموت مجددا !!
لم يتعرف رائحتها الطبيعية و هي مغطاة بعطر كثيف ثمين أزكم أنفه ... لذا اعتمد على حاسة اللمس بدلا من الشم ...
فلامست أنفه صدغها ... و فكها و عنقها ...... فأرجعت رأسها للخلف حتى سقطت نظارتها ارضا دون أن تلحظها حتى ....
و أنفاسها .... آآه من أنفاسها ... كانت تخرج كشهقات صغيرةٍ بينما قلبها الصغير المجهد يخفق بعنف فوق صدره .....
أبعدت وعد وجهها عنه فجأة و هي تدرك المكان فعادت للأرض تثبت قدميها و هي تهمس برعب
( سيف ....... سيف ...... )
لم يرد على الفور و لم يتركها .... شعرت بخوفها يتزايد و هي تظنه سيزيد من جرأته علنا .......
لكنها أبعدها عنه فجأة بهدوء ... فخطت خطوة الى الوراء تنظر اليه برهبةٍ ... عيناها متسعتان و وجهها أحمر بشدة .... و كانت تلهث بسرعة ...
بينما هو !!! ......
كانت ملامحه جامدة .... صلبة ....قاتمة ...
و عيناه ميتتان .... عيني رجلٍ طعن غدرا و لم يسامح بعد ......
هل كانت تتوهم عمق عاطفته منذ لحظات ؟!! ........
حتى أن يديه كانتا في جيبي بنطاله !! ...... متى و كيف ؟!! .........
أخذت وعد نفسا مرتجفا و هي تنظر اليه برهبة و صمت .... ثم لم تلبث أن همست بفتور
( كيف حالك يا سيف ؟؟ .......... )
لم يرد ..... و لم تتغير عيناه الصلبتان و هما تنفذان الى أعماقها ...
لكن زاوية شفتيه مالت في شبه ابتسامةٍ ساخرةٍ حزينة .... فكان أن أسبلت جفنيها تهرب بعينيها من عينيه بإحساس بالتضاؤل .....
و ظل الصمت بينهما طويلا الى أن انبعث صوت من خلفها يقول بهدوء به لمحة برود .....
( ألن تعرفينني يا وعد ! ............ )
أغمضت وعد عينيها بيأس ..... كانت تلك ال " وعد " بدون العين .... لرجلٍ رخيم الصوت يقف خلفها بعد أن سبقته وهو يحضر حقائبها .... و كان آخر شخص تتطلب الحكمة وجوده حاليا ....
ابتعدت وعد ببطىء مطرقة الرأس ..... فظهر يوسف كاملا .... طويلا بنفس طول سيف تقريبا ... ينظر اليه بابتسامة هادئة لا مبالية به .....
فقالت وعد بخفوت
( سيف ... يوسف .... يوسف .... سيف .... )
و كم شعرت بنفسها مثال الغباء الحق ..... لقد كانت تستفز كل قواه كي يقتلها علنا ......
حينها فقط فقدت عينا الحجر صلابتهما .... و استطاعت وعد أن تلمح بريقا مخيفا في عينيه وهو ينظر الى يوسف الذي رفع يده بهدوء قائلا
( سيد سيف ........ مرحبا ... )
نظر سيف الى يد يوسف الممتدة بصمت و ازدراء .... دون حتى أن يحاول اخراج يده من جيبه كي يصافحه ...
فابتسم يوسف وهو يسحب يده دون إهتمام ......
أما سيف فقد نظر الى وعد نظرة أخافتها ثم قال بجفاء
(هل أنتِ بخير ؟؟ ............ )
رفعت عينيها اليه تتحقق من مدى اهتمامه الحقيقي بها .... لكنها لم ترى من عينيه سوى نظرة أرعبتها ... فأومأت بصمت و قلبها يخفق عنفا ....
حينها مد يده يجذبها من ذراعها ليقول بصوتٍ صلب
( هيا لننهي الإجراءات ............. )
شحب وجه وعد و هي تسمع لهجته الباردة .....
" لننهي الإجراءات !! " .... و كأنه ينهي اجراء نقل سيارة أو حمولة بضائع .....
لم يذكر عبارة عزاء واحدة ... و لم ترى الرحمة أو الرفق في عينيه .....
شحب وجهها أكثر و هي تشرد بعينيها ... ساخرة من نفسها
" عزاء !! ...... في عبد الحميد العمري ؟!! ..... من تخدع ؟!! ..... "
لكن و قبل أن يجرها خلفه ..... انحنى ببطىء ... ليلتقط نظارتها السوداء عن الأرض ... و ما أن رآى الإسم المسجل الشهير على ذراعها و الذي يبلغ بوضوح عن ثمنها حتى التوت شفتاه في ابتسامة سخرية و استهزاء
أبصرتها وعد .... فامتقع وجهها بشدة و أظلمت عيناها و هي تقرأ أفكاره بوضوح .....
لكنه سرعان ما مد يده بالنظارة اليها و هو يقول بجفاء ساخر
( نظارتك سيدة وعد ....... من المؤكد ستحزنين لفقدها .... )
ظهرت القسوة في عينيها جلية فمدت يدها تجذب النظارة بقوة و هي تعيدها فوق عينيها بصلف ... فغطت الشاشتين السوداوين نظرتها الضبابية عنه .... فاستمر ينظر اليها قليلا ... قبل أن يجذبها خلفه بصمت .... يتبعهما يوسف متجهم الوجه .......
بعد سلسلة طويلة من الإجراءات استهلكت كل قواها .... رأت وعد أخيرا سيارة نقل المتوفين أمام الباب منتظرة ..... فانقبض قلبها و هي تشعر بالدوار ....
و فجأة شعرت بيدٍ قوية تمسك بمرفقها مجددا .. تجذبها لتستند الى صدرٍ قوي ... فرفعت عينيها الى وجه سيف الصلب ....
نظر اليها عدة لحظات ثم همس بصوتٍ أجش في أذنها
( هل تشعرين بالدوار ؟ ........... )
أومأت برأسها ببطىء دون ان تنزع عينيها عن عينيه .... ثم قالت بخفوت
( لا أريد أن أحضر الدفن يا سيف ....... لا أشعر بأنني ..... )
قاطعها يقول بصوتٍ أجش
( و من قال لكِ بأنكِ كنتِ لتذهبين من الأساس !! ......... )
نظرت الى السيارة المخيفة بصدر موجوع ثم همست باختناق
( يجب علي أن أفعل ............... )
قال سيف بلهجةٍ نافية بقوة
( بل لن تفعلي ................. )
صمتت باستسلام و هي تريد الهروب من هنا سريعا .... فتابع سيف بصيغة آمرة
( سأصطحبك الي البيت ......... و ما أن ننتهي حتى أعود اليكِ.... )
صرخت فجأة بقسوة
( لا ......... لا أريد الذهاب الي بيتك ....... )
اصطدمت عيناه بعينيها بنظرةٍ مخيفة ... الا أنه حين تكلم قال بجفاء
( قصدت بيتك ...... لا بيتي ...... )
أظلمت عيناها و ارتبكت ... لكنها قالت بفتور
( لم يعد بيتي ........... )
سمعت صوت نفسه الخشن .... لكنه قال بجفاء
( سنتكلم عن هذا فيما بعد ...... أما الآن , فسيقلك سائق خاص الي البيت .... و أنا سأرافق والدك )
" سأرافق والدك " ...
وجدت نفسها تبتسم ابتسامة حزينة .... للحظةٍ تخيلت الأمر مختلف ....
كم بدت عبارته .... رقيقة .... بها حنان كانت تشتاق اليه ......
شردت عيناها مع السيارة الطويلة ..... لكنه حثها وهو يريح يده على ظهرها قائلا
( هيا يا وعد ........ سنتأخر ..... )
أومأت برأسها و هي تنظر الي السيارة و الدموع تغرق عينيها دون أن تتساقط .... لكنها شوشت عنها الرؤية تماما ..... فلم ترى نظرته حينها ..... نظرة حزن دفين ... و عشق لا نهاية له .......
خرجت وعد مرهقة من حمام الغرفة الانيقة ..... و هي تجفف شعرها ...
كانت متدثرة برداء الحمام الأبيض الزغبي يبتلعها كلها بنعومةٍ و رفاهية ..... فاتجهت الى مرآة مذهبة فخمة ووقفت أمامها تجفف شعرها بشرود ...
ترى ما هي ردة فعل سيف الآن ؟! ......
لم تمكث في بيتها سوى ساعة واحدة , نزلت بعدها سريعا ... و استقلت سيارة أجرة و جاءت الى الجناح الذي سبق و حجزه لها يوسف .....
ربما ... على الأرجح سيكون الآن في حالة من حالات الجنون ... و هو يبحث عنها مجددا دون أن يعلم طريقها .....
أنزلت المنشفة عن شعرها ببطىء و هي تنظر الى عينيها الكبيرتين القاسيتين ... ياللهي ... لطالما كرهت عينيها الباردتين .... و اليوم لم يكن استثناءا .... لكم تمنت في تلك اللحظة لو وجدت بهما بعض الرأفة و الحنان يبدد ذلك الصقيع الذي تشعر به حاليا ...
سمعت فجأة صوت رنين لجرس الجناح ... فعبست وعد وهي تتسائل مجفلة من سيأتي حاليا !! ......
لقد استثنت العشاء و قررت النوم فورا .... هذا ان استطاعته .....
اتجهت وعد ببطىء الى الباب , ثم وقفت بجواره و هي تقول بتوتر
( من ؟!! ................ )
سادت فترة صمت قصيرة , قبل أن تسمع الصوت العميق يقول بنبرة أرسلت الرجفة في أوصالها
( أنا سيف ....... افتحي ... )
اتسعت عينا وعد بصدمة و رفعت يدها الى وجنتها الشاحبة و هي تهمس بخوف
( ياللمصيبة !! ............. )
لم تظن أن يصل اليها بمثل تلك البساطة .... ليست مستعدة بعد لمواجهته فعليا ... و ليست مجرد مقابلة عابرة في المطار ....
ماذا تفعل الآن ؟! ...... لقد وقعت في الفخ !
حين طال صمتها ... شجعها قائلا بلهجة الخطر
( انصحك بإختصار عواقب الغباء و افتحي الباب حالا .... فليس من الحكمة استفزازي في تلك اللحظة )
أغمضت وعد عينيها للحظة و هي تخفض يدها الى صدرها اللاهث ...
" ياللهي .. ليست مستعدة , لقد حضرت لجلسة افتراق رسمية .... لكن ليس الآن ... فهي حاليا مجهدة للغاية , عارية الروح بشكل قابل للإختراق مع أقل كلمة .... "
لكنها لم تجد بدا من أن تفتح الباب ..... ففتحته جزء صغير و نظرت منه بتوتر , لتجد سيف واقفا أمامها بهيئته المخيفة الضخمة .... يديه في جيبي بنطاله تماما كما رأته في المطار ... و كأنه يحاول السيطرة بجهد على عنف طباعه ....
عيناه !! ..... عيناه .... ياللهي إنه على وشكِ قتلها بالفعل ....
لكنها ابتلعت ريقها بصعوبة و همست بتوتر
( ماذا تفعل هنا يا سيف ؟ ............ )
كان السؤال الخاطىء للشخص الخاطىء ....في الوقت الخاطىء ... و قد لاحظت ذلك من نظرة عيناه التي لو كانت تقتل لكانت الآن في عداد الأموات ....
لم يتعجل في الرد ... بل نظر اليها ببرود و استهانة ... بدئا من شعرها المبلل كماء المطر على كتفيها ... ثم عنقها الطويل منتهيا بفتحة رداء الحمام العميقة بسبب اتساعه ....
فماكان منها الا أن أحمر وجهها بشدة و مدت يدها تغلق جانبي الفتحة قليلا ... فازدادت ابتاسمته سخرية أمام حركتها المحتمشة .. متابعا التدقيق بها بكل جرأة متعمدة ....
حينها بدأ غضبها في السيطرة على توترها و خوفها فأعادت السؤال بحزم أكبر
( ماذا تفعل هنا في هذه الساعة يا سيف ؟ ...... لو تلحظ أن اليوم كان مرهقا جسديا و نفسيا لي .... فهلا أجلنا هذا الإجتماع حاليا ..... )
اختفت ابتسامة السخرية عن شفتيه ..... و هنا تحرك للداخل دافعا إياها مما جعلها تشهق بغضب ...
الا أنه أغلق الباب خلفه بهدوء و عيناه المخيفتان على عينيها ... فرفضت أن يرعبها و قالت بقوة و هي تتراجع للخلف بينما هو يقترب منها ببطىء كمن هو على وشك اقتناص فريسته ....
ارتطمت وعد بطاولة الزينة فمنعت تراجعها أكثر .... لذا تشبثت بها بكلتا يديها و هي تلهث بسرعة ...
بينما كان سيف يتقدم و يتقدم ... و عيناه تتربصان بها .... الى أن توقف ....
توقف على بعد عدة خطوات منها ليقول بصوت غريب
( أتعلمين أنك فقت الحد في انعدام الحياء و الإحساس و المسؤولية و الضمير ..... حتى في يوم دفن والدك , تتخذينه فرصة كي تهربي مجددا ..... )
صمت أمام عينيها المصدومتين .... ثم قال بخفوت
( أي حقيرة أنتِ ؟!.......... )
شهقت وعد من عمق اهانته و رفعت يدها الى صدرها المطعون ...... فهمست بنفي متألم
( لا يا سيف ......... )
الا انه صرخ فجأة عاليا
( اخرسي ........... )
فما كان منها الا أن صرخت بخوف و هي تجري من أمامه برعب خوفا من أن يبطش بها ....
لكنه كان أسرع منها وهو يندفع اليها يعتقل خصرها بين ذراعيه يحشرها بقوة في أحد أركان الغرفة ... و ارتفعت يده لتقبض على عنقها يرفع رأسها الي كي تواجه غضبه ....
اتسعت عينا وعد بخوف و هي تنظر اليه , منتظرة أن يفرغ شحنة غضبه و ينتهي الأمر
بينما أخذ سيف وقته كاملا في تأملها ... ثم مر بيده من عنقها ببطىء متعمد حتى وصل الى عمق فتحة رداء الحمام ...
اغمضت وعد عينيها بقوة ... وهو يستشعر بوضوح فاضح مدى تأثرها بلمسته ... فقالت بقوة دون أن تفتح عينيها
( توقف يا سيف ......... )
لم تفتح عينيها لتنظر الى ملامحه .... لكنها سمعت صوته يقول بخفوت شرس
( أهو خجل ..... أم احتقار لذاتك ؟!! .......... )
ابتلعت ريقها بصعوبة دون أن تفتح عينيها .... الا أنها قالت بقوة مخادعة
( لم أفعل ما أخجل منه ..... لقد فعلت ما يمليه المنطق .... زواجنا كان مهزلة .... )
مد يده فجأة يقبض على ذقنها بقوة جعلتها تشهق ألما و صرخ بغضب
( افتحي عينيكِ ........... )
فتحت عينيها و حدقتاها تهتزان بخوف .... تنظر الى ملامح الغضب الجنوني المرتسمة على وجهه ...
ظل ينظر اليها طويلا وهو يتنفس بسرعة أخبرتها عن مدى حالة الجنون التي يعيشها حاليا ...
ثم لم يلبث أن نزع يده عن فكها بقوةٍ آلمتها .... و عاد ليمررها على رداء الحمام الناعم .. و هو يضحك بخفوت ... بينما عيناه ابتعدتا عنها لتتأملان الفخامة المحيطة بهما من كل مكان ....
حينها قال بصوتٍ ساخر خافت
( كم هذا رائع !! ........... فخامة تليق بابنة عبد الحميد حقا ! )
صرخت وعد فجأة و هي تضربه في صدره
( لا تهينني ....... لا تبدأ حتى بإهانتي , ..... لن أسمح لك مجددا , أنا لم أعد وعد التي كنت تعرفها .... )
صرخت فجأةحين قبضت يداه بقسوة على معصميها تثبتانهما على الجدار من خلفها ....
حتى بدت مقيدة بقوة .... فأخذت تتلوى بهلع ... رغم معرفتها أن سيف من المستحيل آن يؤذيها على الأقل جسديا ... و مع ذلك كان الرعب ينتشر في أعماقها بسرعة البرق حتى أوشكت على فقدان وعيها .....
بينما اقترب هو بوجهه من وجهها الشاحب الملتوي جانبا ليهدر في أذنها
( الإهانة لم تبدأ بعد ....... بل إنكِ حتى لم تري من قبل جزءا و لو بسيطا مما سأفعله بك الآن ... )
صرخت وعد بعناد البغال
( لن تجرؤ ................... )
الا أن قبضتاه اشتدتا على معصميها المثبتين الى الجدار حتى اتسعت عيناها ألما بينما قال هو بصوتٍ يفيض بالإزدراء
( لو تعلمين ما بداخلي في تلك الحظة , لما كنت واقفة الآن بكل هذا التبجح .... متحامية في بضعة قروش ربحتها في جولة حظ ...... )
اشتعل الغضب بداخلها فأخذت تتلوى أقوى دون جدوى و هي تصرخ
( تلك القروش بالنسبة لك ليست ربحا أو حظا ....... بل هي ميراثي الشرعي ... اي أنها من حقي .... )
تركت احدى يديه أحد معصميها ليقبض على فمها من جديد لدرجة منعتها من الكلام ... فتولى هو الرد قائلا بشراسة ....
( ميراثك الشرعي الذي علمتِ به منذ فترة طويلة ..... و اخفيتهِ عني بمنتهى اللؤم و أنت تخططين و تدبرين للهرب ما أن تسنح لكِ الفرصة ...... منتهى الحقارة .... كنت أعهدك قاسية , لكن أن تكوني بتلك الحقارة .... لم أتوقعها الصراحة ..... لقد فقتِ كل توقعاتي .... )
صرخت تتلوى بجنون .... و هي تتكلم من بين شفتيها المضمومتين بين قبضته الحديدية
( لا تهينني ..... تبا لك ..... )
الا أنه هدر فجأة بصوت مرعب
( اخرسي ................. )
و خرست بالفعل و هي تفكر بضرورة السيطرة على غضبها أمام غضبه الجنوني في تلك اللحظة ... و تسائلت بجنون
أين ذلك الذي كان يكلمها بصبر في الهاتف ما أن توفي والدها .....
و كأنه شخص آخر غير ذلك الذي احتواها ليضيع خوفها .....
و حين تكلم مجددا كان صوته أكثر خفوتا .... لكن أشد خطرا وهو يقول
( كنت لأمنحك عذرك لو غادرتِ البيت في ساعة غضب ...... كنت لأعيدك و أراضيكِ كي تهدأي ..... لكن نيتك الخبيثة كانت أسبق .... كم مر من الوقت و أنت تستغفلينني و تكلمين شخصا غريبا من وراء ظهري .... تتفقين معه على السفر و الإقامة تحت سقف بيته !!!! ...... )
ترك فمها بقوة ليضرب الجدار بجانب وجهها بعنف مرعب و هو يصرخ
( كم مر من الوقت و أنتِ تتواصلين مع رجل غريب ؟؟ ...... و كم يوم بقيتِ ببيته ؟؟؟ )
صرخت بهلع
( كان والدي معي ........ و عدت ما أن فارق الحياة )
صرخ سيف بجنون
( كم مر من الوقت و أنتما تتواصلان من وراء ظهري ؟؟ ....... )
فصرخت مجددا
( كنت أعلم بميراثي منذ شهر عسلنا ...... و مع هذا لم أقرر السفر بحثا عنه .... بل تقريبا تغاضيت عنه ... الى أن كسرت أنت كل الجسور بيننا ..... حينها أخذت أول طريق للإبتعاد عنك ..... )
صمتت قليلا تلهث بعنف مؤلم بقوة ... ثم همست بتشنج
( منذ أول صباح لنا بعد الزفاف علمت بميراثي بمحض الصدفة ...... و مع هذا لم أقفز جذلا و شوقا .... بل بقيت معك ...... و سلمتك نفسي لتعبث بي .... كما تشاء ... )
خرجت كلمة " كما تشاء" الأخيرة و كأنها صراخ مرعب من بين شفتيها .... حتى أنه أجفل قليلا ....
ثم تابعت بجنون و هي تجابه عينيه بشراسة نمرة مقيدة
( منذ أول يوم و أنا دمية بين يديك ....... تلعب بها كما تشاء .... و ما أن تتعب منها حتى تعيدها الى الرف الذي حددته لها ...... لا تجرؤ على تجاوز ذلك الرف الذي يعلوه الغبار و الأتربة ..... )
صمتت أخيرا تلهث بعنف .... و أطرقت برأسها بينما هو كان ينظر اليها بعينين غريبتين .....
فهمست أخيرا بإعياء
( لقد شرحت لك ما أريد قوله في رسالتي ..... فلماذا تصر على أن تجعل الأمور تنتهي بتلك الصورة السيئة ؟!! ...... لما لا نفترق بتحضر ؟ ..... )
ساد صمت أسود بينهما ..... و زادت كثافته حتى أوشكت على أن تطبق على صدرها المجهد ....
الى أن تكلم سيف أخيرا بهدوء مفاجىء
( انطقيها مجددا .......... )
رفعت وجهها اليه بخوف و هي تقول بحيرة
( ما هي ؟!! ............ )
قال سيف بصوتٍ خطير قاتم
( رسالتك ......... لقد قرأتها نصا ..... ثم أجبرتك على النطق بها في الهاتف و سمعتها ..... و الآن ستنطقينها مجددا و أنا أراكِ ....و أنتِ تنظرين الى عيناي .. )
سقط قلبها بين قدميها ..... و توقف عن خفقانه ..... لكنها ظلت تنظر الي عينيه طويلا و هي تلهث بإجهاد
ثم قالت أخيرا بصوت ميت
( لم أعد ........ بحاجة لك , .... لذا لست مجبرة على التحمل أكثر ........ )
صمتت .... و عيناها الرماديتان تجابهان عيناه القاتمتان ... و أقسمت أنها آلمته رغم قسوة عينيه ... فتابعت بفتور
( لكنني ممتنة ....... لكل ما فعلته من أجلي , .... و لأجل اللحظات السعيدة بيننا .... )
عادت لتصمت .... دون أن تحيد بعينيها عن عينيه .....
و مر وقت طويل بينهما ..... الى أن قال بصوتٍ خافت .... صوت رجل ..... حزين بسخرية مريرة
( اللحظات السعيدة بيننا !! ............... تقصدين مثل هذه ؟!! ..... )
و فجأة دون أن يمنحها الفرصة لتستوعب ما نطقه .....
كان هو قد هجم عليها يحرر فيها شوق الأيام و الليالي المضنية التي مرت عليه وهو بدونها ...
بينما غضبه و كسر قلبه كان الراعي الأول لعنفٍ جعل من عاطفته طوفان مستحيل مقاومته ......
كان رجلا يائسا ... طعنته امرأة ....
و قد قرأت كل ذلك في هجومه المكتسح لها ... فحاولت جاهدة المقاومة لإلتقاط أنفاسها كمن يغرق في بحرٍ عالي الأمواج
الا أن الظلام يجذب ساقيه لأسفل و أسفل باتجاه القاع ....
أدركت من بين جنون اللحظات التي يعيشانها ... أنه فتح رباط رداء الحمام بنفاذ صبر , فصرخت من بين أنفاسه الهائجة
( لا يا سيف ...... لا ..... لا تزد الأمر ....سوءا ..... )
لكن رغم صراخها الرافض ... كان جسدها الخائن المشتاق قد بدأ يستسلم لهواه بعد أيام و أيام من الفراق
لمساته كانت تعذبها بعنفها ..... وهو لا يبدو عليه النية في الرأفة بها الا أن تستسلم و تسلم له ....
سمعت صوته العميق يزمجر في أذنها بوحشية
( وعد !! .............. )
ثم انحنى فجأة ليضع ذراعه تحت ركبتيها قبل أن يرفعها عاليا ثم اتجه بها السرير الضخم فرماها عليه قبل أن يعود اليها يمنعها من الهرب
أخذت وعد تتلوى و تقاوم حتى احمر وجهها و لهثت أنفاسها بجهد ..... فتراخت مقاومتها و انسدلت أطرافها بينما هو بدا كالمجنون في مشاعره ... فلم تجد سوى أن تقول بخفوت لاهث
( لن أستطيع مقاومتك أكثر ......... )
لم تساعد لهجتها الحزينة الكسيرة في جلب الرحمة الى قلبه ... فرفع رأسه عنها يقول بلهجةٍ شريرة و عيناه تجريان على وجهها الأحمر و صدرها اللاهث بعنف ....
( ربما لأنني مجنون مغتصب ما هو ليس حق لي ........ )
أخذت نفسا مرتجفا و هزت رأسها نفيا بطىء ... بينما انسابت دموع بطئية على وجنتيها ... ثم همست بإختناق
( بل لأنني أريد ذلك ......... لقد اشتقت لتلك اللحظات كذلك ..... اشتقت اليها جدا .... )
أثارت كلماتها الحزينة ثورة جسده أكثر و أكثر .... حتى بات كم يحترق بحممٍ لا تهدأ .....
لكن لسببٍ ما .... لم يشعر بالرضا أو السعادة لما نطقت به !! ....
ركن عميق بداخل قلبه انقبض من لهجتها اليائسة ....
سكن في مكانه قليلا .... و تنفسه اللاهث يرافق حركة تنفسها المجنونة ....
ثم قال أخيرا بصوت شرير
( و هذا ليس بجيد بالنسبةِ لكِ ؟؟ ............. )
ابتلعت ريقها و أغمضت عينيها فانسابت دمعتان أخرتان ...... فانقبض قلبه أكثر ... و التوى ذلك الركن أكثر و أكثر .... بينما همست هي
( ذلك هو كل ما أنا عليه بالنسبة لك ........ و اقترانه بمالك أمر مقزز ...... )
ضرب صدره صدرها بعنف عندما سمع ما همست به ......
كانت تلك الضربة الأخيرة من وعد عبد الحميد العمري .... ابتعد عنها قليلا يلهث بوجهٍ قاتم و عينان مجفلتان وهو يقول بلهجة غريبة
( مقزز ؟؟ ................ )
فتحت عينيها بخوف و همست بترجي
( لم أقصد ........ سيف ..... ليس ذلك ما .......... )
لكن عيناه كانتا كنافذتين أغلقتا أشرعهما على قلبه .... طاردا اياها بقسوة .....
و ظل الصمت بينهما طويلا ..... الى أن قال أخيرا بصوتٍ جاف بارد كالصقيع
( أمامك عشر دقائق لا غير ...... سترتدين بها ملابسك و تأتين معي .... )
صرخت وعد بقوة
( أبدا ......... لن أعود معك ..... لا أريد ...... كانت مرحلة من حياتي و انتهت .... )
ملامح وجهه كانت مشتدة تكاد تكون رمادية كلون عينيها ... وهو يقول بخفوت
( مرحلة و انتهت !! ........ أخشى أنني لا أوافقك الرأي يا زوجتي العزيزة ...... )
ثم لم يلبث أن قال و عيناه على التجويف في قاعدة عنقها و هي تبتلع ريقها بصعوبة
( أمامك الآن عشر ثوانٍ لتنهضي فيها .......... )
عيناه واجهت عينيها بشراسة .... و بقت هي مكانها بعناد تنظر اليه بقسوة ... مع بعض القلق ....
حينها لم يلبث أن مد يديه بسرعة البرق جاذبا طرفي رباط الرداء و عقدهما بقوةٍ جعلتها تشهق ألما ... ثم نهض قافزا عن السرير .... لكن لا لينصرف ....
بل انحنى اليها مجددا .... يرفعها فوق كتفه بقوة متجها بها الى باب الجناح .... حينها صرخت وعد و هي تتلوى صارخة بجنون
( انزلني يا سيف ........ كف عن حركاتك تلك ..... أعلم أنك لن تجرؤ على فعلها فتوقف ..... )
الا أنه كان قد وصل للباب ... ففتحه دون لحظة تردد .. و خرج بها الى الممر الطويل ....
شهقت وعد برعب و هي تكتم صرختها بيدها كي لا يسمعها أحد ..... بينما سيف يسير بها في الرواق .. الى أن همست تتوسله
( حسنا ..... حسنا ...... ارجوك .... اعدني سأرتدي ملابسي .... ارجوك يا سيف .... أنا زوجتك .... هل تسمح لأحد بأن يراني بتلك الصورة !! ...... )
لم يبد انه قد سمعها لخطوتين ..... ثم توقف فجأة ... فأغمضت وعد عينيها و هي ترتجف بشدة ....
حينها قال بوحشية
( عشرة دقائق يا ابنة عبد الحميد لا غير ........... )
همست ترتجف
( عشرة دقائق يا سيف .......... أرجوك )
عاد بها الى الغرفة دون تعجل فأغمضت عينيها تتنفس الصعداء .... و ما أن أغلق الباب خلفه بقدمه حتى تركها تسقط أرضا ... فسقطت بقوة و هي تتأوه بشدة ....
حينها ابتسم رغم عنه ..... و أول ما فكر به أنها لو كانت تمتلك بعض الشحوم لتكسوها لما كانت وقعتها لتكون مؤلمة بهذا القدر .....
نهضت وعد قفزا على قدميها في لحظةٍ واحدة ... ثم لم تلبث أن هجمت عليه تضربه بشراسة بكلتا يديها و هي تصرخ
( أيها المجنون ..... المعتوه ..... )
الا أنه أمسك بإحدى قبضتيها بسهولةٍ و يسر .... بينما قبض بالأخرى على مقدمة رداء الحمام يجذبها اليه كمن قبض على لص هارب وهو يقول بلهجة الخطر
( باقي من الزمن ..... سبع ..... دقائق ....... )
و كانت عيناه تعنيان ما يقول ...... رباه ... تستطيع أن تستدعي الأمن ليطردوه خارجا ببساطة .......
وقفت تنظر اليه و قوةٍ عنيفة بداخلها تأمرها أن تستدعي له الأمن .... و كم سيكون ذلك مرضيا لها .....
لكن في آخر لحظة اتجهت ساقاها رغم عنها الى الدولاب الذي يحتوى على بعض الملابس التي أخرجتها من حقيبة سفرها ... فأخرجت قطعتين و هي تلعن و تشتم ....
و كانت تكلم نفسها بقصد أن يسمعها
( أقسم أن أنفصل عنك يا سيف ..... للأبد ..... و هذا وعد مني ..... )
دخلت الحمام لتصفق بابه بقوة و هي تشتم و تشتم و تشتم ........
هاتفة بقوة
( لن أحيا معك ...... لن أحيا معك ..... أتظنني وعد التي تزوجتها ؟!! ...... اذن أنت مخطىء ..... لم أعد بحاجة اليك ..... تبا لك ..... تبا لك .... تبا لك يا سيف ...... أكرهك و أكره اليوم الذي دخلت به الى مكتبك أتوسلك كي تساعدني ...... )
توقفت فجأة و هي تلهث بعنف .... حتى أنها شعرت بالدوار قليلا ....
فاستندت الى المغسلة بيديها ... و أطرقت برأسها حتى تهدأ و تستعيد توازنها .....
قلبها كان يخفق بعنف مؤلم ..... الألم لم يبدأ الآن ..... بل بدأ منذ ليلة أمس و أخذ يتزايد تدريجيا .....
الضغوط التي مرت بها خلال الأربع و عشرين ساعة كانت فوق قدرتها على التحمل ...
رفعت وجهها ببطء تنظر الى وجهها الشاحب ..... و كانت آخر ما رأته هو عينيها اللتين تبغض قسوتهما ....
و بعدها لم تدرك أنها سقطت أرضا بعنف حتى ارتطمت رأسها بأرض الحمام ......
.................................................. .................................................. ......................
دخلت كرمة الى بهو المشفى الحكومي و قلبها يصرخ رعبا بعبارةٍ واحدة
" لو أصاب محمد مكروه فلن أسامح نفسي أبدا "
و كادت أن تلحق علياء التي تقدمتها مطرقة الرأس .... لكنها لم تلبث أن استدارت الى محمد في أول الرواق و قالت له و هي لا تزال تبكي .. محاولة مسح دموعها و السيطرة على نفسها ....
( ابقى هنا يا محمد ....... لكن لا تذهب لأي مكان ..... أنا أحتاجك )
أومأ برأسه ببساطة و هو ينظر اليها بتدقيق .... ثم نظر الى علياء التي وقفت تنتظرها في آخر الرواق بصمت و قال بهدوء
( هل ستكونين بخير ؟!! ....... أنتِ أمانة و يجب أن أسلمك لحاتم يدا بيد و الا قتلني )
مسحت وجهها مجددا و بللت شفتيها ثم قالت بحزم خادع
( أنا بخير .......... يجب أن أطمئن على شخصٍ قريبٍ مني فقط ......)
عاد محمد ليومىء برأسه .... ثم جلس على أحد المقاعد .... فنظرت كرمة الى علياء التي كانت تنظر اليهما من بعيد بنظرة جامدة .....
فسارت اليها كرمة و قلبها ينبض خوفا .....
ظلت علياء واقفة مكانها تنتظر كرمة التي كانت ساقاها تتخاذلان وهي تقترب مرتجفة .... فدخلت قبلها بعد أن نظرت اليها نظرة طويلة .....
كان عدد المرضى المستلقين على الأسرة كبيرا .... لكن عينا كرمة كانتا تبحثان عنه هو وحده
الوجه الذي عاشت معه عمرا طويلا .....
ظلت تسير بارتجاف و عيناها تتنقلان من سريرٍ الى آخر ....
الى أن رأته ..... نعم هو .... شاحب الوجه على الرغم من حماره و العرق المتصبب من جبينه .... حتى لحيته النامية ساعدت في إخفاء ملامحه عنها .... لكنها عرفته ... فهمست تتأوه
( ياللهي ....... محمد .... )
اقتربت منه بسرعةٍ الى أن وصلت اليه .... فانحت اليه تنادي برفق و فزع في آنٍ واحد
( محمد !! ....... أجبني أرجوك .... )
حينها وجدت حاجبيه ينعقدان بشدة ... و ملامحه تئن ألما و كأنه لا يصدق أنه سمع صوتها
فهمس وهو يفتح عينيه بآنٍ واحد
( كرمة !! ............... )
تنهدت كرمةٍ بقوة الأميال التي جاءت فيها الى المشفى ما بين رعب و أسى .... و هي تراه مجددا ... ينظر اليها و يناديها باسمها .....
ظلت تنظر اليه طويلا بينما بدا هو غير مصدق بعد... فهمس بصوتٍ أجش
( هل هذا حلم ؟!! ....... لا تخبريني انكِ مجرد حلم مجددا .... )
ابتسمت بحزن و عيناها تمتلئان بالدموع مجددا .... فانحنت اليه اكثر و همست برقة
( ماذا بك يا محمد ؟؟ ......... كيف مرضت بهذه الشدة ؟؟ ..... )
انعقد حاجبيه أكثر و لم يجبها .... بل همس بعذاب
( تزوجتِ يا كرمة !! ....... امتكك رجل غيري ......... طفلتي أنا .... طفلتي أنا وحدي , امتلكها غيري )
انحدرت دموعها غزيرة بصمت .... بينما أمال وجهه جانبا وهو يصرخ بجهد
( تبا لكِ ..... تبا لكِ يا كرمة , لقد قتلتني ....... )
شهقت شهقة بكاء و هي تقول مترجية
( لا تجهد نفسك اكثر يا محمد ...... أرجوك ..... )
لكنه صرخ بجنون ....
( أخرجي .... أخرجي من هنا ... لا أريد أن أراك مجددا ...... اخرجي ..... )
رفعت يدها الى صدرها المتمزق ... و بكت هامسة
( محمد اهدأ أرجوك ........... )
أرجع رأسه للخلف مغمضا عينيه يهمس باختناق
( قتلتني يا كرمة ........ قتلتني ..... )
أغمضت عينيها بقوة فتساقطت المزيد من دموعها على وجنته الشاحبة ..... حينها فتح عينيه بجهد ينظر اليها
طفلته ..... هو من رباها .... كبرت على يديه .....
فهمس بصوتٍ يتعذب
( كيف استطعت؟ !! ........ كيف تحملتِ أن تكوني لغيري ؟؟ ...... أين ذهبت كل وعودك الكاذبة .... )
فتحت عينيها و هي تبكي ... لكنها حاولت التنفس بطبيعية ... و قالت بصوتٍ متحشرج
( اهتم الآن بصحتك يا محمد ...... لا شيء في الدنيا يهم سوى صحتك )
لكنه هتف بصوتٍ أجش معذب ...
( هل تحبينه ؟؟ ..........هل كنتِ تحبينه و أنتِ زوجتي ..... انطقي الحقيقة أنا أموت ... )
لم تهتم الى الوجوه التي التفتت اليهما .... و لم تلحظ علياء التي وقفت خلفها تبكي بقهر مما سمعته للتو ...
قهر أيامٍ مضت ... لا يعاشرها الا وهو يتخيلها كرمة .... حتى يزل لسانه بأسمها عدة مرات ....
قالت كرمة بقوة دون أن تعبأ بالجميع
( لم أخنك ولو للحظةٍ واحدة يا محمد ....... حتى بخيالي كنت أنت وحدك .... لا غيرك ... )
نظر اليها يلهث بقوة و عيناه تلتهمانها على الرغم من حمارهما و اهتزازهما .... فهمس بقسوة
( كرمة ......... كرمة ........ اقتربي مني )
انحنت اليه أكثر .... فوضعت يدها على جبهته لتجد أن حرارته مرتفعة للغاية ... حينها شهقت باكية
( حرارتك عالية جدا .......... )
استقامت تنظر حولها و هي تصرخ
( الا يوجد طبيب هنا في هذا المكان المهمل ؟!! ........... )
لكن محمد هتف بتعب و عذاب
( كرمة ....... كرمة ........ )
عادت لتنحني اليه مجددا و هي تهمس بلهفة
( ماذا تريد يا محمد ؟؟ ......... ماذا تحتاج ؟ ....... )
نظر اليها بعينين تتعذبان يتأملها محاولا الإرتواء من جمالها الذي اشتاقه بجنون ...
ثم همس بإختناق
( قولي أنكِ باقية على حبي ............ )
بهت وجهها فجأة ..... و تسمرت مكانها و هي تنظر ال عينيه الواعيتين .... فأعاد بقوة
( كوني صادقة مع نفسك ...... هل أنتِ باقية على حبي ..... بين أحضانه .... تبا لك .... )
و رغم قسوة كلماته , الا أن يده ارتفعت اليها ممتدة .... تنتظر أن تمسك بها ......
نظرت كرمة الى كف محمد الممتدة اليها منتظرة .... كفه التي طالما عشقتها .... كفه الخشنة من الشقاء بالعمل الطويل مع السيارات و الحدائد ......
كفه التي ضربتها مرارا .......
رفعت كرمة عينيها الى عيني محمد ببطىء .... عيناها حمراوان و مطفئتان ... بينما وجهها شاحب بشدة
ثم قالت بخفوت بلا روح
( لم أخنك يوما يا محمد ...... لأن الخيانة لم تكن من طبعي .... )
استقامت واقفة تنظر اليه طويلا بينما شحبت ملامحه بقوة ..... ثم ابتسمت ترتجف بحزن ... ابتسامة أسى ... ووداع .... ثم لم تلبث أن همست بإختناق
( اعتني بنفسك ...... زوجتك تحتاجك ..... عائلتك تحتاجك .... )
ثم استدارت كرمة تبتعد عنه قبل أن تنهار ... الا أنه كان يصرخ من خلفها
( كرمة ........كرمة ........ عودي الي يا كرمة ..... )
اغمضت عينيها بقوةٍ و هي تبكي و تعض على شفتها .... دون أن تستدير اليه .....
و ما أن خرجت حتى ارتطمت بطبيب شاب كان على وشكِ الدخول .... الا أنها أمسكت ذراعه و هي تمسح وجهها و تقول بخفوت و قلق
( من فضلك ....... المريض محمد .... في السرير رقم ** .... ما هي حالته ؟؟ ..... )
نظر الطبيب الى منظرها الذي يتناقض مع المشفى المهدم .... لكنه نظر خلف كتفها و قال بفتور
( ذلك اللذي يصرخ ؟؟ ........... )
أومأت كرمة بوجهها دون أن تستدير خلفها ... فقال الطبيب الشاب
( انه بحالة مستقرة ..... لقد زالت الخطورة بعد أول يومين ..... لقد أخبرت زوجته ذلك .... اطمئني ... )
ثم تركها ليبتعد .... بينما وقفت كرمة تنظر امامها بوجه باهت ... و عينان متجمدتان .....
شيء ما جعلها تلتفت لتجد علياء واقفة خلفها و يدها منقبضة على وشاح رأسها تغطي به فمها بينما عيناها فاترتان ....
اقتربت منها كرمة ببطىء و كم كان الفارق بين منظريهما رهيبا ...
فكرمة بدت على الرغم من بساطتها مثالا للرقي و الأناقة .... أما علياء فبدت مثالا للبساطة بلمحةٍ شعبية محببة ...
لم يجمع بينهما سوى البساطة .. و حب رجل واحد .....
وقفت كرمة أمامها تقول بصوتٍ ميت ...
( لماذا أحضرتني الى هنا ؟ ........ لماذا أوهمتني أن محمد في خطر ؟؟ ..... )
أطرقت علياء برأسها بصمت غير قادرة على مواجهة عيني كرمة ...
فماكان من كرمة الا أن دفعتها في كتفيها الإثنين بقوة و هي تعيد بصلابة أكبر
( ماذا تريدين مني ؟؟ ....... أي مختلة أنتِ كي تنتشين بألمي و ألمه على الرغم من أنه أصبح لكِ في نهاية الطريق !!.... )
لم تحاول علياء الدفاع عن نفسها أو رفع يديها أو حتى الإبتعاد .... بل ظلت واقفة مكانها مطرقة الرأس بصمت
فجن جنون كرمة و هي تدفعها مجددا لتقول بحدة
( كيف تتسنى لكِ الجرأة كي تقتحمين بيتي و حياتي مجددا و تحضريني الى هنا قسرا ..... )
من بعيد كان محمد الصغير قد قام واقفا ينظر الى الموقف بذهول وهو يقول
( ياللهي !! ...... كمرة تتشابك بالإيدي مع فتاة أخرى !! ...... لن أبيت في البيت الليلة ... و على الأرجح سأتناول عشائي مع عصافير الحديقة !! ..... )
عقد حاجبيه وهو يقول بقلق
( هل أتدخل أم لا ؟!! ....... ليس من اللائق الدخول بين فتاتين تتقاتلان !! ..... )
صمت يراقب الموقف بإهتمام ... ثم قال أخيرا بخفوت
( عامة يبدو أن كرمة هي من تضرب ....... مع أول لكمة تصيب وجهها سأتدخل )
عاد ليجلس مكانه بهدوء و هو يتابع ما يحدث ....
بينما كانت كرمة تهتف بحدة
( هل أنتِ مريضة نفسيا ؟!! ...... لقد أخذت زوجي ... و بيتي و .... سريري !! ... )
كانت تصرخ بحدة غير عابئة بمن يسمعها ... لكن خوف اللحظات السابقة كان مضني لها ...
ظلت علياء صامتة قليلا ... ثم قالت أخيرا بخفوت دون أن تنظر الى كرمة
( كان عليه أن يراك .... يتحدث معك .... يراك و قد تقدمتِ بحياتك دون أن تنظري للخلف )
رفعت وجهها أخيرا تنظر الى كرمة و قالت
( اتظنين أنكِ أنتِ من تتألمين لأنه استبدلك بي في سريرك ؟؟!!....... اذن فأنتِ ليس لديك فكرة عما أعانيه وهو ينادي اسمك و نحن في أشد لحظاتنا الخاصة .... )
أجفلت كرمة و ارتبكت من تلك الوقاحة ! و الجرأة في الكلام ...... الغريب في الأمر أنها لم تشعر بلحظة سعادة أو انتصار ..... بل كل ما فكرت به هو أنها كانت وقحة و تكلمت بنفس الطريقة امام حاتم ! ....
الآن تشعر كم هو قميء الخلط بين العلاقات .... و أن التفكير بالماضي يعد خيانة لا تغتفر طالما ارتضت رجلا آخر زوجا لها ....
رفعت كرمة ذقنها و هي تقول بخفوت
( هذا ما يحدث حين تتزوجين رجلا يحب زوجته ...... آسفة أنني لا أشعر بالتعاطف .... لكن ابعدي عن حياتي .... لست مسؤولة عن اصلاح حياتك ..... خاصة بعد أن أفسدتِ حياتي ...... )
ابتعدت كرمة عنها دون إضافة كلمة أخرى بينما أطرقت علياء برأسها تبكي بصمت .... ثم جرت الى داخل غرفة المرضى
أما كرمة فقد تقدمت ببطىء في اتجاه محمد الذي كان ينتظرها بإهتمام ..... و ما أن وصلت اليه حتى جلست ببطء بجواره .... و قالت بخفوت
( لا أستطيع النهوض يا محمد ....... )
التفت اليها يقول بحماس
( لماذا ؟ ....... لقد هزمتها هزيمة ساحقة , لقد انسحبت تبكي ما أن استدرتِ ..... هاتي قبضة خماسية ... )
رفع قبضته .... فمدت كرمة قبضتها ببطىء تضرب قبضته المنتظرة ... بينما هي تنظر أمامها بعينين خاويتين و قلب مثقل ....
فقال محمد بقلق
( ماذا بكِ يا كمرة ؟؟ ........ هل قريبك في خطر ؟؟ ...... )
ردت كرمة بعد لحظة بشرود دون أن تنظر اليه
( لا .....إنه بخير ........... )
صمتت في شرود كامل ..... ثم قالت بخفوت مختنق
( لكنني ارتكبت خطأ كبير يا محمد في حق حاتم ...... لم يكن من المفترض أن أخرج بدون علمه )
ارتفع حاجب محمد بذهول ... ثم قال ببساطة
( أحم ..... الحقيقة أنكِ أحرجتني , فهذا هو ما أحيا لأفعله ..... الخروج و التسلل دون علمه .... )
ابتسمت كرمة و هي تنظر اليه بينما الدموع تنساب على وجنتيها دون توقف ... ثم همست بغصةٍ مختنقة
( الأمر بين الأزواج يختلف ........ )
ثم لم تلبث أن ضحكت و هي تبكي في آنٍ واحد لتمسح دموعها و هي تتذكر أن تلك كانت نفس العبارة التي استخدمها حاتم كتبرير في تأخره في الإستحمام ....
قال محمد بقلق
( لماذا تبكين كل هذا القدر ؟؟ ....... هل تخافين من حاتم ؟؟ ..... يمكنني أن أساعدك , أنا لا أطيق بتسلط الرجال و اظهار قوتهم تجاه الفتيات .... أنا لا أعتبرها رجولة .... و أنا أعرف حاتم جيدا بإمكانه أن يكون متسلطا ..... )
نظرت اليه كرمة و هي تقول بسرعة
( عيب يا محمد ......... )
رفع إصبعا واحدا أمام وجهه وهو يقلد لهجتها السابقة قائلا
( يا ابني عييييييييب ........ )
ضحكت كرمة رغما عنها و هي لا تزال تبكي .... ثم لم تلبث أن خفتت ضحكتها و استحالت شحوبا و هي تقول بإختناق
( أنا خائفة من العودة للبيت يا محمد ....... ماذا أفعل ؟؟ ..... )
نظر اليها محمد طويلا .... ثم لم يلبث أن قال بهدوء
( سأحميك و أدافع عنكِ ........ لا تخافي ... لكن لا تعتادي الأمر .... هيا بنا لنعود لربما عدنا قبله و انتهت المشكلة ..... فمن لا يعرف لا يغضب ..... )
مطت كرمة شفتيها و هي تقول بخفوت
( ماشاء الله ..... فمك يتفوه بالحكم ...... )
قال محمد بجدية
( أية خدمة ..... نحن تحت الأمر دائما , و الآن هيا بنا ...... )
شعرت كرمة أن ساقيها تتخاذلان فحثها محمد بصوتٍ شبيه بصوت والده للغاية .... و كان هذا كفيلا بأن يجعلها تبتسم .... بقلق .... لكنها نهضت معه .... و أثناء سيرهما قالت بإختناق و هي تمسح دموعها
( على فكرة ...... لغتك العربية متضررة للغاية ..... هل جربت العمل مع متخصص بها ؟! .... )
نظر اليها بطرف عينيه .... و كانت منتفحة العينين .. حمراء الأنف ...
ثم قال لها بنفاذ صبر
( نعم منذ فترة و أنا شعر بها تؤلمني كلما ضغطت عليها ...... ربما سألت استشاري فيما بعد .... )
عبست كرمة و هي تقول
( لماذا السخرية الآن ؟! ..... كنت أحاول فتح باب للحوار كي يلهيني عن توتري ! ..... لكن لو أردت الحقيقة أنت لا تستطيع حتى الآن نطق اسمي صحيحا .... )
هز رأسه يئسا وهو يقول
( ذلك التدقيق في الشكليات هو السبب في فشل التعليم .... ليس مهم طريقة النطق ... المهم هو المعنى ... )
رفعت كرمة حاجبها و هي تقول باتزان
( اذن ذكرني ما هو معنى اسمي مجددا ؟!! .......... )
قال محمد ببساطة ( حبة عنب .......... )
نظرت اليه كرمة بوجوم ... ثم قالت بخفوت ( أبدعت ........... )
رفع اصبعه علامة التفكير و الذكاء و هو يبتسم بفخر .... ثم قال بهدوء
( اللغة العربية في مدرستنا هي نوع من الرفاهية ..... لا نهتم بها كثيرا ... )
عبست كرمة بشدة و هي تقول
( معقول ؟!! .............. )
أومأ محمد وهو يمسك بيدها بتلقائية كي يعبر بها الطريق ثم قال
( نعم ........ لكن عامة أنا ممتاز بها ...... )
ردت كرمة بوجوم
( واضح ................ )
وقفا معا على الرصيف الآخر ... ثم أشار محمد الى سيارة أجرة قبل أن يقول بلطف
( هل أصبحت بخير الآن ؟؟ ...... )
ابتلعت ريقها .... لا ... ليست بخير أبدا .... و لا تريد العودة للبيت ....
لكن محمد قال بهدوء قبل أن يستقل السيارة قبلها
( أنا سأبدأ الكلام ..........اتفقنا ؟ .. )
أومأت كرمة برأسها و هي تشعر أنها في حاجةٍ لذلك الصبي أكثر مما احتاجت محمد أو حاتم من قبل ....
.................................................. .................................................. .....................
دخلت كرمة البيت تسبق محمد .... لكنها تسمرت مكانها حين أبصرت حاتم يقف في المنتصف هائج الملامح ... بخوفٍ ظاهر بوضوح ....
و ما أن القت أعينهما حتى شعرت كرمة بالرعب يدب في أعماقها ....
هتف حاتم بغضب وهو يقترب منها بسرعة
( أين كنتما يا كرمة ؟؟ ....... و لماذا تركتِ هاتفك هنا ؟!! ....لقد كدت أن أجن !! .. )
كانت كرمة تنظر اليه بعينين متسعتين للغاية ... بينما صدرها يلهث بعنف ....
فعبس حاتم بشدة وصمت وهو يرى وجهها المرتعب .... فهتف بقلق
( ماذا حدث ؟!! ....... هل حدث مكروه ؟.... أين كنتما ؟!! ....... )
ابتلعت كرمة ريقها و هي تنظر الى حاتم بعجز .... و فغرت شفتيها تهمس برجاء
( حاتم .......... )
لكنها لم تستطع .... كان الإعتراف أكبر من شجاعتها ..... فنظرت الى محمد تترجاه المساعدة ....
حينها تقدم محمد وهو يقول بخفوت
( كنا في مكان لا نريد اخبارك عنه ........ )
أغمضت كرمة عينيها بهلع ... و كان أن هتف حاتم بقوة
( ماذا ؟! ....... أريد أن أعرف حالا أين كنتما ؟؟ ....... )
أخذت كرمة ترتجف بقوة .... ثم همست و هي تسلم أمرها لله
( لقد كنا في ......... )
الا أن محمد كان قد سبقها وهو يهتف غاضبا
( أنت دائما تفسد كل شيء جميل ...... حسنا لقد أصرت كمرة على اصطحابي لشراء هدية عيد ميلادك و ترجتني الا نخبرك ..... و ها أنت قد أفسدت المفاجأة !! ...... )
ذابت ملامح حاتم بذهول .... وهو يفكر بالتواريخ ... ثم لم يبلث أن اقترب منها وهو يهمس برقة مذهولة
( كرمة !! ....... لم أتوقع أن تتذكرين يوم مولدي !! ....... حبيبتي )
أمسك بكتفيها يقربها منه ليطبع شفتيه فوق فكها بحرارةٍ ألهبتها .... فأغمضت عينيها بجنون و قلبها ينبض بالإحساس بالذنب
فهي لا تعرف يوم مولده أصلا .... رفع حاتم وجهه الأحمر من الإشتياق لها و نظر لعينيها يعدها بالكثير .. فارتجفت أكثر .... ثم لم يلبث أن قال بهدوء ناظرا لمحمد
( حسنا أيها الشاب ....... ارأيت اهتمامها بوالدك !!..... بينما أنت لم تتذكره ولو لمرةٍ واحدة خلال السنوات الأخيرة ....... )
نظر اليه محمد بوجوم ..... و التقطت كرمة نظرته تلك ... فشعرت و كأن قبضة باردة سحقت قلبها ....
لكن محمد قال بلامبالاة
( و إن يكن !! .............. )
ثم ابتعد ينوي الذهاب الى غرفته .... فقال حاتم مبتسما وهو ينظر الي كرمة الشاحبة كالأموات و هي تنظر الى محمد .....
( اذن أين هي تلك الهدية التي أخرتكما كل ذلك الوقت ؟! .............. )
قبل أن تنطق كرمة .... كان محمد قد هتف من آخر الرواق
( أخفيناها ...... أم ربما تريد أن تراها الآن إمعانا في الفشل ! ...... )
ثم دخل و صفق باب غرفته خلفه بقوة ......
حينها عقد حاتم حاجبيه دون أن يفقد ابتسامته ... ثم مد يديه يتحسس خصرها وهو يقربها منه قائلا باعتذار
( محمد صبي يصعب التعامل معه ..... أليس كذلك ؟....... أنا آسف جدا لأنني لم أمنحك شهر العسل الذي تستحقينه يا كرمتي ..... )
جذبها اليه بقوة وانحنى يهمس في أذنها
( أما عن كونك تعرفين تاريخ مولدي ! ...... فهذا كفيلا لدي كي التهمك كلك الآن كقالب حلوى عيد ميلادي .... )
ابتسم ليهمس بعبث
( ماذا لو وضعتك على طاولة المطبخ كالمرة السابقة ..... و أضأت الشموع من حولك ... كي أطفئها واحدة تلو الأخرى .... واحدة .... واحدة .... )
كانت شفتاه تلامسان شفتيها مع كل شمعةٍ يطفئها في خياله الوقح ......
أبعدت كرمة وجهها عنه قليلا .... ثم همست بصوت فاتر فاقد الحياة
( حاتم ......... أريد أن أتكلم معك ........ هلا دخلنا غرفتنا رجاءا .... )
اتسعت عيناه ببريق مذهل وهو ينظر اليها ... لكنه لم يرد ..... لم يفعل سوى أن انحنى ليحملها بين ذراعيه بقوة ... وهو يتجه بها مسرعا الى غرفتهما المسكينة و التي لم تشهد اجتماعهما كاملا بعد .....
تعلقت كرمة بعنقه ... و هي تدس وجهها به بصمت طلبا في الحماية .... فهدرت أنفاسه بعنف .... لكنه التزم الصبر الى أن دخل الغرفة ... يغلق الباب خلفه بقدمه .... و ما أن وضعها على السرير ..
حتى استقام يفك ازرار قميصه بجنون وهو ينظر اليها بجوعٍ ميؤوس منه ... لكن كرمة استقامت جالسة تنظر اليه بوجوم .... فقال بخشونة
( كنت أود الإنتظار حتى يحل الليل ...... لكنني لن أستطيع .... لا تمنعيني عنكِ الآن كرمتي )
قالت كرمة بحدة قبل أن تتخاذل
( حاتم ...... هناك شيئا يجب أن أخبرك به قبلا ..... و بعدها سأكون لك بكليتي .... لو .... أردت ...)
اتسعت عيناه بجنون الإثارة ... و نبض عرق في صدغه ورغبته فيها تتحول الى ألم جسدي لا سبيل لشفاءه سوى باقتحام ذلك الكيان الجميل المستلقي أمامه ....
لكنه أجبر نفسه على التنفس بصعوبة .... الأميرة تريد الكلام .... لذا يجب عليه أن يمتثل صاغرا
فاقترب منها ليجلس بجوارها وهو يتنفس بسرعة ....ثم همس بخشونة وهو يقبل كل جزء في وجهها
( أسرعي اذن ...... فسيطرتي على نفسي على وشك الإنهيار ........ )
ابتلعت كرمة ريقها و ابتعدت عنه قليلا... ثم نظرت أمامها و بدأت في الكلام بصوتٍ ذاهب الأنفاس
لم تنظر اليه مرة واحدة و هي تتكلم .... لكنها كانت تستشعر حرارة غضبه و ذهوله ... الى أن صرخ فجأة قافزا من جوارها قاطعا همسها الواجم
( ماذا ؟!!! .......... )
تجرأت على رفع عينيها اليه بترجي و همست ببكاء لا تعلم متى بدأ
( حاتم أرجوك .......... )
الا أنه كان في حالٍ من الغضب الأعمى جعله لا يرى بكائها و لا يسمع توسلها ....
فصرخ بجنون
( ذهبتِ لرؤية طليقك !! .......... و أخذتِ ابني معك !! ...... )
نهضت من السرير بسرعة وهي تبكي هاتفة
( كنت أظنه في حالٍ خطيرة ...... لم أفكر ........ )
صرخ حاتم بجنون وهو يمسك بكتفيها يهزها بقوة
( هل أنتِ طبيبة ؟!! .... هل أنتِ أحد أقاربه ؟!! ..... ما هو دورك هناك ؟!! .... )
أغمضت عينيها مرتعبة من صراخه فصرخت هي الأخرى باكية
( لم أفكر ...... اندفعت ........ )
صرخ حاتم يقاطعها بجنون
( معمية القلب ....... اندفعتِ معمية القلب يا كرمة ....... )
فتحت عينيها الباكيتين تنظران اليه بصمت .... فهز رأسه قليلا .....ثم قال بخفوت شرس
( أنتِ تحبينه يا كرمة !! ....... و ذهبت لرؤية الرجل الذي تحبين ..... )
بكت كرمة و هي تهمس بعذاب
( لا ........... )
الا أنه صرخ بجنون يهزها مجددا .....
( دون علمي ...... و ابني معك !! ..... ماذا تفعلين بحياتي !! ..... أي خللٍ هذا !!! ..... )
صرخت دون تفكير
( كنت في حاجةٍ الى محمد ........... )
صرخ بعنف و جنون (؛ ماذا !!!! ........ )
حينها صرخت بهلع و رعب و هي ترتجف بقوة
( محمد ابنك ..... اقسم قصدت محمد ابنك و ليس محمد زوجي ....... )
صرخ حاتم وهو يدفها الى الجدار بجنون
(زوجك !!!!! ............ )
صرخت برعب
( السابق .,,....... أقصد السابق ..........)
الا أن حاتم كان في حالة من الجنون منعته من سماع أي كلمة تبرير منها فصرخ بعنف
( كيف تجرؤين ؟!!! .......... من تظنين أنكِ متزوجة منه !! ..... هل لهذه الدرجة منحتك شعورا بأنكِ متزوجة من أقل من رجل !!! ......)
صرخت كرمة و هي تسد أذنيها بكفيها و هي تبكي بعنف
( لا تصرخ ......... لا تصرخ ...... سأرحل من هنا حالا .... لكن لا تصرخ أرجوك .... )
صمت يلهث بعنف وهو ينظر اليها ... فسقطت يداه عن ذراعيها .... حينها انزلقت على الجدار حتى جلست أرضا و هي تسد اذنيها باكية بعنف
كان ينظر اليها بوجهٍ مرعب و عينان تقطران جنون رجولةٍ مهانة .... فهمس مجددا
( ماذا تفعلين بحياتي !! ............. )
بكت بقوةٍ وهي تطبق أجفانها .... و همست بنشيج عنيف
( أنا آسفة ........ أنا آسفة ........)
ظل ينظر الي حالتها المنهارة .... كان يعلم أن زوجها يسيء اليها .... نفسيا و جسديا .... و ما تخيل يوما أن يثير بها شعورا مماثلا .....
كان تنفسه في تلك اللحظة اقرب الى نشيج خشن هادر ..... ووجد أنه سيفقد البقية الباقية من آدميته ....
لذا قال بقوة وهو يبتعد في اتجاه الباب
( سأخرج .............. )
بكت كرمة و هي تتوسله دون أن تنظر اليه
( لا تفعل أرجوك ....... لا تفعل ......... )
الا أنه نظر اليها بحزن و غضب ..... و للأسف كان الغضب يفوق الحزن , لذا خرج قبل أن يفعل ما قد يندم عليه ...... بينما بقت كرمة جالسة أرضا تبكي بحرارة و عنف .....
.................................................. .................................................. ....................
عاد حاتم في ساعةٍ متأخرة من الليل .... و كان البيت كله مظلما ساكنا كما تمنى .... حتى أنه دعا الله أن تكون كرمة نائمة كي لا يراها
لقد أذاها اليوم بشدة ....... لكن أذيتها هي كانت أضعاف .... لقد ضربت صميم شرقيته .... و استهانت بكرامته حين ذهبت للقاء طليقها ..... و الأفظع عليه كرجل ... هو أنها ذهبت لتقابل حبيبها .....
لم يشفع لها أنه مريض أو يموت .... أو أي تبرير آخر
بالنسبة له الجملة تامة ...... كرمة ذهبت للقاء الرجل الذي تحب ......
ظل ساعاتٍ و ساعاتٍ يطوف بسيارته كالمجنون ... دون أن يهدأ جنونه ولو للحظة .......
ارتمى حاتم على الأريكة ..... مسندا رأسه الى كفيه ..... ثم لم يلبث أن همس بصوتٍ أجش
( ماذا فعلت بحياتك يا حاتم .......... )
سمع صوتها يهمس بحزن من عند الباب
( أدخلتني اليها ........ و قد حذرتك سابقا ...... أنا كتلة من التعقيدات .... )
رفع وجهه بسرعةٍ ينظر اليها ..... ثم لم تلبث عيناه أن جحظتا بذهول وهمس
( ياللهي !!! ..........)
كانت كرمة تقف عند الرواق المؤدي الى غرف النوم ...... لا لم تكن كرمة .... بل كانت ملكة غريبة من السحر .....
مد حاتم يده يضغط بها اعلى عينيه قليلا كي يتأكد مما يراه .....
كانت واقفة تستند الى جدار الرواق بيدها ... وهي ترتدي روبا فتوحا بحرية من الحرير الأزرق الداكن بقتامة و أكمامه من الشيفون الكحلي ....
بينما شعرها المتراقص حرا على ظهرها و كتفيها بجموح .... و تحت الروب كانت ترتدي أمام ناظريه المذهولين ... قميص نوم قصير .... قصير للغاية .. من الشيفون الكحلي !! ....
رمش بعينيه عدة مرات و هو يتأكد من رؤية جسدها الناعم بهذا الشكل الفج !! .... و ما أن تأكد حتى نهض قافزا من مكانه وهو ينظر الى الرواق الآخر .... ثم نظر اليها يهتف هامسا بغضب و جنون
( كيف تخرجين بهذا الشكل من غرفتك ؟! ..... قد يستيقظ محمد ليشرب أو لأي شيء آخر ....)
ارتجفت كرمة قليلا من حدته .... و هي في الأساس تموت بداخلها ألف مرة في تلك اللحظة من عمق الجرأة و الوقاحة التي تمثلها .... و كادت أن تفقد ثقتها بالموقف .....
لكن عيناه اللتان جريتا على جسدها .... تبعهما نفسا اجش سحبه بصعوبة و هو غير قادر على خلع عينيه عنها ...... بإستثناء وجهها ... فلم يعيره أدنى اهتمام ....
فاستعادت بعضا من ثقتها ..... و قالت بجرأة
( اذن من الأفضل أن تدخلني قبل أن يخرج محمد ........ )
عاد حاتم ليتنفس بحدة و تحشرج ..... لكنه همس بجفاء
( أنت لا تدرين ما تفعلين ...... أنتِ في حالةٍ هيستيرية ...... )
همست كرمة بطفولية حقيقية صادقة
( اذن أدخلني و هدئني ...... لأنني لست في حالٍ جيدة )
هتف حاتم همسا وهو يشعر بصدره يحترق بجنون
( ادخلي يا كرمة ........ فأنا لست من حجر ......)
أطرقت برأسها أخيرا و سلمت بأنها ليست ماهرة تماما في حقل الإغراء .... و لم تكن يوما على ما يبدو ....
ثم قالت بخفوت متقطع و هي تنظر الى البساط الزغبي تحت قدميها العاريتين شاعرة بأنها تتمنى لو تنشق الأرض و تبتلعها
( أنا أريدك أن تقضي الليلة معي يا حاتم .....أنا في حاجةٍ ماسة لهذا ... و لو رغبت في أن أرحل غدا فسأرحل دون نقاش..... أما لو لم تريد ذلك فأنا أعتذر عن ازعاجك )
ثم استدارت تبتعد عنه متجهة الى غرفتها ...... و ما أن دخلت حتى شعرت بوخزٍ من الدموع في عينيها .... لكنها تجمدت فجأة حين سمعت صوتا من خلفها ... فاستدارت بسرعة و قلبها يخفق بعنف ..... لتجد حاتم يدخل الغرفة ببطىء ....
ملامح وجهه صلبة .... ينظر اليها بجفاء ... على الرغم من الرغبة الظاهرة في عينيه ... ثم أغلق الباب ببطىء متعمد وعيناه عليها .....
برقت عيناها قليلا ... و فركت أصابعها بتوتر ...... و كم شعرت بجنون الخجل و عيناه تطرقان كل ذرةٍ من جسدها في ظل ضوء المصباح من خلفها .....
حين خرجت اليه كان الظلام يدثرها .... أما الآن أصبحت مكشوفة اليه تماما ... و رأت بهلع كل جزء من جسدها منعكسا في عينيه ...
تكورت أصابع قدمها تحتها من شدة التوتر ... و شعرت في هذه اللحظة أنها عروس جديدة ... لم يمسها رجل من قبل .....
حتى أن خوفها كان حقيقيا .... خجلها كان حقيقيا .... ارتباكها كان حقيقيا .....
أغلق حاتم الباب بجفاء و عيناه عليها .... ثم قال قبل أن يقترب بلهجة تحذير جافة
( لو بدأت هذا بيننا .... فلن يكون هناك رجعة بعدها ..... لا مزيد من الفراق ... لا مزيد من عبارة أريد أن ينتهي الأمر بسرعة ..... لأنني سأكون متمهلا ..... متمهلا جدا ..... فهل أنتِ مستعدة لذلك ؟!! ... )
ابتلعت كرمة ريقها بصعوبة ... لكنها أومأت برأسها ترتجف ....
لكنه لم يتسامح بعد ... بل قال بصوتٍ خافت لكن مخيف
( لو ذكر اسم طليقك بيننا مجددا .... أو حتى عبر طيفه خيالك ... سيكون عقابك شديدا يا كرمة .... و انا أعني ما أقول ...... )
همست كرمة بغباء و هي تنظر اليه بعينين متسعتين
(؛ و كيف ستعرف ما بخيالي ؟!! ............. )
اقترب منها ببطى و عيناه على عينيها .... الى أن وصل اليها فوقف أمامها ليمد يديه فجأة .... مزيحا الروب عن كتفيها بحركةٍ واحدةٍ جعلته يسقط أرضا عند قدميها وهو يقول ببساطة
( لأنني أنوي اقتحامه ............ )
ثم اتجه الى السرير أمام عينيها الذاهلتين و خلع ملابسه بسهولةٍ و يسر وهو ينظر اليها دون خجل ... بينما كانت هي فاغرة شفتيها بذهول الأطفال و صدمتهم مما يحدث ....
و ما أن استلقى على السرير حتى أشار اليها بإصبعه قائلا بجفاء
( تعالي ............. )
ابتلعت كرمة ريقها .... و اتجهت اليه بصمت لتستلقي بجواره و قلبها يخفق بعنف ... و ظلت منتظرة ... منتظرة .... الى أن فتحت عينيها مجددا و نظرت الى وجهه المتصلب و الغير متجاوب بحيرة و تساؤل ....
فقال بخشونة
( ستكملين الدور الذي بدأته يا كرمة ...... أجعليني أشعر برغبتك ..... و الا فانسي الأمر .... )
عادت كرمة لتبتلع رقيها حتى سعلت بقوة .... و ما أن رفعت يدها تهدىء من صدرها اللاهث بعنف حتى فتحت عينيها تنظر الى السقف بصمت و هي تعد من واحد حتى عشرة كي تهدىء نفسها .... و ما أن انتهت حتى اقتربت منه ببطىء لتنام على صدره ... مخفضة وجهها اليه تقبله بكل كيانها المتعب و المحروم عاطفيا .و هي تستلم للعذوبة التي طالما تسائلت عن فحواها منذ أن تزوجت هذا الشخص الذي حملها للتو في لحظة جنون فوق صدره ليسحقها بشوق مديرا رأسها ذات اليمين و ذات اليسار بقبلاته المسكرة في قوتها .... ناسيا فظاظته و كل تبجحه بأن تبادر هي !!!
↚
أستيقظت صباحا و هي تتمدد في سريرها الواسع بأريحية مدللة .....
تشعر و كأن مصلا مسكرا قد سرى في أوصالها بهدوء ... ليكسبها استرخاء و ...... و ذهول !!!
فتحت كرمة عينيها بذهول و هي تحدق للأعلى بصدمة ....
تتذكر بوضوح ليلة أمس بينهما ..... بينها و بين حاتم ......
زوجها من المفترض .....
فغرت كرمة شفتيها قليلا بنفس الذهول و هي تتذكر كل لحظة مرت بينهما كانت بمثابة اختبار حسي ..... مقصود .... و متأني ....
ارتجف قلبها قليلا ... و سرت رعشة في أوصالها ....فبهتت ملامحها
كيف أمكنها أن تكون بمثل ذلك الإنحلال ؟!!
نعم هو زوجها و هي تعي ذلك .....
لكن .... لكن الحياء من الفواصل بينهما انعدم خلال لحظات ....
يظل انسان نوعا ما غريب ... لم تعرفه سوى منذ عدة أشهر ....
فكيف تكون بمثل تلك الجرأة معه .... و تنساق الى استعبادها الذي يتعمده جليا ....
و الحب ....... كيف أمكنها أن تكون بمثل ذلك الإنفتاح مع رجلٍ ....
لا تحبه !! ......
أظلمت عيناها بحزن .... و هي تعترف بالكلمة رغما عنها .....
نعم انها لم تشعر بعد بتلك المشاعر القوية .... ك .... كأن يكون فارس أحلامها ... أو البطل المنقذ المغوار ......
فتح الباب فجأة دون اذن .... و دخل حاتم الى الغرفة وهو يلف خصره بمنشفة ... بينما يجفف شعره بأخرى
شهقت كرمة بصمت ... و تركت فمها مفتوح .....
كانت عيناها متسعتان و هي تراه يتجه الى المرآة ..... يقف أمامها و يجفف شعره بهدوء ...
ثم ألقى المنشفة على المقعد الصغير بلا مبالاة ....
ليمسك صدره العضلي و هو يحرك ذراعه ..... ثم الاخرى .....
انتبهت كرمة الى أن فمها لا يزال مفتوحا .... فأغلقته و هي تبتلع ريقها بتوتر ....
انه رياضي جدا .... صدره قوي للغاية و ضخم .... أكثر مما تخيلته وهو يرتدي ملابسه ....
الحقيقة أن الملابس تبخسه حقه ..... من يراه في المصرف , لا يراه وهو بالمنشفة ..... صورة أخرى تماما !!
ابتسمت كرمة و هي تفكر بردة فعل الموظفات لو رأينه بالمنشفة .... فعضت على شفتها بخجل ....
الا أنها تنبهت لنفسها .... ما الذي تفعله ؟؟ ..... إنها تبتسم و تدعوه الى المزيد من التباسط معها ...
و هي رغم روعة تجربة ليلة أمس ... الا أنها بصراحة لا تريد تكرارها مجددا .....
على الأقل بتلك الصورة ......
انه زوجها و له حقوق عليها رغم عنها ... شاءت أم أبت .....
لكنها تريد أن تكون حقوق طبيعية .... لا تعلقها بأمرٍ ... قد يستغله ليحرمها منه فيما بعد .....
لذا حاولت جليا نفض الذكريات المخزية عن تفكيرها ... و بقت مكانها عدة دقائق .... منتظرة أن يأتي اليها كما تتوقع .... لكنه لم يفعل ... انتظرت قليلا .... لكن أيضا لم يوجه لها كلمة حتى ....
هل يظنها نائمة ؟؟ ..... ربما ....
شعرت بالغضب و الملل من طول الإنتظار .... لذا أخذت نفسا عميقا .... قبل أن تستقيم ببطىء لتجلس و هي تتدثر بالغطاء جيدا ...
مطرقة بوجهها الأحمر .... تبعد شعرها عن عينيها ... الى خلف أذنها بهدوء .... قبل أن تميل برأسها و هي تجمع شعرها على كتفٍ واحد .... مظهرة جانب عنقها ... و كأنها تستيقظ بلامبالاة ...
تريد أن تشعره أنه لم ينجح في استعبادها كما يريد ....
لكن لم يحدث شيء ... فاعتدلت و احترمت نفسها و هي تنظر الى صورته في المرآة بوجوم مكتفة ذراعيها فوق الغطاء ....
استمر الصمت قليلا وهي تراه يمشط شعره ... و يعطر نفسه .....
لم تفهم ..... لم تفهم ..... هل بدأ لعبة الشد و الجذب الخاصة بالرجال معها ؟!!
طبعا .... لأنه شهد استسلامها المخزي ليلة أمس و استشعر كل لمحة من خضوعها جسديا له ......
لم تعلم أنها كانت ظاهرة في المرآة .... كطفلة مسكينة منبوذة .....
تتسائل متى سيأتي أحد الأطفال ليلعب معها ...... بوجهها الأحمر و شعرها الأشعث .....
و كانت عيناه تنهبان كل ما تستطيعان سلبه قبل أن ترفع عينيها و تضبطه .....
الى متى سيستمر عذابه ..... حتى ليلة من الحلم معها فوق النجوم .... كانت أقسى عذاب ....
ما هو مقدار عذاب الرجل حين يشعر بأن متعة زوجته الوحيدة هي متعة ملموسة مادية .... دون أن يستطيع النفاذ الى روحها .... الى قلبها ....
أغمض عينيه ... و تاهت يداه الكاذبتان عن تصفيف شعره المبلل بأصابعه ....
فتح عينيه يرتدي قناع الهدوء و الصلابة .... و أجبر قلبه اجبارا على القسوة ... رغم أنه يريد بكل قوته الذهاب اليها و ضمها الى صدره ... ليمنحها كلمات الصباح كهدية ردا على هديتها له ليلة أمس ... و هذا أقل ما تستحقه .... أحيانا تكون الكلمة هي أعمق هدية ....
لكن ليس بعد ...... الى أن تخرج من قوقعتها بنفسها دون اجبار ....
يكفيه من العذاب أن سمع صوت نهنهات بكاءٍ ناعم حاولت كبته ليلة أمس حين ظنته نائما بجوارها ....
و كأنها ..... و كأنها .....
رفعت كرمة وجهها الشاحب و همست بفتور و تردد
( صباح الخير ........ )
انتفض قلبه بداخله من همستها تقريبا بنفس الشعور الذي أحسه معها ليلة أمس ....
و ها هي مجرد همسة فاترة تشعل به رغبة متجددة تجعله يريد أكلها كشطيرة حلاوة طحينية صباحية ... بالقشدة .... مع بعض المكسرات ....
التقت عيناه بعينيها دون تعبير ... فقال بهدوء
( صباح الخير ...... )
ثم اعاد عينيه الى نقطة مجهولة بعيدة عنها ....
ارتبكت كرمة أكثر .... فقالت بصوت خافت
( هل هناك شيئا خاطىء ؟؟؟ ......... )
التقت عيناه بعينيها مجددا ... فقال بهدوء
( لا ...... لماذا تسألين هذا السؤال ؟؟ ........ )
ارتبكت اكثر و عضت على شفتها كفتاة مراهقة ..... لكنها قالت
( أنت تبدو ...... لست على طبيعتك ..... )
رفع احدى حاجبيه ليقول بصوتٍ طبيعي
( و ما هي طبيعتي ؟؟!! ......... )
اطرقت بوجهها الأحمر قليلا .... ثم همست
( كليلة أمس .......... )
ارتفع حاجباه بدهشة حقيقية وهو يراقب وجهها المطرق المحمر في المرآة ... لم يظن أن تقول هذه العبارة ...
فقال بهدوء لا ينم عن شعوره
( و هل ليلة أمس هي طبيعتي ؟؟ ......... )
عقدت حاجبيها قليلا دون أن تدري بماذا ترد عليه .... نعم تلك هي طبيعته ... حسية للغاية و شديدة اللهفة عليها .....
لا .... لن يخدعها .... هو لا يزال يعاقبها .....
لذلك رفعت وجهها اليه بشجاعة و همست
( ظننت أننا تصافينا ليلة أمس .......... )
التقت عيناه بعينيها بصمت مهيب ... مخيف .... ثم قال بهدوء صلب بارد
( هل تظنين ليلة أمس كانت اعتذار مناسب ؟؟ ....... )
فتحت شفتيها لتتكلم لكنه سبقها وهو يستدير اليها قائلا بقوة
( هذا ثاني شيء يجب أن تفهميه يا كرمة ..... العلاقة بيننا لن تكون أبدا لمصلحةٍ ما .... اعتذار ... واجب ... رد جميل .... امتنان ..... )
مدت ذراعيها تقول بحنق
( ماذا ؟؟ ..... أفي مدرسة نحن ؟!! ..... )
قال بهدوء متصلب وهو يدقق النظر بها
( ربما ........... )
عادت لتخفض وجهها .... ثم خضعت قائلة بخفوت
( كيف يمكنني الإعتذار لك اذن ؟؟ .......... )
اظلمت عيناه .... تبا .... كما توقع تماما .......
ضحك قليلا بمرارة عقيمة .... " كانت تعتذر .... و بقوة " ......
همس في داخله بجنون
" يمكنك الاعتذار باخراجه من قلبك ... و روحك ... و ذاكرتك .... هل أطلب المستحيل ؟؟؟ .... ان يمسح الحاضر القريب تاريخ طويل من الألم !! ..... "
نظر اليها طويلا .... لقد رمى نفسه بمهمة مستحيلة .... مهمة حياته ......
قال أخيرا بهدوء آمر
( انهضي ......... هيا .... )
اتسعت عينيها بذهول و ذعر و هي ترفعهما اليه مشددة على الغطاء و كأن حياتها تعتمد عليه ..... ثم همست بغباء
( ماذا ؟!! ..... لا ... لماذا ؟!!! ..... )
تبا لأعصابه الضعيفة .... هدر بنفسٍ محترق خشن .... لكنه سيطر على جنون رغباته في تلك اللحظة وهو يقول
( لقد حان الوقت للذهاب الى العمل .... )
و كان أجمل منظر ما رآه للتو .... منظر رائع من الغباء الطبيعي ممتزجا بالذعر في خليطٍ مدهش من نكران الواقع ....
فقال ببساطة
( هل نسيتِ أن اليوم هو اليوم الأول بعد أجازة زواجنا ؟!! ...... )
بينما كانت كرمة تهذي بداخلها
" أجازة زواجنا !! .... "
بعد كل ما كان من فضائح علنية من زوجها .... تذهب اليهم بعد فترة وجيزة كزوجة المدير .... الذي هو رجلا آخر تماما ......
ابدا والله .....
رفعت كرمة وجهها الشاحب اليه لتقول
( لست مستعدة بعد يا حاتم ...... لن أذهب .... )
توقع ذلك .... لذا كتف ذراعيه وهو يقول بصرامة
( العمل لا يسير كعلاقاتك الخاصة يا كرمة .... وهو بالتأكيد لا يخضع لعدم استعداد الفرد .... هناك أناس ينتظرون خدمة مصالحهم و يعتمدون على وظيفتك ....)
هتفت كرمة بغضب مفاجىء مصدره الرعب من مواجهة زملائها
( فليعذرني أصحاب المصالح ..... فأنا بشر ... و خرجت لتوي من طلاق بعد زواج دام ل ....... )
عيناه .... عيناه كانتا كفيلتان لأن تصمت ......
فأخفضت رأسها و هي تنتظر صفعة .... لا حل آخر .... سيصفعها .... بعد خطأ الأمس ها هي تذكر الطلاق كسبب أساسي في عدم رغبتها للذهاب للعمل .... بينما تناست تماما أنها عروسه ....
تعاسة الطلاق تسبق سعادة الزواج الجديد ... منه ....
لذا اغمضت عينيها و هي تنتظر ان يضربها ..... ربما ليست للكلمة وحدها , بل عقابا لما فعلته أمس و هو يحاول كبته بقوة .....
فلينهي الأمر و تنتهي من الإنتظار .....
الا أن حاتم قال بصوت خافت غير مفسر
( أمامك عشر دقائق لتنتهي من استحمامك و ارتداء ملابسك ..... كي تخرجين لنتناول الإفطار مع محمد )
هزت رأسها نفيا و هي تقول بغضب
( لا ....... )
ثم أغمضت عينيها مجددا تنتظر الضربة .... الا أنه صرخ فجأة
( بلى ..... انهضي ... )
فتحت عينيها تصرخ بهياج ...
( لا ...........و اطرق رأسك في الحائط ... ) ثم عادت لتغمضهما منتظرة الصفعة لا محالة
حينها شعرت بلهيب جسده وهو يقترب منها .... و انتظرت الصفعة مطبقة جفنيها ,....
الا أنها شعرت به يحملها هي و الغطاء بالقوة و كأنها في وزن الريشة ... ليتجه بها الى الحمام الملحق بالغرفة ....
فصرخت و هي تتشبث بالغطاء و تلوح بساقيها و تتللوى تريد النزول
( لا أريد الذهاب الى العمل ..... لا أريد الذهاب الى العمل .... )
الا أنه تجاهلها تماما فوضعها في المغطس و و هي تلتف بالغطاء ... ليفتح فوقها الماء فجأة بكل تشفي ....
شهقت كرمة و هي تقفز مكانها بذعر من الماء الذي أغرقها ...
بينما كان هو ينظر اليها مبتسما بعكس احساس الغضب الذي يعتمل في داخله ... فكان اما ان يضربها كي يخرجه من قلبها ... كما يفعلون في المناطق الشعبية بدعوى اخراج الجن من الجسد ....
و اما أن يترك المهمة للماء ..... فكانت الطريقة الثانية هي الأكثر ملائمة لتحضره .....
تبللت تماما و هي تشهق من البرد .... بينما كان حاتم واقفا أمامها مكتفا ذراعيه مبتسما .... و الحب بداخله يتغلب على ألم ايذائها المستمر له .....
فجأة رفعت كرمة يديها لتغطي بهما وجهها ... و تنفجر في بكاء عنيف تحت الماء .....
ارتبك وجه حاتم قليلا ..... لكنه همس في نفسه أنه لن يخضع لهيستيريتها ....
و استمر بكائها عدة دقائق ... حينها ذابت ملامحه بوجع وهو يتخلى عن قسوته ... ليخطو الى المغطس معها ... فضمها اليه بقوة و هو يزيد من تشديد الغطاء حولها .... مربتا على شعرها المبلل ....
ثم همس أخيرا بصوتٍ أجش
( هذا يكفي ....... لماذا تتخلين عما حققته بحياتك ؟؟ ..... لماذا تضيعين حلمك بهذه البساطة .... )
ظلت تبكي طويلا .... ثم قالت أخيرا بإختناق من بين بكائها
( لأنني بشر ..... و أنا أشعر بالنفور من هذا العمل , لم أعد أستطيع مواجهة زملائي .... لم أعد أستطيع أن أعمل و أعطي و أنتج ...... لقد ... تعبت ..... )
هز رأسه يهمس بصوتٍ أجش
( لا ..... ليس صحيحا .... )
هتفت بغضب و هي تضرب صدره بقبضتها
( بلى صحيحا ....... إنه ما أشعر به أنا فلا تصادر احساسي .... )
ابتسم بعطف ... و كانت أصابعه تمشط شعرها المبلل .... و قلبه يخفق بحبها خفقة و باسمها الأخرى ....
قال أخيرا بهدوء هامسا في أذنها
( لن تستطيعي هد ثقتي بكِ ...... فلا تجهدي نفسك بالمحاولة .... أنتِ حققت المستحيل حتى الآن ... و منكِ تعلمت المبادرة ...... المبادرة بقبول المهام المستحيلة ....)
ابتلعت ريقها و همست بإختناق و هي تقترب أكثر لتنام على صدره تحيطه بذراعيها بقوة
( لقد عشت حياتين متناقضتين لفترة طويلة ..... استنفذت كل طاقاتي و اريد الراحة الآن .... لقد تعبت )
شعرت به يتشنج مجددا ... و توترت عضلاته تحت وجنتها ... فرفعت وجهها تنظر اليه بوجوم و هي تمسح وجهها بيديها كالأطفال ... تنظر اليه بحذر .... ثم قررت الكلام بصراحة
فقالت بخفوت
( لا أريد الخوف منك ........ الا يمكننا أن نكون أصدقاء ؟؟ .... )
صمت حاتم ينظر اليها بجفاء طويلا .... بينما تابعت و هي تمد يديها تمسك بكفه مطرقة برأسها لتهمس مجددا
( أنا أصبحت أخاف الكلام كي لا أخطىء في ذكر شيئ يغضبك .... )
ظل حاتم صامتا قليلا ... ثم قال أخيرا
( و ماذا فعلت لكِ كي تخافين و تبكين بهذا القدر ؟؟ ........ )
ارتبكت قليلا ... لكنها همست بضعف
( صرخت .... و عيناك ..... تخيفانني .... أحيانا .. حين ... )
صمتت و هي لا تجد القدرة على متابعة ما قد لا يفهمه بوضوح ... فأطرقت رأسها تبكي بنعومة
( أنا آسفة ........ أريد الإعتذار لك ........ )
مد حاتم يده الى ذقنها يرفعه اليه حتى نظرت الى عينيه بعينيها المنتفختين ... فهمس بصوتٍ أجش
( ظننتك اعتذرتِ ليلة أمس ......... )
هزت رأسها نفيا و هي تنظر اليه بصمت .... ثم همست بخفوت شديد
( أنا لا أحب الخطأ ...... صدقني لا أحب الخطأ يا حاتم .... يقتلني ...... قد لا أكون المرأة الأكثر مثالية ... ب ... ب ..... بملابسي المتحررة و شعري الطليق ..... لكن مع ذلك .... الخطأ يقتلني ... و بالأمس .... )
توتر مجددا و همس بصوتٍ جاف مجنون
( توقفي ....... توقفي ,...... )
الا أنها هتفت بقوةٍ و عذاب
( كيف يمكنني الا أذهب !!...... و كأنه كان مجرد .... وهم أو سراب لأعرف أن ..... )
صرخت كرمة حين جذبها اليه بقوةٍ يقضي على ما تقوله بعنف .... اخذت ترتعش بقوة ... لا تعلم من البرد ام من الخوف .... وهمس هو بين قبلاته باختناق شرس
( كفى ....... كفى .......بالله عليكِ كفى .... أنا أحاول جاهدا أن ..... )
الا أنه عاد ليقبلها مجددا بقوةٍ جعلتها تغمض عينيها لطوفانه عدة لحظات ..... و ما أن ابتعد عنها يلهث بعنف ... حتى قال بخشونة
( ستبردين ....... استعدي للعمل ....... )
ثم تركها يتجه الى الباب ... بينما كتفت ذراعيها بقوة و هي تنتفض بوجهٍ ممتقع ...... تتسائل ان كانت تلك هي النهاية و قد شعر بالنفور منها !!
الا انه و قبل أن يخرج من الباب .... استدار اليها يقول بوجهٍ قاتم و صوتٍ جاف رغم ما يحويه من الكثير
( بالمناسبة ....... لقد قدمت توصية لكِ في جامعتك ... كي تستأنفي دراستك سواء أردتِ التدريس أم لا .... ستتابعين دراستك ..... )
فغرت كرمة شفتيها قليلا و هي تنظر اليه بذهول ..... الا أنه تركها و خرج قبل أن يتهور ....... وهو يعرف نفسه بأنه سيفعل ........
.................................................. .................................................. .................
رفعت الوسادة فوق رأسها كي تمنع عنها رنين الهاتف المتواصل و الذي أوشك أن يصيبها بانهيار .....
لقد فقدت حتى القدرة على عد مرات اتصاله المهووسة !
كانت ملك لا تزال تعيش صدمتها الأولى ...... و كل ما رغبت فيه هو بعض الخصوصية كي تتعامل معها و تحاول التفكير في وضعها الجديد بأكبر قدر تستطيعه من الاتزان ..... دون الاستسلام الى هيستيرية الخوف من عنف ما حدث
نعم لقد كانت صدمة ..... لكنها ليست بطفلة لكي تجهل أن بعض الشباب قد يميلون الى العنف في رغباتهم وهو أمر خارج عن نطاق سيطرتهم
لكن ماذا عن الثقة ؟!
كيف تستطيع أن تثق في كلمته خلال حياتهما المقبلة معا .....
لقد كذب عليها في موضوع سفر والده مع سبق الاصرار
و خان عهده حين انتهك ثقتها قبل جسدها دون اعتبار لاتفاقهما
الحقيقة أن ألم جسدها حاليا هو أهون آلامها
عاد الهاتف يرن مجددا بعد فترة توقف تخللتها العشرات من الرسائل المهووسة ........
لذا رفعت الوسادة قليلا تنظر الى الهاتف بخوف .... بعينين حمراوين بلون الدم .... عيني فتاة فقدت الثقة بكل ما هو جميل ..... ثم لم تلبث أن همست بحزن
(واجهيه يا ملك ..... لم تكوني جبانة من قبل .....)
ظل الهاتف يرن طويلا الى أن مدت يدها المرتجفة اليه و هي تتأوه من كل حركة ..... و ما أن فتحت الخط ووضعت الهاتف على أذنها حتى على صوت صراخه
ملك ..... أين أنت ؟!! .... ) )
(لماذا لا تجيبين اتصالاتي ..... هل قررت الهرب ؟؟.... أقسم أنه لن يحدث يا ملك ..... أقسم الا يحدث ملك ....... مليكتي دعينا نتفاهم ..... لا تصمتي هكذا!!!! )
بات صوته في الأخير كصراخ غاضب ممتزج بالخوف
مليكة .... ردي علي ..... لا تتركينني هكذا .... أكاد أن أجن ))
رفعت عينيها لأعلى بيأس و هي تأمرهما أمرا الا تبكيا مجددا
ثم أخذت نفسا لتتكلم بعده بصوت خافت أجش
شادي ....... ))
صرخ يتأوه بلهجة مجنون عاشق
ياللهي ..... كدت أن أجن ))
الا أنه عاد ليصرخ بغضب
لماذا أنت صامتة هكذا ؟......)
أنت تدفعينني لحد الجنون .... مليكة ..... مليكة )
ردت ملك تقول بصوت خافت متهم ... مقهور
شادي .... الم نتفق على بعض الوقت ﻷاتجاوز ما حدث ؟......)
ياللهي ..... أنت لا تشعرمطلقا ... ما يصدمني هو أنك حقا لا تشعر بما ألم بي من صدمة تلو أخرى ..... ما حدث كان بشعا .... بشعا )
سمعت صوته يتأوه بقوة ..... بينما خانت نفسها و بكت بالرغم من أنها كانت قد وعدت الا تفعل
قال شادي أخيرا بصوت يرتجف .... يحترق
(هل تظنين أن حالي أفضل ؟! ..... رباه أنت لا تدركين ما أحياه منذ أن تركتك ... أشعر بالكره من نفسي ... أشعر بالإدانة و الحقارة .... ومع ذلك ...... و مع ذلك أشعر أنني قبضت على نجمة من نجمات السماء
ما عشته في لحظتها كان يفوق كل أحلامي جنونا ....
لكن توجب علي أن أتعامل مع الشعور بالذنب بعدها ..... لم أكن أتخيل أنني تزوجت من انسانة ملائكية الى تلك الدرجة التي لا تستطيع معها التعامل مع عنف مشاعري و مشاركتي أياها ............
ظننت أن نفس العشق يجمعنا...... )
هزت ملك رأسها بيأس ثم لم تلبث أن صرخت بمرار
( أي عشق ؟!...... لقد كذبت علي يا شادي ......
كنت تعلم أننا لن نذهب الى أسرتك و مع ذلك تابعت طريقك معي .......
حتى لو اقتنعت أنك لم تستطع السيطرة على نفسك بسبب عشقك و جنونك بي ..... لكن كيف تبرر كذبك علي....... )
سمعته يبتلع ريقه بوضوح و قد خانته الأسباب و العلل ..... الى أن قال أخيرا بخفوت شديد كادت الا تسمعه
كنت لتؤخرين الزواج لو علمت بسفر والدي ..... و خشيت لو أجلته لأعدت التفكير و نبذت الفكرة ))
صرخت ملك حينها بغضب و قهر
أي أنك فضلت وضعي أمام الأمر الواقع ..... كي لا تترك لي طريقا للرجوع ))
صرخ شادي هو الآخر
ما حدث بيننا لم يكن له دخل بما قلته للتو .... ما حدث بيننا كان ..... ) )
صرخت تقاطعه بعنف و هي تبكي
(لم يحدث بيننا شيء ..... لم يحدث بيننا شيء يا شادي ..... لقد حدث منك و ليس بيننا .... و هناك فارقا ضخما بين الكلمتين )
صمتت تبكي بقوة .... بينما هو كان يتنفس بجنون و رعب و شعور بالحقارة
ثم لم يلبث أن قال بقوة
ملك أريد أن أراك ...... سأتي اليك الآن ))
صرخت ملك بقوة
لا ......... ))
الا أنه هتف يائسا
( لا تنطقي تلك الكلمة بيننا ....... أنتِ تقتلينني بها )
الا أن ملك هتفت بصوتٍ أقوى من صوته
( اسمعني جيدا يا شادي .... ربما لا زلت أمر بصدمةٍ مما فعلته , الا أنني لم اتحول بعد الى ذلك الإستسلام الذي تتخيله ...... صدمتى ربما قد اتعافى منها يوما ما , لكن انهزامي و قبولي بهذا النوع من الزواج لن اسامح نفسي فيه أبدا ...... لذا لديك حل واحد فقط لا غير ...
وهو أن نخرج من هنا الى بيت أسرتك ...... و نخبرهم بزواجنا .... فإما أن يتقبلوا الأمر ... و إما أن تعود معي.... و حينها ستكون زوجي و أبي و أخي و حبيبي ..... ستكون ابني يا شادي ...و أعدك أن أحاول جاهدة أن أنسى تلك الليلة و أتعافى منها .... و انا قادرة على ذلك .... . فقط اثبت لي حبك و لا تخذلني مجددا ...... )
ظهر الجنون في عينيه فجأة طاردا شغفه .... و يأسه .... و تحول احمرار دموع الندم الى احمرار الجنون و الرفض وهو يهتف
( مستحييل ......... )
اتسعت عيناها وهي تسمع رفضه الصادم لها ... ربما كانت تخشاه , لكنها توقعته نوعا ما ... لذا همست بقهر
( كان هذا اتفاقك معي .... و قد خذلتني مرة ...... و ها أنا أمنحك الفرصة مجددا !!..... )
تسمر مكانه للحظة و ارتبكت عيناه .... فغرس يده في خصلات شعره وهو يزفر بجنون ...
ثم لم يلبث أن قال بمرارٍ قوي
( أنتِ لا تفهمين ...... أنا لم أخذلك ..... لم و لن أخذلك .....لكن أنت تريدين الذهاب الي المرأة الوحيد التي رفضت قبولي في ذلك البيت .... و منحها فرصة ذهبية كي تحارب بها وجودي ...... )
كانت تهز رأسها بصدمةٍ ميتة و هي تستمع الى حججه الواهية بينما دموعها تنهمر على وجنتيها بصمت كانهمار قطرات المطر على زجاج النافذة من خلفها ...
بينما هتف هو متابعا بصوتٍ أجش
( اسمعيني ...... اسمعيني جيدا ..... اكبري قليلا يا ملك ... أحببتك طفلة جميلة بريئة ذات ضفيرة شقراء ساحرة .... لكن آن الأوان أن تكبري .... أتدرين ما كنته و ما أصبحت عليه الآن !!! ..... لقد كانت معجزة بكل المقاييس ...... ذلك اللقيط التي عرفتهِ و نشأتِ معه .... أصبح له بيت و عائلة و اسم ترتعش له الأوصال ..... امبراطورية منتهاها كلها في قبضتي أنا ..... )
رفع قبضة قوية مضمومة أمام وجهه حتى ابيضت مفاصل أصابعه .... قبضة لم تراها ملك عبر الهاتف بينما كانت دموعها الصامتة لا تنضب ....
ثم قال بخفوت متأوه
( أنتِ تريدين مني أن أكون ملاك يا مليكة ..... كي ألفظ كل ذلك في لحظة تهور !! ..... هل هذا هو الحب من وجهة نظرك !! ...... )
فغرت شفتيها بذهول... بينما تابع هو دون تردد
( بمنتهى البساطة تريدين أن اعود معك لذلك اللقيط .... الذي تدهسه الأقدام بوحلها .... لا اسم و لا كرامة .... بل قد يكون الأسوأ من ذلك ينتظرني ... و هو السجن .... و قد أخبرتك بذلك من قبل ..... هل تقبلين أن تضحين بي بتلك السهولة !! ...... هل هذا هو الحب !! ....... )
فغرت شفتيها أكثر و حاولت الكلام ... الا أنها لم تستطع ... اختنق الكلام في حلقها بقسوةٍ مؤلمة ...
فتابع كريم بصوتٍ معذب
( هل تتذكرين ما كنته يا ملك !! .......هل تتذكرين ما كان ينالني بسبب شرف أمي الضائع .... تلك الأم التي لم أعرفها يوما و لم يعرفها كل من كان يعايرني بها !! .... )
همست ملك بعد صمت طويل مرير مختنق
( و ما ذنبي أنا ؟!! ....... لماذا فعلت بي ما فعلته ؟؟ ..... هل هذا هو الحب من وجهة نظرك ؟!! .... )
بكت فجأة بصوت و هي تدرك أنها وصلت لطريق مسدود بكل غباء ....
إما أن تفقده .... و إما أن تفقده حياته و المعجزة التي حدثت له ..... و إما أن تفقد نفسها أكثر و أكثر ...
هتف كريم وهو يضمها اليه بعنف
( ما فعلته بكِ !! ..... ما فعلته بكِ كان قدرنا معا يا مجنونة .... أنتِ ملكي منذ أن كنتِ طفلة .... أقدارنا جمعتنا صغارا ... و كبارا ..... علام أنتِ نادمة !! ...... )
هتفت ملك بصوتٍ عالٍ و هي تبكي بعنف
( أنا لا أريد تلك الحياة ....... لقد فرضتها علي فرضا ...... لا أريدها ..... لا أريدها .... )
صمتت تلهث بقوة ... ثم لم تلبث أن قالت بعنف انبعث في اوصالها حتى وصل الى عينيها فتحولتا الى زجاجٍ بارد مبلل بقطراتِ الدموع ... كزجاج نافذتها ...
( و مع هذا أنا لن أضر بكل مصالحكم التي تتحدث عنها ...... أنت زوجي و أنا لا أريد لك الضرر ... لذا لا معنى لخوفهم مني ....... )
هتف كريم فجأة يصرخ بجنون
( ليس مسموح لي التواصل مع أي مخلوق من الماضي ..... و الا كانت نهاية وجودي هنا .... حياتي هنا مشروطة .......كعبدٍ تم شراؤه ...... لا أحد يعرف أن ذلك العظيم كريم القاضي ... ما هو الا...... )
صمت فجأة ..... بينما كانت هي تختنق بتنفس أجش .... و حين طال الصمت هتفت بقهر و صدمة
( لماذا صمتت ؟؟؟ ...... أكمل ...... )
حين لم يجبها صرخت بجنون و هي تبكي
( أكمل يا شادي ..... و أخبرني بأنني لست سوى جزء من الماضي المرفوض ..... )
الا أنها سمعت صوت اغلاق الخط فجأة ..... أبعدت ملك الهاتف عن أذنها تنظر اليه بصدمة
لقد أغلق الخط !!! ..... لقد أغلق الخط !! ....
أخفضت ملك الهاتف الي سريرها و ملامح الصدمة تعلو وجهها الباهت ... بينما شفتاها فاغرتان و قد أدركت أنها أوقعت نفسها في هوةٍ لم تحسب حسابها أبدا ...
.................................................. .................................................. ...................
رف كريم بعينيه و هو يخفض الهاتف ... ناظرا للباب المفتوح بملامح كالحجر ...
ثم لم يلبث أن قال بصوتٍ كصرير الريح في مكان مهجور
( هل هناك شيء ميساء ؟؟ ..... لماذا تقفين بالباب هكذا ..... )
كانت ميساء واقفة بجمالها الراقي ... مكتفة ذراعيها و هي تستند بكتفها الى اطار باب غرفته الذي فتحته للتو دون أن يسمع وهو منشغل في مكالمته ...
ظلت تنظر اليه مبتسمة قليلا ... رافعة أحدى حاجبيها ... بينما التوت حنجرته وهو ينظر اليها بملامح قاتمة
لطالما كانت تنظر اليه نظرة تودعها كل رفضها لوجوده ....
الى أن بدأت نظراتها تتغير قليلا مؤخرا .....رغما عنها ....
رافقتها نظراته و هي تستقيم لتقترب منه ببطء ... مبتسمة بمكر .... الى أن وصلت اليه ... فوقفت أمامه تنظر اليه من رأسه حتى قدميه ... ثم قالت أخيرا ببراءة
( مشاكل مع فتاة ؟!! ....... هل بدأت تفقد مهراتك في تطويعهن يا حبيب قلب " ماما " ؟!! ... )
أظلمت عيناه أكثر وهو يراها تدور من حوله .... حتى وقفت خلفه فتوترت عضلات جسده تلقائيا ....
ثم تشنجت تماما حين ارتفعت على أطراف أصابعها و هي تمسك بكتفيه حتى وصلت الى أذنه و همست
( لكن من هو ذلك الشخص من الماضي و الذي من غير المسموح لك بالتواصل معه ؟!! ..... والدك قد يغضب بشدة من معنى هذه العبارة .... )
اقشعر بدنه بقوة ..... و اصبحت عيناه في قساوة الجليد الملتهب ... و سرعان ما سيطر على نفسه وهو يرسم على شفتيه ابتسامة واثقة ... ليستدير اليها .... واضعا يديه على خصرها ....
و اتسعت ابتسامته أكثر حين شعر بارتجافة جسدها تحت يديه و اجفال عينيها ...
حينها انحنى بوجهه اليها حتى اقترب منها بخطورة .... فتحولت عيناها لبحرٍ عاصف مظلم .. و ارتعشت شفتيها قليلا ... لكنه تحول بشفتيه الى أذنها يهمس برقة
( لا تقلقلي ..... و من أفضل من أمي لتهدىء من قلب أبي علي ....... )
أسدلت ميساء جفنيها قليلا و هي ستسند بكفيها الى كتفيه العريضتين ... بينما كفاه تحرقان بشرتها أسفل قميصها الحريري .....
كم مرةٍ أمرت نفسها أمرا ألا تدخل غرفته ... دون أم تجرؤ على الإعتراف بالسبب !!
حضت شفتيه على وجنتها برفق فارتعشت بقوة و هي تنتفض بسرعة دافعة يديه بعنف ... تتراجع للخلف بصدر لاهث و عينين تبرقان غضبا .... و .... احتياج ...
ثم قالت من بين أسنانها و هي تزفر نفسا لاهبا
( أكرم لن يعجبه هذا .......... )
رفع كريم احدى حاجبيه ... ليقول ببراءة
( لن يعجبه ماذا ؟!! ..........)
ابتلعت ميساء ريقها بصعوبةٍ ملحوظة .... بينما مررت لسانها على شفتها السفلى بحركةٍ لا ارادية ..
فتبعت عيني كريم حركتها بنظرةٍ ارادية ... متمهلة .....
انحنى حاجبي ميساء ... و انحنت كتفاها بانكسار أنثى مهزومة ....
ثم لم تلبث أن أغمضت عينيها و هي تلهث قليلا ... لتهمس بصوتٍ خافت
( وجودك هنا كان خطأ ....... لقد أخذت مكانه ..... مكان ابني الوحيد )
لم تكن مهيأة للحركةِ الشرسة التي تلت اندفاعه تجاهها لتقبض كفه هلى فمها يمنعها من متابعة كلامها
اتسعت عينا ميساء و هي تنظر اليه بذهول من تحت كفه بينما التفت ذراعه الأخرى حول خصرها تمنع تراجعها ليهمس بصوتٍ خافت بطىء
( إنها ثاني مرة تكررين بها نفس الكلام خلال ايام قليلة .... على الرغم من معرفتك برد فعل أبي لو سمع هذا الكلام يطوف و ينتشر بكل مكان .... هل نسيت آخر مرة صرخت بها بمثله منذ سنوات ؟؟..... )
صمت متعمدا وهو يرفع يده عن فمها ليمرر ظاهر كفه على وجنتها الناعمة ببطىء شديد ثم همس امام حدقتيها المهتزتين
( لا أريد أن يتكرر ذلك مجددا ...... أنتِ أمي .... و ضربك يوجع قلبي .... بشدة )
تألمت عيناها بشدة .... ثم لم تلبث أن دفعت صدره بكلتا قبضتيها بقوة و هي تبعده عنها لتندفع بعدها خارجة من غرفته مسرعة ..... تذرف دموعا بمرارة العلقم ....
على طفلها الذي فقدته منذ سنوات ... طفلها الذي مات صبيا لم يذق طعم سعادة الشباب ......
و الذي كان من الممكن أن يكون شابا رائعا ... و يكون سندها في الحياة الآن ... لو عاش ..... لو عاش .....
بينما لمسة من بديله على جسدها , تكاد أن ..........
شهقت ميساء باكية بعنف و هي ترفع يدها الى فمها المرتجف .... تجري عبر الاروقة .... تخلع كلا حذائيها و تلقي بهما عشوائيا ....
و تابعت جريها حافية و هي تبكي و تشهق .... حتى خرجت من البيت الى الحديقة المظلمة في سواد الليل , ثم لم تلبث أن رمت نفسها بملابسها الثمينة في المسبح البارد .... عله يهدىء نار قلبها المكلوم ... و نار جسدها المحترق !! ....
بينما كان كريم في غرفته يدفع كلتا يديه الى خصلات شعره يكاد أن يقتلعها من جذورها وهو يرفع رأسه عاليا بجنون .... يطوف في غرفته على غير هدى ....
ملك تضيع منه بعد أن ملكها !! ..... بعد أن تخللت جسده و مسامه و نالت من أوردته .....
بعد أن ذاق نشوة حصوله عليها ..... توشك أن تضيع منه !! .....
لقد كان يعتمد اعتمادا كليا على استسلامها الغير مشروط له .... كان يظن أن حبها له سيجعل منها عاشقة تسير على نهج هواه .....
خاصة بعد أن يعلمها فنون الحب و يجذبها قسرا الى عالم الليل الساحر ....
لكن الأمور أفلتت من يده ما أن لمسها ..... قوة همجية سرت في جسده جعلته حيوانا ينهش جسدها الغض دون رأفة ..... و ها هو فقد مسانتدها له .... فكيف سيتصرف الآن !! .....
لو ضاعت منه ملك سيموت ..... سيموت ....
صرخ عاليا و عيناه الحمراوان من البكاء وحيدا عليها بعد ما فعله ... تتحولان الى احمرار الغضب و الجنون
( لااااااا ....... أقسم الا تضيع مني ..... هي ملكي .... ملكي .... مليكتي أنا وحدي ... و قد دمغتها باسمي كما دمغت جسدها بختمي )
.................................................. .................................................. ......................
صباحا .....
رفع يديه يمشط شعره بروتينية أمام مرآته ... عيناه المعتادتان تقريبا لا تريان صورته ....
لكن شيئا ما جعله يحدق بها هذه المرة .... فأخفض يده وهو يعقد حاجبيه قليلا ... ثم لم يلبث أن أقترب بوجهه من المرآة وهو يدقق النظر في خصلات شعره يتلمسها برفق .. ثم همس ساخرا مخاطبا نفسه
( خالك محق يا أستاذ ...... لقد انتشر الشعر الأبيض بشعرك ..... لقد سرقتك السنوات سريعا .. )
أرجع رأسه للخلف وهو يعاود تمشيط شعره بملامح واجمة .... لكن عيناه تاهتا قليلا في ذكرى ضفيرةٍ شقراء طويلة جدا .... ساحرة ....
التوت شفتاه قليلا ....في شروده .... الا انه لم يلبث أن عقد حاجبيه ينتفض من أفكاره وهو يتنهد بقوة هامسا بخشونة ...
( حمقاء صغيرة .........مجرد متهورة باحثة عن نزوة .. )
صمت و هو يمشط شعره بعنف ... متنهدا بقوة ... و تفكيره يهمس من اللا مكان بداخله
" لكن جمالها لم يسبقه جمال !! ....... "
تأفف وهو يرمي المشط على طاولة الزينة بغضب مستديرا عن المرآة و ذكرى حورية من حوريات البحر تطوف بذهنه و هي ترتطم به ضاحكة ... و خصلات شعرها الذهبية المجنونة حولها تجعلها تبدو كبطلات أفلام الأساطير ....
منذ تلك الليلة التي حضر بها زفاف غير مرغوب من قبيل الملل و الصدفة ....
تلك الصدفة التي جعلته راغبا في كسر رويتينية حياته .... لترتطم به حورية بحر هاربة من كتاب الحكايات ...
عقد رائف حاجبيه وهو يهمس بصوتٍ أجش
( هل تمر بمراهقة متأخرة أم ماذا ؟؟ ....... ألم ترى فتياتٍ جميلات من قبل !! ...... يكفيها جريها خلف ابن القاضي ..... )
تناول مفاتيحه و هاتفه و حافظته بإهمال استعدادا للخروج ... لكن شيئا ما جعله يقف مكانه متذمرا وهو يضع يديه في خاصرتيه مطرقا برأسه يحدق في أرض الغرفة الواسعة ....
ذلك الشيء عاد يلح عليه أنها ليست من ذلك النوع .... وأن البراءة في عينيها من المستحيل أن تكون مزيفة ...
شيء سخيف يجبره أن يحميها ....
ضحك بسخافة و غضب و هو يهز رأسه محدقا بالبساط الأنيق ...
" يدافع عن فتاة لم يلتقيها سوى مرتين أو ثلاث .... مرة منهم كانت صامتة .... و المرتين السابقتين أهانها بهما بطريق غير مباشر .... "
خفتت ضحكته حتى اختفت و حل محلها وجوم قاسٍ وهو يرفع وجهه ناظرا أمامه بشرود
" لكنه يعرف كريم جيدا ..... و على الرغم من حبه الشديد له , الا أنه يعلم بأنه ليس متزنا تمام الإتزان ... بل يكاد يكون ذو نفسية مهتزة قليلا ....
صحيح أنه لم يتصرف من قبل تصرف خطير يجعله يتخذ منه موقف .... الا أنه من الخبرة بحيث ادرك بعض نقاط الإهتزاز في نفسيته .... و هذا أمر طبيعي نظرا لبداية نشأته .... "
تنهد رائف بغضب وهو يفكر بأن وجوده هنا كان خطأ من البداية ..... لكنه أحبه بقوة .... أحبه بالفعل و كأنه ابن أخته عوضا عن ذلك الذي فقدته ..... و أكثر .... فقد كان أكثر احتياجا لهذا الحب ...خاصة حين لم تستطع ميساء تقبله .....
لكنه لم يظن يوم جاء ... ان ذلك الصبي سيكون مصدر خطورة في البيت كما هو الآن ....
زفر رائف بحنق وهو يفكر بذات الضفيرة الشقراء عوضا عن تفكيره بمشكلة أخته الوحيدة ....
أي جنون هذا !! ..... من أين نبعت له تلك الحورية !! ......
التقط ساعته يرتديها بعنف وهو يهمس بغضب
( هذا يكفي ........ لقد شغلت تلك الحورية حيزا اكبر مما ينبغي من يومي .... )
و اتجه خطوة تجاه الباب .... الا أنه أغمض عينيه متسمرا مكانه ..... ثم استدار ببطىء وهو يطالع صورة
" رؤى " المعلقة على الحائط .....
تنهد رائف ببطى و يده تمتد لمقبض الباب ... بينما عيناه لا تزالان على الصورة ....
ثم لم يلبث ان ترك المقبض ببطى و هو يعود ادراجه عدة خطوات ... حتى جلس بثقل على الكرسي المقابل للسرير الواسع .... و الصورة المعلقة فوقه ...
رفع رائع يده يلامس بها فكه و هو ينظر الي صورتها الحبيبة ....
كانت صورتها و هي عروس في ليلة زفافهما .....
و هي الصورة التي يحتفظ بها هنا في غرفتهما .... و كم تختلف عن الصورة التي يحتفظ بها خاله و ينظر اليها ليل نهار ...
فالصورة مع خاله كانت صورة " رؤى " قبل الزفاف
بعينين ضاحكتين مشعتين حياة .....
أما صورتها و هي عروس في ليلة زفافهما ... فكانت صورة فتاة مبتسمة بفتور لعدسة الكاميرا ...
مجاملة من عروس توجب عليها التزين للزفاف !! ...
عيناها منذ أن تزينت للزفاف فقدتا ضحكتهما ... و شعلة الحياة بهما ...
و تبقى من رؤى فتاة هادئة .... مبتسمة بفتور لكل شيء .....
غادرت يده فكه لتغطي فمه بشرود و هو يتطلع اليها ..... الى تلك الصغيرة التي لم تجد الوقت لتعيش حياة الشباب و جنونه .... فقد أرغمت على الزواج بابن خالها .... قدرها و نصيبها منذ الصغر ....
و لم تكن من القوة كي تجابه .... و ترفض ..... و تخلت عن .... حبها !! ....
اظلمت عيناه قليلا حتى تغضنت زويتهما .... و همس بصوتٍ خافت أجش
( لو كنت أعلم أن حياتك ستكون كتابٍ من ورقةٍ واحدة فقط ..... لو كنت أعلم .....)
أنخفضت عيناه الى السرير البارد تحت الصورة .....
و بداخله نارا من كره الذات لرغباتٍ غير مرغوبٍ بها تتفاعل بداخل جسده بعد سنوات من الحرمان ...
بأي حق !! .......
أغمض عينيه ... و احدى يديه تديران سلسلة مفاتيحه حول اصبعه بشرود ....
سلسلة مفاتيح على شكل دمية خشبية مرحة طريفة ... مفرودة الذراعين و الساقين .....
كانت هدية رؤى له ذات يوم .... هدية من اخت الى أخيها .....
لكنه حفظها بقرب قلبه سنوات طويلة ......
عادت به الذاكرة الى أيامها الأخيرة .... فأغمض عينيه و صوت أنينيها يطوف بأذنيه و كأنها حاضرة ...
أنين مرضٍ شرس لا يرحم .... قبض كفه على الماديلية بقوةٍ حتى خدشت باطن يده وهو يتذكر تشبث أظافر رؤى بكفه و هي تئن بألمها متمنية الموت من شدة الألم ....
عشرات المسكنات لم تعد تكفيها .... و النهاية آتية لا محالة ... و ما كان عليه سوى انتظارها ممسكا بكفها النحيل المتصلب ....
بعد فترة طويلة فتح عينيه المظلمتين .... ينظر الى أصابعه المتلاعبة بالدمية الخشبية طويلا ... ثم سحب نفسا خشنا مثقلا بحزنٍ خانق ..... حزنٍ لا نهاية له ..
فقد ترك لخاله الصورة ذات العينين المشعتين ... و أخذ هو الصورة ذات العينين المنطفئتين بسببه ....
.................................................. .................................................. ................
حين مر من أمام باب المكتبة المفتوح ... دعا الله الا يراه خاله .. و ان يذهب الى عمله سريعا دون أن يضطر الى سماع نفس الطلب ... و المتعلق بالحورية فتاة الورد ...
لكنه ما أن عبر الخطوة السريعة حتى تسمر مكانه على صوت خاله الهادىء و الحازم ...
( تعال .... تعال ...... لقد رأيتك .... )
تنهد رائف بيأس ... ثم رجع خطوة ليلتفت و يدخل اليه على مضض قائلا بابتسامةٍ مستسلمة
( صباح الخير .... كان علي أن أيأس من محاولة الهرب منك ... )
قال عاطف مبتسما و هو يستدير اليه بكرسيه
( دائما تتهرب حين اطلب منك شيئا و لا تنفذه ....... )
تنهد رائف قائلا بتذمر أجش
( فتاة الورد ............ )
اتسعت ابتسامة عاطف و هو يقول بسلاسة
( نعم ...... تلك الوردة , الم تخبرني انها ستأتي ؟؟ ...... )
هز رائف كتفيه باستسلام و هو يهتف بحدة
( ذهبت اليها خصيصا ..... و طلبت منها أن تأتي ووعدتني .... ماذا أفعل غير ذلك ؟؟ .. هل أخطفها حملا على كتفي و احضرها اليك ؟!! ..... )
اتسعت ابتسامة عاطف اكثر ... ربما بدرجةٍ اكبر قليلا من ابتسامة السنوات الماضية ... بينما برقت عينا رائف للحظة و تلك الحورية تحتل تفكيره مجددا ...
ثم لم يلبث أن تأفف قائلا بوجوم
( الى ماذا تسعى بالضبط يا خالي ؟؟ .......... )
رفع خاله حاجبيه ببراءة و هو ينظر اليه قائلا
( أسعى الى إكمال دور الشطرنج المشؤوم هذا ..... الى ماذا يمكنني أن اسعى غير ذلك !! ... )
تنهد رائف وهو ينظر اليه متذمرا بعدم اقتناع .... ثم لم يلبث أن قال لاعبا اوراقه على المكشوف
( تلك الفتاة وجودها هنا خطأ يا عاطف .... و أنت تعلم ذلك ... البيت لا تنقصه المزيد من الأزمات .... )
صمت قليلا ثم لم يلبث أن قال بهدوء شرس
( هل لاحظت السلسال في عنقها ؟؟ .......... لا تخبرني أنك لم تره ,لأنني لن أصدقك لو فعلت )
ابتسم عاطف قليلا بدون مرح .... ثم قال بخفوت
( ربما لهذا يتوجب عليك التدخل ...... أحضرها الى هنا و أجعلها تحت نظري .... )
رفع رائف كلتا يديه و مد ذراعيه يهتف بغضب
( لماذا ؟؟!! ..... مالنا نحن و لها ؟؟ ...... هي حرة ......فتاة غريبة لم نلتقيها سوى بضع مرات )
زم عاطف شفتيه وهو ينظر الى النافذة الزجاجية بجواره بصمت ... فتنهد رائف وهو ينظر اليه ..
صمته القاطع يدل دائما على أنه غير راضيا ....
على الرغم من لطفه و طيبة قلب خاله ... الا أن رائف يعرفه جيدا , لطالما كان عاطف متسلطا في حماية من يهتم لأمرهم ... و قد أغضب ذلك الكثيرين منهم ... و أولهم ... " رؤى" ...
عاد الحزن يظلل نظراته و الجميلة تغزو ذاكرته ..... ذات النظرات الفاترة له دون غيره ....
قال رائف أخيرا بصوتٍ واجم
( إنها ليست طفلة و هي تدرك ما تفعله ..... فلتتحمل نتيجة تهورها ..... )
ضرب عاطف يده قليلا بذراع مقعده .. و هو يتذمر بصوته الأجش الخشن
( ذلك الصبي ليس متزن النفس .... و نحن نعلم بذلك .... فكيكف نسكت حين نراه ينوي اقتناص فتاة صغيرة !! .... لو رأيت فتاة تتعرض لخطر في الطريق أكنت تتركها لأنها غريبة ؟!! .... أين ذهبت الشهامة في جيلكم هذا !! )
تنفس رائف بخشونة ... و هتف بحنق
( لا .... لم أكن لأتركها لأن الحالة مختلفة ..... حينها تكون فتاة تعرضت لغدر دون رضاها ... أما فتاة الورد التي تحكي عنها ترتدي السلسال حول عنقها بمحض ارادتها ..... )
صمت رائف يتنفس بصعوبة ... ثم ابتسم قائلا
( ثم أنني لست من ذلك الجيل .... أم نسيت جرعة الكآبة التي تمطرني بها يوميا ... )
تذمر عاطف قائلا
( لست في مزاجٍ يسمح لي بالمزاح حاليا يا أبله ......)
عاد ليتأفف قائلا بخشونةٍ
( إنها ليست من ذلك النوع ..... إنها وردة بيضاء نقية ... و ليس من العدل أن نتركها تنزلق لمجرد أنها ترتدي سلسال ليس ملكا له من الأساس !! ....هذا الولد ليس سليما و لطالما حذرتهم منه الى أن انتهى بي الحال سجين مكتبتي .... عجوز وحيد يتجنبه الجميع ... )
اقترب منه رائف ساحبا كرسي ليضعه أمامه ... ثم جلس عليه يميل الى ركبتيه بمرفقيه قائلا بخفوت
( ربما آن الأوان لنا أن نرحل من هنا يا خالي ..... )
نظر اليه عاطف بعينين محدقتين خبرتا الزمن و الحزن ... ثم قال بصوتٍ خافت خشن
( و تترك أختك أسيرة هذه الجدران البالية مع ..... ابنها ... و ها أنت ترى زوجها أصبح وجوده يماثل عدمه ... و غرفتك و غرفة رؤى يا رائف ؟!! ..... هل تتركها أيضا ؟!! ..... )
عاد ليتنهد وهو ينظر الى النافذة من جديد , ثم قال أخيرا
( أما أنا فلن أبارح مكتبتي و بيتي العريق .... فلترحل أختك و زوجها عن عنها ... بإمكانهما ابتياع قصرا أكثر عصرية و فخامة من قصر عائلة القاضي القديم .... )
ابتسم رائف بسخرية ليقول
( العصرية ليست طرفا مهما في الموضوع .... المظهر بالنسبة لأكرم هو كل شيء ... بخلاف أنه لا يأمن لترك ميساء وحدها في فترات غيابه الطويلة ..... لذلك فوجوده هنا يفيده من كل الجهات ... )
نظر اليه عاطف و قال بجفاء
( لقد لففتني و حاوطتني و غيرت الموضوع ...... اذهب لتحضر لي فتاة الورد يا ولد .... ربما أنا أقبع هنا قعيد كرسي هذا ... لكن حين يرسل الي القدر فتاة تحتاج لمساعدة فلن أخذلها ..... )
ابتسم رائف قليلا على مضض ثم قال بخفوت
( اذن ساعدها ..... ماذا تريد مني أنا ؟!! ...... )
أشار عاطف بإصبعه الى باب المكتبة و هو يقول بجفاء
( اذهب أيها انذل و آتني بها ........شعيراتك البيضاء تلك على نفسك و لن يسري وقارها علي .... ستظل دائما الولد المشاغب الذي كان يجري خلف الخنافس في الحديقة ببنطالٍ قصير مقطوع مظهرا سرواله الداخلي ... )
أغمض رائف عينيه و هو يقول
( خالي ....... توقف أرجوك , لا تخبرني أن تلك بعض مقتطفات مما ستقصه لبائعة الورد تلك حين آتيك بها !! )
ابتسم عاطف قليلا وهو يسمع الإذعان الغير مباشر في صوته ..... كما هو رائف دائما , لا يخذل من يحتاجه أبدا ...... ولد ليساعد الجميع دون أن يساعد نفسه
الا أنه تكلم بهدوء قائلا
( و لماذا تهتم لما سأقصه عليها ؟؟ ...... هيا اذهب كي لا تتأخر على عملك .... فقط حاول أن تجد وقتا في يومك كي تذهب اليها و تذكرها بي .... برجلٍ عاجز يقبع في مكتبته وحيدا .... )
قام رائف من كرسيه و ربت على يد عاطف يقول
( سأجالسك أكثر مما أفعل يا خالي .... لكن لا تستسلم لهذا الشعور بالوحدة رجاءا ... )
نظر عاطف اليه بجفاء ثم قال بخشونة
( الفرق بين مجالستك و مجالستها كالفرق بين أكل الحنظل ... و تذوق المثلجات بالفراولة )
استقام رائف ليقول مقطب الجبين
( ربما علي أن أنقذها من براثنك أنت !! .......... )
قال عاطف مبتسما
( ربما ......... من يعلم .......... )
.................................................. .................................................. ......................
وضع رائف نظارته السوداء فوق عينيه و هو يتجه الى سيارته ... مصدرا صوت قفلها الإلكتروني ...
الا أن شيئا ما جعله يدير رأسه الى المسبح .... و حين فعل عقد حاجبيه ليهتف بخشونة
( ياللهي !! ........ )
ثم لم يلبث أن أسرع الخطا تجاه حافة المسبح .... حيث جلست ميساء ... تدلي ساقيها في الماء ...
بينما كانت ملابسها مبللة و شفافة ... و ارتجافها يكاد يكون انتفاضا ....
جرى رائف اليها حتى جثا بجوارها وهو يخلع سترته ليحيط بها كتفيها هاتفا بذعر وهو يرى وجهها الميت و شفتيها الزرقاوين ... بينما كانت ممسكة في يدها زجاجة خمر تشرب من فوهتها مباشرة و على الأغلب ذلك المشروب اللعين هو من أبقى على القليل من دورتها الدموية في مثل هذا الجو البارد
(هل أنتِ مجنونة !!! ........ هل أنتِ مجنونة !! ....... )
لم يبد عليها أنها سمعته من الأساس .... لكنها لم تلبث أن ابتسمت ... و أخذت ابتسامتها تتزايد حتى تحولت الى قهقهات و هي تقول من بين قهقهاتها
( نعم ..... نعم أنا مجنونة ..... منذ أن قبلت ..... )
استقام رائف واقفا وهو يسحبها معه حتى حملها بين ذراعيه .... داخلا بها الى الداخل و هي تنتفض بقوة
فصرخ في احدى الخادمات التي أتت مسرعة على اثر صوته ... فأمرها بسرعة أن تعد الحمام الساخن للسيدة ... فسبقته جريا .... و تبعها هو وهو يحمل ميساء الى صدره صاعدا السلم كل درجتين معا ...
و على صوته خرج كريم من آخر الرواق وهو ينظر الى حال ميساء البشع ...
فتقدم اليها جريا وهو يقول باهتمام
( ماذا بها ؟!! ...... )
مد يده يرجع شعرها المبلل عن وجهها ينظر الى عينيها البراقتين ... فقالت بسكر من بين ضحكاتها الرقيعة
( آآآه ابني حبيبي ..... تعال الى حضني ..... )
صرخ رائف بجنون وهو يدفعه بكتفه في صدره
( لا تلمسها ........... )
تراجع كريم عدة خطوات وهو ينظر الى وجه خاله الذي يراه بمثل تلك الشراسة تجاهه للمرة الأولى في حياته ....
تقدم رائف عدة خطوات ... ثم لم يلبث أن استدار اليه وهو يكرر بهياج و جنون بينما توحشت عيناه بطريقة لم يعتدها كريم
( إنها المرة الأخيرة التي أحذرك فيها ..... لا تلمسها مجددا ...... )
برقت عينا كريم وهو يرى الرفض مجددا ..... ليس ذلك هو رائف ... لم يكن ابدا رائف الذي اعتاد مساندته و مداراة اخطاءه عن والديه ....
كانت كلما اسمعته ميساء كلمة مسممة تنحر بها روح صباه .... كان رائف هو من يسترضيه و يلاعب شعره مبررا له عصبيتها الزائدة ....
لكن مؤخرا تغيرت أشياء كثيرة في هذا البيت .... كلها يعود و يصب في مصبٍ واحد
مصب الدم ....
حين يكون الدم واحد ..... تكون تلك هي القرابة التي لا تنفصم .....
ميساء لم تستطع أن تتقبله يوما مكان ابنها من دمها ....
و الرجل العجوز لم يستطع أن يتقبل حفيد ليس من دم ابنة شقيقته ....
حتى رائف الآن .... ما أن تدهورت حالة ميساء أصبحت هي الأهم تلقائيا ..... لأنها أخته و من دمه ....
الجميع يحارب وجوده في هذا البيت .... ماعدا والده ....
والده هو الوحيد الذي يحارب ليبقيه ....
استدار كريم ليمشي بخطواتٍ بطيئة عبر الرواق وعيناه الحمراوان تشتعلان بصورةٍ مخيفة .....
" لو اضطر لدهس الجميع كي يبقي على اسمه ..... سيفعل .... والله سيفعل "
1
دخل رائف وهو يحمل ميساء الى الحمام و الذي كانت تملؤه الخادمة و يتصاعد من البخار الساخن ...
فوقف منتظرا ..... لكن فجأة انهارت ميساء في بكاءٍ عنيف جعله يرتجف فضمها بشدة اليه
حتى طبع شفتيه بقوة فوق جبهتها و هو يهمس بشراسة
( اطلبي الطلاق ...... اطلبي الطلاق و سأساندك يا ميساء ..... لكن لا تجعليني أفقدك أكثر .... لم أعد أحتمل المزيد من الفقد ....... )
كانت في حالة سكر و بكاء عنيف .... لكنها تشبثت بعنق رائف بقوة و هي تهمس
( لم أعد أمتلك شيئا ...... لم أعد أمتلك أي شيء ..... لقد انتهت حياتي منذ سنوات ..... سنوات طويلة )
قالت الخادمة بلغة أجنبية أن الحمام جاهز .... لكن رائف ظل متشبثا بميساء لا يريد تركها ..... و صدره يخفق بوحشية ..... فهمس وهو يغمض عينيه
( ارجوك يا ميساء ........ لا اتحمل فقد آخر ..... )
لكنها كانت في حالة غياب ذهن .... فأنزلها مضطرا حتى أجلسها على كرسي المغطس .... و تراجع ينظر اليها بملامح شاحبة .... و عينين حزينتين ....
ملامحها تشابهت مع ملامح الحزن في وجه رؤى .....
لكن رؤى كانت تخفي ملامح حزنها خلف ابتسامتها المجالمة الفاترة .... لكن كثيرا ما كان يضبطها تبكي ليلا ...
ترى هل كان الموت راحة لها من مستقبل شبيه بحياة ميساء .....
لكنه كان مصرا على اسعادها ...... كان ينتوي ذلك لكن القدر لم يمهله ..... لم يمهله ....
استدار رائف يخرج من الحمام و من غرفتها ... بقلبه المثقل بحزنٍ ضاغط بثقل الحجر ....
.................................................. .................................................. ......................
وقفت ملك بين ورودها بوجهٍ مائل ... شاحب .. و عينين منذهلتين بصمتٍ حزين ....
كانت أصابعها تلامس وريقات وردة حمراء ....
لقد اشتاقت لورودها جدا ... واليوم صباحا شعرت أنها لم تعد تتحمل المكوث في غرفتها ....
غرفتها التي أصبحت مقبضة و مخيفة لها .... حتى سريرها أصبح و كأنه مدنسا ....
تلك الغرفة التي أثثتها بكل ما يسعدها .... الغرفة التي كانت تحتوي على رواياتها و حاسبها و حتى بساطها الذي هو على شكل وردة ....
الألوان الحمراء و البرتقالية المنتشرة في الغرفة أصبحت تماثل لون الدم و الحزن بالنسبة لها ....
منذ أن أغلق كريم الهاتف بالأمس لم يعاود الإتصال بها مجددا ... و هذا جعلها تسقط في الفراغ ! ...
على الرغم من رفضها رؤيته .... الا أنها كانت في أشد الإحتياج له كي يخفف عنها ما أحدثه بها من عطب ...
لكن عقلها أمرها أن تتحمل الألم أولا قبل أن تحتاج الى حضنه ..... الى ان يعلن زواجهما ....
كانت شاردة تماما فلم تسمع صوت الباب يفتح و اقدام متباطئة تقترب منها حتى وصلت اليها و فجأة قال صوت ثقيل خشن ... حقير نوعا ما
( صباحك ورد يا وردتي الحمراء ....... )
رفعت ملك وجهها مجفلة ... ثم لم تلبث أن شعرت بالغثيان في تلك اللحظة تحديدا و هي ترى الأستاذ زهير ...
أوف .. ذلك الرجل المقرف لا ييأس من مغازلة أي انثى تمر أمامه .... ماذا يريد الآن .. لا طاقة لها على مواجهة أمثاله حاليا يكفيها ما مرت به ....
اقترب منها حتى استند الى الطاولة الرخامية بينهما ... فمال اليها و اقترب وجهه من وجهها ...
فشعرت بالغثيان بوضوح أكبر ...
أدارت وجهها بعيدا و هي تقول بخفوت بارد
( صباح الخير سيد زهير ..... أي خدمة ؟؟ ..... )
كانت يده تنتزع ورقات احدى الورود الموضوعة أمامها و التي كانت ترتبها للتو ... فاشتعل حنقها و أبعدت الباقة عنه و هي تقول بصوت صارم
( من فضلك ....... لا تفعل ذلك .... )
رفع حاجبيه ليقول بسخرية
( لماذا ؟!! ....... إنها ميتة في كل الأحوال , فماذا يضيرها أن ننتزع وريقاتها .... )
نظرت ملك الى الوردة بشرود و بوجهٍ باهت ... أول مرة تسمع مثل تلك العبارة
نعم .... إنها ورود ميتة .... مهما بلغ جمالها .... الا أنها تظل ميتة , لا روح بها ... ستذبل بعد يوم أو اثنين ...
قطفتها يد انسان .... ليأخذها آخر و يلقي بها في سلة المهاملات بعد يوم أو اثنين .....
يوم أو اثنين ..... ارتجفت شفتيها و ارتعشت مفكرة
" كم مر على زواجها الكارثي ؟!! ...... يوم أم اثنين ؟!! .... "
العجيب أنها لا تتتذكر ... ربما ثلاثة أيام !! ..... لقد فقدت القدرة على تذكر التاريخ المشؤوم ...
كم مكثت أسيرة غرفتها المدنسة ؟!! ..... لا تتذكر ....
شهقت فجأة وهو يمد يده مجددا ليلامس وجهها قائلا بصوته اللزج
( وجنتك تشبه نعومة الوردة التي قطفت ورقتها للتو ........ )
ابتعدت و هي تقول بحنق و شراسة
( من فضلك أستاذ زهير ...... تكلم بدون يدك .... و الا سأضطر لإخبار السيدة شيراز , و لقد حذرتك من أن قبل تقترب مني ........ )
ضحك عاليا وهو يرجع رأسه للخلف مقهقها .... ثم لم يلبث أن سعل قليلا حتى احمرت عيناه وهو يقول
( و أنتِ يا صغيرة لا تستطيعن الدفاع عن نفسك بنفسك !! ....... هل تتحامين في اسم الشرسة قطة الأزقة ذات العينين الخضراوين ؟؟ ...... لكن على ما يبدو أن تربيتها لكِ قد اثمرت ..... و ها أنتِ قد اتخذت نفس طريقها القذر في بيع جسدك للشارين ..... )
اتسعت عيناها بذهول ... و عدم فهم .... عما يتحدث ذلك المخبول ؟!!! .....
هل يتكلم عنها و عن بشرى بتلك الطريقة ؟!! ......
فصرخت فجأة و لا زال الذهول يتملكها
( اخرس ............ )
الا أن الضحك خفت في عينيه المغضنتين ... لكن الإبتسامة القميئة لم تختف عن شفتيه وهو يقول بهدوء ساخر مقزز
( هي و نعلم جيد ما تفعله في سفراتها الطويلة مدفوعة الأجر .... و أنتِ يا صغيرة ؟؟ ..... هل هو أول عميل لكِ ؟؟ ..... أكاد أجزم أنه الأول ... فأنتِ هنا منذ سنوات ليست بعديدة وقبلها أراهن أنكِ لم تكوني سوى مراهقة بريئة ..... )
كانت تهز رأسها نفيا بعدم استيعاب و هي تنظر اليه بذهول ثم لم تلبث ان صرخت عاليا
( انت معتوه تماما يا استاذ زهير .... من فضلك أخرج من هنا و لا تقترب مني .... أنا لا فكرة لدي عما تتحدث عنه .... )
لم يبدو على وجهه الدنىء أي شعور بالإهانة الا أن عينيه حملتا نظرة أكثر حقارة و تشفي مريض وهو يقول ببساطة
( أتحدث عن العميل الذي يصعد غرفتك ليلا .... و الذي تردد على الxxxx أكثر من مرة ..... )
تسمرت ملك مكانها و شحب وجهها تماما ... و فغرت شفتيها بنفسٍ مرتجف ... دون ان تجد القدرة على الرد ... حينها اتسعت ابتسامته بتشفي أكثر وضوحا و تألقت عيناه بنوايا الشر و الإنتصار ...
و استدار ببطىء حول المنضدة الرخامية قائلا و عيناه بعينينها بإصرار
( آآه ها قد صمتت القطة الراقية ...... أتعلمين لم تعجبني شيراز يوما , انها دونية المستوى مهما ارتفع سعرها و سعر ما يكسوها من الملابس .... أما أنتِ ..... فأنتِ الرقي و الطهر بعينه ....لا يسعني سوى شكر ذلك الأول والذي جرك للمهنة أخيرا ... . )
دخل اليها بينما هي تتراجع للخلف متسعة العينين بذعر ... فوقف أمامها يتأملها من أعلى وجهها حتى أخمص قدميها .... ثم قال أخيرا هامسا همسا أجشا أثار قشعريرة في جسدها
( لنتفق على ليلة عندي ..... كم تريدين ؟؟........كونك حديثة في المضمار سيكون سعر الليلة أعلى .. )
فغرت شفتيها أكثر و هي تشعر بنفسها غير قادرة على الرد .... حاولت و حاولت .... لكن صوتها اختنق في صدرها من هول ما سمعت ....أرادت أن تصرخ بأنها متزوجة ....بأن ذلك المدنس اللسان يتحدث عن زوجها
الا ان الكلمة لم تخرج من حلقها ... لم تتواجد بصدرها أصلا ....
نظرة بشرى حين اخبرتها بزواجها ملأت عينيها ... و تخيلت ما ستكون عليه ردة فعل ذلك الحقير أمامها ... لو أخبرته بأنها متزوجة من شاب يصعد الى غرفتها في الليل و الناس نيام ....
كان الرعب هو رفيقها في تلك اللحظة .... فشهقت بعنف حين رفع اصبعا مر به على امتداد صدرها .... و قبل أن تتحرك كي تضربه .... رأت يدا تمتد من خلف ذلك الرجل ....
يدا رجولية سمراء ضخمة ... أمسكت بإصبعه بقوة ... ثم أدارته للخلف ....
و بذهول رأت وجه المدعو رائف .... خال كريم .... وهو يبدو شرس الملامح و على وشكِ قتل أحدهم ... بخلاف رزانته التي اعتادت رؤيته بها دائما ...
بينما كان زهير يشهق ألما و اصبعه ملتوٍ في قبضة رائف القوية .... و قبل أن يتكلم كان رائف قد سبقه ليقول بتقزز ....لاويا اصبعه حول نفسه أكثر و اكثر ... فشهق الرجل ألما
( أخبرني بالله عليك ..... كيف تطاوعني يدي لضرب رجلا في مثل سنك ؟!! ....... )
همس زهير بألم واضح
( أترك أترك ..... أترك اصبعي ... )
الا أن رائف لواه للخلف أكثر حتى أصدر صوت طقطقات .... فصرخ الرجل قليلا , و جذبه رائف اليه حتى همس في أذنه قائلا بعنف
( لو رأيت أي جزء منك يمسها مجددا .... سأقطعه لك .... مفهوم ؟؟ ..... )
لم يرد الرجل وهو يتألم محاولا تحرير اصبعه ... بينما لا توجد اصلا محاولة دفاع عن نفسه و الفارق بينهما في العمر و الجسد مضحك ...
ضغط رائف اصبعه أكثر حتى صرخ الرجل يقول
( مفهوم ...... مفهوم ....... )
حينها سمع صوت طقطقة أعلى ... و بعدها تركه رائف ... فصرخ الرجل عاليا وهتف بوجع رهيب
( أيها الأحمق ..... لقد كسرت اصبعي .... لقد كسرته ..... )
قال رائف ببساطة
( احمد ربك انني منحتك فرصة قبل أن أقصه ..... و أنا أعني ما أقول .... )
ابتعد الرجل شاتما , صارخا بوجع ... وهو يهرول خارجا ......
حينها شتم رائف بصوتٍ غاضب متقزز .... ثم استدار الى ملك ... و ما أن رأى منظرها حتى همس بقلق
؛( ياللهي !........ )
اقترب منها بسرعة فتراجعت للخلف بذعر و هي تهمس بسرعة
( لا ........ )
لم تكن تعرف ما هي تلك ال " لا " ..... ربما لا للأحلام التي تحولت الى كوابيس دفعة واحدة
عقد رائف حاجبيه وهو يدقق النظر في عينيها العسليتين الشاردتين بذعر ....
و قبضتي ديها المتشابكتين امام صدرها اللاهث .... بينما ضفيرتها للمرة الاولى لم تكن متبة كما اعتاد ان يراها .... بل كانت مضفرة بعشوائية بفعل ايدٍ مهملة شاردة ...
و قد تساقطت الخصلات الشقراء العسلية على جانبي وجهها الشاحب .....
مد يديه يريد أن يسندها ... الا أنه أخفضهما حين أدرك أنها تعاني من الصدمة ......
لكنها صدمة مبالغة بها ... هل تصرف ذلك الحقير يستحق كل هذا الرعب ؟!! ......
مد يده وهو يتراجع خطوة هامسا بخشونة
( تعالي ......... ربما ستسقطين لو بقيت وافقة طويلا ... )
نظرت الى يده طويلا بشرود ثم همست أخيرا
( أنا بخير ....... أنا بخير ....... )
الا أنه لم يعر تأكيدا الواهي اهتماما ... فقال بصلابة
( تعالي يا ملك ......... )
اسمها الذي خرج من بين شفتيه للمرة الأولى .... كان به من الحماية و نبرة أمان سقطت عليها كماء دافىء ينهال على شخصٍ يقف في ريحٍ باردة عاتية ....
فرفعت يدها ببطىء تضعها بيده ..... فأطبق عليها ببطىء .... رعشة غريبة سرت بجسده حينها .... لكنه رمش بعينيه عدة مرات وهو يهز رأس قليلا زافرا بخشونة .... مفكرا بغضب
" إنها مجرد طفلة بالله عليك !! ...... "
أخذ نفسا عميقا قبل أن يسحبها خلفه الى أقرب كرسي بالمحل .... فأجلسها برفق ثم لم يلبث أن جثا أمامها ينظر الى وجهها الذي سقط كوردة ذابلة ... اخفتها خصلات شعرها الشاردة عن عينيه ...
فهمس بقلق
( هل أنتِ بخير ؟؟ ...... هل فعل لكِ اكثر مما رأيته ؟!! ...... )
صمت قليلا يتحقق من ملامحها ... ثم لم يلبث أن هتف بخشونة
( تبا ..... ربما لم يجدر بي تركه يرحل الحقير .... ماذا فعل ؟؟ ..... أخبريني )
رفعت وجهها اليه و هي تنتبه الى أن ذلك المدعو السيد رائف ... يجثو أمام ركبتيها !! .....
ارتبكت و هي تحاول جاهدة السيطرة على غثيانها مما سمعته للتو من الحقير زهير .... فابتلعت ريقها و همست بتلعثم
( لم يفعل شيء ...... انه .... انه معتاد .... على مضايقة الفتيات ... و كل سكان الxxxx يعرفون ذلك ..... )
عادت عيناها لتشردان قليلا ثم اجبرت نفسها على النظر اليه و همست بطفولة
( أريد أن أنهض من فضلك ........ )
انتبه فجأة الى جلسته أمامها .... فاندفع واقفا بسرعةٍ يتراجع ثم قال بصوتٍ رجولي غريب
( هل أنتِ متأكدة أنكِ بخير ؟؟ ....... )
أومأت برأسها و نهضت هي الأخرى ... و التفتت يمينا و يسارا بترنح لا تعلم الى أين تتجه ... ثم اتجهت اخيرا عائدة خلف المنضدة الرخامية ....
فوقفت تستند عليها بأصابعٍ ترتجف ... قبل أن تأخذ نفسا مرتجفا و ترفع رأسها تنظر اليه هامسة بفتور
( لماذا أنت هنا سيد رائف ؟؟ ........ )
عقد حاجبيه قليلا بغضب ... ثم قال بجفاء
( لستِ ودودة تماما مع شخص من المفترض أنه ساعدك للتو !........ )
لم تجفل ... فقد اكتسا وجهها الشاحب بقناع من الفتور الحزين ... ذلك الفتور الذي يبغضه بشدة ....
لكنها قالت بخفوت و هي تخفض رأسها
( اذن كما لاحظت فأنا بالفعل تعرضت لموقف لا أحسد عليه ... لا يسمح لي بأن أكون ودودة .... )
نعم لاحظ .... تبا ....
لا يعرف ما انتابه ما أن دخل ليجد رجلا قذر بشعرٍ مصبوغ يمرر إصبعه المتعرج على جسدها !! ...
نارا هوجاء اندلعت بداخله فجأة ....
نار جعلته يتسائل إن كان هو نفسه الشخص الذي وقف أمام خاله صباحا يخبره بكل صلف أنها مجرد غريبة و هما غير ملزمين بمساندتها !!....
قال فجأة بمضض
( آسف ..... اعذريني , كان ذلك عدم تقدير مني ....... )
رفعت ملك عينين مندهشتين اليه و هي تنظر الى وجهه الوقور المتجهم .... و هي تتسائل هل بالفعل اعتذر لها ذلك الشخص الفخم !!! .... هل يعرف أمثاله الإعتذار ؟؟!!!
رمشت بعينيها قليلا ثم همست بوداعة
( شكرا ........... )
ارتبكت ملامحه قليلا ... فاستدار لاعنا الكبت و الحرمان ....
و تظاهر بالنظر الى الورود المختلفة وهو يضع يديه في جيبي بنطاله .... ثم قال بهدوء
( قلتِ ستأتين ..... و لم تأتِ ..... )
عقدت حاجبيها قليلا و هي لا تفهم ما يقول ... الا أنها رفعت يدها اى جبهتها و هي تتذكر بوعدها في زيارة السيد عاطف ....
لم تكن أبدا بمثل تلك القسوة مع أي شخص يحتاجها ... لكن ما مرت به لم يكن هينا .. جعلها تقارب نسيان اسمها ...
همست ملك بحزن
( أنا آسفة جدا ..... ظروفي كانت صعبة جدا الأيام الماضية .... )
استدار اليها ينظر اليها بعينيه القادرتين على النفاذ الى أعماقها بسهولة و يسر ... ثم قال بصوتٍ هادىء
( هل يمكنني معرفة تلك الظروف ؟؟ ........ )
اتسعت عيناها بعدم تصديق ..... لا تصدق انه يسأل هكذا ببساطة ... فقالت تلقائيا
( لا .......... )
تصلبت ملامحه .... و قال بجفاء
( لربما تمكنت من مساعدتك ............ )
اتسعت عيناها اكثر ... لكنها قالت باتزان
( شكرا ..... أستطيع تدبير أموري بنفسي )
ابتسم بسخرية وهو يقول قبل أن يستطيع أن يمنع نفسه
( واضح ........... )
ارتبكت و أخفضت رأسها ... فشعر بشعور غبي مفاجىء من تأنيب الضمير ...
ظل ينظر اليها طويلا مستغلة فرصة أنها مطرقة الرأس ....
تلك الفتاة خارجة من كتب الحكايات ..... لا ينقصها سوى جناحين أو ذيل سمكة ! ... تبا ...
كل هذا بسبب خاله .... هو من أرسله الى هنا .....
فأخذ نفسا عميقا قبل أن يقول
( اسمعي ....... خالي يريدك أن تأتي لزيارته ... بل يحتاجك بمعنى أصح .... إنها المرة الأولى التي أراه فيها يلح في طلب رؤية أحدهم منذ ....... )
صمت قليلا و شردت عيناه .... فقالت ملك بخفوت
( منذ ماذا ؟؟ ......... )
قال رائف بعد عدة لحظات بصوت لا تعبير له
( منذ موت ابنته ........... )
شهقت ملك بصمت و هي ترفع يدها الى فمها ....
تلك الفتاة ذات العينين المشعتين التي رأتها في الصورة ميتة ؟!!! .....
شعرت بدموع سخيفة تحرق عينيها رغما عنها .... لكن فجأة هتفت بمنتهى الغباء ما ان أدركت شيئا جديدا
( زوجتك ؟!!!! .......... )
رفع رائف وجهه بسرعة و بانت على ملامحه مشاعر عنيفة جعلتها تشهق دون صوت و هي تتراجع خطوة قبل أن تهمس مسرعة
( ياللهي ..... أنا آسفة ...... أنا آسفة جدا ..... )
ظلت ملامحه على قتامتها عدة لحظات .... ثم لم يلبث أن أخفض عينيه ليقول مغيرا الموضوع
( انا مستعد أن أفعل ما يريحه ...... و أنا مستعد كذلك لأن أدفع لكِ .... )
شعرت باهانةٍ بالغة و امتقع وجهها ..... فقالت بصوت خافت مهتز
( أنت تهينني .......... )
رفع احدى حاجبيه و هو يراقب ملامحها ذات الكبرياء بالفطرة .... و كم أعجبته لك الملامح !! ....
لكنه قال بصوتٍ عادي
( لم أقصد إهانتك ...... أنا بالفعل دفعت لعدد ممن يجالسون خالي ... لكنه لم يتقبل أيا منهم .... إنه لا يريد منكِ سوى أن تقرأي له .... أو تلعبي معه شطرنج ..... )
" بهذه البساطة !! ....... آه لو يعلم !! "
ارتجفت شفتا ملك .... و شردت عيناها بحزن ... ثم همست بخفوت
( لدي وظيفتي ......... )
ساد صمت متوتر بينهما ..... بينما ملك تشعر أنها أصبحت في مواجهة هوة جحيم .....
فقالت بخفوت دون أن تنظر اليه
( لست بحاجة للدف سيد رائف ..... سآتي كما وعدتك ..... و كلما سنحت لي الفرصة سآتي ... ما لم يمنعني شيء أقوى مني ....... )
قال رائف بعد فترة صمت
( هل تأتين اليوم ؟؟ ........... )
اليوم !! ...... اليوم !! ...... هل ستبدأ الحرب اليوم !! .....
آخر ما ترغب به هو دخول ذلك البيت مجددا .... ماذا لو وجدت كريم هناك !!
القصر ضخم .... و ماذا لو ؟!!! .....
نعم .... انها لم تعد تثق به مطلقا .... باتت تعرف عنفه و جبروته ....
و باتت متأكدة أنه قادر على أذيتها مرة و اثنتين و ثلاث .... و هي لن تقبل بذلك مجددا الا بعد أن يعلن زواجهما للجميع .... حينها قد تتحمل عنفه ..... أو ربما تمكنت من تهذيب مشاعر التملك لديه ....
لكن حتى ذلك الحين .... لن تختلي به أبدا ...
كانت مشاعر الخوف ظاهرة على وجهها بوضوح .... حتى شحبت ملامحها تماما ....
شعر رائف بشيء يوجع قلبه وهو يراقب صراعات وجهها الشفاف ....
فقال بلطف
( سأقلك و اعيدك بنفسي ....... )
شيئ مجنون ... جعلها ترفع رأسها ببطىء و تنظر اليه و تهمس بكلماتٍ أتت من العدم
( و هل ستكون موجودا ؟؟ ........لا تتركني وحدي ..... )
اتسعت عينا رائف قليلا ... لكنه عاد لجموده في لحظة .... رجائها مس قلبه في مقتل .....
شعرت ملك أنها تهورت فيما نطقت به فقالت بخفوت
( لن تكون زيارة عمل .... و المحل لن يكون مسؤولا عني ....... )
سكتت تشعر بالغباء ... الا أن رائف قال بلهجةٍ قاطعة
( لن أتركك للحظة .......... )
رفعت عينيها المتسعتين ..... وللحظة شعرت أنه يفهم سبب خوفها ...
لكن من أين له أن يعرف ؟!! ....... لقد أصبحت مهووسة تماما ....
لكنها همست مطرقة الرأس
( شكرا ............. )
ثاني " شكرا " .... لخال زوجها .... وهو لا يعلم صلة القرابة بينهما .....
أغمضت عينيها و هي تستند بيديها الى المنضدة الرخامية ...... بينما لم يبد هو على عجلة من أمره .... فما كان يراه .... كان ...... كان ساحرا ......
.................................................. .................................................. .....................
جلست بسيارته بصمت ..... كانت تحمل باقة ضخمة من ورود الأوركيد و البنفسج ... نسقتها بنفسها ..
بعد أن وعدته بمرافقته خرج مباشرة الى سيارته لا تعلم ان كان قد انتظر بها لثلاث ساعات !! .... ام ذهب لعمله و عاد ...
لكن و ما أن دخلت السيدة ليلى في موعدها ... حتى خرجت ملك حاملة باقتها في الموعد لتجده ينتظرها بسيارة أقل ما يقال عنها أنها رائعة ... الا أنها لم تكن سيارة شبابية ... تشبه احدى سيارات كريم التي كان يحاول ابهارها بها .....
بعد أن جلست الى جواره لاحظت بوجوم أنها أصبحت تفكر في شادي باسم كريم .... حتى نست تقريبا اسم شادي .....
قال رائف بصوتٍ عميق وهو يتأمل شرودها الجميل
( باقة جميلة .......... )
نظرت اليه ملك .. ثم همست
( شكرا لك .... رتبتها بنفسي ..... )
نظر اليها قليلا ثم أعاد نظره الى الطريق وهو يقول
( إنها رائعة ....... سأدفع لكِ ثمنها )
امتقع وجهها مجددا .... لكنها نظرت اليه تقول بهدوء
( سيد رائف ...... لو أردت لتلك الزيارة أن تكتمل , رجاءا توقف عن إهانتى )
عقد حاجبيه ليقول بهدوء
( لماذا يهينك أخذ حقك كل مرة ؟!! ........ )
قالت ملك بهدوء جدي
( أنا من تقرر ما هو حقي سيد رائف .... و ما أقرر أنه حقي لا أتنازل عنه .... )
قال رائف بهدوء غريب وهو يتابع قيادته
( جيد ....... )
شعرت ملك أن تلك الكلمة كانت تحمل كل معاني عدم الصدق ... لكنها نظرت من النافذة متجاهلة ما تشعر به ... الا أنه قال بهدوء بعد فترة طويلة
( يعجبني سلسالك بالمناسبة ......... )
انتفضت ملك في مكانها و هي تنظر اليه برأسٍ كالقذيفة ... و يدها تتشبث بالسلسال رغما عنها ....
ثم اتسعت عينيها بذعر
" إنه سلسال كريم !! .... الذي هو هدية من أنه .... التي هي أخت رائف .... كيف نسيت ذلك !!! "
ظلت ملك تنظر اليه بذعر .... بينما كان هو ناظرا الى الطريق امامه بملامح صلبة ...
و هنا عرفت انه يعلم ان علاقة ما تربط بينها و بين كريم .... لكن من المؤكد ليس الزواج
احمر وجه ملك و امتقع اكثر من مرة .... و شعرت باحساس غريب ....
كرهت ان يراها هو بالذات في هذه الصورة ....
هذا الشخص الذي لم تلتقيه سوى مرتين او ثلاث .... كان به من الوقار و الصلابة ما يجعل اي كان يتمنى ان يحافظ على منظره في مواجهته
ترى اي الافكار تراوده عنها الان ؟!! ....
كانت ملك في حالةٍ من الذعر و التوتر و يدها تتلاعب بالسلسال في تشوش و ارتباك ...
و تاهت ذكراها في يوم قريب كانت فيه مع شادي .... بنفس المكان الذي اعتادا المقابلة به ...
يوما ممطرا بغزارة ..... حينها علمت موقع السلسال من نفسه تحديدا ....
يومها كانت تداعب كفه برقة ... ثم همست بخفوت و اهتمام
( اخبرني عن امك ........ و جديا هذه المرة ..... )
اجفلت ملامحه قليلا .... و عادت عيناه لتطفئان شعلتيهما.
حينها قالت ملك باصرار و هي تنوى اختراقه بقوة
( ماذا تمثل لك حتى تخشاها بهذه الصورة ؟؟ ........ )
ابتسم كريم بقسوة و هو يهمس متعجبا
( أخشاها ؟؟!! ......... أنتِ لم تريها بعد ..... حجمها يكاد يكون نصف حجمي .... من يراها و لا يعرفها قد يظنها أختى و ليست ........ )
صمت دون أن يكمل و شردت عيناه ...... فتابعت ملك بصوت فاتر تكمل كلامه الذي قبض قلبها
( ليست أمك ....... هي بالفعل ليست أمك .... )
أظلمت عيناه بشدة أكبر ... حتى أنها ارتعدت قليلا بين ذراعيه لكنه لم يشعر بها .... و همس بذهن غائب عنها
( نعم ........ ليست أمي , و لم تكن يوما ....... )
همست ملك و هي تتأمل ملامحه بتدقيق
( لماذا لم تحاول أبدا التقرب منك ؟؟ ...... و ماذا عن تلك ؟؟ ...... )
أخفض نظره اليها عند سماعه سؤالها الخافت .... فرأى يدها الصغيرة ممسكة بسلسال ميساء و الذي لا يزال حتى الآن معلقا في عنقها .....
همست ملك و هي تقبض عليه
( لا بد أنك تعني لها شيئا كي تهديك سلسالها .. فهو سلسال نسائي ... و كان بإمكانها أن تهديك واحدا جديدا ... لكنها على ما يبدو قد خلعته من عنقها .... و ألبستك إياه !! .. من المؤكد أنك عنيت لها شيئا حينها !! ... )
مد كريم يده الى السلسال في يدها ... و أخذ يلفه حول اصبعه ... حتى اشتد على عنقها .... بينما كان هو في عالم بعيد جدا عنها .... ثم قال أخيرا
( لم تخلعه من عنقها لتلبسني إياه .. بل كان في عنق ابنها ..... من ألبسني اياه هو والدي " أكرم القاضي" ..... لا زلت أتذكر تلك الليلة الأولى في مكتبه .... كانت جلسة طويلة جدا ..... يشرح لي الكثير و الكثير ... فهمت منه القليل و لم أفهم أكثر ..... لكنني كنت أومىء برأسي و أنا عازما على تنفيذ كل ما يطلبه مني ... فقد منحنى الحياة .... )
همست ملك تلقائيا بانقباض
( استغفر الله !! .............. )
رفع عينيه عن السلسال لينظر اليها .... ثم همس بوجوم
( منحني الحياة المحترمة ....... منحنى اسم .... اسم رجل .... بعد أن كنت ألقب باسم امرأة لعدم ثبوت نسب لي ...... منحني بيت لم أراه حتى في أفلام الأساطير التي كنا نشاهدها في تلفاز الدار معا .....
و كنت عازما على أن أكون كل ما يتمناه ... و أقسمت أن أحافظ على تلك المعجزة التي منحها لي القدر....
و بعد تلك الجلسة ..... نهض من خلف مكتبه ... و ألبسني السلسال و امرني الا أخلعه أبدا ..... )
عاد ليتنهد بقوة و هو ينظر الى السلسال بشرود .... ثم تابع بصوتٍ قاتم
( تلك الليلة كنت أتوق الى رؤيتها من جديد ...... كنت قد رأيتها مرة واحدة فقط ..... و اخبرني أكرم القاضي أن هذه المرأة هي من ستكون أمي ..... و ظللت طوال جلسته معي في مكتبه أتمنى أن تنتهي الدقائق كي أراها ...... لم أكن أتخيل أبدا وجود أم بمثل هذا الجمال !!
ليست بصورة الأم التي تخيلتها أو تمنيتها يوما ..... كانت شابة طويلة ... رشيقة .... عيناها الحمراوان تبرقان بعنفوان لم أره من قبل ..... لها شعر أسود طويل جدا ... يماثل سواد فستانها .... لم تكن ترتدي سوى اللون الأسود .... و مع ذلك كانت الجمال بعينه .... )
انعقد حاجبي ملك بتوتر غير مفسر ....فتابع كريم و قد ابتعد عنها بكيانه كله
( لكن ما أن رأيتها مجددا حتى انهارت كل أحلام ذلك الصبي .... فقد انحنت الى ما ان أصبحت معي ... ترمقني بعينين حمراوين كالدم ... بهما يقطر الكره بشناعة .... و همست في أذني و أظافرها تخدش كتفي ..
ذلك السلسال لن يجعلك ابني أبدا ..... ستظل لقيطا طوال العمر .... )
ارتجفت ملك بشدة و هي تتخيل تأثير تلك الكلمات الموجزة على صبي صغير .... فمدت يدها تمسك بقوة و هي تشبك أصابعها بأصابعه و همست له برقة ..
( ألم أخبرك من قبل أنني سأكون أمك الوحيدة ....... )
عادت ملك من ذكرياتها التي بدت و كأنها بعيدة .... بعيدة جدا من سنوات ... و كانت عيناها مغروقتان بالدموع و هي تتسائل ماذا فعلت لشادي كي يكافئها بكل تلك القسوة !!
لقد كانت تشعر بكل لمحة ألم به و تحاول جاهدة مداواتها .... فهل يكون جزائها أن يصدمها تلك الصدمة !!!
عضت ملك على شفتها المرتجفة .... الا أن صوت رائف قصف رغم هدوؤه .. فجعلها تنتفض
( أريد استعادة السلسال ........ )
اتسعت عيناها قليلا و هبط قلبها بين قدميها ..... لكنها رفعت ذقنها و همست بقوة لا تملكها بالفعل
( انه ملكي ..... و لن أفرط به أبدا ..... )
تصلبت ملامح رائف أكثر ... لكنه لم يلتفت اليها , فارتجفت أكثر و اكثر .... لقد تتعامل معه على المكشوف
لكنه قال بصوت ٍ متشدد
( ربما لو أخبرتك أن هذا السلسال كان لأمي ..... و هي أهدته لميساء ... )
فغرت شفتيها بذعر قليلا .... و طال الصمت بينهما حتى أوشك أن يخنقها ... لكنه تابع بهدوء أكثر لطفا مخادعا
( لا تعتبريها إهانة مجددا ..... لكنني مستعد لأن أدفع لكِ ثمنه و أكثر بكثير ..... )
سقطت دمعة متثاقلة من عينها و تدحرجت على وجنتها بسرعة .... و حين طال بها الصمت , التفت اليها و حينها عقد حاجبيه بشدة حين رأى دمعتها الوحيدة ....
فشتم بصوت خافت و نظر الى الطريق أمامه ..... كانت عيناه غاضبتان بشدة ...فقال بصوتٍ خافت أجش
( لقد حذرتك ...... و كنت أريد مصلحتك أيتها الصغيرة )
شعرت ملك بأن ذلك السلسال يخنقها ... تود لو تخلعه قبل أن يقتلها .... و حينها أدركت أن كريم أهداها رمز كرهه في هذا البيت ..... كانت هدية كره .... لا حب .....
و على هذه الفكرة المخيفة .... تابعا الطريق بصمت مطبق .... اسود ....
دخلت ملك البيت ترتجف خلف رائف و عيناها تطوفان حولها رغما عنها .... أين هو .... لقد اختفى تماما منذ ليلة أمس ..... أختفى و تركها هنا تواجهه عائلته .....
كانت في حالة يرثى لها .... من المطلوب منها أن تتحلى بالقوة و الإتزان و التصرف السليم .... بنما هي لم تتعافى بعد مما نالته على يديه ....
أين ضاعت أحلامها .... أين كانت و أين أصبحت ......
دخلت الى المكتبة حاملة الباقة الى المكتبة و هي مطرقة الرأس .... و ما أن رآها حتى تهللت ملامحه وهو يقول بسعادة
( آآآآه ...... فتاة الورد ...... ظننتك ستخذلينني )
اقتربت ملك منه ببطىء مطرقة رأسها يتابعها رائف بعينيه بتعبير صامت مكبوت ....
وضعت الباقة برفق بجانب صورة "رؤى " ... و شيئا ما جعلها تنظر الى الصورة بحزن .... و هي تدرك أن صاحبة العينين المشتعلتين بالحياة و السعادة ... ميتة ..... فارقت الحياة بقسوتها ....
رفعت ملك عينين حزينتين الى عاطف و همست
( أنا آسفة ....... لقد تأخرت عليك ..... أنا آسفة جدا ..... )
اتسعت ابتسامته التي باتت تعشقها ....فقال بهدوء و بشاشة
( أخيرا باقة ورد صادقة النية ........ )
اتسعت عينا ملك بذعر و هي تسمع المعنى الخفي في عبارته ... و شيئا ما جعلها تشعر بعيني رائف تخترقان ظهرها بقوة و تنفذان الى أعماقها ....
الا أن عاطف تكلم بهدوء قائلا
( هاتى طاولة الشطرنج يا فتاة الورد و تعالي جالسيني ......و بعدها قد تقرأين لي قليلا .... )
أومأت برأسها بصمت و هي ترفع يدها تمسح دموعها ... غير قادرة على ادراك من يراها و من لا يفعل ....
جلست أمامه .... تنظر الى طاولة اللعب و حركاتها التي درستها آخر مرة ...
فقال عاطف بهدوء
( فكري في خطوتك التالية بهدوء ........ )
همست ملك من بين دموعها ....دون أن تنظر اليه
( لا أعلم .......... )
قال عاطف برقة
( بلى تعلمين ........ أنتِ أكثر من قادرة , أستطيع تبين ذلك بكِ ..... )
أومأت برأسها و هي تمسح وجنتها بضعف ثم حركت قطعتها بصمت .... نظر عاطف الى خطوتها بتركيز , ثم ضحك وهو يقول
( أحسنتِ ........... الذكاء و الجمال لا ينقصك سوى من يقدرهما )
ابتسمت بارتجاف و عيناها تحملان حلما مكسورا ..... بينما كان رائف واقفا خلفها ينظر اليها بصمت و جفاء ... و صدرٍ مكبوت ... فقال بخشونة بعد فترة طويلة
( سأصعد لأطمئن على ميساء يا خالي .......... )
رفعت ملك وجهها الشاحب الممتقع ... دون أن تنظر اليه بينما هبط قلبها آلاف المرات ....
ترى هل كريم هنا ؟!! ..... أين هو ؟!! .....
انتفضت حين سمعت صوته يقول بقوة
( لن تطيلي البقاء هنا يا ملك ...... سأعيدك بنفسي ... لا تخرجي من المكتبة حتى أعود اليكِ )
حينها اضطرت الى النظر اليه فالتقت عيناها بعيني الغريب .... و شعرت رغم كل اهاناته السابقة لها بلمحة من الطمأنينة ..... فأومأت برأسها بضعف و هي تهمس
( شكرا ............ )
ظل مكانه ينظر اليها بصمت .... و للحظة شعرت أن عيناه شملتاها برقة هزتها حتى النخاع .... فارتجفت أكثر .... الا أنه تحرك ليخرج سريعا .....
فقال عاطف بسعادة و هو يميل ليربت على يدها
( أنا سعيد أنكِ هنا ......... )
ابتسمت ملك بارتجاف وهي تربت على كفه الخشنة بيدها الأخرى ...
" أتمنى لو أشعر بالمثل "
لكنها همست بصدق
( و انا سعيدة أنني رأيتك ........ هيا أكمل دورك , لنجد وقتا لنقرأ قليلا .... )
كان الضغط عليها أكثر مما تتحمله .... رباه حتى أن آلام جسدها لم تبارحه بعد .... و ها هي تجبر نفسها على التواجد في نفس المكان مع ..... زوجها .... زوجها الذي هرب أو اختفى .... أو تراجع عن قراره في اعلان زواجهما .....
أغمضت عيناها للحظة و هي تهمس من قمة اليأس
" يا رب ..... يا رب "
.................................................. .................................................. ......................
خرجت من الxxxx الذي حفظت عنوانه عن ظهر قلب و هي لا تشعر بمن حولها ...
كانت تسير وسط البشر كالعمياء ..... لا تدرك أنها تبكي و تبكي .....
لا بل كانت تشهق .... لا تعلم على نفسها أم على ملك .......
لم تكن تعلم أن وليد كان قابعا في سيارته ينتظرها بغضب مكبوت .... لقد أتى الي بيتها لكنه لم يجد الوقت كي يصعد اليها وهو يراها تخرج بسيارتها من المرآب مسرعة بقيادة متهورة ....
و لم يقبل أن ينتظرها .... بل تبعها بسيارته ....
الى أن وجدها تصف بسيارتها أمام xxxx قديم في منطقة غريبة ....
حينها قبع في سيارته ينتظر خروجها بتوتر .... الى أين صعدت في هذا الxxxx القديم ؟؟
شعر بالرغبة في اللحاق بها , لربما كانت في خطر .... لكنه أجبر نفسه على الإنتظار فقد تكون لدى أحد من أهلها .... و حينها سيحرجها ....
الأيام الماضية كانت كالجحيم عليه بدونها ... كان قرارا بائسا بالبعد عنها دون أي تأثير منه حتى تستطيع أن تقرر ...
لكنه اليوم كان قاتلا أو مقتولا .... سيؤثر عليها و لو اقتضى الأمر سيقنعها بالقوة بالموافقة على عرضه ...
كانت أعصابه متوترة بشدة الى أن رآها أخيرا تخرج من الxxxx القديم بملامح مكفهرة ... ثم لم تلبث أن انفجرت في البكاء و هي في الطريق ....
شتم وليد بقلق وهو يرى منظرها المقلق .... و شتم بصوتٍ اعلى و هو يلمح مراقبة الناس لثوبها القصير للغاية في هذا البرد ... رغم الحذاء عالي الساقين ....
كانت المنطقة شعبية قليلا .... و كل أنظار من حولها توشك على أن تفترسها .... لكنها كانت في حال غريب و هي تبكي .... تحاول اخراج هاتفها من حقيبتها ...
و في تلك اللحظات التي كان يخرج فيها من سيارته كي يلحق بها من على بعد ....
كانت هي تتكلم باكية في الطريق ...
( ملك ...... أتسمعينني ؟؟ ...... )
على الناحية الأخرى ... استأذنت ملك من السيد عاطف و همست له أنها مكالمة مهمة سترد عليها خارج المكتبة و تعود حالا ....
و بالفعل خرجت ملك الى الرواق خارج مكتبة عاطف و رفعت يدها الى فمها تقول بخفوت
( ما الأمر سيدة شيراز ؟؟ ....... )
هتفت شيراز وهي في الشارع ماسحة دموعها بعنف
( مكتب المأذون الذي اعطيتني عنوانه .... غير موجود .... لا لوحة باسمه على الشقة المذكورة و لا شيء يدل على وجود مأذون هنا ..... لا شيء .... )
تسمرت ملك مكانها و بدت كتمثال لا يعي .... لا يفهم .... لكنها تمكنت من الهمس
( من المؤكد أنكِ أخطأتِ العنوان ........ )
هتفت شيراز في الهاتف
( لا .... لا .... لم أخطىء العنوان , لقد أعدته على مسامعك أكثر من مرة ...... لا وجود لأي مأذون .... )
تراجعت ملك خطوة حتى ارتطمت بظهرها على الجدار من خلفها و الهاتف على أذنها ...
عيناها متسعتان ... ... شفتاها فاغرتان بعدم فهم ....
ماذا .... كيف ......
لقد سألتها شيراز عن عنوان المأذون باصرار ... رغم عدم ادراك ملك سبب اصرارها ....
لكن ... كيف .... أين .... أين المأذون ؟؟ .... سافر .... هاجر ؟؟ .....
ارتجف الهاتف في يدها .....بينما ارتفعت يدها الأخرى تضرب وجنتها بقوة .... وهي تنزلق على الجدار حتى وقعت جالسة أرضا .....
فسمعت صوتا رجوليا يقول بقلق
( ملك !!! ...... ما الأمر ؟!! ...... )
رفعت وجهها تنظر بذهول الى رائف الذي وقف مشرفا عليها بملامح قلقة .... بينما يدها تضرب وجنتها برعب ...
فجثا القرفصاء امامها وهو يقبض على كفها قائلا بقوة
( توقفي عن ذلك ..... ما الأمر ؟؟ ..... ماذا حدث ؟؟ .... )
أخذ الهاتف من يدها ووضعه على أذنه يقول بهدوء
( ألو ..... من معي ؟؟ ..... )
الا أن الخط كان قد اغلق ... فلم يسمع صوتا .... فأعاد نظره الى تلك الفتاة ....
الحورية التي بدت و كأنها ذبحت بسكين بارد للتو .... دون حتى أن تنزف دما !! .....
.................................................. .................................................. ......................
وهي تبكي مسترعية انتباه من حولها في الطريق الضيق .... تسير مسرعة و ثوبها الصوفي القصير يتراقص حول وركيها ....
لم تدري ان اثنين من عاطلين المنطقة ... كان قد ركبا درجاتهما البخارية ... و اتيا من خلفها ... و ما أن أصبحا في محاذاتها حتى مال أحدهما و ضربها على مؤخرتها بقوة ... فصرخت برعب و هي تبتعد حتى ارتطمت بعمود إنارة في وجهها بشدة ....
بينما انطلق الاثنان جريا بدرجاتهما البخارية و هما يضحكان .....
ومن خلال تشبثها بعمود الانارة الذي ارتطمت به ... رأت وليد يجري خلفهما على قدميه دون هوداة .. قبل أن يسرعا قيادتهما .. و صوته يجلجل بكل ما هو يخدش الحياء العام من الشتائم ....
و تمكن بجسده الرياضي من الاقتراب منهما حتى قبض على غطاء الرأس الخاص بسترة احدهما فجذبه بقوةٍ أوقعته من على الدراجة .... بيبينما هرب الاخر برعب .... تاركا صديقه
لكن من حسن الحظ ان من قبض عليه كان هو من ضربها ..... من حسن حظ وليد ....
اتسعت عينا شيراز برعب و هي تراه يجثو فوقه لينهال عليه بقبضته على وجهه بينما تجمعت الناس من حوله تحاول تخليص العاطل من بين يديه ....
و ما أن رأت الدماء تنزف من انفه بغزارة ...حتى جرت اليه و تشبثت بذراعه و هي تصرخ برعب
( كفى يا وليد ..... ستقتله ..... كفى ..... )
كان في حالة هياج عمياء يكاد لا يرى بها من حوله .... و اوشك على تحطيم جمجمته ... الا ان شيراز صرخت بتوسل و رجاء ... حتى انها تمسكت بقبضته بكلتا يديها تكاد ان تقبلها كي يتوقف ...
التفت اليها كالأعمى وهو يلهث بعنف.... وشعرت بأنه في حالة غير طبيعية ....
الى أن بدأت عيناه تجولان عليها ... تطمئنان أنها بخير ...فنهض يلهث وهو يركل الصبي في خاصرته ... ثم أمسك بيدها يجرها خلف بعنف جعلها تتعثر خلفه و تكاد أن تسقط عدة مرات ... الى أن وصلا الى سيارته ...
ففتح الباب و هتف بقسوة
( اركبي ......... )
همست ترتجف بوجهٍ شاحب
( سيارتي ..... هناك ...... )
هتف وليد من بين أسنانه بقسوةٍ أكبر
( اقسم بالله يا بشرى .... إن لم تحترمي نفسك و تركبي بكل أدب فسأجعلك أنتِ و سيارتك لوحة ثنائية الأبعاد على الأرض )
نظرت الى عضلات صدره التي كانت تتراقص من شدة الغضب ... و عاد اليها السؤال ان كان هذا بشر طبيعي ام انسان آالي ..... لم تتخيل ان يكون مرعبا في غضبه الى تلك الدرجة!! ...
المهم أنه هنا ..... انه هنا ...
مسحت أنفها المحمر بظاهر يدها و هي تستوعب أخيرا .... أنه هنا !!! .....
جلست في المقعد الأمامي بكل أدب ... فصفق الباب بعنف و دار حول السيارة ليرتمي بداخلها مما جعلها تقفز مكانها قليلا و صفق بابه هو الآخر ....
قاد السيارة بسرعةٍ متهورة ... فتمسكت بقمعدها بكلتا يديها تحت وركيها ....
فقالت بخفوت
( قد تسرق سيارتي في تلك المنطقة !! ...... )
نظر اليها بعنف , فارتعبت و خرست تماما .... فأعاد وجهه الى الطريق مجددا ....
و نظرت اليه بصمت .... كانت ملامحه غاضبة بشدة ... و شاحبة قليلا ....
لكنه كان هنا .... لم تتخيل أن تراه مجددا .... هل سأل عنها و عرف كل حياتها ... و مع ذلك عاد!!
داعبها امل خجول من خلف سحب القسوة و المرار ....
ايمكن لتلك المعجزة ان تتحقق ؟؟
نظرت أمامها و هي تبكي بنعومة دون صوت .....
أدركت أنه خرج بها الى الطريق السريع .... و كأنه يفرغ غضبه في القيادة السريعة ....
.................................................. .................................................. ......................
أستدار فجأة على صوت ارتطام واضح في الحمام ....
كانت يداه لا تزالان بجيبي بنطاله وقد تسمر مكانه لعدة لحظات .... عدة لحظات شعر بها بشيء غير طبيعي , و كأن صوت الإرتطام ما هو الإ مطرقة ضربت قلبه بقوة ...
فأخرج يديه وسارت قدميه بتبطاؤ حتى وصل الى الباب ... و بداخله وحش يأمره الا يفتح الباب ... وحش خائف مما سيراه ....
وحش يلقب بالقلب المفزوع عليها ....
لكنها كانت اللحظات التي سبقت اندفاعه ليفتح الباب بقوة وهو يقول بخوف
( وعد !! ..... ماذا !! ....... )
ماتت الكلمات على شفتيه ... و اتسعت عيناه , وفقد قلبه العديد من دقاته ... حين أبصرها واقعة على أرض الحمام ....
صرخ برعب
( وعد !!! ........ )
ثم اندفع اليها و جثا على ركبتيه أمامها يرفعها الى صدره ... مربتا على وجنتها بقوةٍ هاتفا باسمها
( وعد ..... وعد ..... أجيبيني .... )
لكن شيئا ما كان خاطئا .... لم يكن اغماء كما رآه منها عدة مرات ....
بل كانت في حالة أخرى ...
شفتاها زرقاوان بشدة .... ووجهها ممتقع في مظهر ألم .... أما نبضها فكان ضائعا تحت يده المرتعبة ...
أسند راسها بيده وهو يحاول افاقتها صارخا
( وعد ...... وعد ........ )
الا أنه شعر بلزوجةٍ تلامس راحة يده .... و ما أن رفعها ببطىء حتى رأى بذهول بعض الدماء على يده من جرحٍ في رأسها من أثر الوقعة ....
همس سيف
( ياللهي !! ...... ياللهي !! ...... )
وضع يده على صدرها فشعر برعب أنها لا تتنفس ... و ان نبضها ضائع تماما ...
حينها بدأ الأرنالين في العمل بجسده المتسمر بذهول فأخرج هاتفه من جيبه و طلب رقما ليصرخ خلال لحظة
( أريد سيارة اسعاف ..... حالا .... )
و سرعان ما ترك هاتفه ليضع كلتا قبضتيه على صدرها وهو لا يعلم ماذا اصابها أو ماذا يفعل ...
و استمر في الضغط على صدرها بكلتا قبضتيه وهو يهتف بعنف
( أفيقي ... ارجوكِ أفيقي )
ترك صدرها ليرفع ذقنها ممسكا بأنفها و هو يمنحها من هواء قلبه الى شفتيها مباشرة ... مرة و اثنتين و ثلاث دون جدوى ... و بين كل مرةٍ كان يهمس بشراسة
( أفيقي ..... لا تفعلي بي ذلك .... أقسم أنني لن أسامحك هذه المرة لو فعلتها .... أفيقي يا وعد ... لا تقتليني ... )
و عاد للضغط على صدرها من جديد ..... بقوةٍ أكبر ., حتى كاد أن يهشم قفصها الصدري لكنه لم يكن يهتم له حاليا ... بل كل اهتمامه كان منصبا على ما يحويه .... على قلبها الصغير المسكين ....
رأى قطرة ندية .... تتساقط على بشرتها الشاحبة ....
كان يظنها عرقا من فرط عنف حركاته .... و لم يكن يتخيل أنها سقطت من عينه الصارخة عذابا ...
رآى عينيها تتسعان فجأة... فتوقف وهو ينحني اليها بسرعة هامسا في أذنيها بقوة
( أنها هنا ..... لا تخافي حبيبتي ... أنا هنا و لن أتركك ابدا ..... فقط ابقي معي .... )
كانت كل انتفاضة في جسدها الذي بدأ يشعر بالحياة قليلا و كأنها زلزالٍ يرج جسده الضخم رجا ....
أغمض عينيه وهو يخفض وجهه و يريح جبهته على جبهتها لاهثا بعنف ... هامسا بشراسةٍ و رعب
( اياكِ ان ترحلي ...... اياكِ .....)
رفع رأسه ليصرخ في انحاء المكان بصوتٍ زلزل الجدران بكل عذاب
( اين تلك السيارة بالله عليكم .......... )
.................................................. .................................................. ..............
رحلة طويلة تلك التي استغرقها نقلها الى المشفى و منها الى غرفة العناية سريعا ... و كأنها كلها مشاهد متتابعة تجري امام عينيه وهو يراقب موقفا تمثيليا ....
كاد أن يضرب طاقم المشفى وهو يخرجه بالقوة ... فاستسلم أخيرا وهو يستند الى الجدار بحالة من الإنكار ....
حتى الآن لا يصدق أنها من الممكن أن تتركه و ترحل ..... لم يستطع حتى أن يتخيل الأمر ...
ليس الآن ... ليس بعد أن عادت لأحضانه ..... ليس بعد أن عرفها من الأساس .....
سقط سيف جالسا على احد الكراسي منتظرا يلهث بقوة .... وهو يفكر كيف كانت حياته قبلها ؟ ... هو نفسه لا يتذكر !!
و كأن وعد متواجدة بطبيعيةٍ في كل أيامه بدأ من مولده .... و كأنه كان ينتظر ظهورها يوما ليعود كل شيء الى مكانه الطبيعي ....
لقد غضب منها كثيرا .... و آلمته أكثر .... و كان الماضي بينهما قاسيا بكل تفاصيله ....
لكن كل ذلك لم يغير في طبيعية وجود وعد بحياته منذ أن ظهرت ...
و الآن !! ..... أيسرقها المرض منه ؟!! ......
أخفض رأسه وهو يميل للأمام مستندا بمرفقيه الى ركبتيه .... مسندا رأسه الى كفيه ...
" الهذه الدرجة كان رجوعها اليه منفرا ؟!! .... ألهذه الدرجة آلمها ؟!! .... لدرجة أن تستسلم لوجع قلبها و ترحل ؟!! .... "
لا يعلم لو رحلت كيف سيتمكن من الحياة !! ......
أين ذهبت شجاعته التي كان يبثها له في الهاتف حين أبلغته بوفاة والدها .... أين تلك الشجاعة ؟!!
يحتاج ذرة منها حاليا .....
رفع رأسه حين شاهد خروج الطبيب .... فاندفع اليه سريعا دون أن يجد القدرة على السؤال ..
فقط هز رأسه .... بسؤالٍ صامت و ملامح شاحبة ....
لم يظن أن بإمكانه الشعور بمثل هذا الخوف أبدا .... لم يتخيل أن بحياته ما قد يخيفه مجددا بعد والدته و شقيقتيه !! ....
تكلم الطبيب بهدوء ... بأنها تعاني من ذبحة صدرية !! ....
ملامح وجهه لم تتغير ... و لم تتحرك عضلة بوجهه ..... بينما الكلمة تخترق كيانه كمنجل منتقم .....
ذبحة !! ...... لماذا ؟؟ ......
تلك الشابة التي جرت اليه منذ ساعات و ألقت نفسها بين ذراعيه ....
تلك الشابة التي تنتظرها الحياة بكل مباهجها فاتحة ذراعيها لها كي تعيش أخيرا و تنهل من كل ما حرمت منه سابقا ....
لماذا ترقد الآن اثر ذبحة صدرية ؟؟ ......
و دون أن يدري همس بصوتٍ خافت
( لماذا ؟............ )
عقد الطبيب حاجبيه بحيرة .... و قال بهدوء
( لقد أرهقت نفسها أكثر من الللازم ..... لقد أخذت دواءا مناسبا لتتراجع الخطورة الحمد لله .... و منذ اليوم سيكون معها نفس الدواء ما أن تشعر ببوادر أي اعتلال ..... بما أنها المرة الأولى لها فقد تتكرر .... و حينها قد لا تحتاج الى المشفى ..... )
همس سيف بنفس الصوت الميت
( مجددا ؟؟ ....... هل يمكن أن تصاب بها مجددا ؟؟ ...... )
قال الطبيب متنهدا
( اسمع ...... الأمراض المزمنة علاجها طويل الأمد .... لذا قد يتعرض المريض الى الكثير خلال فترة العلاج ..... لكن مع الإهتمام يستطيع تجاوز تلك المخاطر ...... ووعد لا تزال ببداية العلاج .... لا تيأس من أول صعوبة مرت بها ...... إنها مجرد ذبحة .... )
لا يعلم كيف ابتسم !! ..... ابتسم ابتسامة حملت مرارة العالم كله .... ابتسامة حملت حزن المحبين ...
و هو يتذكر صوتها ذات مرة في بداية تعارفهما وهي تقول بخفوت طبيعي
" إنه مجرد فقر دم !!! "
و كأنها تسأل بعجب عن سر قلقه ! ....
و ها هو طبيب محترم .... يقف أمامه ليخبره بكل هدوء أنها مجرد ذبحة كما يطلقون عليها ... و أنها ما أن تتناول القرص السحري الذي لن تسير بدونه منذ اليوم ... فستكون بخير .. و قد .... قد ... قد لا تضطر لدخول المشفى مجددا !!!
أي رد ذلك ليقنع زوج .... بأن يطمئن على زوجته !! .....
لا ليست زوجته .... بل حياته نفسها .....
رفع سيف وجهه القاتم القاسي الى الطبيب الذي ربت على ذراعه قائلا بهدوء
( يمكنك رؤيتها الآن لدقائق .... لكن لا ترهقها .... ستظل معنا يومين لنطمئن عليها و الى مؤشراتها من باب الإحتياط .... و بعدها يمكنك حملها الي بيتكما مباشرة حتى تمل منها ..... )
ابتسم الطبيب وهو يربت على ذراعه مرة اخرى ... ثم تركه و انصرف ... بينما وقف سيف ينظر الى الباب المغلق و الذي تقبع خلفه المرأة الوحيدة التي تمكنت من إرعابه .....
تلك التي تعاني مما يسمى ذبحة !! .... و كأنها تعاني من بعض الصداع !! ....
تحرك ببطىء باتجاه الباب و عينيه لا تبارحانه ... حتى دفعه و دخل ....
توقف سيف قليلا ... و هو يراها .... كانت مغمضة عينيها و كأنها نائمة .... على أنفها و فمها يوجد قناع أكسجين ..... صغيرته لا يمكنها التنفس بسهولة .... التوت حنجرته في عقدةٍ مؤلمة .... وهو ينظر اليها
صغيرة ..... صغيرة تماما , لا تعطي سنوات عمرها أبدا .....
نحيلة و بيضاء كما رآها ذات مرة بفراشٍ مماثل من قبل .... بياضها يضاهي بياض السرير من تحتها بينما بعض الأجهزة و الإشارات تصدر أصوات مخيفة تجعله يريد لو انتزع منها كل ما هو موصل بها و قد يؤلمها .....
كانت هناك ممرضة تسجل شيئا ما ... و ما أن رفعت وجهها اليه حتى قال بخفوت
( هل تتركينا بمفردنا قليلا من فضلك ؟؟ ...... )
أومأت له مبتسمة متفهمة .... ثم اقتربت تنزع قناع الأكسجين عن أنفها و فمها برفق ما أن تأكدت أن وعد لم تعد بحاجةٍ اليه ... ثم خرجت تغلق الباب بهدوء ...
فظل سيف واقفا مكانه ينظر اليها قليلا .... قبل أن يتحرك اليها حتى وصل أليها ....
عيناه تتنقلان ما بين وجهها الشاحب و بين الأجهزة المحيطة بها و كأنه يفهم منها شيئا ....
ثم في النهاية استقرت عيناه عليها و هو غير قادر على تضييع لحظة دون النظر الى وجهها ....
مد يده ببطىء يمسح على جبهتها و شعرها برفق ...... نعومة شعرها جنة لأصابعه ....
لطالما عشق شعرها الأسود ..... جماله لا يكتمل الا بشحوب وجهها الأبيض ذو شكل القلب ....
انحنها اليها يبتلع غصة مؤلمة في حلقه .... حتى وصل الى أنها و همس بصوتٍ أجش
( ارعبتني يا ابنة خالي ..... اضيفي ذلك الى قائمة كل ما تسببتِ به لي ذات يوم من أذى .... )
صمت قليلا و شفتيه تتخذان طريقهما عبر جبهتها ووجنتها .. ثم أبعد شفتيه قليلا ليهمس في أذنها دون أن يبتعد
( لتلك الدرجة كرهتِ وجودك معي ؟؟! ....... لدرجة أن تعرضي نفسك لترك كل ما ربحته من مال مؤخرا ؟!! ..... لهذه الدرجة كان نفورك مني اكبر من سعادتك بتحقق الأمان الذي تمنيته دائما ؟!! )
عادت شفتيه اليها وهو يهمس فوق بشرتها الناعمة الباردة .... مغمضا عينيه بألم
( آنا آسف ...... ربما هي المرة الأولى و الأخيرة التي ستسمعين بها اعتذاري .... أو لن تسمعيه ... لكن أنا آسف لكل ألم سببته لكِ .... لقد وصلتني الرسالة و فهمت ....
و أنا الآن مستعدا لتركك يا وعد ..... اسعدي حبيبتي و عيشي حياتك كما تحبين ... خذي من السعادة قدر ما تستطيعين ... فقط كوني بخير .... و أنا سأراك دائما من بعيد و سأسعد لسعادتك .... )
يداه كانت تتلمسان شعرها بحب ... ربما كانت المرة الأخيرة التي تنعم أصابعه بمثل تلك الجنة مجددا
بينما ذابت عيناه ألما وهو ينهل من ملامحها .... يود لو يحفظها عن ظهر قلب ... بل هي مطبوعة بقلبه بكل خط من خطوط فكها ... و جنتيها ... انفها الشامخ ذو الكبرياء و كأنه يرفض كل ما تعرضت له من ذل خلا سنوات حياتها ....
كانت أصابعه تلاحق كل ما كان يتأمله برفق .... حتى وصلت الى شفتيها الزرقاوين ....
حتى في زرقتهما كانتا قادرتين على اثارة أجمل و أكثر المشاعر جنونا ...
كيف سيسمح لنفسه بألا يقبلهما مجددا .... كيف سيعيش بدون قبلة الحياة التي كانت تمنحها له بكل رضا و كأن حياتها تعتمد عليها
انحنى اليها يمسهما برفق بشفتيه .... فسرت بجسده عنف فاق كل عنف الشاعر بينهما في جناح الفندق
و كأن تلك القبلة الأخيرة الرقيقة ... كانت من القسوة بحيث تريد أن تترك أثر ذكراها بقلبه كوشم حارق .. لن يلتئم أبدا بعد افتراقهما .....
و ما أن أبعد شفتيه عنها رغما عن كل عضلة في جسده تقاوم ابتعاده ... و قبل أن يتأوه ألما ...
كانت وعد ترمش بعينيها و كأنها تستيقظ من نوم مرهق ... دون أن تفتح عينيها و تعي تماما ...
كانت تنظر اليه ... ثم تعود و تغمض عينيها عاقدة حاجبيها و كأنها تتألم ...
صوت اختلاف في بعض اشارات الأجهزة الموصلة بجسدها الصغير أثار قلقه من جديد فنظر اليها بخوف و هو يستعد لأن يستدعي الطاقم كله .... لكنه التغير كان طفيفا ...
و كانت كمن يستيقظ قليلا فقط ... و كلما فتحت عينيها بصعوبة كانت تنظر اليه و كأنها تراه في الحلم ...
بدت و كأنها لم تنم منذ شهور طويلة ... و كأنها كانت تحتاج تلك الراحة الإجبارية ....
ظل منحنيا اليها يمسح على شعرها بقلق ... و هي تنظر اليه من بين نصف افاقة و نصف نوم ...
حتى التوت عضلة صغيرة في وجنتها قليلا ... و كأنها تبتسم !! ..
لكن شفتيها كانتا مرهقتين أكثر من ان تبتسم بالفعل .... ثم همست بضعف و هي تغمض عينيها ..
( أحبك ....... )
اتسعت عيناه قليلا بعدم استيعاب .... ثم اقترب منها أكثر وهو يهمس باسمها
( وعد ...... ماذا تريدين ؟؟ .... )
كانت تهذي قليلا ... و كانت نائمة بالفعل ... لكنها تأوهت و هي تتقلب قليلا بحركةٍ ضئيلة كي ترتاح ثم همست
( نسيت أن ....... )
صمتت قليلا تستسلم للنوم من جديد ... الا أن سيف قال بخشونة و قلق
( ماذا حبيبتي .... ماذا تريدين ؟؟ .... )
تنهدت قليلا ... و صمتت ثم همست
( نسيت أن ... أخبرك .... أنني ..... أحبك ...... )
عادت عيناه لتتسعان بذهول ... لكنه همس بغباء
( أنا من ؟؟ ......... )
تأوهت وعد و هي تهمس بتذمر ضعيف للغاية و بصوت ذاهب الانفاس
( ابتعد .... اريد أن أ.... أنام .... أغلق النافذة ..... )
لكنه أمسك بذقنها برفق وهو يقول مجددا بقوة
( أخبريني و سأتركك ....... )
همست بعد عدة لحظات بتذمر
( نسيت أن أخبرك ...... أنني أحبك ......... )
انتفض قلبه كقلب مراهق ساذج ... لكنه همس بصوتٍ أجش
( و ما هو اسمي ؟؟ ....... )
حينها ابتسمت شفتاها .... نعم ابتسمت حقيقة .... ثم همست بصوت لا يكاد يسمع
( سيف يا .... أحمق ....... )
ذابت عيناه و انتفض قلبه .....و فغر شفتيه باسمها همسا ... و كأنها منحته قبلة الحياة مجددا ...
ثم اختفت ابتسامتها و هي تهمس بضعف طفولي
( اغلق النافذة ...... أشعر بالبرد ..... )
حملت عيناه حنانا قادرا على اغراقها في بحورهما .... فمد يديه يدلك بهما كتفيها و ذراعيها المكشوفة بسبب الأسلاك الموصلة بصدرها ....
تحبه ..... تحبه .....
من كان يظن أن كلمة مشاعر واحدة من الممكن أن تهز سيف الدين فؤاد رضوان ...
ذلك الذي لم يعتد المشاعر من قبل
ذلك الذي لم يعرف الحب يوما ..... قبل أن يعرفها ...
وعد عمره ....
حينها لم يستطع أن يمنع نفسه وهو يندفع خافضا رأسه كالصقر الى وجهها ينهل من شهد شفتيها بكل قوةٍ و يداه تقبضان على كتفيها النحيلتين ...
استمر جنونه عدة لحظات قبل أن يسمع اختلال في صوت الأجهزة .... فرفع رأسه سريعا ينظر الى الشاشات و هو يلهث ... بوجهٍ أحمر و عينان تبرقان بمشاعر هوجاء ....
لقد جن جنونه بالفعل !! .... ماذا يفعل !!! .... هل ينوي الإنتهاء من مهمة القضاء عليها تماما !!!
حينها فتحت وعد عينيها بإتساعهما الجميل تنظر اليه ....
عيناها الشتويتان ..... هاتان اللتان رآهما عاصفتان .... و حينا ممطرتان ....
لكن في كل الأحوال عيناها الشتويتان ... سلبتا عقله في تلك اللحظة فتأوه هامسا أمام شفتيها و جمال عينيها
( و أنا أحبك يا جارة القمر !! ...... )
.................................................. .................................................. ..............
خرج سيف بصدرٍ متضخم ... بكل أنواع المشاعر ....
يكاد لا يرى وجهته ... و لا يعرف كيف التصرف.....
هل هو ذلك الخوف على صحتها ما يجبره على الابتعاد حاليا ... ام هي نشوة السماع لاعترافها مسلوب الارادة ....
لكن كل مشاعره توقفت فجأة ليحل محلها شعور واحد فقط ...... الغضب الأسود ...
ففي آخر الرواق ..... رآه قادما من بعيد ....
ذلك الذي مكثت لديه زوجته ..... و بقت تحت سقف بيته دون اذن زوجها ....
هل أنساه اعتراف حبها ؟؟ ..... والله لا .... لازالت النار تحرق جسده بوحشية ....
لكن ما تعرضت له وعد خلال ساعات جعله ينساه مؤقتا ....
لكن العجيب و المثير لنوايا القتل مجددا ..... أن ذلك الشخص قد امتلك الجرأة كي يأتي الى هنا .......
الى زوجته .....
وقف سيف مكانه بملامح جامدة .... لكن عيناه الصلبتان كانتا مخيفتان في تلك اللحظة .....
الى أن وصل اليه يوسف فوقف أمامه يتنفس بسرعة ووجهه حاد التعابير ... و سرعان ما قال باندفاع و اتهام دون مقدمات
( ماذا فعلت بها ؟؟؟ ........ )
رد سيف بمنتهى الهدوء
( ما سأفعله بك ................ )
و دون كلمة أخرى كانت قبضته كانت قد اندفعت كقذيفة الى فك يوسف فأسقطته على الجدار من خلفه ...
استقام يوسف واقفا وهو يمسح الدم عن شفته بظاهر يده ... ثم لم يلبث أن هجم على سيف ناسيا كل اصول التحضر التي اكتسبها عل مر السنوات ... ليستدعي جانبه الشرقي في قتال الشوارع وهو يعيد اليه اللكمة في منتصف أنفه .... و حينها بدأ التشابك بالأيدي بينهما ...
لقد وقفا بالأمس جنبا الى جنب في دفن والد وعد ... و اضطرا التحمل بكل احترام للموقف ...
لكن اليوم ظهرت نواياهما تجاه بعضهما ... و لن يمنعهما وجودهما في مشفى ....
أمام غرفة الأميرة النائمة !!
هتف سيف بجنون
( من أنت أيها الحقير لتتصل بزوجتي في غيابي و تدعوها للسفر اليك ؟؟ .... )
بينما كان يوسف ممسكا بقميص سيف بكلتا يديه وهو يهتف من بين أسنانه النازفة
( لو كنت أنت أصلا شخصا محترما لكانت زوجتك احترمتك و لم تسافر ..... لكنني الآن بدأت أفهم السبب في هروبها من همجي مثلك ...... )
كان كلا منهما ممسكا بقميص الآخر وهما يتدافعان ... الى أن رأتهما ممرضة فجرت كي تستدعي الأمن ...
و خلال لحظات كان اثنين من أفراد الأمن و معهما طبيب وعد قد حضروا ... فصرخ الطبيب بجنون
( اخرجوهما من هما حالا ..... و خلال لحظة خارج المشفى كلها )
تمكن افراد الأمن من ابعاد يوسف و سيف عن بعضهما .... لكن يوسف سأل الطبيب بلهفة وهو يلهث
( كيف حال وعد ؟؟ ......... يجب أن اطمئن عليها ... )
كادت عينا سيف ان تخرجا من محجريهما وهو يسمع اسم زوجته ... يخرج مدللا بدون حرف العين من بين شفتي رجل غريب ... وهو يسأل عن حالها ؟!! .... عن حال زوجته !!! ...
استدار الطبيب الى يوسف و فتح فمه كي يطمئنه بلهجة عملية قبل أن يخرجه من المشفى ...
الا أن لفظ خارج صدر من خلفه بهتاف مجنون
جعل عيناه تتسعان بذهول وهو يعدل من وضع نظارته فوق عينيه ويستدير الى سيف الذي يتشبث به احد افراد الأمن ... و قال بغضب
( سيد سيف اضبط لسانك ..... هناك ممرضات تقفن في المكان ... )
أخذ فردي الأمن في دفعهما للخارج بالقوة .... بينما هتف سيف بقوة
( لو دخل هذا الشخص الى زوجتي سأقاضي هذه المشفى .... أنا بصفتي زوجها أمنع دخوله )
قال يوسف بقوة رجت المكان
( ليس طويلا ....... لقد بدأت زوجتك في اجراءات الخلع ..... )
حتى كلمة "خلع" صدرت منه محذوفة العين .... لكن سيف فهمها ... و تسمر مكانه ... بينما يوسف ينظر اليه متشفيا ....
و كأن المكان قد فقد نظافته بما يعتمل في صدر كلا منهما ......
.................................................. .................................................. .....................
مد كلتا يديه وهو جاثيا أمامها ينظر اليها بغضب و قلق ... فتناول يدها الباردة كقطعة ثلج و أخذ يدلكها بقوة وهو يكرر بصرامة
( ملك ..... أفيقي ... ماذا حدث ؟؟ ..... هل هو الهاتف أم فعل أحدهم هنا أي شيء ؟؟؟ ... )
كان قد اطمئن أن كريم لم يكن في البيت حاليا .... لكنه منظرها كان مفزعا لأي رجل يمتلك ذرة شعور
تلك الفتاة تحديدا يجدر بها أن تحفظ في قنينة زجاجية في رفٍ عالٍ ... كي لا تطولها الأيدي ...
نظرت اليه ملك فاغرة شفتيها ... عيناها تريانه و لا تبصرانه ....
و فجأة ضربت وجنتها بكفها الطليقة مجددا بقوة اكبر ...
حينها مد يده و قيد يدها الأخرى وهو يقول بصرامة اكبر
( توقفي عن ذلك ..... أفيقي )
لكن هاتفها عاد ليرن مجددا فانتفضت صارخة صرخة خافتة ... لكن مذعورة ....
فدقق رائف النظر اليها قليلا ... قبل أن يأخذ الهاتف من على ركبتيها و يرد بخشونة
( نعم ....... )
سمع صمت متردد ... قبل أن يقول صوت عميق صلب
( أليس هذا هاتف ملك ؟؟ ....... )
لم يكن صوت كريم بل صوت رجل آخر .... لكن رائف ارتدى حلة الصرامة تلقائيا وهو يقول بخشونة أكبر
( نعم هو .... من معي ؟؟ ...... )
عاد الصمت ثم قال الصوت الرجولي بغضب
( من أنت ؟؟ ....... أعطني ملك حالا ..... )
الا أن رائف قال بصلابة وهو ينظر الى ملك بغضب و التي كانت لا تزال في حالة من الذهول و عدم الإستيعاب
( ملك لن تتمكن من الرد الآن ... هي تعمل ... من أنت و الا سأغلق الخط ..... )
تردد الصوت ثم قال بصوتٍ أقل صرامة
( أنا زوج أختها ..... أختها في المشفى و في حاجة اليها .... أنا أحتاجها لأن تكون بجوارها الى أن تخرج )
نظر رائف الى ملك ... ثم قال بصوت خافت و غصة قديمة .... قديمة جدا تنحر قلبه
( هل في الأمر خطورة ؟؟ .......... )
سمع صوت تنهيدة رجل هده القلق .... و الغضب ... و مشاعر كثيرة ...فزوجته مريضة ... و من أدرى منه بتلك المشاعر و التي لم ينساها بعد ... و لن ينساها أبدا ...
ترائت أمامه صورة " رؤى " في أيامها الأخيرة .... حين هدها المرض و باتت تأوهات ألمها كفيلة أن تقطع من لحم جسده بسكين بارد ....
قال سيف أخيرا بخفوت و حزن
( ان شاء الله ستكون بخير .... لكنني لن أطمئن الا و ملك معها .... أنا لن أكون موجودا اليوم .... )
قال رائف بعد لحظات من الصمت
( ستكون هناك ...... أخبرني بأي مشفى و سأبلغها بنفسي .... )
أغلق الخط ليعيد امساك يديها .... ثم قال بجدية و صلابة
( ملك ..... اسمعيني جيدا ..... أختك في المشفى و هي تحتاجك الآن ...... )
حين ظلت صامتة و كأنها لم تسمعه ... هتف بقوة جعلتها تنتفض
( ملك ........ )
نظرت اليه بذهول و قد بدت تعي لوجوده .... فقال مشددا على كل حرف
( أختك في المشفى ...... يجب أن تذهبي اليها .... )
عقدت ملك حاجبيها و المعلومة تخترق غيوم الموت و الهلع .... ببطىء ... فهمست بعدم فهم قليلا
( وعد ؟!! ....... هل عادت من السفر ؟؟ ..... متى عادت ؟؟ ...... )
قال رائف بهدوء
( لا أعلم يا ملك ..... تعالي لأقلك اليها .... أختك في المشفى .... )
صمت للحظة ثم قال بهدوء
( لا تقلقي من جهة تكاليف المشفى ...... سأكون معك )
فغرت شفتيها قليلا ... وعد في المشفى ؟؟؟ ..... أختها مريضة ؟؟؟ .....
نظرت ملك حولها .... ثم أخذت نفسا مرتجفا و قالت بقوة
( أرجوك خذني اليها .... ساعدني لأنهض أشعر بالدوار قليلا .... )
نهض رائف ليضع كفيه اسفل ذراعيها يرفعها على قدميها كمن يرفع طفل صغير
و كم تفاجىء بمدى هشاشتها و خفة وزنها .... فتركها مباشرة و تراجع خطوة وهو يتجنب النظر اليها ....
توقفت مكانها تترنح قليلا و هاتفها في يدها تنظر اليه نظرات غير مفهومة ....
فقال رائف بخفوت و بصوت نفذ الي كيانها .. جعلها ترفع اليه عينين تطلبان ال .... ماذا ؟؟؟ ....
( سأدخل لأخبر خالي .... ثم نذهب )
أومأت رأسها بصمت .... و بعد لحظة كانت تتبع خطاه ....... ممتنة لوجود هذا الغريب ! ......
.................................................. .................................................. ..................
جلست في فراشها بعد أن نزعت عنها الأسلاك ...
عيناها متعلقتان بالباب ...... تنظر بحدقتيها في أرجاء المكان الشاهق ببياضه ... بخوف .... خوف شديد أرسل رجفة الى أوصالها ....
بعد أن أستيقظت ... و استوعبت وجودها هنا في هذه الغرفة .... أخبرتها الممرضة أن زوجها أتى بها ليلة أمس .....
ثم غادر !! ........
لم تخبرها أن شجارا قد وقع أمام غرفتها كي لا ترعبها و تكدرها ..... لذلك كل ما تعرفه وعد هو أن سيف غادر بعد أن أحضرها .....
كانت الممرضة تساعدها و هي تقول بخفوت مبتسمة
( زوجك كان مرتعبا عليكِ ..... لقد أوشك على تحطيم المكان ..... )
ابتسمت وعد ابتسامة شاحبة مرتجفة .....
و أين هو العم المرتعب الآن ؟!! ..... لقد تركها و غادر !! ........
رفعت يديها ببطىء و أخذت تتلمس صدرها بارتجاف .... كان مكان القصبة الهوائية يؤلمها و عليه كدمة داكنة قليلا .... أحدهم حاول افاقتها ...
لكن على الرغم من ذلك هي بخير ..... لا تزال على قيد الحياة .... لازال قلبها ينبض ....
فلماذا تشعر بمثل هذا الخوف !! ....
عادت عيناها تطوف في أرجاء الغرفة البيضاء الخاوية .... ماذا لو ماتت الآن ؟!! .....
على الأقل كانت موجودة حين توفي والدها .... كانت موجودة لتمسك بيده ...
لكن هي !! ......
ليلة أمس قضتها كلها تحلم به دون أن تدري سببا لذلك .......أغمضت عينيها و هي تسائل بغضب
" هل سأظل أحلم به طوال العمر ؟!! ..... أريده خارج رأسي "
همست و هي ترفع أصابعها الى جبهتها المتألمة بفعل ضربه مؤخرة رأسها
( أخرج ........ أخرج ......... أخرج ....... )
الا أن أصابعها تسمرت ما أن تذكرت ما كان بينهما ليلة أمس في غرفة الفندق .... أو ما أوشك على الحدوث ...
رفعت رأسها و هي تهمس بعدم تركيز بسبب المرض و الارهاق
( يالهي !! ........... كيف سأنساك ؟؟ ...... و ما ذنبي أن تكون رجلا جميلا .....)
أغمضت عينيها و تنهدت يائسة ...
لكن فجأة سمعت صوت ملك يهتف من عند الباب
( وعد !! ........ )
فتحت وعد عينيها على ملك التي اندفعت اليها ترتمي على صدرها بقوةٍ لتنفجر ببكاء الصدمة المتأخرة .....
تأوهت وعد بقوة ... فارتفع رأس ملك و همست و هي تشهق ببكاء عنيف
( آسفة ...... هل آلمتك ؟؟ ..... )
حكت وعد صدرها و هي تقول بضعف
( أحدهم .. غبي العقل و التفكير .... كاد أن يكسر عظام صدري ..... )
صمتت قليلا و هي ترفع وجه ملك بأصابعها ... لتبتسم اليها برفق هامسة
( لقد عدت ....... و لن أتركك أبدا .......معي ما يكفيني لشراء شقة و بدء مشروع صغير ... و انتِ بالمثل ... لن نكون في حاجةٍ لأحد مطلقا .... . )
ارتجفت شفتي ملك المتورمتين و هي تنظر الى عيني وعد بعذاب .... بينما عيناها لا تتوقفان عن البكاء الغزير ... ثم همست
( لقد تأخرتِ ....... لقد تأخرتِ جدا .... )
الا أن وعد غفلت عن المعنى اليائس في صوتها ... فقالت بإرهاق مبتسم
( سنتعرف الى بعضنا من جديد ... و سنفتح صفحة جديدة تماما ... و لن يفرقنا سوى الموت ... )
بكت ملك و هي تغمض عينيها بشدة ... فضمتها وعد اليها بما تستطيعه من قوة يسمح بها جسدها النحيل الواهن ... فربتت على شعرها ثم رفعت وجهها تهمس لها بقوة
( لماذا البكاء الآن ؟؟ ..... أنا بخير ... و أنتِ بخير .... و لن نحتاج لأحد و هذا هو الاهم ...
اسمعيني جيدا .... أنا سأشتري شقة صغيرة ... و افتح ورشة تصميم و خياطة ... قد تكون صغيرة لكنني سأفتتحها في مكانٍ راقٍ ... و ستأتين للسكن معي .... أما مالك فتستطيعين به فتح أي مشروع صغير تريدينه .... )
ابتسمت ملك بحزن يائس و هي تسمع الى لهجة وعد الغريرة المشبعة بأمانٍ زائف .... لم يكن المال يوما مصدر أمان لأحد ..... فهمست بلا حياة
( ابقي على مالي معك ...... لن أفعل به شيئا ....... )
هزتها وعد قليلا .... وهي تقول بقوة
( توقفي عن هذا الكلام ...... انتظر فقط الى أن أسترد صحتي قليلا ... و حينها سأساعدك في التفكير بما يأمن لكِ حياة محترمة ..... ربما لن تكون شديدة الرفاهية ... الا أنها لا تزال رائعة )
ظلت ابتسامة ملك الميتة تظلل شفتيها ... ثم مدت يدها تمسح دموعها و هي تهمس
( ضعي مالي معك في مشروعك ..... و اشتري شقة أكبر ...... أنتِ أقدر مني على ذلك )
ارتبكت وعد قليلا .... ثم قالت
( حسنا .... نحن معا سيكون المشروع أكبر بالتأكيد ... و سيدر ربحا أعلى .....لو كنتِ متأكدة من قرارك .... لدي محامي كنت على اتصال معه من الخارج ... يمكنه أن يضع صيغة العقود ثم يريها لكِ اذا ... )
رفعت ملك يدها تضعها على شفتي وعد تصمتها برفق و همست بصوتٍ أقرب للموت
( هشششش ..... أنتِ بغرفةٍ في مشفى .... تعرضتِ لذبحةٍ صدرية ... و كان من الممكن أن تكون أخطر لا قدر الله ..... هل هناك ما هو أهم من صحتك في تلك اللحظة ؟؟!! ....... )
نظرت وعد اليها طويلا .... ثم لم تلبث أن مدت يدها تمسك بيد ملك لترفعها عن فمها ببطىء و قالت بهدوء
( نعم هناك ما هو أهم ...... الأمان ....... )
عادت شفتي ملك لترتجف بشدة ..... و عيناها تذرفان بحورا من الدموع ....
الأمان !! ..... كلمة أصبحت بعيدة عنها كل البعد ......
انتفضت فجأة على صوت رنين هاتفها .... فأخرجته من جيبها لتنظر كنظرة جثة هامدة الى الإسم القاتل ...
تمكنت ملك من القول بلهجة لا تعلم كيف سيطرت على ثباتها
( يجب أن أتلقى تلك المكالمة يا وعد ..... )
خرجت من الغرفة لتفتح الخط .... و هي ترفع يدها الى صدرها علها تمنع الغثيان العنيف الذي داهمها لسماع صوته وهو يصرخ همسا
( مليكة أين أنتِ ؟؟ ....... أنا أمام غرفتك .... أريدك حالا .... حالا .... أقسم أنني قد أرتكب ما .... )
أغمضت عينيها و أخذت نفسا باردا قويا .... قبل أن تقول بصوتٍ لا ينم عن شيء أو حتى حياة ... لكن قوته أجبرت كريم على الصمت و الخضوع لنبرته ...
( أنا في المشفى مع أختي ..... و أنا في أشد الحاجة لوجودك معي في هذه اللحظة ..... لقد مرت عدة أيام على زواجنا و أعتقد أن قسيمة الزواج أصبحت جاهزة ...... أحضرها و تعال الي بيت زوج أختى .... لأنني لن أعود الى غرفتي مجددا ....... لقد تركتها للأبد ... سأنتظرك .... و إن لم يحدث ... أنا من ستأتي اليك ... الى عائلتك .... الى بيتك .... الذي كنت فيه اليوم بالمناسبة .... أي أنه لم يعد غريبا علي أو أمرا مستصعبا .... سأمهلك أسبوعين ..... و لن أرد فيهما على أي اتصالات منك .... لأنها ستعني لي أنك رفضت ....
يجب أن أذهب ..... الى اللقاء ... )
أغلقت الهاتف بقوة .... و ارتمت الى الجدار تستند اليه شاعرة بالرغبة في التقيؤ .... تقيؤ كل ما مرت به من انتهاك و خيانة ..... و أسوأ !!!! .......
.................................................. .................................................. ......................
بعد شهر .....
جلس بملامح لا يمكن سبر أسرارها ..... ضخم الهيئة مهيب .....
كانت ملامحه ساكنة .... و عينيه قاتمتين ..... جالسا خلف طاولة أنيقة بمكتب محامي هاتفه على وجه الخصوص ....
و المحامي بدوره ينظر اليه بين الحين و الآخر ليقول بهدوء رغم التوتر الداخلي
( السيدة ستأتي حالا .... لابد أن الطريق عطلها , الزحام اليوم ميؤوس منه ....)
التوت شفتي سيف بسخرية دون أن يرد ... وهو يلاعب قلمه الذهبي ... طارقا به سطح الطاولة الأنيقة ...
فتنحنح المحامي بتوتر و ارتباك ...
الحقيقة أن السيدة قد تأخرت خمسة و أربعين دقيقة ...... و تسائل في نفسه عن السبب الذي يجعل هذا السيد المهيب ينتظر كل تلك المدة معطلا أعماله ووقته الذي يقدر بالمال ... منتظرا ... السيدة !!
وهما من قاما بطلبه للحضور ...
توقفت أفكاره حين علا صوت طرقٍ خفيف على الباب ....
حينها رفع سيف رأسه بهدوء و عينيه على الباب ... بينما زفر المحامي بارتياح
( الحمد لله ..... ها قد أتت و قد أعطيت أوامري بدخولها مباشرة ... )
و قبل أن يتابع كلامه ... كانت السيدة قد فتحت الباب و دخلت !!
توقف القلم الذهبي عن الطرق ... و تعلق على بعد شعرةٍ من سطح الطاولة ...
على الرغم من أن ملامح سيف لم تتغير و لم تهتز بها عضلة واحدة ... لكن عيناه شملتا السيدة كلها ... جزءا جزءا .... كل جزء يعرفه حق المعرفة على الرغم من تغطيته بالثياب الفاخرة ...
دخلت وعد ... و عرفت عيناها الطريق الى عينيه مباشرة ....
وقع قلبها بين قدمها و مات ... ثم انتفض مبعوثا للحياة ... ثم توقف ... ثم انقبض ... ليقفز شاعرا بدغدغة الفراشات ....
" تبا لوسامتك و هيئتك التي لا تخطىء هدفها أبدا "
لكنها أجبرت نفسها على التحرك أمامه برشاقة ....
عيناه تمهلتا على جسدها الممشوق ... ترتدي بنطال من الجينز الضيق الأزرق الداكن .. يظهر رشاقة ساقيها
يعلوه قميص من الحرير الذهبي الشاحب ... اسفله معلقا على خصر البنطال حزام على شكل سلسال ذهبي رفيع ....
و فوق القميص ارتدت سترة من الجلد البني ..ماثلت لون الحذاء عالي الساقين و الكعبين ...
و نظارة سوداء " أخرى" .... باسم جديد ترجع شعرها الطويل المسترسل الى الخلف .....
أجبرت عينيها على التحديق في عينيه بثبات .... حين تترك عيناه جسدها و تصعد الى عينيها !!
امتعضت وعد من نظراته التي تعرف مغزاها جيدا ... لكنه كان امتعاض زائف ...
و جسدها الخائن تفاعل مع كل نظرة من عينيه حتى أوشك أن يخر متوسلا لأشواقه ...
أخذت نفسا مرتجفا و سحبت كرسي على الجانب المقابل له من الطاولة ... و جلست و هي تقول بصوتٍ أنيق خافت .. سيطرت بشجاعة على ارتجافه
( مرحبا يا سيف ... كيف حالك ؟؟ ... )
رفعت ساقا فوق أخرى ... بينما التوت ابتسامته أكثر و عاد يطرق بقلمه مجددا وهو يقول بهدوء ساخر
( بخير "سيدة " وعد ..... و انتِ ؟؟ .... )
ضاعت سخريته قليلا و هو يتابع بصوتٍ اكثر لطفا و خفوتا
( كيف حال صحتك الآن ؟؟ ....... )
عضت وعد على أسنانها دون ان تفتح شفتيها ... بينما قست عيناها الشفافتان ... و هي تبارزه بنظرةٍ منهما قاتلة ...
شهر كامل منذ أن تركها في المشفى و رحل !! ..... شهر كامل لم يرفع حتى الهاتف و يسأل عنها !!
لو كانت خادمة ليهم بالفعل و تعرضت لما تعرضت له لكانو سألو عنها و زاروها ....
خفت قسوة عينيها في لمحة ألم لم تستطع مداراتها ...
و لمح هو ذلك الألم الخفي .....
أتدري كم يستلزمه من القوة و السيطرة على الذات كي لا يهجم عليها و يسحبها اليه ليطرحها على تلك الطاولة مبددا شوقه بكل ضمير ....
ضاقت عيناه قليلا وهو يتخيل الصورة .... فالتهبت أنفاسه للحظة ... حتى أغمضت عينيه بجوع لمدة ثانية واحدة ...
عاد ليفتحهما مجددا و كأن شيئا لم يكن ...
شهر كامل وهو يجبر نفسه اجبارا على الابتعاد عنها بالقوة كي لا يحدث لها ما حدث في المرة الأخيرة ....
لأن المرة التالية حين تكون بين ذراعيه ... لن يتمكن من تركها .... و سيكمل الطريق معها غالبا منتصرا ....
شهر كامل و هي تحت عينيه دون أن تدري .... بدئا من ساعات المشفى القاسية الطويلة ...
و حتى الشقة التي أجرتها لفترة مؤقتة ....
لكنها لا تعلم أن الشقة التي أجرتها هي شقته هو .... اشتراها خصيصا لها و بعث الي السمسار الذي تعاملت معه حتى رشح لها الشقة ...
ابتسم بهدوء وهو ينظر اليها لاعبا بالقلم الذهبي .... وهو يفكر بتشفي
" انها تسكن في ملكه حاليا ..... الغبية التي تظن نفسها مستقلة .... "
نفس السمسار .... هو من رشح لها الشقتين اللتين فتحتهما معا و بدأت الآن في تجهيز مشروع لتصميم و تفصيل الأزياء على أرقى مستوى على الرغم من عدم ضخامته ....
لكن الحق يقال ... أنه أخذ ثمنهما فعلا ... لكنه خصم لها ربع ثمنهما تقريبا و الا لما كانت عثرت على طلبها بتلك السرعة ....
و تم البيع عن طريق توكيل لشخص يثق به باع لها الشقتين و أصبحتا باسمها مناصفة مع ملك ....
قست عيناه و هو يتذكر أنها تظن بمنتهى البلاهة أن من يساعدها هو يوسف !! مفقود العين !!
ذلك الأبله الذي لا يعرف شيئا في البلد .... وهو يتخيل أنه يساعدها ... و ها قد دمغ باسم أبله ...
الحقيقة أنهما معا قد دمغا باسم الأبلهين .......
اختفى الهزل عن وجهه تماما وهو يقسم منذ الليلة الاولى أن ذلك المدعو يوسف لو كان قد ذهب اليها شقتها ولو لمرة ... لكان قتله دون أي اعتبار للضمير ...
لكنه لسؤ الحظ لم يفعل ..... فقط كان يساعدها تحت عيني سيف ...
أتدري أي نار كانت تتحرقه وهو يعلم أنها تتلقى المساعدة من شخص غريب !!!
لقد كان شهر كالجحيم ....
وهو يشك كل لحظة في نوايا ذلك الرجل .... قتاله معه في المشفى لم يريحه ....
كان قتال رجلا من أجل امراة !!! ..... تبا من أجل زوجته هو !!!
طرق سيف بالقلم على سطح الطاولة بعنف فانتفضت كلا من وعد و المحامي من المنظر المرعب الذي ظهر على وجهه فجأة ! ....
ما لا تعلمه السيدة .... أنه لم يتحمل في الأخير .... و المدعو يوسف الآن قابع في بيته يتعافى من لكمة غادرة و سيف فخور بها كل الفخر
فوالله لو كان وجده هنا اليوم لكان قتلهما معا ....
قالت وعد بصوت مشدود كالوتر
( بخير يا سيف ..... شكرا لك , فعلت كل ما بوسعك ....... )
أخذت نفسا مرتجفا .... و هي ترتعش من حجم ما رأت منه من قسوة ... ثم أبعدت تلك الأفكار السلبية عن رأسها و قالت بهدوء بارد
( دون مقدمات ... و شكليات و حوار اجتماعي لا طائل منه ..... أنا أريد الطلاق يا سيف ... )
التوت شفتيه للحظة ... لكنه سيطر عليهما ببراعة .... و ظل صامتا طويلا الى أن رفعت وجهها اليه بتوتر ...
أخفضت عينيها سريعا ما أن اصطدمت بعينيه .... لم تمتلك القوة الكافية ... لتواجهه ...
على الرغم من أنها أصرت أن تكون المقابلة هنا في مكتب محاميها كي يمنحها القوة و الشجاعة في مواجهة سيف ....
قالت وعد بصوت فاتر خافت و هي مطرقة برأسها تنظر لأصابعها وهي تتلاعب بهم على سطح الطاولة ....
( لقد اتصلت بك مرارا يا سيف .... و أنت تماطلني و تدور بي .. .... )
صمتت قليلا ثم رفعت رأسها تقول بقسوة
( هل هذا يناسب صحتي التي تكرمت و سألت عليها الآن لأول مرة منذ شهر كامل ؟!! ... )
لم يرد سيف و عيناه تخترقان عينيها بقوة ... بينما كانت ملامحه عنيف القسمات ...
فأخذت نفسا مرتجفا ثم قالت بصوت باهت
( كنت أظن أننا سننفصل بتحضر و احترام ..... لا أن تفعل بي ما تفعله الآن .... )
عادت لتصمت ... ثم رفعت وجهها تقول بصوت أعلى قليلا
( أنت مصر لآخر لحظة أن تعاملني بكل الإذلال الذي تستطيعه ..... لم يكن ذلك العشم حقا ... )
لم يرد سيف سوى بكلمة واحدة .... باهتة ساخرة
( العشم !! ........ )
ابتلعت وعد ريقها .... ثم قالت دون أن تعير استهزائه أي اهتمام على الرغم من ألألم الذي أحدثه بنفسها
( أنت لا ترد على اتصالاتي .... أو لا أجدك ..... حتى أنك أوصيتهم في البيت أن يخبرونني أنك إما تعمل و إما تبيت خارج البيت ..... )
ظل سيف ينظر اليها طويلا ... بملامح بها قسوة ... و عتاب .... و ألم ....
لكنه تكلم مبتسا ببساطة
( لو تعرفين عن شخصي أي شيء .... لأدركتِ أنني لست من يتهرب بتلك الحجج الواهية .... )
صمت قليلا ثم تابع بصوتٍ أكثر قسوة
( حين تريدين سؤال عمتك عن شيء ... تأتين اليها بنفسك .... لا مجرد مكالمة باردة جليدية كقلبك الصلب هذا ....... )
امتقع وجهها بشدة ... بينما تابع سيف ببساطة أكثر قليلا
( أما عن المبيت في البيت ...... فعمتك لا تكذب .... كثير من الليالي أبيتها خارج البيت ...... )
هذا بالضبط ما كانت تود أن تعرفه ..... كانت ورد تعطيها اشارات لم تشأ أن تصدقها .... اشارات آلمت قلبها و بشدة ... عند هذه النقطة قالت وعد بقوة و قسوة
( هل خنتني ؟؟ ...... )
ارتبك المحامي بشدة ... و همس بتوتر
( سيدة وعد .... دعيني أدير الحوار رجاءا .... )
التفت المحامي الى سيف يقول بتهذيب
( سيد سيف ... التفاهم أفضل الحلول .... } فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ{ ....و السيدة لا تريد قضايا أو ... . )
رفع سيف يده قاطعا وهو يقول بصرامة , بينما عينيه على عيني وعد العاصفتين
( لن أقبل كلام غير من السيدة نفسها ....... )
حاول المحامي الكلام .... لكن وعد مالت الى الطاولة أمامها و هي تقول بقوة مماثلة
( فليكن ......و سؤالي مجددا .... هل خنتني ؟؟؟ ...... )
ابتسم سيف و هو يرى شراستها البادية على وجهها البارد معظم الوقت كتمثال رخامي ....
ثم قال بهدوء
( أنا رجل زوجته تهجره .... فمن الطبيعي أن تكون له احتياجاته ....... )
اتسعت عيناها بصدمة ....و شعرت بقلبها يسقط متحطما قي شظايا بائسة مفجوعة ... و طال بهم الصمت المشحون ... الى أن ... و بكل غباء مالت الى الطاولة تهتف بكل لؤم
( اذن طلقني ..... طلقني حالا ... و الا سأخونك كما خنتني ... فأنا أيضا امرأة و لي .... )
لم تكمل الجملة حتى اندفع سيف عبر الطاولة و بلمح البصر وجدت يده ترتفع لتسقط على وجنتها في صفعة رمتها الى ظهر الكرسي ....
هتف المحامي بذعر
( سيد سيف .... هذا .... )
الا أن سيف هتف بقوة
( اصمت أنت ......... )
صمت المحامي فعلا من هول ملامح سيف في تلك اللحظة ... بينما رفعت وعد يدها تلامس مكان الصفعة بصمت و صدمة ...
سيف ضربها !! .... لقد وعدها يوما الا يضربها ابدا .... حتى لو بالغت قليلا بسبب طعنة قلبها .....
أخفضت يدها فظهرت وجنتها المحمرة بوضوح .... فهمست وعد دون أن تسمح لنفسها بالبكاء
( طلقني يا سيف ..... لا داعي لأن نجرح بعضنا أكثر من ذلك ...... )
عاد ليتراجع في مقعده بهدوء .... ناظرا اليها بنظرة غريبة .... ووجهه يحمل غموضا مخيفا .....
ثم قال بهدوء و كأن شيئا لم يكن
( قسما بالله لن يحدث يا وعد ........... )
اتسعت عيناها أكثر ... و باتت تلهث بسرعة ... فهتفت بقوة
( اذن سأبدأ اجراءات الخلع ........ )
التوى فم سيف بقسوة وهو يقول
( و ما الجديد في ذلك ؟؟ ..... أعتقد أنكِ تناقشتِ في الأمر مع أحدهم منذ فترة طويلة و قبل أن تتناقشي معي شخصيا .... لكن يشغلني الفضول حول الحجة التي ستتخذينها لتدعيم قضيتك ..... )
صمت قليلا ... وهو ينظر اليها بتعبير لم تفهمه ... ثم تابع ببطىء
( البخل .... الإساءة النفسية و الجدسية ربما ..... )
صمت ثم تابع بلهجةٍ ذات مغزى
( أو ربما الأفضل من ذلك ... وهو التقصير في حقوقك الزوجية !! ... )
احمر وجهها بشدة و نظرت بطرف عينيها الى المحامي الذي تظاهر بالتشاغل في ملف الأوراق أمامه الى أن ينتهيا من مقطع الفضائح الأسرية ....
نظرت وعد الى سيف لتقول بصوتٍ يقطر وجعا
( ماذا عن الخيانة ؟!! ........ )
ابتسم سيف ليقول بهدوء
( رائع و مبتكر جدا ...... لكن اثباتها مستحيل يا وعد .... لأن الرجل حين يرغب في الخيانة يتفنن في اخفاء آثاره ...... )
ارتجفت شفتيها ... لكن عينيها الزجاجيتين تجمدتا أكثر و هي تنظر اليه بقسوة .... ثم قالت ببرود دون تحيد بعينيها عنه
( " الشيك " من فضلك يا أستاذ ....... )
رفع المحامي عينيه ... ليلتقط ورقة صغيرة من بين أوراق الملف ... ناولها الى وعد بسرعة ..
الا أن وعد لم تنظر اليها ... بل مدت يدها تجر الشيك على سطح الطاولة الأملس تجاه سيف ...
فنظر اليه بصمت ثم قال هازئا
( ماهذا بالضبط ؟.؟ .... )
رفعت وعد ذقنها .... و قالت بهدوء جامد النبرات
( هذا قيمة المبلغ الذي دفعته لعلاج والدي سابقا .. و معه قيمة علاجي ..... بخلاف الشقة طبعا ... و أعتقد أنني بهذا الشكل لا أكون مدينة لك بشيء )
ساد صمت طويل ..... طويل جدا ... حين عجز اللسان عن الكلام ... و تولت الأعين المهمة ...
الا أنها مهمة كانت قاسية ... مؤلمة .....
و شعرت وعد بالألم .... ألم فوق احتمالها ..... عيناه في تلك اللحظات كانتا كفيلتان بقتل روحها ...
فأخفضت وجهها و شعرت بالندم على الرغبة في أذيته ...
لكن لفظ الخيانة آلمها بشدة ...... بشدة ....
قالت وعد بصوت مهتز ......
( لست أجرحك .... انا آسفة , هل أخبرك مجددا أنني فعلا ممتنة ؟؟ .... أعتقد أن الكلام بيننا الآن أصبح بغير معنى ..... لذا رجاءا .... دعنا ننفصل بهدوء و كفانا ألما ...... )
رفعت وجهها اليه تنظر بحزن الى وجهه الحجري و عينيه المحاصرتين لها .... ثم همست بخفوت
( عندي أحلام أريد أن أحققها يا سيف .... و لن أستطيع و أنا زوجتك ... لأن زواجنا لم يكن مبني على أساس صحيح منذ البداية .... )
ابتلعت غصة مسننة مؤلمة بشدة ... ثم قالت بوجع
( نحن لا نستطيع التواجد مع بعضنا الا و يكون التجريح رفيقنا ...... لذا كفى .... ارجوك كفى .... )
ظل سيف صامتا طويلا .... ينظر اليها و على شفتيه ابتسامة مؤلمة المعنى .....
ثم قال أخيرا بصوتٍ هادىء .... موجع
( لو أردتِ الخلع .... فعليكِ أن تردي لي مهرك ...... )
التقت عيناها بعينيه ... و تشوشت الرؤية أمامها بفعل طبقة دموع خائنة تكونت على حدقتيها ....
لكنها أنحنت و فتحت حقيبتها الغالية الثمن .... لتخرج منها حافظتها ... و من حافظتها أخرجت ورقة مئة جنيها جديدة و مطوية بعناية ... كانت موضوعة في جيب صغير سري ...
نظرت اليها و شفتيها ترتجفان بشدة .... الا أنها لم تجد القدرة على فتحها و قرائتها للمرة الأخيرة ....
ثم وضعتها على سطح الطاولة الأملس ... و مدتها اليه و هي تودعها بألم .....
نظر سيف الى الورقة قليلا .... ثم مد يده يمسكها و يفتحها ..... و حين قرأ ما عليها ابتسم قليلا ....
لكن عيناه كانتا تضجان بالألم ..... نظرة جعلت وعد ترغب في ضم رأسه الى صدرها و الصراخ اليه كي يسامحها ....
لكن تعرف أن زواجهما غير صحي ...... مهما بلغ حجم جمال المشاعر بينهما ....
لكنه زواج مريض غير سليم ..... و هي سئمت المرض بكل أنواعه .....
طوى سيف الورقة مجددا ... ثم وضعها في جيب سترته الداخلي الملامس لقلبه ....
و أخرج من نفس الجيب .... شيئا ما صغير .....
ليضعه على الطاولة .... ففغرت وعد شفتيها المرتجفتين و الطبقة المشوشة تزداد كثافة فوق عينيها
كانت الوردة الصوفية من الكروشيه التي صنعتها له .... كانت لا تزال معه رغم كل خلاف .....
وضع يده على الوردة .... ليمدها الى وعد بصمت ....
أخذتها وعد بأصابع ترتجف ... تلامس حلقاتها الملونة بحنان وهي تبتسم من سذاجتها يوم أن أهدته هدية تافهة كتلك .... لكنه حفظها طوال تلك الفترة ....
رفعت وجهها تراه نهض واقفا بعنف .... ليستدير حول الطاولة و ما أن أصبح خلفها ... انحنى ممسكا بكتفيها , فانتفضت مكانها ... لكنه لم يفعل سوى أن همس في أذنها بصوتٍ خافت ... أجوف
( باشري بالخلع ...... و افعلي ما تشائين ... لكن أنا لن أطلقك ما دمت حيا ..... )
ثم استقام ليخرج من الغرفة .... فهتفت بألم دون أن تلتفت اليه
( لكنك أخذت مهري ......... )
ابتسم وهو يتأمل ظهرها ... فعاد اليها ... ووقف خلفها قبل أن يخرج حافظته من جيبه ....
فأخرج منها رزمة أوراق فئة مئة جنيه جديدة .... و رفعها قليلا ليسقطها ببطء واحدة واحدة فوق رأسها ....
حينها انسابت دموعها بإنهيار صامت كانسياب الاوراق المالية فوق شعرها ...
و ما أن أنهى الرزمة .... حتى اندفع خارجا ..... دون أن ينظر اليها .... بينما انحنى وجهها و هي تشهق ألما ببكاء من عمق قلبها العليل ..... بحبه .....
.................................................. .................................................. .......................
في تلك الليلة ...
صعدت السلالم القديمة ببطىء ... درجة درجة ....
لم تنسى المكان ... و كأنه حفر في الذاكرة ليظل طوال العمر ... مهما اختلف الحال ....
لقد تألمت في هذا المكان لسنوات طويلة .... أطول من أن تنسى ذكرى الألم مهما بلغت رفاهية الوضع الذي تحياه حاليا ...
وصلت الى باب شقتها القديمة .... شقة والدها ....
فمدت يدها تتلمس الشراع المظلم ...... تشعر و كأن والدها سيفتح الباب في أي لحظة ... و يبدأ في صراخه و أفعاله الغير مشرفة ....
ضحكت قليلا و هي تبكي بصمت ....
الآن أصبحت بعض ذكرياته طريفة .... خاصة القاؤه القمامة على بعض الجارات ....
ارتجفت ضحكتها و ماتت ... و هي تتشبث في الشراع بقبضتيها ... ثم تريح جبهتها عليه ....
و بكت .... بكت .... بكت بصمت ....
لا تعلم ما الذي تفعله هنا و الشقة لم تعد ملكها .....
اي غباء جعلها تكلمه على هاتفه ... مرارا ... و هاتفه مغلق باصرار ....
فكلمت ورد مجددا على بيت عمتها .... بيت سيف ....
حينها أخبرتها للمرة التي لا تعرف عددها أنها لا تعرف أين هو ... و أنه أبلغها أنه سيسهر خارجا و قد يبيت في مكانٍ لم يفصح عنه فقد بدا مكبوتا ... مقهورا ... و يحتاج الى رفقة ....
أمضت ساعة كالجحيم و هي بجوار ملك الشاردة في الفراش .... تتخيله مع امرأة غيرها
تعرف كيف يلامسها ... كيف يقبلها .... كيف يحبها ...
تعرف شغفه حق المعرفة ... و شغفه ما يصور لها صورا جعلتها تشهق طلبا للتنفس من شدة الألم
كانت هي و ملك مثال لفتاتين ترقدان استعدادا للموت ....
هي بخيانة زوجها .... و ملك بفراقها عن حبيبها الذي يتصل بها آلاف المرات منذ شهر تقريبا ...
لكن من الواضح أنه فعل فعلة شنيعة جعلتها تعاود التفكير .... لأنها لا تفعل حاليا سوى التفكير بعينين لا تبصران ما حولها ....
رفعت وعد وجهها المغرق بالدموع عن الشراع .... ثم اخرجت مفتاح اضافي كانت تحتفظ به ... و فتحت الباب .... كانت تعلم انه لم يفعل شيئا بشقة متواضعة مثل تلك .....
لذا لم تتحمل البقاء في حالها البائس طويلا .... و أول ما خطر ببالها هو أن تأتي الى هنا تراقب لمحة من حياتها القديمة ... و تأخذ مصحفها الصغير .....
دخلت وعد ببطىء و بنفسٍ متثاقلة ... و مدت يدها تفتح الضوء ... الا أنه لم يفتح ...
فعقدت حاجبيها و هي تتأوه هامسة
( الكهرباء مقطوعة ؟؟ ...... لابد أنه لم يسدد الفاتورة ...... )
أغلقت الباب و تقدمت عدة خطوات لترفع رأسها و تنستنشق رائحة حياتها القديمة ....
لكن ياللعجب .... كانت رائحة حياتها القديمة محملة برائحة عطره !!!
عطره الفج القوى .....
أخفضت وعد رأسها و رفعت كلتا يديها الى أذنيها و هي تهمس بينما الدموع تغرق وجهها أكثر
( اخرج من حياتي ..... اخرج من حياتي ..... )
أبعدت يديها لتفرد ذراعيها و هي تدور حول نفسها في الظلام بحالة من الضياع ....
تدور و تدور و تدور ....
عل صور خيانته تضيع من خيالها .... و رائحة عطره تغادر نفسها ....
تدور و تدور و تدور .....
الى أن شعرت بذراعين تعتقلان خصرها بعنف ... لترفعانها بقوةٍ عن الأرض !!,
و قبل أن تصرخ كانت شفتين تعرفانها حق المعرفة تكتمان صرختها بعمقٍ ذهب بروحها ...
كانت تصرخ بين شفتيه برعب لا تعلم سببه ... و حدقتاها تتوسعان في الظلام بهلع .... بينما هو يدور و يدور و يدور بها و قبلته لا تتوقف ... بل تزداد عمقا و براعة ....
حتى تعلقت ذراعيها بعنقه ..... و أغمضت عينيها بملىء ارادتها ......
دوامة من الشوق ألهبت قلبها قبل شفتيها و هي تتماوج مع قبلته بانسجام به من العنف ما به من الشغف ....
الى أن انحنى الملثم بالظلام ...ليضع ذراعه تحت ركبتيها و يتحرك بها عبر الظلام ...
و قلبه يضخ بعنف فوق قلبها المرتجف بجنون ...
الى أن حط فوقها سقوطا فوق سريرها .....
و كانت يداها مجنونتان في فك ازرار قميصه بعنف .... بينما كانت ملابسها الأنيقة الغالية تتناثر في كل مكان ... و الشوق بينهما يحتدم دون صوت .... دون كلام ... و دون رؤية !!
الظلام كان الساتر الذي يحتاجان اليه في تلك اللحظة .....
.................................................. .................................................. .....................
.فتحت عينيها مع شروق الشمس .... و ما أن تململت حتى شعر بجسدها متكسرا كموجة مرهقة على شاطىء من الرمل الحبيبي ....
رمشت بعينيها عدة مرات و هي تبصر السقف المشقق القديم فوقها .... فأجالت عينيها حولها لتجد أنها في غرفتها القديمة ....
وحيدة في فراشها القديم ..... وحدها ..... وحدها في البيت كله ....
عيناها بدأتا في الإتساع ببطىء ....
الى أن استقامت وعد جالسة تشهق بعنف و هي ترفع الغطاء اليها ......
نعم لقد خانها مجددا ..... مع نفسها تلك المرة .... و انصرف بهدوء !!! ...... أم كان حلما ؟؟!!!
↚
أجبرت ساقيها على السير بأناقة ... مسيطرة بكل قواها على ارتجافهما ... و هي ترفع ذقنها بشمخ كاذب ..
متحملة نظرات البعض ....
لطالما تحملت نظراتهم .... كانت نظرات استعلاء واضح ... لكنها تمكنت قديما من تحوير تلك النظرات الى طاقة تدفعها للأمام بسرعة الصاروخ ....
لكن اليوم كان الوضع مختلفا .....
فكرة واحدة سيطرت على الجميع ..... و ظهرت جليا في نظرات الإحتقار الصامت التي لاحقتها منذ أن وطأت قدماها العمل اليوم ....
كانت دائما تشعر أنها فوقهم على الرغم من نظرات استعلائهم .... لكن اليوم شعرت أنها تحت أقادمهم للمرة الأولى ....
ازدادت قوة خطواتها و سرعتها .... حتى بدت هرولة ..و كعبي حذائيها يطرقان في الأرض عاليا ... و آخر خطواتها كانت جريا ... و هي تستشعر وخز الدموع بزاويتي عينيها ....
الى أن انحرفت كرمة يمينا بقوة فدفعت باب حمام السيدات لتدخل اليه و هي تريد الهرب من الحياة كلها ...
استندت بيديها الى الحوض تتشبث به كي لا تسقط ... بينما كان صدرها يخفق بسرعة جنونية ...
رفعت عينيها الى صورتها في المرآة ..... نظرتها كانت منكسرة !! ......
مدت يدها تنوي فتح الماء كي تغسل وجهها علها تمحو تلك النظرة المنكسرة ... ابتلعت ريقها و هي تتذكر مرورها باحدى المكاتب لتسمع صوت بعضهم يتناولون الخبر الاكثر صيتا لليوم ...
زواج المدير من احدى الموظفات .... زواج حاتم من كرمة !! .... و التي تزوجها فور انتهاء عدتها ...
ارتجفت كرمة و هي ترى نفسها التصقت بالجدار كالجبناء تستمع اليهم ...
حين قالت احداهن بتعجب
( حتى الآن لا استطيع تصديق سرعة ما حدث ؟؟!! .... اليست تلك هي من وقفت تدافع عن زوجها العامل أمامنا جميعا .... و كانت تبدو من الشراسة بحيث كانت على استعداد لأن تنهش عيني أي من يذكره بسوء !! ..... )
قالت الأخرى بنفس لهجة العجب
( أنا أيضا لم أتخيل أن تتنازل عنه بتلك السرعة !! .... حسنا أعترف أن الفارق بينهما كان مهول ,.... كانت تبدو كمن هي متزوجة من سائقها أو ما شبه .... لكن و بما أنها أثبتت الآن أن كل دفاعها عنه كان وهما , لذا لم يكن ضروريا دور البطولة الذي رسمته ..... دور الزوجة المساندة لزوجها أيا كان !! ..... ها هي هربت للفرصة الأفضل ما أن انتهى زواجهما ..... أين هو اذن ذلك الحب الذي كان !! )
رمت نفسها للجدار و هي ترجع رأسها للخلف مغمضة عينيها و كلماتهم تمزق من لحمها حية .... فرفعت يدها الى صدرها النازف ..... " أين ذهب الحب الذي كان !! ..... أين ذهب الحب الذي كان !!! "
سمعت صوت ضحكة أحد زملائها .... ضحكة غريبة قاتمة أجفلتها بشدة .... ففتحت عينيها تنتظر الى أن سمعته يلقي برصاصته الطائشة
( ألازلتم تتخيلون أن الأمر تم فعليا بعد طلاقها ؟؟ ...... لقد تزوجت فور انتهاء العدة .... أي أن الترتيب كان قبلها ...... )
فغرت كرمة شفتيها و هي تضغط صدرها أكثر .... تتنفس بصعوبة .... بل بموت ...
صدرت همهمات ... و بعضها ضحكات ... لتقول احداهن
( أنا شككت بالأمر ..... اظن أن بينهما اتفاق ...... أتتذكرون فضائح زوجها هنا مرتين ... و في المرتين ظهر حاتم من تحت الأرض ... و زوجها كان يصرخ بالكثير و قتها .... )
قالت أخرى
( نعم أتذكر كلماته جيدا ...... و في المرة الأخيرة هربت كرمة مباشرة دون حتى أن تدخل المصرف ...)
ترددت احداهن و هي تقول بخفوت
( اتعتقدون أنها ...... كانت .... تخون زوجها ؟!! ......... مع حاتم .... )
شهقت كرمة بعنف فرفعت يدها لتكتم صوت شهقتها ... بينما ساد بينهم صمت طويل به نفس بعض الضحكات البغيضة .... ليقول الرجل أو هكذا المفترض بينهن
( لو كانت خانت زوجها معه لما كان تزوجها .... لا رجل يتزوج امرأة أخطأ معها ... )
أطبقت كرمة جفنيها بشدة و هي تهز رأسها على الجدار ... بينما قالت أحداهن
( الكثير من الرجال تزوجوا من نساء كانت لهم بهن علاقات قبل الزواج .......و حاتم لا يبدو من النوع الشديد الشرقية كما تتخيله )
رد زميلها يقول بصوت به لمحة احتقار
( الأمر لا يتعلق بالعلاقة ...... انه يتعلق بالخيانة , الرجل مستحيل أن يمنح ثقته لإمرأة خائنة ..... )
همست أحداهن
( تلك القصة بغيضة جدا ..... و على الرغم من أنني كنت أتقزز من منظرها و هي تستقل دراجة زوجها خلفة من أمام المصرف ..... الا أنني الآن أشعر بالشفقة عليه , .... هل تتخيلون احساس رجل بسيط بعد أن تتخلى عنه زوجته .... بعد عشرة سنوات طويلة كي تتزوج ممن يليق بها ..... إن لم تكن تلك خيانة فماذا تكون ؟!! ..... )
قالت الأخرى
( اسمعي أنا لا أريد أن أكون ظالمة .... لكن الواقع يقول أن نشأة كرمة كفيلة بأن تخرج امرأة لا تتحلى بمبادىء أو أخلاق ..... إنها خريجة دار رعاية في النهاية ,.... صحيح أنها نجحت في حياتها العملية بمعجزة ... لكن تظل عقدة النقص بداخلها قوية .... )
ردت الأخرى بغضب
( لكن هل هذا مبرر لأن تبيع زوجها عند أول فرصة سانحة لها !! ...... على الرغم من أنه من نفس بيئتها !! ....... )
ردت الأولى بنفور
( و الثقة التي حضرا بها الى هنا اليوم ..... معا ........ ما تلك الوقاحة !! ....... لكن هي كرمة لم تتغير يوما .... كانت وقحة في الدفاع الكاذب عن زوجها .... اما لتكون رائعة في نظر حاتم بدهاء .... و إما كتمويه لإخفاء ما بينهما ....... )
ردت زميلتها بلهجة ضربت صدر كرمة بعنف
( مسكين زوجها ........ الخيانة صعبة ..... )
قالت اخرى بتردد
( دعونا لا نفترض الخيانة ......... )
الا أن زميلتها قالت باصرار
( أن تتخلى المرأة عن زوجها راغبة في فرصة افضل ..... تلك هي خيانة في حد ذاتها ..... )
فتحت كرمة عينيها ...و تحركت بمعجزة تجر ساقيها ... تسير ببطىء لتتسارع خطواتها ...
و عقلها لا يسمع سوى عبارة واحدة
" مسكين زوجها ....... الخيانة صعبة ... "
" مسكين زوجها ...... الخيانة صعبة ..... "
لا تعلم كيف تمكنت من السيطرة على دموعها ... و الإبقاء على ذقنها مرفوع الى أن دخلت الى الحمام ...
و ها هي تقف أمام المرآة تنظر لعينيها المتهمتين ما يقرب من عشر دقائق في صمت ....
الى أن انفجرت شاهقة فجأة شهقة بكاء قوية و هي ترفع يدها الى فمها .....
فقط شهقة واحدة ..... لتنظر الى عينيها نظرة ذعر ..... و هي تسأل نفسها
" ماذا أنتِ ؟!! ...... خائنة للعشرة ؟!! ..... أم لم تتحملي فقط لفترة أطول قليلا ؟!! ..... عند أول خطأ منه تخليتِ عنه .... في سبيل الفرصة الأفضل !! ...... ماذا أنتِ؟!! .... و أين دفاعك المستميت عنه ؟!! .... عن بطلك !!! ...... بطلك الذي عثر عليكِ ذات يوم .... يوم لم تكوني شيئا ....... ماذا أنتِ ؟!! "
أغمضت عينيها على دموعٍ بدأت تتساقط واحدةٍ تلو الأخرى .... و مضت بها الدقائق طويلة مقيتة ....
بطعم الصدأ في حلقها .... الى أن سكنت في النهاية ترفع وجهها مجددا تنظر الى عينيها المتورمتين .....
تراقب نظراتها الحمراء ثم همست بخفوت
( خائنة !! ....... اهكذا يراكِ من حولك في نهاية المطاف يا كرمة !! ...... بعد أن كنتِ محط غيرة الجميع ... أصبحتِ الآن مجرد منتهزة للفرص ...... و الأسوأ ..... )
صمتت قليلا تتهم عينيها الحمراوين ثم همست بخفوت أكبر
( و الأسوأ هو أنكِ تشعرين بجزءٍ من حقيقة ما يقولون .... جزء لم تتخلي عنه حتى الآن .... ربما لم تخوني زوجك .... لكنكِ خنتِ العشرة و أهدرتِ الجميل ....... )
أغمضت عينيها بصمت على دمعةٍ أخيرة سقطت بيأس ......
خرجت أخيرا بتثاقل من حمام السيدات .... تسير مطرقة الرأس الى أن حثها شيئ ما على رفع عينيها ...
فوجدته هناك واقفا آخر الرواق ... مستندا اليه , مكتفا ذراعيه .... و عينيه عليها بقوة ....
ارتبكت و توقفت مكانها للحظة .... و ظلت أعينهما تتحدث حديثا صاخبا عن بعد ... تعلوه بعض الإتهامات ... الى أن تحركت ببطىء تقترب منه حتى وصلت اليه ... فهمست تقول
( لماذا تقف هنا يا حاتم ؟! ....... )
لم يجب على الفور و هو يتأمل عينيها الحمراوين بنظرةٍ غامضة ..... ثم قال أخيرا بصوتٍ عميق
( رأيت خطواتكِ السريعة و التي تحولت الى جري .....فلحقت بكِ .... و انتظرتك ... )
ارتبكت قليلا .... لكنها همست
( لم يكن عليك ذلك .......... )
قال ببساطة بها نبرة تأكيد
( بلى كان علي ....فأنتِ زوجتي ............. )
اطرقت كرمة برأسها قليلا وهمست بخفوت
( وقوفك هنا سيجلب المزيد من الأقاويل ..... و كأننا نحمل عبىء اثمٍ فوق رؤوسنا .. و نحتاج لأن نظل بجوار بعضنا طوال اليوم ....... )
ظل ينظر اليها قليلا ... ثم قال بجفاء
( و هل أنتِ كذلك ؟؟ ........ )
رفعت عينيها اليه تهمس بأسى
( أنا ماذا ؟!! ......... )
قال بصوتٍ أجوف دون تردد
( تحملين عبىء اثم فوق رأسك ........ )
لم تستطع و هي تنظر الى عينيه دون أن تجد القدرة على أن تحيد بعينيها عنهما ... سمعا صوت خلفهما .. فتوترت كرمة و تشنجت و هي تلاحظ بعض ضحكات صمتت فجأة بتعمد ما أن أبصرهما أصحابها ....
فأخفضت رأسها تميل به دون أن تستدير اليهم ....
الا أن حاتم بمنتهى البساطة أومأ برأسه تحية لمن خلفها و على وجهه كانت ترتسم ابتسامة دبلوماسية باردة ...
و ما أن تجاوزهما ثلاث موظفين ... حتى مد يده يمسك بكفها وهو يقول بصرامة
( سنتابع هذا الحديث بمكتبي ..... تعالي ... )
حاولت جذب يدها منه وهو يجرها خلفه غير عابئا بالنظرات الملاحقة لهما ... فهمست من بين أسنانها بغضب كي لا يعلو صوتها
( توقف يا حاتم .... أنت تحرجني .... )
الا أنه قال بصوتٍ خافت واثق
( لا أعبأ بإحراجك في تلك اللحظة ....... )
ضيقت عينيها بجنون و هي تتمنى ضربه بين كتفيه العريضين بكل قوتها ... الا أنها سيطرت على رغبتها و سارت خلفه مرفوعة الرأس بإباء كاذب ... تتحمل نظرة من ينظر بغيرة و احتقار الى كفيهما المتشابكين بقوة و امتلاكية ...
الى أن وصلا الى مكتبه ... ففتح الباب وجرها داخله و لحق بها ليغلق الباب خلفه بإحكام ..
تقدمت كرمة عدة خطوات تتوازن على كعبي حذائيها الرفيعين ... الى أن استقرت فاستدارت اليه بعنف وهي تهتف بجنون من شدة الغضب و الضغط النفسي الذي تعانيه منذ الصباح
( ما هذا الذي تظن نفسك ...... آآآآآه.... )
لم تستطع إكمال عبارتها و هي تفاجىء به يطوقها بذراعيه قبل حتى أن تكمل استدارتها ... لينتهي باقي سؤالها الغاضب بين شفتيه المجنونتين !
اتسعت عينا كرمة بذهول و هي تواجه ذلك الطوفان اللاهب الذي لم تعرفه من قبل سوى واحة باردة ساكنة ...
لم تتخيل أن يكون حاتم بمثل تلك القوة في المشاعر دون رادع أو حساب .....
لكن ذهولها لم يستمر سوى لحظتين قبل أن تغمض عينيها و تستسلم لجنون مشاعره الذي لا سبيل للتعامل معه سوى الإستسلام ....
كانت قبلاته المهووسة تخبرها بوضوح " أنه هنا " ....
و أنه لن يغادر لمكان ... لذا فلتيأس من المحاولة ....
و رغما عنها ... شعر جزء منها بالإمتنان لهذا المخدر الذي جذبها بعيدا عن الواقع المرير الذي عاشته منذ لحظات ...
رفعت كرمة ذراعيها حول عنقه .... بتردد و هي تنتقل من مرحلة الإستسلام الى مرحلة التجاوب الخجول , فما كان منه الا أن كاد يفقد اعصابه من شدة جنونه بها ...
الاحساس بها بين ذراعيه نعمة ....
لا يعرف كيف استطاع أن يبتعد عنها صباحا وهو يجبر قلبه على الإتزان الغبي .....
أما خلال ساعات العمل الطويلة المملة .... كاد ان يفقد قلبه و أعصابه وهو يدرك أنها على بعد خطواتٍ منه , خارج مكتبه .....
لا ليست مملة تماما .... بل كانت ساعات من الترقب اللذيذ , وقح التخيل ..... وهو يدرك أنها ببساطة ....
أصبحت زوجته !! .....
كرمة أصبحت زوجته ..... ملكه ..... و ها هي بين ذراعيه ....
أغمض عينيه وهو يستدعي ذكرى تلك الأيام حين كانت تمر أمامه كطيف خيالي ... تغمره بهالتها الحية كطاقة من الجمال و القوة .... فلا يملك سوى أن يخفض بصره و يطرق برأسه ... ثم يومىء برأسه في تحية بطيئة ... ليتابع طريقه المعاكس لها و هو يترك لها قلبه المنتزع من صدره المتألم ...
ارتجف صدره الضخم وهو ينبض بعنف .. لتكمل ذراعاه المهمة فتطبع جسدها المهلك فوق ذلك الصدر كوشم حار
لتعلن له عن ملكيته لها في نهاية المطاف .... ليس ذلك الجسد على الرغم من انه قادر على زعزعة تفكيره و سيطرته .... انما الامتلاك الاكبر فهو لتلك الطاقة .... و كأنها حياة منحها القدر له ليحيا من جديد بعد أن سكنت أيامه ....
حتى هذه اللحظة لا يعلم من منهما الأقوى .... هل هي المتعة لوجودها بين ذراعيه اخيرا !! ... أم اللوعة لشعوره ببعد روحها عنه !! ....
في كلتا الحالتين ستظل كرمته .... حبيبته .... زوجته .....
و ها هي بين ذراعيه في المكتب الذي شهد بؤس أيام طويلة ......
لم يستفيقا من جنونهما الا بعد أن ارتطمت بالجدار من خلفها فتأوهت بخفوت ضعيف ....
ذلك التأوه الذي نفذ الى شفتيه و منهما الى قلبه مباشرة ... فرفع رأسه عنها وهو يلهث ليهمس بلهفه و عيناه على رأسها المطرق
(هل آلمتك ؟؟ ...... )
كانت ترتجف بين ذراعيه كعصفور صغير .. وجهها أحمر بشدة ليتناسب مع عينيها الحمراوين الجميلتين ...
لم تجب على الفور و هي تتنفس بسرعةٍ من بين شفتيها المنفرجتين
فمرر اصبعه بنعومةٍ على شفتها السفلى وهو يكرر برقة هامسا بصوتٍ أجش
( كرمة !! ......... )
همست كرمة بعد عدة لحظات بصوتٍ لم تتعرف عليه
( نحن في المصرف !! ...... )
ابتسم قليلا ثم قال بصوتٍ أجش خافت
( لا ...... نحن بمكتبي .... )
رفعت عينيها الحمراوين اليه .... ثم همست بخفوت
( أنت مدير مصرف متحرش ..... يجب فصلك من منصبك )
رفع احدى حاجبيه ليقول ببساطة
( لأنني قبلت زوجتي!! ......... )
"لأنني قبلت زوجتى " .... لو تعلم مقدار ما يشعر به من لهفةٍ حارقة وهو ينطق تلك الكلمات !! ....
و كأنه يرددها لنفسه ....
و لمرةٍ فقد تعداد ما قبلها .... اخذ يفكر عن روعة قدره الذي منحه الإنسانة التي يحب وهو الذي كان يتخيلها طيفا مستحيلا يتعلم به الصبر .....
الا أن كرمة قالت بغضب و قد بدأت تستعيد جنونها الذي يحبه ....
( و هل تسمي ما حدث .... قبلة ؟!!! ...... )
حاولت التخلص من يديه الممسكتين بخصرها و هي تعدل سترتها الكلاسيكية الى أسفل بعصبية ... لكن التخلص منه كان مستحيلا ... فقالت بغيظ
( توقف عن هذا و اتركني يا حاتم ...... ما تفعله لا يصح ... )
ابتسم قليلا ... و عيناه تحملان مشاعر أثارت ارتجافها رغما عنها ... الا أنه قال بهدوء
( ليس قبل أن تردي لي قبلتي ........ )
ارتبكت قليلا و أطرقت وجهها المحمر الساحر أمام عينيه ... لكنها همست معترفة بخفوت مقتضب ووجهها يشتعل
( رددتها ...... لكن يبدو أنك لم تلحظ في غمرة سباق مصارعة المحترفين الذي كنت تخوضه للتو ... )
ضحك قليلا وهو يقول بلا حياء
( حقا !! ...... لم ألحظ فعلا ... كنت منشغلا بهجومي الخاص ... )
مطت شفتيها بإمتعاض ثم رفعت أصابعها المرتجفة تتلمسهما أمام عينيه المشتعلتين برغبةٍ لا تنضب ...
ثم قالت بتوتر مهددة
( لو ظهر أي أثر لهجومك على شفتي فسأقتلك يا حاتم ..... يكفيني ما نالني اليوم ... )
قولها هذا جعل جسده الضخم يتوتر و ملامحه تتصلب قليلا .... وذكرى هجوم همجي سابق كان ظاهرا على وجهها و عنقها ... يومها أحترق بنارٍ زرقاء .... قتلته ألما و صقيعا .....
فهمس دون أن يدري بجفاء شارد
( لن أفعل ذلك ............ )
ارتبكت كرمة قليلا و هي تلحظ توتره و تستشعر تصلب عضلاته .... فقالت بتردد
( هل قلت شيئا خاطئا ؟!! ....... )
حينها زاد توترها و هي تلحظ غضبا بدأ في الظهور على وجهه لينفجر فجأة قائلا بحنق
( توقفي عن قولك ذلك بالله عليكِ ..... )
شحب وجهها قليلا وحاولت التراجع بعيدا عنه وهي تقول بخفوت
( ماذا ؟!! ....... ماذا قلت ؟!! ..... )
الا أنه لم يكن ليدعها تتراجع ... بل جذبها اليه بقوةٍ بين ذراعيه ... عميقا ... عميقا بداخل صدره وهو يهمس بوحشيةٍ و شفتيه تتلمسان جبهتها و تتنفسان بشعرها بغضب ...
( توقفي عن السؤال .. إن كنتِ قلتِ شيئا خاطئا أو فعلتِ شيئا خاطئا ..... فقط توقفي .... )
أطرقت برأسها قليلا دون أن تجد ردا مناسبا ....
لكنها بالفعل تشعر و كأنها تسير على خيط مشدود طوال الوقت معه .... تخشى كل كلمة قد تصدر عنها ... كل تصرف قد يؤلمه ....
حين طال بينهما الصمت ....أغمض عينيه وهو يتنهد يضمها اليه بقوة , يشعر أنه لايريدها أن تبعد عنه الباقي من يوم العمل ... لا يكاد يفكر في شيء سوى بالرجوع معها للبيت ... بيتهما .....
ذلك عذاب ..... عذاب .....
لم يقضي معها سوى ليلة واحدة .... ليتبجح بعدها بكل قوةٍ عن موعد عودتها للعمل !! .....
تبا .... لم يكن ليحتمل الذهاب الى العمل بدونها يوما واحدا اضافيا ....
سماعها تهذي بنيتها في تركها العمل أوشكت على أن تفقده أعصابه ..... تبا لذلك ....
أبعدها عن صدره قليلا ... ممسكا بكتفيها , يدقق النظر بعينيها المتورمتين ... ثم قال بصوتٍ أجش خافت
( لماذا كنتِ تبكين ؟؟ ........ )
أظلمت عيناها للتو .... استطاع قراءة ما بداخلهما بكل وضوح ... لقد طعنت ... جرحت وبشدة ....
ربما لم يكن المجىء بها الى العمل فكرة جيدة .... ربما كانت على صواب .... إن كان هذا هو الألم ما يشاهده في عينيها ....
لقد اقسم على أن يبعد الألم عن عينيها .... و ها هو يفشل منذ اليوم الأول ....
قال بصوتٍ خشن
( لا زلت أنتظر اجابة ........ )
هزت رأسها نفيا قليلا و هي تنظر الى نقطةٍ وراء ظهره كي لا تواجه عينيه ... ثم همست بدون صوت تقريبا
( لا شيء ........... دع الأمور تمر , أنت من أصريت على مجيئي .....)
شعر بقلبه ينقبض ... ثم قال اخيرا بخفوت وهو يلاحق ملامحها باصبعه
( و كأن في نبرة صوتك اتهام ............ )
رفعت عينيها الى عينيه تنظر اليه بصمت .... بداخلها اتهام ... لا يعلم إن كان له , ام لنفسها .... و أقسم أنها هي نفسها لا تعلم ....
بينما كانت كرمة تنظر الي عينيه ... كم كانت تتمنى لو تفضي اليه بما يعذبها ... بما سمعته و قتلها ... لما تشعر به من جزء من حقيقة هذا الاتهام الظالم ظاهريا .... لكن و هي تنظر الى عينيه كانت تدرك أنه آخر شخص يمكنها أن تفضي له بكل آلمها .... لأنه زوجها !! .....
تعلم أنها تحتاج للحديث .... تتمنى الحديث طويلا علها تخرج من الدائرة المظلمة التي تعيشها .... و التي يصر الجميع حصرها بها حتى الآن ....
فغرت شفتيها قليلا ... تريد أن تقص عليه الكثير .... تحتاج أن يدعمها و أن يخبرها أنها لم تكن خائنة ...
لكن مجرد ذكر أمر زواجها الأول قد يثير جنونه كليلة أمس .....
لذا قالت بخفوت حزين في النهاية وهو يلف خصلة من خصلات شعرها المموجة حول اصبعه ينظر اليها نظرة شرود و سحر
( هل يمكنني أن أطلب منك طلب ؟؟ .......... )
ظل ينظر الى عينيها طويلا .... ثم همس بخفوت
( لو طلبتِ عيناي ..... لما تأخرت ..... )
قالت كرمة بصوت متحشرج يئن
( أريد أن أسبقك الى البيت ...... الآن ...... )
ظهر الرفض جليا على وجهه قبل أى تفكير ..... فاقتربت منه ترفع يدها تلامس صدره الى ارتجف تحت ملمس أصابعها .... و همست بخفوت لأذنه
( سأعد وليمة ضخمة ...... لثلاثتنا ... أنا و أنت و محمد ..... )
شيئا ما جعله لا يريد سماع اسم ابنه في تلك اللحظة .... و ليس ابنه ... فقط الإسم ... و كأنها تقصد ثلاثية حزينة لا تستطيع الخروج منها ....
هز رأسه من أفكاره المجنونة وهو يغمر نفسه كذبا بنشوى تلك اللحظة وهو يتلذذ بكونها زوجته .... زوجته هو التي تخبره بأنها تريد الذهاب لبيتهما .... كي تحضر طعامه ... و طعام ابنه .... أي متعة توازي تلك المتعة التي يعيشها الآن ...
الا أنها كانت متعة محملة بالألم .... وهو يعرف أنها تهمس متدللة ... تلامسه برقة ... رغبة منها في الهرب ....
لابد أنها واجهت إتهام أقوى مما توقعت ....
قربها منه أكثر وهو يجاريها ليهمس ملامسا وجنتها بطرف أنفه
( ضخمة جدا ؟.......... )
ابتسمت بارتجاف و هي تومىء برأسها و تستطيل على أطراف قدميها كي يمكنها الوصول بوجهها الى شفتيه المنتظرتين للرسم على ملامحه ... ثم همست
( ضخمة جدا جدا ..... كل ما تمنيته يوما ..... )
ابتسم حاتم و يداه تداعبان خصرها برقة و حب .... ثم قال ببراءة
( و سيكون هناك حلوى ؟؟ ......... )
هزت رأسها بصدق و أمانة لتهمس برقة
( أفضل حلوى سكر ذائب ذقتها بحياتك ........ )
اتسعت ابتسامته قليلا ... ثم همس مكملا تحقيقه
( و ماذا سترتدين ؟؟ .......... )
فتنته الطريقة التي جعلها الخجل المفاجىء تعض بها على شفتها السفلى ... و شرود عينيها المضطربتين الذي أخبره بوضوح أنها تذكرت تفاصيل ليلة زفافهما .... ليلة امس .... تلك الليلة التي كانت أروع من الوهم و الخيال ... آآآآه .... و كأنه لم يولد رجلا الا ليعيش تلك الليلة ....
ظلت تقاوم خجلها طويلا و هي تكاد تذوب أمامه الى أن تمكنت من الهمس في أذنه أخيرا بتحشرج خلاب
( لو كنت تفضل اللون القرمزي .... فأنا لدي قميص نوم قرمزي ..... )
رفع احدى حاجبيه ليقول بنفس البراءة
( قصير ؟؟ ............ )
همست بنزاهة و شرف و هي ترفع وجهها المحمر اليه
( جدا ........ )
اتسعت ابتسامته أكثر حتى باتت أعمق و أعمق .... و في تلك اللحظة انتابها شعور انه من أكثر الرجال وسامة .... فقال ممازحا بسعادة
( اذن سوف لن نتشتري حلوى هذا المساء .... ستكونين أنتِ الحلوى .... )
لم تستطع منع نفسها من الضحك على عبارة تلك الأغنية التي أصبح يتم تحويرها في كل المواقف ....
بينما ظل هو ينظر الى تلك الضحكة مفتونا بها .... تلك الضحكة التي طال اشتياقه لها .... ضحكة جامعة اخترقت الإتهام و الظلم ... و الماضي و الحزن ... اخترقت الخجل و الدلال المخادع ... كي تصل الى أذنيه كلحن مجنون رقص عليه قلبه طربا ....
و ما أن خفتت ضحكتها قليلا ... حتى همس بسعادة أمام وجهها الأحمر كقالب حلوى شهي
( لكنك نسيتِ شيئا بسيطا ...... أن ابنى سيكون متواجدا ... و قد يصيبه القميص القرمزي بنوبة انحراف مبكرة ...... فيما سيصيب والده بنوبة جنون متأخرة .... )
مالت ابتسامتها و هي تقول ببساطة
( آآآه صحيح ..... بالمناسبة , أنت ستكون السبب الأول في انحراف هذا الولد ..... )
قال حاتم سعيدا فخورا
( لا .... لا تقلقي ..... إنه منحرف بالفطرة ...... )
هزت رأسها نفيا بقوة و هي تقول بصدق
( لا ..... إنه ملتزم و لا ينتمي لمجموعة ملتصقي الفتيات ...... )
رفع احدى حاجبيه وهو يقول
( هو أخبرك بذلك ؟!! .......... )
أومأت برأسها مبتسمة ..... فعقد حاجبيه ليقول بجدية
( اذن ربما يجب تثقيفه من تلك الجهة ......... )
رفعت حاجبيها لتقول بازدراء
( هل كنت من مجموعة ملتصقي الفتيات ؟؟!!! ...... )
قال ببراءة
( لا .... بالعكس , كنت من المجموعة الحامية و ما أن تتم مهمتى في الدفاع عن إحدى الفتيات حتى أبادر بالتعرف اليها ...... )
ظلت تنظر اليه بصمت و بحاجب واحد مرتفع ... ثم قالت أخيرا بصوتٍ بارد و هي تتخيل علاقاته في فترة الدراسة الجامعية .... من المؤكد أن فتيات الجامعة كن يتهافتن عليه ....
طبعا الشاب الوسيم المتفوق الرياضي ... و الأول على دفعته ....
( عن أي سن نتحدث تحديدا ؟!! ......... )
قربها منه ليهمس بخبث
( منذ أن بدأ ادراكي في الوعي ....... صعودا ..... )
همست كرمة دون أن تبتسم
( آآآه ............ )
اتسعت ابتسامته أكثر و أكثر وهو يقول
( لا ترميني بتلك النظرة .... لقد انشغلت منذ فترة طويلة بالزواج ثم السفر .... ثم العودة ... ثم ... الزواج مجددا ......)
ظلت كرمة تنظر اليه طويلا و هي تفكر
" ماذا .... هل مسموح له ذكر زواجه الأول ببساطة و مرح بينما محرما عليها ؟!! ..... "
الا أنها قالت بامتعاض
( لا عليك ..... أعتقد أنك أصبحت متفرغا الآن .... يمكنك التعرف على من تريد الآن , لكن اترك محمد لي لو سمحت .... لا تفسد أخلاقه , انه ليس من مجموعتك المبتزة ..... )
لم تدرك ان كلامها الممتعض أثر في قلبه أكثر مما ظن أن سيتأثر بشيء يوما ......
فخفتت ابتسامته ... و اشتعل الحب في عينيه جليا ...وهو يراها تتحدث كزوجة ... و أم .......
لكنها لم تعي لما أثارته بداخله من عبارتها البسيطة ... ثم همست و هي تتلاعبة برابطة عنقه
( اذن ........ هل يمكنني المغادرة الآن ؟؟ ....... )
ابتسم بقوة .... وهو يتأملها , فابتسمت له تتملقه كي يعتقها لوجه الله و يتركها تخرج من هذا المكان بأسرع ما يمكنها ....
الا أنه قال دون أن يفقد ذرة من ابتسامته
( لا .............. )
اختفى دلالها و ظهر الغضب على محياها الجميل ... فهتفت بأسى
( أرجوك يا حاتم ...... أريد مغادرة هذا المكان فورا ... انت لا تعلم ..... أنا .... )
صمتت و أطرقت برأسها تدرك أنها ستدخل في منطقة خطرة ...
شهقت كرمة فجأة حين شعرت بيديه تقبضان على خصرها لترفعانها عاليا .... حتى بات وجهها مواجها لوجهه فوضعت يديها على كتفه و هي تقول بغضب لاهثة
( كفى عبثا هنا يا حاتم ...... لا يصح ...قد يدخل أحد .... )
الا أنه سار بها كالدمية عدة خطوات حتى أجلسها على سطح المكتب مثلما أجلسها على طاولة المطبخ ذات يوم ... ثم وضع كلتا يديه على حافة المكتب بجوار ساقيها وهو يميل اليها مبتسما ... ثم قال بخفوت ناظرا الى ساعة معصمه
( انه موعد الراحة ..... و لقد أصدرت تعليماتي ألا يدخل أحدهم في وقت راحتي .... كما أن الباب مغلق .. )
ارتبكت و اضطربت قليلا من قربه منها الذي لم تعتد بعد .... و الواقع أنها شعرت بإثارة من يركتب فعلا خاطىء ...... لكنها قاومت ذلك الاستسلام المريض و قالت برجاء
( اريد العودة الى البيت يا حاتم ..... ارجوك )
كلمة ارجوك الهامسة كادت ان تودي بعقله و هي تخرج من بين شفتيها المكتنزتين الشهيتين .... لكنه عقد حاجبيه محصنا نفسه من رجائها الخبيث ... فقال بجدية
( انا الآن رجل متزوج ..... حدث ان تزوج من زميلته في العمل , .... الا تعلمين ما ينصه القانون بخصوص هذا الشأن ؟!! ...... )
نظرت بوداعة الى عينيه ثم قالت بخفوت
( لا ..... علام ينص ؟؟ ....... )
رد بثقة وهو يقبل وجنتها قبلة أثارت قشعريرة في أوصالها ...
( ينص على الا يتناول طعامه وحده مطلقا ........ فزوجته ,زميلته ,حبيبته , .... معه بنفس المكان .... )
ارتجفت قليلا و هي تود لو تعيش جو الحزن بخصوصية ... لكنه يخترق ببطىء تلك الخصوصية ليمتص الحزن تدريجيا .... على مهل ..... كل تصرافته معها على مهل شديد و كأنه غير مشغول بشيء غيرها ...
قالت كرمة بفتور
( لست جائعة ........... )
رفع احدى حاجبيه وهو ينظر اليها نظرة ذات مغزى دون كلام ..... فأغضبتها تلك النظرة بشدة مما جعلها تهتف حانقة
( ماذا ؟!! ..... لست جائعة .... أنا لا أجوع طوال الوقت .... لا تنظر الي هكذا .... )
لكنه لم يغير نظرته .... و لم يخفض حاجبه المتهم .... فهتفت بحنق أكبر
( لا أجوع طوال الوقت ........ )
قال ببساطة
( لقد فطرتِ اليوم ثلاث مخبوزات بالجبن ..... و كوبين حليب .... )
عقدت حاجبيها و قالت مصدومة
( هل تعد ما آكله ؟!!! ........... )
و سرعان ما اشتعل غضبها و هي تقول مدافعة
( أنت السبب ...... أنا آكل عادة حينما أكون متوترة , و أنت الذي أجبرتني على المجىء للعمل اليوم ... )
لم يخفض حاجبه ..... مما جعلها ترغب في أن تحلق هذا الحاجب المستفز ... فهتفت بغضب
( حسنا .... لقد تناولت إفطاري الحمد لله .... لهذا لست جائعة الآن ..... هل يمكن أن أذهب الآن ؟!! ... )
لم يبتعد عنها خطوة ..... بل قال بهدوء به اغراء لا يقاوم
( الم تشتمي تلك الرائحة منذ دخولك الى هنا ؟؟ .......... )
رفعت ذقنها قليلا .... تشغل حاسة الشم القوية لديها .... فأغمضت عينيها و هي تهمس تبتلع ريقها
( شطائر فول ؟!! ...... )
رد مبتسما وهو يقبل وجنتها مجددا
( اها ..........أرسلت العامل ليحضرها من تلك العربة الصغيرة في الطريق الجانبي التي عرفتني عليها من قبل .... . )
فئنت قليلا و هي تهمس دون أن تفتح عينيها ....
( لم تحضر مخللات ........ )
قبل وجنتها مرة أخرى وهو يقول بسعادة
( بلى ..... أحضرتها بكل أنواعها .... )
فتحت عينيها تنظر اليه بصمت ....فابتسم بعمق اكبر وهو يدرك أنه قد أوقعها في أحب فخ الى قلبها ....
"ترى هل يعتبر من الجنون المطبق ..تمنى زوج أن يتحول الى شطيرة فول في نظر زوجته ؟!! .... "
قالت كرمة بفتور كاذب
( اين تخفيها ؟؟ .......... )
قال معترفا ببساطة
( في نفس المكان التي كنتِ تخفينها أنتِ به ذات مرة ...... )
قالت كرمة ممتعضة
( نحن بمصرف ...... و أنت و أنا من المدراء ..... )
قال وهو يقبل وجنتها القبلة الرابعة
( كان حري بكِ معرفة ذلك من قبل ..... قبل أن تجريني الى الفساد )
تحركت شفتيها قليلا و هي تمطهما ... أسنانها الصغيرة تظهر كأسنان طفل في مرحلة النمو و هي تعض على شفتها بجوع و حرج ....
هل يعقل أن يعشق كل تفاصيلها ؟!! .... تلك التفاصيل الصغيرة التي لن يلحظها غيره ....
تفاصيل تختلف عن الجمال و مواصفات الكمال .... مما يجعلها مجرد انسانة .... انسانة تستحوذ على قلبه ... تأسره بمجرد عضة على شفتها ....
قال لها يجلي صوته المتحشرج
( أهم ما في الأمر الآن ..... هل معك علكات الفم ؟؟ .... لأن لدي اجتماع بعد فترة الراحة .... )
قالت كرمة بخفوت و استسلام
( لا أخرج بدونها ........... )
ابتسم وهو يقبل وجنتها للمرة الخامسة قائلا
( جيد ....... كي أتمكن من تقبيلك بعدها ..... )
نظرت اليه بصمت ... وجنتها احمرت خجلا بقبلاته ... ألم يكتفِ بعد !! .....
لكنه رحمها وهو يستقيم مبتعدا عنها ليخرج لفافة الشطائر .... و في يده الأخرى أمسك بملف في يده و أتى اليها يقول
( هناك عمل كثير متأخر أريد أخذ رأيك به ....... اطلعي على ما فاتك في هذا الملف أثناء أكلك ... )
تناولت كرمة الملف منه على مضض تنظر بصمت اليه و هي تشعر بأنها غير قادرة على الدخول بعد في مزاج العمل ....
لكن بعد صفحة .... و صفحتين ..... و في الثالثة كانت قد اهتمت نوعا بما فاتها ... الأرقام تفتح شهيتها و تثير طاقتها ... لطالما كانت تعشق الأرقام .... تعشق دوامتها التي تلفها بها في تفكيرٍ لا ينتهى ...
لذا وهي لا تزال جالسة على سطح المكتب .... رفعت ساقا فوق أخرى و وضعت الملف المفتوح عليهما , ... تقلب أوراقه باهتمام .... بينما يدها الأخرى ممسكة بشطيرة من الشطائر ...
بينما كان حاتم يجلس على احد الكرسيين المواجهين للمكتب بقربها ... مرجعا ظهره للخلف ....
متظاهرا بالأكل بينما هو يراقب كل لمحاتها و تحركاتها .... حركة اصبعها الرقيق الرفيع فوق الأرقام ...
فمها المفتوح على اقصى اتساعه كي تدخل به قضمة .... الا أن عيناها التقت بعينيه في تلك اللحظة ....
فقالت بوجوم
( ماذا ؟!! ...... أحتاج أن أفتح فمي باتساع كي لا تتساقط قطع الخضروات على ملابسي ..... ثم أنني لا أفضل أن يراقبني أحد أثناء تناولي الطعام من فضلك ...... )
لم يظهر اي ملمح من ملامح الحرج .... بل قال بهدوء وعيناه تتألقان عليها
( أنا لست أحد ..... أنا زوجك .... لذا من حقي أن أنظر اليكِ كيفما و أينما أشاء ...... )
تنهدت كرمة بوجوم قوي ..... زوجتي !! ....
انه يرددها ليل نهار ..... و كأنه فتى في العشرين من عمره , ساقته المفاجأة ليتزوج في سنٍ صغيرة .... مما يجعله سعيدا , متلذذا بترديد الكلمة كل حين و آخر ......
لو فقط يتوقف قليلا ..... قليلا فقط ......
تابعت النظر الى الملف على ساقيها , متشاغلة عنه بقصد ..... الا أنه لم يسمح لها بل قال بهدوء
( غدا تذهبين لكليتك استعدادا لمتابعة دراستك العليا ........ )
رفعت وجهها اليه .... يراودها الحلم القديم .... لكن يغلبه قرار مخيف ..... قرار حاولت دراسته في فترة قصيرة .... فقالت بتردد
( آآآه ....... حاتم , بخصوص هذا الشأن .... كان عندي اقتراح أود أن أطرحه عليك .... لكن عدني أن تتروى و أنت تسمعه ..... رجاءا .... لا تنفعل و تتسرع ... )
لم ننغير ملامحه من الهدوء ... الا أن المرح اختفى عن شفتيه وهو يقول
( لا يبدو هذا مبشرا بالخير .......... )
ظلت تنظر اليه طويلا بصمت ... و هي متأكدة من أنها ستكون حربا طويلة .....
.................................................. .................................................. ......................
كانت تنظر اليه بين الحين و الآخر ... و هي تشعر به يسرع القيادة مع كل نظرةٍ منها
انه هنا !!!
عند تلك العبارة المترددة في ذهنها منذ أن انطلق بها ..... في النهاية ارجعت رأسها تستند للخلف و الهواء القوي يضرب وجهها
لا بشر حولهما ... فقط هو .... وهو يطير بها بعيدا
و كم شعرت بالأمان في تلك اللحظة .... كان ظهوره في تلك اللحظة هي المعجزة التي انتظرتها دون ان تدرك .... ليمحو عنها اثر ما عرفته للتو .... عن ملك .....
وجوده السحري اخرجها من رعبٍ عاشته لتو .... ذلك السواد الذي تعرفه حق المعرفة ....
بعد فترة طويلة ... شعرت به يوقف السيارة بقوة على جانب طريق مهجور مقابل لبحر ٍ لم تطئه ارجل دخيلةٍ بعد ..
و كأنه وحيدا .... تجاهلها تماما و كأنه لا يبصرها ....ينظر أمامه بملامح قاتمة ....مرجعا رأسه للخلف هو أيضا .... صدره يعلو و ينخفض بانتظام عنيف .... تعابير وجهه مخيفة رغم صمته و تباعده عنها ....
كم أرادت لمسه في تلك اللحظة ... أن تمرر أصابعها على ملامحه .... تتحسس صدره علها تشعر بسبب ألمه ... ذلك الألم الظاهر على ملامح وجهه .....
عاد الخوف و الأمل يداهمانها ..... أيكون قد عرف ؟!! .... عرف ماضيها .... و حياتها المخزية !! .....
و مع ذلك هو هنا !! ..... لذلك كان الخوف و الأمل بداخلها في تلك اللحظة كقوتين متوازتين تصهرانها بينهما دون رحمة .....
و حين شعرت بأنها لم تعد تحتمل ذلك الصمت المخيف , خرجت من السيارة الى الهواء العنيف رغم الشمس العالية ......
وقفت مكتفة ذراعيها بصمت ..... و الهواء يطير خصلات شعرها بقوة .. فابتسمت بحزن وهي تشعر به طويلا للمرة الأولى منذ فترة طويلة ..... طويلة جدا .....
لازال يصرخ طالبا بيديه كي تضفران خصلاته لها .....
لم تدرك أن الهواء كان يطير طرف ثوبها الصوفي القصير كذلك .... يرفعه فوق فخذيها الى نحوٍ خطير ...
لكنها كانت في عالم آخر كي تهتم بثوبها .... عالم من الأمل .... المرتعب ....
ظل ينظر اليها طويلا بصمت وهو جالس بمكانه في سيارته .... مستندا بذراعيه الى المقود .....
يراقبها .... يراقب شعرها الأشقر المتطاير .... يراقب صغر حجمها الذي يجعلها أقرب الى طفلة ......
الى أن انحدرت عيناه الى ساقيها المكشوفتين أعلى حذائها عالي الساقين ....
حينها أوشك غضبه على أن يفتك به .... و بها ....
فخرج من السيارة بعنف ليتجه اليها .. و أمسك بذراعها يديرها اليه بعنف وهو يهدر من عمق صدرٍ غاضب
( لماذا تظهرين بهذا الشكل الرخيص ؟!! ...... لماذا تبخسين نفسك قدرها ... بملابسك , بسفرك , بلسانك المتطاول ...... لماذا بالله عليكِ ؟ ...... )
صمت قليلا يتنفس بسرعة و جنون بينما عيناه تشتعلان نارا هوجاء .... ثم قال بصوت أكثر خفوتا .. و أعلى غضبا ......
( لماذا تفعلين ذلك ؟..........أتدرين شعوري و أنا أرى ذلك القذر وهو ..... كنت على وشك أن ..... )
كانت تستمع اليه بملامح ساكنة ... يكمن بها العشق الحزين ...
تقف أمامه قصيرة ... ضئيلة أمام حجمه الضخم المرتجف غضبا ....
و مع ذلك مكتفة ذراعيها تنظر اليه بصمت من بين خصلات شعرها المجنونة فوق عينيها ووجهها ....
و ما أن صمت يلهث بغضب .... حتى قالت بخفوت
( لماذا أنت هنا يا وليد ؟؟ .......... )
نظر اليها بصمت للحظة واحدة .... قبل أن يرتفع حاجبا ... و تتسع عيناه ... و كأنها تهذي .. ثم لم يلبث أن رفع ذراعيه وهو يهتف بغضب و جنون
( بالله عليك ...... هل أنتِ غبية ؟!! .... لا حقا أسأل .... هل أنتِ غبية ؟!! .... كم يلزمني من الوقت كي أشرح لكِ و تستوعبي الأمر ....... )
صمت قليلا يتنفس بسرعة وهو ينظر الى ملامحها الوردية الفاتحة .... ثم قال بخفوت هادر كموج البحر
( أريدك .......اريدك يا بشرى .... احتاجك أكثر مما احتجت لإمرأة من قبل ..... أحبك .....و أريد الزواج بكِ ..... هل هذا كافِ كي يستوعبه عقلك سميك الطبقات ... أم يلزمك وقت أطول ؟!! ..... )
همست بعينين دامعتين ...
( لكنك ابتعدت ....... ابتعدت طويلا دون أن ..... )
صمتت و قد اختنقت الكلمات في حلقها فانخفض رأسها تغمض عينيها ....
حينها قطع المسافة بينهما ليضمها اليه بقوةٍ كادت أن تفتت اضلعها ..... وهمس بصوتٍ أجش
(كان ذلك رغما عني .... و رغما عني أيضا منحتك الفرصة للتفكير كي لا أضغط عليكِ أكثر .... )
رفعت اليه وجهها المصدوم ... و اليائس .....
فابتسمت .... ابتسمت و هي تنظر الى ملامحه الحبيبة ... ثم لم تلبث أن رفعت كفها تمسح دمعة معلقة على طرف عينها قبل أن تسقط ... و ما أن استطاعت أن تأخذ نفسا عميقا مرتجفا .... و هي تنظر الى البحر الهائج ... حتى نظرت اليه مجددا و همست بأملها الوليد
( هل سألت عني ؟!! ........ )
عقد حاجبيه وهو يهتف بنفور
( هل هذا هو كل ما يهمك ؟!!! ........ لماذا تبدين مهووسة بتلك المسألة ؟؟ .... )
أظلمت عيناها .... و سقطت ذراعاها ..... و مات الأمل ....
فقط ابتسامة ميتة مدركة ظهرت على طرف شفتيها ...... ثم قالت بصوتٍ ميت كابتسامتها
( لأن هذا هو المنطق ....... )
كانت عيناه تحملان الكثير و هو ينظر اليها في صمت .... بينهما صوت الموج فقط ... الى أن تكلم أخيرا بصوتٍ غريب متقزز .... حزين ... بعيد
( لا أحب تلك الطريقة و سبق أن أخبرتك ...... لا أحبها و لا أقبلها .... ذلك السؤال العقيم ..... )
للحظات شعرت و كأنه لا يتكلم عنها .... كان ذهنه شاردا عنها بينما روحه معها .... بين يديها ....
كانت تنظر اليه بجنون .... نعم جنون هدر بداخلها ..... جنون قلبها العاصف ... جنون الرغبة في الحياة ... عند تلك اللحظة التي تسبق الإقتراب من الموت ....
فهمست بهدوء غريب
( وليد هناك شيئا لم أخبرك به ..... أنا ..... )
صمتت تفكر بينما هو يسمعها باهتمام ... يقترب منها أكثر .... و كأنه يمنحها الأمان ....
كان ذهنها يعمل بجنون مفاجىء ...... و هي عازمة على اقتناص الفرصة ... لقد حاولت ....
يشهد الله أنها حاولت أن تكون أمينة معه ..... لكنه القدر هو الذي جمعهما ....
فماذا تقول الآن ؟!! ..... أين هي تلك الموهبة الإبتكارية ؟!! ..... أين هي تلك الموهبة الساحرة ؟!!
هي ليست بكر .... للحظات فكرت في الخداع التقليدي ...
مجرد عملية بسيطة تعيدها بكرا من جديد .... لكن حينها ستقع تحت طائلة أن يكون زواجهما باطلا ....
جنون .... جنون كجنون الموج من خلفها .... و ذهنها يعمل بسرعةٍ خرافية ...
لكنها فرصة .... فرصة حياتها و هي لن تتكرر سوى مرة واحدة .... أن تنال من تحب .... أخيرا .....
مطلقة ؟؟؟ .... لا ليست مطلقة .... لأنه قد يبحث عن طليقها ...لذا فلتكن أكثر حرصا .... و اثارة للتعاطف
فرفعت عيناها الحمراوان اليه .... و دموعها كانت حقيقة و هي تهمس بأسى
( أنا كنت متزوجة .... و توفي زوجي منذ عامين ..... )
اتسعت عينا وليد بذهول ... ليتركها جأة !! .... الصدمة قتلت قلبها ..... فشهقت تتنفس بصمت و هي تنتظر الحكم بمصيرها ....
تراقب انعقاد حاجبيه .... و فكه المتشنج ..... كان يهز رأسه بذهول ... أما عيناه فاحمرتا غضبا أكثر من غضبه الأول ... فبدا مخيفا ...
لكنها لم تخف .... بل وقفت أمامه ثابتة على الرغم من قصر قامتها ..... هي مجازفة عمرها و ستخوضها ....
هز وليد رأسه مرة أخيرة ... ثم قال أخيرا بصوتٍ ذاهل ... مهدد
( كنتِ م .... متزوجة ؟؟ !!! ...... تقصدين عقد قران ؟؟........ أي أنه لم .... يلمسك ... اليس كذلك ؟؟ )
ابتلعت ريقها و هي تنظر اليه بجمود ... و بوجهٍ شاحب كتمثال شمعي ثم همست بفتور
( بل زواج ...... أنا لست .... بكرا ....... )
عيناه كانتا مرعبتان ..... حتى أن عينيها اتسعتا بخوف حقيقي هذه المرة .......
و فجأة أمسكت يداه بكتفيها بعنف وهو يجذبها اليه على أطراف أصابعها ... ينظر الى عينيها بذهول ....
ثم همس بلهجةٍ مخيفة
( كيف ؟؟ ...... كيف استطعتِ الكذب بهذه البساطة ؟!! .... و ما الداعي للكذب ؟؟ ......ك... كيف .. لقد وثقت بكِ ..... )
كانت تنظر اليه وهى ترى رأيه واضحا دون الحاجة للشرح .. و ما ذكرته لا يتعدى واحدة على مئة من الحقيقة المرة ....
شفتاها ترتجفان ... و عيناها الحزينتان مشبعتان بمظهر نفوره ....
ثم همست بإختناق
( لم أكذب ..... أنا فقط ..... لم أذكر الأمر ..... و هذه خصوصيتي ... لم تكن العلاقة بيننا تسمح أن أبوح ... بأسراري لو لم أرد ذلك ........ )
هزها بقوةٍ وهو يصرخ بهياج
( لم تكن تسمح !!!! ...... لقد قضيتِ ليلة كاملة على الشاطىء تبكين على صدري .... أخبرتني عن شقيقتيكِ و عن خالك ....دخلت بيتك ....بقيت معك لساعات نجلس أرضا بغرفة جلوسك ..... )
صمت وهو يهز رأسه ناظرا اليها بإشمئزاز ... ثم لم يلبث أن همس بصوت قتلها
( مشطت شعرك بأصابعي ......... )
تساقطت أولى دموعها و هي تراه ينظر تلقائيا بألم الى شعرها المتطاير حول وجهها بعشوائية .....
ثم لم يلبث أن دفعها عنه وهو يصرخ بجنون
( تبا لكِ ........... تبا لكِ ..... كان يجب أن أعلم ..... مثلك ما هي الا صائدة عطلات .... )
ثم دون كلمة استدار عنها مندفعا كالثور في اتجاه سيارته ... بينما بقت بشرى مكانها ترتجف بشدة , فأحاطت جسدها بذراعيها ..... تنظر الى ظهره المبتعد .... فلم تستطع أن تمنع نفسها من الصراخ بشهقة بكاء عنيفة في اثره
( ظننتك مختلفا ......... لكنك أثبت لي للتو عن مدى غبائي ..... أنت لست سوى .... رجل .... مثلهم كلهم ...... اللعنة عليك ....... )
لكنه لم يجبها وهو يستقل سيارته و يصفق بابه بعنف ... ليندفع بها بسرعة جنونية مستديرا الى الطريق السريع .... مرسلا اليها موجة من الغبار الأبيض المجنون كحالته و صوت صرير الإطارات بدا كسيوفٍ نحرت جسدها ..... فصرخت بجنون و هي تبكي بعنف تركل حصواتٍ صغيرة
( ظننتك مختلفا ..... أيها الحقير ...... ظننتك مختلفا أيها القذر ...... )
لكنها كانت تصرخ في الفراغ بعد أن ابتعدت السيارة بسرعتها الجنونية .... فسقطت تبكي بقوة على ركبتيها العاريتين فوق الحصوات ... لكنها لم تشعر بالألم و هي تضم جسدها أكثر .... شاهقة بعنف و هي تهتف ببكاء قوي
( لقد أحببتك أيها الحقير ....... أحببتك للمرة الأولى في حياتي ..... أيها الحقييييييير ..... )
ظلت مكانها تبكي و تبكي .... حتى تعبت .... فرفعت وجهها الأحمر تنظر حولها بإدراك لموقفها للمرة الأولى .... فخفت بكائها و هي تحرك يديها على ذراعيها دون أن تجد القدرة على الوقوف على قدميها ....
و في أثناء بقائها المخزي أرضا ....
سمعت صوت الصرير العنيف مجددا و احاطتها كومة الغبار الأبيض الخانقة من كل مكان حتى أغمضت عينيها الحارقتين و أخذت تسعل بشدة ....
و ما أن هدأت و فتحت عينيها المتورمتين .... حتى ابصرت سيارته المتوقفة على بعد خطوةٍ منه وهو يميل من مقعده ليفتح باب المقعد المجاور له .... ثم لم يلبث ان هتف بصرامة سوداء
( اركبي ......... )
ظلت تنظر اليه بصدمة وهو ممسك بالمقود بقبضتين قويتين .... ينظر امامه بملامح شديدة القسوة و كأنه يبغض مجرد النظر اليها ....
لكنها استطاعت بمعجزةٍ ما أن تنهض متعثرة و اتجهت الى السيارة ... فجلست بجواره ترتجف بشدة و هي تنظر اليه .... فقال بعنف دون أن ينظر اليها
( اغلقي بابك ......... )
استمرت تنظر اليه لحظة .... و كأنها تخشى أن تدير وجهها عنه , لكنها أغلقت بابها و جلست الى جواره ترتجف ..... فانطلق مجددا بالسيارة ....
استمر الصمت بينهما طوال الرحلة ..... وهو ينظر أمامه و يقود بسرعته الجنونية ... فهمست بأسى
( وليد ......... أرجوك ...... اسمعني .... )
الا أنه قال بصوتٍ بطيء مخيف
( اخرسي ............ )
فخرست بالفعل و هي تنظر أمامها ..... لماذا عاد ؟؟؟ ..... لماذا عاد ؟؟؟ ...... ليقتل قلبها مجددا .......
مدت يدها تحك ركبتها النازفة دون وعي و هي تبكي بصمت ..... تنظر من نافذتها الى الطريق الذي يسابقهما و كأنه يريد أن يسرع بهما الى الفراق الحتمي ...
لكنها انتفضت حين شعرت به يميل ليلتقط عدة مناديل ورقية من العلبة .... ليرميهم على حجرها و يقول بخشونة دون أن ينظر اليها
( افتحي الدرج أمامك و اجلبي منه زجاجة عطر لتنظيف ركبتك ......... )
فعلت ما أمرها به و هي تنظر اليه باكية ..... و عيناها عليه ..... تحاول الشبع منه قليلا ......
و بعدها استمر الصمت بهما ...... الى أن وصل بها أخيرا الى بيتها فظل مكانه دون أن ينظر اليها منتظرا رحيلها .....
لكنها بقت مكانها قليلا تنظر اليه بحزن .... بل بموت ... ثم همست
( هل هو الوداع ؟؟........... )
لم يرد عليها ..... بل لم ينظر اليها أصلا .....
فأومأت برأسها و هي تلعق شفتها ..... ثم همست بإختناق
( وداعا يا وليد ........ كانت ..... أيام ..... لن أنساها بعمري كله ....... )
استدارت تنظر الى بابها .... تنظر الى الxxxx الذي تقطن به بأسى .... لا تريد النزول اليه .... لا تريد الذهاب الى شقتها ..... و ما أن استمر الصمت بينهما طويلا ...
حتى استدارت اليه مندفعة فجأة و هي تضرب كتفه بقبضتيها و هي تهتف باكية مجددا
( ما الذي أحضرك سفرا خلفي ؟!! ....... أيها الحقير القذر ..... لماذا سافرت خلفي طالما أنت بتلك العقلية العفنة العطنة ....... )
الا أنها صمتت شاهقة حين قبضت يده على كفه يسحقها سحقا وهو ينظر اليها بنظرةٍ أرعبتها .... فصمتت و سكنت تماما , و الدموع تجري على وجهها الشاحب .....
لكنها تجرأت و همست من بين بكائها
( لقد عشمتني بك ...... و ها أنت تبتعد لمعرفتك أنني كنت متزوجة ...... أنا لم أرتكب شيئا خاطئا .... كنت متزوجة ...... )
ترك يدها فجأة و كأنها ستدنسه و نظر أمامه بوجهٍ معتم ....
فهمست دون أن تنظر اليه و كأنها تحدث نفسها مبررة
( كان زواجا ..... لم أفعل شيئا خاطئا ..... كنت متزوجة ....... )
صمتت شاردة ...... و بقت مكانها طويلا ..... بل بقيا طويلا ......
ثم همست أخيرا و مجددا
( الوداع يا وليد ..... و آسفة أنني عرضتك لكل ذلك ..... )
لكن ما أن وضعت يدها على مقبض الباب .... حتى اندفع صوته قويا .... قاتما بشدة
( أخبريني عن زواجك ......... )
نظرت اليه بذهول ..... لم تصدق أنه يمنحها فرصة !!! .... إنها فرصة , اليس كذلك ؟!! .....
رمشت بعينيها عدة مرات و هي تهمس لنفسها .... هيا انطقي ..... انطقي ....
فابتلعت ريقها و تنفست بعمق ... ثم همست بتردد
( كنت صغيرة في السن ..... و كنت وحيدة .... و كان النصيب ..... لكنه استمر فترة قصيرة جدا .... )
كلام موجز مختصر للغاية ..... نهايته عبارة عن كذبة ... و الرسالة القديمة التي لا تزال تحتفظ بها من زوجها الأول لا تزال معها تكذب النهاية الحزينة ....
اخذت تتنفس بسرعة و هي تدعو الله أن يوافق بها ..... أن يجعلها زوجته ..... و بعدها من يعلم ... قد يزداد حبه لها فيسامحها تدريجيا على كل معلومةٍ كذبت بها ....
انها مستعدة لأن تتزوجه عرفيا لو طلب ..... فلن تمانع أبدا .....
قال وليد قاطعا أفكارها بصوتٍ قاتم
( كيف مات ؟ ............ )
ازداد ارتجاف أنفاسها و هي تنظر اليه .... ثم همست تلقائيا
( حادث ......... حادث سيارة ..... )
لم يرد و لم ينظر اليها ..... لكنه قال بعد فترة بصوتٍ لا روح به
( هل لا زلتِ تحبينه ؟........ )
هل لا زلت أحبه ؟!!!!! ...... هل لازلت أحبه ؟!!!!!! ..... هل هو أحمق ؟!!!!! .... أم هو مستوى ذكاءه الطبيعي المتدني ؟!!! ...... الا يرى لمحة من انهيارها ؟!!!!
الا أنها هتفت بصوتٍ خافت
( لم أحبه أصلا ...... كنت صغيرة في السن ..... و كان زوج جاهز و مستعد أن يتحمل نصيبي في الزواج ... )
نظر اليها بنظرةٍ غريبة .... ثم قال بصوتٍ أغرب
( لقد امتلكك ...... كنتِ ملك رجلا آخر ....... هذه حقيقة سقطت سهوا من بالك .... )
ارتعشت شفتيها و هي تنظر اليه .... كان صدرها يعلو و ينخفض بسرعة رهيبة ... لكنها همست بفتور
( و هل يمثل ذلك مشكلة لك ؟......... )
ابتلعت ريقها تنتظر الإجابة بوجهٍ شاحب ...... لكنه لم يرد ...... و لم تستطع قراءة تعابير وجهه
فهمست أخيرا
( فهمت ............. )
صمتت قليلا تطرق بوجهها ... ثم همست
( لن أعطلك أكثر من ذلك .......... )
لكن ما أن استدارت قليلا ... حتى قال بخفوت جاف
( أعتقد أننا بحاجة لمزيد من الوقت كي نقوي تعارفنا ....... )
عادت لتنظر اليه بذهول .... فرمشت بعينيها مجددا , لتهمس بغباء
( لم..... لماذا ؟!!! ....... )
ظل صامتا قليلا ... ثم لم يلبث أن نظر اليها قائلا بجفاء
( لن أرتكب الخطأ مرتين ..... طالما أننا مقبلين على زواج , فلا بد من توثيق تعارفنا أكثر .... و هذا ما كنت أظن أننا فعلناه بكل غباء مني ..... )
فغرت شفتيها قليلا ..... و هي تنظر اليه غير مصدقة ... ثم همست أخيرا باختناق
( هل ..... هل لازلت عند عرضك لي ؟؟ ........ )
لم يرد عليها .... بل قال بجفاء
( انزلي يا بشرى ...... يجب أن أذهب الآن ..... )
أومأت برأسها بسرعة ... و هي تقول بصوتٍ مثير للشفقة
( حاضر ..... حاضر ........ )
ثم أسرعت بالنزول و هي تتعثر ... و ما أن أغلقت الباب حتى انحنت تنظر اليه من النافذة متشبثة بحافتها و هي تقول برجاء
؛( متى سأراك ؟؟ .......... )
نظر اليها نظرة صامتة .... لن تنساها أبدا .... ثم قال بخفوت
( اتركيها للظروف ......... )
ابتعدت عن السيارة .... و تراجعت خطوة ....
فأدار المحرك لينطلق بها دون كلمة أو نظرة للخلف ...... بينما وقفت مكانها كتمثال رخامي و هي تنظر اليه يبتعد
" اتركيها للظروف !! .... "
الا يفترض بها الآن أن تقفز فرحا لأنه منحها الفرصة مجددا ؟!! .....
أم أنها بكل غباء ... لم تفعل سوى أن منحته فرصة أخرى كي يبحث في ماضيها البائس ......
همست فجأة بيأس
( ماذا كنت لأفعل غير ذلك ؟؟ !! ....... كانت ضربة رهان , .... و علي انتظار نتيجتها .... )
تلك الليلة و هي جالسة تقضم اظافرها تنظر الى هاتفها الساكن لساعاتٍ مضت .... تنتظر ولو كلمة منه ....
تنتظر معجزة أن يكون غبي .... دعت الله أن يكون الشخص الوحيد الذي أحبته من الغباء بحيث يسقط في فخها ....
نعم و هي ليست نادمة على ذلك .... لأنه ما أن يسقط في فخها حتى تذيقه من كل أنواع السعادة التي لم يعرفها كرجل في حياته .....
رن هاتفها فجأة ... فانتفضت بقوة و هي تقفز اليه و تنظر الى الرقم .... الا أنها شعرت بوجهها يمتقع من معرفة هوية المتصل ....
استمر الرنين قليلا ... ثم لم تلبث أن ردت قبل أن ينقطع ... حينها جائها الصوت الممطوط به لمحة من قسوة لم تعرفها من قبلا
( حسنا يا صغيرة ..... الا ترين أنني انتظرت بما فيه الكفاية ؟!! ..... الصبر ليس من فضائلي .... )
ردت شيراز بلهجةٍ أكثر قسوة من لهجته
( اسمع يا سيد علوان ..... انت من تريد شيئا , لا أنا ...... لذا أنت من سينتظر ..... و إن كنت غير قادر على الإنتظار فبإمكانك البحث عن امرأة أفضل مني بكثير .... و هن كثيرات و يتمنين اشارة منك ... فلماذا تصر علي أنا ؟!! ..... )
سمعت فحيح أنفاسه فأثار تقززها ..... ليقول بعدها بلهجته الكسولة
( ربما فيما بعد ..... أما الآن .... أنا أريدك ... الواقع أنني أريدك منذ أن كنتِ زوجة رابح .... و أنا لم أعتد الإنتظار كل تلك الفترة .... )
قالت بغيظ
( هذا ما لدي حاليا سيد علوان ......... )
ساد صمت متوتر ... قبل أن يقول بلهجة خافتة مخيفة
( لقد تركتك تعبثين بإرادتي .... و قلت لا بأس ... فلتمرح قليلا ... لولا معرفتي أنكِ لا تفضلين طريق الحرام ... أما إن كان لا مانع لديكِ و قد حدث تغيير في مبادئك ... فلا بأس أنا على استعداد لشراء الفترة التي تريدين ..... )
صرخت شيراز بجنون
( سيد علوان ..... أنت تهينني ..... و أنا لن ...... )
الا أنه صرخ بها صرخة أفزعتها
( اسمعي انتِ ...... لقد تدللتِ كثيرا أكثر مما يسمح به مقامك الوضيع .... تعقلي و اعلمي أنني أحصل على ما أريد ..... و أنتِ ستكونين لي بكل الأحوال .... فحاولي الاستفادة من تلك الزيجة كما اعتدت .... فعلى ما يبدو ان عطلتك الأخيرة قد كلفتك الكثير من مدخراتك ...... )
اغلقت الخط بسرعة دون تقدير للعواقب ... ثم رمت الهاتف جانبها و هي تنظر اليه بذعر و غضب في آنٍ واحد ....
ثم لم تلبث ان هتفت و هي تغرز اصابعها في شعرها ترجع للخلف بقوة
( تبا ..... تبا .... تبا ...... ماذا بكِ ؟!! .... لماذا تتغيرين ؟!! .... كنتِ متسالمة مع طبيعة حياتك ... ماذا جرى لكِ الآن ....... )
صمتت و هي تهتز على الأريكة الى الأمام و الخلف .... ثم همست بوجوم
( أحببت ..... هذا ما حدث لي ..... أحببت بعد أن كنت قد تأقلمت مع القذارة ..... )
مرت عدة أيام على ذلك الحال .... دون أن يرن هاتفها و لو لمرةٍ واحدة .... لا علوان ... و لا ... وليد ....
و كان قد وصل انهيارها الى أقصاه ... فباتت كالمجنونة لا تعلم ماذا تفعل ....
الى أن سمعت رنين جرس الباب ذات صباح .... فجرت اليه بسرعة ., و ما أن فتحته حتى وجدت حارس الxxxx حاملا اليها باقة ورد ضخمة .... كلها حمراء بلون الدم ... و قال لها بتهذيب
( صباح الخير سيدة شيراز ......... شخص ما سلم تلك الباقة لك و انصرف )
اخذت شيراز الباقة منه ثم صرفته بهدوء ... لتدخل و تغلق الباب خلفها بقدمها .... و اتجهت بها لتضعها على أرضا بسبب ضخامتها .... ثم استقامت تنظر اليها بتوتر ...
الأيام الماضية كانت مريعة بالنسبة لها ... قضتها ما بين بكاء و عويل و تكسير .... انتظارا .... لعل الأمل يتحقق ....
مدت يدها المرتجفة تلتقط ظرفا أزرق بلون السماء مثبت بين الورود ... و ما أن طالعها الاسم المكتوب عليه حتى شهقت بذهول
كان وليد !!!! ....
رفعت الظرف الى شفتيها تقبله بقوة و هي تدور حول نفسها بسعادةٍ مجنونة ... و ما أن شعرت بالدوار حتى توقفت تلهث وهي تحتضنه بشدة
فتحته بسرعة و هي تقبل بعينيها كل حرف
" عزيزتي شيراز ....
تلك الورود الحمراء بعدد كل يومٍ قضيناه سويا .... بعدد كل ليلة تمنيتك بها بين أحضاني ... بعدد كل صباح أشرقت به ابتسامتك لتضيء حياتي ..... بعدد كل دمعة انسابت من عينيكِ الكاذبتين و مزقت صدري ....
بعدد كل كذبةٍ اختلقتها بكل حقارة و عبث .....
تلك الورود مهداة مني الى زوجك الأول ... و الثاني ... و الثالث ذو السمعة القذرة المعروفة ....
تلك ورود صفقات زواجك كلها.....حسنا لقد ربحتِ رحلة مجانية و تمتعتِ بها .... فهنيئا لكِ بها ...
لكن تذكري شيء واحد .... من يعبث معي يكون قد وضع شاهد قبره بنفسه ....
الى لقاءٍ قريب ... مع حبي : وليد "
سقطت الظرف و الرسالة من يدها الى الأرض ببطىء ..... و سقطت معها كل أحلامها الساذجة ....
العجيب أنها لم تبكي .... لم تجد القدرة على البكاء رغم بكاء الأيام الماضية و كأن دموعها قد نضبت ...
فلا ميت يبكي بعد موته .....
ظلت مكانها طويلا ..... جالسة في سريرها القديم ... سرير صباها الضيق و هي تتدثر بغطائها المهترىء ...
تنظر بعيدا بصدرٍ لاهث ... و هي تنظر مرة ذات اليمين و مرة ذات اليسار بتوتر ....
ثم لم تلبث أن همست بتوتر ...
( ماذا فعلتِ يا وعد ؟!!! ..... مجددا ؟!! ..... مجددا يا وعد ؟!! ..... )
أرجعت رأسها للخلف حتى سقطت مستلقية على سريرها بعنف ..... و هي تحدق بسقف غرفتها بعينين متسعتين ....
ثم همست بانبهار
( هل كان هنا بالفعل ؟!! ....... )
كانت تشعر بالخوف .... لم تره من شدة الظلام , و لم يتبادلا كلمة واحدة .... لا دليل على وجوده الا المشاعر التي تعرفها حق المعرفة و التي تستسلم له بها دون غيره .....
كانت تعلم أنه هو ..... لكن على الرغم من ذلك فقد كانت تشعر بالخوف .....
كانت تريد سماع صوته .... تريده أن يضمها الى صدره و يطمئنها و لو بكلمة ...أن كل شيء سيكون على ما يرام .....
افترت شفتاها عن ابتسامة شاردة رغما عنها .... و همست بخفوت
( سيف ........... )
لأول مرة تشعر بأنها حرة طليقة .... لا يربطها به قيد و لا دين .... فقط مشاعر حرة اطلقتها بمحض ارادتها دون الحاجة للشعور بالخزي
يجب عليها أن تشعر بالخزي , اليس كذلك ؟!!! ...
لكنها لا تشعر به فعلا ..... بل بشعور من ال...... الكمال .....
أغمضت عينيها تتنهد برفق ... ثم همست
( اقبلي يا وعد ....... اقبلي وعودي اليه .... ما أسهل الإستسلام !!! .... ما عليك سوى نطق الكلمة .... كلمة نعم ....... )
ظلت مغمضة العينين قليلا .... ثم فتحتهما بصمت ووجوم ... و همست
( نعم يمكنك قول نعم .......أرجوكِ قولي نعم .. )
ظلت تحدق بالسقف طويلا ... و شفتيها تتماوجان ما بين ابتسامةٍ و جمود ......
بالأمس كاد قلبها أن يسقط صريع الوداع بينهما ... كانت تعلم أن الأمر سيكون قاسيا ,. لكنها لم تدرك أنه سيكون بمثل ذلك الألم ......
نهضت من سريرها بعد فترة طويلة ... كانت مرتبكة متعثرة كفتاة خجولة و هي تتحركة مسرعة الى حمامها التي عاشت معه طويلا .... لكنها الآن كانت مرتبكة و كأنها في مكان غريب ....
انتهت و ارتدت ملابسها التي جمعتها بصعوبة من كل مكان ... بوجهٍ محمر من ذكرى المهزلة التي ارتكباها ليلة أمس ...
ثم جلست على سريرها ترتدي حذائها بأصابع مرتجفة .... و بجوارها هاتفها على السرير .. تنظر اليه بوجوم ....
لم يترك لها رسالة .... اتصال .... أي شيء يخبرها به أنه قضى معها ليلة من أجمل لياليهما ....
همست بغضب من بين شفتيها
( تبا لك و لبرودك ....... أنا أستحق كل ما أناله منك بفضل غبائي المزمن .... )
نظرت بوجوم الى الهاتف بعد أن انتهت لتزفر بكسر خاطر .... ثم همست بحزن
( لا كلمة واحدة حتى ؟!! ........ )
صمتت قليلا تنظر الى الهاتف ... ثم همست بخفوت
( حسنا ... أنا جرحتك .... و أنا أعرف ذلك .....لكن بعد ليلة أمس كان يجب عليك أن ..... )
عادت لتصمت و هي تتنهد عاليا بقوة ... مبعدة شعرها المبلل عن وجهها بغضب ... الى أن أسندت ذقنها لكفها و هي تنظر الى الهاتف ..... ثم تابعت تقول
( هناك قوانين ...... ليس من حقك أن تتصرف بهذا الشكل الحقير ....... مهما كان مقدار الجرح الذي جرحته لك , لكن ليس من الرجولة أن ترده لي بتلك الطريقة ..... )
عند هذه النقطة سكتت تماما و هي ترفع رأسها بملامح باهتة .....
هل كان يرد لها الجرح الذي جرحته لها بمكتب المحامي ؟!!!! .... هل كان يعاقبها ؟!!!
رفعت يدها ببطىء الى شفتيها و هي تنظر أمامها بعينين متسعتين ووجهٍ شاحب .....
لكن العينين المصدومتين لم يلبثا أن امتلأتا بالشر تدريجيا الى أن تحولتا في النهاية الى عاصفتين هوجائيتين
و دون تفكير تناولت هاتفها و هي تقول من بين أسنانها بجنون
( لا تسير الدنيا وفق هواك يا سيد سيف ...... انا لست جارية عندك ..... تبا لك ... )
ضغطت على رقم هاتفه بقوة تكاد تسحق شاشة هاتفها ... ثم وضعته على أذنها تنتظر و هي تهز ساقها بعصبية ..... و استمر الرنين طويلا دون رد الى أن صمت ....
فداست رقمه مجددا و هي تشتم من بين أسنانها بغضب .... فعاد الرنين الى أن صمت مجددا
حينها صرخت وعد بغضبا
( تبا لك يا سيف الدين فؤاد رضوان ..... أجب ... ليس من حقك أن تفعل هذا .... )
ضربت الرقم مجددا بعنف ووضعته على أذنها .... لكن هذه المرة بعد ثلاث رنات سمعت صوت غلق الخط و كأنه مطرقة ضربت رأسها .....
أبعدت وعد الهاتف عن أذنها و نظرت اليه بصدمة ..... ثم همست
( لقد أغلق الإتصال !!! ........ )
اخفضت هاتفها الى حجرها بوجوم و هي تنظر اليه بوجهٍ شاحب ... ثم همست بخفوت
( أتظنني وعد التي تزوجتها من قبيل الشفقة , كي تعاملها بتلك الطريقة ؟!! ...... حسنا لنرى .. )
نهضت من مكانها بغضب و هي تطرق الأرض بعنف .... لكن ليس قبل أن تلقي نظرة أخيرة مجنونة على سريرها المبعثر ....
.................................................. .................................................. ...................
اتصلت وعد على بيت سيف مجددا .... فردت عليها ورد ... حينها صرخت بعد أن ظلت أياما تحاول كبح جماح جنونها
( أخبرتك للمرة الألف الا تتصلي هنا مجددا ..... أنتِ خارج هذا البيت , هل سمعتِ ؟؟ ..... أنتِ خارج نطاق هذا البيت منذ أن هربتِ منه ليلا كاللصوص ..... )
قالت وعد بقوة و هي تضغط على أسنانها
( انا لم أتصل هنا كي اسمع كلامك القميء مجددا ....... أين أخاكِ ؟؟ ..... )
كانت عينا ورد تبرقان بوحشية و هي تقول بذهول
( بالله عليك !! ...... الا تمتلكين ذرة دم واحدة تجعلك أقرب الى البشر منك الى لوح الثلج !!! ..... كيف تمتلكين الجرأة على الإتصال هنا مرة بعد أخرى تسألين عن سيف بعد الإذلال الذي جعلتهِ يمر به بفعلتك المخزية !!! ...... بعد كل ما قدمه لكِ !! .... بعد أن رفعك من كونك مجرد خادمة حقيرة و ساعية متدنية المستوى ... و جعللك زوجته !!! .... )
صمتت لتتابع صارخة بصوتٍ خرق طبلة أذن وعد
( زوجة سيف الدين فؤاد رضوان !!!........... )
شحبت ملامح وعد وهي في الشارع ... فتوقفت قليلا و الهاتف على أذنها .... الناس من حولها يسيرون يمينا و يسارا .... بينما استندت هي الى واجهة محل .... تسمع الى كلام ورد المسمم
و التي صرخت تتابع
( لكن كان هذا هو ما توقعته منكِ دائما .... و حذرت الجميع دون أن يلقون بالا بتحذيري .... لأن الأصل المتدني لا يخرج أفضل من ذلك ..... )
لهثت وعد بقوة .... لكن عيناها الجامدتان كانتا مثبتتان أمامها بقسوة , و هي تقول بخفوت
( نحن من نفس الأصل بالمناسبة ..... فلا تغالي في التبجح ...... )
صرخت ورد بقسوة
( اخرسي ....... اخرسي ..... أنتِ لستِ من أصلنا و لم تكوني يوما , و الدليل ما فعله معكِ سيف .... و ما فعلته أنتِ معه في المقابل ..... أنتِ حقيرة .... خسيسة .... دنيئة .... تتخلين عنه ما أن شعرت بعدم الحاجة اليه .... بينما هو في أمس الحاجة اليكِ ..... )
فغرت وعد شفتيها قليلا ... و انحنت عيناها قليلا و هي تسمع العبارة الأخيرة .... فقالت بفتور
( ظننت أنني فهمت منكِ من قبل أنه لا تنقصه الرفقة !! ............. )
قالت ورد بكل وضوح
( نعم هو لا تنقصه الرفقة ...... و ستكونين حمقاء لو ظننتِ عكس ذلك ... الا تدرين ممن أنتِ متزوجة؟!! )
صمتت قليلا ثم اضافت بصوتٍ أكثر خبثا
( أو بمعنى أصح ... ممن كنتِ متزوجة ...... )
شعرت وعد بقبضةٍ باردة كالجليد .......و ظلت صامتة لفترة طويلة الى أن تمالكت نفسها و قررت أن ترد بإتزان ...
فهتفت بجنون مفاجىء
( لماذا أنتِ شريرة بهذا القدر ؟!!!!! ..... شريرة و خبيثة النفس ..... و حقودة .... و مريرة الروح و العقل .... مختلة ..... )
صرخت ورد بجنون هي الاخرى
( اخرسي يا ابنة عبد الحميد ..... و تلك وحدها شتيمة مناسبة ...... )
صرخت وعد غير آبهة بنظرات المارة من حولها
( والدي توفي يا مريضة النفس ..... يا معتوهة .....و ليس من الأخلاق أن تتكلمي عنه بهذا الشكل .... يا حشرة ... . )
اتسعت عينا ورد بذهول ... و صمتت مصدومة ... فاستدارت الى أمها التي كانت واقفة خلفها تنظر الى صراخها برعب و تستمع الى مكالمتها مع وعد ...
فرفعت يدها الى صدرها و هي تقول لأمها بذهول
( أنا حشرة ؟!!! ...... لقد نعتتني بالحشرة لتوها !!!! ...... أبنة عبد الحميد نعتتني بالحشرة !!! ... )
ربتت منيرة على صدرها راجية و هي تقول بتوسل
( حقك علي أنا حبيبتي ..... لكن لا تزيدي أرجوكِ ... لا نريد المزيد من جنون أخاكِ ... أعطني الهاتف ... )
الا أن ورد تشبثت بالهاتف و هي تصرخ بغضب
( أنا حشرة يا نكرة .... يا مادية .... يا مستغلة .... يا .... يا .... لقد عجز الكلام عن وصفك .... )
ابتلعت وعد ريقها بقوة .... ربما تكون قد احتدت على ورد بتهور بسبب الغضب .... لكن صفات ورد التي تنعتها بها مقصودة تماما ... و هي تعني كل واحدة منها .... بشكل جارح
و الأكثر جرحا .... هي أنها تشعر بجزء من حقيقة تلك الصفات .....
صمتت و هي تسمع صوت عمتها يهتف بغضب في جلبة الى أن تمكنت من نزع الهاتف من ورد لتقول بخفوت
( مرحبا يا وعد ....... )
اغمضت وعد عينيها و هي تقول بخفوت ... و رقة مجهدة
( مرحبا يا ..... عمتي )
قالت عمتها بخفوت
( كيف حال صحتك الآن ؟؟ .......... )
صدرت عن وعد ضحكة مريرة ساخرة و هي ترفع يدها الى جبهتها ثم قالت بفتور
( في أحسن حال يا عمتي ..... لا تشغلي بالك )
صمتت لحظة تبتلع غضبها و مرارتها ... ثم قالت بقوة
( أين سيف يا عمتي ..... أنه لا يرد على اتصالاتي مجددا .... و أنا أريده في شيء هام جدا .... )
ردت منيرة بخفوت
( اتركيه قليلا يا وعد ...... لا تضغطي عليه في هذه الفترة .... لقد أسأتِ اليه جدا .... )
اتسعت عينا وعد و هي تهتف بغضب
( أنا ؟؟ ..... أنا يا عمتي من أسأت اليه ؟؟ ...... و أنتم ؟؟ .... ألم تسيئوا الي منذ اليوم الأول الذي دخلت به الي بيتكم ؟!! ..... عامة يا عمتي أنا سأريحكم و أخرج من حياتكم للأبد ... و سأتركها سعيدة مسالمة كما كانت قبل أن أدخلها ...... )
صمتت تتنفس بغضب .... لكنها لم تستطع منع نفسها من الهتاف بسخرية غاضبة
( و بالمناسبة يا عمتي ..... شكرا على ترككم لي في المشفى ما بين الحياة و الموت دون أن يتكفل احدكم بمجرد رفع سماعة الهاتف و السؤال عني ..... شكرا جزيلا .... شكرا على لاااا شيء .... )
صمتت تلهث بقوة .... و هي تشعر بأنها ألزمتها الحجة ... الا أن منيرة بعد فترة صمت قالت بخفوت
( كانت أوامر سيف الا يقترب منكِ احدنا ........... و أنا كنت أطمئن عليكِ منه يوميا .... )
ضحكت وعد بمرارة ... ثم قالت
( حسنا .... شكرا جدا يا عمتي ..... كنت في حاجةٍ الى سؤالك .... )
قالت منيرة بصوتٍ متحشرج
( لقد توسلت اليكِ الا تؤذي ابني يا وعد ..... و مع هذا جرحته بشدة )
فغرت وعد شفتيها باستهجان ... و اتسعت عيناها باستنكار .... ثم هتفت
( أؤذي من يا عمتي ؟!! ..... سيف ؟!!! .... الا تعرفين ابنك جيدا ؟!!! .... انه جدار حجري صلب قاسٍ عديم القلب ....... و الإحساس ... و .... )
هتفت منيرة بغضب للمرة الأولى
( بل له قلب ..... له قلب لم يحب سواكِ ... على الرغم من أنه لا يجيد الحب و لم يعرفه من قبلك .. و لأنه لا يجيد الحب , رجوتك أن تتحمليه و لا تجرحيه .... لكن أنتِ فعلتِ .... ضاربة الجميع في أقرب حائط .... )
سكنت وعد و هي تسمع هجوم عمتها القوي ..... فأطرقت بوجهها .... تتذكر اعترافه المقيت بحبه لها ,......
أظلمت عينا وعد قليلا حتى تحولتا الى اللون الضبابي المعتم ....
نعم ..... نعم أنه لا يجيد الحب ...... لكنه ..... يحبني ........
همست وعد بخفوت
( أين هو سيف يا عمتي ؟؟ ......... أريده , أرجوك وصليني الى طريقه ..... )
قالت منيرة ساخرة
( ظننت الأمر واضح ... لا يحتاج كل هذا التوسل , إنه في العمل يا وعد .... العمل الذي جمعكما يوما .... )
لقد ذهب للعمل ببساطة .... كيوم عادي تماما ....
ماذا ظنت ؟؟ ..... أن يكون هائما معذبا , بعدما سمعت كلمات منيرة المؤثرة ؟.؟؟ ......
قالت وعد بخفوت
( يجب أن اذهب اليه الآن يا عمتي ....... الى اللقاء .... )
أغلقت الهاتف على صوت ورد المجنون و هي تصرخ
( لا تغلقي الخط يا أمي .... لا تغلقي الخط ... هاتها لأمسح بكرامتها ال .... )
الا أن وعد كانت قد أغلقت الهاتف قبل أن تسمع المزيد من الإسفاف ..... ثم رفعت وجهها الشاحب و جرت ساقاها جرا ... كي تشير لأقرب سيارة أجرة .....
.................................................. .................................................. ....................
حين دخلت وعد الى المكان الذي عملت به ساعية لفترة ليست بقصيرة .... لاحقتها نظرات الذهول و الفضول ..... فابتسمت بشحوب لكل من يقابلها .... و كان بعضهم يقف ليحييها .....
كانت تشعر و كأنها تسير داخل فيلم سينمائي ...فليست هي مطلقا من كانت تعمل هنا
لا شكلها و لا هيئتها .... و لا حتى شخصها .....
سارت في الأروقة الى أن حطت عيناها على غرفة السعاة ..... فوقفت لحظة .... و ابتسمت بحزن رغم عنها
و تعجبت كم يبدو ذلك و كأنه حدث منذ فترة طويلة جدا .....
لقد كانت ساعية هنا في هذا المكان ..... تقدم المشروبات و تنظف المكاتب !!!
بينما الآن الكل يحيها بإحترام .....
مشت وعد بصعوبةٍ حتى وصلت الى غرفة علا ...... فأخذت نفسا و دخلت و عيناها دون ارادة منها على باب غرفة سيف المغلق ....
و ما أن رأتها علا حتى قفزت من مكانها هاتفة
( وعد !!!! ...... اهذه أنتِ ؟!!! .... أهذه حقا أنتِ ؟!!! ...... )
اتجهت اليها لتعانقها بقوة ..... لطالما كانت علا طيبة معها .... حين لم تكن ذات أي قيمة ... لذا ابتسمت بحزن و هي تربت على كتفها و تضمها بالمقابل ..... قائلة بمودة حقيقة
( كيف حالك يا علا ....... اشتقت اليكِ حقا .... )
أبعدتها علا تنظر اليها بذهول
( و أنا أشتقت اليكِ جدا ....... أنظري اليكِ ؟!! ..... كم أنتِ جميلة ؟!! .... تبدين كعارضات الأزياء )
الحقيقة أنها خرجت في الصباح بنفس الزي الذي ذهبت به الى بيتها ..... و على الرغم من بساطته الا أنه كان خلابا عليها ..... تلك الكنزة الفضفاضة الناعمة بلون المشمش و التي تكاد تتعدى طول وركيها على بنطال ضيق يظهر نحافة ساقيها .... بينما شعرها الذي جف في الهواء الطلق بدا مجعدا و مموجا ... مجموعا عن وجهها بنظارتها السوداء فوق رأسها ..... لذا كانت مختلفة تمام الإختلاف عن وعد التي غادرت هذا المكان
ابتسمت قليلا و هي تقول بخفوت
( شكرا لكِ ...... أنتِ ايضا ازددتِ جمالا و ..... بياضا ؟!! .... )
ابتسمت علا بخجل و هي تقول
( لقد تزوجت في فترة قصيرة جدا ...... و انا .... في بداية حملي الآن ..... )
اتسعت عينا وعد و هي تهتف بدهشة
( ياللهي !! ....... هل غبت كل هذه الفترة حقا ؟!!! ...... مبارك لكِ يا علا ...... الحمل يليق بكِ كما هو واضح ...... )
ضحكت علا و هي تقول بخجل
( آه نعم ...... زوجي يقول ذلك أيضا ..... )
ارتجفت ابتسامة وعد و هي تتذكر الحديث بينها و بين سيف حول الحمل و الأطفال .... لم يكن ودودا أبدا ... ما بين رفض ... و فرض .....
المرة الأولى رفض بتهذيب ..... و المرة الثانية فرض عليها الحمل كأمر واقع ......
كم هي ذكريات غير سعيدة إطلاقا .......
تنهدت وعد لتقول بخفوت
( أنا حقا سعيدة من أجلك ...... جدا يا علا ..... )
ابتسمت علا بمودة ... فقالت وعد و عينيها على باب مكتب سيف المغلق ....
( هل سيف هنا يا علا ؟!! .......... )
قالت علا
( نعم موجود ........... لكن .... لحظة فقط كي أعطيه خبر , فقد شدد علي جدا , ذاكرا بالإسم حتى لو كانت احدى شقيقتيه ..... )
ارتفع حاجبي وعد قليلا و هي تقول بصوتٍ باهت
( هل أحتاج لى أذن كي أدخل لزوجي يا علا ؟!! ....... )
تلون وجه علا بشدة ..... و قالت معتذرة بحرج
( صدقيني يا وعد ...... من الممكن أن يغضب مني بشدة .....لقد أصبح شديد الصرامة مؤخرا .... )
أومأت وعد برأسها بهدوء ثم قالت .....
( لا بأس يا علا ...... أخبريه أنني أريد رؤيته لأمر هام من فضلك ..... )
أومأت علا برأسها مبتسمة بحرج ..... ثم دخلت اليه بعد أن طرقت الباب بهدوء و أغلقته خلفها .....
كتفت وعد ذراعيها ووقفت مطرقة الرأس ..... بينما قلبها يخفق بعنف .....
و مرت لحظات طويلةٍ قبل أن تخرج علا بوجهٍ شاحب و ملامح محرجة .... فنظرت اليها وعد بتساؤل ,
حينها قالت علا معتذرة
( السيد سيف منشغل جدا يا وعد ..... و .... يبلغك .... انكِ لو أردتِ انتظاره , فلن يكون ذلك قبل ..... ساعتين ...... )
ظلت وعد واقفة مكانها تستمع اليها بصمت .... بينما بدا وجهها جامدا بدرجةٍ مخيفة .....
و في النهاية قالت ببرود و هي ترفع ذقنها .....
( سأنتظره ............ )
ارتسمت الدهشة قليلا على وجه علا .... الا أنها أومأت مبتسمة بتهذيب تدعوها للجلوس على الأريكة ...
جلست وعد ببطىء على الأريكة الأنيقة .... تتلمسها بشرود .... لقد كانت نفس الأريكة التي جلست عليها للمرة الأولى حين أتت لمقابلة .. سيف الدين فؤاد رضوان
نفس الأريكة .... و نفس الإنتظار المرير .....
رفعت وعد وجهها الشاحب و هي تنظر أمامها .... ياللهي .... كم مر من الوقت منذ مقابلتهما الأولى ؟!!
و هي تجلس متوترة خائفة .... تنتظر مقابلة السيد المخيف بنفسه ....
يومها تركها تنتظر طويلا .....
تماما مثل الآن ........
مر الوقت طويلا ...... طويلا جدا .....
عشرون دقيقة .... نصف ساعة ...... ساعة كاملة .....
ووعد جالسة مكانها بوجهها الجامد و قلبها المثقل ..... بينما كانت علا تدخل و تخرج من عنده .... و الحرج يكاد يلتهم ملامحها .... فكانت وعد تعرف الإجابة كل مرة .....
.................................................. .................................................. ...................
أغلق حاسوبه بقوة وهو يعلم بأنه يخدع نفسه ..... لقد فقد التركيز منذ ساعةٍ و نصف الساعة ....
منذ أن دخلت علا و أبلغته أن جارة القمر في الخارج ......
كيف يستطيع العمل و هي على بعد خطوةٍ واحدة منه ........
أمسك بهاتفه يقلب في الصور بوجهٍ قاتم .......
لكن طيف ابتسامة باهتة ظهرت على شفتيه رغما عنه وهو يتأمل نفس الصور التي لا يملها إطلاقا .....
كم استلزمه من قوةٍ كي ينهض من جوارها هذا الصباح بعد اشتياق أشهر !!
لقد كان أكثر ما قام به عذابا ...... لكن العذاب الأكبر هو أن يستيقظ على عينيها المتقززتين من استسلامها صباحا .....
" أمر مقزز " .... لقد نطقتها مرة أمامه من قبل ... و حتى الآن لم يستطع مداواة جرح تلك الكلمة البغيضة ....
ليلة أمس كانت تلك الليلة التي جمعتهما بقوةٍ لم يعرفاها سابقا .... قوة جعلت منهما شخصين بروحٍ واحدة ...
و كي يحتفظ بذكرى تلك الليلة نقية دون أن تلوثها كعادتها .... خرج صباحا مسرعا ... هاربا .....
لقد أوشك على أن يتهور و يقتلها أمس في مكتب المحامي ..... و بدلا من أن يقتلها أجتاح كل حصونها ما أن خطت بقدميها الى بيتها في الظلام .......
أغمض عينيه و صدره ينبض بقوة تلك الليلة التي تفجرت بعروقه .......
دخلت علا متحرجة للمرة الأخيرة ووقفت أمامه صامته ..... فنظر اليها سيف بينما اصبعه يقلب في الصور ببطىء .... ثم لم يلبث أن قال بصوت خافت بعيد
( الا زالت تنتظر ؟؟ ......... )
أومأت علا برأسها بصمت ..... ثم قالت بخفوت
( إنها تبدو مجهدة جدا ........ )
أعاد نظره بصمت الى صورتها الضاحكة في هاتفه وهي تجلس على سريره .....
فقالت علا حين لاحظت صمته ...
( هل أسمح لها بالدخول سيد سيف ؟؟ ......... )
رفع سيف وجهه بعد صمت طويل و قال بهدوء
( سأقابلها و أنا خارج الآن .......... شكرا يا علا )
اتسعت عيناها قليلا ...... لكنها أومأت برأسها و هي تستدير لتخرج ......
و حين بقى لوحده ..... سمح لنفسه بأن يبتسم لصورتها مرة أخيرة و هو يتلمس ملامح وجهها بإبهامه .... ثم همس بصوتٍ أجش
( ليلة أمس .... نقشتك على قلبي .... فصار اسمك وشما لن يزول مدى العمر .... )
وضع هاتفه في جيب سترته وهو ينهض من مكانه بعنفوان .... متناولا أغراضه الخاصة ليخرج من المكتب ...
أدارت وعد وجهها ما أن شعرت بباب مكتب سيف يفتح ..... ثم لم تلبث أن توقفت أنفاسها و اختلت ضربات قلبها و هي تراه يخرج بهيئته المهيبة .....
ففغرت شفتيها قليلا ... و هي تنهض ببطىءٍ هامسة دون وعي
( سيف ........... )
توقف مكانه للحظة .... ينظر اليها بصمت , نظرة شملتها كلها .... و على الرغم من ملامحه الجامدة الا أن وجهها أحمر بشدة من نظرته التي احتوتها بدفىء .....
ظل الصمت بينهما قليلا .... أرقى من أن يلوثاه بأي كلمة خاطئة ....
ثم لم يلبث أن قال بهدوء و دون تعبير
( وعد ....... يالها من مفاجأة ..... )
أظلمت عيناها قليلا ... و بعينيه المشتاقتين رآى لونهما يتحول الى اللون العاصف .... قبل أن تقول بصوتٍ أجش
( ليست مفاجأة تماما ..... فأنا هنا منذ .... )
ثم رفعت معصمها لتنظر في ساعةٍ ضخمة أنثوية أنيقة و تابعت تقول بجفاء
( ساعة ..... و أربع و أربعين دقيقة ...... )
ابتسم سيف ابتسامةٍ قاسية ..... ثم قال بهدوء متمهل
( أرضيت غروري يا وعد بعدكِ للدقائق انتظارا لي ........)
رفعت وعد ذقنها على الرغم من الألم الرهيب الذي تشعر به ... ثم قالت بهدوء
( أريد أن أتكلم معك ......)
نظر الى ساعته ... ثم قال بخفوت
( للأسف .........)
لكن و قبل أن يكمل كلامه كانت عيناها قد اشتعلت نارا و هي تهتف بقسوة
( سيف ................. )
و تداخل مع هتافها القاسي المقهور هتاف آخر أنثوي ناعم يقول من عند الباب
( سيف ... أردت أن أخبرك ب.... )
التفتت وعد تنظر الى ميرال ... ذات الجمال الأشقر المبهر .... و التي تسمرت مكانها و هي تبادلها النظر باستعلاء .... ثم قالت بجمود
( وعد ............)
لم تستطع وعد حتى مبادلتها التحية ... هذا إن كانت تحية من الأساس ...
فاستدارت بعنف الي سيف تهتف بقوة ... تكاد تكون مهينة
( سيف أريد الكلام معك حالا ......... )
الا أن صوت ميرال قاطعها بكل هدوء
( عذرا للمقاطعة .... لكننا تأخرنا بالفعل على موعدنا يا سيف ..... )
اتسعت عينا وعد قليلا و هي تقول مخاطبة سيف بلهجة تهديد
( الى أين ستذهبان ؟؟ ......... )
قال سيف بهدوء صارم
( اجتماع عمل ......... اذهبي أنتِ و قد ألحق بكِ ما أن أنتهي .... )
اتسعت عينا وعد بشعور صادم بالإهانة و هي تنقل نظرها بين ثلاثتهم .....
لكنها لم تستسلم و هي تضرب الأرض بقدمها لتقول بقوة
( لن أنتظر ..... بيننا كلام لم ينتهي ..... منذ ليلة أمس ..... )
و رفعت عينيها القاسيتين لتجابه عينيه بكل قوتها ..... بينما ران صمت متوتر بينهم ... وحدها ميرال هي من اشتعلت عيناها بمشاعر كره عنيفة ..... فقالت بهدوء ثلجي
( هل ستقلني يا سيف أم أذهب وحدي ؟؟ ...... لأنني سأتحرك حالا .... )
لم ينظر اليها سيف , بل ظلت عيناه على وعد طويلا ..... فارتجفت شفتيها قليلا و هي تهمس دون صوت
( سيف !! ........... )
الا أنه تحرك أخيرا يقترب منها .... ففغرت شفتيها بنفسٍ لاهب ترفع ذقنها اليه ... و ما أن وصل اليها حتى أغمضت عينيها , فلف خصرها بذراعه بخفة ... ليميل اليها هامسا في أذنها بصوتٍ لم يسمعه غيرها و كأنه يقبل وجنتها بود
( شكرا على ليلة أمس ......... )
فتحت عينيها بذهول على أقصى اتساعهما .....و فغرت شفتيها بصدمة .... بينما ابتسم ليقول بهدوء
( نلتقي لاحقا ..... لو أردتِ أن أقلك بطريقي ....... )
قاطعته صارخة بجنون غير آبهة لذهول الجميع
( أفضل الموت أولا ............ )
لم تهتز عضلة في ملامحه و عيناه الجامدتان عليها تكاد أن تطحنها حية ..... فقط ابتسامته ازدادت قسوة بصورة غير ملحوظة الا لها ... ثم قال بهدوء مبتسم
( كما تحبين حبيبتي ...... لكِ مطلق الحرية )
ثم استدار بعيدا عنها و هو يمد يده الى ظهر ميرال دون أن يلمسها في دعوة منه لأن ترافقه ... لكنها لم تنسى أن تلقي لوعد نظرة أخيرة ....... ظافرة ....
ظلت وعد تنظر الى الباب الذي خرجا منه بملامح مصدومة .... ثم لم تلبث أن سقطت جالسة على الأريكة و هي يتغطي وجهها بكفيها ... لا يظهر منه سوى عينيها الشتويتين ... المصدومتين ....
.................................................. .................................................. ......................
وقفت ملك مكانها صامتة وهي مستسلمة تماما ليدي وعد التي جثت عند قدميها تعدل من حافة الفستان الأزرق الزاهي ...
كانت وعد تتنفس بقوة و هي تعمل كالمكوك منذ عدة أيام ....
كانت كل يوم تنكب على تفصيل فستان جديد .. منذ الصباح و حتى آخر الليل .... كانت عيناها قويتان و كأنها عازمة على النجاح بكل ما تمتلكه من ارادة ...
قالت ملك أخيرا و هي تتطلع أليها بإشفاق ...
( وعد ..... ارتاحي قليلا .... أنت تعملين ليل نهار و هذا لا يلائم صحتك ... لقد حذرك الطبيب من المجهود الزائد ..... )
قالت وعد دون أن تنظر اليها ... و هي تركز نظرها من تحت نظارتها ذات الإطار الأسود على ما تفعله
( لن أرتاح قبل يوم افتتاح المعرض ...... )
نظرت ملك اليها بصمت ... ثم قالت بهدوء
( لديك الكثير من البضاعة المستوردة ستملأ المكان .... لذا يمكنك أن تترفقي بنفسك قليلا في الأزياء المفصلة ... )
قالت وعد بتصميم ...
( تصميماتي هي أكثر ما يهمني .... فأنا لم آخذ دروس التصميم تلك كي تضيع هباءا ... )
قالت ملك برفق
( أنتِ تقلقيني عليكِ يا وعد ..... منذ تلك الليلة التي ذهبتِ بها الى بيتك و أنتِ غريبة ..... )
قالت وعد بصوت جامد ...
( لست غريبة يا ملك ...... بل مصممة ..... )
توقفت قليلا و هي تتنفس بجهد .... جالسة على ركبتيها عند قدمي ملك .... ثم رفعت وجهها تتأمل جسدها مليا ... وفابتسمت تقول
( رائع ....... بدأت أشك في أنكِ أنتِ من تجملين التصميمات .... )
ابتسمت ملك تقول بخفوت
( لم أظن يوما في أن ينتهي بي الحال كعارضة أزياء ........ )
تأملتها وعد مليا ثم همست مبتسمة
( و من أجمل منكِ لتكون عارضة أزياء !! ......... )
صمتت قليلا ثم لم تلبث أن نظرت اليها مبتسمة لتقول بصدق
( أنا سعيدة جدا يا ملك أنكِ بجانبي .... لا أعلم كيف كنت أستمد القوة لولا وجودك بجواري )
ابتسمت ملك بشحوب ..لكنها قالت برقة
( و انا أيضا سعيدة بوجودي معك ...... )
نهضت وعد على قدميها و هي تحاول تظبيط ياقة الثوب .... ثم قالت بجدية
( اذن ...... ألن تخبريني عن مسار قصة حبك للفتى صاحب السيارة الفارهة ...... اتصالاته لا تتوقف حتى كادت أن تجنني .... لكن هذا معناه أنه متمسك بكِ ....و هذا شيء جيد ... . )
تمهلت قليلا ... ثم لم تلبث أن رفعت وجهها الى ملك تواجهها و تقول باهتمام
( لماذا تقسين عليه و تبتعدين عنه بهذا الشكل ..... هل خطأوه كبير جدا لهذه الدرجة ؟!! .... )
التقت عيني ملك بعيني وعد .... لكن وعد شعرت بالقلق و هي تقرأ هما معانٍ غريبة ... معانٍ تختلف عن عيني ملك الطيبتين اللتين عرفتهما من قبل ....
و بالفعل قالت ملك بهدوء
( لن أتخلى عنه يا وعد ...... بل على العكس ... سأخوض حربا ...)
توترت ملامح وعد و هي تنظر اليها بقلق يتزايد ... ثم همست بخفوت
( حرب ضد من ؟!!! ........ )
رفعت ملك كتفها و هي تقول بصوتٍ غريب
( ضد العالم كله لو لزم الأمر ..... أنا لست بمثل هذا الضعف كي أدعي أحدهم يسلبني شيئا دون ارادتي ... )
قالت وعد بحيرة
( تبدين متمسكة به أكثر مما ظننت !! .......... )
نظرت اليها ملك لتقول
( متمسكة بآخر أمل ....... يمكنك قول ذلك .... )
أخفضت وعد رأسها ... ثم ابتعدت عنها و هي تلملم أغراض التفصيل ... ثم لم تلبث أن وقفت قليلا أمام احدى الطاولات ... مطرقة الرأس .... قبل أن تستدير الى ملك و تقول بحدة غير مقصودة
( لماذا لا تحكين الي ما يحدث معك ؟؟ ..... انت حتى لم تخبريني باسمه او من يكون !!..... )
نظرت اليها ملك بصمت .... تخبرها بعينيها انها تاخرت كثيرا في السؤال و ان ما ستعرفه لن يسرها ابدا ... و لن يسر زوجها ....و هما علاقتهما متوترة أصلا ... و لا ينقصهما ما تسببت به لنفسها ...
قالت وعد بحدة
( بكِ شيء تغير ..... شيء جمد أو ازدادت قسوته .... فقط اخبريني ... أنا أختك .... )
ظلت ملك تنظر اليها طويلا قبل أن تقول بهدوء متهربة بعينيها الحزينتين
( لما لا تخبريني أنتِ بما حدث بينك و بين سيف ...... )
أجفلت وعد قليلا .... لكنها هزت رأسها في حركةٍ صامتة قبل أن تقول بخفوت بينما صدرها ينقبض بألم مألوف
( ما بيني و بين سيف انتهى .......على الأرجح أن دعوى قضية الخلع قد وصلته الآن ..... )
استدارت اليها ملك و هي تحمل ذيل فستانها الحريري ... لتقول بصوتٍ جاف
( بعد كل ما فعله من أجلك ؟!!! ..... لا تنتظرين حتى الى أن يقتنع بانفصال متحضر ؟!!! .... )
لوحت وعد بذراعيها و هي تصرخ ....
( كفى .... كفى ..... ليس لكِ الحق في الحكم علي .... أنتِ لا تعرفين الكثير من تفاصيل الأمور )
ظلت ملك تنظر اليها طويلا ... قبل أن تقول بوجوم
( و أنتِ أيضا لا تعرفين الكثير عن تفاصيل علاقتي بشادي .... لذا لا تتحدثي في الأمر مجددا .... )
امتقع وجه وعد بشدة و هي ترى ملك تبتعد بصمت حاملة ذيل الفستان الفخم .... فاندفعت اليها تجذبها من ذراعها لتضمها اليها بقوةٍ خانقة و هي تهمس بعنف
( لم أقصد أن أجرحك ....... و إياكِ أن تجرحيني مجددا بتلك الطريقة الفظة .... لأنني لا ينقصني ذلك ... صدقا لا ينقصني ...أقسم بالله لا ينقصني ... )
اسبلت ملك جفنيها ... و اوشكت دموعها على التساقط , الا أنها منعتها بقوة ...
لقد اقسمت الا تبكي قبل أن تنال حقها كاملا .... كالعزاء الذي لا يتقبل الا بعد الثأر ....
لقد اقسمت على ذلك و ستوفي بقسمها ........
ربتت على ظهر وعد و هي تقول بخفوت
( سيف يحبك يا مجنونة .... إياكِ أن تضيعي ذلك الحب , لأنكِ لن تجدي مثله أبدا ..... )
ابتعدت وعد عنها قليلا ثم همست بقوة
( قد لا يكون الرجل المثالي ..... و قد يكون جرحك كثيرا ..... لكنه يمتلك ما يفوق ذلك ... وهو أنه يحبك بصدق .... دون هدف أو مصلحة ..... لقد أحبك في أقصى درجات ضعفك و يأسك ..... أحبك في أسوأ حالاتك و أدناها و أكثرها وضاعة من حيث نظرة البشر المغرضين .... و مع هذا فضلك عن كل النساء ... و جعلك زوجته أمام العالم كله ..... لذا فكل ما اقترفه بحقك لا يوازي مكانة ذلك الحب أبدا ...... )
صمتت قليلا ثم قالت بحرقةٍ مشددة على كل حرف
( ستندمين يوم أن يضيع منكِ ..... و ستبكين قهرا حين ترينه سعيدا مع امرأة غيرك ... عرفت قيمة حبه و قدرته ...... )
شعرت وعد بنارٍ تكوي قلبها و هي تتخيل سيف مع أخرى غيرها .... لقد كان الكابوس الذي يراودها كل ليلة منذ ان تركها و خرج مع تلك ال ........
أغمضت وعد عينيها بألم و هي تتذكر بشاعة موقفها في تلك اللحظات .... ثم لم تلبث أن أخذت نفسا عميقا مرتجفا قالت بعده بخفوت
( عامة لا أريد أن يشغلني اي شيء حاليا سوى الإفتتاح ..... هو حلم حياتي كلها .... )
نظرت اليها ملك بصمت .... و يأس ثم قالت بخفوت
( سأذهب لأخلع هذا الفستان ........ )
الا أنهما سمعا في تلك اللحظة صوتا رخيما مألوفا ينادي
( وعد ........ هل أنتِ هنا ؟؟ ...... )
مطت ملك شفتيها و هي تقول بحنق
( الوسيم المفتون أتى .......... )
ارتبكت وعد قليلا و هي تهمس بوجوم
( المفتون ؟!! .......... )
قالت ملك بجدية و هي تحدق في عينيها دون مواربة
( ماذا ؟!! .... الا تعرفين صوته ؟؟ .... أم أنكِ لا تعرفين بمن هو مفتون ؟؟ ..... )
امتقع وجه وعد و هي تقول بقوة
( ملك ....... لا تبالغي في الأمر , لأن ما تقولينه خطير .... أنا لازلت متزوجة ..... و أنا لن .... )
قالت ملك بنفس الجدية .......
( لا شك عندي بكِ مطلقا ......... لكنه سيفعل ما أن تنفصلي عن سيف ..... سيعرض عليكِ الزواج .... )
فغرت وعد شفتيها بذهول و هي تهتف همسا
( ماذا ؟!!! ...... لقد شرد فكرك بعيدا جدا ....... )
لم ترد ملك ..... بل سمعا صوت يوسف يقول مجددا ....
( هل أدخل ؟ .............. )
ردت وعد تقول و هي تنظر الى ملك الرافضة
( تفضل يا يوسف .......... )
دخل الغرفة الواسعة المخصصة للتصميم و التفصيل .... غرفة راقية تتدرج الوانها ما بين الأبيض و الوردي الشاحب .... و بها عدة كراسي مذهبة انيقة .....
توقف لحظات وهو ينظر الى ملك مبهورا .... ثم لم يلبث أن همس
( ياللهي ...... ما أجملك يا صغيرة ....... )
ارتبكت ملك و احمر وجهها ..... بينما قالت وعد بضيق
( أنت تغازل اختي يا يوسف .......... )
سافرت عيناه من ملك اليها لينظر اليها سارحا و على شفتيه طيف ابتسامة .....
ثم قال بصوته الرخيم
( لا يمكنني مغازلة الصغيرة ملك اطلاقا .......بل هو انبهار بما طرأ على بالي للتو .... )
كتفت وعد ذراعيها و هي تقول بجدية
( و ما هو ؟؟ ........... )
ظل يوسف ينظر الى ملك ..... ثم لم يلبث ان فتح حقيبته الصغيرة التي يحمل بها الكاميرا المحترفة الخاصة به و الذي يحملها معه للأماكن الجديدة .... ثم قال بتألق
( بما أنها عارضة القياس الخاصة بك ...... كيف لم نفكر ان تكون الوجه الخاص بمجموعة وعد .... )
هتفت كل من وعد و ملك في وقتٍ واحد بذهول
( ماذا ؟!!!......... )
لكن ملك تابعت برفض مطبق
( مستحيل ......... سأذهب لأبدل ملابسي .... )
الا أن وعد أمسكت بذراعها لتقول بقوة
( انتظري لحظة ......... )
لكن ملك نظرت الى عيني وعد المتألقتين فجأة .... هتفت بقوة
( لا ... لا لا ..... انسي الأمر ..... )
بينما كان يوسف يجهز عدسته غير مباليا بهما معا .... و ما أن انتهى حتى قال ببساطة
( قفي بحرية يا ملك ....... لن يستغرق هذا سوى دقائق .... )
ظلت ملك تمانع بقوة ... الى أن أجبرتها وعد في النهاية لأن تخضع لعدة صور ....
فوقفت على مضض .... متشنجة ... الا أن يوسف وضع الكاميرا أمام عينه وهو يقول ببساطة لا تفكري بالكاميرا يا ملك ..... فقط فكري بأكثر ما يثير روحك حاليا ....
شردت عينا ملك بعيدا بحزن وردة ذابلة منكسرة .... فبدأت عدسة الكاميرا في التقاط عدة صور سريعة لها ...
وهي تتمايل دون تصميم بالثوب الأزرق الحريري .... و أمواج شعرها الذهبية الطويلة تتراقص معه ... تلائمه في اللمعان ... و تناقضه في اللون .... مما أضفى عليها سحرا غامضا أخاذ ....
و مر الوقت و تكات الكاميرا لا تتوقف وهو يدور من حولها .... و ثوب بعد ثوب ..... الى أن صورها بالمجموعة كلها ......
سمعت ملك صوت رنين هاتفها فتشنجت فجأة و شحب وجهها .... حينها توقف السحر ... و توقفت الكاميرا ....
و نظر كلا من وعد و يوسف الى ملك التي كانت تنظر الى الهاتف البعيد بتشنج و خوف .....
فاقتربت وعد منها و همست برفق
( هل تريدينني أن أرد أنا ؟؟ ......... )
نظرت ملك اليها طويلا بشحوب ... قبل أن تقول أخيرا بصوتٍ مضطرب
( لا .... لا ..... يجب علي أن أتلقى هذا الإتصال بنفسي ...... )
أومأت وعد بقلق و هي تنظر اليها تبتعد متعثرة في الثوب الحريري .... و في يدها يرتجف الهاتف الذي ما زال يرن بجنون ....
ظلت وعد تنظر الى مكانها حتى بعد أن اختفت .... لكنها أفاقت مجفلة على صوت تكة الكاميرا
فنظرت الي يوسف الذي صورها في غفلة منها ...
رفعت وعد أمام وجهها و هي تهتف بتذمر
( لا يا يوسف ..... لا أحب التصوير ..... )
ابتسم وهو يعدل من زاوية العدسة .... ليقول ببساطة
( و مع ذلك ستخضعين لدورك في جلسة التصوير ...... )
هتفت بقوة
( لا ...... أنا مستحيل ....... )
ابتسم بسعادةٍ اكبر وهو يقول موجها الكاميرا عليها ليلتقط صورة مفاجئة أخرى
( بلى ......... )
هتفت وعد بحنق تقول
( كفي يا يوسف ....... كفى ....... )
أخفض يوسف الكاميرا ليقول ببساطة
( وعد ....... أنا في أجازة من عملي و من كل ضغوطي كي أحقق معكِ حلمك ... فلما لا تمنحيني بهجة المشاركة ..... )
مدت وعد ذراعيها و هي تقول ببساطة
( شارك كما تريد ......... لكن ابتعد عن وجههي )
ابتسم أكثر وهو يقول
( وجهك ينطق .......... و ما أجمل من وضع وجه المصممة كخلفيةٍ خلابة )
هزت وعد رأسها بقوة و هي تهتف
( كلا كلا .... وجهي نحيف و عظامه بارزة .... و عيناي كعيني الجثة .... )
شرد بوجهها طويلا ..... و ارتسم على وجهه تعبير غامض ليقول بخفوت
( فقط اتركيه لي .... و حلي شعرك من رباطه .........)
ظلت وعد تنظر اليه مترددة ..... لكن شيئا ما جعلها ترغب في خوض التجربة .... و ماذا ستخسر
لذا رفعت يديها ببطىء , لتحل شعرها ..... فانساب طويلا على كتفيها و ظهرها ..... و ما أن حاولت رفع النظارة حتى قال لها بهدوء
( اتركيها .......... )
تركتها بطاعة .... فاتجه الى النافذة ليزيح الستار عنها فغمرتها اشعة شمس متوهجة قوية
حينها بدأ في التقاط الصور لها وهو يدور من حولها ....
لتجد خلال لحظات أنها حرة تماما في كيفية اتخاذها الحركة العفوية التي تحب .....
فبدأت تتكلم مبتسمة وهو مستمر في تصويرها مبهورا ..... اكثر من انبهاره بملك ....
فقالت وعد مبتسمة و هي تميل برأسها
( اذن ...... كيف تقضي عطلتك هنا بخلاف خدمتي بنظام السخرة ..... و التصوير .... )
رد عليها وهو يركز بصره على الكاميرا بجدية
( أكتب خواطر ......... )
اتسعت عينيها بذهول ثم لم تلبث ان ضحكت بقوة فالتقط لها صورة .... لتقول بعدها و هي مستمرة في الضحك وهو يصورها من كل زاوية .....
( اعذرني لم أقصد الضحك ...... لكن لم أتخيل الإجابة بصراحة )
قال ببساطة وهو يصورها صورة أخرى
( و لا أنا ........... )
نظرت اليه مبتسمة .... فالتقط اليها صورة .... ثم قالت بهدوء
( حسنا ..... أخبرني بخاطرة من خواطرك ....... )
التقط لها صورة وهو يدور من حولها مجددا .... قائلا بجدية
( عشقت فتاة شرقية ........... )
بهتت ابتسامتها قليلا .... لكنها لم تفقدها تماما .. فالتقط لها صورة .و تابع
( عيناها لآلىء و بدور ....... )
اختفت ابتسامتها تماما ... و نظرت اليه بصمت فالتقط لها صورة .... وهو يقول
( العشق بعينيها رواية ......و الحزن بطلها المجهول ....... )
فغرت شفتيها قليلا .... فأخفض الكاميرا ينظر اليها بصمت طويلا ....
1
في هذه اللحظة خرجت ملك بملامح شاحبة و هي تقول بخفوت
( سأنزل قليلا يا وعد ........... )
ثم خرجت دون أن تحصل على جوابٍ من أيٍ منهما ......
فاتجه يوسف الى احدى النبتات الضخمة الموجودة في احد الأركان ... ليقطف منها عدة أوراق و أغصان خضراء صغيرة ...
ثم عاد ليها لينثرها فوق خصلات شعرها .... بينما هي تنظر اليه بذهول .... و سرعان ما تراجع ليتقط لها صورة و كأنها عادت لتوها من دحرجةٍ على العشبِ ....و بين النباتات .....
و هي صامتة تماما ..... الى أن انتهى... و ما أن أخفض الكاميرا حتى قال بهدوء
( هل يمكنني دعوتك للعشاء ؟؟ .......... )
قالت دون لحظة تفكير
( لا ............ )
ابتسم ليقول دون مرح
( لم تأخذي وقتك في التفكير .......... )
قالت وعد بجدية
( لا أحتاج للتفكير ....... الأمور هنا لا تسير كما في الخارج ..... )
ابتسم يوسف ليقول ببساطة
( لكني لست من الخارج ..... أنا من هنا ....... )
ردت وعد بخفوت
( لا أظن ذلك واضحا .......... )
تنهد وهو يقول بجدية
( أريد الكلام معك في أمرٍ هام ....... )
قالت وعد بهدوء ذو مغزى
( تفضل ......تكلم ...... )
عاد ليخفض رأسه مجددا .......ثم تراجع ليستند الى إحدى الطاولات .....قبل أن يقول بجدية
( اليوم تصل وثيقة دعوى الطلاق لزوجك ؟؟ ...... )
شحب وجهها ... و نظرت اليه بجمود ..... لكنها قالت بخفوت
( على الأرجح .... نعم ........ )
قال يوسف دون مقدمات
( و هل أنتِ حزينة لذلك ؟؟...... )
ردت وعد بوجهٍ متوتر
( الا ترى انه أمر ..... خاص قليلا ؟؟؟؟ ..... )
نظر اليها يوسف بصمت ..... قبل أن يقول ببساطة
( ليس حين أكون راغبا في الزواج بكِ ........ )
شهقت وعد و اتسعت عيناها برعب ..... فقفزت في مكانها وهي تهتف بغضب
( هل جننت ؟؟.... هل جننت .... هل .... جننت!!!!!! .... انا متزوجة !!!...... )
استقام يوسف واقفا وهو يقول بهدوء
( اهدئي يا وعد ....... أنا فقط أحيطك علما بنيتي ما أن تنفصلي عن زوجك ..... لكن الى هذا الحين لن أتجاوز حدودي مطلقا ...... )
جرت وعد الي الباب و ما أن لحق بها حتى استدارت اليه كنمرة شرسة ..... و هي ترفع يدها هاتفة بجنون
( توقف مكانك ....... إياك أن تقترب أكثر ...... بالله عليك !! و أنا التي كنت أدافع للتو عن !!!! ..... )
لم تستطع المتابعة اكثر و هي تخرج من المكان جريا و شعرها الهائج يشاركها جنونها .....
وصلت الي جانب الشارع تلهث .... و حمدت الله على نعمة سيارتها الجديدة ذات السائق الخاص و الذي يقف منتظرا لها في كل تحركاتها الأيام السابقة .....
ففتحت الباب و ارتمت بداخلها و هي تقول بخفوت مرتجفة
(ابعدني من هنا حالا يا حسن ........ ارجوك )
قال السائق بتهذيب
( حاضر سيدة وعد .......... )
ثم تحرك بها بهدوء .... فأرجعت رأسها للخلف و هي تتنفس بسرعة ....
" ياللهي !! ...... لقد تلقت عرض زواج للتو .... بمنتهى البساطة !! ...اللعنة .... ما تلك البساطة التي تحدث بها !!! "
لم تدرك ان السائق حسن .... كان قد تلقى هاتفا فرد عليه ليقول بتهذيب
( حاضر سيدي .......... )
ثم انحنى يمينا على بعد مسافة ... قبل أن يوقف السيارة الى جانب الطريق .......
فاستقامت وعد وهي تقول بقلق
( لماذا توقفت يا حسن ؟!! ........ )
قال السائق بتهذيب
( السيد سيقود بنفسه من هنا ........... )
عقدت وعد حاجبيها و هي تقول بحيرة
( سيد ؟!!! ....... أي سيد ؟!!! ....... )
لكنها كانت تخاطب الفراغ بعد أن خرج السائق من مكانه ... أمام عينيها الغير مستوعبتين ... ليدخل آخر مكانه بقوةٍ جعلتها تقفز مكانها من ثقل وزنه وهو يرتمي برجولية جالسا .... لينطلق بالسيارة محدثا صريرا عاليا ....
نظرت وعد بذهول الى الظهر العريض الذي تعرفه جيدا ... فهتفت بقوة
( سيف !!! ...... ما الذي ؟!!! ......... )
الا أنه قال بصوتٍ أجش عميق .....
( لا أفضل أن أسمع صوتك حاليا ..... فالطريق لا يزال طويلا أمامنا .... )
فغرت وعد شفتيها بذهول .....ثم لم تلبث أن مدت يدها بسرعةٍ الى مقبض الباب و هي تصرخ بغضب و هياج
( اوقف تلك السيارة و انزلني هنا .......... حالا ..... )
الا أنه بضغطة من عنده رفع أقفال الأبواب الخلفية للسيارة فتركها حبيسة المقعد الخلفي .... مذهولة .... و كأنها تحيا كابوس ......
هتفت وعد مجددا بجنون
( أنزلني يا سيف و توقف عن مسرحياتك الطفولية تلك .......... )
الا أنه قال بصوتٍ هادىء لكن مخيف .... بل مرعب
( ارجعي ظهرك للخلف و اصمتي لمصلحتك يا وعد ............)
استولى عليها الغضب بجنون ..... فهجمت عليه تخدش وجهه بيدها الصغيرة .... الا أن قبضة يده ارتفعت لتتلقة يدها الصغيرة فضغط عليها بقوةٍ حتى صرخت ألما ... بينما تكلم بهدوء
( اجلسي بأدبك ....... هذا لو كان قد تبقى أيا منه لديكِ ......)
ثم ترك يدها التي تقرقعت مفاصلها ... فرجعت للخلف و هي تدلكها ناظرة اليه تلهث بعدم استيعاب .....
ثم همست بخفوت
( لماذا تفعل ذلك يا سيف ؟!! ...... إن كنت تريد الكلام , فأنا من سعت اليه من قبل و انت رفضت .....لماذا تفعل ما تفعله الآن ؟!! ...... )
ابتسم بقسوةٍ و عيناه تلتقيان بعينيها في مرآة السيارة .... فارتجفت بقوة ....
ثم قال بهدوء
( و من قال أنني أرغب في حديث تافه ......... أنا و أنتِ سنعمق معرفتنا ببعضنا , لأنه من الواضح أننا لم نفعل طوال الفترة الماضية من زواجنا ...... و في سبيل ذلك نحتاج لبعض الخلوة للأيام المقبلة .... )
اتسعت عيناها اكثر بذهول ..... وهي تستمع الى هذيانه ......
أنه كابوس ..... إنها تحيا كابوس .....
ثم لم تلبث أن استوعبت شيئا ما قاله للتو
الأيام المقبلة !!! ......
فاستقامت جالسة و هي تشهق هاتفة بقوة
( حفل الإفتتتاح !!!! ............. )
ابتسم سيف بوحشية وهو يقول ببساطة
( انسيه ............... )
فغرت شفتيها و هي تهز رأسها نفيا بعدم تصديق ,...... لتجده يتابع بصوتٍ لا يحمل أي أثر للمرح
( بالمناسبة ........ وصول الدعوى الى مكتبي علنا اليوم ... كانت حركة انتقام فعالة جدا ...... )
ارتمت للخلف وهي تنظر الى عينيه المفترستين في المرآة ..... و في ذهنها تتردد عبارة عادل إمام الشهيرة
" لقد وقعنا في الفخ !! ....... "
.................................................. .................................................. ..................
كان مستندا الى سيارته .... يتلاعب بميداليته الحبيبة .... الى أن شعر بها ....
فرفع عينيه اليها بصمت .... وهو يراقب اقترابها منه .....
كانت تسير شاردة ببطىء و هي تدس يديها في جيبي بنطالها الجينز الأزرق ..... بينما استلقت ضفيرتها على احدى كتفيها بفوضى غير منمقة ..... مذهلة في جاذبيتها .....
انخفضت ماديليته ببطىء ...... وهو يراها تنظر ذات اليمين و ذات اليسار بنفس الشرود ... كي تعبر الطريق وصولا اليه ..... فاستقام بقلق وهو ينوى العبور اليها كي ..... يمسك بيدها ...
الا أنها كانت قد عبرت بمعجزة و انتهى الأمر ......
رفعت ملك وجهها تنظر اليه بصمت قبل أن تقول بخفوت
( مرحبا سيد رائف ...... )
ظل صامتا قليلا ينظر اليها قبل أن يقول بهدوء
( مرحبا يا ملك .......... كيف حالك ..... )
أومأت برأسها بصمت دون أن تجد القدرة على ايجاد الوصف المناسب ....
فقال رائف بخفوت
( كيف حال أختك الآن ؟؟ ....... )
ابتسمت ملك رغما عنها و هي تقول بخفوت
( كالعفريت ........ لا تكل و لا تتعب من العمل ..... )
ضحك رائف بخفوت .وهو يقول
( جيد .......... )
ثم لم يلبث أن صمت ينظر الى وجهها المطرق الشاحب ... ليقول بعد فترة
( أشكرك أنكِ خرجتِ لمقابلتي ........ )
رفعت وجهها الشاحب اليه مبتسمة بحزن و هي تقول
( بل أنا من أشكرك على وقوفك بجواري الايام الماضية ..... منذ مرض وعد .... )
رفع حاجبيه في حركة صامتة ... وهو يقول
( أنا لم أفعل شيئا ...... تمنيت لو تمكنت من المساعدة حقا ...... )
نظرت اليه مبتسمة و هي تقول
( لن أنسى أبدا قدومك المشفى مع غريبة لا تعرف عنها شيئا ... و أنت محملا بالمال تحسبا لأي ظرف ... و لم تتركني حتى اليوم ...... لم يفعلها غيرك .... )
ابتسم رائف ليقول بهدوء
( مال لا تحتاجيه على ما يبدو ........ و أنا الذي كنت أتبجح بعرض المساعدة المادية دون أن أعرف بأنكِ أخت زوجة سيف الدين فؤاد .... )
ضحكت ملك قليلا و هي ترفع يدها لتبعد خصلة شعر شاردة عن وجهها ... لتقول بخفوت
( لا تدع المظاهر تخدعك ...... حتى فترة قريبة , كنت لا أمتلك أكثر من مصروف يومٍ واحد .... )
صمتت تنظر خلفه الي البعيد بشرود .... فقال رائف بصوتٍ خافت
( أعرف أنني سأكون أكثر البشر أنانية الآن و أنا أسألك عن الموعد الذي ستعاودين به زيارتنا من جديد ... )
رفعت وجهها تنظر اليه بصمت .... فقال مفسرا
( خالي ..... بإمكانه أن يكون لحوحا في بعض الأوقات .... )
ابتسمت ابتسامة فتنته .... و عاد ليذكر نفسه بعمرها مجددا
" اهدأ بالله عليك ..... أنها مجرد طفلة .... متهورة ربما , لكنها طفلة ..... تعيش قصة حب مع ابن أختك "
انعقد حاجباه وهو يشعر بالتأثير المطلوب لتلك المعلومة القادرة على قتل اللطف بداخله .....
لكن و قبل أن تتغير ملامحه قالت ملك بهدوء ... به شجاعة ...تفوق عمرها
( سيد رائف ....... الواجب يحتم علي أن أخبرك بشيء بسيط ..... )
استرعت انتباهه بلهجتها الغريبة ..... فاستمع اليها بإهتمام و هي تتابع بنفس اللهجة الهادئة
( في المرة الآتية التي سأحضر فيها الى بيتكم ..... ستكون لإشعال الحرب بداخله ..... وهي ليست صيغة مبالغة ..... )
ضاقت عيناه بقوة و هو يقول
( ماذا تقصدين ؟؟ ......... )
رفعت عينيها اليه تقول
( أنا ....... زوجة كريم ..... ابن شقيقتك ..... .... ...... )
اتسعت عيناه بقوة .... و همس بصوتٍ غير مسموع
" مااللذي ؟!! ....... "
أخفضت عينيها أمام نظراته التي توقعتها تماما ..... ثم تابعت
( ليس ذلك هو السبب الفعلي للحرب التي ستندلع ..... بل هناك أسوأ ...... )
رفعت عينيها اليه مجددا وهي تقول بخفوت
( الحرب ضدي ستكون ....لأنني أعلم بأنه ابن بالتبني ....... )
اتسعت عينا رائف أكثر ..... بينما قالت بخفوت أكبر
( لأنني كنت صديقته من نفس الدار في طفولتنا ...... و هي قصة طويلة ..... )
كانت ملامح وجهه قد تحولت الى حجر قاسٍ فقد لونه .... فقد الرأفة و التعاطف .... بينما تابعت ملك
( و هناك أسوأ بعد ...... وهو أنه لسبب قدري معين .... فأنا أحمل طفله .... بعد أكبر خطأ ارتكبته بحياتي ... )
عند هذه النقطة أطلق نفسه وهو يشعر بنارٍ سوداء اشتعلت بصدره ...... و كأن تلك الصغيرة قد ضربته في مقتل للتو .... دون أن يعرف لذلك سببا ....
تبا لها فلتذهب الى الجحيم ..... لماذا يهتم ؟!!!
على الأرجح يجب عليه الآن أن يهتم بتلك الحرب التي ستندلع لا محالة ..... بل أن لفظ حرب هو لفظ رقيق جدا لما يتخيله ....
قالت ملك بخفوت
( هل ستكون بجواري ؟؟ ........ )
لم يرد عليها .... و حين رفعت عينيها اليه بعد فترة صمت طويلة ... صدمتها عيناه ...... و النظرة بهما ....
كانت نظرة غريبة .... و كأنها سلبته هو ... شيئا يخصه ........ نظرة يأس ....
حين فغرت شفتيها لتكلم .... سبقها ليقول بصوتٍ خافت غريب
( اذهبي من أمامي ......... )
ثم استدار يعطيها ظهره ..... حينها هيأ له أنه سمع شهقة خافتة .... و كأنه صوت قنينة كرستالية رقيقة تتهشم بحزن .... ليتبعها صوت خطواتها و هي تبتعد عنه جريا تعود أدراجها ....... حينها سمح لنفسه بأن يغمض عينيه بأسى ......
.................................................. .................................................. ......................
دخلت ملك الى الxxxx .... و قبل أن تصعد .. استدارت الى أقرب جدار تستند اليه و هي ترجع رأسها للخلف , لتغمض عينيها و تسمح لنفسها بأن تشهق باكية بصمت .... دون صوت ....
رفعت يدها المرتجفة تتلمس دموعها الصامتة التي حنثت بقسمها ..... لاعزاء قبل الثأر ....
انتفضت فجأة على صوت رنين هاتفها .... فأسرعت تخرجه من جيبها و هي تظنه الغريب الطيب يعود اليها ليساعدها .... لكنه لم يكن ....
ظلت تنظر الى الرقم طويلا .... قبل أن ترد بصوت ميت ....
حينها اندفع جنون العالم في أذنها وهو يهذي كالمجنون
( ليس من الحكمة ما تفعلينه مليكة ...... لو كنتِ تعرفينني جيدا لأدركتِ أنه ليس من الحكمة اثارة جنوني بهذا الشكل .... شهر .... شهر بأكمله تمنعينني عنكِ و أنا أنتظر أن تهدأي و تتعقلي ..... شهر مليكتي من ثلاثين يوما ....... ثلاثين يوما و أنا بعيدا عنكِ ...... انت زوجتي حالا ..... و لو لم تأتي الي فسوف .... )
قالت ملك بصوتٍ ميت
( لا داعي ..... سآتي ..... أخبرني بالموعد الذي تريده و سآتي لبيتك .... )
ساد صمت متوتر بينهما .... حينها قالت ملك بصوتٍ قاسٍ مفاجىء ... شرس
( أين قسيمة زواجنا يا شادي ؟ ........... )
عاد الصمت ليسود بينهما .... حينها اخرجت نفسها المحتبس منذ اكثر من شهر .... و هي ترى الحقيقة المرة بنفسها .... الى ان قال أخيرا بخفوت
( لا قسيمة زواج يا ملك ...... كان زواجا عرفيا ..... )
أغمضت عينيها و هي تبكي بصمت .... دموع حارقة انسكبت على قلبها الميت ....
↚
( هل يمكنك على الأقل النظر الي ؟!! ....... حاتم ..... حاتم ..... )
كان غاضب ... و بشدة ..... استطاعت الشعور بغضبه واضحا حتى أنه كاد يلفحها بوهجهه الحارق ....
لقد أكملا اليوم في شبه خصام ..... على الاقل من ناحيته هو , ....
منذ أن كانت جالسة في مكتبه و عرضت عليه اقتراحها المتهور ...... وهو يبدو كالمجنون الصامت المكبوت .....
العبارة الوحيدة التى هدر بها ... بذهولٍ يحمل ذبذبات الخطر
( ماذا ؟؟!! ........... هل أنتِ في كامل قواكِ العقلية ؟!!! ..... )
لتبدأ بعدها في محاولة الإقناع التي حفظتها عن ظهر قلب .... الا أنه رد بآخر كلمات سمعتها منه اليوم
( سنتكلم في البيت .......... و أنصحك ألا تجادليني حاليا يا كرمة ...... )
من ذلك الوقت و الوضع الصامت بينهما توتر و تأزم و اضطرت الى الذهاب لمتابعة عملها كارهة الى أن انتهت اليوم ....
و حين كانت تلملم أغراضها بوجهٍ واجم شاحب .... شعرت بقوةٍ تأمرها بأن ترفع وجهها في التو .. و ما أن فعلت حتى وجدت حاتمي يقف في اطار باب مكتبها المفتوح ....
صامتا ينظر اليها نظرة غريبة ... بوجهٍ جامد و عينين ثاقبتين .... تكادان أن تخترقا روحها و تعريها من صلابتها الزائفة ....
ابتلعت ريقها و هي تبتسم له ابتسامة مهتزة .... الا أنه لم يرد لها الإبتسامة , بل وقف مكانه ينظر اليها بنفس النظرة عدة لحظات قبل أن يقول بجفاء
( هيا لنغادر ........... )
ثم انتظر الى أن أقتربت منه ببطىء و قلبها يخفق بعنف و ما أن وصلت اليه مطرقة الرأس حتى مد يده ليمسك بكفها بقوةٍ لم تسمح لها بالمقاومة ... ليجذبها معه خارجا بثبات دون أن ينظر اليها ...
و كانت خطواته متسارعة يكاد غضبه يحفرها في الأرض حفرا و هي تهرول خلفه محاولة مواكبة خطوات غضبه ....
فهمست بتردد و هي تشعر بالإحراج من نظرات الجميع
( حاتم ...... الجميع ينظرون الينا , اترك يدي )
الا أنه لم يرد ... و كان ان استشعرت غضبه لا يزال قويا , دون أن يظهر ذرة منه .... فهمست مجددا و هي تركض خطوة حتى وصلت لكتفه فارتفعت على اطراف اصابعها و هي تهمس
( هل يمكنك على الأقل النظر الي ؟!! ....... حاتم ..... حاتم ..... )
لكنه لم يرد .... بل تابع بطريقه بصمت الى أن وصلا سيارته , ففتح لها الباب و ترك يدها دون أن يضغط عليها كما اعتاد ان يفعل ...
كانت تعلم أن له طريقة معينة في الامساك بيدها ... لا يعلمها غيرها , فقبل أن يترك يدها كل مرة , كان ابهامه يتحسس نبض رسغها ... ليتركها بعدها على مضض ...
جلست كرمة بوجوم .. و هي تراه يدور حول المقدمة ليجلس مكانه صافقا الباب خلفه ...
مرت الدقائق بهما صامتة و هي تنظر اليه بقلق ... كانت الحكمة تحتم عليها الا تنطق بشيء في تلك اللحظة الى أن يهدأ ... و بالفعل التزمت الصمت عدة دقائق اضافية , قبل أن يحثها غبائها المعتاد على أن تهتف بنفاذ صبر غير قادرة على تحمل ثقل هذا السكون البغيض
( على الأقل رد يا حاتم ...... لا أطيق حرب الأعصاب تلك .... )
نظر اليها نظرة أجفلتها و جعلتها تتراجع بأدب و هي تقول بصوت خافت وديع ... مهتز قليلا
( كان مجرد اقتراح يا حاتم ......... هل رأيتني على متن الطائرة مثلا ؟!! ......)
اشتعلت عيناه بصورةٍ مخيفة ... فابتلعت ريقها و هي تشعر بأنها تزيد الأمر سوءا بكل لحظة ....
ثم نظرت أمامها بصمت ....
اذن ماذا ؟!! .... هل هكذا سيكون الأمر دائما ؟!! .... ارهاب فكري و مصادرة آراء !! .....
التفتت اليه و هي تقول بمزيد من جرعة غباء نادرة
( هلا رددت على من فضلك ........ أبسط حقوقي أن أعلم لماذا تتم مصادرة اقتراح يخص حياتي ..... )
و ياليتها ما كانت ضغطت عليه تلك الضغطة الأخيرة .... فقد كانت القشة التي يحتاجها كي ينفجر بها ... فصرخ بغضب وهو يضرب المقود بقبضته ...
( أبسط حقوقك تناليه بعد أن تدركين أولا ما هي واجباتك .... أنتِ زوجة .... و هناك كائن يطلق عليه لقب زوجك إن كنتِ نسيتِ ذلك ....... )
هتفت كرمة بقوة
( أنا لم أنسى ...... إنها فقط فرصة سبق و تناقشنا بها .... لكن هذه المرة أريدك فقط أن تنظر اليها من باب المصلحة ..... )
التفت اليها بعنف... فتراجعت الى الخلف قليلا و هي ترى أن غضبه يتزايد بصورة غير مسيطر عليها .... و ما أن أعاد وجهه الى الطريق حتى شتم بقوة وهو يتفادى سيارة كانت تميل اليهما بغباء ...
شهقت كرمة و هي تتمسك بقعدها بكلتا كفيها ... هامسة و هي تغمض عينيها مودعة عمرها ...
( ياللهي .... ربما .... من الأفضل لوقمنا بتأجيل النقاش حتى نصل للبيت ..... )
الا أن الوقت قد تأخر جدا على محاولة التفكير بتعقل ... حين هدر حاتم بقوة
( يوم تناقشنا كنتِ امرأة غير متزوجة ....... و مع ذلك رفضت ذلك الإقتراح رفضا باتا , فكيف تفكرين الآن .. مجرد التفكير في الأمر ..... )
نظرت اليه كرمة و هي تهتف مدافعة
( الأمر ليس بمثل تلك الخطورة يا حاتم ..... أن أسافر لنيل فرصة عمل أفضل و أطور من نفسي .... العديد من الأسر تحيا بطبيعية رغم سفر الزوجة ....... هناك عطلات و أعياد .......)
رفع حاتم رأسه عاليا و هو يصدر صوت استهجان و احتقار ... هاتفا بسخرية
( عطلات و أعياد !!!! ........ ربما يتعين علي اذن أن أحمل بجيبي رزنامة الأعياد و العطلات الرسمية كي أعرف المواعيد التي سأجتمع فيها بكِ ....... )
احمر وجه كرمة قليلا من لهجته السوقية و معانيها الواضحة .....
لكنها تكلمت بجدية و قوة تدافع عبثا عن وجهة نظرها البائسة
( سأعود اليكما في العديد من الأجازات ... و أنتما قد تأتيان الي حين ترغبان في السفر للترفيه .... سنقضي معا أوقاتا رائعة..... العديد من الأسر تحيا بتلك الصورة يا حاتم ... و أنا لا أراه عيبا ابدا ..... )
صرخ حاتم بغضب و جنون و هو يضرب المقود مجددا
( العديد من الأسر المحتاجة لذلك يا كرمة ...... حين لا يكون هناك بديلا غير دخل الزوجة ..... )
هزت كرمة رأسها نفيا بقوة و هي تهتف
( لا يا حاتم ..... ليس الإحتياج شرطا , ... العديد من الأزواج يسمحون بسفر زوجاتهم طلبا لفرصة عمل او دراسة أفضل ..... فقط فكر في الأمر .... )
برقت عيناه غضبا و احمرتا بهياج و هو يصرخ
( أفكر !! ... أفكر !! ..... مجرد عرض هذا الإقتراح هو إهانة الى .... الى زواجنا الذي عليك البدء في محاولة احترامه ...... )
هتفت كرمة
( لا تصرخ ......... )
صرخ حاتم بجنون
( أنا لا أصرخ ........ )
حينها صرخت هي
( بلى أنت تصرخ ........ )
شتم حاتم بقوة وهو ينظر من نافذته حين توقفت السيارة عند اشارة مرور حمراء .... فلاحظ أن هناك أسرة كاملة ينظرون اليهما من سيارة مجاورة متوقفة .... فنظر اليهما حاتم بقوةٍ عدة لحظات قبل أن يهتف بحدة
( ماذا ؟ّ!! ....... )
حينها التفت كل أفراد الأسرة ناظرين أمامهم بسرعة ..... فهمست كرمة و هي تلهث و كأنها عائدة من سباق للجري
( ياللهي !! ........ هذا رائع ..... هذا فعلا رائع ...... )
التفت ينظر اليها بقوة و لهيب غضبه يكاد أن يصهر بشرتها بجنونه ... و فتح فمه ينوي الصراخ مجددا ... الا أنه عاد يصمت و هو ينظر اليها متنفسا بسرعة ....
ينظر الى انحناءات جانب وجهها .... تلك التي يرسمها الحزن و القلق .... و شفتها التي لا تزال تعض عليها .... ابتلاعها ريقها و حركة حلقها اللاارادية .....
ظل ينظر اليها طويلا بصمت قاتم ...... الى زوجته .....
ثم قال أخيرا بصوت جاف .... متباعد ...
( ربما تمكنتِ بكرم أخلاق اخباري عن سبب عرض هذا الإقتراح مجددا !! ..... )
التفتت تنظر اليه بتوتر ... و كان وجهه القاتم مخيفا , الغريب أنها تخافه في كثير من الأحيان .... على الرغم من أنه يقضي ايامه منذ تزوجا وهو يحاول تبديد خوفها منه .... الا أنها تخافه ... و كأنها تنظر الى السطح الهادىء فوق بركان ملتهب ....
أطرقت كرمة برأسها و هي تتلاعب بأصابعها بعصبية .... ثم قالت بخفوت
( لقد راسلني السيد مراد مجددا ..... يعرض علي فرصة العمر في الإنتقال و العمل في فرعنا بالخارج .... لقد طلب منه ترشيح أحدا و هو يرشحني بقوة ...... )
كانت ملامحه تتجمد أكثر ... تتصلب .... و عيناه تهدران بنظراتٍ غير مقروءة ....
ثم قال بصوت جامد .... غامض ....
( مراد راسلك و عرض عليكِ هذا العرض مجددا !!! .... على الرغم من معرفته بزواجنا !! و أننا لا زلنا حتى فيما يطلق عليه العامة و المرفهون اسم شهر العسل !!..... )
توترت ملامحها أكثر و هي تنظر من نافذتها ... و منها الى أصابعها مجددا ... ثم قالت بخفوت
( السيد مراد عملي جدا .... و أنت تعلم ذلك ...... لقد استشعر توتري خلال الأيام الماضية و قد حثني في رسالته الأخيرة على انتهاز الفرصة من أجل حياتنا .. و عملي ... و كل شيء .... )
كان ينظر اليها مبهوتا .....و استمر الصمت بينهما طويلا الى أن سمع صوت اطلاق أبواق السيارات عاليا ... فنظر أمامه الى أن أدرك بأن الإشارة قد تحولت الى خضراء ... فاندفع متحركا بسيارته , ناظرا أمامه ببأس و صلابة ... و بعد عدة دقائق قال بصوت خافت غريب دون أن ينظر اليها
( هل تتراسلين مع مراد باستمرار ؟؟ ........ )
نظرت اليه بسرعة ... ثم ردت بعد عدة لحظات
( نعم منذ أن سافر .... هو يراسلني على البريد الالكتروني ... يطمئن علي و يخبرني عنه ..... , الا تفعل أنت نفس الشيء و الكثير من العاملين بالمصرف ؟!! .... )
لم يرد حاتم ... و لم ينظر اليها ... لكنه قال بعد فترة
( وهو يعلم بأنكِ تعانين التوتر من حياتك الجديدة .. و عملك ؟!! .... يناقشك بها و ينصحك !! .... )
نظرت اليه بوجه شاحب ساكن طويلا ... ثم قالت بفتور
( ليست معلومات خاصة ..... مجرد أن السيد مراد منذ ان عملت معه في المصرف يهتم لأمري ... و كثيرا ما كان يسديني النصح ....... )
صمتت تنظر الى جانب وجهه الغير مقروء .... ثم قالت بصوت غريب
( يمكنك قراءة بريدي كله ......... )
لم يرد حاتم .... بل باتت ملامحه صامتة غريبة أكثر فأكثر .... و كانت كرمة تتأمله طويلا الى أن قالت أخيرا بصوت جامد
( أنت لا تثق بي ........ )
نظر اليها فجأة بتعبير وجهه الغريب ... ثم عاد ينظر امامه دون ان يرد عليها , فقالت بنفس الجمود
( نعم أنت لا تثق بي .... اعطني سبب واحد يجعلك تثق بي ؟؟ .... فما هي فترة معرفتك بي كي تثق بي حين أتعامل مع رجال آخرين !! ........... أنا لست تلك الزوجة التي تليق بك .... لست الزوجة التي تربت ببيت متماسك و عائلة قوية .... لست الزوجة التي تثير فخرك و ثقتك بها بناءا على حياتها الفاشلة التي سبقت معرفتك بها ...... )
ظل صامتا طويلا .. قبل أن يقول أخيرا بصوتٍ أجوف رنينه يكاد يضرب اذنها
( أنصحك بأن تتوقفي الآن يا كرمة ..... فأنا غاضب .... و بشدة ..... )
ارتجفت شفتيها قليلا و نظرت من نافذتها تلعن غبائها ككل يوم .... بينما ارهاق روحها يكاد أن يصيبها بالإغماء .... اليوم كان رهيب الضغط عليها .... بل كان يوما عصيبا ....
نظرت اليه بتردد .... و دون تفكير وجدت فطرتها تأمرها بأن تمد يدها لتمسك بيده الحرة و الموضوعة على فخذه القوي .....
انخفضت عينا حاتم الى يدها الممسكة بيدها ... ثم عادتا للنظر الى الطريق ....
حينها همست كرمة بداخلها بيأس و ترجي
" تحسس نبضي كما تفعل دائما ...... أرجوك .... قم بتلك الحركة الغبية الآن .... أرجووووك "
ظلت يده جامدة باردة لعدة لحظات .... و قبل أن تيأس وجدت كفه يستدير ليتلقى يدها براحته ... فضغط عليها ببطء و رفق ... بينما تحرك ابهامه على نبضها ... وهو شارد بعيد عنها بذهنه ... لكن جسده كان له رأي آخر ... فقد ظل بجوارها .. يتفاعل معها ... يشعر بألمها ... يمنحها الإشارة بأنه هنا و سيظل هنا ...
ظلت كرمة تنظر الى يده طويلا ... قبل أن تنفرج شفتيها عن ابتسامة مرتجفة .... مطمئنة ...
و حينها سكنت و هي قادرة أخيرا على الصمت .... دون قذف تلك حجرا تلو آخر بلسانها الذي يحتاج لقصه .....
وصلا الى البيت .... فأوقف حاتم السيارة و اضطر الى ترك يدها فشعرت بشعور غريب من البرد ....
و قبل أن تكلمه كان قد خرج من السيارة في صمت.... ليتركها بها بإهمال ....
خرجت كرمة خلفه و هي تناديه بقوة
( حاتم !! ......... )
لكنه لم يرد و لم يلتفت اليها و استمر في طريقه الى أن دخل البيت في صمت ..... فوقفت كرمة في الحديقة واجمة ... بائسة ....
حينها انبعث صوت من خلفها يقول بهدوء
( لا تخبريني بأنكما تشاجرتما مجددا !!! ......... )
انتفضت كرمة و هي تنظر الى محمد الذي كان يقف في آخر الحديقة ممسكا بكرته ينظر اليها بفضول
....
و حين ظلت صامتة ... ضحك وهو يهز رأسه قائلا بيأس
( لقد ضربتما الرقم القياسي في عدد الشجارات ..... لقد تفوقتِ على علاقته بأمي في مقدار شجاركما .... )
عقدت كرمة حاجبيها قليلا و هي تقول بيأس
( حقا ؟!! .......... )
رد محمد يقول ببساطة وهو يضرب الكرة في الأرض عدة مرات
( صدقا ....... أنا أتكلم لمصلحتك ليس أكثر ... )
انحنى كتفاها بإنهزام ...و ظلت واقفة بيأس مكانها فقال محمد بهدوء
( ماذا فعلتِ ؟......... )
رفعت وجهها اليه ثم هتفت ملوحة بذراعيها
( و لماذا تفترض أنني السبب ؟!! ..... نفس النظرة الذكورية المتسلطة ... اليس من المحتمل أن يكون هو من أغضبني ؟!! ....... )
رفع محمد احدى حاجبيه وهو يمسك بكرته تحت ذراعه ....ثم قال ببساطة
( لن يكون الأمر غريبا على حاتم ... فهو قادر على دفع الطيور الى الهجرة المبكرة عن موعدها ... لكن بالنظر الى حركة حدقتي عينيكِ المهتزة بقلق ... و حركات جسدك الغير مسيطر عليها .... بخلاف صوتك الرفيع و الذي جعل أسناني تقشعر للتو .... كلها اشارات تنم عن احساسك بالذنب ..... )
عاد كتفاها لينخفضا بإنهزام مجددا و هي تضع قناع المسكنة متأوهة بخفوت .... فقال محمد بهدوء
( لن تثيري تعاطفي بتلك الحركات على فكرة ..... لما لا تخبريني بما فعلتهِ ببساطة ؟؟ ..... )
عادت كرمة لتتنهد بيأس و هي تقول بغيظ
( أنت مستفز مثل والدك تماما ....... )
قال محمد وهو يرمي اليها بالكرة
( قوانين الوراثة ............. )
التقطت كرمة الكرة و هي تتأوه بعد أن ضربت معدتها بقوة ... فقالت بغضب
( و يبدو أنني سأتحملها كلها قانونا قانونا ........... )
قال محمد بنفاذ صبر
( هيا يا كمرة ..... فرغي طاقتك في ضرب الكرة و أخبريني بالمصيبة الجديدة التي تسببتِ بها .... )
تنهدت كرمة قبل أن تفك أزرار سترتها السوداء الأنيقة ثم خلعتها لتلقيها على اقرب مقعد خيرزاني ... و بقت بالقميص الأبيض الحريري ... ثم رمت بحذائيها لتتمتع ببرودى العشب الأخضر الندي ....
فألقت اليه الكرة ليتلقاها بسهولة ... و انحنت للأمام تقول بامتعاض
( رجاءا حاول الحفاظ على خريطة وجهي هذه المرة في ترتيبها السليم يا محمد .... اتفقنا ؟؟ .... )
و كالعادة لم تكن قد أكملت عبارتها قبل أن تنطلق الكرة كمدفعية لتضربها مباشرة في صدرها ...
تأوهت كرمة و صرخت عاليا
( محمد !!! ........ توقف عن ذلك الغباء في الضرب , سينتهي بي الأمر مصابة بعاهة مستديمة !! ... )
هتف محمد بدهشة
( حاولي صدها بدلا من تضيع الوقت في الثرثرة !!! .... أنا حتى أصوبها اليكِ مباشرة الى أن تتعلمي كيفية الصد ... فماذا أفعل بعد !! ..... انتِ فاشلة كرويا بطريقة ميؤوس منها .... )
ألقت اليه بالكرة بغضب ....ثم انحنت مجددا و هي تشير اليه بيديها كي يركل الكرة ... الا أنه قال هاتفا أولا
( اذن ...... ماذا فعلتِ ؟؟ ......... )
مطت شفتيها بتوتر قليلا ثم هتفت قائلة
( لقد أغضبت والدك بشدة ............. )
رفع محمد حاجبيه وهو يهتف مذهولا
( حقا !!! ...... لولا أن أخبرتني بذلك للتو , لما كنت حزرت أبدا .... خاصة و أن دخوله الساحر الى البيت تسبب في بث ذبذبات طاقة سلبية مما جعل الجو مكهربا ..... )
عقدت حاجبيها و هي ترفع يديها لتقول
( ماذا تقول ؟!! ....... اركل الكرة و أنت صامت يا محمد رجاءا .... )
ركل اليها الكرة ... لكنها كانت قد اصيبت بالرعب منها فضمت كفيها و هي تنكمش على نفسها في اللحظة الأخيرة ... هاتفة بذعر
( " يا ماما " !! ....... )
فضربت الكرة ذراعها مما جعلها تتأوه عاليا و هي تدلك ذراعها قافزة من شدة الغضب و الألم ...
بينما انحنى محمد على نفسه ضاحكا بشدة وهو يضرب ساقه بيده غير قادرا على التوقف ...
ثم قال بهيستيريا ضحك و عيناه تدمعان
( ياللهي !! ....... أنتِ أسوأ من تلك الفتاة جودي ...... )
وقفت كرمة مكانها عابسة و هي تدلك ذراعها ... ثم قالت بغضب
( و من هي جودي تلك أيضا ؟!! ........... )
ارتبك محمد قليلا ... بدرجة غير ملحوظة الا لعين خبيرة .... لكنه هز كتفه وهو يقول بلامبالاة
( فتاة جديدة التحقت بصفنا مؤخرا ..... لكنها فاشلة مثلك بدرجة تثير سخرية الجميع منها .... انها مدللة و انثوية جدا ... تكاد تكون مصنوعة من البسكويت مثلك .... و كلما أخافها شيء تهتف بكلمة " ماما " مثلك تماما .... )
توقفت كرمة عن تدليك ذراعها و هي ترفع احدى حاجبيها لتقول باهتمام
( حقا !!! ...... و هل أنت تسخر منها مثل الجميع ؟!! .... )
هتف محمد عاقدا حاجبيه مدافعا
( كلا بالطبع ....... لقد أسقطها بالأمس مجموعة من الأولاد ... فجلست على ركبتيها تبكي و هي تغطي وجهها بسذاجة .... منتهى السذاجة مما جعلهم يزيدون الضحك ..... لكنني أرغمت نفسي على لملمة أغراضها و مساعدتها حتى وقفت ...... أنا أكره تلك التصرفات الأنثوية الغبية جدا ..... )
ابتسمت كرمة ببطىء و هي تنظر الى ذلك الصبي الوسيم .... ياللهي انه وسيم للغاية بشعره الأسود الناعم و بشرته البيضاء المشربة بلفحة الشمس .... و فكرت بأنه يوما ما سيكون شديد الوسامة بدرجةٍ ستوجع معها قلوب الفتيات .... كوالده تماما !! ...
اختفت ابتسامة كرمة و أجفلت بشدة و هي تصل بتفكيرها عند تلك النقطة ..... انها تتغزل بجمال زوجها !! ... بإمكانها أن تتأمله براحة و حرية .... بقميصه أو حتى بدون ..... بامكانها أن تتخلل خصلات شعره الناعم بأصابعها و تتمتع به .....
فغرت شفتيها قليلا و هي تتنفس باضطراب ..... ووجهها يحمر بإثارة غريبة ....
لقد شعرت بالغيرة الطفولية للحظة من تلك الفتاة الصغيرة التي أمسك محمد بيدها كي ينهضها ... لتجد نفسها فجأة تتذكر رجائها الصامت في السيارة لأن يتلمس حاتم نبضها !! .....
رفعت كرمة يدها كي تتلمس وجنتها الملتهبة .... و يدها الأخرى كانت تلوح امام وجهها علها تحصل على بعض النسيم الذي يبرد من اشتعال وجنتيها ....
ضحكت قليلا بغباء ودون صوت و هي تشرد بعينيها بعيدا للحظات .... ثم لم تلبث أن انتبهت لنفسها و هي تتنحنح مجلية نفسها المتحشرج ....
وضعت كرمة يديها في خصرها و هي تقول ببساطة
( أنت معجب بها ............ )
رفع محمد وجهه اليها وهو ينظر اليها بارتباك ... ثم لم يلبث أن هتف باستنكار
( لا !!! .......طبعا لا أنا أبغض الضعف و الدلال التافه ...... لقد أخبرتك للتو .... أنا أكره التصرفات الأنثوية .... بصراحة الفتيات كائنات لا فائدة لها في المجتمع و من الأفضل لو قمنا بحذفهن ...... من الحياة عامة ... )
كان ينطق الكلمة الأخيرة بصوت خافت حتى اختفى صوته بتوتر و هو يذهب كي يلتقط الكرة ....
بينما قالت كرمة بهدوء مقلدة لهجته
( كنت لأصدقك ..... لولا حركات جسدك المتوترة ... و اهتزاز حدقتي عينيك بحول مفاجىء ..... و صوتك الرفيع الذي أوقف شعر رأسي ...... )
عبس محمد وهو يقول بجدية
( لا أجد هذا الأمر مضحكا ....... أنا لست معجبا بها و الفتيات عامة يثرن غضبي بشدة .... )
قالت كرمة متخصرة و هي تمايل بدلال قليلا
( أنت تزيد التأكيد بدرجة مبالغ فيها ...... أداءك رديء جدا بصراحة ..... )
هتف محمد بغيظ
( اهتمي بمشاكلك مع حاتم و اخرجي من رأسي .......... )
رفعت احدى حاجبيها و هي تقول
( هل هي جميلة ؟!! ........... )
هتف محمد قائلا بقوة
( مطلقا ..... إنها تشبه الكتكوت منزوع الريش ....... )
تأوهت كرمة و هي تقول بأسف
( أوووه ...... يا صغيرة و مسكينة ... الا تمتلك شعر ؟!! .... لابد أن هذا مثير للشفقة جدا .... )
هتف محمد سريعا
( شعرها يتجاوز خصرها ..... المقص لم يمسه يوما ....... )
تألقت ابتسامة كرمة و هي تراه يرتبك و يصمت ... ثم قال بخشونة
( سمعتها تقول ذلك ............ )
سألته كرمة ببساطة مدعية قلة الإهتمام
( ربما ليس ناعما !! ......... )
أجابها بوجوم
( لم ألمسه ...... لكنه يبدو كالحرير ..... )
صمت قليلا ثم تأوه وهو يقول بخفوت
( و رائحته !!! ...... )
رفعت كرمة احدى حاجبيها بارتياب و هي تقول
( رائحته ؟!!! ....... هل أنت واثق بأنك ساعدتها على النهوض فقط ؟!! ....... )
قال محمد بتذمر
( رائحته قوية جدا ...... ماذا تفعلن كي تكون رائحة شعركن بتلك القوة ؟!! ..... نحن أيضا نتحمم يوميا و مع ذلك لا تبدو رائحة شعورنا بمثل تلك القوة !! ..... )
لحق حاجب كرمة بالآخر ارتفاعا و هي تسمعه متوجسة ...
هذا الولد متحرش صغير ..... لا تفسير آخر ..... هل كل الأولاد في مثل سنه يلتفتون الى مثل تلك التفاصيل , ام انه يعاني من خلل ذكوري انحرافي مبكر ؟!! .....
عضت كرمة على جانب شفتها السفلى بخبث .... ثم قررت أن ترحمه من ارتباكه حاليا على أن تطرق الى الموضوع لاحقا ... قبل أن تقع الفأس في الرأس ....
الولد في سن خطر و يجب أن تمارس سلطتها كزوجة أب متسلطة متحكمة .......
ثم قالت بهدوء
( هيا .... اركل الكرة , لكن رجاءا حكم ضميرك اولا قبل أن تفعل ..... )
و ضع محمد الكرة أرضا ... ثم ابتعد خطوة ليركلها بقوة ... فاندفعت لمعدتها مجددا حتى سقطت أرضا على ركبتها متأوهة و هي تضم ذراعيها الى بطنها هاتفة بغضب
( سأمزق كرتك تلك ...... سأمزقها بأقدم سكين بارد ...آآآآه .... )
جرى محمد اليها ثم انحنى جالسا القرفصاء الى جوارها وهو يربت على وجهها قائلا بقلق
( هل أنتِ بخير يا كمرة ؟!!! ....... قد تكوني مصابة بنزيف داخلي و قد نفقدك في أي لحظة .... )
رفعت اليه وجهها المتألم الغاضب .. ثم قالت بحقد من بين أسنانها
( يا رب ... يا رب تقفد كرتك أولا تحت اطارات حافلة هوجاء ....... دعوة من عمق قلبي .... )
ابتسم محمد وهو يقول
( أنتِ حقودة جدا ....... بالمناسبة , لم تخبريني بعد بالمصيبة التي فعلتها ..... )
اختفى غضبها قليلا .... و مكثت أرضا على ركبتيها كتلك الفتاة جودي و التي لم تراها .... بينما ملامحها اكتست حيرة و حزنا ... ثم قالت متنهدة
( أتتني فرصة للعمل بالخارج .......... )
لم تتوقع ان تبهت ملامح محمد وهو ينظر اليها بوجوم صامت تماما .... ثم قال بصوت أجوف
( هل ستتطلقان ؟!! ....... بهذه السرعة ؟!! .....)
نظرت اليه كرمة متفاجأة بردة فعله ... لكنها قالت بحيرة
( لا طبعا ....... ما الذي جلب الفكرة لرأسك ؟؟!! ...... انها مجرد فرصة عمل , لأسافر و آتي اليكما في الأجازات ...... )
أومأ محمد برأسه متفهما .... الا أن الفتور و الوجوم لم يغادرا وجهه وهو يقول بلا تعبير
( جيد ........ )
نظرت اليه كرمة بدهشة وهي تراه يخفض رأسه يتلاعب بالكرة بين يديه وهو جالسا القرفصاء أمامها .....
و ببطىء بدأت ابتسامة دهشة و حيرة ... تتجلى على شفتيها تدريجيا حتى شملت وجهها كله بإشراق و هي تنظر الى وجهه المطرق .... المحبط ! ....
كانت تبدو في تلك اللحظة جميلة مشرقة كما لم تبدو منذ سنواتٍ طويلة .... جدا .....
ضربته فجأة على ذراعه و هي تقول
( اسمع ........ أنا أتضور جوعا , هيا لنعد الغذاء سريعا قبل أن يخرج والدك من الحمام صارخا طلبا للطعام و نحن في غنى عن المزيد من غضبه في تلك اللحظة ..... )
قال محمد بفتور دون أن ينظر اليها
( حاتم لا يصرخ بسبب الأكل ..... قد يصرخ لأشياء أخرى , لكن ليس الأكل ... )
رفعت حاجبيها و هي تقول بامتعاض
( أخبرني عن ذلك ...... فلقد بدأت أكتشف أنه من النوع الذي يصرخ ..... )
صمتت ثم نظرت اليه بسعادة غريبة غير مفسرة و قالت ببراءة و دلال .... و لمحة غيرة من المدعوة جودي
( حسنا ..... هيا قم و ساعدني على الوقوف ...... من فضلك يا محمد )
كانت كلمة " من فضلك " تقطر عسلا من بين شفتيها و هي ترغب بالشعور بشهامة ذلك الولد الوسيم موجهة اليها وحدها .... و لتنتظر المدعوة جودي قليلا ....
نهض من مكانه ... فمد لها يده , فأمسكتها بسعادة وهو ينهضها واقفة ببساطة .....
فجذبت رأسه اليها وهي تعبث بشعره بمرح قائلة
( شعرك جميييييل ....... و أكاد أراهن أنه أجمل من شعر المدعوة جودي ألف مرة .... )
تذمر محمد وهو يجذب رأسه من بين يديها ... لينفض شعره الناعم الذي تراجع للخلف و الأمام بنعومةٍ و حيوية ... ثم هتف بغيظ
( توقفي عن حركات الفتيات تلك... لا أطيقها ... , ثم توقفي عن ذكر جودي , لأن اسمها يثير أعصابي ... )
ابتسمت كرمة ابتسامة واسعة بخبث و هي تجذبه اليها تتأبط ذراعه مفكرة دون صوت
" اسمها اللذي يثير أعصابك حقا ؟!! .... أم رائحة شعرها ؟!! ..... فعلا من شابه أباه فما ظلم ! "
وصلا الي المطبخ ..... لكنها تسمرت مكانها و هي ترى أمينة واقفة به تعد اللمسات النهائية من طعام الغذاء ... فقال محمد بهدوء
( آآه ..... نسيت أن أخبرك , مفاجأة ..... لقد عادت أمينة اليوم ..... )
همست كرمة بوجوم و هي تنظر اليها
( حقا !! ........... ما أجمل ذلك ! .... )
رفعت أمينة رأسها تنظر اليهما لتقول
( سيدة كرمة ..... مرحبا , أرجو أن تكون حالتك قد تحسنت ...... )
رفعت كرمة حاجب شرير و هي تقول بصوت خفيض
( أي حالة بالضبط !! ............. )
نظرت أمينة الى ملامح الشر على وجهها ... فقالت بهدوء
( لا شيء ...... ارى أنكِ في خير حال ...... سررت برؤيتك مجددا .... )
ثم التفتت الى ما تفعله و هي تتذمر من بين أسنانها
" أي حالة !! .... لما لا تخبرينا انتِ عن البكاء الهيستيري و حالة النكد ... و هذيانك المستمر ليل نهار ...
بعشر سنوات ... عشر سنوات .... اهيء اهيء اهيييييء ... عشر سنوات ..... "
اقتربت كرمة عدة خطوات و هي تميل برأسها بينما يبدو على وجهها ملامح التهديد قائلة
( هل تكلمينني يا أمينة ؟!! ........ )
رفعت أمينة وجهها الى كرمة و قالت ببراءة
( لا سيدة كرمة .... انا أدندن فقط أثناء عملي ...... )
نظرت كرمة بغضب الى ما تفعله أمينة .... ثم قالت بقوة
( لم يكن هناك داعٍ لأن تتعبي نفسك يا أمينة ...... فأنا كنت سأحضر الغذاء ... )
نظرت اليها أمينة ... ثم الى ساعة المطبخ .... فقالت بهدوء
( كنتِ ستبدئين الآن ؟!! ....... لقد بحثت في المبرد علني أجد طعام سبق اعداده فلم أجد .... لكن لا تقلقي . جيد انكِ لم تفعلي ..... هذا عملي و قد حضرت للشباب ما يحبانه ...... )
كان تنفس كرمة يزداد سرعة حتى كادت أن تنفث نارا ..... بينما قالت بقوة
( لكن كنت أود لو أعددت اليوم بعض الخضراوات مع شرائح لحم .......... )
قالت أمينة باستنكار
( و هل هذا طعام بشر ؟!! ..... اذهبي أنتِ غيري ملابسك ..... ثم تعالي لتأكلي بصمت .... )
اتسعت عينا كرمة بذهول .... لكن أمينة تابعت بخبث تصحح عبارتها
( فلا داعي لقلقك على تعبي ...... هذا عملي سيدة كرمة .... )
قالت كرمة و هي تراها تجهز وعاء السلطة ....
( أنا سأعد السلطة ...... شكرا لكِ .... )
لكن أمينة قالت ببساطة و جدية
( لا بل سأعدها أنا ........... )
جذبت كرمة الوعاء منها بقوة و هي تهتف بصوتٍ عالى
( بل أنا من سأعدها ....... )
ساد السكون المطبخ بينما جذبت كرمة الخيار واحدة واحدة بقوة و هي تلقيهم في الوعاء .... ثم وقفت تتنفس بسرعة وعيناها تبرقان بانتصار ....
بينما كانت أمينة تنظر اليها و هي هوجاء الشعرتتنفس بسرعة .... و أول زرين من قميصها مفتوحين .... و تقف على أرض المطبخ حافية .....
رفعت أمينة حاجبيها و هي تقول ببطىء و حذر كمن يعامل مريض نفسيا
( حسنا ....... لا بأس ..... لا بأس ..... لا شيء يستدعي العصبية ..... خذي هاتين الجزرتين أيضا )
استدارت كرمة بعد أن حدجتها بنظرة انتصار و تشفي ... رافعة ذقنها و الوعاء تحت ذراعها ....
لكن ما أن استدارت .... حتى تسمرت مكانها و هي ترى حاتم و محمد يقفان و ينظران اليها بدهشة و ريبة ... بينما محمد يمسك بجزرةٍ حال اندهاشه من متابعة أكلها !!
تقدم حاتم خطوة وهو يقول بخفوت
( لماذا تصرخين يا كرمة ؟!!! ......... )
توترت كرمة و التوت أصابع قدمها تحتها كعادتها دائما حين ترتكب ذنبا .... لكنها قالت بخفوت
( لم أكن أصرخ ....... كنت أصر على أمينة فقط كي تستريح قليلا .... )
ثم تقدمت الى الطاولة ووضعت الوعاء عليها بعنف زافرة بقنوط .... ها هي الآن تبدو مجنونة في نظره ....
اقترب محمد منها بحذر ليقول بخفوت وهو يمد الجزرة في يده اليها
( خذي هذه كذلك ...... لم أقصد سرقتها , كنت جائعا فقط ...... )
رفعت عينيها اليه لتهمس بأسى
( توقف أرجوك ....... ليس وقتك ..... )
لكنها جذبت الجزرة منه كي تقضمها بقوةٍ و يأس ..... و أثناء مضغها قالت بوجوم
( سأذهب لآخذ حمامي ..... ابدأوا أنتم رجاءا ..... )
ثم جرت سريعا و هي تأكل الجزرة بعنف .....
ارتمت على سريرها جالسة بقنوط ..... محدقة في البساط أمامها , لكنها انتفضت حين فتح الباب فجأة لتجد حاتم يدخل و يغلقه خلفه ...
فأطرقت بوجهها من نظرته القاتمة المتفحصة لها ..... الى أن قال أخيرا بجفاء
( هل يمكن أن أعرف سبب استعراض العضلات الذي قمتِ به منذ لحظات .... )
همست كرمة دون أن ترفع وجهها
( أرجوك يا حاتم ........... )
لكنها لم تجد رجاءا معينا كي تذكره ..... فصمتت ....
كان حاتم ينظر اليها بصمت , و هو لا يزال غاضبا من اقتراحها المتخلف .... صحيح أنه لن يقبل حتى ولو اختارت السفر و قررت التحرر من زواجهما .... لن يكون بمثل هذا التحضر .... لذا فبعدها عنه ليس ما يقلقه .... لأنه ليس خيارا من الأساس ....
لكن ما يثير جنونه هو أنها مستمرة في محاولة الهرب منه .... بعقلها إن لم يكن بجسدها ......
أما قلبها فمفقود الأمل فيه ....
تنهد حاتم بقوة .... ثم قال بهدوء محاولا السيطرة على مشاعره الجامحة
( كرمة ..... هل يضايقك وجود أمينة بالبيت ؟؟ ..... )
رفعت وجهها الشاحب تنظر اليه بعينين واسعتين جميلتين يعشقهما .... و قالت بسرعة و بخفوت
( لا ....لا ... لا بالطبع , أنا أعرف أنكما بالنسبة لها في مقام ولديها تماما ...... )
قال حاتم بصوت متفهم
( هذا صحيح ..... لكن لا يعني بالضرورة أن تكوني مرتاحة لها ..... فهي انسانة غريبة عنكِ ... لذا سأسالك مجددا .... هل يضايقك وجودها ؟؟ ..... )
همست كرمة بخفوت
( لا ..... لا .... صدقني ...... )
نظر اليها يدقق النظر بها و بدا غير مقتنع .... فقال
( اذن ربما من زيادة وجودها في المطبخ ؟؟ ...... يمكننا وضع القواعد , فأنتِ زوجتى و لك الحق في ادارة البيت ..... )
ارتجفت شفتيها و هزت رأسها نفيا لتهمس بصوت ناعم حزين
( لا ...... لا ...... ليس المطبخ هو السبب .... )
عقد حاتم حاجبيه ... اذن هناك سبب ... فاقترب منها ببطىء وهو يقول بصوت خافت
( اذن ما الأمر ؟؟ ........ )
رفعت كرمة وجهها اليه و قالت بصوت طفولي خافت حزين
( أعتقد أن السبب هو ....... محمد .... )
توقف حاتم مكانه و ازداد انعقاد حاجبيه ... وهو يقول بحيرة
( محمد ؟!! ...... لماذا ؟!! ..... )
ابتسمت كرمة بشفتين ترتجفان و عيناها تدمعان لتهمس باختناق
( أعتقد أنني .... أشعر بالغيرة .... على محمد , .... هل يجعل ذلك مني مثيرة للشفقة بشدة ؟؟..... كوني لم اعرفه سوى من فترة لا تذكر ؟؟ ..... )
ضحكت قليلا و هي تمد يدها لتمسح دمعة تعلقت بطرف عينيها .... بينما تأوه حاتم بصمت وهو ينظر اليها نظرة كادت أن تصهرها شوقا .... ثم قال بخفوت بعد عدة لحظات
( لا ........ بل يزيد من شدة عشقي لكِ .... )
رفعت وجهها الشاحب و هي تنظر اليه بعينين متسعتين ..... لتراه ينظر اليها بوجه حزين جامد لا يناسب ما نطق به للتو .... فبللت شفتها بلسانها و هي تشعر بنفسها ترتبك و تتلون ..... لكن ....
لكنها فوجئت بنفسها لم تعد تشعر بالنفور من اعترافه كسابق .....
عادت لتضحك قليلا بارتباك و تمسح دمعة تسللت على وجنتها بخبث .... ثم قالت بعصبية
( اشعر بنفسي غبية جدا .......... )
حينها لم يستطع مقاومة الإغراء أكثر و هو يندفع اليها ليجذبها من كتفيها بقوة حتى أوقفها على قدميها ليهبط اليها بوجهه مقبلا كل ما يطاله من ملامحها .....
عينيها .. وجنتيها ... زاويتي شفتيها ...
حتى و هي مطرقة الرأس بارتباك و خجل ... كان يستطيع أن ينهل من ملامحها المستسلمة ...
و مرت بهما عدة دقائق وهي واقفة بين ذراعيه مستسلة لقبلاته القوية لوجهها ... لا يقطع الصمت سوى صوت تنفسهما المتحشرج اللاهث ...... و ما أن أبتعد عنها أخيرا حتى كان كلاهما يتنفس بصعوبة بينما وجهها مشتعل احمرارا بشدة .... على الرغم من أنه لم يقتنص شفتيها فعليا ......
قال حاتم أخيرا بصوتٍ أجش خشن
( هيا ..... لتأخذي حمام و تستعدي للغذاء , ...... )
ثم ابتعد عنها قبل أن يستسلم لجنونه حاليا ... و يترك الغذاء و حينها سيعرف اهل البيت بما يفعلانه ....
اتجه الى الباب بسرعة , لكن قبل أن يغادر ... استدار لينظر الي رأسها المطرق بشعرها المجنون المتراقص و قال بهدوء
( لكن لا تكثري من الأكل كثيرا ..... اتركي مكانا بمعدتك حين نذهب الى فريدة اليوم .... )
رفعت كرمة وجهها الشاحب اليه و هي تقول بدهشة
( من فريدة ؟!! .......... )
رد حاتم ببساطة
( ابنة خالتي ....... لقد وضعت مولودا منذ فترة قريبة و سنذهب لنهنئها ... و ستكون فرصة كي يتعرف عليكِ باقي أقارب أمي رحمها الله ...... )
كانت تنظر اليه فاغرة الشفتين ... متسعة العينين .... و كأنها تستمع اليه من كوكب آخر !!
أقارب !!! .... أي أقارب !!! .... هل يمتلك أقارب !!! .... لا تريد أقارب !!!!
لا تريد المزيد من الأقارب ...... لو كانت تعلم أنه يمتلك اقارب لما تزوجته منذ البداية .....
هتفت كرمة فجأة بهلع
( لا أريد يا حاتم ..... أنا .... أنا .... احم احم .... أشعر أنني سأصاب بالسعال و لست في حال جيد .... )
استدار اليها ... يدقق النظر في وجهها الكاذب ... الجميل بكل ملامحه و كذبه ...
لكنه قال بجفاء دون أن يسمح لنفسه بالتعاطف معها ...
( بل سنذهب يا كرمة ...... لقد كانوا غاضبين بسبب زواجنا السريع و عدم دعوة احدهم ..... )
" أقارب ... و غاضبين أيضا !!!! .... إنه كابوس !!! "
رفعت كرمة وجهها و هي تنظر اليه متوسلة ... لكن توسلها لاقى ملامح جافة وهو يقول متابعا
( هيا ..... لا تتأخري ........ )
ثم خرج .... تاركا اياها في الغرفة بوجهٍ شاحب .... تتسائل عن موعد انتهاء هذا اليوم .... و انتهاء محاكمة الناس لها .....
.................................................. .................................................. .....................
وقفت في المصعد تتطلع الى الارقام المضيئة بوجهٍ شاحب .... بينما كانت قبضة يدها تنقبض بتوتر و تشنج ...
لا تعلم أن حاتم كان يراقبها بصمت .... مدركا لكل لحظة توتر تمر بها .... من شحوب وجهها و اتساع عينيها
كانت تبدو الليلة ذات جمال خاص و هي ترتدي ثوبا كلاسيكيا لونه ازرق داكن .... مزين من الوسط بشريط حريري يبرز نحافة خصرها ... و يبرز امتلاء وركيها الفاتن ....
يكاد يتعدى ركبتيها طولا .... و على الرغم من الجوارب السوداء التي ترتديها , ....
الا أنه كان يشعر بالضيق من هذا الفستان بشدة .... فهو يجعلها أنثوية بدرجةٍ مهلكة .... ذات مقومات جبارة!!! ....
انعقد حاجبيه و هو يشتم نفسه على عدم منعها من ارتداء هذا الفستان قبل نزولها ... على الرغم من أنه لم يكن كاشفا ... الا أنه كان مهلكا ... و كان عليه أن يثق بحدسه ....
تكلم أخيرا كي يخفف من شعوره بالضيق من جمالها الأخاذ ....
( كرمة ........ هل أنتِ بخير ؟؟ ...... تبدين شاحبة )
أجفلت كرمة قليلا عند سماع صوته .... فأخفضت نظرها من الأرقام المضيئة , الى وجهه ....
و كم بدت طفولية بريئة و تحتاج لمن يمسك بيدها .....
لكنها أخذت نفسا مرتجفا و هي تبتسم قليلا لتهمس بصوت خافت
( أنا بخير ....... لن أخذلك , لا تقلق .... )
ازداد انعقاد حاجبيه قليلا ... وهو يقول بوضوح
( لست قلقا .........)
عضت على شفتها قليلا ... ثم أعادت النظر اليه بصمت
انه يبدو شديد الوسامة ... و الرقي .... جاذبيته قادرة على اغراق كل انثى متواجدة الليلة ....
و هذا الxxxx الذي دخلاه للتو , شديد الرقي ايضا .....
لابد أن أقاربه يماثلونه رقيا ..... لذلك سيكون الحكم عليها أفظع ....
رجل مثله كان بإمكانه الزواج من فتاة بكر و من أرقى العائلات لو أشار بإصبعه .....
بينما هي .......
عند الزواج لن ينظر أحد الى مؤهلاتها أو الإنجاز الذي حققته بحياتها العلمية و العملية ....
تبقى أنها مطلقة .... و خريجة دار رعاية ....
لقد عانت مع أهل محمد كثيرا ..... على الرغم من أنها بذلت الكثير كي تعلو شأنا ... لتمحو نظرتهم الدونية لها ....
فكيف سيكون حال أقارب حاتم ؟؟ ......
زفرت نفسا مرتجفا .... لقد اهتمت بمظهرها بشكلٍ مبالغ فيه .... عله يكفي ..
ربما لو كانت قد ارتدت شبكتها الماسية التي أشتراها حاتم ... كان ليكون مظهرها أفضل قليلا ....
لكنها لا تحب البهرجة .... خاصة أن المناسبة عائلية بسيطة ....
رفعت يدها تحك جبهتها بتوتر ..... تبا لهذا المصعد ... لماذا لا يصل ؟!! .... هل هو مسافر للمريخ ؟!! ....
مد حاتم فجأة ليقبض على أصابعها التي تلامس جبهتها .... فرفعت نظرها اليه متسائلة ... الا أنه اكتفى بأن ابتسم لها ابتسامة أرسلت الرعشة الى أوصالها ....
و طال بهما النظر .... الى أن شعرت بالحرج , فتعمدت خفض نظرها الى محمد الذي كان يعدل من ياقة قميصه الأبيض في مرآه المصعد ....
فابتسمت من خلفه و هي تمد يدها لتعبث في شعره المصفف بعناية ... فتذمر بخشونة قائلا
( توقفي عن ذلك .... لقد استغرق مني تثبيت تلك الخصلة عشر دقائق كاملة بالمثبت ...... )
قالت بصراحة
( شعرك جميل و لا أستطيع أن أمنع نفسي ....... )
قال محمد بجدية
( اجعل زوجتك تتوقف عن ذلك ......... استخدم سلطتك ... )
قال حاتم بنفس الجدية
( نعم توقفي عن ذلك ........... )
نظرت اليه كرمة بدهشة ... فقال بخفوت و ابهامه يداعب نبضها
( فأنا أيضا أغار .......... )
احمر وجهها بشدة .... لكن الإبتسامة وجدت طريقها سريعا الى شفتيها , فقال محمد ببلادة
( لقد ثبتك بكلمة ....... كم أنتن ساذجات !! ..... )
ضربه حاتم على مؤخرة رأسه وهو يقول بجدية
( احترم زوجة والدك .......... )
مط محمد شفتيه .. بينما ضحكت كرمة برقة , الى أن انتفضت ما أن توقف المصعد و فتح أبوابه ...
شعر حاتم مباشرة بتشنجها فنظر اليها و هو يضغط على كفها بقوة ليخرج معها ...
تلكأت كرمة قليلا الى أن انطلق حاتم الى بيت أقربائه ... فتوقفت و ارتفعت قليلا الى حاتم الذي اخفض رأسه اليها تلقائيا كي يسمع ما تريد قوله ... فهمست له بإرتجاف
( حاتم ...... هل يعلم أقاربك أنني .......... كنت .... بدار ..... )
رفع يده الحرة ليضعها على شفتيها ليسكتها وهو يهمس
( شششششش ........ )
همست تئن تحت يده
( لكن ................ )
قال حاتم بصوتٍ خافت لكنه قوي ....
( لا لكن ..... هذا شيء يخصنا , ... الا لو أردتِ الفخر بما أنجزته , فحينها سأكون أكثر من فخور بكِ .... )
كانا قد وقفا أمام باب الشقة ... فهمست كرمة بيأس
( حاتم توقف عن ذلك الكلام ........ )
قال حاتم بهدوء خافت
( أقسم لكِ ..... أنني أزهو بكِ كأكثر من أي شيء أنجزته بنفسي .... أنتِ شيء نادر ....أنا و أنتِ حققنا نفس النتائج تقريبا ..... على الرغم من كون حياتي كانت أسهل بكثيرمن حياتك .... فهل اقتنعتِ ؟؟ .... لقد أقسمت لكِ ... )
كان وجهها مرتفعا اليه بابتسامة حزينة سعيدة ... بتناقض غريب ... ووجه منخفض ليها بنظرةٍ باتت تعرفها جيدا ... و لم يدرك كلاهما أن الباب انفتح أمامها و دخل محمد مسرعا ... قبل أن يقاطعهما صوت أنثوي رقيق
( حسنا عرفنا بأنكما لا تزالان بشهر العسل يا سيدي ..... لكن لا داعي لتثير احقادنا أكثر ..... )
انتفضت كرمة و هي تنظر أمامها لترى شابة من عمرها تقريبا ... جميلة ذات شعر بني أشقر و عينان خضراوان ... تبتسم لهما بمودة ...
فتابعت تقول
( لكن والله معك حق تنسى الباب و العالم كله و تلك الأنثى المتفجرة بين ذراعيك ...... )
احمر وجه كرمة و ارتبكت ... بينما قال حاتم عابسا
( فريدة .... لو ستبدأين بسخفك , فسنرحل مباشرة ....... )
عبست تقول
( قل أنك أنت من تتعجل الرحيل و تبحث عن حجة !! .......... )
قال حاتم بملل
( اليس من المفترض ان تكوني مرتاحة بالفراش او شيئا من هذا القبيل بدلا من أن تفتحي الباب بنفسك و تذلي الضيوف قبل السماح لهم بالدخول !! ..... )
ردت فريدة و عيناها تتأملان كرمة بفضول
( حاتم ...... لقد مضى شهر على ولادتي ...... )
انبعث صوت رجولي من خلفها يقول
( ليس معقولا يا فريدة ..... انت تمكثين نصف ساعة كاملة عند فتح الباب كل مرة ... ارجوكِ ارحمي الرجل و دعيه يدخل .... )
برز زوجها من خلفها جذاب ... وودود الشكل و الإبتسامة ... ليسلم عليهما , ولولا أن يد حاتم اليسرى كانت ممسكة بكفها اليمنى بتملك ... لكانت مدت يدها للرجل الذي تبدو عليه الطيبة .... الا أنه لم يلحظ تمسك حاتم بيدها ... و ربت على ظهره محييا يدعوهما للدخول
لكن و ما أن تحركا خطوة حتى اندفعت فريد تمسك ذراع حاتم و تستطيل على أطراف اصابعها لتهمس في أذنه بجنون مرح أنثوي
( إنها رائعة ........ يا ابن المحظوظة !! ..... )
القى حاتم نظرة من طرف عينيه الى كرمة ... ثم همس بشرود
" نعم أنا محظوظ ..... لكن و كأن الحظ يسخر مني ...... "
خلال الساعة التي تلت .... استطاعت كرمة ان تندمج بين هذا الجمع الغفير و الذي هو اكبر من قدرة الشقة على التحمل ...
كان الجميع يتكلمون و يضحكون في وقتٍ واحد ... مما حال دون مواكبتها لهم ...
لكنها كانت مندمجة ... تبتسم هنا ... و تسمع هنا ....
لم تشعر بنفس الخوف الذي كانت تشعر به عند دخولها .... ربما لأنه لا أحد يعلم تفاصيل عن حياتها السابقة ...
و كانت عيناها تشردان معظم الوقت على فريدة و زوجها ....
فقد كان من الواضح للأعمى بأنهم مغرمان ببعضهما حد الجنون .... كلما مرت به و هي تقدم شيئا للضيوف , كان يضم خصرها اليه ... و يسرق من خدها قبلة ... فتبتسم له بخجل ..
لم تدرك كرمة ان شرودها الحزين ... كان يطعن قلب حاتم الذي كان يراقبها من بعيد .....
كان جامد الملامح ... بعينين حزينتين , وهو يعلم بأنها تفكر برجلٍ آخر في تلك اللحظة .....
لقد ثار غضبا اليوم من موضوع مراسلتها لمراد .... لأنه استطاع الإمساك بخطىءٍ لها ....
لكن الآن بأي حق يمكنه معاتبتها و الصراخ عليها .....
يصرخ بها كي لا تفكر به ؟!!! ...... يصرخ بها بأنه يشعر بالخيانة التي تفوق قدرته على التحمل ؟!! ...
لطالما كانت الغيرة على كرمة شعورا منافيا للمنطق .... منذ بداية معرفته بها ...
حين كان يغار عليها من زوجها .... و لا يملك حيلة للسيطرة على هذا الشعور البغيض ....
و الآن ها هو الحظ يسخر منه .... فكرمة أصبحت ملكه ... زوجته هو ... وهو لا يزال يغار عليها من نفس الشخص ..... ربما كان هذا هو عقابه الالهي على حبِ امرأة متزوجة .....
ضاقت عيناه بأسى مع ضيق عينيها الحزين و هي تلمح فريدة و زوجها يدخلان غرفتهما ... فانتفض قلبه بقسوة ....
و دون أن يدري اتجه اليها ليجلس على ذراع مقعدها حتى انتبهت اليه أخيرا ... فابتسمت له ...
و ما هي الا لحظات حتى خرج الزوجان ... و بين ذراعي فريدة تسكن لفة بيضاء صغيرة عمرها ثلاثين يوما .. لاقت التهليل و الترحيب من الجميع ....
ابتسمت كرمة بتحفظ و هي ترى فريدة تقترب منهما كي تناولها الى حاتم قائلة برقة
( أنتما الإثنان من لم ترياها بعد في العائلة كلها ..... هيا سلما على " نغم " )
تلقاها حاتم بين ذراعيه وهو يتأوه قائلا
( ياللهي ...... ما أجملها !! .... كنت قد نسيت مدى روعة هذا الحجم الصغير .... )
حرر احدى يديه .... ليخرج من جيب سترته سلسالا ذهبيا رائعا .... وضعه برفق حول رأس الصغيرة التي تململت و فتحت عينيها الواسعتين له ....
حينها أخذتها فريدة منه بحرص ... و السعادة و الفخر باديان عليها ... ثم قربتها من كرمة و هي تقول بمودة
( هيا احمليها يا كرمة ....... )
أجفلت كرمة ... و ارتبكت و هي تنظر للصغيرة بفزع .....
لم تكن معتادة على ذلك ....
لا تجد في ذاكرتها المريضة سوى استحالة قبول أي من شقيقات محمد بالسماح لها كي تحمل أحد الرضع و كانت تراههم جميعا بعينيها وهم يبسطون كفوفهم في خمسةٍ مفرودة كي تقيهم من حسد كرمة بما أنها لم تنجب ...
و كل مرة كانت ترى تلك الكف الخماسية الصريحة .. كانت تشعر بلكمةٍ في صدرها .... لذا اعتادت البعد عن حمل الرضع منذ سنواتٍ بعيدة ....
قالت كرمة بابتسامة مهتزة خائفة
( لا ..... لا ...... لا أجيد حمل الرضع ... حقا ....... انها صغيرة جدا و أنا أخشى أن أوقعها ..... لكنها جميلة حقا , بارك الله لكِ بها يا فريدة ...... )
لكن فريدة لم تستسلم و هي تضعها برفق بين ذراعي كرمة اللتين تلقفتاها سريعا .. و قالت
( دعكِ من هذا ...... لن يحدث لها شيء )
نظرت كرمة بهلع الى الصغيرة حمراء البشرة بين ذراعيها ... و هي تتململ بسبب تشنج كرمة الملحوظ ...
لكن مرت لحظات قليلة معدودة و كرمة تنظر الى عيني الصغيرة ... و فمها الشبيه بالفراولة و هي تبتلع الهواء .....
ففغرت شفتيها بتأوه مذهول .... و سرعان ما استرخت ذراعيها ... و شعرت بذلك الدفىء الساحر يسري في جسدها .... و هي تتحسس ذلك الجسد الصغير اللين و الدافىء كمخبوزةٍ طازجة خارجة من الموقد لتوها ...
فهمست كرمة بذهول متأوه
( ياللهي ........ )
و سرعان ما ضمتها الى صدرها ببطىء شديد و هي تغمض عينيها بقوةٍ تستشعر تلك الضمادة الدافئة المداعبة لنزيف صدرها .. فهمست مجددا بنشيج خافت
( يا ربي ما أروعها ...........)
لم تدرك أنها كانت تبكي بصمت متلذذة بتلك اللحظة قبل أن تنتهي ... و همسها لا يتوقف
( يا ربي ........ما ذلك الإحساس ؟!!!... .. )
دمعت عينا فريدة بغزارة ... بينما ضمها زوجها اليه وهو يبتسم بتأثر...
أما حاتم .... فقد شعر في تلك اللحظة بغصةٍ في حلقه تكاد تزهق روحه .... حبيبته المسكينة تتألم .... وهو لا يملك دواءا لألمها .....
انخفض بعض الصخب ... و الجميع ينظرون اليها , فعلى الرغم من تأثرهم ... الا أنها بدت كلوحةٍ جميلة ...
لوحةٍ لإمرأة تشتهي الأمومة حد البكاء في صمت .....
.................................................. .................................................. ......................
وقفت كرمة امام المرآة تنظر لنفسها بشرود ... و يديها تحاولان التعامل مع سحاب فستانها .....
الى أن وجدته معها في الصورة ..... يقف خلفها و يداه تأخذان منها المهمة ....
فارتعشت بشدة و هي تشعر بملمس أصابعه المتمهل على بشرة ظهرها ... و بدلا من أن تخفض وجهها للأمام ... وجدت نفسها تبادله النظر ... حيث كان الحوار الصامت بين أعينهما أقوى من أي حديث ....
و ما أن أتم مهمته حتى أخفض وجهه يلامس عنقها بشفتيه وهو يحيط خصرها بذراعيه ..... فمال رأسها جانبا و هي تغمض عينيها تتنهد بتعب ... مستسلمة تماما للغة الحديث بينهما ....
جسده يفهم جسدها .... أصابعه تجيد لغة الحوار .....
شفتيه تهمسان بقبلاته عوضا عن الكلمات ... فتخبرها بالكثير دون أن تتجرأ على سؤاله ....
همست كرمة تتنهد من بعيد ... من عالم آخر و هي لا تزال مغمضة عينيها ...
( يبدو أنني سأعتذر لك كل ليلة ...... أنا آسفة يا حاتم لأنني أغضبتك بهذا القدر .... )
ساد صمت رقيق لعدة لحظات ... قبل أن يهمس بصوت أجش لا يكاد يكون مسموعا فوق النبض المجنون بعنقها
( لا بأس بالإعتذار ............. )
فتحت عينيها تنظر الى صورتهما في المرآة ..... تنظر الي رحلته السافرة فوق معالمها و كأنه يرسم لنفسه خط حياة ....
فهمست بخفوت
( سأترك حاسوبي مفتوحا .... بريدي و كل شيء سأتركه لك كي تراه ..... )
كانت عبارتها عبارة عن نغمة نشاز في سيمفونية المشاعر بينهما ... فرفع وجهه ببطىء ينظر الي عينيها في المرآة .... ينظر اليها بصمت ....
الى أن أدارها بقوةٍ اليه .... يدفعها برفق حتى الصقها بالجدار ... ليرفع ذقنها بهيمنة وهو ينظر الى عينيها الحائرتين .... ليقول بشراسةٍ خافتة ...
( هناك ما يجب أن تتعلميه ...... هناك فارقا ضخما بين انعدام الثقة و الغيرة .... )
صمت قليلا ينظر اليها بجفاء .. على الرغم من المشاعر التي لا تزال مشتعلة بعينيها .. ثم تابع بصلابة أكبر
( يبدو أنني سأظل أغار عليكِ العمر كله ..... شئت أم أبيت ...... لكن لفظ الثقة , لا تذكريه مجددا حتى ولو من باب التأكيد .... لأنه أمر مفروغ منه و الكلام به , إهانة ...... )
ابتلعت ريقها تحت كفه المحيطة بذقنها و أعلى عنقها ..... ثم همست باختناق
( لقد آلمتك مجددا .... لكن..... لكنني أريد الهرب يا حاتم ..... ليس منك , لكن من كل شيء هنا .... أنا ... )
قاطعها يقول بقسوة
( أنا لن أسمح لكِ بالهرب ..... لقد تحدد مصريك معي يا كرمة .... و لن أدعك ترحلين حتى لو أردتِ .... )
رفعت حاجبيها تهمس بقلق
( حتى لو أردت ذلك يوما ؟!! ....... )
أومأ برأسه ثم قال بكل ثقة
( حتى لو أردتِ ....... الفرصة تمنح للرجل مرة واحدة بالعمر , و أنتِ كنتِ فرصتي يا كرمة ... و سأكون مجنونا لو تركتِ تفرين من بين يدي ..... ربما ستخطئين بغباء لفترة طويلة ......و سأصرخ أنا مجددا حين أفقد أعصابي ...... و ستعتذرين كل مرة.... لكني لن أسمح لكِ بالهرب يا كرمة .... ضعي تلك المعلومة حلقةٍ في أذنك ....... هل فهمتِ ؟؟ ..... )
أومأت برأسها ببطىء و هي تتطلع اليه .... و روحها تتوهج قليلا .... الآن تشعر بأن قرارها صباحا و الذي كانت متمسكة به ,عازمة على إقناع حاتم بشتى السبل ..... هو الآن يبدو كاقتراح باهت ...
حينها همست تقول
( هل تريد أطفالا يا حاتم ؟؟ ........ )
رفع وجهه اليها .... بينما انتفض قلبه بقوةٍ و عنف ... فترك عنقها ليحيط وجهها بكفيه ليقول مشددا على كل حرف
( أنا أريدك أنتِ ........لا أريد غيرك .... لا تفكري سوى بذلك .... . )
ارتجفت شفتيها ..... لكنها ابتسمت برقةٍ حزينة .... إنها المرة الأولى على الإطلاق التي تفكر فيها بأطفالٍ من حاتم ...
كانت قد نسيت معنى الرغبة في أن تكون أما ..... لقد هيأت روحها منذ سنواتٍ طويلة على تعطيل تلك الأمنية ... حتى أصبحت أمومتها مع مرور الوقت زائدة غير حية .....
أما الليلة !!! ........ فتلك المخلوقة الصغيرة التي أمسكت بها الليلة نسفت طبقة الجمود التي ترسبت مع السنوات فوق غريزة أمومتها ...
و للحظة فكرت بأنها ...... من الممكن أن تكون أما !! ...... من الممكن أن تحمل أحشائها مخلوقة مثلها ....
لقد كانت من الأنانية بحيث لم تصحح فكرة حاتم عن كونها غير قادرة على الإنجاب .....
كانت ترفض أن تهين محمد بأي صورةٍ و تبخس من رجولته .... أمام ذلك الرجل الذي يمتلك كل شيء و لم يمتلكه محمد .... حتى نال زوجته في النهاية !! ...
كانت تشعر بغضب داخلي موجه ضد حاتم في أول أيام زواجهما .... غضب غير منطقي من كون بعض البشر يحصلون على كل شيء .... و البعض الآخر لا ينال شيئا ....
لطالما فكرت أن محمد لو كان لديه ما لدى حاتم .... لاستمر حبهما ... و لأصبح في رقة حاتم أو أكثر ...
لكان تعلم احترامها ....
لكن الضعف و الإحتياج كانا يجعلان منها القبلة التي كان يفرغ بها كل غضبه ....... و كل عقده ....
أما الآن ..... الآن .....
تفتحت عيناها على امكانية أن تصبح أما !!!!!
شهقت فجأة و هي تضحك ضحكة خافتة مذهولة ... بينما عيناها تدمعان ...
فعقد حاتم حاجبيه وهو يتأمل انفعالاتها .... بينما رفعت كرمة وجهها اليه تتأمله لتهمس ضاحكة من بين دموعها
( شعرك جميل ...... أريد أن ألامسه ..... )
نظر اليها بما يشبه الذهول قليلا .. ثم لم يلبث أن همس بخشونة
( ظننتكِ لن تطلبي ذلك أبدا ...... لقد شعرت بالغيرة من محمد لدرجة أنني كنت قد عزمت على أن أحلق له شعره كاملا كي لا تلامسيه مجددا ..... )
قالت كرمة ضاحكة و بلهجة أم حقيقية
( أتغار من ابنك يا رجل ؟!! .......... )
همس حاتم بصوتٍ أجش وهو يخفض وجهه اليها
( و أغار من النسيم الذي يلامسك ...... كفي عن الكلام يا امرأة و تخللي شعري بأصابعك بعد أن أشعلتِ ناري ...... )
رفعت كرمة يديها وهي تلامس شعره مبتسمة ..... كانت خصلاته أقصر من خصلات شعر محمد ... لكنه ناعم و قوي .... فتخللته بأصابعها و هي تهمس مجددا بشرود
( أنه جمييييي ....... )
لم تستطع حتى أن تنهي آخر حرف حين التقطه بشفتيه بشراسةٍ وهو يغيب معها بعالم آخر .... لم يقطعه سوى يديه اللتين أخذتها تبعدان الفستان اللعين عن كتفيها .....
نظرت الى عينيه الجامدتين في مرآة السيارة ....
كانت أعينهما تتلاقى أكثر من تلاقي عينيه بالطريق أمامه .... كلما حانت منها نظرة الى المرآة , كان ينظر اليها مباشرة .. و كأنه يمتلك حس خاص بعينيها ....
نظرت من نافذتها بغضب وهي تتنفس بسرعة ....حيث الطريق السريع الخالي ....
لا تنكر أنها خائفة ... و بشدة ....
همست بداخلها في محاولة لتطمئن نفسها
" اهدىء يا وعد ...... إنه سيف .... لم يكن ليؤذيكِ .... "
صمتت أفكارها حين انبعث صوت بداخلها يقول ساخرا ....
" حقا ؟!!! ..... ألم يؤذيكِ من قبل ؟!! "
أظلمت عيناها قليلا و هي تشعر بالبرد .... بينما عادت لتهمس
" على الأقل ليس جسديا ..... ما يفعله جنون , و سرعان ما سيفيق منه و يعيدك .... "
نظرت الى وجهه في المرآة ... و كما توقعت ... ارتفعت عينيه لتقابلان عينيها بصلابة ....
فقالت بعنف
( ما تفعله غباء ؟!! ....... هل يمكنك أن تخبرني عما ستجنيه من تلك التصرفات الطفويلة ؟!! .... )
لم يرد عليها على الفور ... بل نظر اليها نظرة كادت أن ترعبها لولا أن تماسكت و ذكرت نفسها للمرة الألف ... بأنه سيف ! ....
حين تكلم أخيرا قال بصوتٍ خافت ... مخيف النبرات
( أنصحك أن تلتزمي الصمت خلال الدقائق الآتية .... و الا كممت لكِ فمك , فأنا في حالةٍ من النفور منكِ تجعلني راغبا في ذلك .... و بشدة ... )
اتسعت عيناها بألم و هي تنظر اليه مجفلة ...
" سيف يشعر بالنفور منها !! ...... إنها المرة الأولى التي ينطق بها كلمة مثل تلك !! "
لكنها رفضت أن تمنحه لذة الإنتصار و تجعله يشعر بأنه آلمها .... فقالت بصوت جامد مشدود
( من تظن نفسك لتحدثني بتلك ال ......... )
هدر صوت سيف بكلمةٍ واحدة
( أخرسي ............. )
انتفضت وعد بداخلها و صمتت تماما .... تريد محاربته و تقطيع وجهه بأظافرها رفضا لما يفعله .. الا أنها قررت الإنتظار الى أن يصلا الى ذلك المجهول الذي يقصده ...
دعت الله الا يكون مكانا بعيدا جدا ... كي تتمكن من العودة سريعا قبل الظلام !! ....
مرت ساعة أخرى ..... ثم نصف ساعة ..... ثم ساعتين .....
و بدت وعد تفقد قدرتها على فتح عينيها خاصة و أنه يقود متمهلا و بمزاجٍ رائق .... بينما تحول الطريق الى سفرٍ طويل ....
لذا فقد تركيزها محاولة عد الكيلو مترات .... فسقطت رأسها كوردة ذابلة و راحت في سباتٍ عميق ....
أوقف سيف سيارته بعد وقت طويل ... عند حلول المساء .....
و جلس مكانه ينظر في المرآة اليها نائمة .. تبدو رقيقة هشة .... ناعمة كزهرة البنفسج ....
نعم هي زهرة البنفسج بجمالها و حزنها ..... و كأكثر الزهور أثارة للشجن و الألم ....
زفر نفسا هائجا من شدة غضبه .. فانتفض خارجا من السيارة ليصفق الباب خلفه بقوة ... مما جعل وعد تنتفض في مكانها مفزوعة و هي ترمش بعينيها .. لتستقيم جالسة بصعوبةٍ تنظر حولها بعدم استيعاب ....
الا أن سيف لم يمنحها الفرصة كي تندهش حتى ... فقد دار حول السيارة .... و فتح بابها بقوةٍ
ليجذبها من كفيها و أخرجها ليوقفها على قدميها بفظاظة ٍ و هي تترنح قليلا ... لم تستجمع كل وعيها بعد ... ثم نظرت حولها ترمش بعينيها ....
حيث كان الظلام قد حل قليلا .... لكنها استطاعت أن ترى بيتا صغيرا لطيفا .... يبدو و كأنه بين عدة بيوت متباعدة ... متشابهة في مجمع سكني ... لكن لكل منها خصوصيته ....
كانت ترتجف من الهواء البارد .... حيث لم يتسنى لها أن تجلب سترة معها ....
و سرعان ما نظرت الى سيف تقول بقسوة على الرغم من ارتجافها
( أين نحن ؟؟!! .............. )
نظر اليها بصمت ... و لم تتبين ملامحه القاتمة من حلول ظلال الظلام عليها ... الا أنه قال بوضوح
( في بيت الطاعة ........... )
رفعت حاجبيها و اتسعت عينيها بذهول و استنكار ... ففغرت شفتيها تهمس بهذيان
( ما الذي ............. )
الا أنه قال بصوتٍ زلزل أوصالها
( تستطيعين السير الى البيت ...... أم أحملك ؟؟ .... لكن ينبغي علي أن أحذرك أولا أنني في حالةٍ من الغضب تمنعني من حملك كما يحمل الزوج عروسه .... بل سألقيكِ على كتفي كما يحمل شوال البطاطا .... )
ازداد اتساع عينيها و فمها ..... لكن و قبل أن تهمس بأي شيء يثير غضبه أكثر ... كان قد هتف بقوة مزلزلة
( تحركي ............. )
انتفضت في مكانها ... لكنها أجبرت ساقيها على التحرك باتجاه البيت بسرعةٍ .. و هي تنظر اليه خلفها كل خطوة .... الى أن تعثرت بأولى الدرجات القليلة الموجودة أمام الباب و هي تنظر اليه .... فكادت أن تسقط على وجهها ... لولا أن امتدت ذراعاه لتمسكان بها بقوةٍ و ما أن وقفت حتى صرخت بغضب و هي تضرب ذراعيه
( أبعد يديك عني تبا لك ........ لا أصدق ما تفعله ..... )
لكنه كان قد نظر الى يدها حيث ضربت ذراعيه دون أن يتفوه بحرف .... و قد اختفت تعابير وجهه بحلول الظلام أكثر ...
فتقدمها ليفتح الباب و يفسح لها الطريق كي تمر دون أن يبدي أي ردة فعل .....
دخلت وعد الى المكان المظلم .... فصدمتها برودته القارصة ...
كتفت ذراعيها و هي تدلكهما بقوةٍ تنتظر عند الضوء الضعيف المنبعث من الباب .... تراقب خيال سيف الضخم .. الذي لحقها ليفتح لوحة في الحائط بجوار الباب ... اخذ يفتح مفاتيحها الى أن عم الضوء في المكان ... ثم أغلق الباب بالمفتاح ليضعه في جيبه ببساطة !! ...
تقدمت وعد خطوة و هي تنظر حولها ... كان بيتا بسيطا جدا ... يكاد يحتوي على الأساسيات فقط ...
بساط واحد كبير دافىء الالوان ... بعض المقاعد الانيقة التي تليق ببيت مصيف ....
تنفست بارتجاف و هي لا تزال تنظر حولها ... الى أن وجدت سيف يتحرك بحرية تماما متجاهلا وجودها ... ليشعل مدفأة كهربائية ... ثم عدل من وضع كابلات تلفاز حائطي ضخم ....
وقفت وعد تنظر اليه بتجمد .... تراقب تجاهله المتعمد لها .....
فتراجعت حتى وجدت كرسي هزاز خشبي ... جلست عليه بصمت ... تنتظر انتهاء تلك المهزلة ....
و بالفعل ما أن أنتهى حتى اتخذ مقعدا مقابلا و مال الى ركبتيه ينظر الى عدة أوراق و بطاقات خاصة بالبيت ...
بينما ظلت وعد تتأرجح ببطىء و هي ترمقه بنظراتٍ قاسيةٍ .. و ملامح فاترة باردة ... ... تكاد أن تزيد الجو صقيعا ... لكنه على ما يبدو لم يشعر بها إطلاقا ....
و حين طال الوقت و شعرت بأنها غير قادرة على تحمل تلك الحرب النفسية الباردة التي يخضعها اليها بسادية ..
قالت بهدوء منقطع النظير ..
( ماذا نفعل هنا تحديدا يا سيف ؟! ........ )
لم يبدو أنه قد سمعها لعدة لحظات ... لكن أخيرا رفع رأسه ليقول بهدوء ينافس هدوئها
( نحن هنا .... في بيتنا ..... أليست تلك إجابة على سؤالك ؟!! ..... )
ظلت تتأرجح ... و هي تنظر اليه دون أن تهتز عضلة بملامح وجهها ثم قالت مجددا
( هذا بيت خاص بالمصيف .... لذا فلا .... هذه ليست إجابة على سؤالي , لكن لما لا أجرب سؤالا آخر ... ماذا تريد مني يا سيف ؟؟ ..... )
ظل ينظر في الورق المسجل أمامه باهتمام ... ثم رفع عينيه اليها , ليقول بصوتٍ جاف
( و ماذا يريد الزوج من زوجته ..... سوى أن تكون زوجة ؟!! ..... )
ردت وعد مباشرة
( زواجنا انتهى يا سيف ...... زواج و لم يكن ناجحا بما فيه الكفاية , فلماذا تحارب في قضيةٍ خاسرة ؟!! ... و أنا لا أراك ذلك المنهار من فشله بالمناسبة .... فلا تدعي ذلك .... )
فرد سيف ذراعيه وهو يمط شفتيه قائلا بحيرة
( لأنه ببساطة لم يفشل ..... فلماذا أنهار ؟!! ...... أنا هنا ..... و أنتِ هنا .....فماذا ينقصنا بعد ؟!! ..... )
رفعت وعد ذقنها تقول بحدة بعد أن استفزها هدوؤه
( هناك قضية خلع رفعت ...... ووصلك اعلانها اليوم ...... )
سكتت فجأة و هي تشعر بأنها قد أستفزته اكثر مما تتطلب الحكمة .... لكنه لم يغير من ملامح وجهه الجامدة ....
و قال بصوتٍ خطير ...
( آآآه الإعلان الذي وصلني علنا .... أمام كل الموظفين ..... )
سحبت نفسا مرتجفا دون أن تحاول إظهار خوفها .... فقالت بحدة
( سيف ..... لما لا تكن واضحا معي .... ماذا تريد مني و لماذا هذا الإسلوب الهمجي في طريقة احضاري الى هنا ؟؟ ..... )
رفع وجهه اليها ... ينظر الى عينيها مباشرة .... نظرة اجفلتها و قبضت قلبها ... ثم قال بإختصار لا يحمل أي ذرةٍ من الهزل أو السخرية ...
( أريد منكِ أن تتعلمي معنى أن تكوني زوجة ........ و حين تفعلين , قد أحررك بعدها .... )
عقدت حاجبيها و توقفت عن التأرجح و هي تقول بجدية
( ماذا تقصد بذلك الجنون ؟؟ ............ )
رفع وجهه ينظر الى عينيها قائلا بهدوء
( ستبقين معي هنا ...... لا هم لكِ سوى أن تكوني زوجة , تلبين طلباتي .... و تخدمينني ... و تتعلمين احترام زوجك ..... )
فغرت شفتيها بذهول و عيناها تتسعان بإستنكار ...و قبل أن تتكور شفتيها بكلمة " ماذا !! "
كان هو قد تابع
( لقد كنت كريم نفس معك .... فمررت فترة حدادك على والدك ... ثم مررت فترة مرضك الى أن أصبحت بصحةٍ جيدة في نظري .... و انظري على ماذا أحصل ؟!!! ..... اعلان من محكمة موجه الى عملي !! .... )
كانت تتنفس بسرعةٍ و غضب ... و ذهول .... تنظر اليه بعينين متسعتين .... ثم همست أخيرا بصوت مشدود كالوتر ....
( ماذا تقصد بخدمتك تحديدا ؟!! .......... )
مد يديه وهو يمط شفتيه متظاهرا بالتفكير ... ثم قال أخيرا
( كخدمة أي زوجة ببيتها .......تنظيف البيت مثلا ... ترتيب ملابسي .... اعداد الطعام ...... أشغال الزوجة الطبيعية .... )
قفزت من مكانها تصرخ بجنون
( زمن عملي كخادمة لديك ولى يا سيد سيف ....أنا لن أحمل أي بساط يخصك مجددا ..... بل أنا لن أحمل أي بساط إطلاقا .... . أنت تحلم ..... )
ابتسم دون مرح وهو يرمقها بمنتهى الهدوء , ثم قال ببراءة وهو يمط بشفتيه
( لن يصل الأمر الى حمل الأبسطة ...... المكان قليلا العدد منها .... لكن حتى لو اضطررتِ الى ازاحتها بعد كنسها .... فسأحملها لكِ كأي زوج مخلص .... )
ابتسم لها ابتسامة جليدية وهو يراقب ذهولها ... ثم أرجع ظهره للخلف قائلا بهدوء
( يمكنك البدء الآن بإعداد فنجان قهوة لي ...... أنتِ تتذكرين قهوتي بالطبع اليس كذلك ؟؟ . ... هيا اذهبي الى المطبخ على يمينك ... أريدك أن تتعاملي معه كرفيقك في الأيام الآتية .... )
ثم تجاهلها تماما .. ليعاود النظر في الأوراق التي يمسكها .... بينما وقفت هي بذهول تنظر اليه و كأنها تنظر الى شخصٍ كان يهذي لتوه ...
" أي أيامٍ مقبلة ؟!! ..... و عن أي خدمةٍ يتحدث هذا المعتوه ؟!! ... "
صرخت وعد بقوة ...
( أنت مجنون ...... أنت مجنون مصاب بلفحة شمسٍ ضربت البقية المتبقية من عقلك ...... )
لم يرد عليها ... و لم يكلف نفسه حتى عناء النظر اليها ... فاندفعت اليه و هي تنحني نحوه قابضة على ذراعي مقعده .. حتى اقترب وجهها من وجهه .... لتهمس بشراسة
( لقد أخبرتك أكثر من مرة .... أنا وضعي تغير يا سيف الدين .... أنا أصبحت أملك مالي و مشروعي الخاص... و أملك نفسي ..... أي أنني لم أعد أحتاجك ..... )
لم يرد عليها .... و لم تتغير ملامحه ... الا أنها كانت تبدو أكثر جمودا ... مشتدة الخطوط ....
و حين انهارت وعد من لا مبالاته ... أختطفت الورق من يده و جذبته بعنفٍ لتمزقه شر تمزيق وهي تصرخ بجنون ...
( لا تتجاهلني ....... كما تركتني بعد تلك الليلة ... و كما تركتني في مكتبك أيها الحقير .... الجبان .... البغيض .... ال .... ال .... أكثر أهل الأرض حقارة .... )
حينها اندفع واقفا من جلسته كالطود الذي يعلوها .... فتراجعت خطوة للخلف و هي تراه يمد يده الى حزام بنطاله ....
تراجعت خطوة أخرى وهي تراقبه بذهول وهي تراه يفتحه .... و يسحبه بكل هدوء ... بينما بدت ملامحه المتجمدة مخيفة قاتمة ....
فصرخت بهلع و هي تراقب الحزام يتدلي من يده وهو يقترب منها و عيناه تنويان الشر
( ماذا تفعل ؟!!! ....... ابتعد عني ..... )
الا انه كان قد وصل اليها .... و رفع يده بالحزام عاليا ... فصرخت وعد و هي ترفع كلتا يديها الى وجهها ... ثم صرخت مجددا و أعلى حين سمعت صوت الحزام الجلدي وهو ينزل بجوارها ليحط على الأرض بصوتٍ لاسع جعلها تنتفض بذعر ...
و حين تمكنت من فتح عينيها المذعورتين بغباء ...رأت ملامح وجهه المخيفة وهو يقول بخفوت
( بماذا نعتيني للتو ؟!! ..... كرري ما قلتيه لأنني لست واثقا من أنني أجدت السمع .... )
شهقت بقوة ... فضرب الهواء بجوارها مجددا وهو يهدر عاليا
( أسمعيني ماذا قلتِ للتو ؟؟؟ ........ )
صرخت وعد و هي ترفع يديها الى جانبي وجهها
( توقف يا سيف ...... أنت تخيفني ...... ماذا أصابك ؟!! ..... )
اقترب منها خطوة ... فتراجعت مثلها شاهقة كالأطفال .. فقال و عيناه تقدحان شررا
( ماذا أصابني ؟!!! ..... اصابني الجنون لأتزوج فتاة الحجر مثلك .... أصابني العته كي ارتبط بإبنة أبيها ..... )
صرخت وعد بجنون وهي تضرب الأرض بقدميها بطفولية
( اذن طلقني و ارتاح من ابنة ابيها ............ )
ضحك بقوة وهو يقول هادرا
( لا حبيبتي ..... لست أنا من يخرج خاسرا من المعركة .... لقد تماديتِ في الخطأ يا زوجتي الصغيرة الجميلة ... و أنتِ تظنين أن وضعك المادي الجديد التافه سيؤهلك كي تتمادي معي بتلك الطريقة .... و في النهاية ... ترسلين الي دعوة تافهة مثلك على يد محضر أمام كل الموظفين عندي ...... استعدي اذن لدفع ثمن كل تصرف دنيء لا يليق بزوجةٍ و ارتكبتهِ بحقي .... بدئا من سفرك دون اذن مني و مكوثك عند شخص غريب .. و السماح له حتى اليوم تحديدا بالتواجد معكِ بمفردكما ...... أقسم بأنني أنا من سأربيكِ من جديد يا وعد طالما أن تربية عبد الحميد قد أثمرت بتلك الصورة البذيئة ..... )
هتفت بجنون تناقض نفسها
( أنت .... لا ..... لا تخيفني بتصرفاتك ... تلك .... )
حينها رفع حزامه عاليا و ضرب الهواء بجوارها مجددا محدثا صوتا قاطعا كالسيف بجوار أذنها مما جعلها تهتف بقوةٍ و هي تقفز مكانها
( ياللهي ...... توقف عن فعل ذلك ...... )
الا أنه مد يده يرفع ذقنها بالقوةِ اليه وقد انهار قناعه الحجري ليظهر آخر سرير أسود
( هل لديكِ فكرة عن موقفي اليوم .... و جميع الألسنة تهمس عند مروري بتلك الدعوى التي ارسلتها !! ....)
هتفت بقوةٍ
( و هل لديك فكرة عن إحساسي و أنت تتركني لتخرج مع تلك الحقيرة الشقراء .... ممصوصة القوام و التي تشبه الزواحف ...... )
جذب وجهها اليه حتى كاد أن يقتلع ذقنها وهو يقول
( اذن كنتِ تنتقمين ؟!! ...... هكذا .... ببساطة ...حسنا إن كنتِ تريدين رأيي الخاص فلا زواحف هنا سواكِ أيتها الحرباءة الحقودة ... . )
اتسعت عينا وعد بذهول ... و سكن رعبها للحظة و هي ترفع يدها الى صدرها لتهمس بصدمة
( أنا حرباءة يا سيف ؟!! ........ )
أومأ برأسه قائلا بكل قوته وهو يتنفس غضبا أمام وجهها
( شكلا و شخصيا ..... مع الإعتذار لها ..... )
فغرت شفتيها و هي تنظر اليه مبهوتة ... ثم قالت بصوتٍ مختنق قاتم
( أنت تهينني ......... )
قال بلهجة مستهجنة ساخرة
( لا تأخذي الأمر بمحمل شخصي ....... انها مجرد لمحة عن شعوري تجاهك في الفترة الأخيرة .... )
ابتلعت وعد مرارتها و هي تحاول منع دموعها بالقوة .... ثم قالت بقسوة
( لو تخيلت للحظة ..... أنني سأسمح لك بلمسي مجددا بعد ما قلته للتو و ما فعلته فستكون واهما .... )
ارتفع حاجبي سيف ليقول بدهشة
( ألم تسمعي حرفا واحدا مما نطقت به للتو !!! ..... حربائتي الصغيرة .... )
هتفت وعد من بين اسنانها بإختناق
( توقف عن دعوتي بذلك .......... اقسم يا سيف بأن أجعلك تعض أصابعك ندما على ما .... )
ارتفعت يده بالحزام عاليا ليهبط به ضاربا الهواء مجددا ليلسع الأرض كالسوط ...فانتفضت و هي تغمض عينيها بينما قال هو بهدوء
( الزوجة المحترمة ...... تحترم زوجها لفظا و فعلا ..... )
فتحت عينيها تنظر اليه بصمت ..... فتسمرت عيناه للحظات على عينيها الرماديتين و المغطاتين بطبقةٍ رقيقة من الدموع .... لتنخفضا الى عنقها الطويل وهو يراها تبتلع غصة في حلقها ....
الا أنه حين تكلم قال بجفاء
( كنوع من النصيحة فقط ...... لا تحاولي الهرب .... لأن مع كل محاولة ... سأطيل فترة احتجازك هنا ... )
ظلت تنظر اليه طويلا رافضة أن تمنحه لذة سماع توسلها أو رؤية دموعها .... ثم قالت ببرود زائف
( و الى متى ستسمر فترة العقاب تلك ؟؟ ......... )
التوت شفتيه في ابتسامة و هو يقول بهدوء
( الى أن أراكِ قد اكتفيتِ ................. )
قالت وعد بإختناق أجش ...
( لابد أن أحضر افتتاح معرضي يا سيف .......... )
أصدر صوت اعتراض من شفتيه و قال
( تؤ .... تؤ ...... انسي المعارض و المشاريع و الأرقام ..... وركزي تفكيرك على كونك زوجة ... و ربة منزل .... )
هتفت بقوة و غضب
( لقد تعبت جدا . و بذلت مجهودا خرافيا من أجل تحقيق هذا الحلم يا سيف .... لا أظنك بمثل هذه القسوة !! )
قال سيف بهدوء وهو ينظر الى عينيها
( و أنا ايضا لم أظنك يوما بمثل هذه القسوة ......... )
لم ترد عليه و هي تنظر اليه بقهرٍ ... و تتنفس بسرعة ....
ظل سيف ينظر اليها قليلا ... قبل أن يتراجع بهدوء قائلا ببساطة
( الآن هيا الى المطبخ و أعدي الي فنجان القهوة .... فأنا في أمس الحاجة اليه ...... )
قالت وعد من بين أسنانها
( و ما أدراك أنني لن أبصق به أولا ؟!! .......... )
التفت اليها مبتسما وهو يقول
( لأنكِ سترتشفين منه أولا حبيبتي ......... )
و حين ظلت صامتة و متسمرة مكانها تنظر اليه نظرة تكاد أن تودي بحياته .... هتف بقوةٍ
( هيا ......... )
أجفلت بشدة .... لكنها أجبرت ساقيها على التحرك في إتجاه المطبخ و هي تشتم بكل شتيمة عرفتها يوما ....
بينما عاد سيف ليجلس على مقعده بعنف وهو يهمس من بين أسنانه ...
( اللعنة عليكِ و على جمالك ........ كيف سأحتمل ؟! ..... )
دخلت وعد الى المطبخ وهي تكاد تموت من الجنون و الغضب .... و الهلع من أن ينفذ تهديده ....
استندت الى الطاولة بكلتا يديها و هي تتنفس بسرعةٍ ....
اللعنة على غبائها !! ...... لماذا تمادت معه الى تلك الدرجة و كأنه عدوها !! ..... ها هي الآن ستتجرع كل ما اقترفته ... بينما هو .... يجلس خارجا منزها عن الخطأ واضعا ساقا فوق أخرى .... منتظرا فنجان قهوته بكل صلف .....
زفرت نفسا مرتجفا غاضبا ..... و هي تبدأ رحلة البحث عن أدوات صنع القهوة .... لتقف في مرحلة ما و هي ترتجف ... ناظرة بطرف عينيها الى باب المطبخ .... ثم تتنهد هامسة بوجوم
( ماذا فعلتِ يا وعد ؟!! ........ لقد منحتِه الفرصة كي يستهلك المتبقي بكِ ..... فهل ستتمكنين من المقاومة ؟!! ...... )
حانت منها التفاتة الى مرآه صغيرة تزين لوحة حجرية معلقة في المطبخ .... فهالها شعرها المشعث ... و به ورقة شجر خضراء تقف رأسيا كمن على رأسها ريشة ....
بينما وجهها كان شاحبا بشدة .... و شفتيها زرقاوان ... ففغرتهما و هي تهمس بصدمة
( لا عجب أن وصفك بالحرباءة !! ......... )
استدارت عن المرآة بعنف و هي تنزع الورقة اللعينة عن شعرها و تسحقها بين أصابعها .... تزفر بجنون وهي تهمس .....
( سيضيع حفل الإفتتاح منكِ ... و ها أنتِ لا تأبهين سوى بشكلك ... و بورقة الشجر الواقفة في رأسك كعلامة تحديد صفحة في كتاب ...... )
خرجت من المطبخ بعد ما يقرب من خمسة عشر دقيقة .... حاملة قدح القهوة في يدها وهو يتوازن فوق الطبق الصغير الخاص به ... و ما أن وصلت لسيف الجالس في مقعده كما تركته مع فارق استرخاءه الواضح ... حتى وضعت القدح بعنفٍ على الطاولة القريبة منه فتساقطت قطراته على الطبق ....
نظر سيف الى القدح بصمت .... و ما أن رفع نظره اليها حتى رمقته بأكثر نظراتها تجميدا للجو المحيط ... و شملته من أعلاه و حتى أخمص قدميه بنظرةٍ احتقارية قبل أن تستدير لتبتعد عنه ... الا أن صوته قصف قائلا ....
( وعد ............ )
وقفت مكانها دون أن تستدير اليه .... فلم ترى ابتسامته وهو يرمق قوامها النحيل بنظرة وله ... و حرمان ... قبل أن يعمد الى تخشين صوته مكررا
( وعد ......... )
استدارت اليه ببرود ... ضاربة كف فوق ظاهر الكف الأخرى و هي تقول بامتعاض
( تحت أمر فخامتك ...... )
مد ايده ليشير اليها قائلا بهدوء
( تعالي ........... )
ظلت واقفة مكانها مسمرة بعناد ... لكن مع حرب نظرات التحدي , زفرت بعد فترة لتقترب منه بتثاقل الى أن وقفت أمامه تنظر اليه برغبةٍ متزايدة في قتله ... الا انه مد يده ليجذبها اليه بيسر و دون قوةٍ تذكر حتى سقطت جالسة على حجره .... هتفت بغضب وهي تحاول النهوض عبثا
( اتركني ........ )
الا أن ذراع سيف كانت قد التفت على خصرها تحول دون نهوضها فقالت بغضب من بين أسنانها
( أتركني أيها السادي .... ضارب النساء ... )
لكنه نجح في تثبيتها بسهولة .. فتوقفت عن المقاومة و هي تلهث بوجهٍ أحمر غاضب ... بينما كان هو ينظر اليها متسليا .. و ما أن توقف صراعها حتى قال بهدوء ...
( هاتي القدح .......... )
زمت شفتيها و هي تحاول جاهدة السيطرة على نوبة الهمجية المتصاعدة بداخلها
الا أنه أعاد بصوتٍ خافت لكن أكثر صلابة
( هاتي القدح يا وعد ......... أنتِ لا تودين المكوث هنا طوال العمر , اليس كذلك ؟؟ .... )
مدت يدها بعنف تتناول الطبق الموضوع عليه القدح ثم دفعته الى سيف مريقة منه بعض قطرات أخرى ....
لكنه لم يلتقطه منها .... بل ظل ينظر اليه الى ان قال بخفوت
( القهوة لا تقدم بتلك الطريقة الفظة ...... أم نسيتِ ؟؟!! ...... كنتِ شديدة التهذيب و أنتِ تقدمينها لي سابقا ... )
قالت بجمود متجنبة النظر الى عينيه
( كانت تلك ساعيتك ...... لم اعد مجبرة على التهذيب معك بعد الآن .... )
الا أنه شدد يده على خصرها وهو يقول بلهجةٍ صلبة هادئة ...
(و الآن أنتِ زوجتي .... لذا هذا سبب أدعى كي تكوني مهذبة ...... امسحي تلك القطرات بإصبعك ...... )
نظرت اليه بذهول رافعة إحدى حاجبيها لتقول بقوة
( ماذا ؟!!! ........ الا ترى أنك تبالغ في الأمر يا سيف ؟!!! ......)
هز رأسه نفيا بيسر وهو يجيب
( لا حبيبتي ... لا مبالغة , ستقضين تلك الفترة معي وفقا لشروطي أنا ..... أو قد تطول بكِ الأيام هنا و تزيد خسائرك ..... )
همست بقسوة
( أنت مثير للشفقة .......... )
رد ببساطة
( و أنتِ كذلك ........ و الآن امسحي تلك القطرات بإصبعك .... )
مدت اصبعها لتمرره حول قاعدة القدح ... لكنها تراجعت و هي تقول بصوتٍ خافت مسكين
( إنها ساخنة ........... )
ضحك قليلا ثم قال بخفوت
( ليس الى تلك الدرجة ..... هيا امسحيها )
زمت شفتيها بحنق لكنها عادت لتمرر اصبعها حول القدح مجددا .... الى أن رفعته لتقول بغيظ
( هل أنت مرتاح الآن ؟؟ ....... )
نظر الي عينيها قليلا , ثم قال بهدوء
( ليس تماما .......... )
و قبل أن تسأله عما يريده بعد ..... كان قد أمسك بكفها ... ليقربه من فمه و سرعان ما شعرت به يتذوق القهوة من على اصبعها ....
ارتجف قلبها بقوةٍ و هي تشعر بتلك الرقة التي أذابت مفاصلها و كادت أن تصيبها بالإغماء ....
رفع وجهه ينظر الى وجهها مبتسما ثم قال بخفوت
( هكذا تقدم القهوة ....... )
ارتجفت شفتيها قليلا ... و الحمى تسري بأوردتها بجنون , لكنها همست
( لم أقدمها لك هكذا من قبل !! ......... )
اتسعت ابتسامته قليلا وهو يقول ببساطة
( لأنكِ لم تكوني زوجتي وقتها ........... )
أطرقت برأسها وهي ترتجف بشدة حتى أن القدح كاد أن يسقط من بين يديها المرتعشتين .... فأسرع سيف الى التقاطه تاركا الطبق بيدها .... ثم قربه من شفتيها ليقول بخفوت
( ارتشفي أولا ....... كي أتأكد من أنكِ لم تبصقي به ... )
رفعت عينيها الرماديتين تنظر اليه من بين خصلات شعرها المسافرة على كتفها ... ثم همست بخفوت
( أنت مثير للإشمئزاز ........ )
ابتسم قائلا
( بعض ما عندكم ............ )
ارتجفت شفتيها لكنها مدت يدها تمسك بيده الممسكة بالقدح ... فرفعتها الى فمها و ارتشقت رشفة منه ... قبل أن تبعده وهي تهمس بصوتٍ أجش
( هاك ............ )
حينها رفع القدح الى فمه و ارتشف منه رشفة .... ليغمض عينيه بعدها و يتراجع رأسه قليلا ....
بدا و كأنه ..... و كأنه في عالم آخر .... متلذذا بقهوته و صفير الليل بالخارج ....
و كانت هي مسحورة بجماله ..... من الظلم أن ينعت الجمال كمجرد وسامة ككل الرجال ....
كم أنت جميل يا سيدي .... بظلمك و بعدك تظل الأجمل بنظري .....
همست وعد بخفوت
( سيف ....... لماذا تركتني بعد تلك الليلة بيننا ...... لماذا عاملتني بتلك الطريقة ؟؟ .... )
ظل صامتا ... مغمضا عينيه ..... ثم قال بهدوء بعد فترة
( أتعلمين أنكِ الفتاة الوحيدة التى اعترف لها بحبي !! .......... )
فغرت شفتيها و اظلمت عيناها و هي تسمعه يتكلم بمثل هذا الخفوت الهادىء ... بعد غضبه الناري منذ فترة ...
حتى أنه ضحك قليلا .. ليتابع دون أن يفتح عينيه
( بعد هذا العمر !! ............. )
ابتسمت بحزن و عينيها تمتلئان بالدموع ..... مدت يدها ببطىء تبعد خصلة الشعر التي تخفيه عنها الى خلف أذنها .....
ساد بينهما الصمت طويلا ... حيث كان يرتشف قهوته مغمض العينين ...و هي تجلس بحجره تتأمله قدر ما تريد .... و الدفىء المنبعث من المدفأة كان قد وجد طريقه اليهما بنعومة مع أصوات الليل في الخارج ....
كان سحرا يجمعهما ..... لم تعرفه من قبل .... حتى في أكثر لحظاتهما تقاربا .....
ارتفع رنين هاتفها فجأة قاطعا السحر بينهما ... فانتفضت وعد و هي تخرجه بسرعةٍ من جيب بنطالها بصعوبة .... بينما ظل سيف ينظر اليها متربصا ... متسليا و هو يراها تحاول اخراجه من جيب البنطال .. فقال بهدوء
( ربما لو كان أوسع قليلا .... )
نظرت اليه شزرا وهي تحاول النهوض .... الا أن ذراعه الممسكة بخصرها عادت لتشدد عليها , فهتفت و هي تقاوم الى أن أخرجت الهاتف أخيرا
( تبا ......... )
ردت بسرعة و هي تقول بجنون
( ملك اسمعيني ....... ذلك الأحمق زوجي ... خطفني .... نعم خطفني .....ملك اهتمي بباقي التصميمات ... لا أعرف متى سأعود ..... ارجوكِ تصرفي مع " راوية " و حتى كرمة .... المهم أن تنتهي التصميمات .... افعلي أي شيء ... الى أن يتعقل ذلك ال ... )
شهقت حين شعرت به يقرص ذراعها بقوة فأنت
( آآه ..... آآآه .....آآآآه )
لكنه قال بهدوء
( ألم أحذرك من اللسان الطويل ؟؟ ........ )
ترك ذراعها ليأخذ الهاتف من يدها بالقوة ... ثم مال للأمام وهو يضع القدح على الطاولة ... و أثناء فعله ذلك استطاع أن يلتقط شفتيها في قبلةٍ مختلسة .... جعلتها تنظر اليه بعينين متسعتين ذاهلتين و تتوقف عن المقاومة تماما و هي ترفع يدها الى شفتيها ... و تتسائل
" ما الذي يحاول فعله بالضبط ؟!! ..... هل هذا هو الرجل الذي هددها بحزامه منذ دقائق ؟!!!! "
وضع سيف الهاتف على أذنه وهو يقول
( نعم يا ملك ...... لا تخافي , أختك معي ........ )
ردت عليه ملك بصوتٍ مهتز غريب .... به نبرة تأكيد
( جيد ..... جيد ..... خذا وقتيكما أنا سأهتم بكل شيء.......لا تتسرعا بالعودة ... .. )
أغلق سيف الهاتف وهو ينظر الى وعد بابتسامة هادئة ... ثم قال
( أعتقد أن ذلك الهاتف سيظل معي الأيام المقبلة ......... )
نهض و أنهضها معه ......
فوقفت أمامه تنظر اليه بصمت و قسوة بعد أن تبدد السحر و حدث ما حدث .... لكنه قال بلامبالاة
( تعالي لأريكِ غرفتك ........... )
أمسك بيدها و جرها خلفه الى غرفة ... فتح بابها ... و أدخلها اليها , فدخلت بصمت تنظر الى أثاثها الرقيق ذو اللون الوردي و الرمادي .....
تنهدت بقوةٍ و هي ترفع يدها الى جبهتها ... ما هذا الجنون الذي تحياه ؟!! ....
استدارت فجأة الى سيف الذي كان واقفا مستندا بكتفه الى إطار الباب ينظر اليها بعمق لم تستطع الوصول اليه ...
فهتفت متوسلة بصوتٍ عالي يائس
( الإفتتاح يا سيف ....... أرجوووك .... )
حينها استقام واقفا ليقول بهدوء ....
( تصبحين على خير يا وعد ...... )
ثم خرج ليغلق الباب خلفه .... بينما بقت وعد واقفة و هي تنظر الى الباب المغلق .... لا تصدق أنه تركها بالفعل بعد كل شيء ....
جلست على حافة سريرها بصمت و هي تحدق أمامها بوجوم ....
" هل فعلا يعاقبها ؟!! ...... هل يذيقها بعض المشاعر لمجرد أن يعاقبها ؟!!! .... "
رفعت يديها الى وجنتيها النابضتين بصداعٍ قوي ....
ثم أغمضت عينيها ... الليلة ...لن تحاول الهرب , فهي تحتاج لنومٍ عميق .... علها تستيقظ لتجده مجرد كابوس ... جميل !! ...
.................................................. .................................................. .................
وضعت ملك الهاتف بجانبها أرضا .... منذ عدة ساعات و هي لا تزال تجلس في نفس المكان أرضا ... رافعة ساقيها الى صدرها ... تنظر أمامها بعينين متورمتين ....
لا تزال المكالمة بينما تنحر من لحمها و هي حية ....
لا تزال تسمع صوتها القاسي و هي تقول دون الإستسلام الى الإنهيار
( أريد تلك الورقة ....... ورقة الزواج العرفي .... )
ساد صمت متوتر بينهما فصرخت بقوةٍ تقطعه
( أريد ورقة الزواج العرفي ....... ....... )
قال كريم أخيرا بصوتٍ خافت
( حسنا يا ملك.. سآتيكِ بها ... المهم أن أراكِ .... أنا أحتاج لأن أراكِ بشدة , كي أشرح لكِ ... كي تفهمي ..)
أغمضت عينيها بشدة ... تحاول السيطرة على الشعور بالغثيان المنبعث بداخلها .... و أخذت نفسا مرتجفا مرة و أثنتين و ثلاث .... قبل أن تفتح عينيها لتقول بصوتٍ ميت
( لا ..... بل أنا التي سآتي اليك ..... غدا سأحمل معي باقة من الورود و آتي الى بيتك .... انتظرني ...... )
ثم أغلقت الخط قبل أن تسمع صوته .....
و الآن وبعد مرور عدة ساعات ... و معرفة أن وعد موجودة ببيت زوجها بأمان ... و متوقع أن تبقى هناك لفترة .. .... كانت أكثر من ممتنة للفرصة .... التي اقتربت أكثر مما كانت تتوقع ...
ظلت جالسة مكانها .... تحتضن ركبتيها .... الى أن بدأ الليل في الإختفاء ... ليحل بدلا منه شعاع الفجر ...
رفعت وجهها تنظر بصمت الى الصباح الباكر و اشعته المتسللة من بين الستائر ....
كم كانت عمياء حين انساقت وراء هوى الأطفال ..... و تناست نفسه المهتزة , تلك التى وعدت برعايتها كأم و أخت و صديقة ....
أخفضت وجهها تنظر الى معدتها المسطحة .... فمدت يدها تتلمسها ببطىء ....
لو كان الأمر يخصها وحدها لكانت الآن تسعى لإستئصاله من حياتها بغير رجعة .... فقد هدم الثقة بينهما بأبشع الطرق ... و سحق الحب بدمٍ بارد .... و انتهكها بكل برود أعصاب ....
كل ذلك تحت ستار العشق .... و هي أيضا عشقته ذات يوم ... لكن ملعون ذلك العشق الذي يجعلها تستسلم للخطأ مرة بعد مرة في سبيل التصديق .... الرغبة في تصديق أنه سيعيد الثقة اليها مجددا ....
كان الأمل لديها لا يزال موجودا ..... والله كان الأمل موجودا
الى أن اعترف بنفسه ..... حينها سقطت صورته متهشمة بفظاعة .... تلك الصورة التي لم تكن قد تهشمت بعد رغم انتهاكه لها .....
رفعت وجهها وهي تنظر بوجهٍ شاحب الى النهار المشرق .... ثم قالت بخفوت
( ليلة امس بكيت ...... أما اليوم فلن أبكي , أعدك بذلك .... فأنا أمامي حربا ضارية في الدفاع عنك ... أنا السبب في قدومك الى حياة بتلك الطريقة الغير مشرفة ..... و أنا من ستدافع عن حقك .... لو كلفني ذلك حياتي ..... )
صمتت قليلا و هي تعاود تلمس بطنها المسطحة ناظرة اليها بصمت .... ثم همست أخيرا
( و الآن ...... هيا بنا , يجب أن نتواجد هناك منذ الصباح الباكر ... قبل مغادرة السيد للبيت .... )
و خلال دقائق .... كانت قد تحممت و ارتدت ثوبا بسيطا ...
واقفة أمام المرآة تضفر شعرها الطويل باناقة .... تضع معطفها البسيط و تضمه الى صدرها ...
الى أن وقفت في النهاية تنظر الى نفسها وهي تومىء برأسها .... ثم همست
( هيا بنا ..............)
.................................................. .................................................. ...............
دخلت ببطىء و هي تحمل باقة من النرجس و أبلغت الخادمة بوضوح أنها للسيد كريم القاضي ...
و أنها على موعدٍ معه ....
صعدت الخادمة بالباقة .... و على السلم وجدت ميساء مشعثة الشعر ... حمراء العينين ..لم تنم بعد منذ الليلة الماضية ... و التي أمضتها ما بين سكر و جنون ..
سألت ميساء الخادمة بلغتها
( من أرسل تلك الباقة ؟؟ ...... )
قالت الخادمة بتهذيب
( من السيدة بالأسفل ... الى السيد كريم , و هي على موعد معه ..... )
عقدت ميساء حاجبيها ... و هي تصرفها , ثم همست بدهشة و كبت
( على موعدٍ معه .... هنا ؟؟!! ...... هل أصبح يأتي بفتياته في مثل هذا الوقت علنا ... و الى بيت العائلة ؟!! ..... )
اظلمت عيناها و هي تنظر للأسفل .... ثم لم تلبث أن رفعت ذقنها لتنزل السلالم و هي ترفل في قميص نومها الحريري الطويل و المشقوق من الجانبين ليتطاير خلفها بملوكية ...
الى أن وجدت فتاة يافعة .... شقراء ذات ضفيرةٍ تتجاوز خصرها .... تقف مطرقة الرأس ....
و التي ما أن شعرت بها حتى رفعت رأسها تنظر الى ميساء .... أخيرا ....
هل هذه هي والدة شادي ؟!!!!! .... والدة من أي نوع ؟!!! ....
نظرت ملك الى تلك المراة رائعة الجمال و التي تقف أمامها في قميص نوم حريري بلون الخمر الذهبي ... و روب مفتوح بإهمال يناسبه ...
شعرها الأسود الأشعث ... كان طويلا مجنونا كليلة سهر .....
عيناها حمراوان كعيني ملك تماما ....
لكن الفارق في هيئتهما كان ضخما .....
كانت هي الفخامة كلها ... و ملك الرقة
كانت هي الجموح الشرس ... و ملك البراءة
كانت هي التشعث بكل جاذبيته ..... و ملك كانت الترتيب بأرق صوره ....
لكن الإثنتان كانتا حمراواتين العينين ..... و كلا منهما لم تذق لحظة من النوم ....
رفعت ميساء ذقنها لتقول بعلياء
( من أنتِ ؟؟ .......... )
ردت ملك بخفوت
( انا ملك ...... أنا هنا لمقابلة كريم القاضي , فأنا على موعدٍ معه ...... )
رفعت ميساء إحدى حاجبيها لتقول بإزدراء
( الا ترين أنكِ تأخرتِ قليلا ؟!!! ..... لقد حل النهار ., ما تلك القذارة ؟؟ ...... )
عقدت ملك حاجبيها لتهمس بلا روح
( قذارة ؟؟ ........أنتِ لا تفهمين ...... )
قاطعتها ميساء لتقول بقسوة
( بل أنتِ من لا تفهمين ..... هذا البيت نظيف , محترم .... و هو ليس مجال ربح لمثيلاتك ... اخرجي من هنا حالا قبل أن أطلب لكِ الشرطة ...... )
صرخ صوت من أعلى السلم
( أمي ........... )
استدارت ميساء الى كريم الذي كان يقف أسفل السلم ... عاري الصدر ... يلهث بجنون ... متسع العينين بذعر بعد ان اخبرته الخادمة بالسيدة التي اتت مقررة الا تتنكر بعد الآن ....
لن تنسى ملك أبدا صورته الآن .... و هي تراه مذعورا ... مثيرا للشفقة ... فامتعضت و شعرت بالغثيان ...
و انتظرت منه ان يوضح هويتها .... و درجة صلتها به ....
الا أن ميساء كانت هي من تكلمت و هي تقول بصوت صارم محتقر
( اخرج تلك الحثالة من هنا ...... وفورا ..... )
نقلت ملك عينيها بهدوء من ميساء الى كريم .... الذي كان يهز رأسه بيأس و كأنه يسألها عما فعلته !!! ...
لذا رفعت ملك ذقنها هي الأخرى و هي تقول بقوة أسمعت من في البيت ... و أولهم السيد الكبير أعلى السلم
( أنا لست حثالة سيدتي ..... أنا زوجة ابنك , كريم القاضي ........ )
نزلت ميساء من عليائها و هي تنظر اليها بذهول .... بينما رفع كريم أصابعه يتخلل بها شعره بقسوة ...
بينما صرخ صوت قوي هز أرجاء البيت من أعلى السلم
( ماذا ؟!!! ......... من تلك التي تدعي ذلك ؟!!! ...... )
رفعت ملك نظرها اليه .... رجل في منتصف الخمسينات ... وسيم ... لكنه يثير النفور بالنفس , ....
ظلت عيناها على عينيه بكل ثبات ... على الرغم من أنها بدت في تلك اللحظة ضئيلة جدا بين هذه العمالقة ... و هي وحدها تحارب .... هي و طفلها ....
رفعت ملك وجهها و هي تضع يدها على بطنها كي تستمد الشجاعة منه .... و قالت بهدوء
( لست أدعي ...... ها هو أمامك سيدي .... اسأله .... )
نظر أكرم الى كريم الذي كان يبدو في تلك اللحظة كأحد أبطال شخصيات أفلام الرعب ... ثم قال بصوتٍ خطير
( هل هذا الكلام صحيح ؟!! ....... هل تزوجت هذه الفتاة ....... )
لم يرد عليه كريم وهو يخفض رأسه .... فقال أكرم دون مقدمات
( ألق عليها اليمين ......... )
اتسعت عينا ملك بذهول .... غير مستوعبة بعد لتلك البساطة التي نطق بها أمره الخالي من الإنسانية ...
الا أن كريم همس دون أن يتجرأ على النظر اليه
( لا أستطيع ......... أبي ... الا هي ..... )
الا أن أكرم نظر الى ملك ليتولى الحوار قائلا بلهجة من اعتاد التعامل مع الصفقات القذرة و انهائها
( اسمعي .... ستسمعين قسم طلاقك و تختفين من هنا , مع شيك مصرفي محترم .... )
نظرت ملك الى كريم تنتظر منه ان يعترف بمكانتها لديه ..... الا أنه كان رافعا أصابعه الى شعره بقوة وهو يهمس بجنون
( ياللهي !! ........... )
حينها قالت ملك بكل هدوء
( أنا لم أتزوج كريم القاضي ....... انا تزوجت شادي عبد الله .... من دار الرعاية , حيث كان أول تعارفنا هناك ..... )
شهقت ميساء و هي ترفع يدها الى فمها ... بينما صرخ كريم بجنون
( ملك ........... )
الا أن صرخة أكرم كانت أعلا منهما وهو يصرخ بكلمة واحدة هزت الجدران
( أخرسا .........)
ثم نظر الى ملك ... نظرة , ادركت بها ان نهايتها ستكون دامية على يد هذا الرجل الذي قال بخفوت بطيء يكاد يكون مرعبا
( أخشى أنكِ مخطئة ...... لا وجود هنا لهذا الاسم ....... )
هتفت ملك بقوةٍ وهي تمد يدها الى صدر فستانها لتخرج السلسال الذهبي
( أنا زوجة ابنك بالتبني سيد أكرم ....... و هذا هو الدليل ... أعتقد أنك ستتعرف على ذلك السلسال )
صرخت ميساء بغضب
( سلسال ابني ............)
الا ان صوت أكرم قصف وهو يمسك بذراع ميساء بقسوة
( الجميع يغادر حالاااااااااااااااا ..... )
انتفض الخدم كل الى عمله .... ثم صرخ مجددا
( عمرااااااااان ...... أخرج تلك المحتالة من هنا ...... )
دخل رجل متوسط العمر ... غير ظاهر ان كان خادما أم حارس أمن .... فتراجعت ملك خطوة للخلف ... الا أن صوت رجالي صدح فوق الجميع
( لو كنت مكانك لفكرت مرتين قبل الإقتراب منها .......... )
↚
( لو كنت مكانك لفكرت مرتين قبل الإقتراب منها .......... )
انطلق هذا الصوت من خلف الرجل ... صوتا عميقا قويا ... ليس عاليا , لكنه كان من الثقة بحيث أغمضت ملك عينيها و هي تدرك في لحظةٍ ... أن لا أحد سيكون قادرا على أن يمسها بسوء ... الآن على الأقل ...
فالغريب هنا .....
رفعت وجهها الشاحب .. فالتقت عيناها بعينيه مباشرة .. و كأنهما تطلبان النجدة و تستشعران موقعها دون الحاجة للبحث ...
كانت عيناه صلبتان قويتان وهما تدققان النظر بها و كأنهما تسألانها بصمت
" هل أنتِ بخير ؟.... "
هل تتوهم السؤال الصامت بعد أن تمكنت في اثارة ازدرائه منها ... و الآن اشعال الحرب ببيته ....
سواء كانت تتوهم أم لا ... فقد تأوهت براحة ممتنة لوجوده ....
هل كان ضخما .. تعلو قامته فوق قامة كل المتواجدين أم أن هذا كان وهما آخر ؟؟ .....
كان يقف بباب القصر دون أن تعرف القدر الذي سمعه من تلك المسرحية الهزلية .....
لكن وجهه ... ملامحه كانت .....
كان غاضبا .... و بشدة .... لكنه كان هنا رغم كل شيء ....
وقف الرجل الضخم مترددا بعد أن سمع صوت رائف القوي من خلفه... فاستدار ينظر اليه منتظرا الأمر الجديد ...
حينها اندلع صوت أكرم قويا
( ما معنى ذلك يا رائف ؟!! ..... هل تعرف تلك القذرة ؟!! .... هل لك أي علاقةٍ بها ؟!! .... )
أغمضت ملك عينيها ... تنتظر انتفاضة كريم ... تنتظر أي أمل في يظهر من البعيد كي تحافظ على حياة ابنها ...
لكن حين تجرأت و فتحت عينيها ... وجدته يستند بتعب كرجلٍ مسن الى حاجز السلم ... لدرجة أنه انخفض حتى جلس على أولى درجاته وهو يحنى رأسه غارسا أصابعه في خصلات شعره .....
فغرت ملك شفتيها بتأوه صامت و هي تتسائل
" هل هذا هو من عشقته يوما ؟!! ..... هل هذا هو من كان يتحمل الحجز و الضرب و العقاب من أجل عينيها ؟!!! ...... هل كان رجلا في طفولته ... و أصبح سراب رجل في شبابه ؟!! ... "
نظرت الى رائف الذي نظر اليها بدوره و التقت عيناه بعينيها المعذبتين .... فقال بهدوء صلب
(أعرف أنها فتاة الورد التي حملت باقات كريم الى هنا .. و أعرف ذلك السلسال في عنقها حق المعرفة ... )
ثم صمت لحظةٍ ليتابع بصوتٍ أقوى نبرة
( أما الأهم فهو أنها مجرد فتاة صغيرة ......و لن يمسها أحد تحت سقف بيتي بسوء..... )
صرخ أكرم بقوة ...
( رائف ..... توقف عن تراهاتك تلك , .... أريد تلك المحتالة خارج البيت حالا و الإ رميتها بنفسي .... )
حينها رفعت ملك ذقنها عاليا و هي تقول بصوت مرتجف ... لكن ليست ارتجافة الخوف ... بل ارتجافة الصدمة
( لا داعي ..... أنا سأخرج وحدي , لكن اعذرني سيد أكرم ..... لو كان الأمر يخصني وحدي , لكنت دفنته و مضيت الى حال سبيلي دون النظر الى الوراء مجددا ..... )
رفع كريم رأسه ينظر اليها بعينين يائستين ... فأخذت نفسا عميقا ,و من نظرته المهزومة استمدت شجاعتها لتتابع بصوتٍ أكثر ثباتا ...
( لكنني و بكل أسف ..... أحمل طفله ...... )
عم الصمت المكان الا من شهقة مجددا من بين شفتي ميساء .... أما عيني أكرم فقد تحولتا في لحظةٍ واحدة من القسوة ... الى شيء يفوقها خطورة ... نارا شرسة .... مرعبة ....
بينما تمكنت من رؤية الصدمة و ...... التخاذل بعيني كريم ...
حينها استدارت على تلك النظرة بآخر آمالها و هو يسقط متهشما عميقا في هوة سوداء لا قرار لها ....
لكنها أجبرت ساقيها على الهرب بآخر من ذرات الكرامة قبل أن تسقط أمامهم .... وحين مرت برائف لامس كتفها أعلى مرفقه .... فأخفض رأسه ينظر اليها بنظرةٍ غريبة حزينة ... و كأنها قد .... خذلته !! .....
نفس النظرة التي رمقها بها حين أخبرته بزواجها في المرة الأولى .... و كأنه يملك السلطة على حياتها , و أقوى ....
بل و كأنه ..... ولي أمرها الذي خذلته على الرغم من أنها لم تعرفه يوما .....
شعرت بعينيها تتوسلانه أن يفهم .... كل ذلك في لحظةٍ خاطفة من الزمن ... قبل أن تخفض رأسها و تبتعد خارجة .... لمرحلة أخرى من حربها .... لا تعرف عنها أي شي ...
ضمت معطفها اليها و هي تسير على غير هدى ... حتى خرجت من بوابة القصر ... و الرياح تبعثر خصلات شعرها القصيرة حول وجهها ... و تجذب ضفيرتها الطويلة ....
ابتلعت ريقها و هي تشعر بالبرد .... و الفراغ .... فراغ كبير أسود بداخلها , فراغ يجعلها غير قادرة حتى على البكاء ....
شعرت بقطرة ندية لامست وجنتها فجأة .... فرفعت يدها المرتجفة و هي تلامس وجهها بصمت متسائلة
" هل بدأت في البكاء بالفعل ؟!! .... "
لكن القطرة تبعتها أخرى .... ثم أخرى .....
فرفعت ملك عينيها الى السماء الرمادية .... ثم مدت راحة يدها المفرودة و هي تستقبل قطرات المطر عليها .. بينما يدها الأخرى تضم معطفها الخفيف الى صدرها ...
لطالما اقترن المطر عندها بشادي .... و كأنه يغسل روحها كل مرةٍ بعد أن تقابله بها ....
شعرت بالدوار و المطر يزداد انهماره بالتدريج .... لكنها رفعت وجهها اليه تستقبله ... تحتاجه .... عله يطهرها و يعيدها لبرائتها من جديد .....
لكن هيهات .... فهمست بعذاب و هي رافعة رأسها , مغمضة العينين
( ماذا سنفعل الآن ؟!! ...... لا فكرة لدي ..... )
ازداد انطباق جفنيها بألم .... بينما كانت أسنانها تعض على شفتها حتى أدمتها عقابا و ندما ....
لم تشعر بالسيارة التي كانت تقترب منها ... الى أن وقفت بجوارها و جعل بوقها ملك تنتفض و تفتح عينيها لتراه .... ينظر اليها بصمت قبل أن يقول بصوتٍ عالٍ فوق صوت المطر
( تعالي يا ملك ...... سأقلك ....... )
كانت الكرامة أو المتبقي منها تجبرها الا تقبل أي مساعدة من أي منهم .... خاصة و أن المتفضل بعرض المساعدة ليس زوجها ..... لكنها كانت من الضعف و الإرتجاف بحيث قبلت ...
و لولاه هو ..... لما كانت قبلت ...
فتحت الباب و جلست بصمت ثم أغلقت بابها لينطلق بها ...... أخفضت رأسها و هي تشعر بالتضاؤل أمامه ....
حالة غريبة من حالات انعدام الوزن ... و كأنها تطفو غير قادرة على الثبات فوق أرض محددة ....
الغريب في الأمر أنها تمنت لو يتكلم .... كم تمنت أن تسمع من يطمئنها .... من يخبرها بأنه هنا و أنه بجوارها ...
لكنها تعرف استحالة ذلك .... فلقد ارتكبت الخطأ الذي يتوجب عليها معه أن تتحمل عواقبه وحدها ... دون حتى أن تجرؤ على طلب المساعدة من أقرب الناس اليها ...
انه مجرد رجل طيب أجبرته شهامته على أن يقلها الى بيتها ..... و هذا أكثر ما يستطيعه ...
لم ينظر اليها مرة واحدة ... مما جعلها تشعر باحتقار الذات أكثر ... و بدا لها أن الطريق يطول الى مالا نهاية .... لونه يزداد قتامة و كأن المساء قد حل سريعا .... و كأنه مساء لها وحدها يزداد كثافة فوق صدرها و يمنع عنها النفس ... لتشعر بعدها بأن روحها تبلغ حلقها ببطىء و وجع ....
حينها همست قبل أن تستطيع منع نفسها
( أشعر بالغثيان .............. )
نظر اليها بسرعة .. ثم لم يلبث أن همس بصوتٍ أجش
( ياللهي !! ....... انتظري لحظة .... )
ثم انحرف الى طريق جانبي ... شبه خالٍ لحسن الحظ ... و أوقف السيارة ليفتح نافذتها الاوتوماتيكية .... وهو يقول
( هل هذا أفضل ؟؟ ......... )
هزت رأسها نفيا و هي تهمس بذعر ....
( أعتقد أنني سأتقيا .......... )
شعر رائف بالعجز وهو ينظر اليها ... ثم لم يلبث أن قال بخفوت
( حسنا لا بأس ...... لا تخافي حتى و إن فعلتِ .... )
فتح باب مقعده و دار حول السيارة ... ثم فتح بابها و لحسن الحظ كانت قد استطاعت التماسك لآخر لحظةٍ و هي تستدير في اللحظة التي فتح بها الباب .... فمالت للأمام و تقيأت بشدة ٍ و بصوتٍ بائس ...
شعر بشيء غريب يتحرك بداخله .... وهو يرى مدى بؤسها , خاصة و أن التقلصات لم تنتهي بانتهاء تقيؤها بل ظلت تتشنج و كأنها تتقيء كل مرة على الرغم من معدتها الخاوية .....
شعرت ملك بالذعر و هي غير قادرة على ايقاف تقلصات جهازها الهضمي ... فانسابت دموعها بألم و عجز ...
بينما كان رائف يقف أمامها بوجهٍ شاحب .... يمد يده و كأنه يريد أن يلمس ظهرها المحني أمامه ... لكنه يعاود و يسحبها ... لكن بعد عدة لحظات شعر بأنه غير قادر على المقاومة ...
فانحنى اليها و مد يدا مترددة ... لامست ظهرها .. و سرعان ما ضغط عليه وهو يتناسى حرجه ليهمس لنفسه بحنق
" إنها مجرد طفلة بائسة ..... "
فانحنى جالسا القرفصاء أمامها و يده تدلك ظهرها بقوة .... الى أن هدأت قليلا ... فقال لها بخفوت
( خذي نفس عميق ...... )
أطاعت أمره الهادىء ... فأخذت نفسا مرتجفا باردا من النسيم المتخلف بعد المطر ....
قال رائف بخفوت أجش
( أفضل ؟؟ ......... )
أومأت برأسها دون أن تجد الجرأة على رفع وجهها الشاحب اليه ..... كانت تشعر بحرج بالغ من وجوده و تشعر بالخزي مما يجول في تفكيره عنها ....
لكن في نفس الوقت كانت ممتنة لوجوده .... رأته يستقيم و يدور حول السيارة مبتعدا عنها , فشعرت بالبرد و ارتعشت ... لكنه لم يلبث أن عاد و في يده زجاجة ماء بلاستيكية يحتفظ بها في سيارته ....
و انحنى جاثيا أمامها مجددا وهو يبلل منديلا ورقيا ... ثم دون مقدمات مد يده يمسح وجهها و فمها به ...
كانت ملك مذهولة مما يفعله ... لكنها كانت مستسلمة له ... لوجوده الرائع .....
سألها وهو يعاود تبليل منديلا آخر
( هل تناولتِ شيئا اليوم ؟؟ ............ )
أومأت برأسها نفيا بضعف .... فزفر بحنق ... ثم قال بصوتٍ أجش خافت وهو يتجنب النظر لعينيها
( سنمر الآن على أي محل صغير و أشتري لكِ بعض البسكويت الجاف .... سيجعلك أفضل حالا .... )
تابع مسح وجهها بصمت ... و ما أن انتهى حتى همست بإعياء
( شكرا لك....... تبدو خبيرا في ..... التعامل مع تلك الحالات ..... المخزية .... )
ابتسم ببطىء .. رغما عنه ... فتغضنت زوايا عينيه مما جعله اكثر جاذبية ووقارا .... فقال بهدوء
( بل على العكس ....... لم يتسنى لي الوقت لأصبح أبا من قبل ........ )
عضت شفتها و همست بأسى
( أنا آسفة ......... لم .......... )
الا أنه قاطعها ليسألها مباشرة و دون مقدمات
( في أي شهرٍ أنتِ من حملك ؟؟ .......... )
أحمر وجهها بشدة .... و اخفضت عينيها , و شعرت مجددا بذلك الشعور الغريب و كأنها أمام ولي أمرها الذي خذلته .... دون أن تدرك تفسيرا مقنعا لذلك الشعور .. لكنها همست بصوتٍ ميت يكاد لا يسمع
( في الأسبوع الأول من الشهر الثاني ............ )
انعقد حاجبيه بشدةٍ وهو يتنهد مبعدا وجهه عنها ..... ثم استقام واقفا وهو يقول بجفاء غريب
( تبدين متأكدة .... هل زرتِ طبيب ؟؟ ..... )
هزت رأسها نفيا ببطىء .... لكنها وجدته يرفض النظر اليها , فهمست بيأس
( لا ............ )
نظر اليها وهو يضع يديه في جيبي بنطاله , ثم قال بجفاء
( كيف اذن تبدين بمثل هذه الثقة ؟؟ ........ )
احمر وجهها اكثر و نظرت أرضا .... هل تخبره أنها كانت مرة وحيدة ... و رغما عنها كذلك .....
لكن حين بقت صامتة يائسة ... أدرك رائف بذعر هول ما يفعله و ما يقوله .....
انه يقف هنا في الخلاء مع شابة صغيرة لم يلتقيها سوى مراتٍ معدودة .... ألقتها الحياة بطريقه بالصدفة ... يسألها عن أدق أسرارها الشخصية ....
زفر بعمق وهو ينظر للبعيد ثم قال بخشونة
( اذن ..... هل هو زواج رسمي , ام ......... )
رفعت عينيها اليه .... هذه المرة رفعت عينيها الحزينتين اليه دون أن تشعر بنفس القدر من الخزي و هي تهمس بخفوت ميت .... لا روح به
( عرفي ............ )
استدار رأسه اليها بسرعةٍ و ملامحه مكفهرة .... عيناه فقدتا القدرة على مداراة حنقه .... ذلك الغضب الغير مفسر ... و قال بصوتٍ هادر على الرغم من خفوته
( عرفي !! ..... بهذه البساطة تنطقين بها !! , بالله عليكِ لماذا ؟!!! ..... أخبريني فقط لماذا ؟ّ!! .... )
كانت تنظر اليه بوجهٍ أبيض .... شديد البياض ... و الهدوء ...نظراتها فقدت الحياة , ... صامتة ... الى أن همست في النهاية
( لماذا ماذا ؟!! ....... لماذا أحببته هو ؟؟ ...... أم لماذا تزوجته بتلك الطريقة ؟؟ ...... )
نظر اليها بصمتٍ قاتم ... شبه قتامة ملامحه الناضجة , ثم قال أخيرا بصوتٍ أجش غاضب و بشدة
( لو كنتِ ابنتي ...... لكنت ....... )
لم تدرك أن شبه ابتسامة حزينة ... رسمت زاوية شفتيها و هي تهمس
( ليتك كنت والدي ......... )
أجفل فجأة من عبارتها الخافتة ... فنظر اليها عاقدا حاجبيه , لكنها ابتسمت و همست
( أتعلم ...... أظنك تشبهه , على الرغم من أنني أمتلك ذاكرة حديدية للوجوه .... لكنني لا أتذكر وجهه تماما , كنت صغيرة جدا حين توفي ..... لا أملك حتى صورة له , لكنه كان رجلا طيب جدا ...ووسيم ... هكذا كانت تقول وعد دائما ... على الرغم من أنها لم تكن ابنته ..... لكنها كانت تخبرني أن أسعد أيام تلك التي قضتها في بيته ......)
كان ينظر اليها بصمت .... صوتها الناعم الهامس كان كموجةٍ حانية حزينة تتسلل بنغم غريب الى كيانه لتبعثره .....
صمتت قليلا ثم همست
( لو كان موجودا الآن لكنت خذلته ..... اليس كذلك ؟؟ ..... )
كان الغضب يتأرجح به كرياحٍ هوجاء ... لكن سؤالها الخافت جعله يقول بجفاء خافت
( ربما لو كان موجودا ,.... لما كان حدث ما حدث ........ )
فغرت شفتيها قليلا , ثم همست
( لما كنت دخلت الدار .... و لما كنت قابلت شادي , اليس كذلك ؟؟ ...... )
كانت ترتجف رغما عنها ..... و النسيم البارد يتلاعب بملابسها الندية الخفيفة ... فعبس رائف وهو يقول بخفوت أجش
( من الأفضل أن تغلقي الباب ... ستبردين , و ملابسك مبللة ..... )
أدركت فجأة أنها فعلا تشعر بالبرد ... فضمت معطفها الخفيف الى صدرها .... الا أنه رائف اقترب منها يقول بهدوء
(اخلعي معطفك ............. )
و قبل أن تسأله لماذا , كانت تراه يتلوى خارجا من معطفه الصوفي الثقيل .... ليبقى مكتفيا بالكنزة الصوفية الداكنة التي يرتديها تحته , فوجدته أكثر ضخامة مما ظنته .... لماذا تشعر به يزداد طولا و علوا كلما رأته ؟!! ....
كرر رائف بنبرةٍ مرتبكة و هو يلاحظ تحديقها اليائس به كطفلة ينتظر المساعدة ....
( أخلعي معطفك الرقيق و ارتدي هذا بدلا منه ....... )
أطرقت ملك برأسها ... و هي تتحرك بيدين مرتجفتين ... لتخلع معطفها بتعثر , فنظر اليها رائف بعينين كئيبتين ... كانت تبدو كالعصفورة .... صغيرة للغاية و بعظامٍ لينة
حين كان يدلك ظهرها , هالة مدى هشاشة تلك العظام و رقتها تحت كف يده ....... قدها الصغير يجعله لا يصدق الوضع الذي هي فيه حاليا .... مظهرها يجعله لا يصدق أنها أكبر من طفلة .... لا أن تحمل طفلا !!!! ....
مدت ملك يدا مرتجفة .... فتناولت منه المعطف الثقيل , ما أن لامست يدها الباردة كفه , حتى شعر بصدمةٍ تسري بداخله فجأة ... فسحب يده سريعا وهو ينظر اليها عاقدا حاجبيه بشدة و هي تلتف بالمعطف الذي ابتلعها تماما .... تلامسه بيديها بينما كان في عينيها شرود حزين و كأنها تراقب مشهد مماثل في ذاكرتها ...
حينها قال بجمود
( أدخلي ذراعيك ......... )
نظرت ملك اليه ... ثم نفذت أمره و هي تدخل ذراعيها ... لتحاول مع تزريره ....
و بالفعل شعرت بدفىء قوي يحيط بها و يحميها ..... عندئذ دار رائف حول السيارة ليجلس مكانه ممسكا بالمقود بكلتا يديه ... يتنفس بخشونةٍ و غضب .... لكنه تفاجىء بها تتكلم بخفوت دون أن تنظر اليه
( لم أعرف بأنه زواج عرفي الا بالأمس فقط ........ )
انتفض وهو ينظر اليها بقوة عاقدا حاجبيه بشدة .... ثم قال باهتمام
( كيف ؟؟ ....... ماذا تقصدين ؟؟ ...... )
نظر اليها و هي تحرك شفتيها و كأنها تريد الكلام ... لكن الكلمات تموت على طرفهما ... الى أن تمكنت في النهاية من النطق بخفوت ميت
( لقد أخذني ..... الى مكتب مأذون , و وقعت على وثيقة بدت لي رسمية .... و كان هناك شهود .... و أنا ... لم يكن لدي أي أقارب باستثناء أختى و التي كانت مسافرة في ذلك الوقت .... وهو أيضا .... لذا لم أتخيل أن ما أفعله كان خطأ لتلك الدرجة .... نحن اثنان , ناضجان ... وجدا في الحياة بمفردهما .... )
كانت عينا رائف تتسعان بذهول بينما حاجباه ينعقدان أكثر من هول ما كان يحاول استيعابه على الرغم من لهجتها الحزينة الخافتة ... و كأنها تحكي قصة قصيرة حزينة لا تخصها ....
صمتت قليلا ... تنظر أمامها دون أن تبصر تماما , ثم تابعت بهدوء خافت
( الا أنه ..... اتضح لي فيما بعد .... أنه لا مأذون ... و لا وثيقة رسمية ..... مجرد ورقة ,.... و يجب أن أكون ممتنة بكل جوارحي لأنه كان من الضمير بحيث تكرم بهذه الورقة .... كأفضل من لا شيء ... )
انخفض صوتها .. حتى صمتت تماما و هي تنظر من نافذتها الجانبية تحاول التقاط أنفاسها المختنقة ... بينما هتف رائف بقوةٍ جعلتها تنتفض
( ياللهي !! .......... هل ما فهمته صحيحا ؟!!! ..... هل أوهمك أنه زواجا رسميا ؟!! .... )
أومأت برأسها دون أن تجد القدرة على النظر اليه .... لكنها سمعته يهتف بغضب شاتما ......
فأغمضت عينيها على دمعتين حبيستين وهي ترفع قبضنها المضمومة الى فمها المرتجف .... لكن رائف هتف بغضب هادرا وهو يضرب المقود بقبضته
( أقسم أنني لو كنت والدك يا فتاة .... لكنت ضربتك حتى تهتز الرؤية أمام عينيكِ .... كيف تقعين في هذا الفخ بهذه السذاجة ؟!!! ......... )
لم تستطع الرد ... أو حتى النظر اليه , فنظر اليها غاضبا يتنفس بسرعة و تهور .... ما يجيش في صدره كان مهولا .... شعور اي رجل يمتلك بعض النخوة , حين يرى فتاة صغيرة تم التغرير بها .... لكن هذا ليس كل شيء ... كان الغضب بداخله يتشعب و يتزايد و كأنه يأخذ منحنى أكثر خصوصية ... منحنى أكثر خطورة ..... شعور بالرفض أن تكون تلك الفتاة قد سلمت برائتها بالفعل لمن لا يستحق ....
شعور هائج بالرغبة في إرجاع xxxxب الساعة الى الوراء .... لكن هل تعود !! ......
قبضة تقبض على صدره منذ أن أخبرته بزواجها .... تجعله يشعر بالرغبة في تحطيم أي شيء , تماما كما حطمت برائتها بهذه البساطة .....
حين تكلم أخيرا ... قال بصوتٍ جاف خشن و خافت
( لقد تهورتِ يا صغيرة ........ تهورتِ دون تفكير )
لم تنظر اليه و هي تفقد السيطرة على دمعة كانت تحبسها بشدة , فانسابت على وجنتها بنعومة ... و رآها هو فعبس بشدة ليقول بخفوت
( لا تبكي ...... كنتِ غاية في الشجاعة حتى الآن , على الرغم من تهورك اللعين )
ابتلعت غصة في حلقها و هي غير قادرة ايقاف دمعة أخرى ... و ثالثة .....
حينها تنهد رائف وهو ينظر أمامه ..... و الرغبة في القتل بداخله تتزايد و بقسوة ....
و ساد الصمت مجددا .... لا يقطعه سوى صوت تنفسها المختنق , .... بينما هو ينظر أمامه بملامح قاتمة ... شديدة البأس ..... و بعد فترة طويلة قال بجفاء
( هل لا تزال أختك معك بالبيت .؟؟؟ ........ )
رفعت وجهها الشاحب اليه ... ثم همست بخفوت
( لا ...... لقد أخذها زوجها ليلة أمس ... )
عقد حاجبيه بشدة و هو ينظر اليها .... ثم قال بخشونة
( ربما ليس من الحكمة أن تبقين بمفردك منذ الآن......... )
تاهت عيناه على نظرة عينيها للحظات .... على الرغم من شجاعتها التي لا تناسب فتاة في مثل عمرها , الا أن نظرة خوف بانت بهما ... جعلت حدقتيها تهتزان للحظة و هي تشرد قليلا ...
فقال لها فجأة دون مقدمات وهو يضيق عينيه
( هل تخافينه ؟؟ ...... هل كان عنيفا معك بأي صورةٍ من الصور ؟؟ ..... )
اتسعت عيناها قليلا ... لكنها سرعان ما أخفضتهما أمام عينيه الحادتين و النافذتين الى أعماقها , ....
فقال بقوة
( أنا أعرفه .........لأنني خاله , فلا تحاولي الإنكار ... )
رفعت وجها مصدوما اليه و هي تسمع لفظ " خاله " منه .... لا تعلم ما الذي دهاها و جعلها تقول فجأة بقوة مماثلة
( أنت لست خاله ......... )
بهت قليلا و اتسعت عيناه وهو ينظر الي هجومها المفاجىء ... لكنه ظل صامتا ..... ينظر اليها بجدية ...
فقالت بشجاعة و اندفاع مشددة على كل حرف على الرغم من عينيها المبللتين بالدموع
( أنت لست خاله ......... )
لم يرد .... و كان بصمته يقتلها فصرخت بحدة و كأنها تحارب في فضاءٍ واسع
( لو كنت خاله لكنت أنا تلك الساعية خلف اسمكم الغالي ..... لكنني لست كذلك , لقد ملكت كريم قبل أن تملكوه أنتم .... مع الفارق , لقد ملكته قلبا .... لكنكم ملكتموه جسدا و وروحا ....و عبدا ...... )
ظل صامتا , عاقدا حاجبيه ..... فنظرت اليه بعجز و غضب ..... و هياج داخلي ... و هتفت مجددا من بين أسنانها و هي ترتجف بدموعها الشرسة
( أنت لست خاله ........ و أنا لم أتزوج كريم القاضي , .... أنا تزوجت من شادي عبد الله ... )
و قبل أن يفتح فمه ... كانت تهتف بحدة و شراسة
( و الهوية التي تزوجته بها هي هويته الحقيقية ........ )
عند هذه النقطة .... رفع رائف وجهه اليها بقوة , و اتسعت عيناه و هو يقول بلهجة حذرة خافتة ...تقارب الذهول
( تزوجته بماذا ؟!!! ............. )
منظر وجهه جعلها تصمت .... كان صوت تنفسهما السريع يقطع الصمت القاتم بينهما بحدة , فكرر رائف بقوةٍ أكبر جعلتها تنتفض في مكانها
( ما هو اسم زوجك على تلك الورقة ؟؟ ........ )
فغرت شفتيها قليلا أمام ملامحه التي توحشت فجأة .... لكنها همست بصوتٍ لا يكاد يسمع
( شادي .... عبد .... )
لم تكمل ..... فقد ضاعت همستها الخافتة في صيحته المتوحشة وهو يضرب المقود بقبضته ضربة جعلت السيارة تهتز بعنف
( تبا لغبائك !! .......... )
فغرت شفتيها أمام الوحشية المفاجئة التي ظهرت عليه .... فارتجفت بشدة و هي تضم ذراعيها تحتمي بمعطفه الذي يضمها بحنان تحتاج اليه بشدة في تلك اللحظة ....
ثم همست أخيرا بخفوت
( هو شادي ....... انه ..... )
صرخ بقوةٍ وهو يضرب المقود بغضب
( لماذا لا تفهمين أيتها الغبية ؟!! ....... لا وجود لاسم شادي عبد الله في أي مكان ... لا وجود لمثل تلك الهوية المزيفة ...... )
كانت تتنفس من شفتيها الفاغرتين ... بصعوبةٍ بالغة .... فأغمضت عينيها و هي تهمس
( ياللهي !! ........... )
حين التفت اليها وجد أنها تشحب بشدة , و قد عاد وجهها لبياض بشرة الأموات مجددا ... فمال عليها يمسك بوجهها وهو يقول بقوة
( ملك ....... ملك خذي نفسا و الا سيغشى عليكِ ...... )
امتدت يده الأخرى لتتخلل أصابعه خصلات شعرها ممسكة بمؤخرة رأسها وهو يربت على وجنتها بقوة ... ثم دفع رأسها الى بين ركبتيها وهو يقول بلهجةٍ آمرة
( خذي نفس ....... )
فعلت ما طلبه منها ...... مرة بعد مرة .... الى أن تمكنت من الهمس أخيرا بصوتٍ ذاهب الأنفاس
( أنا بخير الآن ,.,......... )
أدار وجهها الشاحب اليه كي يتأكد من أنها بخير .... و حينها تسمر مكانه ....
تسمر بقوة العينين العسليتين الضائعتين و الناظرتين اليه و كأنه ...... و كأنه الأمل الوحيد لها في الحياة ....
أصابعه كانت لاتزال منغرسة في خصلات شعرها بقوةٍ .... يثبت بها رأسها ... رافعا بها وجهها الناظر اليه ....
شعر بصدره يعصف فجأة .... بمشاعر غريبة , هائجة لم يعرف مثلها منذ ..... منذ متى !! .....
و في لحظة واحد نزع يده بقوةٍ عنها و نظر أمامه و هو يتنفس بسرعةٍ و كأنه عائد من سبقٍ مجهد ....
همست ملك بصعوبة
( انت تصدقني ....... أليس كذلك ؟؟ ..... )
نظر اليها بطرف عينيه , بملامح غامضة .... و مشاعر عنيفةٍ تهدر فوق صفحة ملامحه ...
فهمست برجاء معذب
( لا تتخلى عني ...... أرجوك ...... )
أغمضت ملك عينيها بعد هذا الرجاء المثير للشفقة , ....لم تكن قد استعادت وعيها الكامل بعد و هي تنطقه ... تتوسل الغريب ليبقى معها و لا يتخلى عنها ...
على الرغم من كل شجاعتها .... و مبلغ تهورها , الا أنها كانت في حاجةٍ ماسة لمن يبقى بجوارها و يمسك يدها في تلك المواجهة ....
كانت من الخزي بحيث لم ترغب في أن تدمر حياة وعد مع زوجها و تقحمهما في الأمر للدفاع عنها ....
لكنها الآن أدركت أي ضعيفة هي ... و هي ترى تلك القصة تزداد دموية مع كل فصل من فصولها ....
و كأنه عشق مريض .... عبث بها و جردها من كل كرامتها و آدميتها ... في لحظة خطأ واحدة ....
حين تكلم أخيرا بدا و كأنه يكلم نفسه بحنق و خفوت شرس
( أين أذهب بكِ ؟!! ....... تبا لا يمكنني تركك بمفردك ....... )
نظرت اليه وهي تريح رأسها للخلف ... و فكرت بإنها اشارة من القدر ....
شعرت بدفء غريب يسري في قلبها و هي تشعر أنه الله قد سخر لها من سيدافع عنها ... و عن حقها ....
همست و هي تراه يزداد غضبا ... و تنفسه يزداد سرعة و كأنه مرجل مشتعل ... أصابعه تنقر على المقود بعصبية ....
( هلا أعدتني الى بيتي رجاءا ....... لا تخشى شيئا , أنا قادرة على حماية نفسي .... )
نظر اليها بغضب وهو يهتف من بين أسنانه
( قادرة على ماذا بالله عليكِ !! ... لقد ألقيتِ نفسك للتو في عش للدبابير دون أن سلاح تملكينه في يدك .... )
صمت يهدر نفسا هائجا من بين أسنانه ... ثم قال بقوة
( أنتِ الغباء بعينه......... )
أطرقت برأسها ...... و هي تغمض عينيها بصمت , تتمنى الموت .... ذلك الصديق الذي لم تتمناه الا منذ أن عاد شادي الى حياتها .....
نظر رائف اليها بأسى .... ثم همس متابعا
( و الشجاعة نفسها يا صغيرة ........ )
لم تنظر اليه ... بل ظلت مطرقة برأسها و هي تبكي بصمت , لكنها ابتسمت بأسى من بين دموعها ... يالتلك السخرية السوداء .... و ماذا تملك سوى الشجاعة في محاربة قصة ردئية قديمة قدم الأزل ....
قال رائف متابعا بعد فترة صمت طويلة
( لا يمكنك البقاء وحيدة ....... أين هو بيت أختك و أنا سأوصلك اليها ... )
همست ملك من بين دموعها
( إنها ..... مسافرة , و أنا لن أقحمها في الأمر ...... ليس الآن على الأقل ... )
قال رائف بغضب
( لا أستطيع تركك بمفردك ........ )
رفعت وجهها اليه .... و ابتسمت ... فاختل توازنه ....
كانت تبتسم على الرغم الدموع التي أغرقت وجهها كحبات المطر .... ثم همست بنغمةٍ لا يظن أنه سينساها أبدا
( أنت شهم للغاية ....... )
نظر اليها بوجوم و كبت ... ثم نظر أمامه مستندا الى ظهر مقعده بعجز وهو يقول بجفاء
( لقد أخطأتِ خطأ كبير يا صغيرة ..... لكن هناك من شاركك نفس الخطأ إن لم يكن أفظع ... بخداعه لكِ ... لذا ليس من العدل ترك فتاة مثلك تتحمل الذنب وحدها .... ذنب لن يتجرعه سوى الجنين الصغير بأحشائك و الذي لم يبصر النور بعد ..... ليس من العدل أن يخرج الى تلك الخيانة منذ يومه الأول .... )
ساد صمت طويل كئيب بينهما ...
الى أن قال رائف بصوتٍ لا حياة فيه ... صوتٍ أجوف بشكل غريب
( سأفعل ما بوسعي ...... كي يصحح زواجكما في أسرع وقت ..... )
شعرت ملك بشيء غريب يقبض صدرها بشدة .... وهي تسمع صوته الرخيم القوي ... الحزين ...
فلامست يدها بطنها دون وعي ......
التصحيح الوحيد لذلك الخطأ هو أن تكون لشادي مجددا .... عليها أن تدفع ثمن غبائها , دفاعا عن طفلها
ازداد انقباض صدرها و هاج غثيانها .....
و عادت تتسائل ... أين هذا العشق الذي كان ... و الآن لا يتبقى منه بداخلها سوى ... نوبة غثيان ....
دون أي كلام آخر .... قام بتحريك السيارة و كأنه فقد الرغبة في الحديث فجأة ....
فانطلق بالسيارة سريعا ..... و الصمت الكئيب بينهما يرسم قصة غير مقروءة ......
و ما أن وصل الى بيتها .... حتى أوقف السيارة , ثم التفت اليها بملامح جامدة وقورة و قال بلهجةٍ آمرة
( لا أريدك أن تفتحي الباب لمخلوق هذه الأيام ...... فهمتِ ؟ .... )
نظرت اليه ملك بصمت .. ثم همست
( هل تظن أنهم قد يقومون بأذيتي ؟ ............ لا أظن أننا نحيا في وكر عصابة لتلك الدرجة ... )
زفر رائف بحنق ... ثم قال بصرامة
( على الأقل سيحاول أكرم جديا ارسال وسطاء اليكِ كي يراضوكِ بمبلغ مناسب لنسيان الأمر ... و هذا ما أنا متأكد منه .... هو لن ييأس و لن يستسلم , أكرم لا يقبل بلي ذراعه ووضعه أمام الأمر الواقع ... و أنتِ قلبت الطاولة عليهم و انصرفتِ بهدوء يا صغيرة .... خاصة أنه كان يعد جديا لزواج كريم من ابنة مسؤول كبير في البلد .... )
شحبت ملامح ملك بشدة و هي تنظر الى ملامح رائف الغاضبة ....
الغريب في الأمر أنها لم تهتم لذرة .... لم تهتم سوى بارجاع حقها المهدور .. أما مشاعرها تجاه شادي , فهي تكاد تجزم أنها رأتها تسقط .. لحظة رؤيته يسقط جالسا على أولى درجات السلم ...
ظل ينظر اليها طويلا .... و كانت تبادله النظر بحزن ... الى أن قال بخشونة
( هيا اذهبي ..... و اهتمي بنفسك )
أومأت برأسها بصمت , لكن قبل أن تخرج مدت يديها خلف عنقها تبعد ضفيرتها الطويلة الى إحدى كتفيها و سرعان ما سقط السلسال من عنقها الى حجرها ... فالتقطته بأطراف أصابعها و مدته له و هي تهمس بخفوت
( خذ هذا من فضلك ..... أعتقد أنه الآن بات يخصك أكثر مني .... )
نظر الى السلسال بغضب و قسوة ... قبل أن يمد كفه المفرودة لها .. فتركته ينساب الى كفه , فأغلق رائف كفه على يدها قبل أن تبعدها .... حينها رفعت ملك عينيها المتسعتين اليه , لكنه نظر الى عينيها قائلا بقوة وهو يشد على يدها الصغيرة الممسكة بالسلسال داخل قبضته القوية
( عديني الا تتهوري حتى أتصرف .......... )
فغرت شفتيها قليلا .... لكنها لم تلبث أن أغلقتهما و عيناها تتغضنان ألما , فقال بخشونةٍ خافتة ملحة
( عديني .......... )
همست ملك و عيناها سابحتان في عينيه القويتين
( أعدك ........... )
حينها ترك يدها ببطء شديد ... و كأنه لا يرغب في تركها تخرج من السيارة , كان قلبه يخبره بحدسٍ سيء ..... و شعر بأنه سيكون مسؤول عن أي شيء يصيبها ... لأنه يعرف .....
لأنه يعرف أنها تنطق الحق .....
أبعد وجهه وهو يتنهد بقوة محاولا إزاحة ذلك الثقل عن صدره .... الى أن سمعها تقول بخفوت
( سيد رائف .... هل لي أن أطلب منك خدمة ؟؟ ...... لا تخبر السيد عاطف عما فعلته ..و ما حدث لي , دعه يراني بالصورة التي رسمها لي ..... أرجوك ..... )
لم يرد رائف .... و لم يدير رأسه اليها , لكن رجائها الأخير عصف بصدره مجددا ... و كأنه قبضة من الجليد الموجع ... ذكره بمدى برائتها و صغر سنها .... و سمع صوت بابها يفتح لتخرج من السيارة ثم أغلقته لتبتعد بسرعة .... بينما بقى هو جالسا في السيارة يدور بباله السؤال الأسود
" هل تعود xxxxب الساعة للوراء ؟!! ....هل تعود لها البراءة التي لا يتخيل أنها فقدت ذرة منها !! . "
حرك سيارته و انطلق بسيارته بسرعة و غضب و هو يفكر بأنه نسي أن يشتري لها البسكويت الجاف ...
و على الأرجح ستظل الصغيرة مصابة بالغثيان طويلا ....
حينها شعر للمرة الأولى في حياته بأنه يكره ذلك الصبي الذي حضر الى بيتهم ذات يوم و أحبه كأخيه الصغير .... و كم تمنى في تلك اللحظة لو لم يكن دخل حياتهم مطلقا .....
.................................................. .................................................. ..................
كانت تصدر شخيرا صغيرا من شدة الإجهاد ... فمجهودها هذه الأيام خاصة بعد وعكتها الأخيرة أصبح ضئيلا و نومها بات ثقيلا مقلقلا ....
فتحت عينيها بصعوبة و هي تشعر بقوةٍ هائلة تنتزعها انتزاعا من سباتها العميق ... فتأوهت و هي تتململ قائلة
( أريد أن أنام ....... )
لكن اللمسات تجولت على وجنتيها المرتفعتين .... مرت على حاجبها الرفيع , ثم الآخر .... لتتجول على جفنيها المغمضين .... اصبع واحد مر على أنفها المرتفع .. فجعدته و هي تشعر به يحكها ....
لينتقل ذلك الإصبع الى فمها ..... كان يرسم شفتيها و كأنه يلونهما بنعومة ... مرة بعد مرة .....
حينها بدأت تشعر بأنه استبدل سبابته بإبهامه الذي كان يدلك لها شفتها السفلى و كأنه يصر على ايقاظها بتلك الطريقة ...
فمدت يدا طائشة ضربت ذلك الإصبع المغتصب و هي تصرخ من بين نعاسها المجهد
( ابتعد عني ........ )
ابتعد عنها للحظات , فظنته تركها و ابتعد ... و ما كادت أن تغفو مجددا .... حتى شعرت بيده تنحدر أكثر و تتجرأ بدرجةٍ جعلتها تشهق عاليا و هي تنتفض جالسة في الفراش تنظر اليه بعينين منتفختين ... بينما يديها المرتجفتين تعدلان من وضع ملابسها .... فطالعها وجهه و هو ينظر اليها مبتسما بقسوة .... يتأملها بسخرية ... ثم قال بخفوت
( آآه ..... تذكرت الآن أنكِ لا تفضلين أن أتمادى أثناء نومك ..... أعذريني )
نظرت اليه بوجهٍ شاحب ... قاتم الملامح ....
كانت تعرف كيف تبدو حين تستيقظ من النوم بسبب فقر الدم ... لذا من المؤكد أنها تبدو الآن أكثر نفورا له منها ليلة أمس ....
بينما هو .. كان يجلس على حافة سريرها ... ضخما , قويا ... رائع التفاصيل , ممتلىء بالحيوية ....
شعره المبلل يرسل لها رائحة عطره القوي و التي تتعرف عليه رئتيها من على بعد أميال ....
رفعت يدا مرتجفة تبعد خصلات شعرها الشعثاء المجنونة عن وجهها .... و هي تقول ببرود ...
( و طالما أنك تتذكر ذلك ... فلن تتوانى عن تكراره كل صباح ..... )
نظر الى عينيها بقوة ... ثم تعمد اخفاض عينيه ببطىء الى عنقها الطويل و أعلى صدرها الظاهر من فتحة القميص ..... فقد نزعت كنزتها بالأمس و نامت في بنطالها الجينز و القميص الضيق ....
لكنها الآن شعرت بأنها لم تكن فكرة جيدة و هي تراه يتعمد النظر اليها بطريقة شهوانية تفتقر الى العاطفة و الغزل .... و بالفعل قال بصوتٍ ساخر عابث
( لا أراها فكرة سيئة .... بل على العكس , الأمر يبدو لي ممتعا , خاصة و أن زوجتي تحرمني من حقوقي الشرعية ...... )
رفعت وعد عينيها الجليديتين اليه و هي تقول ببرود
( أنا لست جارية لتلبية طلباتك يا سيف .... و لا تتخيل للحظةٍ واحدة أنني سأدعك تعاملني كتلك الليلة حين رحلت صباحا دون حتى كلمة ترضية واحدة و كأنني عا..... )
رفع يده ليطبق بها على شفتيها يمنعها عن نطق الكلمة البذيئة التي كانت تنوي النطق بها ....
فرفعت عينيها تنظر الى عينيه من تحت كفه الضاغطة على فمها بقوة ... و لم تكن ملامحه مقروءة وهو ينظر الى وجهها طويلا ... ثم قال أخيرا بهدوء
( لقد آلمك رحيلي بتلك الطريقة اليس كذلك ؟؟ ..... لقد ذكرتِ الأمر أكثر من مرة .... )
أبعدت يده عن فمها بالقوة و هي تقول بغضب شرس
( نعم آلمني .... و أشعرني بمقداري البخس لديك ..و أنا واثقة من أنك شديد الرضا باعترافي ... )
ابتسم وهو يراقب غضبها ليقول بهدوء
( الحقيقة ..... نعم , أنا شديد الرضا أنكِ تألمتِ , ..... )
بهتت ملامحها و هي تنظر اليه بصدمة .... من أين له بمثل تلك القسوة !! .... لم يكن كذلك ...
حتى في أسوأ ما أقترفه معها , لم يكن بمثل تلك القسوة من قبل ....
و حين لاح الألم في عينيها بوضوح ... اختفى القليل من بروده وهو يقول بقسوة
( ربما حينها تدركين مبلغ ما يشعر به غيرك بالألم بكل كلمةٍ تلقين بها جزافا ... و أنتِ تظنين أن ذلك هو حق لكِ بينما هو محرما على الباقين ..... كيوم أخبرتني بكل شاعرية عن مدى تقززك ما أن تستسلمين لزوجك ..... )
فغرت وعد شفتيها و همست بألم
( هذا ليس عدلا يا سيف ..... لقد أعتذرت لك ..... )
نظر اليها بحزن على الرغم من قساوة ملامحه .... ثم قال أخيرا
( قائمة اعتذاراتك طويلة جدا يا وعد ........ )
ظلت تنظر اليه بحزن ... الا أنه نهض من مكانه بقوةٍ مندفعا وهو يقول آمرا
( هيا ...... انهضي لتعدي الإفطار .... )
قالت بخفوت ....
( و إن قلت لا !! ................ )
كان قد استدار ليخرج ... لكن ما أن سمع كلمتها الخافتة , حتى عاد ليلتفت اليها و دون أن يكلف نفسه عناء الرد ... وجدت ذراعاه تمتدان لتنتزعانها بقوةٍ من تحت الغطاء فشهقت عاليا و هي تراه يوقفها على قدميها و يدفعها الى الجدار حتى اصطدمت به و امتدت يديه تقبضان على ياقة قميصها ليفتح أولى ازراره بقوةٍ بينما ملامحه هادئة بشكل مقيت ....
فقبضت وعد على مقدمة قميصها و هي تشعر بالإهانة صارخة ...
( توقف عن ذلك يا سيف ........ )
ترك قميصها ليمسك بخصر بنطالها الجينز وهو يقول بهدوء غريب
( سأبدل لكِ ثيابك بنفسي لو لم ترغبي في التحرك بمفردك ..... )
الا أن يديها انخفضتا الى كفيه تقبض عليهما بقوةٍ و هي تصرخ غاضبة بعنف
( توقف عن تلك الحقارة يا سيف ....... )
الا أن قوتها لم تكن لتعادل قوته ... فصرخت في اللحظة الأخيرة
( حسنا .... حسنا .... سأبدل ثيابي ..... )
للحظةٍ ظنت أنه لن يسمعها , لكنه لم يلبث أن تركها دافعا إياها قليلا , ليقول بثقة مبتسما ببرود
( لو تعطفتِ و القيتِ نظرة على الدولاب هناك ... ستجدين ملابسك به , .... ثم تتجهين الى المطبخ و تعدين الافطار ... و الا سأعود اليكِ ..... )
تركها و خرج ... بينما بقت مكانها تلهث بجنون .... تنظر الى الباب الذي أغلقه و هي لا تزال تقبض على ملابسها المشعثة بشعور مقيت من الإهانة ....
حين خرجت من الغرفة .... كانت قد حملت ملابسها على ذراعها و اتجهت الى الحمام الصغير ... لتصفق بابه بعنف ... و هي تحتاج الى حمام ساخن كي يهدىء أعصابها المرهقة ...
و ما أن خلعت ملابسها و اندفعت الى المغطس مديرة مقبض المياه الى الساخنة ...
الا أن السيل الذي اندفع فوق رأسها كان باردا كالثلج مما جعلها تصرخ عاليا و هي تحاول اغلاقه بكلتا يديها ... تتزحلق على أرض المغطس بغباء الى أن تمكنت من إغلاقها في النهاية ...
ثم خرجت و هي تكاد أن تجمدت الى أن لفت نفسها بمنشفة عريضة و أسنانها تصطك بعنف ... ثم اقتربت من الباب و فتحت جزء منه و هي تصرخ بجنون
( سيف ..... سيف ..... سيييييييييييييييف )
مر وقت طويل الى أن سمعت خطواته الهادئة تقترب فصفقت الباب بعنف ... لكنه قال بهدوء من خلف الباب
( ماذا تريدين ؟؟؟ ........ )
صرخت بعنف و هي ترتعش
( لماذا لا يوجد ماء ساخن ؟؟......... )
قال بهدوء مستفز
( لم أجد الوقت لتركيب سخان ........ )
اتسعت عيناها و هي تهمس بكل كلمةٍ بذيئة ... ثم لم تلبث أن عضت على أسنانها و هي تصرخ بجنون
( لم تجد الوقت !!! ..... اذن هل يمكنك أن تخبرني كيف سأستحم الآن ؟!! ..... )
قال ببساطة
( استخدمي الماء البارد ...... أنا أستحم بماء بارد .. )
صرخت بجنون و هي تركل الباب المغلق بقدمها العارية فتأوهت ألما
( أنسيت أنني مريضة القلب يا متحجر الشعور .... حمام مثل هذا من الممكن أن يودي بحياتي ... )
قال سيف متشدقا بهدوء
( آآآه لا تكوني دراماتيكية الى هذا الحد ..... أنتِ بأفضل حال , ...... )
كانت تلهث بفعل الغضب مما دفئها قليلا ... لكن ساهم في غليان دمها في عروقها ...
فصرخت بغضب
( بالله عليك أنا أموت من البرد ........... )
قال متمهلا بهدوء
( كيف يمكنني مساعدتك ؟!! ..... ربما لو أدخلتني قد أجد طريقةٍ ما ..... خاصة و أنني رجل محروم كما تعلمين لذا يمكنني أن أكون مفيدا ..... )
صرخت و هي تضرب الأرض بقدمها .
( لقد طالت تلك المهزلة يا سيف ...... أنت تبالغ بغباء .... )
قال سيف ببساطة
( اذن حظا سعيدا مع حمامك البارد .... فهو يناسبك ....)
صرخت وعد بعنف
( سيف .... انتظر .... سيف ....)
مرت لحظة قبل أن يقول بهدوء
( ماذا تريدين ؟!! .........)
رفعت عينيها الي السماء و هي تضرب الأرض بقدميها دون صوت .... ثم لم تلبث أن قالت بهدوء مفتعل
( لا يمكنني أن أتحمل الماء البارد يا سيف .....أحضر لي ماء ساخن من المطبخ ..... )
قال بهدوء
( قد أفكر في الأمر لو طلبتِ بأدب ........ )
صرخت وعد بلؤم من بين أسنانها
( تبا لك ..... أنت تذكرني بأيام الدار المأساوية ........ هات الماء الساخن , .... )
قال لها ببساطة
( انسي أيام الدار و تعاملي كزوجة محترمة ...... تلك الألفاظ لا تليق بكِ يا وعد .... اين ذهب تهذيبك ؟؟ ... كنتِ شديدة الأدب حين كنتِ تعملين لدي .... )
قست عيناها و عصفتا كرياحِ عاتية داكنة .... لكن و قبل أن تنفجر غضبا , كان سيف يقول ببساطة و هدوء متابعا
( أول ما تبادر الى ذهني و انتِ تدخلين مكتبي ..... كان مدى حلاوة تهذيبك و رقتك .... كنتِ تقريبا تلامسين البساط و أنتِ تخطين فوقه ...... )
تجمدت ملامح وعد و هي تسمع صوته الهادىء ... بينما تابع سيف ببساطة
( كل يوم كنتِ تدخلين به مكتبي حاملة قهوتك .... كان يشرق الصباح بوداعتك ... بنبرة صوتك التي لا تعلو عن الهمس ..... بملابسك الوردية و الرمادية .... بذيل الحصان المهذب و الذي أمرتك الا تحليه أبدا فعصيتِ أمري ..... متجاهلة حبي للنظر اليه .... الى خصلات شعرك الناعمة و المنفلتة منه بترتيب الى خلف أذنك الصغيرة ....... )
تراجعت وعد خطوة و هي تستند بظهرها الى باب الحمام المغلق بوجهٍ شاحب و هي تستمع الى صوته الدافىء و الذي تدفق الى عروقها كعسلٍ ذائب
وتابع هادئا
( كنتِ تبدين كطالبة تعمل في العطلات ...... طالبة مهذبة وديعة , عيناها كبئرين عميقين من ماء المطر .... غرقت بهما ما أن نظرت اليهما أول مرة ......و عرفت يومها أنني كنت أنتظرهما طوال حياتي )
رفعت يدها تتحسس عظام صدرها برفق ... بينما عيناها متسعتان ... شاخصتان للبعيد ..... و أذنها تعزف لحن رائع لكلماته الهادئة ....
فقال متابعا ببساطة
( كنتِ كقطعة سكر تزيدين من حلاوة قهوتك ....و كنت أحب النظر اليكِ كل صباح .... )
صمت قليلا .... و كانت هي مستندة برأسها الى الباب , ... فطال الصمت بينهما , الى أن قالت وعد بخفوت
( أخبرتني أنني أبدو أكبر من عمري ...... و سخرت من ملابسي .... )
ضحك بعمق وهو يرفع يده الى أعلى أنفه متذكرا ........ فابتسمت وعد بحزن ....
فقال سيف وهو يستند بظهره الى الباب المغلق
( آآآه صحيح ....... اسمعي , لقد قررت التنازل و سأحضر لكِ بعض الماء الساخن قبل أن تبردين )
لم ترد وعد و هي ترفع وجهها ..... شاردة بصوته الذي لا يزال يعزف على أوتار أعصابها ....
تبا لك يا سيف و لما تفعله !! .......
ظلت واقفة مكانها دقائق طويلة .... قبل أن تنتفض على صوت طرقاتٍ على باب الحمام ... فتراجعت وهو يقول بجدية
( افتحي الباب ......... )
أمسكت يدها حافة المنشفة جيدا , ثم لم تلبث أن فتحت الباب بتردد .... لتجده واقفا , يمسك بين يديه وعاء ضخم يتصاعد منه بخار ماء ساخن ... نظرت اليه بصمت من بين فتحة الباب الضيقة , قبل أن تهمس بوجوم
( راااااائع !!! .........سأستحم بقدر من الماء !!! ...... )
عبس سيف وهو يقول بخشونة
( أتريدينها أم أذهب لأعيده !!! ............ )
فتحت الباب بحذر .... فدخل سيف وهو يضع الوعاء بحرص داخل المغسلة ... ثم لم يلبث أن استدار اليها , ليتسمر مكانه قليلا و هو يتأملها بحرية .....
احمر وجهها بشدة و يدها تشد على حافة منشفتها بينما نظرت بعيدا تنتظر انتهاء تقييمه البطيء لها ....
بينما بدا هو غير متعجلا .... يراقب نحافتها الزائدة و ساقيها الطويلتين .... و شعرها الأسود الرطب و المنهمر على كتفيها و ظهرها
بينما بدت عيناها رماديتان صافيتان ... و كبيرتان للغاية و هي تنظر اليه خلسة ... الى أن لم تستطع المقاومة , فثبتتا على عينيه تتأمل تأمله لها بشفتين فاغرتين ... حينها اقترب منها ببطىء و هي تتنفس بسرعة الى أن وقف أمامها ... ليرفع يده أمام عينيها المشدوهتين ... ليلامس وجنتها اللاهبة .... و عنقها الطويل ... حلقها و التجويف الرقيق أسفله متمهلا ... فأغمضت عينيها بشدة و هي تبتلع ريقها تحت أصابعه الحارة ....
و انتفضت بقوة وهي تشعر بيده على خصرها تجذبها اليه .... فارتفعت يديها تلقائيا الى صدره و هي لا تزال مغمضة عينيها ... رافعة وجهها , بينما وجهه يقترب منها الى أن لامست شفتيه فكها ببطء وهو يهمس بخفوت
( وعد !!! ........... أنتِ جمييييلة ... )
همست بإختناق دون أن تفتح عينيها ...
( لااا ............. )
الا أنه كان له رأي آخر و شفتيه تتجولان على وجهها البارد و المحترق في آنٍ واحد ... فهمس في أذنها
( عيناكِ ..... لا أجمل منهما ....... )
همست وعد تئن
( توقف أرجوك ......... )
رفع وجهه قليلا ينظر اليها طويلا .... الى تشتتها الواضح .. ثم لم يلبث أن قال بهدوء ....
( حسنا .......... كما تشائين ... )
ثم خرج بينما فتحت هي عينيها و هي تتأكد من ذهابه ... فتأوهت بغضب و أنين و هي تضرب سطح الحائط الأملس بقبضتها ... ثم أخفضت رأسها حتى لامست جبهتها الحائط و هي تهمس
( ما سر هذا اللذي يسري بيننا .... و لا سبيل للشفاء منه !! ....... )
خرجت بعد فترة طويلة ... مترددة بوجهٍ شاحب تبحث عنه بعينيها .... الى أن وجدته في المطبخ , جالسا أمام الطاولة ... يطالع جريدة بكل هدوء !!!
وقفت بالباب تنظر اليه بذهول ..... وهو يبدو ثابت الأعصاب , بعكس من بعثر أعصابها للتو ...
و ما أن طال صمتها .. ووقوفها , حتى شعر بها فرفع اليها وجهه الهادىء ... ليقول ببساطة
( لماذا تقفين عندك هكذا ؟!! ...... أنا أنتظر الإفطار منذ أكثر من ساعتين يا وعد ..... )
كانت قد ارتدت حلة رياضية قطنية .... بينما مشطت شعرها و لفته في ربطة مستديرة في مؤخرة رأسها ... و بدت مرتبة و جذابة ... لكن بالتأكيد ما شعرت به في هذه اللحظة كان بعيدا كل البعد عن الترتيب ....
لذا ما أن سمعت لهجته الباردة الهادئة ... حتى عصفت بداخلها نيران الغضب بجموح و أوشكت أن تصب عليه كل لعناتها و غضبها ... الا أنها تماسكت في اللحظة الأخيرة .... و رفضت أن تظهر له ضعفها و تأثرها به ...
لذا رفعت ذقنها و هي ترمقه بنظرة استعلاء .... ثم دخلت الى المطبخ لتفتح باب الثلاجة بقوةٍ ناظرة الى ما بداخلها ... و سرعان ما أخرجت اول ما طالته يديها دون تفكير ....
و بدأت في العمل تحت نظراته المراقبة لها ... بينما الغضب بداخلها يفترسها ... مع كل حركةٍ تتحركها أمامه وهو يجلس هادئا واثقا .... الى أن انتهت من تحضير طبق مجهول المعالم و المكونات ... عشوائي المظهر ...
وضعته بعنف أمام سيف على الطاولة .... ثم قالت بهدوء جليدي
( هل تريد شيئا آخر ؟!! ........... )
نظر سيف الى الطبق الغريب بهدوء ... قبل ان يتناول بعضا منه ببساطة وهو يقول
( قهوة من فضلك ........ )
وقفت مكانها ..... تنظر اليه بصمت , و بملامح صلبة قاسية ..... فرفع عينيه اليها متسائلا , لكنها ابتسمت له ببرود و هي تقول
( حاضر ........... )
ابتعدت عنه قبل أن ترتكب جريمة , خاصة و أن السكين كان موضوعا تحت استخدامها في أي لحظة ... بينما قال سيف في أثرها وهو يتناول المزيد من الطبق المعقد
( شكرا ............ )
توقفت لحظة و هي تعض على أسنانها ...... لكنها تابعت اعداد القهوة , و لم تراه و هو ينظر الى رشاقة حركاتها ... و هي تبدو ذات جسد شبيه بأجساد عارضات الأزياء .... تدفع النساء من أجل الحصول على مثله الكثير ... بينما وهبته الطبيعة لها مترافقا مع المرض و الشقاء .....
شردت وعد و تنهدت رغما عنها .... بينما كان هو ينظر اليها من خلفها بملامح كئيبة .....
و ما أن استدارت اليه و هي تحمل قدح القهوة ..... وجدته ينهي طبقه بتلذذ واضح ... فوضعت القهوة أمامه بهدوء هذه المرة و هي تنظر اليه بصمت ... فقال ببساطة مجددا
( شكرا لكِ .......... )
سحبت وعد كرسيا و جلست أمامه و هي تراقب شربه المتلذذ لقهوتها ... ثم قالت بهدوء
( هل تظن أنك بالفعل تحتجزني هنا ؟!!! ....... هل تظنني بمثل هذا الضعف و قلة الحيلة !!! بحيث لا أستطيع العودة الى بيتي بدونك !! ...... )
لم ينظر اليها وهو يرتشف رشفة أخرى متمهلا ... ثم قال بهدوء
( الباب مفتوح , تفضلي ......... القرار لكِ , لكن لا تغضبي من العواقب ....... )
قالت وعد بهدوء
( يمكنني الخروج الآن يا سيف ...... أنا فقط أمنحك الإحترام اللائق كي تعيدني بنفسك )
ابتسم وهو يرتشف رشفة أخرى .... ثم قال بهدوء ضاحكا
( كرم أخلاقك لا حدود له يا وعدي و نصيبي ........ )
قالت وعد بجدية ضاغطة على أسنانها
( أنا لا أمزح ....... بإمكاني الخروج من هنا و استقلال أي وسيلة مواصلات الي بيتي ..... )
قال بهدوء
( تفضلي ...... بما أنك لا تستطيعين القيادة , لذا سيارتي في الخارج في أمان ... لكن أحذرك أولا أنه لا وسائل مواصلات عامة هنا .... فلقد ابتعدنا بما يكفي لأن تكون السيارات الوحيدة القابلة لنقلك هي شاحنات النقل .... و قد تكونين سعيد الحظ في الوصول لبيتك دون التعرض للإغتصاب بنسبة خمسة بالمئة .... )
لم تتغير ملامحها من الجمود الظاهري و هي تنظر اليه ... فقط شفتها السفلى كانت تتكور أسفل أسنانها الشرسة و الغير ظاهرة ....
ثم قالت أخيرا بهدوء
( الأمر ليس بتلك الصعوبة يا سيف ..... بإمكاني العودة وحدي , لكن حينها ستكون حربي أشد شراسة ... )
رفع عينيه اليها . ليقول مصححا بهدوء
( تقصدين ... أكثر دناءة .... )
نهضت وعد من مكانها و هي تقول ببرود
( لا بأس .... سمها كما تشاء , .... أنا راحلة ... )
لكن و قبل أن تخرج من باب المطبخ , سمعته يقول بهدوء
( المعرض الخاص بكِ ........ سأطعن في عقد بيعه .... )
استدارت اليه بقوة و هي تنظر عاقدة حاجبيها بتوجس و هي تقول بحذر
( و ما دخلك بعقد معرضي ؟!! ............. )
قال مبتسما بهدوء
( الشقتين كانتا ملكي في الأساس .... و لقد اشتريتهما أنتِ من و سيط ... بتوكيلٍ مني ... )
فغرت شفتيها بطىء ..... ثم همست بخفوت خطير
( الشقتين كانتا ملك لك ؟؟ ....... و السائق يعمل لديك !!! ..... هل هناك شيئا آخر يجب أن أعرفه ؟؟ .... )
رد مبتسما بهدوء
( الشقة التي تسكنين بها حاليا ..... هي ملكي و أنتِ قمتِ بتأجيرها من موكل ... لذا يمكنك البحث عن مكان آخر للسكن ...... )
ظلت واقفة مكانها تنظر اليه بلا تعبير .... ثم قالت أخيرا بخفوت
( أنت تكذب ........ لا يمكن أن تكون قد وصلت الى هذه الدرجة من الهوس !! ..... )
عقد حاجبيه وهو يقول متظاهرا بالألم
( هوس !! ....... بعد كل ما فعلته من أجلك !!! , أتعرفين كم وفرت لكِ؟!! .........)
لم ترد وعد .... بل ظلت صامتة تتنفس بسرعة , ثم لم تلبث أن قالت
( العقود سليمة .... حتى لو كانت بتوكيل , المهم أنه المعرض ملكي الآن ......... )
رد بهدوء
( نعم ....... لكنني سأطعن به , و سيتم اتخاذ عدة أجراءات طويلة ... و قد يتم وقف العمل فيه الى أن يتم البت في الأمر ....... )
صمت قليلا .... ثم قال بهدوء
( ليست تلك هي البداية السليمة .....لذا من الأفضل أن تجدي لكِ مكانا آخر ...... )
لم تتغير ملامحها و هي تنظر اليه , ثم قالت بخفوت
( إنها حرب قذرة يا سيف .......... )
رد سيف بهدوء وهو ينظر الى جريدته مجددا
( أنتِ بدئتها بارسال دعوى الخلع الى شركتي .......... )
ظلت تنظر اليه طويلا .... بينما تجاهلها هو تماما .. , فاندفعت لتجلس أمامه مجددا و هي تطرق بيدها فوق الجريدة الموضوعة على سطح الطاولة .فرفع وجهه اليها بملامح جامدة التعابير ....
حينها هتفت بقوة
( أنت تبتزني لأبقى معك !! ....... لماذا ؟!! ..... ما سر اصرارك على البقاء مع زوجة تحتقرها ؟!! ... )
قال بهدوء وهو ينظر الى عينيها مباشرة
( أنا أحبك ................ )
فغرت شفتيها و هي ترفع رأسها للسماء مصدرة ضحكة ما بين السخرية و بين الغضب ... بينما لوحت بيديها عاليا .... ثم لم تلبث أن حطت بهما بقوةٍ على سطح الطاولة مجددا لتنظر اليه بشراسة ... لكنها تكلمت بأكبر قدر من الهدوء
( ماذا تريد ؟!!! ...... أن نبقى متزوجين ؟؟ ..... لكن أنا تغيرت , هل يمكنك أن تتقبلني حاليا ؟؟!! .... هل يمكنك البقاء معي بشروطي لا بشروطك هذه المرة ؟؟!! .... )
ارتفع حاجبيه وهو ينظر اليها مبتسما , ثم قال ببساطة هازئا
( شروطك ؟!! ......... حسنا و ما هي شروطك يا سيدة وعد !! أحب أن آخذ فكرة .... )
ظلت وعد تنظر اليه بصمت طويلا ... ثم تكلمت أخيرا بهدوء
( أتعرف معنى أن تبدأ بتحقيق شيء للمرة الأولى في حياتك ؟؟ ..... أن يكون لك كيان خاص و هدف تسعى لتحقيقه بعد أن كنت فاشلا طوال عمرك لأن ظروفك لم تسمح بالأفضل ......
هل تتخيل معنى أن تعمل أي شيء و كل شيء ... باستثناء ما يناسب مؤهلك ....
هل يمكنك أن تتدرك مدى الإهانات و سحق الكرامة لفتاة مثلي عملت بكل وظيفة دونية ممكنة !!
هل تعرف معنى أن تكون على أبواب تحقيق الذات بعد أن ذقت الذل و الشقاء أشكالا و ألوانا ... من الأغراب و حتى من أقرب الناس اليك ؟!! ........
هل يمكنك أن تتخيل احساسي الآن و أنا أتقدم بسرعة لم أعرفها من قبل ... لأنني أفعل ما أحب .. و بامكانيات متوفرة .....
أتستطيع أن تدرك مدى احتياجي لأن أصبح ......... )
صمتت قليلا و هي تنظر اليه .... بينما كان يبادلها النظر بملامح جامدة , بينما عيناه كانتا أعمق و هو يسمع كل كلمة حارقة تتفوه بها ... و حين سكتت , قال يحثها بهدوء
( تابعي ..... لأن تصبحي ماذا ؟؟ ........ )
نظرت اليه طويلا ثم قالت بقوة
( لأن اصبح انسانة ..... انسانة محترمة , ناجحة و ذات كيان ........ )
صمتت للحظة ثم أغمضت عينيها و هي تلوح بيديها هامسة بحرارةٍ و قوة من قلبها
( هل يمكنك فقط أن تتخيل مقدار نهمي لهذا الشعور ؟؟ ........ )
قال سيف بهدوء
(أولم تكوني انسانة محترمة و ذات كيان و أنتِ زوجتي ؟؟ ...... )
فتحت عينيها ببطىء تنظر اليه , ثم هزت رأسها بالنفي بدون تردد .... و قالت بكل قوة
( لا ..... لأنه لم يكن زواجا متكافئا , .... لقد تزوجتك لأنني احتجت الى مساعدتك ...... )
لم تتغير ملامحه .... فقط عينه اليمنى رمشت و كأنها طرفت بشيء أوجعه ... لكنه قال بصوتٍ عميق
( أنتِ تكررين هذه العبارة كثيرا حتى باتت ظاهرة صحية تطمئنني عليكِ .....)
صمت للحظة , ثم قال بهدوء جليدي
( تابعي ...... أنتِ لم تذكري شروطك بعد ......... )
بللت وعد شفتيها قليلا ... ثم قالت بهدوء
( أن أكمل طريقي دون أن تعترضني ...... أن أكون مستقلة عنك ماديا و عمليا .... أن يكون تحقيق هدفي هو الأساس .... بداية عملي ستكون شاقة للغاية , أكثر حتى من عملي السابق .... سأصمم و أنفذ ما أصممه بنفسي .... بالإضافة الى السفر للخارج عدة مرات بالعام ..... سأكون معظم ساعات يومي خارج البيت ... سيكون عملي هو كل حياتي خلال الفترة المقبلة .... )
صمتت قليلا ثم نظرت الى عينيه لتقول بهدوء
( لن أستطيع الإنجاب حتى فترة طويلة مقبلة ..... هذا إن سمحت صحتي بالإنجاب من الأساس .... هل يمكنك أن تتحمل كل هذا ؟!! ....... هل يمكنك أن تكون مجرد ضيف في حياتي ؟!!! ...... )
صمتت و نظرت اليه ..... و تلاقت أعينهما طويلا ..... ثم قال أخيرا بصوته الرجولي العميق
( اخبريني أنكِ تحبيني .......... )
بهتت و أجفلت و هي تسمع طلبه البسيط ..... ففغرت شفتيها قليلا , ثم لم تلبث أن ضحكت بعصبية و هي تقول
( ماذا ؟!! ............. )
رد سيف وهو يشير بيده قائلا ببساطة
( قولي أحبك ...... ما مدى صعوبة ذلك ؟؟ ....... )
نظرت بعيدا و هي تضحك بسخرية عصبية ... ثم عضت على شفتها بقوة ... لتعود و تنظر اليه بقوة و قالت بهدوء
( سيف ...... أنا ...... صدقني .... أنا لست بمثل هذا السوء , لكن الحب .... و تلك المشاعر التي تتناقلها القصص و الروايات هي بالنسبة لي مجرد رفاهية .... لم أعرفها من قبل ....أنا حتى لا أتذكر أن كنت مراهقة يوما .... )
ظل ينظر اليها بكل بساطة وهدوء .... ثم قال
( لا أطلب منكِ سوى الكلمة ...... فقط انطقيها , قولي " أحبك يا سيف " ... )
عادت لتضحك بعصبية ... ثم عقدت حاجبيها و هي تقول بحدة
( توقف يا سيف .......... )
هز رأسه نفيا وهو يقول
( لا ليست تلك هي الجملة ..... قولي " احبك يا سيف " )
زفرت بقوة و هي تنظر بعيدا ... ثم عادت تنظر اليه لتقول بخفوت هامس ... ناعم و رقيق
( سأكون صادقة معك اذن ..... أنا ... سأكون سعيدة إن وافقت على البقاء معي بشروطي ..... فعلى الرغم من كل ما كان بيننا من قبل ... الا أنك تشعرني بالسعادة في كثير من الأحيان .... أنت تشعرني بأنني .... )
صمتت قليلا ... ثم همست
( بأنني أمرأة ...... جدا ...... )
صمتت لحظة و هي تطرق برأسها هامسة بابتسامة جميلة ... و همست مجددا
( جدا ........... )
لم ترى ظل ابتسامة زينت شفتيه وهو ينظر الى وجهها المحنى .... تتناقض به القسوة مع الخجل .. أما العينين الشتويتين فتسرحان مع ذكريات لا يعرفها سواه ......
لكنه حين تكلم قال بهدوء
( ليس هذا هو طلبي ....... قولي أحبك يا سيف ..... )
رفعت وجهها اليه و قد ظهر التخلف على ملامحها و هي تنظر الى ملامح وجهه الهادئة ... ثم قالت بحدة
( أنه خطأي .... أن كنت صريحة و صادقة معك , أنت ككل الرجال ... يمكن التلاعب بكم بمجرد كلمة ... يمكنني تكرارها ليل نهار لنيل ما أريد .......كيف ستعرف أنني لا أكذب عليك ؟!! )
ابتسم وهو يقول
( ستكررينها كثيرا منذ تلك اللحظة ..... حتى ترف عينيك مع إحداها ...... )
نظرت اليه و كأنها تخاطب مسكينا عقليا , ثم قالت بعدم تصديق
( أنت مراهق ......... )
ضحك قليلا وهو يقول بصوتٍ عميق للغاية
( كل هذا جدال يا وعد ؟!!! .... ما مدى صعوبة النطق بعبارة بسيطة !! .... )
نهض من مكانه و جذبها من كفيها حتى وقفت أمامه .. فقال آمرا بهدوء
( قوليها .......... )
رفعت وجهها تنظر الى نقطةٍ خلف كتفه ... و هي تتنهد بقوة , ثم قالت بوجوم
( أحبك يا سيف ......... )
خرجت من شفتيها كقرص دواء وقف في الحلق مستعرضا رافضا البلع ......
ضحك قليلا وهو يقربها منه ثم قال بصوت أكثر خفوتا
( كرريها ........ )
تنهدت بقوة و هي تقول مجددا بجمود و غضب
( أحبك يا سيف ........ )
ضمها الى صدره وهو يلامس لفة شعرها في مؤخرة رأسها و عيناه تسرحان عليه هامسا
( كرريها ......... )
رفعت وجهها اليه و همست برقة تكاد تكون توسلا
( أرجوك لا تحرمني من حفل الإفتتاح ..... لقد تعبت من أجله كثيرا ...)
أخفض نظره اليها ينظر الى عينيها وهو يقول بجدية
( أظنني طلبت منكِ سماع جملة محددة !! ....... )
أجفلت قليلا ... ثم قالت تلقائيا و هي تنظر الى عينيه
( أحبك يا سيف ........ )
طالت بهما النظر الى أن رمشت بعينيها و هي تنظر خلف كتفه ....
حينها التقطها بقوةٍ و شفتاه تهاجمان كل مقاومةٍ لها .... كانت قوة تكاد تكون عنيفة لدرجة آلمتها .... لكنه كان عنفا مختلفا ....
عنف بقوة محمومة ....في مسمى سطحي كالقبلة .... مسمى لا يليق لذلك الإجتياح الهادر ....
نيرانٍ سائلة اندفعت في أوردتهما ... منه اليها .... و يديه تعتصرانها بقوةٍ و شفتيه تأخذان المبادرة بجنون ...
و مرت لحظات طويلة من جنون لا يمكن وصفه .....
الى أن شعرت بالدوار ..مما جعلها تشهق طالبة للتنفس .... و ما أن تركها أخيرا حتى تراجعت وهي تلهث ناظرة اليه بذهول حتى استندت بكفيها الى سطح الطاولة خلفها ....
و كان هو يلهث كذلك بعنف اكبر ... ناظرا اليها بعينين تشتعلان .. ثم قال أخيرا بصوته اللاهث
( إجابة على شروطك ....... لا يا وعد .... إجابتي هي لا .... لن أكون مجرد ضيف في حياتك , فأنا أستحق أفضل من ذلك ...... أستحق المجموعة كاملة .... بيت و أسرة وأطفال .... زوجة تكون في انتظاري و أكون أنا كل حياتها ..... لأنها ..... )
صمت وهو ينظر الي عينيها المذهولتين المتسعتين و تابع بغضب
( لأنها كل حياتي كذلك .......... )
ابتعد خطوتين وهو يقول غاضبا بصوتٍ مكبوت
( من الأفضل أن تبدأي بتحضير الغذاء من الآن .....و المباشرة بالتنظيف ... .. )
كانت في حالة من الذهول .... و الإنفعال , مما جعلها تصرخ دون تفكير
( و الا ماذا ؟!! ...... تضربني بحزامك مثلما فعل بك والدي !!! ....... )
استدار ينظر اليها بصمت ... فبهت وجهها بشدة و هي تلعن لسانها الشيطاني و روحها القاسية التي بدأت تقارب الفساد ..... لم تقصد أن تكون بمثل هذه القسوة ..... و التي تفوق قسوة تهديده لها بحزامه ليلة أمس ... لأنها ببساطة قهرت رجولته بعبارتها .... قهرا أسوأ من الضرب ......
حاولت أن تعتذر له , الا أنه أستدار غير راغبا في النظر الى وجهها في تلك اللحظة
ثم تركها و خرج ..... فجلست على اقرب كرسي لها بعد أن شعرت أن ساقيها غير قادرتين على حملها من بسترة المشاعر التي تتعرض لها منذ أن وطأت قدميها هذا المكان ....
.................................................. .................................................. ......................
خرج سيف بعنف الى الهواء الطلق عله يهدىء قليلا من النار المشتعلة بداخله ... فلو ترك نفسه بالداخل للحظة واحدة أخرى فسوف .....
ركل حصوة قريبة من قدمه بغضب وهو يهتف عاليا
( تبا لذلك ............. )
ثم أخرج علبة سجائره و التي عاد اليها مجددا بسببها .... الغبية المتحجرة .....
ووقف مواجها للهواء البارد .... ينفث دخان واحدة أشعلها بغضب قبل أن يدخل اليها مجددا و يشعلها هي بذات نفسها ....
لا يعتقد أنه خاض حربا أطول و لا أصعب من تلك التي يخوضها حاليا .... حتى أنه بدأ يتسائل إن كان الأمر يستحق كل هذا العناء !! ....
أخرج هاتفه من جيبه و طلب رقم والدته ... و التي ما أن ردت عليه متلهفة حتى قال بهدوء
( أشتقت اليكِ يا أمي ..... اشتقت اليكِ جدا )
ذهلت منيرة من صوته الملهوف عليها , فهتفت بحرارة
( و انا اشتقت اليك يا حبيبي ..... أكاد أجن بدونك يا سيف , لقد غبت عني كثيرا في الآونة الأخيرة يا حبيبي , هل هنت عليك يا سيف ؟!! ..... )
نظر سيف الى السماء الزرقاء البعيدة و الصافية .. بعد المطر ... ثم قال بصوتٍ عميق
( لقد جرحتك كثيرا ..... اليس كذلك ؟؟, حملت ذنب ألم والدي .... و موته .... )
صمتت منيرة بصدمة , ثم لم تلبث أن قالت بقلق حقيقي
( لماذا تقول ذلك يا سيف ؟؟ ...... ماذا بك يا حبيبي ؟؟ ....... )
تكلم سيف بصوتٍ خافت حزين
( لقد ظلمتك يا أمي .... و حاكمتك لسنواتٍ طويلة .... حتى في صمتى كنت أحاكمك , لكنني لم أفكر أنني قد أفعل مثلك لو كنت في مثل موقفك ..... لم أفكر بكِ من قبل .... )
صمت قليلا .... ثم تابع ضاحكا بحزن
( أمي .... أنا مشتاق اليك , و اشعر بالرغبة في قتل وعد و المجىء اليكِ للإرتماء بحضنك .... )
ضحكت منيرة بإختناق من بين دموعها الغزيرة .... ثم همست برقة
( لا يمكنك قتلها مهما فعلت ..... فأنت ابن أبيك و رجل لإمراءة واحدة ...... )
ضحك قليلا وهو يحك جبهته قائلا بصوتٍ أجش
( أشعر في تلك اللحظة أنها لا تستحق ........ )
قالت منيرة رغم بكائها مبتسمة
( تلك التي سرقت قلب ابني و نجحت في الاحتفاظ به رغم مرارة الماضي ... من المؤكد أنها تستحق , ربما فقط تحتاج لأن تمحو بعض الغبار من عليها .... و حينها قد تجد ضالتك .... )
رفع سيف وجهه عاليا ... ثم قال بخفوت
( و ماذا عن الغبار بداخلي أنا يا أمي ؟؟ ......... )
همست منيرة برقة
( لو ستؤذيها ..... فاتركها الآن يا سيف , كي لا تكره نفسك يا حبيبي .لكنني لا أظن ذلك ..... لقد أحببتها بالفعل , لذا تعلم فقط كيف تحبها بما تستحقه ...... )
ابتسم سيف .... كان يعلم أن صوت أمه هو الشيء الوحيد الذي سيمنعه من أذية وعد في تلك اللحظة ...
و قد نجح بالفعل .... قال سيف أخيرا بهدوء ,
( أمي ..... هل ورد بجوارك , أم أكلمها على هاتفها ؟؟ ...... )
ردت بهدوء و هي تمسح دموعها
( إنها هنا تتنصت على مكالمتنا كالعادة .... تنتظر خبر وضعك لوعد في الموقد .... )
ضحك سيف بخفوت وهو يقول بهدوء
( هاتها .... كي أكمل عليها ....... )
خلال دقيقة كان صوت ورد ينطلق كالرصاصة في منتصف رأسه ... و هي تقول بشراسة
( لا أصدق أنك تركتنا لتذهب الى زوجتك المبجلة .... الا ترى أننا افترقنا ... لقد أخذتك منا يا سيف ... )
قال سيف بهدوء يقاطعها
( اذن خذي منها أحدا بالمقابل ........ )
ظلت ورد تسمع قليلا و حاجباها يرتفعان بذهول حتى قاربا لأن يصلا الى مقدمة شعرها ثم لم تلبث أن هتفت بجنون
( من ملك تلك التي أحضرها الي بيتنا يا سيف !!! ..... الا تكفي المبجلة وعد حتى آتي أختها !!! .... انسى ... قسما الله !! ,.... انسى .... والله لو .... انسى ...... )
كان وجهها أحمر بغيظ ., الا أن سيف قال بهدوء ما أن سكتت و هي تحاول التقاط أنفاسها
( أرجوكِ يا ورد ...... لقد احتجزت وعد رغما عنها , و ليس من العدل أن أترك ملك وحدها كل هذا الوقت ..... ثم أنها ليسست ابنة عبد الحميد .... )
كانت ورد تلهث بغضب و جنون ... فقال سيف متملقا ببراءة
( هل يفيد لو أخبرتك أن وعد تعيش حاليا أسوأ أيام حياتها ؟؟ ...... أنا أذيقها مرار العلقم و أريها سواد الفحم ..... )
قالت ورد بقنوط
( حقا ؟!! ........... )
قال سيف بأمانة
( صدقيني .... يتبقى لها يومين فقط و يقف شعرها كالمصعوقين من شدة الغيظ و الجنون ..... )
تنهدت ورد بغضب ... فقال سيف بجدية
( ليس لها ذنب في كل ذلك يا ورد ..... اعتبريه فعل خير ..... )
قالت ورد بعد فترة طويلة من بين أسنانها
( حسنا ...... سأرى ........ )
قال سيف مؤكدا
( اليوم يا ورد .... اذهبي اليها اليوم و صري عليها .... لا تتركيها الا و هي في يدك ....... أرجوكِ يا ورد ..... أعرف أنكِ لن تخذليني ...... )
مطت شفتيها و هي تشير لأمها اشارة الذبح ... ثم ترفع اصبعها الى السماء تحتسب عند الله ....
ثم قات بفتور
( حسنا ...... حسنا ..... فقط إن وعدتني أن تعلق وعد من رموش عينيها ..... )
قال سيف بأمانة وهو يشر بكل الرغبة في ذلك
( سأفعل ما بوسعي .......... )
بعد أن أغلق هاتفه أخرج سجارة أخرى .... محاولا التخلص من كل طاقة سلبية أشعلتها بداخله , قبل الدخول اليها .... لقد آلمته هذه المرة ... و بشدة .... لكن منذ متى ادخرت وعد جهدا كي لا تؤلمه !! ....
عاد لينفث دخان سيجارته بقوة .......
سمع فجأة صوت رنين هاتفها .... في جيبه الآخر , فأخرجه ينظر اليه بصمت وهو ينفث دخان سيجارته .. ثم فتحه ليضعه على أذنه .... حينها سمع الصوت الرجولي الذي يعرفه جيدا يهتف بقوة
( أين أنتِ يا وعد ؟!! ....... لقد أثرتِ جنوني و أنا أحاول الإتصال بكِ ... بالله عليكِ لما كل هذا الذعر ... و لماذا هربتِ ؟؟ ..... ألهذه الدرجة كان عرض الزواج بي مرفوضا ؟!! .... )
.................................................. .................................................. ......................
دخل كريم المكتب خلف أكرم .... و أغلق الباب خلفه بصمت .... ليجده واقفا ينظر من النافذة يويله ظهره ...
و ما أن تقدم عدة خطوات حتى قال أكرم دون مقدمات .... بصوتٍ خافت لكنه خطير ...
( هل تدرك ..... مدى جنون ما ارتكبته !! ...... )
رفع كريم وجهه ليقول بخفوت و أسى
( أعطني فرصة لأشرح لك يا أبي ....... )
الا أن أكرم كان قد استدار اليه بعنف و قد بان الشر على ملامحه وهو يصرخ و قد فقد السيطرة على شياطينه
( هل أصابك مس من الجنون كي ترتكب ما فعلته !!! ....... لقد حذرتك .... حذرتك من الماضي !! ... اتدرك خطورة تلك الفضيحة لو انتشرت !!! ..... )
اقترب كريم منه بسرعةٍ وهو يقول متوسلا
( اسمعني يا أبي أرجوك ...... دعني أتزوجها .... و تدخل بيتنا ... و تكون واحدة منا , هي لا تريد سوى ذلك ..... صدقني ..... لا مصلحة لها في ضرري .... )
صرخ أكرم بوحشية
( لماذا أرضى بلي ذراعي ..... بسبب نزواتك ؟!!! ... )
هتف كريم بعذاب
( إنها ليست نزوة ..... إنها المخلوقة الوحيدة التي عشقتها من كل قلبي , لا أستطيع العيش بدونها .... )
لمعت عينا أكرم بشراسة .... ثم لم يلبث أن قال مشددا على كل حرف
( اذن اذهب اليها و لا تعد الى هنا ....... )
اتسعت عينا كريم بارتياع وهو يقول
( لا ..... لا يا أبي .... أنت لا تقصد ذلك .... )
ظل أكرم ينظر اليه بنظراتٍ باردة ... لا تحمل أثرا للأبوة .... فقال كريم متوسلا
( دعها تصبح زوجتي ..... أرجوك ...... )
ظلت نظرات أكرم باردة كالجليد ... ثم قال أخيرا
( قبل أن أصدر أي أمر ....... يجب التخلص من ذلك الجنين ..... و الورقة التي تحمل اسم شادي عبد الله , بعدها قد أفكر في الأمر ..... )
اتسعت عينا كريم بذهول و صدمة .... و همس باختناق
( لكن يا أبي , ارجوك ........ ليس الجنين ..... )
قال أكرم بلهجةٍ لا تقبل الجدل
( هل تريدها أم تريد ذلك الجنين الذي لم تدب به الروح بعد ؟؟ ...... اختار و الآن ..... )
صمت كريم قليلا ... و العالم يدور من حوله , بماضيه و مستقبله ..... ثم لم يلبث أن قال بصوتٍ ميت
( هي ...... اختارها هي ........ )
.................................................. .................................................. ......................
وصل رائف الى البيت ... و لأول مرة يشعر بالنفور من الدخول اليه .....
هذا البيت لم يعد بيه بعد الآن ..... اصبح يبغضه , و سيرحل منه ما أن ينهي موضوع كريم .... و..... ملك ....
تنهد بوجوم قاتل وهو يدخل القصر بتثاقل .... حينها وجد كريم خارجا من مكتب أكرم بكتفين منحنيتين ... ووجه شاحب .... فشعر بالقلق ,من النتائج التي قرأها على وجهه المتهدل ...
أسرع رائف اليه و ما أن وصل له حتى جذبه من ذراعه بعنف ورماه الى أقرب جدار .... ليمسك بعنقه بقبضةٍ واحدة ... جعلت عينا كريم تتسعان باختناق وهو يقول مذهولا
( ما الأمر يا خالي ؟!!! ........ )
همس رائف من بين اسنانه و هو يشعر بأنه يود لو يسحق عظامه كلها لخسته و دنائته
( لا تنطق كلمة خالي تلك مجددا أيها القذر ..... )
اتسعت عينا كريم أكثر .. و حاول التلوي لضرب رائف , الا أن رائف كان أسرع منه , ففعل ما تمناه منذ ساعة .... رفع ركبته ليضربه في معدته ...... ثم ترك عنقه ....
سقط كريم متأوها وهو يمسك بمعدته بكلتا ذراعيه ... بينما كان رائف ينظر اليه بغضبٍ و هياج عنيف ....
لكنه تنهد أخيرا .... و انحنى اليه ليساعده في الوقوف ... ثم أمسك بذقنه يرفع وجهه اليه ... و ربت على وجنته بقوةٍ وهو يقول بلهجة الأمر و المساندة رغما عنه
( ستتزوجها ...... أيا كان ما أمرك به والدك , فسوف تتزوجها ..... رسميا و عند مأذون حقيقي أيها القذر ..... و سيولد الطفل و وهو يحمل اسمك .... اتفهمني .... )
رفع كريم وجهه الباهت ينظر الى ملامح رائف المتوحشة الغاضبة ..... بتخاذل واضح , فشعر رائف بالقلق و أدرك أنه قد يتسبب في أذية ملك لو لجأ الى العنف معه ... لذا قال بعنف مكبوت بعد فترة طويلة , رغم التقزز الذي يشعربه من السؤال
( اسمع ...... أتحبها ؟؟ ........ )
نظر كريم الى رائف بعينين ميتتين كالسمك ..... ثم قال بحزن
( بل أعشقها ..... إنها مليكتي .... ملكي أنا وحدي ..... )
شعر رائف بقبضة جليديةٍ تضرب منتصف صدره برفض غير مبرر ..... و كأنه .....
ابتلع ريقه ليقول بصرامةٍ و جفاء
( اذن لا تكن أكثر نذالة معها ..... فهي لم تعد .... مجرد حبيبتك , بل هي أم طفلك كذلك ....)
تركه رائف بعنف ... و كأن ملمسه سيدنسه . ثم تابع بازدراء
( كن رجلا ...... و الا والله أنا من سيقف للحصول على حق تلك الصغيرة التي انتهكتها أيها القذر )
ابتعد رائف مستديرا عنه ببطىء ..... ثم قال بجفاء و احتقار دون أن ينظر اليه
( أمامك حتى الغد كي تعلمني بقرارك ..... و الا أنا من سيتصرف ..... )
ثم ابتعد سريعا .... وهو يشعر بالقبضة الجليدية تزداد ضغطا على صدره ..........
.................................................. .................................................. ......................
جالسة بجواره في سيارته الفارهة السوداء بأكملها ... نظرت بمنتهى البرود الى يده التي لامست ركبتها برفق ... فرفعت وجهها اليه و هي تقول بثبات مغري
( علوان ........ سر جمالي , أنني لا أقبل اللمس الا بعد الزواج )
و بمنتهى الهدوء مدت يدها تبعد يده التي تطاولت الى فخذها .... فنظر اليها بصدرٍ لاهث ....
وقال بخفوت متنهد في سكون الليل المحيط بهما
( آآآآه يا شيراز ..... كم ساعة متبقية !! ..... )
ابتسمت ببرود و هي تنظر أمامها هامسة تتلاعب بخصلة ملتفة بعناية حول أذنها
( لقد انتظرت كثيرا يا علوان أشهد لك بذلك ..... و أنت تنظر الى رحيلي كل ليلة مع زوجي , منتظرا أن تكون مكانه .... قدرة فائقة تثير الإعجاب .... )
مد يده يتلمس ذقنها حتى أدار وجهها الجميل اليه ... ثم همس بصوتٍ جائع خافت
( تستحقين الإنتظار ...... الوغد نال منك الكثير , حتى ازداد تورده يوما بعد يوما و بات كالثور .... )
ضحكت بخفوت على الرغم من نوبة القرف التي أثارها كلامه بداخلها ... و بهدوء مدت يدها تسحب كفه بعيدا عن ذقنها ..... لتنظر من نافذتها التي تساقط عليها المطر الأسود الليلى في أنها قصيرة ....شديدة البرودة ...... و أظلمت عينيها و هي تهمس بداخلها
" ولت أيام البحر ونسيم الشروق ........ "
دخلت تتأبط ذراعه ... فاستدارت اليهما كل الرؤوس بفضول ...
فهما طبعا مشروع الإقتران الجديد في نفس المجموعة التي تعرفهم فردا فردا ..... فقد كانت زوجة احدهم ذات يوم ... و بمعنى أصح كانت زوجة أكثرهم قذارة و اختلالا ...
هي دائرة عفنة تدور دون توقف .... ليست الوحيدة بينهم التي تم طلاقها من أحدهم لتتزوج الآخر ...
و بمنتهى الروح الرياضية يحضر الجميع في الحفل التالي ... و يسلم الطليق على الزوج الجديد متمنيا له السعادة ....
كانت دائرة قذرة لمتعة سادية .... مشروعة ظاهريا ... و الزوجات بها هن مجرد بضاعة أثرية ... كلما استهلكت زاد ثمنها ... على حسبِ علو مقام المالك السابق ... و المالك التالي .....
نظرت بطرفِ عينيها الى شريكها الجديد و الذي ستتزوج منه خلال أيامٍ لم تحددها بعد ...
فهي حتى الآن تماطله و تتركه يتحرق على نارٍ هادئة .... بصوتها المغري الذي تتفنن في استخدامه كل ليلةٍ لساعات طويلة ... على الهاتف ليلا و هي تتحدث معه بدلالٍ مثير ... و تسمع منه كلاما قذر يحب أن يتفوه به بصوتٍ خافت ... و هي تسمعه مجبرة , و مقاومة شعورها بالنفور ...
تقسم بداخلها أنها ستنال منه كل تعويض ممكن على انتقامه الخسيس ....
هل كانت غبية حين ظنت بأن علوان سيقبل بأن يوضع على الرف الى أن تنتهي من مغامرتها العاطفية الساذجة !! ....
لقد كان يراقب كل حركةٍ لها ... و يستمتع من بعيد وهو يسمح لها بحرية اللهو من خلف ظهره قليلا ... الى أن ضرب ضربته أخيرا و نجح في اصطيادها .....
و الآن اللعبة تشوقه أكثر .... بصوتها الهامس كل ليلة حتى الصباح , كطالب مراهق لا يملك سوى الخيال عنها حتى ترضى عنه .....
لذا قررت أنه لا حاجة للمزيد من تعذيبه ... يكفيه هذا فلتتزوجه و تنتهي من تلك القصة البغيضة ... حاملة معها ربح العمر ....
على الأقل ستكون ممتنة له مدى العمر أنه علمها الدرس الأصعب .... أنه لا وجود للحب الا في القصص و الحكايات ...
انها المتعة الخالصة و ما يستلزمها من مصالح متبادلة ... و هي ما ينمقها الجميع في اسم الحب المزيف ....
أما هي ...... فقد مات قلبها ... و ترك مكانه جثة باردة .... تراقب الجميع بابتسامة خاوية , تثير من غرائزهم .....
الليلة هي الحفل الأخير الذي سيحضرانه قبل أن يكونا زوج و زوجة ....
و بات الجميع يعلمون الخبر الآن , لذا حرصت على أن تتأنق بأروع صورها ..... فارتدت فستان أسود ناعم , يتطاير فوق فخذيها ... مكشوف الظهر , مظهرا جمال تشريحه الدقيق مع كل حركةٍ و كل عضلة هشة رقيقة ....
ساقاها الجميلتان لفتت نظر الجميع بلا استثناء .... كانت تجمع بين الأنوثة و الطفولة بشكل فطري غريب .,
خاصة مع شعرها الأشقر المجموع خلف عنقها بأناقة ... تاركة بعض الخصلات الملتفة بعناية ... تتأرجح على جانبي وجهها ....
عيناها الخضراوان مكحلتان بمهارة ... بنظرةٍ ميتة , تتحدى أشد الرجال أن يحيها لتهبه ما يتمنى ....
شفتاها المكتنزتان حمراوان بلون الدم .... و كأن الأحمر قد خلق ليزينهما دون غيرهما ....
جلست على الكرسي الذي أزاحه علوان لها واضعة ساقا فوق أخرى ... بينما الجميع ينظرون اليه بحسد على تلك الصغيرة التي تزداد بهاءا مع زيادة الصرف عليها ....
الطلاق قد يكون اتهام في المجتمع كله ..... الا في هذا المجتمع تحديدا ... مجتمع يقوم على التبادل , و المرأة التي اقترنت بأكبر عدد من الأسماء الكبرى , يزداد ثمنها ....
كانت تنظر للجميع باستعلاء ...... باحتقار .... تراقب ازدراء البعض .. و نهم البعض الآخر وهو يتمنى النيل من طفولتها ....
ثم حانت منها نظرة الى علوان الذي بدأ على الفور في حديث تجاري مع شخصية من أكبر الشخصيات ....
بهت تعاليها قليلا وهي تراقب ملامحه و حركات يديه جيدا ....
و أظلمت عيناها قليلا و هي تتسائل
" ترى .... هل يكون بنفس سادية رابح و ميوله المختلة !! .... "
ظلت تراقبه و هي ترتشف من كأس العصير الموضوع أمامها .... هي شخصيا لا تظن ذلك , لكن من يعلم ... ربما كان يخبىء تحت الواجهة الراقية نفسا مختلة تشبه ما خبرته من زوجها الأخير ....
لقد كان لديها بعض الطاقة و القوة لتحمل رابح ..... لكنها الآن فقدت تلك الطاقة , و لا حمل لها لتحمل المزيد من الذل و الألم و لو دفع لها كنوز العالم .....
انبعث صوت لحن شرقي حزين من الفرقة العازفة بآخر القاعة .... فتمايلت رأسها مع اللحن و هي تتعرف تلك الأغنية جيدا .... و شردت عيناها معها بعيدا , بينما ابتسمت شفتيها الحمراوين السخيتين ....
ثم و بتجاهل شديد لمن يجالسونها .... أنزلت ساقها و اتجهت بخيلاء تحت أنظار علوان الذي كان يراقبها دون أن يتوقف عن كلامه ... الى أن وصلت للفرقة العازفة , فابتسمت لعازف الكمان و ابتسم لها ....
فانحنت اليه و همست في أذنه مبتسمة ... فسحرته ابتسامتها , و سرعان ما ناولها مكبر الصوت و بدأ اللحن عزفه من جديد ... فتقدمت بكعبيها الرفيعين الى المنتصف و بدأت في التمايل بخصرها على اللحن و هي تغني تلك الكلمات التي لطالما كانت صعبة على مستواها ... لكن من كثرة سماعها لها أتقنتها بتمايل ساحر
لما بدا يتثنى.. حِبِي جَمَالُه فَتنّا
أمرٌ ما بلحظة أسرنا
غُصنٌ ثنا حينَ مِال
وعدِي ويا حِيرَتي
مَن لِي رَحيمُ شَكوَتِي.. فِى الحُبِ مِن لَوعَتِي
الا مَالِكُ الجَمَالِ
صمت الجميع وهم يستمعون الى صوتها المجوف .. بينما سحرهم الأكبر كان بخصرها المتمايل على الرغم من ثبات خطوتها في مكانها ....
رفعت عينيها و هي تغني بصوتٍ رنان ... فاصطدمت عيناها بعينيه ..... فتسمرت ... و صمتت ....
كان هناك ... واقفا بآخر القاعة , ينظر اليها بغموض , ... لولا حفظها لملامح وجهه عن ظهر قلب , لما تعرفت اليه من قسوة عينيه ...
كانتا مخيفتين ......
اشتاقت له ... رباه , كم اشتاقت اليه !! .... و كم خشيت تلك اللحظة التي ستلتقي عيناه بعينيها وهو يدرك حقيقتها جيدا .....
فغرت شفتيها و هي تنظر اليه من بعيد ... بعض المدعوين يمر من أمامه , فيحجبه عن ناظريها ...
فتسير معه الى أن تنجلي الرؤية أمامها و تراه مجددا ... فتقف مكانها و هي تراقبه مجددا ...
نظراته لا تحيد عنها .... نظراتٍ مرعبة وكأن شخصا آخر قد تلبسه .....
لقد ظنت أن قلبها مات برسالته ... لكنه عاد ليحيا و ينبض بعنفٍ ما أن وقعت عينيها عليه .... حتى و إن كان ينظر اليها بازدراء و كره ....
كم كان و سيما .... حتى في بغضه لها جميلا ..... البحر يموج من عينيه و النسيم يعصف من حوله و كأنه وجوده هنا في هذا المكان نشاز ....
نعم وجوده هنا خطأ .... و كلما أسرع بالخروج كان ذلك أفضل لكليهما ....
كانت واقفة مكانها ممسكة بالميكرفون و هي منحنية الكتفين بخزيٍ غريب من حياتها و ماضيها الذي انجلى أمامه ... و كأنها تقف أمامه عارية تماما ...
حاولت التغلب على خزيها ... و بمعجزة تمكنت من رفع كتفيها ... و رفع ذقنها عاليا ... ثم تراجعت للخلف برشاقة و هي تناول الميكرفون لأحد العازفين مبتسمة له بسحرها الغامر ...
ثم لم تلبث أن عادت لتتمايل بحريةٍ هذه المرة ... و بخطواتٍ راقصة رشيقة .... تجعل منها راقصة محترفة .... حتى أن الجميع أبتعد ليخلون لها المكان كي تتمايل ببراعة ....
لم يكن رقصا شرقيا و لا غربيا .... بل كان تمايلا ساحرا .... و الهمسات تعلو من حولها .....
الى أن انتهى اللحن و حل محله لحن غربيا لرقص الثنائيات ....فعلا التصفيق لها من كل مكان ...
و ما أن بدأت الثنائيات من الإقتراب للرقص حتى حاولت الإبتعاد و هي تشعر بالرغبة في الموت سريعا ... بعيدا ... الزحف تحت الأرض ربما ... أي طريقة تمكنها من دفن نفسها بعيدا عنه قبل أن يدركها ... لذا أسرعت الخطا و هي تطرق الأرض بكعبي حذائيها .... لكنها لم تكد تتحرك عدة خطوات مهرولة حتى شعرت بقبضةٍ حديدية تمسك ذراعها بشدة .... و أصابع شرسة تحفر في لحمها الغض ..
أدارتها اليد اليه بقوةٍ قبل حتى أن تجد الوقت كي تستدير بنفسها ... فاصطدمت عيناها بصدره العريض القوي و عرفته قبل أن ترفعهما الى عينيه المتوحشتين ... ابتلعت ريقها و هي تشعر بالعشق المحرم يجتاح الرعب و يهزمه ... فسمحت لعينيها أن ترتويان للحظات معدودةٍ من جماله ...
قبل أن ترفع وجهها بكل اقتدار و تتمكن من الإبتسام بكل إغراء و هي تقول بصوتٍ لم يعرفه منها من قبل
( انظر من هنا !!!! ...... عاشق الأجازات ... منقذ النساء المنهارات ...... )
كاد لهيب عينيه أن يلفح بشرتها و يحرقها .... الا انها تمكنت من الهمس بصوتٍ أجش و هي ترفع اصابعها لترسم على صدره بدلال هامسة
( كيف حال بطلي الغاضب ؟!! ....... كانت صدمة , اليس كذلك ؟؟ ...... )
لم يرد وهو يتأملها من قمة رأسها حتى أخمص قدميها .... فتابعت برقة تذيب الحجر و هي تتعمق بلمساتها
( شكرا على الورد .... و الرسالة , على أنها لم تكن الباقة الأولى التي ترسلها الي ..... لكن شتان ما بين الرسالتين ..... )
ضحكت بخفة و هي ترفع وجهها اليه لتتحدث همسا بإغواء من بين شفتيها الحمراوين و كأنها ذات سحرٍ مسكر ...
( الرسالة الأولى كانت .... " آسف " ...... كم هذا رقيق !! )
مد ذراعه يحيط بها خصرها ... ليضمها اليه وهو يجرها الى ساحة الرقص حتى وقعت على صدره دون أن تستطع مقاومته ... و التقطت يده الأخرى كفها التي كانت تحاول دفعه بها ... لتجده يميل بها وهما يبدآن الرقص بالفعل ....
تصلبت و هي تحاول جاهدة مقاومته و الإبتعاد عنه ... الا أنها بدت كمن يقاوم لوحا صخريا ... بينما انخفض وجهه اليها و همس في أذنها بهمسٍ خافت
( أعدك أن أصفعك كل ليلة ..... و حينها لن تحصلي على كلمة أسف واحدة .... )
ارتعشت بشدة وهو يميل بها .... يضمها أكثر مما ينبغي لافتا الأنظار اليه .... بينما كان قلبها يخفق بعنف ضاربا منتصف صدره و تسائلت بجنون إن كان يستطيع الشعور به ..... مثلما تشعر بقلبه تحت وجنتها يبدو كمضخة جبارة , ليست تضخ عشقا .... بل غضبا أسود ....
لكنها قاومت هلعها و همست بصوتها المغوي
( بالله عليك يا وليد ....... لا تعطي الأمور أكبر من حجمها , لقد كان وقتا سعيدا و قضيناه معا ... لكنه انتهى ككل شيءٍ ينتهي .... و آن لي أن أعود الى حياتي ..... )
رفعت وجهها اليه و استحقت جائزة الأوسكار و هي ترسم ابتسامة حمراء قانية ساحرة ... لتهمس بخفوت
( لو لم أكذب عليك .... لما كنت قد انجذبت الي , و لما كنا عشنا تلك الأيام الجميلة معا ... اعتبر نفسك عشت دورا بداخل مسرحية جميلة ... و انتهى ..... أنت لم تخسر شيئا ... )
ضمها اليه أكثر ... و من ينظر اليهما يظنهما عاشقين , لكنه كان يود لو يقصم خصرها نصفين متلذذا بصراخها .... ثم همس في أذنها يلامسها بشفتيه
( لقد كدت أن أمنحك أسمي .......... )
تشوشت الرؤية أمام عينيها الخضراوين الشفافتين بغلالةٍ سريةٍ من الدموع ... و ارتجفت شفتيها الحمراوين و هي تتنفس بهما نفسا حارقا كماء الناء .... لكنها ابتسمت بسخرية مريرة لتهمس برقة
( ماذا أقول ؟!! ..... لقد ارتكبت أقدم و أغبى خطأ يمكن أن ترتكبه كما يقولون ..... )
صمتت للحظة و هي تغمض عينيها لتطرف بهما دمعتها الكريستالية ... ثم فتحتهما لتهمس مبتسمة بفتور
( وقعت في الحب أثناء عطلة ....... و تلك القصص معروفة النهايات .... , كان عليك أن تكون أذكى من ذلك ...... )
ضحك قليلا فخرجت ضحكته كحلقاتٍ من اللهيب الساخن هدرت بداخل تجويف أذنها فارتعشت ... ليقول بخفوت وهو يريح وجهه الى وجهها
( نعم ..... كم كانت مهذلة حقا !! , لا بد أنكِ تسليت طويلا بذلك العاشق الأحمق و الذي كان يحترمك و يخشى عليكِ من النسيم ... حتى انه كان يلوم نفسه بجنون ما أن يتيه خياله معك قليلا وهو يتخيل نفسه يلامسك ..... يراك ِ .... يشعر بجمالك الفطري ..... )
صمت قليلا ثم تابع بصوتٍ أكثر خفوتا
( كان يلوم نفسه على مجرد الخيال !!....... أما القبلة الأولى فأشعرته أنه وغد حقا ........... )
أغمضت عينيها بشدة ... و هي تشعر بصدرها ينزف بقوة , ..... الا أنها فتحت عينيها شاهقة بصمت حين تابع بخفوت مقيت
( بينما أنتِ في الحقيقة , مجرد لقيطة ...... تطوفين الفنادق للحصول على زبون جديد )
كانت ترقص معه كالميتة ..... تستمع الى كلماته بلا روح .... حتى القدرة على الشعور بالألم ماتت لديها ...
فقالت بصوتٍ جامد النبرات
( لابد و أن تكون قد تعلمت من الدرس اذن .... لا تثق بفتاة وحيدة في عطلة ... فهي على الأغلب تكون في موسم العمل ........ )
شعرت بصدره يضرب صدرها بعنفٍ أكبر .... لكنها شهقت حين قال بخفوت و هو يميل بوجهه اليها
( اقضي الليلة معي ...... سأدفع لكِ بسخاء ثم أتركك لحالك للأبد .... )
كانت تتنفس بجنون .... و غير مستوعبة ما نطق به للتو بمنتهى الخفوت ... الا أنها ابتلعت ريقها و رفعت ذقنها لتقول بصوتٍ ميت
( أنا للزواج فقط ....... أعتقد أنك علمت ذلك ...... )
لم يرد على الفور ... لكنها شعرت بنظراته الحارقة تطوف عليها , تقتلها .... تعذبها .... لكنه صدمها للمرة الثانية وهو يهمس بصوتٍ غريب
( اذن تزوجيني ..... )
اتسعت عينيها و هي تنظر اليه بذهول .... و خيل اليها أن قلبها قد عاد للحياة من جديد ....
لكن و قبل أن تهمس لها الحياة بأن ابتسمي .... سرعان ما ابتسم هو ابتسامة غريبة و هو يتابع هامسا
( و اطمئني ..... لن آخذ من وقتك كثيرا , فأنا متطلباتي تنتهي بأسرع مما تتخيلين ..... الفترة التي أحددها و سأدفع لكِ ضعف ما ستأخذينه من ذلك المتصابي الذي دخلتِ برفقته ......المهم أن تكوني لي قبله ... . )
فغرت شفتيها الحمراوين و غطت عينيها طبقة من الدموع ...رآها هذه المرة .... فابتسم راضيا بقسوة ..... ظلت تنظر اليه من خلف دموعها لعدة لحظات .... ثم همست بصوتٍ ميت
( أنا ..... انتقائية جدا ..... لذا فطلبك مرفوض , لقد سبق حجزي .... اتركني ارجوك )
و حاولت الابتعاد عنه , الا أنه جذبها اليه بقوة ....
فأغمضت عينيها ...... و تمايلت معه قليلا , تعد نفسها أنها ستنعم بذراعيه لدقيقتين ... فقط دقيقتين ثم تبتعد عنه للأبد .....
ارتجفت شفتيها بشدة و هو يراقصها بنعومة .... لكنها لم تلبث أن شهقت و فتحت عينيها و هي تشعر بيده تمر على بشرة ظهرها المكشوف ببطىءٍ شديد ...... لتتعداها ... و تلامس وركيها ...
فتشنجت و توقف قلبها و هي تهمس دون صوت
" ياللهي !! ......... "
الا أنه لم يكتفي .... بل تابع هامسا و شفتيه تنخفضان لتلامسان عنقها ... حتى شعرت بطرف لسانه فتنفست بجنون و هي تكاد تفقد وعيها هلعا ....
كانت أنفاسها تخرج على هيئة شهقات ميتة كمن تودع الروح ... و عينيها متسعتين بذهول
لقد ضمها اليه بقوةٍ من قبل ... و حملها بين ذراعيه ... حتى انه قبلها .....
لكن تلك اللمسات الآن أشعرتها بالغثيان و الهلع ... رغم أنها أقل بكثير مما كان بينهما .....
لمساته الآن كانت ........
أغمضت عينيها و هي تقول
( توقف عن ذلك ...... أشعر بالدوار ..... أرجوك ..... )
لكنه لم يتوقف , بل ضحك وهو يزيد من امتهانها بدرجةٍ جعلت ذكريات سوداء تطوف بذهنها في لحظة واحدة ... فهمست بقوة
( توقف أتوسل أليك ........... )
رفع وجهه ينظر اليها فجأة ... حينها رفع يديه عنها و ابتعد بقوة .... فوقفا ينظران الى بعضهما بصمت .. كانت نظراته صلبة و غامضة .. لكن على الرغم من ذلك بدا ... مذعورا مما فعل ...
بينما كانت نظراتها الخضراء ضائعة ....أو ميتة .... ووجهها شاحب بشدة ....
لم يعلما أنهما أصبحا محط أنظار الجميع ... الى أن سمع صوت هادىء يقول من خلفهما
( ارى أنك قد تعرفت على خطيبتي يا سيد وليد .... أو فلنقل بت تعلم الآن أنها خطيبتي بعدما تأكدت من صدق معلوماتي ..... )
نظر وليد جانبا بنظراتٍ مزدرية الى حيث يقف علوان خلفه .... و الأعين كلها تراقب ما يحدث ...
تابع علوان ببساطة ساخرة
( نعم .... فصغيرتنا , تبين أنها .......مخادعة قليلا ..)
نظر وليد اليه باحتقار واضح ... ثم نظر الى شيراز يرمقها بنظرةٍ لن تنساها أبدا .....
تكلم وليد بصوتٍ هادىء فجأة
( لما لا نتابع الحوار في مكان أكثر هدوءا .... و خصوصية ...... )
رفع علوان حاجبه وهو يقول مبتسما
( و هل هناك ما يستدعي متابعة الحوار ؟!! ....... )
أومأ وليد برأسه ليقول بصوتٍ هادىء ....
( عندي لك صفقة ..... فلما لا نبدأ الكلام في العمل ؟؟ ...... )
قال علوان و الفضول يتغلب عليه
( اذن تعال لطاولة اللعب .... و سنتحدث هناك , فأنا أتفائل بها ..... )
ثم مد ذراعه وهو يقول
( تعالي صغيرتي .... لتجلبي لي الحظ ..... )
ظلت شيراز واقفة مكانها تشعر بأنها تريد أن تتحول الى سرابٍ و تختفي ... لكنها تحركت في النهاية و اتجهت الى ذراعه .... سامحة له و للمرة الأولى أن يلامسها بقذارة ... محركا يده على جسدها أمام أنظار وليد الشرسة .... ثم قال بنبرةٍ مقززة
( اعذرنا .... فقد اقترب زواجنا , و الصغيرة شوقتني كثيرا .... )
لم يرد وليد ... لكن شيراز أستطاعت أن تلمح .... نظرته , فأخفضت عينيها و كأنها تلقت منه الصفعة الأولى .... كما وعدها ....
جلس علوان الى طاولة اللعب ... و جلس منافسه أمامه , بينما بقت شيراز خلفه خافضة رأسها ... ووليد أمامها يراقبها بتوحش ... فقال علوان أخيرا
( اذن سيد وليد ..... ما هي صفقتك ؟؟ ..... )
رفع وليد ذقنه ليقول بكل ثقة
(دعنا نتحدث عن الثمن أولا .............. )
رفع علوان وجهه بدهاء ليقول
( يعجبني الوضوح .... من سيتقاضى الثمن ... و لقاء ماذا ؟؟ .... )
قال وليد بقوة
( شيراز ....... أريدها ........ )
رفعت شيراز وجهها اليه و هي تشهق بذهول , بينما عم الصمت المكان ... و نظر الجميع اليه و كأنهم يستمعون الى معتوه ....
الا علوان الذي لم يفقد أعصابه ....بل ابتسم ... و قال بهدوء
( و لماذا أقبل بهذا ؟!! .......... )
قال وليد بهدوء
( أنا أريدها ...... و مستعد للتعويض , ما رأيك بصفقة توكيل الفنادق الجديدة !! ..... )
أخفض علوان جفنيه و هو يبتسم .... ثم قال ببساطة
( ليست أكبر صفقاتي يا ولد ...... و أنت تعلم ذلك ........ )
نظر اليه وليد وهو يعد ورق اللعب .... ثم قال ببساطة أذهلت الجميع
( اذن لماذا لا نلعب ؟؟ ...... إن كسبت أنا , آخذ شيراز .... و تأخذ أنت الصفقة ..... أما إن ربحت أنت فستربح ال ....... )
صمت قليلا و نظر الى شيراز المذهولة .... و تابع بسخرية
( ستربح الأميرة ........ )
ثم نظر الى علوان و قال بهدوء
( أي أنك رابح في كل الأحوال ..... لكن نشوة اللعب هي من ستحكم ..... )
ساد صمت طويل مشحون .... و فجأة انفجرت شيراز لتهتف بجنون بعد أن أفاقت من الصدمة ...
( أنا لا أقبل بذلك .... أنا ......... )
الا أن علوان رفع يده بقوة وهو يقول
( انتظري .......... )
نظرت اليه بذهول .... ثم نظرت الى وليد الذي كان ينظر اليها بغموض ... ووعد بالإنتقام .....
و حين تكلم علوان أخيرا قال بهدوء
( أنا موافق ....... اللعبة تحكم ..... )
لمعت عينا وليد بتشفي و انتصار .... بينما فغرت شيراز شفتيها بذهول و هي ترى مدى حقارة و دنو قيمتها في نظره ..... لقد باعها من أجل لعبة !!! ....
همست أخيرا ما أن وجدت صوتها للكلام
( أنا لست عبدة ........ يمكنني الرحيل من هنا و لتذهب لعبتكما للجحيم ...... )
ابتسم وليد بثقة ... و احتقار , ليقول بهدوء واضعا يديه في جيبي بنطاله الثمين وهو يقول ساخرا بنبرةٍ أخافتها
( نعم يا أميرة ...... لكنني متأكد أنكِ لن تخرجي من هنا خاوية اليدين ..... لما لا تربحين .... أنها ليلة الربح العالمي , فاستفيدي من كرمي .... )
كانت تتنفس بصعوبة و هذيان و هي تنظر اليه بهوس ... لا تصدق ما يحدث لها ....
أفاقت فجأة على يد علوان التي امتدت لتقبض على يدها ... يجذبها الى فمه و هو يقبل راحتها بهدوء ... ثم قال
( لا تخشين شيئا يا جميلة ..... الخسارة ليست لي ...... لا تتهوري فتخسرين أنت كل شيء ..... )
كانت تنظر الى وليد .... و شفتيها الدمويتين فاغرتين .... و عينيها الخضراوين تضيعان بعينيه الصلبتين و هي تهمس من اللامكان
( زواج رسمي ؟؟؟ .......... )
ابتسم بتشفي وهو يقول ساخرا بنبرةٍ مزدرية
( عند مأذون ......يا ...... أميرة ....... )
.................................................. .................................................. ......................
كانت جالسة في جانبها من السرير و هي تقرأ رواية انجليزية على ضوء مصباحها الجانبي ... و أسفل المصباح كان هناك طبقا من شطائر السالمون بالخس و الزيتون ... و كيس من المقرمشات .... بخلاف كوب من عصير المقرمشات ....
كانت الرواية شيقة جدا .... خاصة الجانب الحميمي منها , فكانت تبتسم مع كل مشهد عاطفي و تزيد من العض على المقرمشات بصوتٍ عالي دون أن تدرك .....
سمعت صوت تنهد قوي بجانبها ..... قبل أن يقول بتذمر ...
( كرمة بالله عليكِ ..... الن تتوقفي عن اصدار مثل تلك المعزوفة الرنانة , لم أتمكن من النوم حتى الآن و العمل لن ينتظرنا صباحا ....... )
نظرت كرمة بوجوم الى حاتم النائم على بطنه .... ظهره العريض كان مغريا لها كي تلامسه , الا أن كرامتها قد أبت أن تبادر هي .... فهو منذ ثلاث أيامٍ كاملة لم يقاربها .....
صحيح أنها كانت الثلاث الأيام الأولى بعد أن أقضيا معا كل لياليهما سويا خلال الشهر الماضي .....
كان شهرا مجنونا بكل ما للكلمة من معنى ....
فلقد كانت مطحونة ما بين يوم العمل الطويل , ثم الذهاب للكلية لمتابعة دراستها ....
و الذهاب الى معرض وعد للمساعدة به , و العودة الى البيت و تحضير الطعام و مناكفة أمينة قليلا ...
و طبعا لعب الكرة مع محمد ..... ثم المذاكرة مع رغما عنه ....
لذا كانت تدخل غرفتهما في وقتٍ متأخر من الليل تكاد تكون مقتولة من شدة الإجهاد ....
و كان حاتم ينتظرها متذمرا كل ليلة ... غاضبا من تأخرها , لكن ما أن تبتسم له بخبث حتى يجرها اليه بقوةٍ ... يزيدها ارهاقا فوق ارهاق .... لكنها لم تكن لتمانع .... لقد بدأت تعتاد تلك السعادة الجديدة عليها
اليست عروسا في شهر العسل !!! ....
لياليهما كانت من الجنون بحيث كانت تتركهما آخر كل ليلة منهكين من شدة العواطف التي تشاركانها ....
ابتسمت كرمة قليلا بخجل .... الا أنها لم تلبث أن قالت بجدية
( أنا لا أستطيع النوم بدون أن أقرأ قليلا ..... و أنت تعرف ذلك جيدا .... )
قال حاتم وهو دافن وجهه في الوسادة دون أن ينظر اليها
( ليست القراءة هي ما أتكلم عنها ...... بل المطبخ المصغر و المفتوح بجانبك ....)
قالت كرمة بوجوم و هي تنظر الى الطاولة بجانبها بحرج...
( أنا أحب الأكل أثناء القراءة ..........)
قال حاتم دون أن يرفع رأسه ....
( أنتِ تحبين الأكل أثناء فعل كل شيء ..... حتى أنكِ تحبين الأكل أثناء الأكل
ارتفع حاجبي كرمة بحرج و هي تقول مصدومة
( هل تعد ما آكله !! ............ )
قال بصوت متسليا قليلا ....
( انا أخاف عليك ليس أكثر ...... )
نظرت كرمة الى جسدها ثم نظرت الى حاتم النائم .... فهمست بخفوت
( حاتم ....... )
رد عليها بخفوت
( هممم ........... )
قالت كرمة بقلق
( هل ازداد وزني ؟؟ ......... )
لم يرد .... فاتسعت عينيها بخوف و هي تكرر السؤال بقلق أكبر
( حاتم قل الصراحة ...... هل ازداد وزني ؟؟ ...... )
رد حاتم بهدوء دون أن ينظر اليها
( نعم .... كنتِ أثقل قليلا اليوم حين حملتك في المطبخ ........ )
عضت كرمة على شفتيها و هي تنظر الى جسدها مجددا ..... ثم قالت بوجوم و هي تتحرك مبتعدة
( سأتركك لتنام .... و أخرج لأقرأ بالخارج ...... )
لكن ما أن تحركت حتى رفع نفسه ليهجم عليها رافعا اياها فوق صدره مما جعلها تشهق عاليا .... بينما كانت يداه العابثتان قد بدأتا عبثهما وهو يقول هامسا في أذنها
( أولا ..... غير مسموح لكِ بمغادرة تلك الغرفة بعد أن تدخلينها ..... ثانيا ..... )
كانت قد بدت تضيع في المشاعر المتنامية بينهما بجنون ... لكنها همست مبتسمة بخبث
( ثانيا ؟؟ .............. )
لم يرد على الفور بل قلبها على ظهرها وهو يدغدغا بعبث هامسا
( ثانيا ... دعيني أحكم بنفسي إن كان قد ازداد وزنك أم لا .......... فأنا لا أثق الا بيدي ... )
ضحكت كرمة عاليا فوضع حاتم يده على فمها وهو يقول هامسا
( ششششش .... أنسيتِ أن معنا في البيت , صبي في مرحلة الإنحراف المبكر ...... )
ضحكت كرمة بجنون صامت و هي تستسلم ليديه الخبيرتين .... بينما همس بصوتٍ أجش
( الا سبيل لإنتهاء هذا العدد المتكاثر من قمصان النوم المهلكة !! .......... )
همست كرمة بعينن براقتين
( ظننتك لم تلاحظ .......... )
انخفضت عينيه لتمران على القميص النوم الحريري بلون التفاح الأخضر ..... يظهر أكثر مما يخفي ....
فهمس بصوتٍ أجش
( لم ألاحظ !!!! ........)
ثم تنهد بقوةٍ و صدره يضغط على صدرها اللاهث .... فهمست بخجل
( أنت تبتعد عني منذ ثلاث أيام .......... )
اشتعلت عيناه بجنون و هو يلتهمها كلها بنظراته الجائعة ... ثم همس بصوتٍ أجش
( انها عملية تكتيكية ..... لا تسمى "أبتعد عنكِ ".... بل أسمها "اتركك لتنالي قسطا كافيا من النوم ".... )
فغرت شفتيها قليلا ... و برقت عيناها و هي تهمس برقة مذهلة
( أممم حقا ؟!! ..... ظننتك انتهيت من مزاج شهر العسل ..... )
رفع حاجبيه ... و احمر وجهه بشدة , ثم قال بصوتٍ لاهب
( اذن ... ما دمتِ قد ساهمتِ في طيران النوم من عيني , لذا يتوجب عليا الآن أن أمحو تلك الفكرة من بالك )
ثم أخفض وجهه اليها كالصقر وهو يلتهم شفتيها المنتظرتين له و هي تغمض عينيها تلقائيا ...
لتسمعه يهمس متابعا بتذمر وهو يبعد شريطي قميص النوم عن كتفيها ..
( نهائيا ........... )
همست و هي تحيط عنقه بذراعيها
( نعم من فضلك ........ امحوها ..... )
كانا مشتاقين لبعضهما بشدة .... مما جعل المشاعر بينهما تشتعل تماما كالليلة الأولى .....
وبعد فترة طويلة و هي ترتاح منهكة على صدره اللاهث .... سمعته يهمس بصوتٍ أجش
( أعتقد أن كل ليلة معك .... ستكون كالليلة الأولى دائما ........ )
ابتسمت برقة ... دون أن ترفع وجهها المشتعل اليه ..... ثم همست
( ظننتك تضايقت من وزني الزائد .......... )
أخفض وجهه ينظر اليها بقصد , فأبعدت ذقنه بقوة و هي تقول ضاحكة
( تحشم ......... )
الا أنه امسك بيدها ليقبلها بقوةٍ هامسا
( انتِ غاية في الجمال ..... أحيانا أتسائل أي حظ سعيد هذا الذي ألقاكِ بطريقي ..... )
ابتسمت أكثر و هي تلامس صدره بيدها الرقيقة .... لا يشغل بالها سوى فكرة واحدة
و هي اليوم الذي ستحمل فيه طفله !!! ..... انها حتى لا تستطيع الإنتظار ....
بداخلها جوع شرس للأمومة ... و قد سعت جديا طوال الشهر الفائت كي تحمل بكل الصور الممكنة ...
همست كرمة بخفوت
( حاتم .......... غدا سأخرج من الكلية الى المعرض , ثم أتسوق قليلا مع فريدة ..... )
رد حاتم بتذمر ناعس وهو يزيد من ضمها اليه
( أنه خطأي أن عرفتكما لبعض ..............)
ضحكت برقة و هي تهمس
( أصبح لا غنى لي عن الصغيرة نغم ......... )
قال حاتم بخفوت و هو يلاعب حاجبها الرفيع بإصبعه
( أنتِ ترهقين نفسك أكثر من اللازم .......... لما لا ترتاحين من المعرض قليلا .... )
هزت كرمة رأسها مبتسمة و هي تقول
( كان يمكن قبل أن يخطف سيف وعد .......... )
رفع حاتم حاجبيه مندهشا ليقول
( ماذا ؟!!! ....... خطف زوجته !! ...... )
ضحكت كرمة و هي تقول بسعادة ...
( نعم ..... أخبرتني ملك بذلك صباحا لأحل محلها في التحضير يوم غد ..... لغياب وعد كذلك .... لقد خطفها سيف لأنها تصر على الطلاق ...... إنها مجنونة , و أنا أظنه غاية في الرومانسية ... )
عبس حاتم بشدة .... وهو يضرب أنفها بسبابته قائلا
( لا تتكلمي بهذا الشكل عن رجلٍ غيري ........ )
ضحكت و هي ترفع وجهها لتطبع قبلة على ذقنه ..... فقال وهو يرد لها قبلتها
( لكنه يبدو عاشقا له بالفعل ..... كان ظاهرا بوضوح في حفل زفافهما ..... )
ابتسم حاتم وهو يتذكر ذلك الزفاف ... و تسلله بدعوةٍ مزيفة كي يراها .... زوجته ..... كرمة ....
" أي حظ و أي سعادة جعلتها زوجته !! " سيظل هذا السؤال بفكره حائرا طوال العمر
همست كرمة حالمة تقاطع تفكيره...
( نعم كان الزفاف الأروع الذي حضرته .... و كانت الرقصة الأروع التي رقصتها بحياتي )
للحظات ساد صمت غريب في الغرفة .... بينما شعرت بعضلات صدره تتصلب أسفل وجنتها ... فعبست و هي تشعر بشيء ما خاطئا ..... كل ذلك خلال لحظتين فقط ....
الى أن عرفت الخطأ ..... و ذكرى القميص ذو المربعات يزو تفكيرها و يخبرها بوضوح ... عن هوية من كانت تراقصه ....
لا يزال سحر تلك الرقصة حي في ذاكرتها رغما عنها ..... لن تنساها أبدا ,.......
لذا تشنج جسدها برعب و هي تدرك خطأها الشنيع .... و دون كلمة .... دفعت نفسها بقوةٍ لتهض من السرير ... مرتدية روبها بعنف و عشوائية قبل أن تخرج من الغرفة جريا ... و هي تلعن لسانها الذي أفسد تلك اللحظة بينهما ....
بينما ظل حاتم مستلقيا مكانه .... وجهٍ لا يمكن تفسير ملامحه .... هل هو الغضب الأسود العنيف ....
أم ببساطة... القناعة بتصاريف القدر في رد الدين .......
.................................................. .................................................. ......................
همس رائف بقلق وهو يطلب رقمها دون رد ...
( أين أنتِ ؟؟؟ ...... لماذا لا تجيبين ؟؟؟ ........ )
بينما في نفس الوقت ..... أمام باب شقة ملك ووعد ....
ضغطت ورد متذمرة على الجرس مجددا وهي تنظر الى ساعة يدها التي تشير الى الخامسة ... فقالت بغيظ
( أين ذهبت المحروسة ؟!!! ....... )
عادت لتضغط الجرس بقوةٍ أكبر و هي متأكدة من عدم وجود أحد بالشقة .......فهمست بفتور
( هل تأخرت في المجيء اليها ؟!!! ....... )
↚
وقف عند باب المطبخ ينظر اليها بصمت ..... بينما كان الوجع بداخله وحشا يفترسه دون رحمة ...
مجرد النظر الى ملامحها الجميلة كان وجعا مفترسا ....
و هي تجلس بكل بهائها الملوكي على كرسي المطبخ المرتفع .... واضعة ساقا فوق أخرى ... لتظهر ساقها الجميلة من شق الروب الحريري الذي ترتديه ...
و على الرغم من تلك الهيئة الملوكية الساحرة في جلوسها ... الا أنها تناقضت بسحر جذاب مع عينيها الجميلتين و المتورمتين من البكاء ... و الطبق الصغير من القشدة البيضاء المشابهة للون بشرتها و التي يعرف ملمسها جيدا ....
كانت تمسك بيدها قطعة خبز فرنسي .... تغمسها في طبق القشدة بصمت , لتسارع بالتهامها و هي تتنهد ببكاء ناعم جميل ..... يشبه بكاء مراهقة راقية ....
انعقد حاجباه وهو يتأوه دون صوت ... ليستند بكتفه الرازح تحت الثقل الى اطار باب المطبخ وهو يراقب لوحته الجميلة .... هديته من القدر ....
على قدر جمالها ... كان مقدار الوجع الذي يشعر به و هو يراقب دموعها الماسية و التي يعرف جيدا أنها تخص رجلا آخر .... و لا يستطيع أن يقسو عليها
لا عليه سوى أن يبقى مكانه ذليلا , متجرعا ألم رجولته المتضررة .... متجرعا غيرة مرة كالعلقم , تتلتف حول روحه كأفعى خبيثة ...
لقد أقسم الا يكون السبب يوما في دموعها .... و الا أعلن فشله ......
لكن ماذا لو كان السبب في دموعها هو رجل آخر ... حبيبها ..... فأي فشل سيعلنه الآن ؟!! ..... ليس فشلا , بل هو الموت ببطىء ....
نظرت كرمة الى الطبق أمامها ..... بصمت حزين , ثم نظرت الى قطعة الخبز الفرنسي في يدها بيأس
تحاول جاهدة ارسال الأوامر الى عقلها ترجوه كي يتوقف عن أمرها بالأكل توترا .....
فهمست تخاطب طبق القشدة
( كفى ............. )
لكن الخليط كان أبيضا ساحرا ... ذو شكل كريمي رائع , يبدو و كأنه يضحك لها و يعدها أن ينسيها وجعها حاليا .. فهمست بيأس
( كفى أرجوك ...... )
لكن ارادتها الضعيفة هزمت و هي تتنهد بيأس لتغمس قطعة أخرى في الخليط الكريمي و تضعها في فمها لتذوب به و تبعد عنها الفكر المؤلم للحظات من التخدير الرائع ....
انتفضت فجأة على صوت رجولي حازم يقول بخفوت عند باب المطبخ
( ستمرضين نفسك بتلك الطريقة ........ )
رفعت عينيها الحمراوين المتسعتين تنظر الى ..... زوجها .....
كان يرتدي بنطلون بيجامته الحريري و يبدو وسيما بهيئته الفوضوية بعكس أناقته في المصرف صباحا .....
عضلات صدره القوية ظاهرة بشكل زاد من توترها ... بينما شعره الجميل كان مشعثا بفعل أصابعها العابثة .....
أما ذقنه فقد بدت غير حليقة للمرة الأولى منذ أن تزوجته .....
شردت كرمة و هي تتأمل كل ذرة به .... و هي تهمس لنفسها أن ذلك الرجل الواقف أمامها هو زوجها ....
هدر صوته الحازم ليجعلها تنتفض من شرودها بذعر
( كرمة !! ....... )
انتفضت كرمة تنظر اليه بعينيها الواسعتين على شكل لوزتين باقتدار .. فرأته ينظر اليها بصرامة و هو لا يزال مكتفا ذراعيه أمام صدره القوي ....
نظرتها السارحة به تقتله .... هل تقارن بينه و بين طليقها !!!
يستطيع كرجل أن يستشعر الإعجاب في عينيها .... لكن هل تقارن بينه و بين طليقها !! ...
من كان ليتخيل أن يأتي اليوم الذي يتحول فيه الى رجلٍ ذو ثقة مهتزة بنفسه الى تلك الدرجة !!.....
لأنه حين تكون المقارنة بينه كمدير مصرف .. و بين مجرد عامل بسيط
فإن الأمور لا تخضع حينئذن للثقة بالنفس .... بل تخضع للقلب ...
و هذا هو ما لا يملك الثقة فيه بالنسبة لكرمة .... حبيبته كرمة .....
تنهد بقوةٍ و هو يحاول بصعوبة التخلص من الجنون المسيطر عليه في تلك اللحظة ... فاستقام ليقترب منها ببطىء وهو يتكلم بلهجةٍ آمرة جافة
( كفى أكلا ........... )
و دون أن يسمع ردها , كان قد مد يده ليلتقط الطبق من أمامها ليذهب به الى الثلاجة الا أن كرمة هتفت بيأس و طفولية و هي تنهض من مكانها محاولة أخذ الطبق منه
( انا جائعة يا حاتم ........ )
قال بصوتٍ صارم ملتهب وهو يرفع الطبق عاليا مما حال وصولها اليه
( لا لستِ جائعة ............)
ثم وضعه في الثلاجة ليغلق بابها و يستند اليه مكتفا ذراعيه ليقول بثقة
( للوصول اليه عليكِ أن تتخطيني ........ )
تاهت عيناها قليلا على عضلات صدره و هي تتخيل نفسها تتخطاه في معركةٍ خاسرة ... فاحمر وجهها و هي تدرك نهايتها الحتمية ....
تنحنحت وهي تضم حافتي الروب الحريري .... ثم أخفضت وجهها فانسابت موجات شعرها المتراقصة حوله لتخفيه ... و همست قائلة بخفوت
( على الأرجح أنت لا ترغب في رؤية وجههي الآن .... أو حتى سماع صوتي .... )
لم يرد على الفور ... لكن اللهيب الخارج مع أنفاسه كالتنين كان يلفح جبهتها المنخفضة بندم ...
لكنه قال بجفاء
( لو كنت كذلك لما كنت أتيت خلفك .............)
ابتلعت ريقها و هي تنظر بعينيها جانبا ... متجنبة مواجهة عينيه , بينما كانت أصابعها تتلوى على قماش الروب الحريري .... و أصابع قدميها تتكور على الأرض الباردة المصقولة ....
اخذت نفسا مرتجفا و هي تحاول جاهدة التشبث بشجاعتها الواهية أمام عينيه المتهمتين .... ثم لم تلبث أن أخذت نفسا قويا و نظرت اليه تواجه عينيه القاتمتين .... فضعفت للحظة , لكنها قالت بقوةٍ
( حاتم ..... يجب أن أشرح لك ...... )
هدرحاتم فجأة مما جعلها تنتفض مكانها وهو يرفع يده آمرا إياها أن تصمت
( لا ....... لا يا كرمة , أياكِ و قول المزيد ...... )
ارتجفت الا أنها رفعت ذقنها بشجاعة و همست بتوسل
( أرجوك يا حاتم ...... دعني أشرح لك ......... )
هدر بقوةٍ أكبر
( اصمتي يا كرمة ..... و لا كلمة أخرى ........ )
ابتلعت ريقها ... لكنها أخفضت وجهها و هي تومىء برأسها بصمت ... ثم قالت بخفوت حزين
( حاضر ............. )
تأمل وجهها المنخفض .... يريد أن يضمها الى صدره و يسمعها العمر كله , ... لكنه لا يستطيع ... ببساطة لا يستطيع ..... هذا أكبر من إحتماله ....
حين تكلم أخيرا قال بجفاء لكن أكثر خفوتا
( هيا لتنامي ..... ستبردين هنا ....... )
ضمت ذراعيها تحيط بهما جسدها و هي تقول بخفوت دون أن ترفع وجهها اليه ...
( لا ...... لا أستطيع ........ سأبقى قليلا ....اذهب أنت أرجوك . )
مد يده تحت ذقنها يرفع وجهها اليه فاضطرت الى مواجهة عينيه الصلبتين .... و دون أن تدري رفعت يدها تمسك بيده تحت ذقنها ...
بينما قال بخشونةٍ آمرة و لا تقبل الجدل
( لقد أخبرتك من قبل ....... موعد نومنا واحد ..... حتى ولو بقيت مستيقظة في السرير حتى الصباح .... هذا نظام ستلتزمين به .... )
كتفت كرمة ذراعيها و هي ترفع وجهها اليه مصدومة لتقول بصوت خافت
( هل النوم إجباري ؟!!! ...... أنا لست طفلة يا حاتم كي تضعني في السرير وقت أن تدخل أنت ... اترك لي الحرية في موعد النوم من فضلك .... )
اقترب منها ببطىء ... الى أن مد يديه ليمسك بهما خصرها و يجذبها اليه بقوة ... فشهقت دون صوت حيث أبقاها بجواره دون أن يتخلى عن خصرها ليقول بصرامة دون أن يلين وجهه
( بعض القواعد لا مجال للإخلال بها بيننا ..... سننام معا في موعدٍ واحد ...سنأكل معا في وقتٍ واحد .... )
اتسعت عيناها و هي تهتف بقوة
( حتى الأكل !!! .. مستحيل , أنا أجوع أكثر منك ... و لا أستطيع العمل و الإنتاج الا بالتغذية المستمرة .. )
لكن وجه حاتم الصارم لم يلين ولو للحظة .... بل كان ينظر اليها بجفاء ولوم جعلاها ترتعش قليلا ... بينما قال لها بهدوء و جدية
( سأطعمك بيدي حتى التخمة ..... لكن سيبقى موعد وجباتنا واحد ..... مفهوم ؟؟ ..... )
زمت شفتيها بغضب ... لكنها رفعت ذقنها لتقول بلهجةٍ مستفزة رافعة إحدى حاجبيها
( و ماذا ايضا سنفعله في وقتٍ واحد ؟؟!! ........ )
لم تلين ملامحه أبدا ..... على الرغم من أنها كانت تتمنى بداخلها لو تنصهر ملامحه رفقا مع سؤالها الوقح و يغادره الغضب الذي تسببت به ....
لكن على الرغم من قتامة ملامحه ... الا أن بريق خاطف في عينيه جعلها تتورد و ترتبك ....
فأخفضت وجهها رغما عنها , الا أنه لم يساعدها حين أجاب بهدوء
( بإمكاني أن أخبرك .... شيئين اضافيين ... أو ثلاث ..... )
احمر وجهها بشدة ... بينما همست من بين أسنانها ,
( لا تكن وقحا ......... )
رفع إحدى حاجبيه ليقول بصلابة ...
( من منا الوقح !! ..... إن كنتِ لا تستطيعين تحمل الإجابة فلا تسألي .... )
زمت كرمة شفتيها و هي تقول بفظاظة خافتة ....
( و من المفترض أنك والد و مسؤول عن تربية صبي في سن خطر ........ )
كتف حاتم ذراعيه وهو يقول ببرود مشيرا بذقنه في إتجاه الباب
( كفي عن الثرثرة يا كرمة و هيا الى السرير ........... )
اظلمت عيناها قليلا بنعومةٍ سلبت لبه بغدرٍ ..... و عبارته الدافئة تقف معلقة بينهما في الهواء .....
لكنها اختارت الإنصياع و هي تتقدمه مخفضة رأسها كطفلةٍ مذنبة ..... و تبعها هو دون كلام , بينما كانت تستشعر نظراته الحارقة ... بسخونتها على قماش روبها الحريري ...
لكنها فجأة توقفت قبل الخروج من باب المطبخ ..... مطرقة برأسها و شعرها يعاود إخفاء وجهها من جديد ...
حينها قال حاتم بنبرة جفاء آمرة
( كرمة ........... )
الا انها لم تنصاع لأمره في هذه اللحظة و هي واقفة مكانها تنظر الى الأرض و تتنفس بسرعة ..
و قبل أن يكرر ندائه الآمر ... كانت قد رفعت رأسها بقوةٍ لتقول دون أن تستدير اليه
( لقد كانت بمثابة تربيتة بعد صفعاتٍ طويلة يا حاتم ....... )
عبس حاتم بشدة و هو يسمع عبارتها الغير مفهومة تماما .... لكن جسده تشنج بقوةٍ وهو يقول بخفوت تهديدي
( كرمة .......... )
لكنها تابعت بقوةٍ أكبر و هي تغمض عينيها بشدة كي لا تفقد شجاعتها
( ذهني استدعى تلك الرقصة .... و ليس الشخص يا حاتم ...... )
هدر حاتم بغضب
( كفى يا كرمة ............. )
الا أنها تصلبت في مكانها رغم ارتجافها الداخلي و هي تقول بحدة دون أن تفتح عينيها ....
( أنت لا تعرف السنوات الصعبة التي نالت من قواي كلها .... لذا بعض الذكريات النادرة تطفو سريعا الى ذهني .... تلك الذكريات التي تجعلني أتماسك ببعض الآدمية حتى الآن ...... )
استدار حاتم عنها بعنف وهو يضرب الثلاجة بقبضته فاهتزت و ارتجت بشدة موقعة بعض الألعاب الملتصقة بها بينما هو يهدر بغضب
( اللعنة يا كرمة ......... اصمتي ...... )
أمالت وجهها للخلف قليلا وكأنها تنظر اليه دون أن تستدير .... و همست مجددا
( كانت الرقصة يا حاتم ..........في وقتٍ أوشكت أنوثتي به على الإنهيار , .... في وقتٍ كنت فيه من الذل بحيث كنت على استعداد بقبول أي شيء .... أي شيء ...... )
استدار اليها بقوةٍ هاتفا بغضب
( كفى ........ كفى يا كرمة ....... )
حينها استدارت اليه بعنف و هي تصرخ فجأة بقوةٍ مماثلة لقوته
( لكنني لا أريد أن أصمت .......... أنا لا أريد أن أصمت ..... أريد أن أشكو .... أحتاج لأن أشكو طويلا جدا ..... و لا أحد غيرك ليسمعني .....أنت مجبر على أن تسمعني لأنك .....)
صمتت قليلا و هي تلهث ناظرة اليه لفترة ..... ثم قالت بخفوت
( لأنك زوجي ......... )
تسمر مكانه قليلا ..... وهو ينظر اليها بصمت بينما ملامحه كانت غاضبة بشدة ... و متألمة ... ألم رجل ...
ظلا ينظران الى بعضهما طويلا .... طويلا جدا ....
الى أن قالت كرمة بخفوت حزين
( لم أتجاوز احساسي بالظلم بعد يا حاتم .... و أريد أن أشكو طويلا ...... )
صمتت قليلا قبل أن تهمس بحرارةٍ حزينة
( ماذا أفعل ؟!! .......... )
كانت يتنفس بحرقةٍ شديدة ... و مع ذلك كان غير قادرا على ابعاد عينيه عنها ..
كانت كم تتعلق به ... كمن تتعلق بعينيه برجاء صامت كي يفهمها .....
وهو يفعل ..... هو يفهمها بكل كيانه , لكن القدرة على التحمل أمر آخر .......
سمعا صوت من خلفهما فانتفضا من صمتهما المشحون عند دخول محمد الى المطبخ .....
توقف قليلا ينظر اليهما بعينين شبه مغمضتين .... بل أن احداهما كانت مطموسة بالفعل ... و يسير بعين واحدة شبه مفتوحة .... أما شعره الجميل فقد كان مشعثا بفوضوية ...
يرتدي قميصه القطني الداخلي و بنطال قصير .....
ظل ينظر اليهما قليلا .... ثم قال بصوتٍ ناعس
( هل تتشاجران مجددا ؟!!! ........ إنها الثانية صباحا , و هناك من يقطنون معكما في البيت !! .... )
قال حاتم بصرامة
( ما الذي أيقظك الآن يا محمد ؟!! ........ )
رفع محمد يده يحك شعره الأشعث وهو يقول بملل
( بخلاف نشاز صوتكما في الليل كنقار الخشب ..... فأنا أشعر بالعطش .....هل يمكن أن أشرب أم أنه تم منع الشرب أيضا في هذا البيت البائس ..... )
هدر حاتم بقوة
( احترم نفسك يا ولد ...... اشرب بسرعة و عد الى فراشك ... )
تأفف محمد بصوت , فقصف صوت حاتم من خلفه بقوة
( لا تتأفف .............. )
تدخلت كرمة و هي تمسك بكتفي محمد بقوة واقفة من خلفه
( الولد لا يزال نائما يا حاتم .... لا تفزعه ..... نحن من أيقظناه .... )
تظاهر محمد بالشعور بالظلم وهو يرسم على وجهه ملامح البؤس .... بينما عيناه كانتا ترسلان ملامح التحدي و الغيظ لوالده ....
بينما كان حاتم بالفعل قد اشتعلت عيناه غضبا وهو يدرك أن كرمة لا ترتدي في تلك اللحظة سوى روبها الحريري ... و الذي يظهر الكثير من فتحة عنقه ..... بخلاف ساقيها ....
عبس بشدة حتى بدا شكله مخيفا ... فقصف صوته مجددا
( اذهبي الى غرفتك حالا يا كرمة ........ )
ارتفع وجه محمد للخلف ينظر الى كرمة .... و انفجر ضاحكا وو يشير بإصبعه اليها مستفزا ...
بينما ارتفع حاجب كرمة بشر و هي تقول بعدم استيعاب
( ماذا ؟!! ....... هل انتهيت من ابنك لتنتقل الي ؟!!! ....... )
هدر حاتم بقوةٍ وهو يضرب الجدار بقبضته و كأنه قائد كتيبة عسكرية
( اسمعا أنتما الإثنان ....... مررا الليلة على خير , و نفذا الأوامر .... )
نظر اليهما وهما ينظران اليه في جبهة مضادة .... و كلاهما يرفع حاجبا واحدا , حتى بديا للحظة متشابهان و كأنهما بالفعل أم و ابنها .... خاصة و هي تضع يديها على كتفه بشراسة مدافعة عنه ...
لكن الدماء كانت تغلي في عروق حاتم وهو ينظر اليها بروبها اللعين .... فقال بخشونة
( اشرب و اذهب الى غرفتك يا محمد ...... )
هز محمد رأسه يأسا ... ثم اتجه الى الثلاجة و فتحها , لكن كرمة تناولت منه زجاجة الماء البارد لتصب نصفها في كوب و تكمله بماء فاتر قائلة بجدية
( لا تشرب ماء بارد و أنت دافىء الجسم .... ستمرض )
أخذ محمد الكوب و شرب منه وهو ينظر من فوق حافته الى حاتم بتحدي رافعا حاجبا مغيظا له ... فازدادت قتامة ملامح حاتم أكثر ...
الا أن كرمة دفعت محمد بهدوء بعد أن انتهى و هي تعبث في شعره قائلة
( هيا اللى النوم ..... و غدا صباحا لنا حديث عن أممممم ..... فيما بعد ... هيا الآن .... )
اتسعت عينا حاتم وهو يستشعر بوجود أسرار بينهما ....
لكنه أخذ نفسا عميقا محاولا السيطرة على غضبه الى أن غادر محمد المتذمر من كرمة في تلك اللحظة .....
و قبل أن تستدير كرمة كان حاتم قد جذبها من ذراعها ليديرها اليه وهو يقول من بين أسنانه
( لا تخرجي من غرفتك بهذا الشكل مجددا ..... لقد سبق و نبهتك ..... )
اتسعت عيناها و هي تخفض عينيها الى روبها المغلق ... ثم رفعتهما مجددا الى حاتم الغاضب و هي تقول بحيرة
( ليس منظري مبتذلا الى هذه الدرجة !! ........ )
أومأ حاتم برأسه وهو يقول من بين أسنانه
( هذا ما تتخيلينه ......... و الآن هيا الى غرفتنا و كفى فضائح )
ظلت تنظر الى ملامحه الغاضبة قليلا ... و على الرغم من الحزن الذي جمع بينهما منذ قائق , الا أنها بداخلها كانت تنمو تسلية رقيقة .... كنبتة صغيرة تحتاج الى رعاية ....
سارت كرمة خلفه وهو يجرها الى غرفتهما ثم أغلق بابها بالمفتاح و نزعه من الباب ليحتفظ به معه
اتسعت عيناها بقوة و هي تقول بذهول
( هل أغلقت الباب بالمفتاح للتو ..... أم أنني أتوهم !!...... )
أومأ حاتم برأسه بكل جدية وهو يقول بجفاء تحت حافة فقدان السيطرة
( نعم ...... سنخرج من الغرفة سويا كما سندخلها سويا ..... )
كانت تنظر اليه بذهول ... فاغرة شفتيها بشرود قليلا ... و هي تراقبه يرتمي في فراشه زافرا بقوةٍ ملتهبة ...
بقت كرمة مكانها تنظر اليه بانبهار غريب .... زاويتي شفتيها ترتفعان قليلا دون أن تدري ...
و كأنها ابتسامة خائنة تحارب للظهور ....
قال حاتم أخيرا بصرامة وهو يحدق في السقف بقسوة
( تعالي الى السرير يا كرمة ....... و لا تستفزيني أكثر )
تحركت برقة ... و تمهل ... تختال بخطواتها المتمايلة فوق البساط الزغبي .... الى أن أستلقت بجانبه بدلال و مدت يدها لتغلق ضوء المصباح بجوارها ....
ظلا مستلقيان بجوار بعضهما طويلا يحدقان بالسقف المظلم .... الى أن همست كرمة أخيرا بشرود و هي تتذكر ليالي الإنتظار الطويلة رغما عنها .....
( لماذا تصر على أن نعمل كل شيئا سويا ؟!! ........... )
لم يرد عليها على الفور .... و لم ينظر اليها , الى أن قال بصوت غريب
( لأن هذا هو الزواج ...... أن نحيا سويا ...... )
فغرت كرمة شفتيها قليلا و هي تحدق في السقف الذي بدا لها في تلك اللحظة كسماء ليلية واسعة ....
ثم همست بشرود دون أن تلتفت اليه
( حتى و أنت غاضب مني ؟!! ........... )
قال بخفوت بعد فترة طويلة
( حتى و أنا غاضب منكِ ............ )
ابتسمت .... ابتسمت و هي تحدق في السقف بحلاوة و عذوبة ... فهمست بصوتٍ ذهب بأنفاسه الخشنة
( شكرا ......... )
ساد الصمت بينهما طويلا .... الى أن قال حاتم بصوتٍ أجش دون ان يلتفت لها
( هل أنتِ سعيدة يا كرمة ؟؟ ....... هل أنتِ سعيدة معي ؟؟ ....... )
استدارت تنظر اليه بعينين متسعتين ..... كانت ملامحه غارقة في الظلام , لكنها استطاعت قراءة الحزن على وجهه ....
حينها استقامت قليلا لتميل على صدره ... هامسة بقوة و جدية
( سعيدة يا حاتم ........ سعيدة جدا ........ )
نظر اليها عاقدا حاجبيه بعدم تصديق وهو يقرأ حرارة تأكيدها المفاجىء ....
الا أنها مدت يدها تحيط بوجنته الخشنة و هي تتابع بأكثر قوة
( أسمع ما سأنطق به جيدا ...... أنا لم أكن لأستبدل حياتي الآن بأي شيء آخر في العالم .....
هذا البيت ... و أنا و انت .... ومحمد ... حتى نظامك المدرسي السخيف ..... و .... و ...... )
أخفضت نظرها قليلا تبتسم بجمال مذهل و يحمر وجهها ... و امتدت يدها بسحر تلامس بطنها لتقول بحرارة خافتة
( و ....... كل شيء ..... )
عادت لتنظر اليه و هي تقول بجدية من عمق روحها
( الحب ليس كل شيء يا حاتم ..... قصص الحب ليست هي السعادة الوحيدة ...... بل أحيانا تكون الألم بذاته حتى تتحول الى قصصا مريضة مشوهة ... تقتل أبطالها ببطىء .... )
انعقد حاجبيه بألم ووجع و كأنها قد لكمته في معدته بشدة .....
فمد يديه ليسحبها فوق صدره بقوةٍ محاولا تسكين عذابه قتل الحواجز بينهما بنهب المسافة بين شفتيهما ....
أغمضت كرمة عينيها و هي تنعم قليلا بتلك العواطف المحمومة كسائل من العسل الذائب .....
بينما كان صدره يخفق بعنف و روحه تهتف دون أن يصل الهتاف الى شفتيه المنشغلتين بالإقتصاص من شفتيها المعذبتين له ...
" تبا لكِ يا كرمة ...... تبا لكِ ...... الا نهاية للوجع منكِ ....... "
همست كرمة في أذنه بدلال وهو يميل بها بسيل عواطفه
( حاتم ...... حين أمرتني الا أخرج من الغرفة بهذا الشكل .... هل كان لأنك تحافظ على أخلاق محمد الصغيرة .... أم لأنك تغار علي ؟!! ....... )
ابعد فمه عنها .... يلهث بعاطفةٍ قوية و ينظر الى عينيها الجميلتين و الناعمتين .... فقال بخشونة محترقة
( ما هي الإجابة التي تريدين سماعها ؟؟ ........... )
اتسعت ابتسامتها حتى شملت وجهها كله و هي تقول برقة
( أنت أخبرني ........... )
مد كلتا يديه ليحيط بهما وجهها .... و ثبت عينيه على عينيها البراقتين ليقول بقوة محترقة
( لأنني أغاااار ......... )
همست كرمة برقةٍ و هي مجفلة في نفس الوقت من سيل عواطفه الجياشة
( من صبي صغير ؟!! .......... )
قرب وجهه منها ليهمس بصوتٍ خافت مشتعل
( و أغار عليكِ من نفسي ........ )
ارتجفت شفتيها قليلا بهمسٍ صامت .... بينما بريق عينيها مع حمارهما جعل منها آية في الجمال العذب لعينيه ... و شعرها المتموج يسرح حولهما ليبعدهما عن العالم ....
مد ذراعه ليسحب عنقها اليه برفق يتناقض مع هول النيران المستعرة بداخله ... ليميل بها و ينهل من شهد حبها ... مجددا ....
و كأنها تتفنن في ضربه .... ثم مداواة اصابته
.................................................. .................................................. ..................
أرجع ظهره في مقعده ... واضعا ساقا فوق الأخرى وهو ينظر اليها بصمت ... مسندا سبابته الى فكه القوي ...
و هي تتكلم بكل تلقائية و لباقة ... في اجتماع اليوم ....
كان يحب أن يسمعها .... يحب طريقتها في الشرح بأصابعها ... يحب بريق عينيها الذي بدأت تستعيده بعد أن كانت قد فقدته لفترة ...
ها هي كرمته التي عرفها و انبهر بها .... كم تبدو مختلفة عمن حولها , كأنها ذات بريق خاص
كتلة مشتعلة من الحيوية ....
صحيح أن شعاع من الحزن لا يزال يظلل عينيها .... و كأنه أقسم الا يغادرهما أبدا ...
الا أن البريق بهما كان يزهو شيئا فشيئا ... خاصة مع كل تقدم تحققه ...
بداية دراستها من جديد جعلتها انسانة مختلفة .... تزيدها طفولية و كأنها تعود لمقاعد الدراسة من جديد و في نفس الوقت تمنحها قوة جبارة ...
نعم كانت كوحش صغير متموج الشعر .....
ابتسم رغم عنه وهو يذكر هذا الصباح وهو يطعمها طعام الإفطار بيده كما وعدها ....
قلبه كان موجوعا في الخفاء و هي تهتف ليلة أمس أنها لا تزال جائعة .... لذا ما أن استيقظا صباحا حتى أعد طعام الإفطار بنفسه .... و صمم على اطعامها حتى شعرت بالتخمة و هتفت و هي تضحك
( كفى يا حاتم ...... )
بينما هو يقول ضاحكا وهو يدس لقمة أخرى في فمها ...
( هيا يا وحش ........ )
حسنا الحقيقة أنهما لم يستيقظا ... لأنهما لم يناما من الأساس ... لقد ظلا معا ينهبان من نبع العواطف المجنونة حتى أشرق الفجر ....
ارتجفت ابتسامته قليلا وهو يتذكر كل لكمة من لكماتها ليلة أمس الى قلبه المعذب بحبها ... و مع ذلك كيف يمكنها أن تنقله من النار الى الجنة بتلك السرعة !! ...
نظرت اليه كرمة أثناء كلامها في الإجتماع ... فابتسمت بخبث دون أن تتلجلج .. أو أن تتوقف ... بينما عيناها تعاتبانه على النظر اليها بتلك الطريقة الواضحة أمام الجميع
فالإعجاب في عينيه يكاد أن ينطق و يفضحه .... لكن رغما عنها شعرت بالسعادة الخفية لتلك النظرة التي تكاد تكون مأخوذة بها و بطريقة عرضها ....
و ما أن انتهت حتى قال حاتم بهدوء بعد فترة صمت
( رائع يا كرمة .......... )
اتسعت ابتسامتها بإشراق ....و هي ترتب أوراقها بينما نظرات الحقد من حولها تتزايد كما اعتادت منهم .. حتى بدأت تعتبرها المنطق الوحيد بينها و بين زملائها ....
في منتصف اليوم ... طرقت باب مكتبه لتدخل بحيوية لتقول بابتسامة رائعة
( هل يمكنني أن أعطل سيادة المدير قليلا ؟؟ ........ )
رفع رأسه عن حاسبه لينظر اليها بصمت ... دائما ما ينظر اليها قليلا قبل أن يجيبها ... ثم قال بهدوء منطقي
( تفضلي يا سيدة كرمة ...... لكن أغلقي الباب بالمفتاح خلفك من فضلك ... )
احمر وجهها لكنها لم تفقد ابتسامتها المتألقة و هي تنفذ أمره الهادىء ... لتقترب منه و بكل جرأة استدارت حول المكتب و كأنها تملك المكان و صاحبه ... ثم جلست على حجره بأناقة لتقول بهدوء و هي تعدل من وضع رابطة عنقه
( مرحبا ......... )
التوت زاوية شفتيه وهو يقول بصوته الرجولي الجذاب
( مرحبا ......... )
أخذت يداها تعدل من وضع ياقة قميصه الأسود برقة و هي تتشاغل بالنظر اليها ورأسها يميل لتقول بنعومة
( لم يتسنى لنا الحديث منذ الصباح ....... )
مد يده ليلف خصلة عابثة من شعرها حول اصبعه .... وهو يقول بخفوت
( كنت منشغلا بالإستماع اليكِ حبيبتي ...... )
احمر وجهها ... فكلمة حبيبتي كانت منغمة و ....... جميلة ...
فباتت ابتسامتها ساحرة , وكأنها تزداد جمالا مع كل كلمة منه ... فهمس بخفوت و اصبعه يلاحق ملامح وجهها المتورد
( بكِ شيء مختلف ...... ما سر هذا التألق ؟!! ... )
عضت على شفتها لتهمس و هي تتجنب نظرات عينيه
( أنا متألقة منذ عدة أيام .... لكن أنت الذي لم تلاحظ ... )
صمت ينظر اليها قليلا قبل ان يقول بهدوء واثق
( ليس بكِ ما لا ألاحظه ... ...... )
أخفضت وجهها برقة ..... ثم قالت متجنبة الإحساس بالخجل و الذي لا يفارقها كفتاة مراهقة ...
( لقد جئت كي أؤكد عليك انصرافي مبكرا اليوم ....... )
عبس قليلا و يده تداعب خصرها برقة فوق قميصها الناعم ... و قال بخشونة
( لا أحب أن تغادري بدوني ........ )
نظرت اليه بعتاب ... لتقول برقة
( يجب أن أخرج بمفردي في بعض الأوقات يا حاتم ..... ترتيبات المعرض و الجامعة ... و التسوق مع فريدة )
رفع حاتم ذقنه ليقول بلهجة ذات مغزى
( آآآه .... و أهم شيء هو التسوق مع فريدة على ما أظن !! ........ )
عبست كرمة و هي تقول بعتاب
( نحن نتسوق للصغيرة ......... )
قال حاتم بهدوء و يده تتجرأ بطريقة غير ملحوظةٍ في الخفاء
( و الدليل هو الحقيبتين و الثلاث أزواج من الأحذية ... و أربعة قمصان مثيرة للنوم خلال الاسبوع الماضي ..... )
زمت كرمة شفتيها و عبست و هي تقول بقنوط
( كانت حركة متهورة ..... رأيتهم فلم أستطع المقاومة ....ثم أنني لم ألاحظ اعتراضك على قمصان النوم تحديدا خلال الإسبوع الماضي !! .. . )
ابتسم ابتسامة باتت تعرفها جيدا وهو يقول بخبث
( تهوري قدر ما تشائين ..... طالما أنكِ تأتين لي بمثل هذه الهدايا مصاحبة لما تشترينه .... )
وجدت أصابعه تعبث بأول زر من أزرار قميصها فشهقت و هي تنتفض واقفة لتهتف بتحذير
( نحن في المكتب ........ بداخل مصرف ..... )
رفع رأسه للأعلى وهو يتظاهر بالتفكير الحالم قائلا
( آآه لكن خيالي يرسم لي مكانين مختلفين عما ذكرتهما ..... )
زمت شفتيها و هي تقول بصرامة
( تأدب يا سيادة المدير ............ )
ثم التفتت اليه و هي تقول بهدوء و خبث
( سأغادر الآن ..... قبل أن تكون أنت من سيتهور و يفضحنا في المكان .... )
تحركت تجاه الباب ببطىء شديد ... و هي تعض على شفتها المبتسمة بخبث , الى أن سمعته ينهض من مكانه ليقول بلهجةٍ آمرة
( أياكِ و التفكير في مغادرة هذا المكان يا سيدة كرمة قبل أن تسلمي على مديرك ... )
اتسعت ابتسامتها دون أن تستدير اليه ... لكن ما أن التفتت اليه حتى قالت ببراءة و هي تومىء برأسها مودعة
( أراك لاحقا سيدي المدير ........ )
نظر اليها بصمت بينما التوت شفتاه وهو يقترب منها ببطىء كالفهد .... و هي تقف بترقب لذيذ ....
و ما أن وصل اليها حتى التفت ذراعاه حول خصرها ليقول بخفوت
( أنتِ تتلاعبين في عداد عمرك يا سيدة كرمة ....... )
أومأت برأسها و هي تقول مبتسمة بشقاوة
( نعم .....مشوق , اليس كذلك ؟؟ ....... )
لم يرد عليها وهو يتسابق مع الوقت في النظر اليها الاف المرات ... بحلاوتها و شقاوتها التي تستعيد جزءا بسيطا منها كل يوم ....
أخذ نفسا قويا ... ثم قال بهدوء و جدية
( كرمة ...........الا ترين أنكِ متأنقة أكثر من اللازم بالنسبة للخروج بمفردك ؟؟ ..... )
اختفت الابتسامة عن وجهها فجأة ... و ابعدت ذراعيها عن عنقه و هي تنظر اليه نظرة غريبة
ثم قالت بحذر
( ماذا تقصد ؟؟ ......هل ملابسي تشكو من شيء ؟؟ ..... اعتقد انها أكثر محافظة من باقي زميلاتي هنا !!! )
عبس حاتم ليقول بخفوت
( كرمة افهمي معنى كلامي قبلا ...... أنا تركتك تخرجين بالشكل اللذي لا تريدين صباحا كي لا تظني أننيِ آمرك قسرا .... لكن هل من غير المسموح لي بإبداء أي ملاحظة ؟!! ..... )
هتفت كرمة محتدة فجأة
( سيكون مسموحا لك لو أن ملابسي تشكو من شيء !! ..... إنها تكاد تكون متزمتة بالنسبة للمكان هنا !! .. )
عقد حاتم حاجبيه ليقول بجدية
( لا دخل لي بالمكان يا كرمة ..... أنتِ زوجتي في أي مكان ..... )
اتسعت عيناها بقوة ... و كانت تتنفس بسرعة , ثم هتفت بحدة
( ماذا تريد أن تقول ؟؟ ....... أن منظري مبتذل مثلا !! .... أنني شكلي سافر و أعيش بتحرر منتقض !!! ....... )
قال حاتم بصرامة
( أنا لم أقل ذلك ......... كل ما في الأمر أنكِ تشعين جاذبية و انت تبالغين في اظهارها .... ربما ليس ذنبك و أن التأنق من حقك ... لكنك تلفتين النظر في كل مكان و هذا ما أرفضه .... الأمر لا علاقة له بالملابس المبتذلة ..... )
لكن عقل كرمة كان قد أغلق أبوابه .... كانت مصدومة و هي تعيش نفس الحوار من جديد ... تنظر الى حاتم و كأنها تراه للمرة الأولى
ثم لم تلبث أن رفعت رأسها لتقول بجدية
( أنت تراني أتلذذ بنظرات الرجال لي ...... و أتعمد ارتداء ملابس تثير الغرائز ..... اليس كذلك ؟!!! .... اذن اسمح لي أن أرد على سؤالك السابق يا حاتم ....
لا ... أنت غير مسموح لك بإبداء أي ملاحظة على ملابسي أو مظهري بصفة عامة .... لأنك تزوجتني بهذا الشكل .... و محاولة تغييري ستكون أكثر ما يمكن أن تفعله قسوة ..... لأنك ستفشل في النهاية و لن تجني سوى أن أكرهك ..... )
صمتت فجأة و هي تلهث ..... بينما ساد صمت غريب ... و قاتم ....
بينما كانت ملامح حاتم غير مقروءة وهو ينظر اليها بصمت ... بينما ابتعدت يداه ليدخلهما داخل جيبي بنطاله ببطىء ....
و حين تكلم أخيرا قال بخفوت
( هذا الحوار الذي تكرمت به للتو ..... لم يكن على لساني يا كرمة , تلك ليست ألفاظي و هذا ليس اسلوبي .... بل هو اسلوب تحاولين جاهدة لصقه بي ....... )
صمت قليلا بينما وقع قلب كرمة بين قدميها و هي تشعر بأنها أحتدت و تغابت أكثر من اللازم ....
لكن بعض الماضي يظل ينكأ الجروح باستمرار ... دون أن تجد القدرة على ردعه .....
تابع حاتم بلهجةٍ أكثر صرامة
( أما عن إجابتك الأخيرة ..... فأنا بإمكاني أن أطور ملاحظاتي الى أفعال ... قد تكون مهينة و مؤلمة .... و ارادتك بالتأكيد ستكون أكثر هشاشة من إرادتي لأنه قانون الطبيعة مهما حاولتِ المكابرة .... )
ارتجفت كرمة بشدة و شحب وجهها .... بينما كانت نظرات حاتم اليها مخيفة جدا , رغم أن عضلة لم تتحرك به .....
ثم قال أخيرا بهدوء
( لكنني لن أفعل .......... فنفسي تعف عن ذلك , ...... )
فغرت كرمة شفتيها بألم .... بينما استدار بعيدا عنها ليعود لى مكتبه قائلا ببرود
( الى اللقاء يا كرمة .......... )
اندفعت كرمة اليه تمسك بيده تخرجها من جيب بنطاله .. قبل أن يصل الى مكتبه .... فوقف مكانه دون أن يستدير اليها ,
ظلت كرمة واقفة بجانبه في صمت .... و هي تدرك أن الإعتذار سيكون غاية في السخافة في تلك اللحظة ..
ثم رفعت وجهها أخيرا و قالت بخفوت
( سأعدل من طريقة تأنقي ...... فهلا ساعدتني ؟؟ ....... )
لم يرد و لم ينظر اليها .... فبللت شفتيها لتقول بخفوت
( أنت رجل شديد الأناقة و ..... الرقي ..... و رأيك سيجعلني الأجمل ....... )
صمتت قليلا ثم أخفضت وجهها و هي تهز ساقها بندم ... و تعض على شفتها بغيظ من نفسها ...
ثم لم تلبث أن قالت و هي ترفع وجهها اليه برجاء
( و أنت زوجي ....... )
تنهد حاتم بقوة و كأنه يرزح تحت ضغطٍ هائل ....... فهمست كرمة
( تحملني قليلا فقط ..... لم يتبقى سوى القليل .... أنا كنت اليوم أشعر بنفسي أطير فوق السحاب ... لا أعلم ماذا دهاني لينطلق لساني مجددا كالأفعى السامة ...... )
نظر جانبا قليلا وهو يرفض النظر اليها .... فهمست و هي تقترب منه بنعومة كقطة تلاعب صاحبها تريد منه المزيد من الدلال
( لا تغضب مني اليوم ... .. أرجوك , فأنا أحضر لك مفاجأة و لا أريد أن أتسبب في فسادها بسبب غبائي المفرط )
نظر اليها بصمت .... فابتسمت بإرتجاف و هي تميل بعينيها في توسل مثير للشفقة ....
حينها لم يتمالك حاتم نفسه من الضحك قليلا بخفوت وهو يمد يده ليقبض على مؤخرة رأسها و يميل بوجهه و يقبل وجنتها في قبلةٍ طالت حتى هزت روحها كلها ...
كان و كأنه يحاول أن يضمد روحها علها تهدأ قليلا من التوتر الذي يشنجها كل فترة .....
أغمضت كرمة عينيها بقوة ..... و هي تتنهد بصمت ... و ما أن أبعد وجهه عنها حتى رفعت وجهها تنظر اليه بنظرة غريبة .... لتهمس تقريبا بذهول
( ما تلك القوة التي تتحلى بها !!! .......... )
ظل ينظر اليها طويلا ... قبل أن يرفع يده الى وجهها وهو يهمس بجدية
( الا تعرفين ؟!!! ...... لأنني أحبك ....... )
ارتجفت شفتيها بشدة ..... ثم ابتلعت ريقها , لتقول بخفوت
( سأجعل السائق يوصلني الى البيت أولا ..... و سأبدل ملابسي لأبدو كحرس الحدود لو رغبت .... المهم الا تغضب مني اليوم ..... )
ضحك قليلا بخفوت وهو يداعب عنقها .... لينخفض وجهه اليه .. يقبل ذلك العنق الرائع وصولا الى حافة قميصها ليهمس بخشونة و جفاء
( أشك في أن تبدي كحرس الحدود مهما حاولت ..... حتى لو ارتديتِ جريدة مفرغة ....لكن عامة ستذهبين الى البيت و تعدلين من نفسك قليلا )
ضحكت وهي تتلاعب بشعره بجنون
( جريدة !! .... أمممممم مثير .... بالأمس رأيت قميص بيتي قصير مطبع بنقوش الجرائد ..... )
قال حاتم بجدية
( اذن لن تعودي بدونه ........... )
ابتسمت و هي تقول بسعادة متلاعبة بشعره
( حاضر ...... آآآه شعرك جميل ...... )
اشتعلت عيناه وهو يقبض على خصرها كرهينةٍ بين ذراعيه ليرفعها عاليا اليه وهو يهمس بوحشية محمومة
( أتعرفين مدى الجنون الذي تثيرينه بداخلي كلما ذكرتِ شيئا عن كون شعري جميلا !!!! ...... هل لديكِ أدنى فكرة !!! .... )
ابتسمت و هي تؤرجح ساقيها في الهواء هامسة و هي تلامس خصلات شعره و تتلمسها و كأنها تتسائل عن هوية المادة المستخدمة في تصنيعه
( أعرف ...... فهو يظهر بعينيك ...... )
أخفض رأسه الى عنقها مجددا وهو يهمس برقةٍ مجنونة
( كم أعشق ذلك العنق و أتلذذ مذاقه الشهي ..... )
أرجعت كرمة رأسها للخلف و هي تضحك قليلا .... هامسة
( لا مانع عندي سيدي المدير ........لكن لا تؤرجحني بقوة رجاءا ... .. )
.................................................. .................................................. ...................
كانت عيناها تطوفان بالباب كل حين بتوجس.....
منذ أن خرج منه منذ ما يقارب الساعتين وهو لم يدخل حتى الآن .... و قد كانت هي من الرعب بحيث لم تحاول الخروج خلفه للإطمئنان عليه ..
كانت تعرف جيدا حجم ما تفوهت به .... لقد أثارت الماضي بكل عواصفه في عبارة دنيئة واحدة .....
عبارة تفوهت بها بكل شرٍ و إنتقام .......
و هي تعرف سيف جيدا حين تثير الماضي بداخله ... فعلى الرغم من تحفظه و بروده الظاهرين لكل من يعرفه ... الا أنها وحدها اختبرت أشباح ماضيه مرتين
مرة حين بدأت بالشر في الذهاب لعمتها و الإفصاح عن هويتها بكل قسوةٍ .... و ليلتها هاجمها في بيتها ...بيت الماضي ....
و اللذي كان نفس المكان الذي تحررت به شياطين الماضي للمرة الثانية و كاد أن يودي بحياتها في غمرة عواطفه السوداوية ....
ارتجفت و هي لا تزال تتذكر تلك الليلة .... لقد زهقت أنفاسها و انهار قلبها الضعيف بين ذراعيه , فهرع بها الى المشفى .....
و الآن و بكل غباء ها هي تعيد الماضي كله في مجرد عبارة واحدةٍ شريرة انطلقت منها رغما عنها
قررت وعد أن تلتزم الإستسلام و الطاعة كي تأمن بطشه ... فها هي تعمل بكل أدب منذ خروجه , و لولا أنها لم تسمع صوت محرك السيارة لكانت رجحت بأنه تركها هنا وحيدة و غادر .....
أنهت إعداد طعام الغذاء بكل توتر .... لكنه لم يكن كافيا لإزالة توترها و خوفها , لذا خرجت من المطبخ لتنظيف المكان قليلا علها تخرج به كل شحنتها .....
لا تعرف كم مر عليها بالضبط و هي تحمل و تضع و ترتب أشياءا وهمية .....و حين لم تجد المزيد لتفعله وقفت مكانها لا تعلم ماذا تفعل .... فنظرت الى باب غرفته .. و بدون ان تدري وجدت ساقيها تقودانها اليها
اخذت نفسا ضعيفا قبل أن تفتح الباب و تدخل .....
كانت غرفة بسيطة ككل حالِ البيت .... ابتسمت قليلا بارتعاش لذيذ و هي تنظر الى السرير الذي يحتله ليلا ... كان مشعثا و غير مرتبا .... لكنه كان حميمي جدا ... من الخشب المغزول و كأنه رجولي و بسيط في ذات الوقت دون تعقيد .... و كان عطره الخاص يصلها بمنتهى الوضوح ....
تجولت في الغرفة تنظر الى أغراضه الملقاة هنا و هناك ... فوجدت قميص الأمس ملقى على أحد الكراسي بإهمال , فرفعته الى أنفها ببطى ... فلم تلبث أن أغمضت عينيها وهي تتأوه قليلا ساحبة نفسا عميقا محملا بكل عطره الرجولي الطبيعي ممتزجا بعطره الفرنسي ....
تركت القميص على مضض و هي تفكر أنه من الخسارة أن يتم غسل هذا القميص .... تستطيع أن تستنشقه ليل نهار دون أن تكتفي .....
عادت لتتجول في الغرفة , ثم انحنت لترتب شراشف الفراش و تعيد ترتيب وسائده .... مبتسمة ..
لكن ابتسامتها اختفت تدريجيا و هي تتذكر المرة الأولى التي رتبت بها غرفته , متطفلة على خصوصياته ....
ذلك اليوم الذي تسببت في اخراج مارده للمرة الأولى ......
حانت منها التفاتة و هي تتنهد بقوة .... فتسمرت عينيها على شيء ما على الطاولة الموضوعة بجوار السرير ....
فاقتربت منه غير مصدقة .... الى أن أمسكته بين يديها ....
نعم انه هو .... انه مصحفها الصغير الذي لم يفارقها أبدا الا في الآونة الأخيرة .....
لقد كان معه !! ....
ضمت المصحف الى صدرها و هي تسقط جالسة الى حافة سريره .... مغمضة عينيها بأسى .... و هي تهمس بداخلها
" ما أسهل الإستسلام !!! ...... ما أسهل القبول !! .....
ظلت مكانها تنعم بالتواجد في غرفته و على سريره ..... طويلا
لكنها انتفضت فجأة حين شعرت بحركةٍ خلفها .... فقفزت واقفة لتضع المصحف مكانه و هي ترى سيف واقفا في اطار باب الغرفة
اتسعت عينيها قليلا و هي تراقب منظره الغريب .... كانت ملامح وجهه غريبة قاسية بشكل مخيف .....
القوة الداكنة تحيط بها من كل مكان مرسلة شراراتٍ تحيط بها و تزيد من ارتعاشها .....
كان يبدو بشكلٍ غير شكله حين خرج ... و كأنه شخص آخر ....
عيناه حمراوان بلون الدم ... شعره أشعث قليلا ... نظرته ... نظرته غريبة وهو يحدق بها ....
تسمرت وعد مكانها و هي تتنفس بارتجاف .... نعم لقد استحضرت شياطينه و آن لها أن تتقبل عقابه ...
لكنها همست بصوتٍ مرتجف حين طال الصمت المرعب بينهما
( لقد انتهيت ...... من اعداد طعام الغذاء .... )
لم يرد عليها ... بل ظل واقفا مكانه و نظراته تهدر بقوةٍ أكبر ... فارتعشت أكثر و هي تقول بخفوت
( هل احضر لك الطعام ؟؟ ......... )
من كان ليصدق أن تقف أمامه بهذا الذل و المسكنة بعد أن كانت تصرخ و تصيح صباحا ....
لكنها خائفة .... لن تخدع نفسها بإنكار ذلك .....
خاصة وهو لا يبذل أي جهد لطمأنتها ....
شعرت به يتحرك فجأة .... فرفعت رأسها بسرعة لتجده يقترب منها مندفعا ... فشهقت بصمت و هي تتراجع هامسة دون وعي
( سيف !! ......... )
الا أنه كان قد وصل اليها ليدفعها فجأة الى الجدار خلفها فارتطمت به ..... فصرخت بخوف
( سيف !! ......... )
مد يده يمسك بذقنها يرفعه للأعلى بقوة .... وهو ينظر الى عينيها بشر ... طويلا ... و كأنه يأخذ وقته في قراءة ما بداخلها عله يرتاح ....
ابتلعت ريقها بصعوبة و همست بإعتذار
( سيف ....... انا آسفة ..... أنا آسفة .......لم أقصد ما قلته .... )
على الرغم من أنه ألمها لفظيا كثيرا من قبل .... و أهانها أكثر من مرة ضاغطا على جروحها واحدا تلو الآخر ... الا أنها في المقابل تشعر الآن بندمٍ فظيع على ما تفوهت به ....
فألم الرجل يختلف عن ألم المرأة .... فقهره أكبر و أصعب .....
كان ينتظر اليها بنظرةٍ متوحشة ... مسحت بروده و بدا و كأنه غير قادرا على السيطرة على نفسه فانخفض رأسه بقوةٍ ليغلق المسافة بين شفتيهما محتويا ذلك التجويف الرقيق لفمها بكل قسوة ... مما جعلها تشهق بألم ... بينما أعتصرتها ذراعيه بقوةٍ كادت أن تحطم ضلوعها .....
بدت و كأنها تدور في دوامةٍ عنيفة ... و هي تراه كالمجنون , يحطم كل الحواجز بينهما بقسوةٍ رأتها منه سابقا في غرفتها القديمة ببيت والدها ذات ليلة .....
كانت تدرك أنه سيستسلم لشياطينه .... لكنها لم تكن قد استعدت بعد ... إنها حتى لم تجد الوقت كي تلتقط نفسها المرتجف قبل هذا الهجوم ....
بدا سيف و كأنه يحاول أن يدمغها باسمه .... لم يكن حبا أو مشاعر رقيقة .... بل كان تملكا لن تشفى منه أبدا ... كان وشما باسمه لن يزول مدى العمر ....
كم بدا عنيفا وهو يتراجع بها الى السرير حتى سقطت عليه وهو فوقها .... ملتهما كل ما يستطيع الوصول اليه دون ذرة مقاومة منها .....
كانت ترتجف بشدة و هي تستشعر جنونه .... و فجأة , شعرت بقلبها يؤلمها بشدة وجعا عليه ....
بينما كان هو يصارع ملابسها بعنف ..... و من حيث لا تدري رفعت يدا مرتجفة تتلمس بها فكه المتشنج .....
و همست لعينيه
( أنا آسفة يا سيف .............. )
لكنه كان كالأعمى و الأصم أمام الحب البادي في عينيها في تلك اللحظة دون حتى أن تدركه هي ...
مدت كلتا ذراعيها الى ظهره و هي تحاول أن تمنحه من عاطفتها عله يهدأ .... الا أنها كانت تزيد من جنونه وهو يكاد أن يبتلعها مع أنفاسه الهائجة .....
كانت تحاول على قدر امكانها اعادته اليها و هي تميل برأسه الذي ينهش عنقها بشراسة ... هامسة في أذنه برفق رغم لهاثها .. و كأنها تهمس الى طفلها المتمرد كي تهدئه ....
ليست عاطفة بالمعنى الأصح .... بل عاصفة كانت تجعلها كريشة ضعيفة في مهبِ رياحٍ عاتية ... بينما تجعله كالطوفان الهادر الذي يكاد أن يقتلعها من جذورها ليغرسها بأرضه .. وهو يهمس بشراسةٍ فوق بشرتها
( أنتِ لي وحدي ..........أقسم أنني تحملت منكِ الكثير لكني لن أرحمك بعد الآن .... أنتِ ملكي وعدي وجنوني ... زوجتي أنا .... لقد أتيتِ الي بقدميكِ و كنت أنتظرك ..... أنتِ لي ..أنتِ تحبينني أنا يا ابنة خالي .... تحبينني أنا ... )
همس بجنون وهو يعض على أذنها فتأوهت بشدة
( قولي أحبك ......... )
كانت تتأوه رغما عنها و جسدها الضعيف يحترق تحت جسده القوي .... لكنها رغما عنها ابتسمت بضعف
و هي تسمع منه عنوان أغنية لكاظم الساهر .... و كم تعشق تلك الأغنية مؤخرا, لكن سخرية الموقف هي ما جعلتها تبتسم بحزن من بين ذلك الجنون اللاهث بأنفاسهما ... فشتان ما بينه و بين رقة كاظم في تلك اللحظة ...
لم تجد حرجا من مجاراته في طلبه المتكرر لها..... فهمست برقةٍ و هي تلهث من جنون عواطفهما ....
( أحبك .......... أحبك يا سيف ....... )
و ظنت للحظات بأن اعترافها قد يهدىء من جنون غضبه ... الا أنه همس بقوةٍ و يده تقبض على عنقها
( ماذا كان ردك ؟؟ ........ )
أستطاعت بمعجزةٍ أن تنتزع نفسها من جنون هجومه وهي تسمع منه ذلك السؤال الغريب ... مستشعرة بخطىء ما ....
فعقدت حاجبيها و هي تلهث قليلا ... بينما همست بعدم فهم
( ردي على ماذا ؟؟ .......... )
ازداد ضغط يده على عنقها و هو يهمس ملامسا أذنها بعذاب
( كنتِ معه ..... تحت سقف بيته , وحدكما ........ )
فغرت شفتيها و هي تتلوى مبعدة وجهها الأحمر عنه و هي تنظر اليه بذهول
" كنتِ معه !! ..... تحت سقف بيته !!! "
هذه المعلومات لا تنطبق سوى على شخص واحد ..... يوسف !!
ماذا يفعل يوسف هنا تحديدا بينهما .... وسط تلك العاصفة التي كادت أن تطيح بصوابهما معا.....
تكلمت وعد أخيرا و هي تحاول أن ترفع الغطاء اليها بعنف
( ماذا تقصد ؟؟ !! .......... )
انتفضت حين هجمت يده على وجهها مجددا يرفعه اليه بقسوةٍ حتى انطبقت شفتيها تحت ضغط أصابعه القوية
بينما هدر بجنون وهو يلهث أمام ملامحها المرتعبة
( ماذا كان ردك على عرضه للزواج بك ........ )
هدر وهو يشدد على ذقنها متابعا بوحشية
( عرض الزواج على زوجتي ...... زوجتي التي سهلت له الفرصة كي يتطاول و يعرض عليها الزواج متناسية أنها امرأة متزوجة ........ )
اتسعت عيناها لتهمس بذهول
( كيف عرفت بعرضه ؟!! .......... )
شهقت عاليا و رفعت يديها أمام وجهها و هي تراه يرفع كفه عاليا ناويا على صفعها بينما كانت ملامحه مخيفة ... سوداء .... سوداء ....
ظل ينظر اليها بعنف وهي لا تزال نائمة على كتفه ملتحفة بصدره تخبىء وجهها به .... بينما يده الأخرى مرتفعة في الهواء تطلب صفعها ....
كانت تحتمي بصدره منه .... صدره اللاهث بعنف , حتى أوشك أن يموت هو بنوبةٍ قلبية لا هي ... من قسوة ما يلاقيه منها ....
انقبضت يده و هي لا تزال في الهواء .....
يضمها الى صدره القوي بذراع و اليد الأخرى كانت تنوي ضربها ......
شعر برطوبة دموعها على بشرة صدره الأسمر وهو يرتفع ليتشرب المزيد من دموعها المالحة ... ثم ينخفض مشتاقا ليعود بسرعة البرق الى وجنتها اللاهبة ....
أخفض يده بقوةٍ على ظهرها فانتفضت برعب من صوت يده التي لسعت ظهرها الناعم ....
نظر اليها بملامحه القاتمة .... و قال بصوتٍ أجش خافت
( لم تكن تلك ضربة ............ )
لم ترد عليه بل انفجرت فجأة في بكاءٍ عنيف و هي تغطي وجهها بكفيها دافنة وجهها بصدره أكثر , تتخلص من الرعب الذي عايشته بسبب ذلك المجنون المتوحش
ظل ينظر اليها و هي تهتز بقوةٍ فوق صدره ... دون أن يحاول أن يحررها
كان غضبه في تلك اللحظة عنيفا بدرجةٍ أنسته ضعفها و قرب وعكتها التي ارقدتها في المشفى .....
لو حررها الآن فلا يضمن نفسه من أن يجذبها ليطرقها بأقرب جدار ....
عاد لينظر اليها بطرفِ عينيه الملتهبتين
رباه ... ما ذلك العذاب !! .... بقى في الخارج وهو يحاول جاهدا السيطرة على غضبه , لكن ما أن رآها حتى انفجر في وجهها دفعة واحدة
أن يسمع صوت رجل آخر على هاتفها يطلب منها الزواج .... من زوجته !! .... زوجته هو !!! ....
كان يتنفس بصعوبة وهو يراقب اهتزاز كتفيها المختنق ... و بداخله سؤال واحد ...
" ماذا كان ردك ؟!! ...... "
ليس بالضرورة أن تكون قد خانته و أجابت الحقير لطلبه .... لكن بداخلها .... عميقا بداخلها ...
ماذا كان ردها ؟!!
مد يده بقوةٍ ليقبض على كتفها ليديرها على ظهرها وهو يعلو فوقها بملامحه العنيف ليهمس أمام وجهها المتورم بكاءا
( ماذا كان ردك ؟!! ........ )
اتسعت عيناها المنتفختان و هي تفتحهما لتنظر اليه بذهول .... ثم و دون أن تستطيع أن تمنع نفسها مدت قبضتها تضرب بها صدره بقوة آلمتها و كأنها لكمت جدارا ... و هي تهتف بعنف باكية
( ماذا تظن ردي ؟؟!! ..... أنا لست خائنة مثلك ..... )
ضربته بقبضتها المجنونة مرة اخرى وهي تصرخ بعنف بينما شعرها يموج حولها بجنون
( أيها المعتوه ..... لقد كدت أن تقتلني بين ذراعيك و أنا التي كنت أحاول مواساتك ... بينما تفكيرك الغبي كان منصبا على أمرٍ تافه مثلك ..... )
صرخ بعنف ( اخرسي ......... )
فانتفضت و هي تعاود الإحتماء بصدره بذل و هي تلعن غبائها على اثارة غضبه في تلك اللحظة بالذات بعد معرفته بعرض يوسف ....
ظلت في مخبأها تبكي بنعومةٍ و هي تتلمس عنقها المحمر من قبضته ... الا أن يده قبضت على يدها بقوةٍ تبعدها عن عنقها .. فنظرت اليه بصمت من بين دموعها الغزيرة
فقال بصوتٍ خافت ... عنيف و معذب
( بماذا فكرتِ حين عرض عليكِ الزواج ؟؟؟ ..... بأنه مناسب لكِ أكثر مني حاليا .... بأنه هو من سيحقق لكِ ما تحتاجينه من مساعدات دون التدخل بحياتك .... هو الزوج المناسب لكِ حاليا أكثر مني اليس كذلك ؟؟ ... لطالما رميتِ بوجهي , أنكِ تزوجتني لأنكِ كنتِ تحتاجين الي .... أما الآن فلم تعد لكِ حاجة بي .... )
صمت وهو يتنفس بنفسٍ هادر ... بينما كانت عيناها الحمراوان تنظران اليه بصمت و صدمة ...
بماذا يفكر ؟!! .......
عادت يده لتقبض على ذقنها ترفعه اليه مجددا لكن بقوةٍ أقل .... و انخفض وجهه حتى تلامس خط ملامحهما
جبهتيهما .... أنفيهما ..... شفتيه الحارتين و اللتين همستا فوق شفتيها المتورمتين و المرتعشتين ....
( هل هو المناسب لكِ الآن يا وعد ؟؟ ...... بعد أن انتهت حاجتك لي ...... )
ابتلعت رقيها بألم و هي تشعر به غريبا بشدة ..... تنظر الى عينيه الضيقتين فوق عينيها الحمراوين المتسعتين ..... بينما همس سيف مجددا بصوتٍ خافت خطير مذبذب
( لهذا السبب تقدمتِ بدعوى الخلع ؟؟ ...... لأن الزوج الجديد جاهز و في انتظارك !! ..... )
كان صدرها يخفق بعنف تحت صدره ... و ساد صمت مشحون يكاد أن ينفجر بشراراته في وجه أول من يتكلم بينهما ...
و كانت هي من تكلمت ... فهمست تحت شفتيه الشرستين
( طالما أنت تفكر بي بتلك الطريقة ..... فلا أمل لنا معا ..... )
رفع وجهه بضعة انشات ليقول بازدراء
( و هل تركتِ لنا أي امل ؟!! .......... )
قالت بجمود على الرغم من ملامحها المتورمة و المنتفخة من اثر البكاء
( و ما دمت تعلم أنه لا أمل لنا معا ..... فماذا تفعل بي هنا .... في بيتك ... في غرفتك .... في سريرك , حيث تذوب كل خلافاتنا و تصبح نظرتك لي رائعة الجمال .... و كأنك لا تمل النظر الي أبدا ......
أتعرف ماذا ؟!! .......لطالما تمنيت رؤية تلك النظرة منك في أماكن أخرى غير تلك الخلوة الرائعة بيننا .. )
قال سيف بوحشية وهو يحيط وجنتها بيده بقوة
( لن أحررك يا وعد ..... لن تكوني لغيري و لو اضطررت الى قتله و قتلك ....... )
صمت قليلا وهو يتنفس بعنفٍ و كأنه يجد صعوبة في اخذ النفس الحارق الذي يشعل رئتيه من شدة جنونه الذي يحاول جاهدا السيطرة عليه ...
بينما انتقلت عيناه من وجهها الى طول عنقها ترافقها اصابعه ... وصولا الى تجويف حلقها حيث ابتلعت ريقها بإختناق ... ثم تابعت أصابعه تجولها حتى موضع قلبها الخافق بعنف .... و الذي ازداد جنونه تحت لمسته الحارقة ... فهمس بصوته الأجش الخانق
( هذا القلب ينبض باسمي أنا فقط .... حتى وهو في خضم آلامه و ضعفه , لم ينبض سوى باسمي ..... )
فغرت شفتيها و هي تتنفس بعنفٍ تحت لمساته الجريئة ... لكنها تمكنت من الهمس بجمود زائف
( هل كذبت الكذبة و صدقتها ؟!! .........)
ارتفعت عيناه الى عينيها بصمت .... عيناه وحدهما كانت قادرتين على قتلها .... بينما يداه تقبضان على شفتيها بقوة .....
الصمت يحاوطهما بينا حرب أعينهما كانت مشتعلة بنزال السيوف ......
ابتعد عنها فجأة دافعا إياها بعنف وهو يميل ليلتقط ملابسه دون أن يروى جوعه و عطشها .....
فتراجعت الى مؤخرة السرير تلتصق بظهره و هي تراقبه بعينيها المنتفختين ... تسحب الغطاء اليها كنوع من الحماية الواهية .....
سمعته يكرر مجددا بلهجته القاتمة التي جعلت المشاعر التي تشاركاها للتو تبدو في أسوأ صورها
( لن أحررك يا وعد ...... أما الحقيرالذي تجرأ على طلب الزواج من زوجتي فحسابه معي عسير ... )
ظلت تنظر اليه من خلف غلالة دموعها و صدرها يرتفع و ينخفض بعنف ... قبل أن تهتف فجأة بكل قوتها و قهرها الجميل
( أكرهك يا سيف ..... و هذه حقيقة من كل قلبي و ليست ادعاءا كالذي ترغمني على تكراره كل حين ... )
استدار اليها فجأة ... ينظر اليها مطولا قبل أن يقول بصوتٍ غريب
( المشاعر متبادلة في تلك اللحظة ......... )
ثم اندفع خارجا من الغرفة ... لتسمع صوت باب الحمام يصفق بعد لحظات بمنتهى العنف , حينها أرجعت رأسها للخلف و هي تغمض عينيها لتنشج ببطء و هدوء ....
لكنها انتفضت فجأة بعد فترةٍ قصيرة للغاية ... و هي تسمعه يدخل الى الغرفة مندفعا ... يرتدي ملابسا نظيفة بينما شعره لا يزال يقطر ماءا !! .....
تراجعت أكثر لتلتصق بظهر السرير ... أكثر و أكثر .....و هي ترفع حافة الغطاء لتمسح بها وجهها بقلق ... لكنه لم ينظر اليها ... بل وجدته يندفع ساحبا سلسلة مفاتيحه ... و هاتفه ... و هاتفها .....
ليتجه بكل قوته الى باب الغرفة كمن فقد كل ذرات السيطرة على النفس و التي حاول عبثا استجمعها خلال الساعات الماضية .....
ظلت وعد تنظر بذهول قليلا الى الباب الذي خرج منه .... ثم لم تلبث أن شهقت عاليا و هي تضرب صدرها بيدها قبل أن تقفز من الفراش بهلع ... تلف الغطاء حول نفسها بعشوائية ....
تجري خلفه .... و ما أن فتح باب البيت حتى هبت رياح محملة بالأمطار الى الداخل فجعلتها ترتجف بشدة ... الا أنها لم تهتم و هي ترمي بنفسها على الباب لتغلقه و تستند اليه بظهرها هاتفة بقوة
( الى أين أنت ذاهب ؟؟ ........ )
كانت ملامحه قد ارتدت قناع الجنون المتخفي تحت سطح الصلابة .... وهو يقول بصوتٍ مخيف
( ابتعدي عن طريقي يا وعد ...... )
ثبتت أصابع قدميها في الأرض كالحوافر الصغيرة و مدت ذراعها الحرة على الباب ... بينما تشبثت الأخرى بالغطاء كي لا يقع ... و قالت مرتعشة و محاولة التظاهر بالشجاعة
( ليس قبل أن تخبرني الى أين أنت ذاهب ... بينما تتركني هنا وحيدة ..... )
قال لها دون أن تلين ملامحه ولو للحظة
( المكان آمن ....... ابتعدي عن طريقي )
رفعت كتفيها و ذقنها و هي تكرر بكل قوتها متشبثة بالباب اكثر
( ليس قبل أن تخبرني .... الى أين أنت ذاهب ؟؟..... )
نظر الى عينيها الشتوتين قبل ان يبتسم بوحشية و هو يقول متلذذا
( سأذهب لأفصل رأس زوج المستقبل الغالي عن جسده ..... كي يتعلم الا يتعدى على أملاك غيره )
شهقت وعد بقوةٍ و هي ترفع يدها المرتجفة لتضعها على صدرها المجنون هلعا... لكنها لم تلبث أن أخفضت يدها و هي تصرخ
( لن تذهب يا سيف ..... اقسم أنك لن تخرج من هنا و لن ترتكب المزيد من الحماقات )
لم تلين ملامحه بل ازدادت قسوة وهو يقول بصرامة
( ابتعدي عن طريقي يا وعد ........ )
طرقت الأرض بقدمها و هي تهتف بغضب و جنون رغم رعبها
( لا ................. )
اندفع اليها ليقبض على كتفيها و يحمله حملا و يدفعها بعيدا و كأنها مجرد دمية ....
لكن و ما أن اقترب من الباب حتى هجمت عليه مجددا تتشبث بكتفيه و صدره صارخة
( توقف عن هذا يا سيف ..... لن تذهب و تتركني هنا .... )
مد يده و اخذ يفكك أصابعها المتشبثة بلحم صدره واحدا وحدا و قد بدت كسلطعون صغير يرفض تركه ... الى أن تمكن في النهاية من إبعاد يدها و رميها جانبا ..... لكنها قفزت مجددا تتعلق بذراعه و هي تصرخ بشراسة
( أقسم بالله يا سيف لو خرجت الآن فسوف أخرج خلفك و لن تهمني مخاطر الطريق ...... )
نظر اليها بقسوة وهو يبتسم بسخرية و ازدراء ... هامسا من بين أسنانه
( هل تهدديني ؟؟!! .......... )
ردت بكل قوتها .... و بمنتهى الجنون
( نعم ....... و سأتبعك كما أنا الآن ... ملفوفة في غطاء كالمقبوض عليهن في قضية للآداب ... )
انعقد حاجبيه وهو يراقب قسوتها و ملامحها المصممة .... حينها هدر نفسه وهو يهجم عليها منحنيا ليصعد بها فوق كتفه كالمصارعين حين يحملون بعضهم ... ممسكا بكاحلها بينما هي تصرخ بجنون و هي تضرب ظهره
( توقف عن تلك الهمجية يا سيف ...... لا تفعل هذا مجددا ....لن تخرج من هنا .... )
الا أنه كان يتجه بها الى غرفته مجددا ... غير مباليا بصراخها , الى أن ألقاها على السرير بقوة فسقطت و سقط الغطاء فوقها بمهارة ...
ثم ابتعد وهو يرفع سبابته اليها محذرا
( اياكِ ....... و الخروج من باب هذا البيت , أنتِ لم تري بعد أسوأ حالاتي يا وعد , ..... صدقيني أنا حتى الآن أحاول جاهدا اخفاء الجانب الأسود مني عنكِ ..... )
استقامت جالسة و هي تبعد شعرها عن وجهها لتهتف بعنف
( ألم أره بعد !!! .......... )
التمعت عيناه وهو ينظر اليها بصمت لعدة للحظات .. شعرت حينها على وشكِ رؤية ذلك الجانب الأسود الذي يحكي عنه ...و الذي لا يقارن بما خبرته منه , فقال سيف بصوتٍ خافت
(خذيها كلمة مني ...... أنتِ لم تريه بعد , فهو يجعل مني مجرما ....... )
فغرت وعد شفتيها قليلا و هي تتنفس بسرعة ...
و دون أن يسمح لها بالمزيد من الكلام ... خرج مندفعا من باب الغرفة لتسمع صوت الباب يصفق بقوة .... و بعدها صرير مكابح سيارته شق الصمت في الخارج عواءٍ غاضب .... شرس .
نظر الى الxxxx أمامه ... و تسائل للمرة الألف , عن سبب تواجده هنا !! ....
شعور غريب بالسوء ينتابه ... شعور بالسوء ممتزجا بالغضب يتمواج بداخله ... يفترسه بصمت و هو يخبره بأن تلك المراقبة عن بعد سرعان ما تنتهي ما أن يسلم الصغيرة بيده الى الحقير الذي تربى ببيته و أمام عينيه ...
منذ مواجهته مع كريم صباحا و هو يشعر بأنه قد عهد اليها بتسليمها للشيطان .. , لكن أي خيارٍ آخر أمامه ...
رفع رأسه لينظر أمامه بصمت وهو يتخيل الأمور تستتب و تستقر , لتعيش تلك الصغيرة بينهم ... بعينيها العسليتين و شعرها الطويل ... و نظرتها البريئة الحزينة ... و التي ستتهمه ليل نهار بأنه ساعد في تسليمها للحقير كريم .....
زفر بعنف وهو يرجع رأسه للخلف ....
عيناها لا تبارحان فكره ... و شعرها يلتف على صدره كسياطٍ حارقة ....
ما تلك القوة المجنونة و التي تجذبه اليها ؟؟ .... لقد تاب منذ الأزل عن النساء جميعا ....
منذ موت "رؤى " و قد سلم بأن يموت قلبه معها .... جزاءا له على الحزن و الحرمان اللتي عاشته منذ اليوم الأول لزواجهما ...
لقد عاش أياما طويلة و ليالٍ يتجرع بها صوت نشيجها و تأوهاتها ....
فكيف تأتي الآن صغيرة بضفيرة شقراء طويلة لتربك كيانه و تزلزل جدرانه !! ......
كيف تهاون عن حساب فارق العمر بينهما !! .... كيف يتغافل عن حقيقة امتلاك غيره لها !! ....
اللعنة ليته يتغافل عن تلك الحقيقة ... بل أقسى الأمور أنه أقسم و توعد بأن يعيدها اليه بنفسه .... أقسم على أن تحمل اسم الوغد ولو خطه بيده هو قسرا ......
زم شفتيه بكبت وهو ينظر الى الxxxx مجددا , و هو يبعد عنه تلك الأفكار المجنونة عنوة ....
انه هنا لغرض واحد لا ثاني له ..... لكي يطمئن أن أكرم لم يضايقها بأيٍ من وسائله الحقيرة .....
لا سبب آخر لوجوده هنا ..... إنه لا يتحجج كي يراها حرة للمرة الأخيرة ....
لذا اتخذ قراره و نزل من السيارة و صفق بابها بعنف وهو يعبر الطريق بقوة كادت أن تخرق أسفلت الطريق حتى وصل الى حارس الxxxx .... فتردد قليلا قبل أن يتكلم بقوة , تجبر من امامه على إحترامه ..
( السلام عليكم .....لقد جئت أسأل عن ...... الآنسة .... ملك ... مقيمة بالطابق الرابع , هل هي متواجدة ؟؟ )
نظر اليه حارس الxxxx باهتمام وفضول وهو ينهض من مكانه واقفا أمام ذلك السيد الذي تظهر عليه علامات الإحترام و الوقار .... و الهيبة .....
ثم قال بتهذيب
( لا يا سيدي ..... لقد رأيتها خارجة منذ ساعتين ........ و لم تعد بعد )
سمع رائف صوتا أنثويا يأتي من خلفه يقول
( عفوا ..... هل تتكلمان عن ملك أخت وعد .... بالطابق الرابع ؟؟ .... كنت أسأل عنها كذلك ... )
التفت رائف بسرعةٍ ينظر الى شابة طويلة .... تبدو في أوائل الثلاثينات من عمرها .... ملامحها قوية صريحة و نظراتها لا تتسم بالليونة ....
قال حارس الxxxx بسرعة
( نعم سيدتي ..... إنها ليست متواجدة , ربما لوكنتِ قد سألتني قبل صعودك لكنت أخبرتك .... )
تنهدت ورد بنفاذ صبر و هي تلتفت حولها بملل ... لا تعرف هل تنصرف أم تبقى هنا تنتظر .... أم تذهب و تعود مجددا
لقد أصر سيف عليها الا تبيت ملك وحدها الليلة ..... و تبا لها لقد وعدته بذلك ......
ما تلك المسؤولية البغيضة على قلبها !!! .......
كانت قد تحركت عدة خطوات وهي تفكر بغضب فيما ستفعله حاليا ... لكنها أجفلت حين سمعت صوتا رجوليا يتكلم من خلفها بسلطة
( عفوا سيدتي ....... لماذا تسألين عن ملك ؟؟ .... )
التفتت ببطىء الى الرجل الوقور الواقف خلفها ... ثم رفعت حاجبا شريرا واحدا و هي تتسائل عن ذلك المتطفل الذي يريد أن ينال حظا من لسانها الحاد حاليا و هي تتمنى قتل أحدهم ....
ثم أدركت أنه هو أيضا كان يسأل عن ملك منذ لحظات ... فقالت ببرود
( هل يمكنني أن أعرف مع من أتكلم ....إن لم يكن لديك مانع ؟؟ .... و ما هي صلة قاربتك بملك كي تسأل عن زائريها ؟!!! ..... )
تردد قليلا و ملامحه ترتبك .... فرفعت حاجبها مدققة أكثر ....
فهو رجل كان يسأل عن فتاة صغيرة مقيمة وحدها .... ربما كانت شعراته الجانبية الفضية ما هي الا ستار لكونه سفاح أو مغتصب .... فسيف أكد لها أن لا أقارب لملك مطلقا ...
لذا استعدت و هي تقبض بيدها على زذاذ الدفاع عن النفس و الموجود في حقيبتها بإستمرار .... تحسبا لأي حركةٍ منه ....
تكلم الرجل أخيرا قائلا بصوتٍ واثق ... يجبر على طاعة من أمامه
( صلة معرفة طويلة .......... )
كانت تنظر اليه بتوجس .... تريد أن تستلم تلك المدعوة ملك و تخرج بها من هنا سريعا .....
الا أنه قال بهدوء و بصوتٍ أكثر تهذيبا
( أنا فقط أردت الإطمئنان عليها ..... أنا أتعامل مع محل الورد الذي تعمل به منذ فترة طويلة ... و كنت أنتظر طلبا منها .... نظرا لتلك الصلة , ........ )
رفعت ورد ذقنها و هي تقول بجمود
( أنا شقيقة زوج أختها ........ لقد أرسلني سيف الى هنا ... " سيف الدين فؤاد رضوان " )
تنهد الرجل بإرتياح وهو يقول مبتسما قليلا
( آه نعم ..... لقد حضرت زفاف السيد سيف , لذا لا تقلقي سيدتي .... الصلة متشابكة نوعا ..... )
قالت ورد ببرود
( أنا لست قلقة من شيء يا سيد ...... أنا هنا لغرض واحد فقط وهو أنني مكلفة باستلامها ... و أريد العودة سريعا .... )
رفع رائف حاجبيه وهو يقول بتعجب
( استلامها ؟!!! ......... )
ردت ورد بلهجة عادية .. و كأنها تكلم معوق ذهنيا
( نعم استلامها ..... لقد كلفني سيف بأخذها الليلة الى بيتنا و أصر على الا تبيت هنا وحدها .... )
أومأ رائف برأسه وهو يقول مرتاحا برضا شارد .... مفكرا
( جيد ...... هذا جيد ...... )
هزت ورد رأسها تعجبا من ذلك الشخص الغريب الأطوار ... لكنها تحركت عدة خطوات قصيرة متجولة منتظرة .... لعل المدعوة ملك تظهر في أي لحظة و توفر عليها عناء العودة مجددا ....
لكنها عادت و نظرت اليه بطرف عينيها ... كان لا يزال واقفا مكانه و القلق مرتسم على ملامحه .. ينظر شاردا الى الأرض , واضعا يديه في جيبي بنطاله ..
فانتظرت عدة لحظات قبل أن تذهب اليه , ثم قالت بصوت جامد
( هل هناك ما يدعو الى القلق يا سيد ؟؟ ..... هل من المفترض أن أقلق أو أن هناك ما قد أبلغ سيف به ؟؟ )
رفع رأسه اليها متفاجئا , ثم لم يلبث أن قال سريعا ....
( لا ..... لا شيء لتخبريه به , أنا فقط .......... )
صمت قليلا لا يعرف ما يقوله .... ثم لم يلبث أن تنهد بقوة , ليقول بعدها بهدوء
( أنا فقط أبالغ في القلق ........... )
رفعت حاجبيها و هي تنظر اليه بفضول , مدركة أن ذلك الشخص هو أكثر من مجرد غريب بالنسبة الى المدعوة ملك .....
لكنها تكلمت بفتور
( أنا يجب أن أرحل الآن ...... لا يمكنني التأخير أكثر )
نظر اليها رائف بصمت ... ثم لم يلبث أن قال بخفوت
( تفضلي أنتِ ...... و ما أن أرى ملك , حتى أبلغها بضرورة الذهاب اليكم ...... )
أومأت برأسها بتردد ... ثم تحركت مبتعدة بصمت و هي تتسائل من مدى ضرورة أن تخبر سيف عن ذلك الغريب .... لكنه لا يبدو خطرا , كي تقحم نفسها فيما لا يعنيها .... انه يبدوا مهتما بالمدعوة ملك أكثر من اهتمامهم هم بها .....
لكنها , لم تلبث أن غادرت و هي تشعر بعدم ارتياح للأمر كله , .......
بينما بقى رائف واقفا مكانه .... ينظر الى الأرض بشرود ... , ثم يرفع رأسه لينظر الى أعلى الxxxx و كأنه بإطالة النظر سيراها مقبلة .... يريد أن يراها مطمئنة , ما أن يخبرها بأن كريم سيتزوجها .... و ستحيا حياة كريمة .... يريد ابتسامة عينيها من جديد .... حتى ولو ظاهريا على الأقل , لكن لماذا يفترسه ذلك الشعور المقبض ؟!! .....
تنهد بنفاذ صبر , ثم حين طال وقوفه أمام حارس الxxxx الذي بدأ يتململ من تواجده الغريب .... اندفع خارجا من مدخل الxxxx متجها الى سيارته وهو يشعر بالغضب يسيطر على كل خلاياه , و ما أن ارتمى على مقعده , حتى أخرج هاتفه ليطلب رقمها مجددا ....
هامسا بغضب من بين أسنانه
( لماذا لا ترد ؟!! ....... و أين ذهبت الآن بعد تحذيري لها ؟! ..... تبا لذلك , ....... )
كان الهاتف لا يرد ... فرماه على المقعد المجاور بغضب و هو يزفر باستياء .... ثم لم يلبث أن همس بصوتٍ أجش مكبوت
( تبا لها ..... و لماذا أشغل بالي و كأنها ابنتى ...... أشعر و كأنني أحمل همها أكثر مما تحمله هي .... )
عاد ليزفر مجددا وهو ينظر من نافذته الجانبية ... بوجه قاتم ... ثم فكر بقهر
" لا ..... لا إنه لا يحمل همها أكثر مما تحمله هي ..... ليس أعمى كي لا يلاحظ انطفاء شمعتي عينيها .... ليس أعمى لكي لا يرى و جهها الذي فقد حياة كانت تشعل من ينظر اليه .....
ليس أعمى كي لا يرى الجمال النضر وهو يذبل بين ليلةٍ و ضحاها .......
إنها فقط .... شجاعة أكثر من اللازم ...... "
ضرب بقبضته على المقود بغضب و هو يهمس من بين أسنانه
( تبا لتلك الشجاعة ....... تبا لها ألف مرة ..... )
حانت منه نظرة الى وجهه في مرآة السيارة ... فهاله تعبير وجهه في تلك اللحظة , و كأنه ضبط متلبسا ...
بهتت ملامحه وهو ينظر الى ذلك التعبير العنيف على وجهه ...
مرت عدة لحظات قبل أن يهمس بقلق
( ماذا يا رائف ؟!! ..... ماذا ؟!! ..... لا تتلاعب بالنار أكثر من اللازم ... ما هي الا طفلة في مأزق , و قد حتمت عليك الشهامة أن تساعدها ..... )
صمت بوجوم وهو يطالع عيناه المشتعلتان , ثم لم يلبث أن تابع بصوتٍ أجوف غريب
( و سرعان ما ستتأكد من أن تحمل اسم الفتى الذي تربى ببيتك و تحت أنظارك ...... )
ابتلع غصة غريبة في حلقه .... ثم لم يلبث أن استعاد جمود ملامحه الذي تقنع به لسنواتٍ وهو يقوم بتحريك سيارته بعنف ... و بذهنه تدور فكرة واحدة
" نعم هي الشهامة ....... انها مجرد الرغبة في الشعور بأنه مطلوب للحماية .... لا أكثر و يتوجب عليه أن يتوقف عند تلك النقطة .... "
ثم انطلق بسيارته محدثا صريرا عاليا وهو يهرب الى منفاه البعيد ..... الى الملجأ الذي كان يتجه اليه ليبقى مع نفسه في صمت ..... مع أشباح حزنه القديم .....
.................................................. .................................................. ..................
أمسك هاتفها ينظر اليه بعينين شيطانيتين .... و كانت هي تراقب عينيه بصمت ...
جالسة مكانها ... ساقاها متشابكتان ... و كفيها منقبضتين في حجرها , بينما صدرها يغلي بالنفور .... نفور منبعث من النزيف الذي لا يهدأ و هي تراقبه بصمت .... بملامح فاترة غير مقروءة ....
رفع وجهه اليها أخيرا .... ثم قال بصوت خافت , يبدو مخيفا مع نظرات عينيه ....
( لماذا يتصل بكِ كل هذه المرات ؟!! ....... )
ظلت ملك تنظر اليه بصمت عدة لحظات , ثم همست أخيرا بصوتٍ ميت ... غير مبالي
( من ؟؟ ............... )
قال كريم بصوتٍ مشدود بدرجة غريبة و مرعبة ووجه يتألق بلونٍ ناري ... يزداد تدريجيا و كأنه يتحول الى أحد شياطين الأرض ....
( خالي ...... هذا رقمه , أحفظه عن ظهر قلب ..... إنه لا يكف عن الإتصال بكِ )
ظلت تنظر اليه بصمت ... بملامح ميتة و هي تراه ممسكا بحقيبتها الصغيرة و التي أخذها منها برفق ما أن دخلا الى هنا .... و أخذ يقلب بها و كأن له الحق في ذلك !! ...
لكنها لم تبالي ... فليفعل مايشاء ... لن يصدمها أكثر , فقد ذبحها ...... ماذا يمكنه أن يفعل ليصدمها أكثر ؟!! ...
أخذت وقتها في مراقبته بصمت .... لقد كان جميلا ....
شابا جميلا بشعره الملون الناعم ... و عيناه الشيطانيتان ... شابا يشع حياة و .... فسادا .....
ذلك ما أدركته مؤخرا .... لكنه ليس فساد الثراء , بل هو فساد متغلغل بنفسه منذ سنوات طفولته ... و كانت تعلم ذلك .... كانت تعلم بداخلها بفطرتها الطفولية أن شيئا ما كان خاطئا بذلك الصبي ...
و مع ذلك ... كان يتغلغل بداخلها , .... بصورةٍ غريبة ...
ليست صورة الفارس المعتاد .... بل على العكس , كانت دائما تشعر و كأنه يصغرها في السن ... و كأنه طفلها ... ابنها .... يحتاجها و لا يمكنها أن تتخلى عنه ...
كان ارتباطه بها شبه مرضيا .... و كان ذلك يسعدها بقدر ما يخيفها ....
لكن رغم كل ذلك لم تتخيل يوما أن يذبحها بذلك السكين البارد .....
لم تتخيل في أسوأ توقعاتها أن شادي من الممكن أن يكون دنيئا لتلك الدرجة ...... بل على العكس ظنته سيكون مرتبطا بها بنفس المقدار المرضي .... و كانت مستعدة لأن تتقبله بكل علاته .... بكل اختلاله ....
لأنها أحبته .... أحبت احتياجه لها .... أحبت عدم قدرته على البعد عنها .....
همست أخيرا بصوتٍ لا معنى له
( أين والدك ؟...... أريد أن أنهي هذا الأمر و أخرج من هنا للأبد ..... )
رفع وجهه الأحمر اليها .... ينظر اليها بجوع غريب .... و كان تقريبا يلهث بعنف , و مع ذلك لم تشعر بالخوف منه ... و كأنها قد فقدت كل القدرة على الإحساس بكافة المشاعر الإنسانية ....
نفسه المتسارع بينما عيناه تجريان عليها في جلستها الصامتة البعيدة عنه منذ أن دخل بها الى هنا ... في الجناح الخلفي من القصر .....
جسدها النحيف الأنثوي ... و شعرها الأشعث بنعومةٍ رغم الضفيرة الطويلة المتهدلة بإرهاق على كتفها ....
فستانها الرقيق على حاله .... يظهر مدى نعومتها ... و يخفي ما رآه سابقا و تخلل أنفاسه بدفئ عطرها الطبيعي .... تلك الرقة و النعومة التي امتلكها مرة واحدة ....
اللعنة .... فقط مرة واحدة لعينة .....
و منذ ذلك اليوم وهو يطوف حول نفسه بجوعٍ كالمجنون ....
و هذا الجوع يزيد ... و يسيطر عليه بمخالبه كوحشٍ يفترسه بصمت ..... يريد أن يتذوقها مجددا , ... يرتشف حلاوتها و برائتها قطرة قطرة .... و كأنها إكسير يسري في دمه كالمخدر ليهدىء من جنون احتياجه لها .....
الطريق من بيتها الى القصر مجددا و هي تجلس بقربه في سيارته صامتة كان كالجحيم ....
كانت سرعته تزداد بازدياد شوقه لأن يلمسها ... يتنشقها .... يلتهمها مجددا ... مرة بعد مرة ... الى أن يشبع السعير بداخله و إن كان يشك بذلك .... أن يشبع منها أبدا فذلك هو المستحيل بعينه ....
لكن رنين هاتفها المتواصل كان يثير جنونه ... يجعله يفقد السيطرة على نفسه ....
و ما أن دخل بها الى الجناح الخلفي كما أمر والده .... حتى أخذ الحقيبة منها , متجاهلا تلك الرعشة التي اصابته مؤقتا ما أن لامست كفه يدها الصغيرة ..... ليرى بجنون من ذلك الذي يلح في طلبها ....
و الصدمة أنه كان رقم خاله !! ......
رفع عينيه الحمراوين اليها .... يتسائل عن وضع خاله في هذا الموضوح .... لقد بدا كالمجنون صباحا وهو يضربه من أجلها ....
بدا و كأنه شخص بثت به الحياة مجددا بعد أن كان في سباتٍ عميق لسنوات ....
لقد قلبت حال الجميع منذ أن أتت اليهم صباحا في عاصفةٍ غيرت مجرى حياته للأبد ....
كم تمنى لو استطاع كرهها لما فعلته .... لكنه لم يستطع ... إنها مليكته التي تجري بدمه ... عشقه منذ أن وجد في هذه الحياة ....
أخذ نفسا مرتجفا وهو يترك حقيبتها بعيدا .... و معها الهاتف ....
ثم اخذ يقترب منها دون ان ينزع عينيه عنها .... بينما كانت هي تلاحق نظراته بصمتٍ و هي ترفع رأسها درجة مع كلِ خطوة يخطوها في اتجاهها .....
وصل اليها فوقف ينظر اليها قليلا ... بينما لم تتحرك من مكانها و كأنها تحولت الى تمثالٍ شمعي ...
لكن أصابعها كانت تتشنج .... و تنقبض رغما عنها لقربه ...
سحبت نفسا مرتجفا و هي تخفض رأسها لتتجنب النظر اليه .... لكنه لم يسمح لها وهو يجثو أمامها ليقبض بيديه على كفيها المتشابكين هامسا بصوتٍ محترق مجنون
( لماذا فعلتِ ما فعلتِ يا مليكة ؟!! ..... كيف استطعتِ تدمير كل شيء بتلك البساطة ؟!! ..... )
رفعت عينين شرستين اليه فجأة .... لكنها لم تنفعل لم تصرخ .... كانت فقط تنظر اليه بصمت لتحفر وجهه في ذاكرتها للأبد ....
و حين تكلمت أخيرا ... قالت بجمود و هي تسحب يديها من بين كفيه و هي تشعر بكل جسدها يقشعر نفورا من لمسته
( هل تعرف معنى أنك ستكون أبا ؟!! ............. )
ارتجفت ملامحه ... و فغر فمه قليلا بينما ضاقت عيناه بنظرةٍ غريبةٍ كئيبة .... لكنها لم تلحظها و هي تتباع بهدوء ميت ...
( ذلك الوضع الذي أرغمتني عليه ...... و مع ذلك تعاتبني الآن على عدم تقديري لاسمك الغالي , ذلك الإسم الذي بخلت به علي ...... )
صمتت قليلا ثم رفعت وجهها الموازي لوجهه ثم قالت بصوتها الميت
( هناك رد واحد أنا مدينة به لك منذ فترة على ما فعلته معي ......... )
وقبل أن يستوعب كانت قد رفعت يدها و صفعته على وجهه بكل قوتها ... لدرجت أن أصابعها قد ارتسمت بلونٍ أحمر قانٍ على وجنته ....
تسمر كريم مكانه و عيناه تتسعان بذهول ... بينما رفع يده ليتحسس وجنته غير مستوعبا بعد لما حدث للتو ... بينما مالت ملك اليه حتى كاد وجهها أن يلامس وجهه و همست أمام عينيه المذهولتين
( تسألني أنا , كيف استطعت أن أفعل بك ذلك ؟!! ..... بينما لم أسألك أنا بعد , كيف تمكنت من خداعي و أيهامي بزواجك مني رسميا .... لأفاجأ بأن ما يربطني بك هو مجرد ورقة عليها اسم لا وجود له ..... )
لم يرد عليها و سرعة تنفسه تتزايد بقسوة .... لكنه لم يتوقع الصفعة الثانية التي هوت على وجنته أقوى من الاولى ... حتى أنها كانت تلهث بشراسة و قد فقد هدوئها الميت ....
ساد الصمت بينهما لا يقطعه سوى صوت لهاثهما ... قبل أن تصفعه بدرجة آلمت يدها للمرة الثالثة ....
و هي تهمس بوحشيةٍ و عيناها تحبسان دموعٍ حارقة أبت أن تذرف واحدة منها امام عينيه الشيطانيتين ...
( كيف استطعت ؟؟ ..... كيف استطعت أن تخدعني بتلك الصورة المخزية ؟!! .... )
انعقد حاجبيه دون حتى أن يجد القدرة على رفع كفه ليتلمس وجنته الحمراء ... بل كان ينظر اليها بعذاب و ييأس ... عيناه تتلقفان نبضات عنقها النافرة بألم ... أذناه تلتقطان الكره في حروفها الهامسة بشراسة ...
صمتت ملك و هي تلهث , ناظرة اليه بألم و شعور بالغدر و القذارة ..... قذارة نجح في وشمها بها العمر كله ... قذارة لن يفلح أي مأذون فيما بعد من ان يزيحها من روحها المدنسة ....
همست أخيرا بقسوة و عذاب
( ماذا فعلت لك كي تعاملني كفتيات الليل ممن عرفتهن قبلي ؟؟ .........لا بل هن أفضل , فقد كنت صريحا معن على الأقل ... .. )
همس بصوتٍ أجش مختنق و عيناه تحترقان بنار الجنون ممتزجةٍ ببريق دموعٍ خطيرة ....
( هذا ليس عدلا يا مليكة ......... )
ابتلعت غصة مسننة في حلقها و هي تمنع نفسها بقوةٍ موجعةٍ جسديا من البكاء .. ثم همست بعذاب شرس
( نعم ...... نعم هذا ليس عدلا ....... ليس عدلا .... لقد سلبتني كرامتى و روحي و جسدي .... و حتى شرفي لم ترحمه ...... و ها أنا هنا معك صاغرة ... كي أمنح طفلي اسما ..... )
ارتحش جسده بقوةٍ وهو يمسك بذراعيها ... بينما توحشت ملامحه بدرجةٍ مخيفة على الرغم من الدمعة الحارقة التي سقطت عنوة من عينه .... و هتف بجنون
( لا تقولي هذا ..... أنتِ زوجتي ..... أنتِ زوجتي ....... أنتى ملكي يا مليكة ..... )
اقترب منها بقوةٍ يستنشق رائحة عنقها الناعم علها تسكره و تهدىء من عذابه و هذيانه .....
الا أنها أبعدت رأسها و هي تصرخ بتقزز و جنون
( أبتعد عني ..... لا أطيق ان تلمسني ...... أبتعد )
و كانت صيحتها السبب في أن تسمر مكانه فجأة وهو يسمع كلماتها المهينة ... بينما بدأ الجنون يدب في جسده و ينتشر بعروقه ... وهو يرى نفورها حقيقيا لدرجة أن اقشعر جسدها بين يديه ....
ابتلع ريقه وهو ينظر اليها و هي تدير وجهها عنه بتقزز ... دون أن تتخلى يديه عن ذراعيها المتلويتين دون جدوى ....
لكنه لم يلبث أن جمد ملامحه ... و شنج عضلاته قدر الإمكان ... قبل أن يقول بصوت غريب
( لا بأس ..... اهدئي .... قليلا .... )
همست من بين أسنانها و هي تشعر بالغثيان
( أنا لن أهدأ الا بقدوم والدك و معه المأذون كما أخبرتني ..... و بعدها يمكنك أن تتصرف كما تشاء ... يمكنك أن تطلقني و سأكون شاكرة لك .... المهم أن يحمل ابني اسمك ... )
اتسعت عيناه وهو يسمع كلمة الطلاق منها .... و بات تنفسه مجنونا لاهثا .. عيناه تبرقان بلون الدم ...
لكنه ابتلع ريقه ومد يده ليربت على وجنتها فأبعدت وجهها بالقوة عنه .... حينها نهض بصمتٍ من مكانه و اتجه الى جرس عند الباب فضغطه مرة واحدة ...
ثم استدار اليها ... يراقبها بنظراته الساكنة المريبة و هي ترفض أن تبادله النظر , على الرغم من شعورها القوي بأنه يلتهم كل تحركاتها ..... فقالت بقهر
( أرجوك كن رجلا و لا تخذلني هذه المرة أيضا .... لولا أنك أعدتني الى هنا لما صدقتك , فأنا واثقة أنك لن تستطيع ادخالي مجددا الا بموافقة والدك .... و الا والله ما كنت رافقتك الى مكان .... )
لم يرد عليها كريم ...... بل مشى اليها مجددا و جثا الى ركبتيه أمامها , و سرعان ماأعتقل خصرها بذراعيه بشدة ليسحبها أرضا معه ....
شهقت ملك رعبا و هي تتلوى من بين ذراعيه صارخة ...
( ابتعد عني ..... ابتعد عني .... أقسم أنك لن تلمسني ... )
الا أن نواياه كانت مختلفة وهو يحيط ساقيها المتلويتين بساقه و يضمها الى صدره بقوة ... وهمس بألم وهو يتلمس جبهتها بشفتيه
( لا تخافي ...... كل شيء سيكون على ما يرام , ... فقط اهدئي قليلا .... )
صرخت بجنون و هي تحاول الإبتعاد عنه
( ابتعد عني ......... ابتعد عني ..... )
لم تسمع صوت الباب يفتح .... لتدخل سيدة نظرت اليهما بصمت للحظة , ثم اقتربت منهما حتى جثت بجوارهما على الأرض ...
حينها صمتت ملك و توقفت عن المقاومة و هي تنظر بعدم استيعاب لتلك السيدة جامدة الملامح و التي جثت بجوارهما و كأن الأمر طبيعيا ...... فرفعت وجهها الى كريم بسرعة و هي تهتف بذعر
( ماذا ؟!! ..... ماذا ستفعلان ؟!! .... )
لم يرد على الفور ... لكن عيناه الحمراوان المعذبتان لم يبلغاها خيرا , ثم همس بصوتٍ غريب يائس
( أحاول أن أصحح الأمر ....... لا أريد سواكِ ..... )
فغرت شفتيها قليلا و هي تنظر الى وجهه الغريب ... لكنها انتفضت حين شعرت بتلك السيدة تبعد كم ثوبها عن ذراعها بهدوء
حينها صرخت و هي تحاول الهرب
( ماذا تفعلين ؟!! ..... ابتعدي عني ...... )
الا أن كريم ثبتها الى صدره بقوة ... ومد يده يمسك ذراعها وهو يهمس محنيا جبهته الى جبهتها
( هشششش .......... )
شعرت ملك برعب أن تلك السيدة أمسكت بمعصمها ... بينما كريم يمسك بأعلى ذراعها ,و قبل أن تصرخ صرختها الثانية .... شعرت بنصل حارق يحقن في ذراعها .....
شهقت ملك و صرخت عاليا .... صرخة تفوق الألم الحقيقي لحقنها .... و نظرت بذهول لتلك السيدة و هي تنهض من مكانها لتقول بصوتٍ خافت
( لا تخافي .... ستكونين بخير , بضعة ساعات و ينتهي كل شيء بسهولة ..... )
كانت ملك تنتفض شاهقة و هي غير قادرة على الإستيعاب بعد .... صدرها يعلو و ينخفض بصورة غريبة و كأنها تمارس رياضة عنيفة .... بينما عيناها تسمرتا على تلك السيدة و هي تخرج من الغرفة و كأنها كانت مجرد شبح لشيء بشع ....
حاولت الصراخ مجددا ... لكنها لم تستطع , ... شيئا ما أصاب حنجرتها بالشلل
و هي تنظر اليه بذهول ... بعينين متسعتين وهو يضغض قطعة قطن صغيرة على مكان الحقن ... بينما شفتاه تتلمسان صدغها وهو يهمس بخفوت
( سيكون كل شيء على ما يرام ..... سنبدأ من جديد , و يكون كل شيء بخير ..... )
لهاثها أصبح مؤلما .... و الغثيان يتزايد بداخلها أكثر , محاولة الصراخ ... فقط الصراخ ....
و ما أن فعلت حتى انطلقت صرختها عاليا مع انطباق جفنيها بعنف ....
أجفل كريم من عنف صرختها , لكنه شدد من ضمها الى صدره و أخذ يهدهدها برقة و شفتاه تتلمسان شعرها هامسا بين خصلاتها بألم
( الأمر أكبر مني يا ملك .... صدقيني , الأمر أكبر منا سويا ..... و أنا لا أريد الا أنتِ .... )
توقفت عن الصراخ لتلهث بإعياء و هي تحاول مقاومته دون جدوى ... و العثيان بداخلها يطوف في موجاتٍ بشعة ....
و ما أن تمكنت من النطق حتى همست من بين شباك عنكبوتٍ واهية
( ابتعد .... عني ........ ابتعد .... أرجوك .... أشعر بالغثيان ..... )
الا أنه لم يتركها .... بل ضمها أكثر و أكثر .... و شفتاه اللتان كانتا تحاولان تهدئتها ... تحولتا الى شفتيني مستمتعتين بمذاقها الذي اشتاق اليه ... فتنقل بهما فوق وجنتها و فكها .... نزولا الى عنقها وهو يهمس بجنون و لهفة
( سيكون كل شيء على ما يرام ..... طالما أنتِ بين ذراعيّ , فلا شيء آخر يهم ...... )
حاولت أخذ نفسا .... الا أنها لم تستطع ... الدوار كان يعصف بها , مع الغثيان و نقص التغذية ... و الضغط العصبي لهذا اليوم .... بات العالم كله أمامها ككتلة ضبابية .... فهمست بغياب وعي
( أريد أن...... أستلقي على ظهري ..... أرجووك ....... )
نظر اليها بعينين نهمتين ... لا يصدق أنها هنا أخيرا , ... أخيرا بين يديه , لكنه أطاع أمر مليكته ... و ساعدها في الإستلقاء ببطىء على الأرض .. بينما ذراعه أسفل خصرها ....
اقترب وجهه منها وهو يلتهمها بنظراته .. ليهمس و كأنه يكلم نفسه برقةٍ تتناقض مع جوع عينيه
( ستكونين بخير .... ثقي بي , .... ستكونين بخير ..... )
أخفض وجهه ببطىء وعيناه على وجهها الشاحب و عينيها المفتوحتين بعدم ابصار تقريبا ... بينما صدرها يلهث بضعف محاولة التغلب على ذلك الغثيان ....
أغمضت عينيها و هي تشعر بشفتيه تجولان على عنقها ... تنخفضان أكثر و أكثر الى ياقة ثوبها المفتوحة ...
فأنت بضعف و إعياء
( ابتعد ......... ابتعد ......... )
رفعت يديها تحاول دفع صدره ..... لكنها كانت من الضعف بحيث لم تستطع صد قوته .... وهو يميل عليها متلقفا كل ما تناله شفتيه من نعومة بشرتها ... خاصة حين امتدت أصابعه لتحل أزرار ثوبها الامامية ...
حينها همست و هي تقاوم الإغماء بكل ما تبقى لها من قوة
( ياللهي ساعدني ......... )
كان قد بدأ يتحول الى مهووسا .... يداه و شفتاه تطوفان من فوقها ... تلتهمانها بكلِ طريقةٍ ممكنة ...
بينما كان أنينها يعصف في أذنيه فيزيده جنونا .....
و من خارج الغرفة .... كانت ميساء واقفة تستمع الى تلك الأصوات التي تعرف فحواها جيدا .... و عيناها تبرقان بالقهر و الغضب ....
شيئا ما كان يشعرها بالغيرة من تلك الفتاة ... و بالكره لذلك الصبي .... و الإحتقار الذاتى و هي تقف هنا كأحقر البشر ... تشارك في قذارةٍ لم تبدأ اليوم .... بل بدأت منذ سنواتٍ طويلة حين استسلمت و سمحت بدخوله للبيت بكل ضعف ....
ابتعدت و هي تتراجع للخلف ... بينما عيناها مثبتتان على الباب المغلق بصغر ....
اليوم صباحا كانت كالمجنونة و هي تصرخ بأكرم ما أن خرج كريم من مكتبه .... صرخت به كي يخرجه من هذا البيت
( و بأنها لا تريد المشاركة في تلك اللعبة مجددا ...... )
و ما أن بدأ صراخها يعلو .... حتى عاجلها أكرم بصفعةٍ كي يسكتها ....
رفعت ميساء يدها تتلمس وجنتها بصمت و هي لا تزال تنظر الى الباب المغلق و خلفه كريم و ملك ....
كانت تقف قليلا ... ثم تتراجع خطوة ....
أصواتهما بدأت تخفت .... لكنها انتفضت فجأة حين سمعت صوت صرخة من ملك ... و كأنها طائر يحاول مقاومة سكين الذبح بإعياء ....
عيناها كانتا تحترقان و هي تتخيل ما يحدث بالداخل .... تتسائل بداخلها عن سر تلك الفتاة المتواضعة التي جعلت شابا بحجم كريم القاضي , يجازف بكل ما منحه القدر .... و حتى هذه اللحظة هو غير قادرا على منع نفسه عنها ....
تلك الفتاة التي حملت بداخلها جنينا بسرعة البرق ....
أغمضت ميساء عينيها و هي تهمس بقهر
( هي لا تستحقه ..... إنها مجرد نكرة ... وضيعة ....فرطت بنفسها ... لتحمل هكذا بسهولة .... بينما أنا ... سنوات طويلة أقاوم بها الحرمان , أقاوم الوقوع في الخطأ رغم كل الإغراءات .... شبابي يضيع سنة بعد سنة .... حتى الأطفال حرمت منهم .... حرمت من ابني ... ثم حرمت من الأمومة نهائيا ...... بأي حق )
صمتت قليلا بينما كانت عيناها تلمعان كالهررة و هي تكرر مجددا
( بأي حق !! ........... )
سمعت صوت أنين ملك مجددا ... فارتعشت بشدة , و لم تقاوم نفسها و هي تعاود الاقتراب من الباب , فوضعت يديها عليه و هي ترهف السمع ....
فسمعت هذيان كريم مما جعلها تشتعل و تتلون في مكانها ... كان رجلا ملهوفا على امرأة ....
كان رجلا يحترق بنار الرغبة ..... ليس لأي امرأة ... فقد عرف الكثيرات ....
لكنه كان رجلا ملهوفا لإمرءةٍ بعينها ...... امراءة لم يعشق غيرها ....
حتى دنائته لم تستطع أن تشفيه من عشقها ......
مدت يدا مرتجفة تريد أن تفتح الباب .... الا أن صوت ملك الضعيف نشج هاتفا فجأة ببكاءٍ يمزق القلب
( كفى .... أرجوك ... ابتعد عني ..... )
ابتعدت بسرعة و هي ترفع يديها الى أذنيها ....
ياللهي !! ..... الى أي حالٍ مثيرٍ للشفقة وصلت ؟!! .......
لم يكن بوسعها الدخول .... لم يكن بوسعها مواجهة المزيد من غضب أكرم .... الا أن بداخلها شيئا ما انتفض محاولا مقاومة تلك القذارة ...
فتراجعت مسرعة و هي تلهث بغضب لتخرج هاتفا و تضرب الرقم الوحيد الذي بامكانه محاربة كل هذا القدر من الفساد ....
كان هذا هو المكان الوحيد المحبب لقلبه .... ذلك البيت الأقرب الى كوخ حميمي بسيط ....
كان مهربه الخاص ... بسيط التفاصيل و رجولي ... يكاد يكون صعب التعايش معه ....
لكنه كان المكان اللذي يهرب اليه كلما شعر بالإختناق من كل من حوله .....
لكن اليوم ... حتى المكان لم يفلح في تهدئة النار المشتعلة بداخله ....
مد يديه ليفتح النافذة المتقة بالغبار .... فاندفع الهواء البارد الى وجهه , فسحب منه كل ما يستطيعه حتى انتفخ صدره و أوشك على اقتلاع أزرار قميصه ....
استدار ينظر الى المكان بوجوم .... يحتاج الى تنظيف ....
يحتاج الى يدب به الحياة ....
لطالما نعم بالوحدة فيه , و لم يرغب لمخلوق أن يشاركه وحدته ....
الا شخص واحد .... "رؤى " ....
كانت الوحيدة التي أمسك بيدها و جرها الى هنا ... كي يشركها أحب الأماكن الى قلبه ...
كي يملأه عشقا بها فتتوهج أركانه .....
الا أنها ظلت على ابتسامتها الفاترة و هي تستمع منه كيف ينوي أن يجعل هذا المكان سر سعادتهما .... و كيف سيلونه لها تلوينا لو تطلب الأمر ......
لن ينسى مطلقا تلك الابتسامة التي كانت تجمد حبه بداخله .... و كم حاول أن يمحوها
أن يشعل بها الحب .... أن يجعلها تتوجه بناره ....
لكن كل محاولاته باءت بالفشل ... و ما أن بدأ الحب الهادىء يعرف طريقه الى قلبها بخجل , كان المرض قد افترسها بسرعةٍ قبل حتى أن يرمش بعينيها ....
وقف ينظر الى صورةٍ ضخمة لها معلقة في اطارٍ خشبي بدائي ....
كانت عيناها تتوهجان بالحيوية قبل أن يتزوجا ..... لقد حرص على وضع صورةٍ لها في كل مكان ...
لكن هنا في المكان القريب لقلبه ... أصر على وضع الصورة التي تتألق فيها بالحياة ....
نفس الصورة المتواجدة في مكتبة خاله ..... وضع يديه في خصره ينظر الى الصورة بصمت .. ثم لم يلبث أن قال بخفوت
( اشتقت اليكِ يا رؤى ....... اليوم أحتاجك أكثر من أي وقتٍ مضى )
ظل ينظر الى عينيها السوداوين المشعتين ... قبل أن يتنهد تنهيدة محملة بالغضب ...
ثم استدار الى المكان ينظر الى أرجاءه ....
و بهدوءٍ صامت ... أمسك بمكنسةٍ و بدأ في تنظيف المكان .... و كأنه لا يجد ما هو أفضل ليهد به الكبت بداخله ...
رفع وجهه جامد الملامح الى هاتفه ما أن ارتفع رنينه .... و كأن شيئا ما أنبئه الا يغلقه وهو هنا , على عكس عادته ....
فكيف يغلقه وهو ينتظر أن يطمئن عليها .......
اندفع الى الهاتف , لكن رقم أخته جعله يزفر وهو يرفع يده الى أعلى أنفه بنفاذ صبر هامسا
( ميساء ..... ميساء ..... لا طاقة لي حاليا على تحمل احدى نوبات غضبك ......)
ظل ينظر الى الهاتف قليلا .... قبل أن يرفع الهاتف الى أذنه قائلا بهدوء
( نعم يا ميساء ........... )
سمع صمت متردد قليلا مع صوت تنفسها المتردد ..ثم لم تلبث أن قالت بخفوت غريب
( رائف .............. )
عقد حاجبيه وهو يستشعر في الامر خطأ ما من نبرة صوتها .... فقال بقلق و قوة
( ما الأمر يا ميساء ؟؟ ...... هل حدث جديد ؟؟؟ ...... )
ساد الصمت مجددا , فكادت أعصابه أن تتفكك بكل الإحتمالات .... و قبل أن يهتف بغضب لكي تتكلم ... كانت قد سبقته و هي تقول بصوتٍ باهت
( تلك الفتاة .............. )
بهتت ملامح رائف وهو يرفع وجهه الشاحب ليقول دون مقدمات
( ملك ................. )
قالت ميساء بخفوت
( كريم يحتجزها ..... بأمرٍ من أكرم .... هنا في الجناح الخلفي , في الغرفة الشرقية القديمة ..... )
صرخ رائف بجنون
( ماذا ؟!!! ............... )
لم يدرك أنه كان قد تحرك بالفعل مندفعا .... و جنون الغضب يلاحقه , و يجعل منه شخصا همجيا لم يعرفه من قبل ... بينما كان صوت ميساء الباهت مستمرا في الكلام بشكلٍ كاد أن يصيبه بالجنون
( إنه معها الآن ....... و هي .... صوتها ...... )
صمتت قليلا , لا تجد القدرة على المتابعة .... و لم يحتاج رائف للمتابعة ... بل صرخ بجنون وهو يتحرك بسيارته ...
( أنا قادم ....... ادخلي و انقذيها يا ميساء ... حالا ...... أدخلى و أنا لا أزال معك على الهاتف )
ساد صمت أشعل جنونه أكثر ... ثم قالت ميساء بصوتٍ متجمد من الصدمة و النفور
( لا أستطيع ...... لا دخل لي , إنه يقول أنها زوجته .... كيف أقتحم عليهما الغرفة ..... )
صرخ رائف كالمجنون وهو يزيد من سرعة السيارة ضاربا المقود بقبضته
( فليذهب الى الجحيم بإدعائه .... أدخلي و أخرجيها يا ميساء ....... )
ساد صمت رهيب قبل أن يسمع صوتها المتحجر الخافت يقول
( لا أستطيع ........ لا تواتيني الجرأة على ذلك , كفاني مما تفعلوه جميعا ..... اتركوني بحالي .. )
ثم أغلقت الخط قبل أن يزيد رائف من جنونه .... فنظر الى الهاتف بجنون , قبل أن يرميه بغضب وهو يصرخ ضاربا المقود بهياج
( تبا ....... تبا ...... تبا ....... )
زاد من سرعة السيارة أكثر و اكثر .... و عيناه تنهبان الطريق قبل السيارة ... لا يعلم بأي سلطة سيتدخل ليفرق بين رجلٍ و زوجته مع الإعتذار لقدسية الزواج .... حين يطلق على ما بينهما اسم زواج
لكنه سيكون ملعونا , لو تركها مع ذلك المختل ينهش منها ما يريد دون أن يمنحها حقها في وضعٍ سليم ....
كان ذلك هو العذر الذي جعله يزيد من سرعة السيارة أكثر ... مانعا نفسه من رسم صورٍ جعلت منه ..... همجيا .... راغبا في القتل .....
أوقف سيارته بصريرٍ مجنون .... و خرج منها مندفعا راكضا الى الغرفة الشرقية في الجناح الخلفي و التي لم يطئها انسان الا لتنظيفها منذ سنوات ... و التي لو صرخ بها جيش من النساء لن يسمعهن أحد ...
تبا .... لقد تأخر .... تأخر جدا .... تبا .... تبا ......
سيقتله لو كان قد نال منها .... والله سيقتله لو فعلها ....
وصل الى الغرفة ودون أي تردد اقتحم الباب دون طرقٍ أو اذن .... وهو يصرخ بجنون
( كرييييييييم ............. )
تسمر مكانه للحظة ..... فقط للحظة ...... وهو يراها ممددة أرضا في حالة اعياء شنيعة .. و بملابس مشعثة كشفت عن جسدها .... شعرها منسدلا حولها بهمجية طوله .... و بالرغم من ذلك كانت لا تزال تقاوم همجيته ....
كانت لا تزال تقاوم !!.... كانت لا تزال تقاوم و كأن حياتها تتوقف على مقاومته و لو كان آخر شيء تقوم به في حياتها .....
بينما كان كريم في حالة غير طبيعية من الجنون و الإثارة .... و قبل أن يتم رائف صرخته , كان كريم قد وصل الى ذروة فقدانه السيطرة على نفسه ... فصرخ قبل صرخة رائف بلحظة واحدة
( توقفي عن مقاومتي .... لا أستطيع تمالك نفسي .... )
و دون أن يدري كانت يده قد سبقت تفكيره فصفعها بقوة ..... شهقت ملك من بين دوامات الألم و الدوار التي تشعر بها و هي ترفع يدها الى وجهها .... بينما انطلقت صرخة رائف في تلك اللحظة وهو يقف مكانه مسمرا مذهولا ... قبل أن يندفع اليه ... يجذبه من قميصه ليبعده عنها .... حتى أن القميص تمزق أشلاءا تحت يدي رائف العنيفتين ... وهو يصرخ بجنون
( أيها الحقير .... أبتعد عنها أيها القذر ...... )
نجح في ازاحته عنها في تلك اللحظة التي تسمر فيها كريم مذهولا مما اقترفته يده للتو .... لذا كان ضعيفا أمام ضربات رائف الذي تحول الى همجي لا مجال للإنكار همجيته دفاعا عنها ....
بينما تلوت ملك في وضعية الجنين ما أن ابتعد كريم عنها و هي تمسك بطنها بقوةٍ ... تتأوه بوهن ...
تركه رائف بعد لكمه ليرميه أرضا .... ثم ركله في فخذه بجنون وهو يبصق عليه صارخا
( قذر ....... )
استدار بصدر يخفق بعنف وهو ينظر بذعر الى ملك الملتفة حول نفسها تتأوه بصوتٍ خافت ......
اندفع اليها وهو يحاول أن يبعد نظره عن جسدها المكشوف و ثوبها الممزقة أزراره .... فنزع كنزته الصوفية ليلبسها إياها وهو يهتف بجنون
( تماسكي ...... تماسكي ..... سآخذك من هنا .... )
و في لحظةٍ كان قد نهض من مكانه لترتفع عن الأرض كالريشة بين ذراعيه .... خفيفة كطفلة صغيرة تشبثت بصدره دون خجل و هي تنشج بشدة ... بينما كان صدره يتمزق مع صوت نشيجها ....
اندفع خارجا أمام عيني ميساء التي كانت واقفة بعيدا ... متشبثة بجدار الرواق و هي تبكي تقززا منهم و من نفسها ....
خرج رائف بملك بين ذراعيه شعرها الطويل يجري على ذراعيه وصولا لخصره ...
يضمها الى صدره بقوةٍ غير قادرا على منع نفسه , خاصة و هو يشعر بها تتشبث به أكثر و أكثر ... و كلما فعلت ذلك , زاد من ضمها الى صدره ... وهو يهمس يصوتٍ خافت ... لكن لاهث مجنون
( لقد انتهى ..... لا تخافي .... أنتِ معي الآن ...... )
كانت ترتجف بعنف .. ما جعل جسده الضخم يرتجف لإرتجافها الشديد .... لكن و قبل أن يجلسها في سيارته ...
كانت قد رفعت يدها الضعيفة ... و جذبت مقدمة قميصه و هي تهمس بشيء ما ... فتوقف مكانه و عقد حاجبيه بشدةٍ وهو يخفض رأسه اليها ... هامسا باهتمام
( ماذا ؟!! ..... ماذا تقولين ..... )
همست ملك بكل قوتها كي يكون صوتها مسموع قليلا
( أنا أنزف .... لقد فقدت الجنين للتو ........ )
تسمر مكانه وهو يفغر شفتيه ناظرا الى وجهها الأبيض الشاحب ..... فأومأ برأسه و همس دون تفكير بكل ثقة و بثا للأمان بها
( لا بأس ..... لا بأس ..... أنا معك ....... )
أغمضت عينيها و هي تتأوه بصوتٍ خافت ...... نعم ... إنه هنا معها , يمكنها أن تغمض عينيها و تستسلم الآن .....
أدخلها السيارة ... فمددها على الأريكة الخلفية و هو ينطلق بها الى المشفى ...
يقود بتهورٍ لم يعرفه قبل أن يعرفها .... عيناه تنظران اليها ممددة كطفلة صغيرة منثنية على نفسها بألم ... أكثر من نظره الى الطريق ....
صدره يلهث بقوةٍ وهو يقول بصوته القوي .... ليتغلغل دوارها و يصل الى ذهنها المرهق
( لا تخافي يا ملك ....... لقد اقتربنا .... سيزول ألمك حالا ...... )
ثم نظر الى الطريق مبعدا عينيه الملتهبتين عنها بالقوة ....هامسا بداخله
" انتهى الأمر ........... انتهى ...... "
.................................................. .................................................. .................
وقف مستندا الى الجدار ... منتظرا خروج الطبيب .... مطرقا برأسه , لا يمكنه تحديد شعوره في تلك اللحظة
بداخله طاقة غضب قادرة على احراق الجميع دون هوادة ......
كان يتنفس بسرعة .... يتمنى لو امتلك الحق في الدخول اليها و الإمساك بيدها كي لا تخاف ....
فهي تبدو صغيرة و بريئة للغاية كي تتعرض لكل ذلك ... و الأسوأ أنه غير قادر على الاتصال بأحدٍ من أهلها .....
لكن آجلا أم عاجلا ... سيوصلها اليهم .... و يضطر لتركها لهم....
زفر بعنف وهو يتخيل نفسه يتركها لهم يحاسبونها حساب مرير .... بينما الوغد الذي اقترف أسوأ الذنب ... لا يزال في حماية أبيه ..... حتى أصبح البيت اللذي يسكنونه بمثابة مكانٍ قذر موبوء .....
خرج الطبيب أخيرا .... فنظر الى رائف الذي رفع رأسه اليه بصمت .... دون أن يجد القدرة على الكلام في مثل هذا الوضع .... الا أن الطبيب تكفل بالأمر و ابتسم قائلا
( انها بخير ...... لم تكد تنزف كثيرا , انها في بداية حملها .... في أغلب الأحيان يكون الحمل في الأشهر الأولى غير ثابت ... خاصة الحمل الأول .... )
سأله رائف بصوتٍ لا تعبير له ....
( الا خطورة عليها ؟؟ ...... لقد تعرضت الى ضغط عصبي شديد .... )
أومأ الطبيب برأسه متفهما ... ثم قال بهدوء
( هذا ما استنتجته ............. )
صمت لحظة ثم سأله باهتمام
( هل أنت زوجها ؟؟ .................. )
رفع رائف وجهه مجفلا قليلا .... ثم لم يلبث أن جلي حنجرته وهو يقول بصوتٍ جاف
( لا ...... لا ....... أنا ...أنا ..... . خالها ...... )
ابى لسانه أن ينطق لفظ خال زوجها ... عفت روحه عن ادعاء مثل ذلك الإتهام ......
قال الطبيب بصوتٍ ذو مغزى
( أستطيع أن أستنتج اذن ان زوجها هو المسؤول عن تلك الأصابات و العلامات ... و ربما كان هذا العنف هو سبب رئيسي في اجهاضها ..... )
أخفض رائف وجهه ليقول بصوتٍ قاتم ... بشدة
( نعم ..... تأكد من أن زوجها لن يقترب منها مجددا ... , فهو لم يكن أهلا لها منذ البداية ...... )
أومأ الطبيب برأسه متحرجا ... بينما قال رائف بقوة
( هل أستطيع أن أراها الآن ؟؟ ............. )
ربت الطبيب على ذراعه ليقول بهدوء
( ستساعدها الممرضة أولا .... ثم تسمح لك بالدخول ....... )
انصرف الطبيب ... لينظر رائف بصمت الى الباب المغلق .... منتظرا أن يراها ... يطمئن أنها بخير ... يكفيه فقط أن ينظر اليها .....
بعد دقائق ... تمكن أخيرا من الدخول اليها بتردد , لكنه توقف وهو ينظر اليها من بعيد
كانت شاحبة بشدة .... شعرها يطوف حولها في حلقاتٍ هوجاء بسبب أيدٍ خبيثة ..... أما شفتيها فكانتا متورمتين و زرقاوين الزوايا .... ووجنتها حمراء اثر الصفعة الغادرة ...
اجبر نفسه على التحرك ناحيتها و بداخله شعور غريب يجتاحه ..... ثم تكلم أخيرا بخفوت و كأنه يخشى أن يجفلها
( كيف حالك الآن يا ملك ؟؟ ........... )
رفعت وجهها الشاحب تنظر اليه بوجوم .... وهي تكتف من ذراعيها و تزيد من ضغطهما حول جسدها النحيل ....
انعقد حاجباه بألم لكنه تمالك نفسه و اقترب ببطىء منها ... حتى جلس على أقرب كرسي ... دون أن تبارحها عيناه النافذتان ... ثم همس بصوتٍ خافت للغاية ....
( لا بأس عليكِ ...... أنتِ بخير الآن ......... )
ظلت تنظر اليه بعينيها الكبيرتين وسط وجهها الشاحب .... ثم أومأت برأسها في صمت ....
تنهد بقوةٍ وهو يشعر بطوفان هائل بداخله يثير به الرغبة في القتل مجددا ..... لكنه أخفى شعوره ... و حاول الكلام بخفوت قائلا
( كيف رجعتِ للبيت مجددا يا صغيرة ؟؟ ..... ألم آمرك بتوخي الحذر ؟!! ....... )
ظلت تنظر اليه بعينيها المتسعتين و كأنا لم تفهم حرفا واحدا مما نطق به .... الا أنه سرعان ما جاوبت بخفوت
( لقد أخبرني بأن السيد أكرم عدل عن قراره .... و أنه سيتم عقد قراننا بالقصر ...... )
أغمض عينيه بقوة وهو يحاول جاهدا الا يتكلم كي لا يفزعها .... لكنه فقد القدرة على ذلك وهو يتكلم بصوتٍ جامد خالٍ من أي أثر للرحمة ... مكررا ما قاله سابقا , لكن تلك المرة كانت جديته مخيفة و صادقة تماما وهو يقول
( أتعلمين مى رغبتي في ضربك حاليا يا ملك !! ..... جديا , بشكلٍ يفوق كل حماقةٍ رأيتها منكِ سابقا .... ولولا ألمك لكنت ضربتك بالفعل من أجل مصلحتك .... )
فغرت شفتيها قليلا و همست كلمة صغيرة و هي تنظر اليه ... همست
( نعم .......... )
فتح عينيه حين سمع همستها الخافتة .... و كأنها اقرار بصحة تعقيبه , لكن ما أن بادلها النظر حتى توقف كل شيء .... و هان الكثير مما يشعر به ... لا بل زاد و جاش في صدره غليان غريب ....
فغر شفتيه يريد أن يتكلم كي يكسر حدة ما يشعر به في تلك اللحظة .... الا أن الكلمات خرجت كتنهيدة حارة مثقلة .... جعلت صدره يتمدد مجددا .... مرهقا القميص المسكين ....
و حين تكلم أخيرا .... قال بخفوت قاسٍ
( كيف صدقتِ بمثل هذه السذاجة .... مجددا ؟؟!!! ...... أتعرفين أن صفعة واحدة لا تكفيكِ .... ولو كان غيره من فعلها لكنت شكرته الآن ...... )
أظلمت عيناها قليلا و هي تستمع الى كل حرفٍ من كلامه القاسي و كأنه ينحر في لحمها بشدة ......
كان يعلم أنه يؤلمها .... و الغريب أنه كان متمتعا بذلك في تلك اللحظة ... فرغبته في ضربها كانت صادقة تماما .... و لو كانت ابنته لكان انهال عليها ضربا بسبب الرعب الذي عاشه من أجلها خلال اللحظات الماضية .....
ظل ينظر اليها بقسوةٍ طويلا ..... يراها طفلة حلوة تثير فيه شتى أنواع الحماية .... تنتظرها حياة مبهجة طويلة .... لكن أفسدتها بسذاجتها و تهورها مرة بعد مرة ......
تكلمت أخيرا و قالت بصوتٍ ميت
( كنت مستعدة للمجازفة بحياتي لو تطلب الأمر ..... كي أصحح ما اقترفته و أحصل للطفل على اسم .... كنت أعيش حالة رعب من ان يتحمل مخلوق صغير مثله نتيجة خطأ اقترفته أنا ..... )
صمتت قليلا ... ثم همست بصوتٍ لا يكاد يسمع ....
( أنت لا تعرف معنى الا يحمل الطفل هوية ...... لا يمكنك أن تتخيل كيف من الممكن أن يكون وضعه بشعا في هذا العالم القاسي ..... أنا أعرف .... )
نظر مسحورا الى يدها الصغيرة و هي ترتفع لتلامس صدرها و هي تهمس بكلمتها
( أنا أعرف .............. )
ثم تابعت بخفوت متألم بشدة و كأنها تنتزع كل حرفٍ من دمها
( و كنت أظنه أكثر الناس معرفة بذلك ..... هو دون غيره ...... )
أظلمت عينيها بشدةٍ وهي تعض على شفتها المرتجفة ... بينما تشوشت الرؤية أمام عينيها الواسعتين العسليتين ... بدموعٍ غادرة ... ثم همست بألم
( أنت لا تعرف ..... لا تعرف أن يكون الطفل يتيما على الرغم من وجود أهل له في مكانٍ ما ...... )
صمتت ثم همست مجددا
( انا أعرف ....... و لم أتخيل أن أتسبب لطفلي يوما في نفس الأذى بسبب رعونتي و طلبي لبهجة الحياة لأول مرة بحياتي ...... )
صمتت تختنق بآخر حروفها .... و هي تعض شفتيها المتورمتين ... بينما ثقلت دمعتيها فسقطتا بنعومةٍ على وجنتيها .... و تابعت بنشيجٍ أكثر إختناق
( إنها المرة الأولى التي أخطىء بها ..... أقسم لك ..... إنها المرة الأولى ...... كنت أظنه أكثر من سيحميني , لأنه ذاق ما ذقته في طفولتنا ....... لذلك انسقت خلف ذلك الوهم مغمضة العينين ..... )
أغمضت عينيها و هي تحاول التغلب على ألم الغصة المسننة بحلقها و التي جعلت تنفسها مؤلما ... فأرجعت رأسها للخلف قليلا ....
فلم ترى ملامحه القاسية ... و التي بدت أكثر قسوة ... بينما كانت كفه تنقبض بشدةٍ فوق فخذه القوى ....
منذ متى الرغبة في قتل انسان صارت عادة يومية لديه !!....
نظر اليها أخيرا و هو يراها تجاهد كي تتنفس محاولة السيطرة على ألم حلقها.... تغمض عينيها بهدوء كي تسيطر على دموعها كي لا تصاب بنوبة هيستيريا ...
حينها انعقد حاجبيه بشدة وهو يراها تتغلب على خوفها بصمت ... تتنفس عميقا و تحاول السيطرة على ارتجافها .... على الرغم من المحنة التي مرت بها حاليا ..... الا أنها كانت تحاول التماسك بكل قوة ....
قال بصوتٍ عميق ... قوي يكاد يكون شديد البأس
( لا تضغطي على نفسك أكثر من اللازم يا صغيرة ...... ابكي ... اصرخي حتى لو أردتِ ..... )
رآى شفتيها ترتجفان قليلا استجابة لأمره الصارم ... الا أنها أسرعت و سيطرت على ارتجافهما ... و بعد عدة لحظات فتحت عينيها و نظرت اليه طويلا ... قبل أن تقول بخفوت
( لقد أجهضوا الجنين ....... كانت تلك هي الخطة الأساسية ...... )
انعقد حاجبيه وهو يقول بتوجس كعادته مؤخرا في كل ما يسمعه منها ....
الا أنه تشنج حين وجدها ترفع كم رداء المشفى قليلا .... لتريه ذلك الثقب الصغير في ذراعها .... ثم همست
( لقد حقنوني بشيء ما .... كان سريعا جدا .... و فعلا جدا ...... أسقط الجنين في لمح البصر .و كأنه كان ينتظر الفرصة لينهار سريعا ..... )
اتسعت عينا رائف بوحشية.و ذهول .... و شعر بالمرض وهو يكاد لا يصدق ما تهمس به ...... فرفع يده الى فمه ثم مسح بها وجهه القاتم .... حتى تراجعت الى خصلات شعره بقوة ..... و صدره كان يشتعل بجنون ....
وهو يتشرب من قذارةٍ كانت كامنة في تلك الأسرة منذ سنواتٍ طويلة .... و كان يصر على أن يغض الطرف عنها ...... فهي .... أسرته .....
لكنه كان مبتعدا ... يعيش معهم جسدا , و أبعد ما يكون روحا .... حتى أوهم نفسه بأنه لا يعرف شيئا عن القذارة المتنامية في ذلك البيت .....
همست ملك بجمود ... و بصوتٍ ميت
( لقد أحكم الإمساك بي بشدة ...... و دخلت سيدة غريبة و حقنتني بذلك الشيء .... ثم انصرفت بمنتهى الهدوء ..... لدرجة أنني أنظر الى ذلك الثقب الصغير كل لحظة كي أتأكد من أنني لم اكن أتوهم ..... )
اندفع رائف من مكانه بقوة وهو يضرب أقرب جدار بقبضته شاتما بعنف .....
بينما ثنت ملك ذراعها و ضمته الى صدرها بشرود ... و كأنها تنوى أن تحتفظ بتلك الذكرى مدى العمر .....
ثم نظرت اليه و هو يستند بكفه الى الجدار الأبيض ... يتنفس بعنف و كأن غضب أقوى منه ....
بينما كانت هي واجمة ..... و كأنها جسد بلا روح ... تنظر اليه بنظراتٍ فارغة جوفاء .....
بينما كان هو يهدر بكلماتٍ مجنونة .... و كأنهم نالوا من رجولته هو شخصيا .....
أن يعيش رجلا تحت سقف بيتٍ تتم به تلك القذارة بمنتهى البساطة ... فلقب رجل لا يليق به اذن ....
قالت ملك من خلفه بصوتٍ خافت
( سيد رائف ............ )
تشنج جسده وهو يسمع اسمه من بين شفتيها المرتجفتين ..... فأعادت ندائه بصوتٍ أكثر خفوتا
( سيد رائف ........... )
شعر بأنه غير قادرا على النظر اليها ... فقال بصوتٍ خشن متحشرج
( تكلمي يا صغيرة ..... أنا أسمعك ..... )
ابتسمت للفظ صغيرة من بين شفتيه .... ياللهول انها تبتسم .... و في مثل ذلك الموقف ....
حين تكلمت أخيرا قالت بخفوت
( أشعر أني .... ممتنة لفقدان الجنين .......... )
استدار اليها ببطىء شديد .... وهو يدقق النظر بها بملامحه المخيفة , الا أنها لم تخف ... و هي تهمس برجاء حزين
( لم أكن لأجهضه بنفسي أبدا .... لكنني لم أكن أريده , كنت ..... كنت أشعر بالنفور منه , و الآن أنا ممتنة جدا لتصاريف القدر ..... لم أكن لستطيع أن أحمل طفله ..... كان جسدي يقشعر في اليوم ألف مرة و أنا أستشعر طفله بداخلي ....... )
صمتت قليلا و هي تنظر الى ملامحه الجامدة و عينيه المدققتين بها بجدية .... بينما تابعت بتوسل مذعور
( هل يجعل هذا مني انسانة شريرة تماما ؟؟ .......... )
ظل ينظر الى توسلها الحزين طويلا .... ثم تكلم أخيرا , فقال ببطىء شديد كي تستوعب كل حرف ...
( لا ..... لا يجعل منكِ انسانة شريرة , فأنا أيضا ممتن لهذا الإجهاض .... و كونه ليس بيدك .... )
انحنت عيناها بحزنٍ و راحة غريبة .... و كأنها كانت في حاجة ماسة الى سماعِ تلك الجملة منه ...
لكنه لم يلبث أن قال بصوتٍ شديد البأس جعلتها نبرته ترتجف بشدة
( و مع ذلك .... ليس لمخلوقٍ أن ينتهك جسدك بتلك الطريقة سواء بإجهاضك ... أو حتى الإعتداء عليكِ .... و هذا ما لن أمرره على خير .... )
كانت ترتجف من شكله المخيف .... على الرغم من أن وجوده في حياتها بات كالماء و الهواء دون أن تدري ....
لكنها همست أخيرا بضعف
( أنا لم أعد أريد سوى ورقة طلاق رسمية ....... أعتقد أن مشكلتي أصبحت هينة الآن ...... )
نظرة عينيه أخافتها أكثر وهو ينظر اليها بصمت .... ثم قال بصوتٍ غريبٍ قاسٍ
( هذا ما تتوهمينه يا صغيرة ........ مشكلتك الحقيقية ستبدأ من اليوم , ... ثم أنني لن أسمح لكِ بأن تتهاوني في حقك بعد الآن ..... هل فهمتِ ما أقول ؟؟ ...... )
كانت تنظر اليه كالمنومة مغناطيسيا .... ملامحة الهائة تبدو و كأنها السطح الذي يعلو سطح بركانٍ على وشك إحراق الجميع ...
همست ملك بصوتٍ ميت
( حتى لو رفض الإعتراف بزواجه مني ...... فليبقى عليه إن أراد , أنا لن أتزوج مجددا بعمري كله ....كل اهتمامي كان منصبا على هوية الطفل و ها قد ذهب ..... لذا لا أريد سوى أن يكون كريم القاضي بعيدا عني ..... و حسابه عند رب العالمين ..... )
توحشت عيناه فجأة و دون أن يتمالك نفسه ... كان قد اندفع اليها ليقبض بكفه على ذقنها ليرفع وجهها اليه بقسوة ... فاتسعت عينيها بخوف ... االا انه لم يهتم بخوفها ....
بل شدد على ذقنها بدرجةٍ أوجعتها ... حينها أدرك أنها ستسمع كل كلمةٍ ينطق بها , فتكلم بصوتٍ خافت لكنه مخيف النبرات
( الآن اسمعيني جيدا ..... أنتِ تعانين من صدمة , لذا لا تدركين ما تفوهتِ به للتو .... لقد بدأتِ حربا ... وستنهينها ... ثم تبدأين حياتك من جديد .... مفهوم ؟؟ ..... )
فغرت شفتيها تنوي الرفض بتعب ... الا أنه شدد على ذقنها بدرجةٍ أكبر , فاتسعت عينيها أكثر ... حينها هدر بصرامةٍ أجفلتها
( مفهوم ؟؟؟؟ ......... )
ظلت تنظر اليه قليلا بخوف .... لكنها لم تلبث أن أومأت برأسها و هي تهمس بخضوع
( مفهوم .......... )
لم يترك وجهها على الفور ... بل ظل يبادلها النظر وهو يرفع وجهها اليه , و بدت و كأنها منومة بالفعل و هي تحدق بعينيه الصارمتين ... النافذتين الى أعماقها ....
فابتلعت ريقها تحت كفه .... حينها ارتجفت عضلة بوجنته .... و ضاقت عيناه قليلا ... فسحب يده ببطىء شديد و كأنه كاره لذلك ....
ثم استدار بعيدا عنها و هو يأخذ نفسا غير ثابت .... مذكرا نفسه بأن الفتاة خارجة للتو من اعتداء سافر ...
لذا تكلم بجفاء لم يقصده تماما
( لقد سمح لكِ الطبيب بالمغادرة على الفور .... لا خطورة عليكِ , الحمل بالفعل كان في بداية الأشهر الأولى .... لذا سأقلك الى بيت زوج أختك .... )
رفعت وجهها اليه بصدمة وقالت بهلع
( لا أرجوك ...... لا يجب أن يعرف زوجها أو أهله شيئا .... سأكون السبب في خراب بيتها ... أرجوك ... لقد أصبحت عارا الآن .... و هما في مرحلة اصلاح زواجهما .... أرجوك , سأعود الى بيتي ... و سأكون بخير ...... )
التفت اليها رائف وهو يهدر بقسوة
( ملك ....... لن تبقي وحيدة لحظةٍ واحدة أخرى ..... انتهى ... )
الا ان ملك كانت من الذعر بحيث هتفت بقوة
(مستحيل....... لن أتسبب في ذلك الأذى لوعد , زوجها طيب .... الا إنه متحفظ و يبدو صعب الشخصية .... كما أنهما ليسا متواجدين الآن .... فمن أدراك أن تتقبلني والدته و شقيقتيه في البيت بتلك الحال ..... لقد اصبحت شبهة لأي بيت بيه فتيات ...... )
صرخ رائف بعنف فجأة مما جعلها تنتفض في مكانها
( كفي عن التحقير من شأنك .......لم يكن خطأك وحدك ....... )
كانت ترتجف في مكانها بوجهٍ شاحب خوفا من صرخته المتوحشة .... لكنها همست مرتعشة و هي تتنفس بسرعةٍ لاهثة
( تلك هي الحقيقة ....... المجتمع من حولنا سيعاقبني أنا وحدي بدئا من اليوم .... و أنا لا أريد أن أوصم أحدا معي بخطأي ...... )
كانت ملامحه وحشية بطريقة غريبة أمام عينيها المتسعتين .... و كأنه يحمل بداخله الكثير .....
كانت تشعر بالرهبة من تلك المعاني المرتسمة على وجهه .... رغم أنه لم يكن سوى مجرد .... غريب !! ....
انخفضت عيناها تراقبان انقباض كفه بصورةٍ كانت تجعل مفاصل أصابعه تبيض بشدة ....
ثم عادت عيناها ببطىء الى ملامح وجهه المطمئنة رغم وحشيتها ...... كل ما فيه كان يجعلها تبتعد عن الإنهيار ..... و كأنه يمنحها قوة سرية ... بمجرد النظر الى ملامحه الصلبة ....
اقترب منها رائف ... ثم انحنى اليها فجأة , حتى بات وجهه قريبا لوجهها .... لكنها لم تستطع أن تحيد بعينيها عن عينيه المحدقتين بها و كأنها مسمرة بهما ....
تكلم أخيرا بصوتٍ جاف .. خافت ... صلبٍ بدرجةٍ لا تقبل الجدل
( اسمعيني جيدا ...... لقد أخطأتِ بالفعل , و تهورتِ العديد من المرات .... لكن لكل انسان الحق في الحصول على فرصة .... أما لو أصر على عناده , فهو حينها يستحق كل البلايا التي ستنصب على رأسه مجددا .... و حينها تكونين قد آذيتِ من حولك مجددا مع سبق الإصرار ..... )
صمت للحظة و هو يراها ترتجف ... و شفتيها المتورمتين ترتعشان بألم ... لكنه كان أكثر قسوة من أن يخضع للعطف عليها ... فتابع بخشونة
( و هذا ما سيحدث ببقائك وحدك ....... أنتِ تخشين التعرض للحكم و ربما الإهانة ... لكنها ضريبة ستدفعينها لا محالة بسبب ما ارتكبته .... اما التشبث بكبرياءك في تلك المرحلة , فهو أمر شديد التكبر منكِ ... لأن هناك ما هو أهم ...... و يجب عليكِ أن تتقبلي ذلك .... )
انحنت عيناها بألم .... و ظهر الوجع على محياها الجميل بأكثر صوره وجعا ... لكن ملامحه بالمقابل لم تهتز بها عضلة واحدة تأثرا و استجابة لتوسلها الحزين ...
و قد بذل في سبيل ذلك قوة جبارة ... كي تمكنه من الظهور بمثل هذا التجمد و عدم الإنسياق وراء جمال ملامحها ليخر راضخا لطلباتها ....
همست ملك أخيرا بصوتٍ يقطر توسلا و خوفا ...
( ماذا لو رفضن استقبالي بعد أن يعرفن ما ..... ؟!! ........... )
ظل ينظر اليها بملامحه القاسية .... ثم قال أخيرا بجفاء صارم
( ستتقبلين الأمر بشجاعة ...... لأنه جزء من عقاب طويل يتخضعين له , ثم تخرجين بكرامة ... و حينها ستأتين معي ...... )
فغرت شفتيها قليلا .... فلامس نفسها الناعم بشرة وجهه الخشنة , مما جعل كيانه يتخلخل ... دون أن يظهر ذلك على وجهه , سوى باهتزاز حدقة عينيه ....
همست ملك بصوت غريب
( أذهب معك الى أين ؟؟؟!! .......... )
ظل ينظر اليها طويلا ... وهو يدرك بذهول تمنيا خبيثا بداخله كي ترفضها عائلة زوج أختها ..... لأنه حينها سيكون مخولا لأن يطير بها بعيدا .... بعيدا عن أي شيء قد يمسها بسوء ....
لذا همس بكلمة واحدة مما جاش بداخله كطوفان هادر
( بعيدا ............ )
و كانت تلك الكلمة كافية بالنسبة لها ..... بل أكثر من كافية .....
.................................................. .................................................. ...................
فتحت ورد الباب بتذمر و هي تتسائل عن هوية ذلك الشخص الثقيل اللذي يطرق باب بيتهم في هذا الوقت من الليل ....
كانت ملامحها همجية و شعرها القمحي أشعث بجنون ... بينما ترتدي مريلة المطبخ , مستعدة لأن تنهش أيا كان الواقف أمام باب البيت ....
الا أنها لم تلبث أن سكنت و هي ترفع حاجبها توجسا ... و هي تقبض بيدها على سكين اللحم الكبيرة في يدها المختفية خلف الباب ... استعدادا للهجوم على ذلك المتربص
ثم قالت بنبرة متشنجة دون أي كلمة ترحيب
( ماذا الآن ؟ّ!! ..... ألست أنت الشخص الغريب الأطوار الذي كان يسأل عن أخت الغريبة الأطوار زوجة اخي ؟!!! ....... )
رفع رائف حاجبه كذلك وهو يقابل تلك السيدة المتوحشة نوعا ما .... و فكر في لحظة بأن ياخذ ملك و يبتعد بها عن هنا ....
لكنه زم شفتيه .... و أخذ نفسا عميقا ... ليشجع نفسه قائلا بلهجةٍ خافتة وقورة
( نعم سيدتي ...... لقد أحضرت ملك معي , إن كان هناك مجالا لإستضافتها لديكم مؤقتا ...... )
استطالت ورد لتنظر الى سيارته الواقفة أمام البيت ... الا أن الظلام لم يسمح لها بأن ترى شيئا ....
فقالت بتوتر
( أين هي ؟!! ...... و أين كانت الهانم حتى هذا الوقت من الليل ؟!! ... )
مجددا شعر بنفسه تميل لأن يسرع الى السيارة و يأخذ ملك بعيدا عن هنا .... لكنه ألزم نفسه بالضمير الذي حتم عليه تركها لدى أهلها .... فقال بخفوت
( لقد كانت ...... في المشفى , و هي ..... تحتاج الى الرعاية , فهل يمكنك سيدتي أن ..... تكوني من الوعي بحيث تستمعين لى حتى نهاية كلامي دون مقاطعة ؟؟ ...... )
توجست ورد أكثر و هي تنقل عينيها منه الى السيارة المظلمة خلفه ....
لكنها تشنجت من لفظ "مشفى "...
ياللهي .... سيقلب سيف البيت فوق رؤوسهم ....
فقالت بتوتر
( ماذا حدث لها ؟!!! ..... تكلم من فضلك , لقد تفككت مفاصل ركبتي ..... )
في إيجاز شديد .... كان قد وصف الوضع في بضعة كلمات ... بدت في أذنه غريبة و مشوهة رغم أنه حضرها لطويلا ... و قبل أن يتم كلامه , كانت ورد قد شهقت عاليا و هي تضرب صدرها هاتفة بقوة
( إجهاض ؟!!! ..... ياللمصيبة !! ..... ياللمصيبة !!! ...... )
انعقد حاجبيه بشدة .. و قال بصرامة
( سيدتي ..... سيدتي من فضلك ..... )
الا أن ورد كانت تضع يدها على وجنتها و هي تهتف بعنف محدثة نفسها
( ماذا سيفعل سيف الآن ؟!! ...... ماذا سيكون موقفه هو وزوجته أمام الناس !! .... يجب أن يعرف .... )
هدر رائف بقوةٍ جعلتها تنتفض في مكانها لتصمت تماما
( سيدتي , اصمتي من فضلك للحظة ........ )
صمت ينظر اليها مجفلة أمامه من صرامته ... بينما هو يلهث قليلا بغضب ... ثم لم يلبث أن زفر بقوةٍ قبل أن يقول بهدوء قوي
( سيدتي سأسألك لمرة واحدة .... هل يمكنك راعيتها من فضلك دون محاكمتها حاليا , ... أو آخذها و أنصرف من هنا .... و أنا كفيل بالإعتناء بها ..... )
ظلت تنظر اليه طويلا و هي فاغرة شفتيها ... تنقل عينيها منه و الى السيارة خلفه ....
ثم لم تلبث أن نظرت اليه قائلة بجمود
( من أنت أصلا لتأخذها ؟!! ...... إنها اخت زوجة أخى .......... )
شعر بالراحة ظاهريا لاعترافها الضمني ..... لكن ذلك الركن الخبيث و المتواجد عميقا بداخله , شعر بالإحباط ...... و قد أقلقه هذا بشدة .....
رفع وجهه اليها بصمت ... ثم قال أخيرا بصوتٍ خافت
( لقد عانت كثيرا اليوم سيدتي ...... )
زمت ورد شفتيها و عادت تنظر الى السيارة ... دون أن تجيب , بينما تابع رائف للا سبب
( انها متزوجة سيدتي ......... فقط لا تحاكميها بقسوة ..... )
أسبلت ورد جفنيها و هي تتنفس بسرعة .... ثم لم تلبث أن تركت سكين اللحم من يدها ووضعته فوق طاولة مجاورة للباب ...
و نظرت الى رائف تقول بجمود ...
( هل أخرج ... لأصطحبها من السيارة ؟!...... )
أخذ رائف نفسا عميقا , قبل أن يقول بهدوء
( بل أنا سآتيكِ بها ..... فهي ضعيفة و غير قادرة على الحركة ... )
أومأت برأسها بصمت ..... بينما أومأ رائف كذلك , ثم انطلق الي السيارة دون كلام آخر .....
و ما أن وصل اليها حتى فتح باب المقعد الخلفي ... و نظر الى ملك التى كانت مستلقية في الظلام .... لا يظهر منها سوى ساقيها النحيلتين من تحت ثوبها الخفيف .... بينما تعلوه كنزته الصوفية التي تكاد أن تبتلعها تماما ...
ظل ينظر اليها عدة لحظات ... قبل أن يميل الى الداخل قليلا و يمد يده كي يربت على الشعر الملامس لوجنتها وهو يقول بخفوت
( ملك ...... استيقظي ...... )
ساد الصمت لعدة لحظات ... قبل أن تقول بخفوت دون أن تستقيم من رقادها ....
( أنا لست نائمة ............ )
أجفل من صوتها الهامس ... و مع ذلك لم تنتفض من لمسته !! ....
لذا لم يستطع أن يحرمها منها في تلك اللحظة ... لذا ظل يملس شعرها و جانب وجهها برفق في لحظاتٍ تكاد أن تكون مسترقة من الزمن .... وهو يهمس لها
( لا بأس ...... أنا هنا ......... )
ساد صمت قليل قبل أن تهمس بشرود
( أنت دائما هنا ........... )
وقفت يده على وجهها للحظة ... تحتضن كفه القوية وجنتها برفق .. قبل أن يقول بخفوت
( نعم ...... ...... )
أخذ نفسا غير ثابت قبل أن يقول بصوتٍ أجش
( هيا ملك ....... تعالي ...... )
ردت بصوتٍ ميت هامس دون أن تتحرك
( هل وافقن على استضافتي ؟؟ ........... )
ارتجفت عضلة صغيرة بفكه الملتوي قبل أن يقول بخفوت
( نعم وافقوا ..... تعالي يا صغيرة ..... )
استقامت لتجلس ببطىء و بضعف شديد ....فمد يده اليها ... و نظرت اليها قليلا قبل أن تضع كفها الصغيرة بها , فأطبق عليها بقوةٍ و ظل ثابتا لعدة لحظات ...
كان كلاهما ينظران الى كفيهما بصمت .... قبل أن يسحبها للخارج رغم عنه و قبل أن يضعف فينطلق بها بعيدا ....
و ما أن وقفت حتى تلوت ساقيها تحتها , فالتفت ذراعه حولها تلقائيا و هو يسحبها الى صدره يسندها عليه ...
و كم اهتز جسده الضخم لهشاشتها و ضعفها .... فهمست بخفوت وهي تحنى رأسها ليختفي وجهها عن عينيه تحت موجات شعرها الجامحة ...
( ظهري يؤلمني للغاية ...... أشعر و كأنني مشطورة الى نصفين ..... )
لم يرد عليها وهو ينظر الى رأسها المحني .... و دون كلمة واحدة انحنى ليضع ذراعه تحت ركبتيها و يرفعها عاليا ...
فهمست بضعف و هي تشهق
( لا يمكننا الدخول اليهم بهذا الشكل !! ........... )
قال بجفاء وهو ينظر الى وجهها المكدوم
( بلى يمكننا يا صغيرة ..... ولو اعترضوا فسننصرف ...... )
ظلت تنظر اليه في الظلام ... لا يضيء وجهيهما سوى ضوء القمر الضعيف ....
ثم تحرك بها بهدوء .... الى البيت .....
حيث كانت ورد واقفة بقلق تنظر اليهما , و ما أن رأتها حتى شهقت بصمت ما أن خطا بها رائف للداخل الى الضوء .... لكن نظرة صارمة منه جعلتها تصمت و تبتلع صراخها .... ثم ابتلعت ريقها بتوتر ... بينما كانت منيرة قد جاءت مهرولة .... و هتهف بصدمة
( ياللهي !! ....... ماذا أصابها ؟!! ....... )
دست ملك وجهها بصدر رائف و هي تتمنى الموت كي ترتاح .... بينما تبادل رائف و ورد النظرات الصامتة ... الى أن تمالكت ورد نفسها و هي تقول بهدوء
( لقد صدمتها سيارة يا أمي .... و لحسن الحظ لم تكن مسرعة , فقد تعثرت و سقطت لعدة خطوات ..... )
اقترب منيرة من ملك المحمولة على صدر رائف ... فمدت يدها لتربت على وجنتها بصمت كما فعلت مع وعد يوم دخلت الى هذا البيت للمرة الأولى ... ثم همست بعطف
( ياللصغيرة المسكينة !! ........)
تدخل رائف ليقول بصوتٍ أجش
( أين أضعها سيدتي ... فهي غير قادرة على السير بمفردها ..... )
فتحت منيرة فمها لتتكلم ..... الا أن ورد سبقتها لتقول سريعا
( في غرفتي ......... )
نظرت منيرة اليها بدهشة ... الا أن ورد تظاهرت بالهدوء و هي تقول مشيرة لرائف كي يصعد للطابق العلوي
( من هنا من فضلك .......... )
تبعها رائف أمام عيني أمها المندهشتين من موقفها ..... و صعد السلم وهو يحمل ملك ... و ذقنه يستريح على قمة شعرها المنسدل بهمجية ....
دخل الى غرفة ورد .... التي تبعته و هي ترفع عينيها الى السماء هامسة بداخلها
" الحمد لله الذي ألهمني كي أرتب الغرفة صباحا ....... "
وضع رائف ملك على السرير الواسع قليلا .... فتأوهت قليلا ... فمد يده يربت على وجنتها و هو يتأمل وجهها طويلا ... بينما أغمضت عينيها بتعب ....
و أخيرا همس بصوتٍ متحشرج
( أنا مضطر للذهاب الآن يا صغيرة ........ هل تعدينني أنكِ ستكونين بخير ؟؟ .... )
لعقت دمعة انسابت على شفتها ..... و ابتلعت ريقها دون أن تفتح عينيها , ثم همست بإختناق
( أعدك ............ )
انحنى حاجباه بألم .... وهو يربت مجددا على الصفعة بوجنتها ... ثم استقام بالقوة مستديرا لورد التى كانت واقفة بقلقٍ عند الباب و يداها تنقبضان على مريلة المطبخ ....
ثم مد اليها بحقيبة بلاستيكية صغيرة كانت معلقة بأصابعه وهو يقول بخفوت
( هذه الأدوية يجب أن تأخذها .... و بها مصل يجب أن تحقن به .... )
تناولت ورد الحقيبة منه و هي تقول بخفوت
( أستطيع أن أقوم بذلك ............ )
همس رائف بصوتٍ خافت .....
( المواعيد و الجرعات مسجلة على العلب ...... )
أومأت ورد برأسها دون كلام .... فاستدار رائف ينظر الى ملك مرة أخيرة ... قبل أن يغادر بسرعة , تتبعه ورد .....
كانت منيرة في الأسفل تنتظر بقلق .... فوصل رائف وهو يمد يده اليها قائلا بتهذيب
( شكرا سيدتي ....... و أعتذر عن اقتحامي للبيت بهذه الصورة المقلقة ... )
أمسكت منيرة بيده وهي تقول بسرعة
( لا يصح يا حبيبي .... ابقى قليلا لتشرب شيئا , هذا أقل ما نفعله لقاء اعتنائك بأخت وعد .... )
مد رائف يده الأخرى ليربت على يد منيرة في كفه قائلا بتهذيب
( ما فعلتوه أكثر من كافٍ ..... أشكرك سيدتي ...... )
استدار ناظرا الى ورد الواقفة بصمت ... ثم أومأ برأسه محييا .... و اندفع خارجا ....
بينما اقتربت منيرة من ورد الواقفة بملامح واجمة كئيبة .... فقالت بانتعاش مفاجىء
( ياله من رجل !! ......... كم هو وسيم ووقور و مهذب ...... )
همست ورد بوجوم
( نعم ........... )
فتابعت منيرة بلهفة تسألها
( كم عمره ؟؟؟ ......... )
نظرت اليها ورد وهي ترفع احدى حاجبيها المرتابين ... ثم قالت بفتور
( لم أطلب منه بطاقة هويته قبل السماح له بالدخول ........ )
ابتسمت منيرة بتألق و هي تنظر الى الباب ... لتقول بخفوت
( حسنا أعتقد أنه تعدى منتصف الثلاثينات على ما يبدو ..... فشعره تغزوه الشعيرات الفضية .... )
رفعت يدها الى صدرها وهي تهمس بدلالٍ و أنثوية لا تضيعان مهما مر عليها من عمر ....
( و هو أنيق للغاية ........ )
ظلت ورد تنظر بملامح غبية الجمود ..... الى أمها المنبهرة بطفولية ...
فقالت ببرود
( و يقول سيدتي ........... )
همست منيرة بنعومة
( آآآه نعم يقول سيدتي .... ما أجمله !! .... )
تابعت ورد من بين أسنانها و هي تكاد أن تفقد احترام الأمومة ...
( و رائحته زكية كذلك ........ )
همست منيرة بتألق
( آآآآه عطره يدل على مدى رقيه ....... )
هتفت ورد فجأة بقسوة مما جعل منيرة تنتفض شاهقة من أحلامها المسكينة
( أعلم بماذا تفكرين يا أمي ....... لكن على ما يبدو أنكِ قد نسيتِ أن هناك كائن يسمى عريس سيأتي لخطبتي قريبا ..... فما موقعه من الإعراب ؟!!! ...... ممنوع من الصرف ؟!!! ..... )
عقدت منيرة حاجبيها و هي تقول بقنوط
( نعم العريس ....... لكن شتان .... )
مطت ورد شفتيها و هي تقول بوجوم
( نعم شتان ........ شكرا لكِ يا أمي على دعمي و مساعدتي في قبول العريس ... و أنا التي كنت أحاول جاهدة ابتلاعه بشتى الطرق ...... )
نظرت منيرة اليها معتذرة و هي تهمس مربتتة على ذراعها
( لا تغضبي مني صغيرتي .... لا أتمالك نفسي كلما رأيت رجلا وسيما و مناسبا ... فأتمناه لكِ من كل قلبي )
تنهدت ورد بقوة ثم قالت بقوة
( أمي ..... الرجل الوسيم و المناسب ... حتى و إن تجاوز منتصف الثلاثينات فهو سيرغب بفتاة صغيرة في العشرينات من عمرها ... و سيجد الكثيرات حتما ..... انضجي يا أمي قليلا بالله عليكِ .... )
زفرت بقوة ... بينما أخفضت منيرة وجهها كالأطفال .... ثم قالت ورد بقوة
( ثم هل نسيتِ أن لدينا فتاة مصابة في غرفتي ... يجب أن نهتم بها بدلا من أن نهتم بالمقارنة بين كائن متقدم لخطبتي ... و بين رجل وسيم رائع !! ..... )
شهقت منيرة و هي تضع يدها على وجنتها لتقول
( سأصعد للصغيرة المسكينة حالا ........ )
اتسعت عينا ورد و تشبثت بذراع أمها و هي تقول بسرعة تمنعها
( لا ..... لا ..... لا بأس يا امي ... انا سأهتم بها ... لا تشغلي بالك سوى بالدجاجة المعذبة في الموقد رجاءا ... )
همست منيرة بقلق
( لكن !! ............. )
لكن ورد كانت تدفعها بالقوة الى المطبخ و هي تقول آمرة
( لا لكن يا أمي ..... اذهبي و فكري في العريس ... و أخرجي من بالك اي رجال آخرين غيره رجاءا ... )
أومأت منيرة برأسها بطاعة و هي تقول بخفوت
( سأحضر شيئا ما للصغيرة كي تاكله ....... )
أومأت ورد برأسها و هي تقول براحة
( نعم افعلي ذلك ...... هيا .......... )
أخذت ورد نفسا قويا و هي تغمض عينيها للحظة ...آخذة وقتها كي تشتم وعد و سيف ... و حتى الصغيرة ذات الكارثة بالأعلى ....
ثم لم تلبث أن انتفضت و هي تفتح عينيها على هتاف مهرة التي بدت كجنية شريرة صغيرة ...
( هل يمكنني أن أعرف ماذا تفعل هنا تلك .... أخت وعد ..... لم يتبقى على زفافي سوى فترة قصيرة و ها هي مفاجآت السيدة وعد لم و لن تتوقف ..... لقد تعبت و أريد الهرب من هذا البيت سريعا ... )
زفرت ورد بقوة و هي تهمس من بين أسنانها
( اسمعيني الآن أيتها المدللة التافهة .... الحمقاء ... أنا أيضا لدي كائن يسمى خاطبا لي و أحتاج بعض الوقت فيه كي أهتم بنفسي قليلا .... لذا لما لا تأخذي استيائك بعيدا عني و تذهبي الى غرفتك و تصبيه في لعناتٍ تنصب على رأس أخيك و زوجته ..... فأنا لم أكن يوما حاضنة لأحد و لا أعتقد انني سأبدأ بذلك اليوم ... )
أجفلت مهرة من نبرة ورد الشرسة .. فتراجعت للخلف عدة خطوات و هي تقول بطفولية بعينين تدمعان
( و أنا ؟!! ...... ماذا عني أنا ؟!! ..... سيف ابتعد عني تماما .... البيت انهار تماما منذ أن دخلته تلك الفتاة و ليتها لم تدخله ..... كنت أنا مدللته الوحيدة .... كان والدي , ...... )
صمتت قليلا تبتلع غصة في حلقها قبل أن تقول بإختناق
( لم اشعر يوما أنني يتيمة الاب ....... الا بعد زواج سيف ..... )
شهقت باكية قبل أن تستدير لتجري الى غرفتها ...... بينما وقفت ورد مكانها تنظر اليها بوجوم ... ثم همست بصوتٍ قاسٍ
( نعم ....... البيت لم يعد كما كان بعد زواجه , .... و هذا ما أحترق صوتي في الصراخ به قبل أن يتزوجها ... )
.................................................. .................................................. ....................
دخلت ورد على أطراف قدميها .... تنظر بصمت الى ملك التي كانت مستلقية في سريرها بصمت ...
ظهرها للباب ..... و شعرها يغطيها كلها و هي متخذة وضع الجنين و منحنية على نفسها ككرة بائسة ...
همست ورد بخفوت
( ملك ....... هل أنتِ نائمة ؟؟ ........ )
ردت ملك بخفوت دون أن تستيقظ أو أن تتحرك
( لا ..... انا لست نائمة ........ )
تنهدت ورد بقوة ... ثم أغلقت الباب خلفها و هي تتقدم من ملك التي مازالت على وضعها و كأنها جثة هامدة ..
فقالت ورد بفتور
( هل أنتِ بخير ؟ ! ............ )
ردت ملك بصوتٍ لا حياة به دون أن تتحرك ...
( نعم أنا بخير ............. )
اقتربت ورد اكثر ... ثم جلست بجوارها و هي تقول بصوت خافت
( دقائق و سأحضر لك ما تأكلينه .......)
همست ملك دون أن تستدير
( لست جائعة ..... شكرا لكِ , أرجوكِ لا تتكفلين أي مجهود من أجلي .......)
ظلت ورد تنظر اليها طويلا .... ثم قالت بغيظ دون أن تستطيع أن تمنع نفسها
( لماذا فعلتِ ذلك بنفسك ؟!! ........ لماذا تعجلتِ الزواج بتلك الصورة المهينة ؟!! ....)
لم ترد ملك .... و لم تستدير .... لكن استطاعت ورد أن تلاحظ أهتزاز ضعيف لكتفيها ....
فأغلقت فمها و هي تأمر نفسها بالقوة أن لا دخل لها بها .... هي مجرد أمانة الى ان يأتي سيف و يستلمها ثم يتصرف هو وزوجته المصون في أمر أختها ......
سمعت صوت هاتفها فجأة يرن من جيب مريلة المطبخ ... فأخرجته لتنظر اليه ...
ثم لم تلبث أن تنهدت بعمق و هي تقول
( إنه سيف ..... لا بد و أنه يريد أن يطمئن أنكِ هنا الآن , ..... أنا سأخبره بأنك ....)
انتفضت ملك قافزة لتجلس وهي تتشبث بذراع ورد قبل أن تجيب الهاتف ... و شعرها المشعث يلتف حولها ... بينما وجهها الشاحب غارقا في كدماته ... لكنها هتفت بقوة و توسل
( لا تخبريه بما حدث لي ...... أرجوكِ ..... , سيطلق وعد ... سيخرب زواجهما بسببي .....و تنتهي علاقتهما للأبد ...)
نظرت ورد الى وجهها البائس بإصاباته .... بينما تابعت ملك مترجية و هي تخفض كفيها لتتشبث بكف ورد
( أرجوك ِ آنسة ورد ...... ما أن أتعافى قليلا حتى أغادر للأبد ... أرجوكِ لا تجعليني السبب في خراب زواج أختي ....هي لا ذنب لها بخطأي .... .)
زمت ورد شفتيها و هي تنظر الي ملك .... لا تعلم تلك الصغيرة أن احب شيء على قلب ورد هو أن يطلق سيف وعد و يخرجها من حياته للأبد .... لينتهي اسم عبد الحميد العمري من حياتهم للأبد كذلك .....
رفعت ورد الهاتف الى أذنها ببطىء وعينيها لا تحيدان عن عيني ملك المذعورتين
ثم تكلمت بهدوء
( نعم يا سيف ..... كيف حالك ؟؟ ..... نحن بخير ..... نعم نعم ... ملك معنا بالفعل .... نعم إنها بخير )
صمتت قليلا و هي ترى ملك تزفر بقوةٍ رغم ارتجافها ... ثم تابعت بهدوء
( لا يا سيف .... لا يمكنك مكالمتها الآن , فهي .... نائمة ....ربما غدا ..... حسنا .... لا تقلق )
صمتت ثم قالت بقلق
( ماذا به صوتك يا سيف ؟؟ ..... لا .... لن تخدعني , صوتك غريب , ماذا فعلت بك ابنة عبد الحميد مجددا ...)
تنهدت بيأس , ثم لم تلبث أن قالت بخفوت
( أرجوك يا سيف .... لا تستلم لأشباحك بتلك الصورة , .... لا تستلم لها بتلك الصورة , فهي من أشباح الماضي ... لقد اشتقت اليك جدا بالمناسبة , و مهرة أيضا تحتاجك ... لا تكن بمثل هذه الأنانية .....و تعال لبيتك .. لن أقول أكثر , اللى اللقاء يا سيف ....)
أغلقت الهاتف و هي تزفر بقنوط هامسة لنفسها
( ابنة عبد الحميد لن تهدأ قبل أن تقضي على أخي تماما ..... انها قوانين الوراثة ما أورثتها جيناتٍ فاسدة ملوثة مختصة بتدمير كل بيتٍ سعيد ..... )
صمتت فجأة و هي تنظر الى ملك التي كانت تستمع اليها بوجهٍ شاحب , فتنحنحت ورد و هي تقول بفتور
( لا أقصد إهانة ....................)
لم ترد ملك و هي تشعر بأنها لو نطقت بكلمة إعتراض واحدة فسوف تكون مطرودة من هنا لا محالة ....
فجأة تعالى صوت صياح رجولي غاضب بأسفل جعلهما تنتفضان بقوة فعقدت ورد حاجبيها و هي تقول بقلق
( من هذا ؟!! .......... )
حاولت النهوض بسرعة الا أن ملك هتفت برعب تتشبث بها
( من المؤكد أنه زوجي ... أو والده ..... إنهما .... قادران على فعل أشياء سيئة جدا ..... )
نظرت ورد بصدمة الى ملامح ملك التي تحولت الى الذعر بأبشع صوره ... فعقدت حاجبيها و هي تقول بقوة
( من هم هؤلاؤء اللذين يستطيعون القيام بأمورٍ سيئة هنا في بيت سيف الدين فؤاد رضوان ؟!! .... سيكون من سوء حظهم أن يقترب أي منهم من هنا كي أمزق حذائي فوق رأسه .... انتظري هنا و سأنزل لأفترس الحيوان الذي يصرخ كالثور دون مراعاة لحرمة البيوت ... )
حررت ورد ذراعها من بين يدي ملك المذعورة ... و خرجت سريعا و هي نادمة على ترك مطرقة ترقيق اللحم في المطبخ , كانت لتنفعها الآن في مواجهة الغبي الذي يصرخ بأسفل ...
لكن مع نزولها السلم و كحلما اقتربت ... وجدت أن الهتاف الحاد لم يكن صراخا تماما ....
بل كان صوتا رجوليا يهدر بنبرةٍ رخيمة لم تسمع مثلها من قبل .....
لم تدرك أن خطوات نزولها كانت تتباطىء في سرعتها مع كل درجة تهبطها ... سماعا لذلك الصوت الرخيم ..
الى أن وصلت للطابق السفلي .... فرأت والدتها تقف عند الباب المفتوح و هي تهتف بحدة
( لآخر مرة آمرك أن تغادر المكان و الا طلبت لك الشرطة ..... و لا دخل لك بابني أو زوجته .... )
تعالى هتافه هو الآخر بصوته الرخيم من عند الباب دون أن تسمح له منيرة بالدخول على الرغم من رغبة ورد الشديدة في رؤية صاحب هذا الصوت الرخيم العميق
( لن أغادر هذا المكان الا ووعد بيدي .... لقد كانت أمانة عندي , لقد هربت من زوجها و ها هو يخطفها و كأننا في العصر الحجري ..... بأي زمنٍ يعيش هذا الهمجي , إن كانت لا تريده فهي لا تريده , لما لا يتمتع ببعض الكرامة و يعاملها كإمرأة .... لا كمجرد عنزة يجرها خلفه )
الحقيقة أن تشبيه وعد بالعنزة الهاربة قد راق لها .....
لكنها كتمت شعورها و هي تندفع الى الباب صارخة
( من هذا الحيوان الذي يصرخ عند الباب .......... )
احمر وجه منيرة بشدة و هي تلتفت الى ورد هامسة بحرج
( ليس الى هذه الدرجة يا ورد ....... أنا أتعامل مع الامر .... )
دفعتها ورد جانبا و هي تقول من بين أسنانها
( بل ابتعدي انتِ يا امي , فأنا من ستتولى الأمر ........ )
ثم وقفت لتواجه رجلا , يبدو في أواخر الثلاثينات .... شكله يشبه صوته تماما , لم تكن لتتخيل شكلا آخرا مناسبا للصوت
حتى شكله كان رخيما ..... لا تعرف كيف تحديدا , لكنه كان رخيما و اقفا في الباب بهيبة غريبة وهو يتطلع اليها بنظرةٍ كادت أن تقتلها حية نظرا لسلاطة لسانها
تلجلجت قليلا و هي تنظر اليه بعينين شرستين ... و مع ذلك فقدت لحظة من توحشها و نسيت ما كانت على وشكِ الهتاف به
الا أنه تكلم بصوته الرخيم مستغلا اللحظة التي تلجمت بها فقال بهدوء
( اسمحي لي أن اخبرك بأنك قليلة الأدب ....... )
شهقت منيرة و هي ترفع يدها الى فمها بينما اتسعت عينا ورد ذهولا و هي لا تصدق ما سمعته للتو ... فهمست بلهجةٍ خافتة مذهولة مع لمحة شر تحيط بها
( ماذا قلت ؟؟ ........ )
لم تهتز ملامحه و لم يفقد ثباتها و كأنه يكتسب برودا من الجو و يبثه بها كنارٍ حارقة ....
فرد ببرود
( لقد سمعتِ ما قلته ..... و لولا أنكِ فتاة , لكنت قد رددت عليكِ الرد الذي يناسبك ..... )
فغرت شفتيها بذهول , قبل أن يبدأ وجهها الأبيض في الإحمرار بعنف الغضب الذي تشعر به في تلك اللحظة
و هي تهمس بعدم تصديق
(فتاة ؟!!! ..... هل دعوتني كفتاة للتو ؟!! ........ )
عقد حاجبيه وهو يتأملها من أولها لآخرها ... ثم قال بهدوء
( لماذا الذهول ؟!! ....... هل أخطأت بالوصف ؟؟ ..... )
تمهلت عيناه عليها قليلا .... فعلى الرغم من أنه يفوقها طولا , الا أنها كانت شابة فارعة الطول ... تشبه المور بجدارة ... بيعينين شرستين فاتحتي اللون و شعر يكاد يكون قمحي همجي و مشعث في كتلةٍ حول رأسها ...
ملامحها كلها كانت حادة الزوايا و تبدو كبطلات المصارعة النسائية ......
شعر بداخله بقليل من التسلية و هو يراها تجاهد كي تتنفس مع شدة الغضب البادي عليها ... و تسائل إن كانت معظم النساء هنا في البلاد بمثل تلك الحدة و العنف ....
أشارت وعد بذراعها على طول امتدادها و هي تقول من بين اسنانها
( اخرج من هنا حالا يا هذا........ )
اشتدت ملامحه وهو يقول بصرامة
( ليس قبل ان أصطحب وعد بيدي ......... )
اتسعت عيناها بذهول بينما ضحكت عاليا بسخرية عنيفة ... ثم قالت بذهول قوي مقلدة صوته في نطق اسم وعد بدون حرف العين
( وعد !!! .... وعد زوجة أخى ؟!! ..... أنت هنا لتأخذ زوجة أخى طالبا منا أن نمنحها لك بكل طيب خاطر .... )
صمتت قليلا , ثم لم تلبث أن صرخت بجنون ووجهها يحمر بشدةٍ حتى كاد أن ينفجر كخلاط عصير طماطم طار غطائه .....
( من تظننا ؟!!! ..... من ذوات الدم البارد ؟!! .... أفق يا هذا و غادر قبل أن أطلب لك الشرطة .... )
هتف بقسوةٍ جعلتها تنتفض
( سأكون ممتنا لو طلبتِ الشرطة .... لأنكِ لو لم تفعلي فسأفعل أنا .... كان يجب أن أستنتج بأنكِ شقيقة الهمجي ..... أخاك يا .... هذه .... خطف زوجته بالمعنى الحرفي للكلمة , ودون ارادتها ... و هذه تعد جريمة و أنا سأبلغ الشرطة عنها ..... )
كانت تنظر اليه بوجهٍ مائل و كأنها تحاول أن تفهمه .... ثم لم تلبث أن ضحكت بغباء قليلا و هي تقول
( من الواضح أنكِ كنت خارج البلاد لفترة طويلة !!! ..... )
ثم اعتدلت و هي تقول بلذة شريرة
( أرجوك ..... أرجوك أذهب الى شرطة بلادنا و قم بالإبلاغ عن زوج خطف زوجته .... و حينها ستعرف معنى الحق جيدا .... حين تخرج بقرون و ذيل من قسم الشرطة .... )
ضاقت عيناه وهو يحدق بها .... ثم لم يلبث أن قال بخفوت
( ألم اقل لكِ أنكِ قليلة الأدب.... )
طار الغضب بالباقي من صوابها فرفعت يدها لتصفعه الا أنه كان أسرع منها فأمسك بمعصمها بقوةٍ يرفعه عاليا ... ثم هزها بقوة فابتعد شعرها عن سماعة أذنها التي كادت أن تنزلق عن أذنها فسارعت بيدها الأخرى لتثبتها و هي تعيد شعرها الى مكانه .... هامسة بغضب و ألم
( أترك يدي ........... )
لم يتركها على الفور ... بل ظل يحدق بوجهها عنيف الملامح المنحني و كأنها لا ترغب حتى في النظر اليه ... فترك معصمها ببطىء ليجدها تدلك العلامات الحمراء التي تركها على بشرتها ....
قال بخفوت
( أنتِ السبب ....... أعتقدت أن النساء هنا لا يزلن لطيفات كما تركتهن و لا يتطاولن على الرجال ... )
رفعت وجهها الغاضب اليه بصمت .... فهاله منظر عينيها الشرستين و كان بهما نوعا ما ... انكسارا أشعره بالذنب ....
اندفعت منيرة كقطة شرسة و هي تتقم ورد هاتفة بحدة
( اسمع أنت ..... ليس من حقك التهجم على طفلتي , بل ليس من حقك التهجم على بيتى و حرمة بيت ابني و زواجه ...... )
تراجع خطوة للوراء وهو يشعر بالذنب بدرجة أكبر ... فمن الواضح أن سيف ووعد ليسا هنا و الا لكان ظهر على الفور ....
لكنه قال بثبات
( ابنك استأجر سائق زائف ليساعده على خطف زوجته التي رفعت ضده قضية خلع يا سيدتي ..... فأي زواج هذا اللذي يكون بالإكراه , ..... وعد كانت أمانة عندي و نزلت بها الى البلاد ... و أنا لن أعاود الا بها طالما ترغب هي في ذلك ...... )
هتفت منيرة بشراسة
( لآخر مرة أحذرك ..... لا تنطق اسم زوجة ابني على لسانك .... لا يحق هذا لك لو كنت تمتلك ذرة نخوة ... و الآن أنا مضطرة لإغلاق الباب .... فابتعد رجاءا .... )
زفرت ورد بجنون من تهذيب امها ... فاندفعت لتصفق الباب بقوةٍ و آخر ما رأته هو عيناه تلتقيان بعينيها ... قبل أن تستند الى الباب بظهرها بوجهٍ حزين على الرغم من شراسته و هي تهمس بقنوط مكورة شفتيها
" على الأقل انطق كلمة " خلع " صحيحة ... ثم تعال و هاجم الناس في بيوتها "
↚
انتهت اللعبة !! .....
هكذا ببساطة !! .... انتهى الرهان عليها بأسرع مما تخيلت ....
على الرغم من أن الدقائق كانت بطيئةٍ بدرجة جعلتها تموت و كأنها تقف على منصةٍ لبيع الجواري ...
كانت تنظر الي الجميع وهم يعلون بهتافاتهم من حولها كأجمل جائزة ... و مدى غرابة الفكرة و جرأتها في أيامهم و لياليهم الباهتة
الجميع التف حول الطاولة وهم ينتظرون هزيمة علوان ... و خسارته لخطيبته التى دخل بها متباهيا ....
كانت تبتلع ريقها ... و كتفيها ينخفضان شيئا فشيئا .... حتى شعرت و كأن قامتها تلامس الأرض في دونيةٍ .....
عيناها تطوفان يمينا و يسارا .. تنظر بطرفهما بخزيٍ لم تشعر به من قبل ....
تدلك ذراعها بيدها المرتجفة ... و هالها أن تجد القشعريرة تعذب جسدها بوجع حقيقي ....
تلاقت عيناها بعيني وليد في جولةٍ من الجولات .... ففغرت شفتيها الدمويتين و هي ترى بهما ازدراءا خفيا .... لم يلحظه سواها ..... بينما وجهه البارد الوسيم لم يفقد ابتسامته الجليدية ....
لم تستطع خلال تلك اللعبة أن تحدد أمنيتها ... حاولت لكنها لم تستطع .... من تريد أن يفوز بها !!!
ممن تريد أن تربح ؟؟ .... و تربح ماذا ؟؟
السعادة لفترةٍ قصيرة ممتزجة بالربح و الإزدراء مع كسر القلب ؟؟
أم الربح خالصا بشياكة .... دون ألم .... دون وجع .....
وجدت نفسها تميل في لحظة خادعة .... لأن تعيش السعادة المزيفة معه ولو ليوم واحد .... واحد فقط ...
تعود فيه الى أمواج حبه من جديد .... حبه الذي تحطم على صخور ماضيها المشين
أما الآن ....
فها هي اللعبة قد انتهت ....ووجدت ابتسامته الواثقة تتألق مع تصفيق من الجميع ...
بينما بدى علوان بوجهٍ أسود ... يعلوه شعور حارق بالهزيمة ....
ارتجفت شيراز بشدة و هي لا تصدق سرعة ما حدث , فنظرت الى علوان بهلع و هي تتراجع عن أمنيتها المجنونة في أن يفوز وليد بها ...
و دون وعي وضعت يدها على كتف علوان ترجوه في صمت أن يسخر من تلك اللعبة ... و أنه لا قانون ملزم لها .. ينص على تداولها بتلك الطريقة ... فليتراجعا عن ذلك الرهان الحقير و ليضحكا عاليا و يسخرا من وليد الناظر اليها بإبتسامته الهادئة المخيفة ...
لكن لصدمتها وجدت علوان يمد يده لينزع يدها عن كتفه بفظاظة ... لينهض من مقعده بملامحه السوداء من الغضب حين قال وليد بهدوء مستفز
( حظ سيء سيد علوان .... لكن مبارك لك الصفقة .... )
تعالى التصفيق مجددا .... بينما رمقه علوان بنظرةٍ سوداء ... لينهض فجأة بقوة مغادرا المكان تحت همسات المتواجدين ...
نظرت شيراز في اثره بذهول و هي فاغرة شفتيها ... لا تصدق أنه غادر بمثل هذه البساطة و كأن تلك اللعبة قانون يجب احترامه !!! .....
إن كان لا يتقيد بالقانون الحقيقي ... فهل يتقيد بقوانين اللعب بشرف و أمانة !!!!...
كيف تركها بهذه البساطة ؟!! .... لقد كان لعابه يسيل في انتظارها ... فكيف يتركها لمجرد أنه قد خسرها في لعبة !!
ما الذي يمنعه كي يستغل قوته و يرفض أن يمتثل للخسارة !!! ..... ماذا يمكن لوليد أن يفعله و كيف يمكنه أن يرغم علوان على تركها !!
لكنه رحل بمنتهى البساطة ... رمى يدها و رحل!! ...
لم تكن تدرك أثناء شرودها أن وليد قد قام من مكانه و دار حول الطاولة الى أن وقف خلفها ... ينظر اليها بازدراء من علوه ... ثم قال بلهجة ساخرة هادئة جعلتها تنتفض شاهقة
( لو قرر عدم الإمتثال للرهان فستكون نهايته على موائد اللعب ....اللعب قانون في حد ذاته ... . )
نظرت اليه مذهولة من تمكنه بقراءة أفكارها بهذه السهولة ... الا أنها اصطدمت بابتسامته المزدرية و التي على الرغم من هدوئها الا انها أرعبتها ... بينما تابع ببساطة وهو يقول هازئا
( لم يتركك الآن رغبة منه في الصفقة .... بل تركك لا يوصم بأنه ممن لا يمتثلون للرهان في خسارتهم ... )
صمت قليلا وهو ينظر الى وجهها الشاحب ثم تابع بدون رحمة
( هل تصدقين أنه يهتم لمستقبله في اللعب أكثر من اهتمامه بك !! .....)
هز رأسه قليلا وهو يعقد حاجبيه هامسا بلهجةٍ مذهولة زائفة
( أي مكانة وضيعة كان يضعك بها !!! .......... )
تشوشت الرؤية أمامها بغلالة الدموع على عينيها الخضراوين ... و ضاعت ملامحه من أمام عينيها , بينما ارتجفت شفتيها .... أين لسانها ..... أين لسانها ...... أين قدرتها الفذة على التظاهر بالسخرية و الإقتدار ...
زفرت نفسا مرتجفا .... قبل أن تستدير عنه لتفعل أسوأ ما قد تفعله في تلك اللحظة ....
انطلقت تجري أمام الأعين الناظرة لها تكاد تعريها من ملابسها .....
أخذت معطفها الأسود من العامل ثم خرجت سريعا الى الليل الأسود ببرودته ...
صفعها نسيم الليل الندي بقطرات مطر خجولة .....
لكنها لم تهتم و هي تندفع بخطواتها التي تطرق الطريق بكعبي حذائيها دون اهتمام للأعين الملتهمة لها في الطريق كالقاعة ... ككل مكان ....
انسابت دمعتان على وجنتيها الباردتين ... لكنها لم تهتم حتى بمسحهما و هي تود لو اختفت و ذابت في سواد هذا الليل كي ترتاح ......
ظلت تسير و تسير ..... تتعثر في الطريق بين كلِ خطوةٍ و أخرى ....
اللى أن داهمتها أضواء سيارةٍ قوية ..... أبطأت سيرها الى أن أصبحت تسير بمحاذاتها .....لكنها لم تنظر أو تلتفت ...
كانت تعرف لمن هذه السيارة ..... فضمت ذراعيها أكثر و تابعت سيرها ...
وقفت السيارة فجأة , فشعرت بقنوط أنه ربما غير رأيه و قرر العودة و تركها
ففي النهاية لم تكن سوى لعبة .. تمكن بواسطتها من الإنتقام منها بجعلها تخسر الزوج المستقبلي الذي كان سيؤمن لها
في لمح البصر دخل و أنها الأمر بمنتهى الإزدراء ... فما حاجته للبقاء الآن !! ....
لكنها كانت مخطئة ... فانتفضت فجأة و هي تستدير على نفسها بفعل قبضةٍ حديدية غرزت أصابعها في لحم ذراعها جعلتها تتعثر في كعبي حذائها لتسقط على صدره بقوة ....
حتى أن أحمر شفاهها انطبع بوضوحٍ على قميصه الأبيض ...
اعتدلت بصعوبة و هي تقف بوهن لترفع وجهها الي ملامحه المزدرية و التي تقتلها ببطىء ... قبل أن تقول بصوتٍ ميت
( ماذا تريد مني ؟؟ ...... ألم تحقق ما جئت لأجله و أفسدت زواجي قبل أن يتم ؟!! ..... )
كانت عيناه مخيفتاه ... صامتتان عميقتان ... حتى كادتا أن تبتلعانها و تضيعانها في سوادهما المخيف ...
لكنه حين تكلم قال بصوت جليدي قاتم
( ادخلي الى السيارة ........... )
لهث صدرها مرتين قبل أن تقول مندفعة بعذاب
( لا ............... )
اشتدت قساوة عينيه .... حتى ارتجفت خوفا منه , هنا في الظلام ... و من حجمه الذي بات مخيفا لها بعد أن كان طريفا فيما مضى ....
شعرت في لحظةٍ أنه على وشكِ أن يضربها .... الا أنه لم يلبث أن ابتسم بسخريةٍ وهو يقول ببرود دون أن يتخلى عن ذراعها
( الى أين تنوين الذهاب ؟؟ ...... أترغبين في اللحاق به زحفا على ركبتيكِ تترجينه أن يتراجع عن هزيمته و يتزوجك ؟؟ ..... )
كانت تنظر اليه بملامح تزداد شحوبا أكثر و أكثر ..... بينما رفع يده الأخرى ليربت على وجنتها بقوة مهينة متابعا بازدراء
( لا تحاولي .... لن يتراجع عن هزيمته و الا فلن يدخل أي من نوادي اللعب مجددا ..... أريد فقط أن أجنبك عناء المزيد من الذل ...... )
عضت على شفتها و هي تحاول جاهدة السيطرة على تدفق دموعها التي تحارب كي تنفجر .... بينما أكمل بهدوء قاتل
( ربما سيعرض عليكِ ليلة أو ليلتين بمبلغ محترم .... دون زواج , و سيكون هذا كرما منه .... كي لا يخرجك من شقته خالية اليدين ..... )
همست من بين شفتيها المتيبستين بصوتٍ ميت ... بل مذبوح
( كفى ......... لا يحق لك .... )
التوت شفتيه في ابتسامة متشفية قبل أن يقول بهدوء جليدي
( الا يحق لي ؟!! ........ )
ارتسم اصبعه في خط طويل على طول فكها قبل أن يقول بصوتٍ أقسى نبرة
( بل كل الحق لي ....... فهناك قواعد للعبة ستلتزمين بها بدئا من هذه اللحظة .... )
اتسعت عيناها بعدم تصديق ... و دوى قلبها في قصفٍ كالمدافع الا أنه لم يترك لها الفرصة للرد و هو يجذبها باستهانة الى السيارة ففتح الباب الأمامي ليدفعها كي تسقط جالسة ... و لم ينسى أن يرميها بنظرة سخرية عابثة وهو يرمق ساقيها و هي تحاول مرعوبة من تعديل فستانها القصير ... لكن من بين السخرية كان غضبا أسودا محتجزا و كأنه مارد في قمقم يوشك على الخروج بكل براكين العنف بداخله ....
الا أنه لم يتكلم ... بل صفق الباب خلفها ... ليدور حول السيارة و يدخل منطلقا بها بعنف ....
كانت ترتجف من قمة رأسها و حتى أخمص أصابع قدميها ....... تشعر و كأن الظلام من حولهما يطبق عليها ... يخنقها ببطىء .....
أغمضت عيناها للحظات و هي تضم ذراعيها الى خصرها ... تحاول تحمل الصمت و الظلام الخانقين ... الا أن ارتجافها حال دون محاولة السيطرة على ما تشعر به في تلك اللحظة ...
فالتفتت تنظر الي ملامح وجهه الجانبية ... و التي كانت تضيء و تظلم مع أعمدة الإنارة التي كانت تجري على جانبي الطريق أثناء انطلاقهما ...
و كانت لمحة الضوء كل ثانية ... تظهر لها أي مصير مظلم ينتظرها على يديه ....
كانت حمقاء حين تخيلت للحظة أنه قد يلقيها ببساطة كمجرد قذارة التقى بها و انتهى الأمر سريعا ....
ابتلعت ريقها بضعف لكن ارتجافها لم يكن شعورا بالخوف حقيقة بقدر ما كان اختناق من شدة الإزدراء الذي يعاملها به
و حين شعرت بأنها لا اتستطيع تحمل الصمت للحظة اضافية اخرى همست بصوتها الخافت الأجوف
( على ماذا تنوي ؟؟ ........ )
ظنت للحظةٍ بأنه لم يسمعها فملامحه كانت صلبةٍ لم تتحرك بها عضلة واحدة ...
لكنه التفت اليها بعد فترة ... يرمقها بنظرةٍ غريبة , قبل أن يقول بهدوءه الذي جعل جسدها يقشعر بشدة
( أنوي إكمال اللعبة ....... )
ازدادت سرعة تنفسها قليلا , قبل أن ترد بصوتٍ يرتجف
( توقف عن تلك الحماقة ..... لقد نلت انتقامك مني و انتهى الأمر , فلا تتمادى أكثر .... فلن تربح شيء سوى تلويث اسمك ....... )
ضحك ضحكة خافتة ... جعلتها ترتجف بشدة , قبل أن يقول بصوتٍ مشتد كالوتر
( و ما هو التلوث في الإقتران بمن هي مثلك ؟..... ألم تكن كل زيجاتك في الحلال ... )
عضت على شفتها و هي تتنفس تنفسا يكاد أن يكون لهاثا بعد عدوٍ سريع .... لكنها أجابت بصوتٍ كالوتر
( نعم أنا لم أخطىء يوما ..... لقد تزوجت ... لكنى أتحدث من وجهة نظرك و نظر من حولك , لا يمكن أن يصل شر الإنتقام بك الى تلك الدرجة في التهور ...... )
ازدادت ابتسامته قساوة ... و اختفت الإضاءة لمسافة طويلة ... فعم الظلام التام بينهما , مما زاد من ارتجافها و هي تتخيله يتخلى عن القيادة ليطبق على عنقها و يمتص روحها متلذذا بعذابها .....
الا أن تكلم بمنتهى الهدوء و الخفوت ... بنبرةٍ تحمل من القسوة و السخرية و ...... وشيء آخر مخيفا أكثر ....
( لقد أغفلتِ حقيقة هامة ........ )
فنظر اليها في الظلام .... ليقول بصوتٍ أكثر خفوتا و لذة في الشر
( وهو أنني أريدك ........ و منذ فترةٍ طويلة , لذا قد أحصل عليك بأي طريقة ...... )
رفعت يدها المرتجفة الى عنقها و هي تتنفس بصعوبةٍ و ارتجاف من اعترافه الخافت الذي بدا و كأنه تهديد بالقتل ... و ليس المتعة ....
لكنها همست بصوتٍ يرتجف ...
( و إن رفضت ؟؟ ................. )
عاد لينظر اليها مرة أخرى قبل أن يقول مبتسما بهدوء
( بل ستوافقين ............... )
رمشت عيناها عدة مرات قبل أن تهمس بصوتٍ أجوف كالناقوس
( هل هذا تهديد بالإغتصاب مثلا ؟!!! ......... )
عاد لينظر اليها مرة أخرى .. قبل أن ينظر الى الطريق بملامح غريبة , بدت لها مرعبةٍ في تلك اللحظة .. مما جعلها تفكر في أنها ربما لم تعرفه حقا من قبل ... ربما من كان في الرحلة مجرد شخص يرتدي قناع لطيف ليوقع به الفتيات .... لكن ... قلبها .... في زاوية عميقة منه , رفض تصديق هذا ...
رد وليد بصوت قاتم رغم السخرية الظاهرة به
( و ما حاجتي للإغتصاب ؟!! ...... أنتِ أسهل من ذلك يا شيراز ..... )
لم تستطع منع نفسها من قذف كلمتها في وجهه بعنف هامس بينما الدموع تغزو عينيها بشدة
( أنت سافل .... قذر ..... )
لم يرد عليها ... و لم يلتفت اليها حتى ... و بدت ملامحه تزداد قتامة لكنه لم يفقد ابتسامته وهو يقول بهدوء
( أنصحك الا تزيدي يا شيراز ..... لأنكِ ستدفعين ثمن كل كلمة ... و أنا أشفق عليكِ من الثمن )
فغرت شفتيها و هي تنوي صب المزيد من بذاءة لسانها عليه ... لكن لأول مرة ينتابها الخوف ...
فضمت شفتيها ببطء و هي تبتلع ريقها ..... فقال بهدوء
( أحسنتِ ..... لكن تذكري هاتين الكلمتين , فما خرج من شفتيكِ لن يعود ...... )
كان قد وصل الى بيتها فأوقف السيارة في الظلام ... و سكن مكانه عدة لحظات قبل أن يستدير اليها بضخامته في الظلام فتراجعت رغما عنها تلتصق بباب مقعدها .... حينها ضحك بسخريةٍ خافتة قبل أن يقول بازدراء
( ماذا ؟!! ..... أتظنين أننني قد اهجم عليكِ هنا و الآن ؟!! ...... )
ارتجفت أكثر ... و أستعدت يدها لأن تقبض على مقبض الباب و تهرب في السيارة عند أول حركةٍ تبدر منه
الا أنه عاد ليبتسم في الظلام ابتسامة شريرة وهو يقول بخفوت
( لا .... لن أمنحك متعة الشعور بدور الضحية المنتهكة ...... أما في الحلال !!! ....... )
صمت قليلا و قد اختفت ابتسامته وهو يتطلع بقوةٍ الى عينيها الخضراوين المتسعتين بذعر ... ثم تابع بصوتٍ أكثر خفوتا
( في الحلال ..... ستكونين ملكي , و أعدك أنني لن أرحمك وقتها ....... )
فغرت شفتيها بصمت ... ليحرج من بينهما نفس مرتعش ...بينما تابع بصوتٍ كان يفتت عظامها واحدة تلو الأخرى
( و سأتلذذ بكل لحظةٍ .. انتِ فيها بين يديّ ........ )
ساد صمت طويل خانق بينهما .... كانت شيراز تجاهد فيه كي تتنفس ...فقط تتنفس من هول الإشارات التي تصلها منه .... و ما أن وجدت صوتها أخيرا حتى همست بنبرةٍ مختنقة ترتجف .... لا تكاد أن تسمع ...
( لا أصدق أن.... أنك ..... ستتزوجني بالفعل ....... )
عادت ابتسامته لتتسع بشراسة قبل أن يقول بهدوء
( اطمئني حبيبتي ..... ستحصلين على قسيمة الزواج قبل أن احصل عليكِ ..... )
عادت لتفغر شفتيها مرة أخرى و بذهول أكبر .... هل هذا حلم وردي أم كابوس أسود ؟!!!
هل حقا سيتزوجها وليد ؟!!! ....... هل ستصبح زوجته ؟؟ .... و تكون بين ذراعيه بالحلال ؟!!
هو من تمنته أكثر من أي رجلٍ آخر قد تكون رأته في حياتها كلها !!.......
كانت تنظر اليه في الظلام بعينين متسعتين ..... لكنها انتفضت حين قال بهدوء بدى كرصاصة شقت سكون الليل بينهما
( كم تريدين ؟؟ ............)
شعرت و كأنه لكمها بقوة .... لكنها تمالكت نفسها و هي تهمس بارتعاش
( ما....... ماذا ..... تقصد ؟!! ....... )
التوت شفتيه قليلا بسخرية ..... قبل أن يجيبها بهدوء طبيعي موضحا
( مهرك ....... بكم تقدرينه ؟ ......... )
ظلت تنظر الى ملامحه قليلا .... نعم هي نفس الملامح التي عشقتها في وقتٍ قياسي .... لكن الصوت صوت شيطان ......
من المؤكد أنه يقول نفس الشيء عنها في تلك اللحظة ......
أسبلت جفنيها و أخفضت وجهها دون أن تجد القدرة على الرد ...... الا أنه لم ينتظر ردها حقا فقد تكلم بمنتهى العملية و الهدوء .. ضاربا لها رقما سيودع باسمها في المصرف
رفعت شيراز وجهها منتفضة بعينين متسعتين و هي تسمع منه هذا الرقم و الذي فاق ما ربحته من زيجاتها الثلاث .... بينما كان وليد ينظر اليها بطريقة جعلت مجرد نطقها لأي كلمة سيكون الطريق لهلاكها ....
ثم تابع بهدوء
( و سيكون لكِ بيت ..... لكنك لن تحصلي عليه الا بعد انتهاء زواجنا ,..... هذا إن انتهى .... )
لم يستوعب عقلها العبارة الأخيرة ..... فقط سؤال قاسي كان يطوف بعقلها كخناجر تتلاعب به بوحشية
فهمست بصوتٍ ميت
( ما هي ........ مدة هذا الزواج ؟؟ ........ )
لم يرد عليها .... بل كانت نظرته المزدرية أكثر من كفيلة بأن تجعلها تخرس تماما و تمتقع ملامحها ... الا أنه تكلم بهدوء ليقول
( لن نتفق علة مدة معينة .... أعتقد أنني سأدفع ما يمنحني الحق كي أنهي هذا الزواج وقت أن أريد أنا ..... )
أخفضت رأسها ببطىء .... و هي تدور بداخل دوامة عنيفة , دوامة من تحقير الذات و الشعور بالذل و المهانة ... لكن بها خيط رفيع ... خيط رفيع يدور حولها من عدم التصديق بأنها ستصبح زوجته ... ولو لفترة .... رغبتها في أن تحمل اسمه ولو ليوم واحد فاقت انبهارها بالربح الذي ستناله من هذا الزواج ...
قال وليد فجأة بلهجة باردة واثقة
( هاتي مفاتيح سيارتك ......... )
رفعت رأسها فجأة تنظر اليه بوجهٍ ممتقع لتقول بخفوت مهتز
( ل.... لماذا ؟؟ .......... )
رد عليها بجفاء
( من الآن ستنفذين ما يطلب منكِ دون مناقشة ..... هذا الزواج سيتم وفق شروطي .... و الطاعة هي أولها )
مد اليها راحة يده المفرودة منتظرا دون أن يضيف المزيد
ففتحت حقيبتها الصغيرة بأصابع مرتجفة ... لتلتقط منها سلسلة مفاتيحهها و تعثرت بشدة و فشلت أكثر من مرة في اخراج مفتاح السيارة منها ...و ما أن نجحت أخيرا حتى رفعت يدها ببطء كي تضع المفتاح في يده .. لامست أصابعها باطن كفه ... فرفعت عينيها الملتاعتين اليه ... الا أن وجهه كان عبارة عن قناع صلب مخيف لا يحمل أي أثر للرحمة .... وهو يقبض على المفتاح ليضعه في جيب سترته باهمال ... وهو يقول
( ستستردينها في حالة انتهاء زواجنا .......... )
كانت تنظر اليه بعينين ضائعتين ... ثم همست بخفوت ميت
( الا تريد مفاتيح شقتي أيضا ؟!! ...... )
نظر اليها مبتسما ببرود ليقول ببساطة
( سآخذها منكِ ........ بعد عقد قراننا لن يكون لكِ حاجة بها مؤقتا .... فستأتين معي .... الى بيتي .... )
كلمة " الى بيتي " ... خرجت منه مخيفة كتهديد واضح جعلها ترتجف و تبتلع ريقها .. و مع ذلك لو كان يقصد ارعابها .. فهو لم يفلح تماما .... خوفها الحقيقي كان متمثلا في السؤال الذي نطقت به بخفوت بعد فترة
( لا زلت لا ..... أصدق أنك ستفعلها .... و تتزوجني ...... )
نظر اليها ليبتسم بإزدراء وهو يقول بهدوء
( هل أنتِ يائسة لتلك الدرجة ؟!! ..... يجب عليكِ التحلي بالثقة حين تعرضين بضاعتك ... كي يزداد ثمنها )
كانت لكمة أخرى أطاحت بروحها بعيدا ... الا أنها أجابت بالموافقة على سؤاله دون صوت
نعم هي يائسة .... يائسة جدا ..... تريد أن تتزوجه و تحمل اسمه مهما بلغ الثمن الذي ستدفعه ..... و هذا شعور ... لم تشعر به من قبل مع أي رجل .... و لا مع أي من أزواجها السابقين .....
حتى شاكر .... زوجها الثاني الذي يمثل لها كل الأمان و الحنان ... كانت مشاعرها تجاهه تختلف عما تشعر به تجاه وليد .... فهي لا تريد منه الآمان ... لا تريد منه أي شيء .... تريد فقط أن تحمل اسمه ... تكون زوجته ليوم واحد .... تريد أن تجرب احساس أن تكون زوجة لرجل أحبها بصدق ذات يوم ....
رفعت عينيها اليه بصمت تتأمل ملامحه القاسية .. الا أنه نظر أمامه وهو يتمسك بالمقود قائلا بجفاء
( انزلي الآن ..... ادخلي الى سريرك و فكري في أنكِ ستصبحين زوجتي خلال يومين ... و حينها قد تبدأين في التصديق بالفعل ..... هيا اخرجي .... )
ظلت تنظر اليه بخوف ... تريد أن يطمئنها بكلمة , أي كلمة ... و لو من باب الشفقة ....
الا أنه كان صلب الملامح بدرجةٍ فظيعة .... مما جعلها تلتفت بعيدا عنه و تفتح الباب لتخرج من السيارة ببطىء ... لكن ما أن أغلقت الباب خلفها حتى سمعت صوته الآمر
( شيراز ....... )
عادت لتنحنى الى زجاج النافذة المفتوح ... تتشبث به بقبضتيها و هي تنظر اليه بأمل يائس ... الا أنه قال دون أن ينظر اليها ...
( منذ هذه اللحظة ..... اياكِ و أن تخطي خطوة دون علمي ..... أو الإتصال بأيٍ ممن عرفتيهم سابقا .... )
ظلت تنظر اليه عدة لحظات ... قبل أن تقول بصوت ميت
( أنت لست زوجي بعد ....... و يمكنك الرحيل وقت تشاء .... )
" و أنا سأموت من بعدك " .... لكنها لم تنطق بعبارتها المعذبة ... بل ظلت تنظر اليه بعينيها الضائعتين ... بينما التفت ينظر اليها ببطىء .... و مضت فترة قاتلة قبل أن يقول بهدوء خطير
( العبي أوراقك بشكل صحيح يا شيراز ..... فلو رحلت فسأعمل على افساد كل زيجة لكِ لا توافق رضاي .. و حينها ستعيشين حياتك مشردة حتى النهاية كما كانت بدايتها ..... )
هبت ريح عاصفة من حولها و كأنها تساعده في بث الارتجاف فيها في تلك اللحظة ....
ظلت تنظر اليه وهو يبادلها النظر باستهانة .... بينما كان تنفسها يتسارع بزيادة رهيبة .... الى أن قالت أخيرا بفتور تشوبه بعض القسوة الدفينة
( بدايتها ليست ذنبي ........... اياك و محاسبتي عليه ..... )
ظل ينظر الى وجهها الشاحب في الظلام طويلا ... دون أن تتغير ذرة من ملامحه ... قبل أن تستقيم و تستدير مبتعدة عنه لتسرع الى الداخل بناية سكنها .....
كانت كشبح ضئيل قصير يجري في الظلام بفستانها الاسود و معطفها الذي يماثله لونا و هي تضم جسدها بذراعيها .... بينما خصلات شعرها المتطايرة الفاتحة كانت الروح الوحيدة في منظرها ......
الى أن أختفت من أمام عينيه المحتقرتين .... أو ربما اللتين اتخذتا الإحتقار كساتر للغضب الأسود خلفهما ...
.................................................. .................................................. ......................
جلست كرمة في مقعدها كتلميذة مرتبكة .... و هي تتطلع بتوتر و أمل عصبي الى الطبيبة ودودة الملامح التي تجلس قبالتها ....
أخذت تفرك أصابعها بعصبية و هي تتسائل أين ذهب أملها الحيوي المتوهج و ثقتها هذا الصباح ...
لماذا تبدو الآن و كأنها تنتظر نتيجة عمرها ؟! ......
لم تخبر حاتم عن حملها حتى تتأكد .... بالرغم من أن كل الظواهر تدل على أنها حامل , لكن مع ذلك كان هناك شيئا يقبع في داخلها يخبرها بأن هذا الحمل بعيد المنال ... لا تعرف لهذا الهاجس سببا ...
لذا أصرت على الا تقوم باختبار حمل منزلي ... و الا تخبر حاتم , بل قررت الذهاب الى الطبيبة رأسا ... حتى تؤكد لها ما يطمئن و يسعد قلبها ...
رفعت الطبيبة وجهها المبتسم اخيرا تنظر الى كرمة التي اجابتها بابتسامة كذلك لكن مهتزة و عصبية و هي تسأل بتوتر
( اذن ؟!! ........... )
مالت ابتسامة الطبيبة تعاطفا و هي تقول برقة
( لا سيدة كرمة .... لستِ حامل بعد .... )
هوت روح كرمة فجأة بتأثير هاتين الكلمتين الصاعقتين ... فبهت وجهها و ضاعت ابتسامتها العصبية و هي تنظر الى الطبيبة منتظرة أن تضحك فجأة و تخبرها بأنها كانت تمزح معها فقط و أنها بالفعل حامل
لكن هذا لم يحدث ... و في داخل نفسها عميقا ... كان شيئا ما يتوقع هذه الجملة ....
حاولت كرمة الكلام عدة مرات ... فبدا صوتها مبحوحا مهتزا ... الا أنها نجحت في النهاية في السعال قليلا و هي تهز رأسها لتقول بصوت خافت
( ك ...... كيف ؟!! ..... لقد كانت كل الظواهر ........ )
ابتلعت باقي كلماتها الباهتة ... الا أن الطبيبة تابعت بدلا منها و هي تقول برقة
( مجرد تأخر بسبب التوتر .... على الأرجح أنتى شديدة الإنتظار و القلق بسبب الأمر .....)
صمتت للحظة تنظر الى وجه كرمة الشاحب .... فضحكت قليلا و هي تقول بتعاطف
( سيدة كرمة .... لقد كانت عدة أيام فقط من التأخير , هذا بخلاف أنكِ متزوجة منذ ما يقرب من شهرين فقط ......)
عادت لتصمت مجددا و هي تنظر الى عيني كرمة الدامعتين ثم تابعت بلطف ....
( من التحاليل التي أجريتها لكِ .... أستطيع أن أؤكد لكِ أن كل شيء على ما يرام ... لكنك تمرين بما يشبه مرحلة تكاسل ضئيل .... نظرا لتأخر الحمل في حياتك .... لذا مع بعض المتابعة و علاج بسيط سيكون كل شيء على ما يرام حقا ...... )
صمتت و هي ترى كرمة تنظر اليها بهدوء .... تومىء برأسها بتفهم , الا أن وجهها كان مغرقا بدموع ناعمة صامتة ..... فهتفت الطبيبة بتعاطف
(سيدة كرمة !!!! ..... أنتِ سيدة مثقفة و تدركين أن الحمل أحيانا لا يتم بهذه السرعة خاصة في وجود كل هذا القلق ...)
ضحكت كرمة بحزن دون مرح ..... و هي تبكي بصمت ... لكنها أومأت و هي تقول مبتسمة من بين دموعها
( نعم ......نعم .... أنا انسانة مثقفة , تبكي لأنها تأخرت في الحمل من الشهر الأول ...... )
عادت لتضحك بأسى و هي تمسح دموعها ..... و هي تدرك ذلك الطعم الصدىء المتخلف في حلقها و الذي كان يخبرها بأن شيئا ما بداخلها كان يجعلها متأكدة بأنها ستعاقب .... لأنها لم تتحمل زوجها كما ينبغى لأي زوجة أن تحتمل و تصبر حتى آخر العمر .......
نهضت ببطىء ... فنهضت معها الطبيبة و هي تسلمها التقرير الخاص بها قائلة برقة
( سنتابع معا منذ اليوم ...... لكن أهم شيء أن تلقي بهذا القلق من حياتك )
أومأت كرمة برأسها مبتسمة بمرارة دون أن تجيب ... بينما مدت يدها لتمسح المزيد من دموعها الناعمة .....
خرجت تسير بتثاقل .... و ملفها الخاص يتأرجح في يدها المتساقطة بتهدل ,
وقفت مكانها عدة لحظات تلتقط النسيم البارد قبل أن تصل الى السيارة و السائق عبر الطريق الآخر ....
أغمضت عينيها و تسمح للهواء بأن يضرب وجهها بقوةٍ عله يهدىء من احباطها المثير للرعب ....
كم كان جسدها يصرخ شوقا لجنين يضمه أخيرا بين أضلعها .....
ياللهي !! .... لقد انتظرت طويلا ... طويلا جدا ......
ارتجفت شفتيها و هي تحاول تهدئة صدرها المضطرب ألما و إحباطا .... مجرد انتظار شهرا آخر يبدو لها و كأنه الجحيم بعينه ....
همست من بين شفتيها المرتجفتين ...
( ثلاثون يوما .... و ربما ثلاثين بعدهم ..... ثم ثلاثين آخرين بعدهم ...... )
أطرقت وجهها دون أن تفتح عينيها و هي تهمس بحزن
( و ربما أبدا ....... لأنني لا أستحق ..... )
رفعت وجهها الشاحب الحزين تنظر بعيدا و هي تتلمس وجنتها بيدها المرتجفة تفكر بحزن
كم من زوجٍ سمعت عنه .... يتخلى عن زوجته التي لا تنجب , لتمر الأيام و السنوات و لا ينجب من أخرى كما تخيل ....و العكس صحيح .... إنها تصاريف القدر .....
عاد نفسها ليرتجف و هي تهمس بأسى مغمضة عينيها
( يا رب سامحني ...... لكنك تعلم أنني لم أتخلى عنه لهذا السبب .... يا رب أنت تعلم ..... )
انتفضت فجأة على صوت رنين هاتفها فابتلعت تلك الغصة المسننة في حلقها و مسحت آخر دمعة فوق وجهها البارد ... لتلتقط هاتفها و تنظر الى اسم حاتم الملح في طلبها ....
أخذت نفسا قبل أن تجيب بخفوت
( مرحبا يا حاتم .......... )
انفجر صوته بغضب وهو يهدر قائلا
( أين أنتِ يا كرمة ؟!..... لقد تأخرتِ جدا ......لقد كدت أن أجن قلقا .. )
نظرت الى ساعة معصمها بسرعة ... فهالها أن يكون الوقت قد مر بهذه السرعة و ازدحام عيادة أشهر طبيبة نسائية كان السبب في تأخيرها الى مالا نهاية .... الا أنها كانت في حالة من عدم الإحساس بالوقت
أسرعت كرمة الخطا كي تعبر الطريق و هي تقول بأسف
( أنا آآآآسفة يا حاتم ..... آآآآآسفة جدا .....أنا في الطريق ...دقائق فقط و أصل .... )
قال حاتم بغضب من بين أسنانه
( أين أنتِ ؟؟ ............ )
توقفت للحظة .... و شعرت بالإحباط يداهمها من جديد , ماذا ستقول له الآن ؟!! ...... كانت تنتظر أن تفاجئه بأجمل هدية في العمر .... فهل تطلعه الآن على المزيد من خيباتها !!
أخذت نفسا حزينا قبل أن تقول بارتباك
( لقد ضاع الوقت في التسوق مع فريدة ...... و لم أنتهى الا الآن ... أنا حقا آسفة .... )
ساد صمت طويل .... دون أن يجيبها , فعقدت حاجبيها و هي تقول بتوتر
( حاتم !! ............ )
رد عليها بصوت غريب هادىء
( أريدك هنا في البيت الآن ............ )
قالت بقلق و هي تقبض أصابعها
( حاضر ...... انا في الطريق ...... حاتم هل أنت غاضب ؟؟ ....... )
قال بصوت قاطع
( لا مزيد من الكلام الآن يا كرمة ......... )
ابتلعت ريقها و هي تقول بخفوت و توتر
( حاضر ............. )
أغلق الخط دون أن يودعها أو أن يطمئنها بصفة تحببية مما اعتاد أن يمطرها بها ... فانقبض صدرها ... لن تحتمل أي غضب اليوم .... لكنها باتت تقريبا شبه واثقة بأن حات غضبه مهما كان عاصفا الا أنه لا يتعدى الحدود الآمنة ....
جلست في السيارة التي انطلقت بها بسرعة .... و هي تفكر بشرود
" لكن لا يجب أن تعتمدي على ذلك طويلا ...... فلا تضغطي عليه أكثر من اللازم "
أثناء سير السيارة بها .... و هي تجلس شاردة ساهمة بالإحباط المتنامي بداخلها .... لكنها فجأة استقامت جالسة بقنوط و هي تتذكر بأنها مدينة لحاتم بمفاجأة كما وعدته
زفرت بقوة و هي تتسائل عما ستفعله الآن .... حينها نظر السائق اليها في المرآة متسائلا
( هل هناك مشكلة سيدة كرمة ؟؟..........)
رفعت كرمة عينيها تنظراليه بقنوط ... ثم قالت بخفوت
( احتاج المرور على عدة أماكن قبل الوصول الى البيت يا حسن من فضلك ......)
دخلت كرمة البيت بعد فترة اطول مما ظنت ... و كان الليل قد حل بعدة ساعات ....
الارهاق النفسي و الجسدي كانا ينلان منها لكنها أجبرت نفسها على الأبتسام ما أن فتح لها محمد الباب .. فقالت ببشاشة مزيفة
( مساء الخير .... ماذا تفعلان بدوني ؟؟ ......إياكما أن تكونا سعيدين )
رفع محمد احدى حاجبيه وهو يشير بعينيه اشارة تحذيرية لها , فارتجفت مفاصل كرمة و هي تدرك أن الوضع غير مبشر ...
سلمت اللفة في يدها الى محمد بحرص و هي تقول بهمس خافت
( هل والدك غاضب جدا ؟؟ ........ )
اقترب منها ليهمس بحذر
( انه يستشيط غضبا وهو على وشك قتل أحدهم .... و لقد ضقنا به أنا و أمينة و نتمنى خروجه من البيت بصراحة ..... )
انتفض قلب كرمة بقلق أكبر ... لكنها عقدت حاجبيها و قالت بصرامة
( عيب يا ولد .... خذ هذه وضعها على طاولة المطبخ بحرص ..... و هذه أيضا لكن خبئها أولا ..... )
نظر محمد الى الأشياء التي تناولها من كرمة بفضول وهو يقول
( هل أحضرتِ لي شيئا ؟؟؟ ........... )
أجابت و عيناها تبحثان عن حاتم بقلق ...
( لا .... اليوم احتفال بيوم ميلاد والدك الذي تجاهلناه منذ فترة حتى أصبح منظرنا غاية في النذالة .... )
رفع محمد حاجبيه وهو يقول بدهاء
( آآآه .... ذلك الذي اخترعناه لأنكِ تسببتِ في مصيبة سابقة , على ما يبدو أنكِ ستتخذين من يوم ميلاده حجة لمداواة مصائبك مرة بعد مرة ... )
عقدت كرمة حاجبيها و هي تضربه على رأسه كما يفعل حاتم قائلة بصرامة
( تأدب يا ولد ...... هيا اذهب الى المطبخ و سأترك لك مهمة اخراج الموقف لقد عينتك مساعد مخرج في الكوارث .... فأنا مرهقة جدا ..... )
ابتعد محمد بأدب ... الا أنها عادت و جذبته من ذراعه لتقول بضعف مبتلعة ريقها بتذلل للصبي الصغير
( محمد حبيبي ...... هل وصل غضب والدك لمرحلة أن كسر شيئا في البيت ؟؟ ...... )
تظاهر محمد بالتفكير .... فتوهج الرعب بداخل كرمة و هي تنتظر الإجابة ... تتنفس بسرعة ... الى أن أجاب محمد أخيرا
( لا ...... لكن أعتقد أنه يدخر مجهوده لرأسك ..... )
عقدت كرمة حاجبيها أكثر و هي تشعر بخوف أحمق .... يدها تتلمس وجنتها دون وعي .... لكنها عاتبت نفسها على انخداعها بعبث محمد فدفعته و هي تقول بحزم
( هيا اذهب قبل أن أبدأ برأسك أنت ....... )
ابتعد محمد .... بينما استقامت كرمة و هي تحاول اخذ نفسا مرتجفا لتهدىء من نفسها .. لكنها لم تنسى أن تلقي نظرة على وجهها و شعرها في المرآة القريبة من الباب ... و هالها أن تكون عينيها لا تزالان حمراوين و مجهدتين ... ووجهها شاحب ...
زفرت بقنوط مجددا و هي تفكر كم كان سيكون الأمر مختلفا لو كانت الآن عائدة الى حاتم طائرة على سحب السعادة لتبشره بخبر الحمل ... ليحملها كالأفلام و يدور بها ..... و تأمره بعنف الا يفعل خوفا على الجنين الذي طال الإنتظار اليه .....
مالت عيناها الجميلتان بحزن و هي ترفع يدها لتتلمس بطنها المسطحة بأسى .... كان هنا ... كانت متأكدة من وجوده ... كانت تشعر بقلبه ينبض تحت قلبها .... فكيف خدعها احساسها بتلك الطريقة المثيرة للشفقة ....
تنهدت بحزن غريب أكبر بكثير من الموقف نفسه ...
لكنها رسمت ابتسامة واسعة على شفتيها و هي تحاول أن تمحو ذلك الحزن كي تواجه حاتم ....
ثم تركت المرآة لتحث الخطا اليه ... بحثت عيناها عنه في كل مكان الى أن وجدته جالسا أمام مائدة الطعام
فتوقفت مكانها للحظات .... كانت ملامحه غامضه , .... جامدة بشكل مقلق , الا أن الغضب كان باديا في عينيه بوضوح
ابتلعت كرمة ريقها ... لكنها اقتربت منه بمرح لتقول و كأن شيئا لم يكن
( كيف حال صغيريّ الضائعين بدوني ؟؟ ...... )
انحنت اليه كي تقبل شفتيه بمبادرة لم تعتد عليها معه ... الا أنه أبعد وجهه فسقطت قبلتها على وجنته الحارة ...
استقامت كرمة و قد بهتت ابتسامتها من ردة فعله .... شيئا ما في حركته البسيطة آلمها بقوة , الا أنها ابتلعت ألمها بشجاعة و هي تسحب كرسيا لتجلس بجواره .. ناظرة اليه بصمت , قبل أن تقول بوداعة مهتزة
( ألن تكلمني مجددا ؟؟ ........... )
لم يرد عليها .... و لم ينظر اليها , لكن ملامحه كانت تشتد ..... فهمست كرمة بخفوت و هي تمد يدها لتضعها في يده الموضوعة على سطح المائدة ....
كانت قبضته جافة ... صلبه , لم تطبق على يدها كما اعتادت منه ... فهمست بقلق
( حاتم ....... حاتم ..... كل هذا من أجل يوم واحد تأخير ؟!! ........ لست طفلة .... )
حينها نظر اليها نظرة قوية جعلتها تصمت و تبتلع ما كانت تنوي أن تتابع به .....
الى أن قال أخيرا بدون مقدمات ..بصوت جاف صلب
( أين كنتِ ؟؟ ............... )
توترت قليلا ... لكنها قالت بخفوت أكثر
( أنت تعلم أين كنت ...... كنت مع فريدة و طال بنا الوقت دون ان نشعر .... هل يجعلني ذلك متهمة بشيء ما ؟!!....... )
عادت لتصمت أمام نظرة عينيه .... لم يتكلم , فقط نظرة عينيه كانت أكثر من كافية ....
حينها أخفضت عينيها أمام قوة عينيه .... و هذا هو ما أراده ... لقد قضى معها فترة أدرك خلالها أنها فاشلة كل الفشل في الكذب مهما حاولت ... و مجرد أن ينظر اليها حتى تنهار كذبتها ....
و هذا هو ما فعلته الآن ... فمجرد أن نظر اليها حتى خفت صوتها و اختفت آخر كلماتها مع احساس واضح بالذنب ....
فما لا تعرفه أنه هاتفها عدة مرات ... لكن هاتفها كان غير متاحا و ما أن هاتف فريدة ليطمئن عليهما حتى أخبرته أنها تركتها منذ وقت طويل .....
حينها عاش أكثر لحظة مرعبة في حياته وهو يتخيل أسوأ ما قد يكون حدث لها .... و هنا شعر أنه سيموت لو حدث لها مكروه ...
كل ذلك انتابه خلال لحظتين فقط ...... قبل أن يفعل أكثر ما قد يثير غضبها في العالم .. فاتصل بالسائق ليسأله عن مكانهما ....
يعلم جيدا حساسيتها من هذا الأمر نظرا لما تعرضت له من قبل على يد ..... طليقها..... بسبب شكوكه و ظنونه ., خاصة الفضيحة التي افتعلها مع السائق من قبل ....
لكنه في تلك اللحظة لم يأبه لحساسيتها ... كان كل همه أن يطمئن بأنها بخير ...
و بالفعل أخبره السائق بهدوء أن السيدة أخبرته أن لديها موعد هام و أنه يجلس في السيارة ينتظرها ....
الله يعلم مقدار السيطرة التي تكبدها بعذاب على نفسه كي لا يذهب الي المكان الذي ينتظر به السائق ....
بينما هو يجلس هنا منذ تلك اللحظة .... ينتظر ....و ينتظر .... و ما أن أصبح هاتفها متاحا أخيرا , حتى أخبرته بأنها كانت مع فريدة .... و أغفلت ذكر "موعدها الهام ".....
رفعت كرمة عينيها الي عينيه في تلك اللحظة بصمت ..... بينما كان هو ينظر اليها مفكرا .... و صدره يتضخم بشعور حارق يهدد بتدمير كل شيء .....
ما يعلمه حق اليقين هو أنه يثق في كرمة ثقة عمياء ..... لن يفقد ثقته بها أبدا , فعلى الرغم من قصر معرفته بها .... الا أنه يدرك جيدا مدى نقائها و براءة روحها ......
اخلاصها لطليقها كان الألم الذي ينحر جسده من بعيد .... و هو يراقب كل تلك الدرجة من الحب و التفاني من قبلها كزوجة على الرغم مما كانت تناله على يديه في المقابل ....
لكن المسألة ليست مسألة ثقة ..... انها لا تزال حتى الآن تقيم الحواجز بينهما ... تبعده عن بعض زوايا حياتها ....
و هذا يقتله ..... يقتله ببطىء و يجعله راغبا في اقتحام كل خلاياها ليسكن بها طاردا غيره ......
أما أن تذهب أيضا الى اي مكان دون علمه !!! .... فهذا ما لن يتسامح به أبدا , خاصة بعد المرة الأخيرة و التي لا أثرها في نفسه قويا لا يبارحه على الرغم من مهارته في اخفاء هذا الجرح .....
ضيق عينيه وهو يحاول بكل قوته ابعاد غضبه عنها كي لا يفزعها ... ثم قال بصوت هادىء غريب
( هل هناك ما تريدين أخباري به يا كرمة ؟؟ ......... )
ارتجفت شفتي كرمة و هي تنظر اليه ... عند هذه النقطة لم تستطع أن تتابع عفويتها المفتعلة ...
فهزت رأسها نفيا ببطىء ... و هي تخفض رأسها لتتلاعب بإصبعها فوق سطح المائدة و قد رسم الحزن محياها ....
بينما كان غضبه يزداد ... و يزداد .... و ألم السيطرة عليه يفوق قدرته ....
رفعت كرمة لتقول بصوتٍ به نبرة أمل يائسة محاولة الابتسام بمرح ....
( هل تناولتما طعام الغذاء ؟؟ ...... لو كنتما تنتظراني فسأحضره خلال دقائق .... اتفقنا ؟؟ ... )
حينها اشتعلت عيناه بقوةٍ جعلتها تشهق خاصة و قد اندفع واقفة بقوةٍ جعلت الكرسي يتراجع للخلف بصوتٍ عالي ... فأمالت وجهها تلقائيا بخوف
الا أن كل ما قاله هو
( كلي أنتِ و محمد .... فهو ينتظرك منذ فترة طويلة , أنا لست جائعا ..... )
ثم لم يلبث أن هدر بقوةٍ جعلتها تنتفض مكانها برعب
( و توقفي عن إمالة وجهك كلما سألتك عن شيء ..... أنا لن أضربك ..... )
شحب وجهها و شعرت بالإهانة ... لكنها ظلت مكانها تتنفس بسرعة قبل أن تقول بفتور
( ربما لا ..... لكنك لازلت تصرخ ....... )
تسمر مكانه ينظر الى وجهها الشاحب المطرق .... قبل أن يقول بجنون مكبوت من بين أسنانه التي يضغط عليها حتى احمر وجهه و خافت عليه بحق ....
( أنت .... ل ..... م ....أنا لست .... . تبا لكِ ... )
شحب وجهها أكثر و هي تبادله النظر بصمت كان على حافة الجنون و سيطرته تبدو واهية لذا لن تتعجب ان قذفها باقرب شيء امامه و فتح رأسها..فاستدار ليبتعد ... الا أنها قالت فجأة بهدوء
( ستأكل معنا يا حاتم .... و ستلتزم بالقانون الذي وضعته .... )
وقف مكانه دون أن يستدير اليها .... فبدا طويلا ضخما و هي تراقب عرض كتفيه ... و انتابها شعور ملح بالذهاب اليه و اراحة وجنتها على ظهره ... بين كتفيه ... هذا ان استطاعت الوصول اليهما طولا ....
لكن حاتم هدر بجفاء قاتل
( حين تخلين به ..... لا تتوقعي أن يمر الأمر بدون عقاب )
اتسعت عيناها بصدمة .... و بقت تنظر الى ظهره عدة لحظات قبل أن تقول بصوت باهت و كأنه ضربها تماما
( تعاقبني يا حاتم ؟!! .......... )
التفت اليها قليلا .... ينظر الى عينيها المصدومتين و اللتين ضربتاه في مقتل , الا أن غضبه كان أقوى من ضربتهما ... فقال بهدوء
( نعم سأعاقبك يا كرمة ....... )
ثم استدار مجددا ليبتعد عنها ..... الا أنها تبعت فطرتها فقفزت خلفه جريا و فعلت ما تتمناه فارتمت على ظهره و ألصقت وجنتها بظهره ... بينما أحاطت ذراعيها بجزعه القوي ... ووضعت كفيها على صدره تستشعر تلك المضخة القوية تحتهما .....
كان غاضبا و هو محق في غضبه .... لكنها همست و هي تتمسح به كقطة مدللة
( لن يطاوعك قلبك .......... )
كان تنفسه يتزايد و يتسارع ..... بينما غضبه لا يهدأ , لكنه قال بجفاء
( أنتِ واثقة من مكانتك اذن !! ........ )
ابتسمت على ظهره بحزن .... "لا ليست واثقة أبدا "..... تعتقد أنها لن تمتلك الثقة بمكانتها أبدا مهما مرت بها الأيام ....
فهمست برقة
( أنت السبب ............ )
الا أن حاتم لم يتهاون رغم أن ملامحه لانت قليلا ... فقال بجفاء صارم آمر
( أين ذهبتِ بعد أن تركتِ فريدة ؟؟ ........ )
تنهدت كرمة بقنوط على صدره ...ثم همست رغم معرفتها أنها فقط تضيع مجرى الحوار
( ألم تخبرني من قبل أنك تثق بي ؟!! ......... )
حينها دار حول نفسه بجنون وهو يلف خصرها بذراعه بينما يمسك بمؤخرة شعرها بيده ليرفع وجهها المصدوم اليه ... ثم همس الى عينيها المذعورتين
( أنتِ كاذبة ..... تعلمين أنكِ كاذبة و تحاولين الظهور بمظهر المظلومة اليس كذلك ؟!! ...... )
همس على فكها بقوةٍ مما جعلها تستشعر حرارة غضبه بحق
( ماذا أفعل لأكسر روحك الصلبة تلك و أنفذ اليكِ ؟!! ..... ماذا أفعل كي أقتحم كيانك كله و أحتله و أدمغه باسمي للأبد ........ )
كانت ترتجف بين ذراعيه من هول تملكه الذي يظهر جليا حين يفقد السيطرة على هدوءه الظاهري ...
الواقع أن هذا التملك يضايقها .... يقيدها .... و هي في أمس الحاجة الى مساحتها الخاصة ...
ما تريد قوله لا يستطيع سماعه .... و ما لا تستطيع قوله يكاد ينفذ اليها كي يعرفه ....
همست بارتجاف و هي ترفع يدها الى فكه الصلب
( احترت معك يا حاتم ..............)
شيء واحد أمرها الا تتحدث عنه .... وهو طليقها !! .... اذن لماذا تخفي عنه شيئا الآن الا اذا كان الموضوع يخص ذلك الجبان الذي كانت متزوجة منه قبلا .....
الجنون أوشك أن يطيح بعقله حينها .... فهدر و أصابعه تنغرز و تغلق على خصلات شعرها المتموج
( هل كان امرا جديدا يخصه ؟!!!!! ....... )
اتسعت عيناها بذهول و هي تقول بغباء
( يخص من ؟!!! .......... )
هدر حاتم بجنون لدرجة أنها أغمضت عينيها امام صوته القاصف
( يخص طليقك ............ )
هتفت كرمة بغضب
( أنا لا أقبل أن تتهمني بذلك ....... )
الا أن جنونه جعله يهدر بقوة وهو يضمها بذراعه أكثر
( ألم تفعليها من قبل !!! ...... )
ارتجفت شفتيها .... و نظرت اليه بصمت بينما ملامح وجهها كانت متألمة
( لم أظن أن تعيدها يا حاتم .... أترك شعري , أنت تؤلمني ..... )
اتسعت عيناه قليلا بصدمة ... وهاله أن يتكشف انقباض كفه على خصلات شعرها .... فتركها على الفور و كان أن يموت وهو يرها تخفض وجهها بصمت لترفع يدها و تدلك مؤخرة رأسها قليلا ....
حينها لم يستطع الا ان يرفع يده مجددا لتحل محل يدها وهو يدلك مؤخرة رأسها هامسا بصدمة
( هل آلمتك ؟!! ........ )
أرادت أن تجيبه بأن اتهامه آلمها أكثر .... لكنها أكتفت بأن همست بخفوت و طفولية مقصودة
( قليلا ......... )
حينها سحب نفسا هادرا ... جعل صدره يسحق صدرها دون ان تتخلى ذراعه عن خصرها ...
بينما همس بصوتٍ أجش بالقرب من أذنها
( لم أقصد ايلامك ..... كنت .... أشعر بالجنون منكِ و من أفعالك ... )
أغمضت عينيها .....و هي تتمتع بملامسته لمؤخرة شعرها و كأنها قطة ناعمة ... تلك الحركة كانت تحتاجها للغاية بعد احباط اليوم ....
لا تعلم أن الحزن بان على ملامحها الجميلة .... و ذلك الحزن كان كفيلا ليشعل روحه ... يحرقها ...
"امحيه ..... امحي هذا الحزن بالله عليكِ ..... أمحيه لأعرف أنكِ محوتهِ هو ... "
قالت كرمة بخفوت و هي ترفع كفيها الى صدره دون أن تفتح عينيها ...
( أحب تلك الحركة ....... أرجوك يا حاتم .... )
تنهد بقوة .... وهو يشعر بالرغبة في ضربها و ضمها الى صدره في نفس الوقت .... الا أنه لم يتوقف عن تلك الحركة طالما هي في حاجة ... لها .. ....
قال بصرامة خافتة بعد فترة دون أن يتوقف عما يفعله
( أين كنتِ ؟؟ .......... )
لم تفتح عينيها ... لكنها تنهدت بصمت , ثم همست بخفوت
( سأخبرك .......... )
فتحت عيناها اللتان سلبتا قلبه منذ اليوم الأول ... ثم همست برجاء
( الا يمكننا فقط أن نقضي وقتا سعيدا ثلاثتنا .... أنا و أنت و محمد .... أنا في حاجة اليه يا حاتم بشدة )
قال حاتم بصوت قوي
( افتحي عينيكِ ......... )
قاومت عدة لحظات قبل أن تفتح عينيها لتنظر اليه بصمت .... فقال بجفاء على الرغم من هدوء ملامحه بعد العاصفة
( هناك أشياء لن أسمح بها ....... )
همست و هي تومىء برأسها
( أعرف ........ فقط دللني قليلا ثم سأخبرك .... )
صمتت لحظة و هي تلاحظ التهاب عينيه بعاطفة لا يستطيع السيطرة عليها , فتابعت بحزن همسا
( أحتاج اليك ......... )
همس حاتم بصوتٍ أجش وهو يترك رأسها ليلامس وجنتها و يقرصها بخفة
( و أنا هنا ......... تعالي معي الى غرفتنا قليلا ... )
استندت الى صدره و هي تتنهد مجددا .... هامسة
( لا أحب الي من ذلك .... لكن حاليا أحتاج الى أن نقضي الوقت ثلاثتنا )
عبس حاتم ليقول بخشونة وهو يزيد من قرص خدها
( محمد أصبح يشاركني بكِ في كل لحظة ........ )
ابتسمت برقة و هي تقول بصدق
( لا مانع لدي ......... لا مانع أبدا )
عبس حاتم وتنفسه يضربها بقوة و يخبرها بأنه لم يهدأ بعد لكنه قال بخشونة
( لكنني أمانع و بشدة .......... )
ابتسمت كرمة لتقول
( عليك أن تعتاد الأمر و تتقبله أيها الرجل الكبير .... أعرف أنك قادرا على التحمل )
نظر اليها حاتم وهو يهمس اليها دون أن يتجاوز أنينه شفتيه
" آه لو تعلمين ما أتحمله ... و أنتِ لا تزالين تحيين معه هو .... "
عقد حاجبيه بألم وهو يسمع اعترافه لنفسه للمرة الأولى ....
كان يميل بها وكأنه يطبعها على صدره علها تهدىء من وجعه .... و منه كانت تستمد راحتها بعد التعب , لكنها ابتعدت قليلا و رفعت وجهها اليه مبتسمة قليلا و هي تهمس
( سأذهب لأستعد .... لقد حضرت لك المفاجأة التي أخبرتك عنها , ...... ابقى أنت هنا و أياك التحرك من مكانك ..... )
ابتعدت عنه على مضض منه ... حتى أنها أبعدت يديه عن خصرها و المتشبثتين بها كطفل صغير و كم أفرحها هذا الشعور ....
رفعت وجهها قبل أن تبتعد لتقول بدلال
( أم تريد أن آكل وحدي ؟!! ..... لن أكون مسؤولة حينها عن المخزون الإحتياطي في البيت ! .... )
عقد حاجبيه وهو يقول بخشونة
( كان مجرد تهديد ..... لن أسمح لكِ ..... )
ابتسمت برقة و هي تتراجع بظهرها
( بالأكل ؟!!! ........ )
أجابها بكلمة واحدة جدية هزتها الى الأعماق بجديتها و بنبرة القوة في صوته
( وحدك .............)
توقفت تنظر اليه بألفة ..... عيناها تبتسمان له و هي تدرك أنه يضايقها في الكثير ... يكاد يتخلل أنفاسها .. و هي لم تعتد على ذلك من قبل ... حتى في زواجها الأول كانت تقريبا وحيدة و مسؤولة عن كل شيء ... لقد اعتادت المسؤولية و الوحدة ..... لذا حاتم يخنقها بكل صراحة ... يكاد يعد اللقيمات التي تدخل حلقها ... هذا إن لم يكن هو من دسها في فمها .....
يمشط لها شعرها و يبدو مسحورا بتموجاته .... يطعمها .... يساعدها في الإستحمام دون حياء .....
ابتسمت أكثر و هي تتذكر منظره خلفها في المرآة وهو يبدو كطفل يلاعب خصلة من شعرها ... يموجها على اصبعه ثم يتركها لتلتف و تتراقص وحدها ... بينما هو يبتسم سعيدا بخصلة شعر !!! .... يهمس و كأنه يكلم نفسه
" ما أروعه !! ....... يتراقص مثلك ! "
حينها همست بنعومة و هي تتمايل
" و هل أتراقص أنا ؟!! ...... "
عبس بشدة خلفها في المرآة و يداه تتحسسان خصرها وهو يقول بغضب
" تتراقصين في سيرك ... خصرك في اتجاه بينما وركيك في اتجاه آخر , لدرجة تجعلني أرغب في ضربك على مؤخرتك و بشدة كي تعتدلي في سيرك .... "
ضحكت وهو يحملها بين ذراعيه ليعاقبها على سخريتها باقتناص شفتيها بغضب ... بينما هو في منتهى الجدية فيما يقوله .....
نعم انه يخنقها ... و غيرته تخنق أنفاسها ..... غيرته باتت تعرفها جيدا
غيرة متملكة ... لكنها خفية تتسلل في الخفاء من حولها في كل مكان ... و ليست غيرة انفعالية لحظية ....
يغار عليها من ابنه ... من تفكيرها .... شرودها ..... حزنها .... يغار على جاذبيتها حتى لو كانت محتشمة الملابس .....
اكتشفت أن قراراته هي التي تسري دائما ..... لكن دون أن تشعر
دون أن تكون أمرا ... أو أن تكون بالضرب أو بالصوت المرتفع .......
و على الرغم من كل ذلك الإختناق الذي يحيط به حياتها ببطىء و تسلل .... الا أنه يشعرها بالألفة .. يبدد وحدتها شيئا فشيئا .... و في نفس الوقت يشعرها بالأسى لأنها حتى الآن لا تستطيع أن تمنحه قلبها كاملا ...
و كأن هناك جزءا متمردا في قلبها يصر على ربطها بالماضي .....
رفعت كرمة اصبعها و هي تهمس بنعومة آمرة
( ابقى هنا ...... و أنا أعني ما أقول ...... )
كتف حاتم ذراعيه وهو يراقب ابتعادها دون أن يبتسم ...... انها تتلاعب به و بصبره .... و هي لا تعرف مدى خطورة الضغط على سيطرته ..... حينها عقد حاجبيه ... بقوة داخلية .... عنيفة ..حاول أن يجنبها إياها قدر استطاعته .....
كانت أمينة تفتح علبة قالب الحلوى باحتراس و هي تقول لمحمد الذي يساعدها بصوت خافت ممتعض
( أنا منذ البداية قلت لوالدك أنا زيجة بائسة ..... امرءة لينة لا تكف عن التذمر و استعراض البكاء ... بخلاف بعض دقات الجنون .... أحيانا أخاف منها .... و الله كما أخبرك يا محمد .... حين تبرق عيناها .... و يرتفع حاجباها أخاف منها .... فهي تبدو حينها كالقطط الجائعة ..... ووالدك ماشاء الله ميوله بالغريزة تحتوي هذا النوع .........)
كانت كرمة قد دخلت المطبخ و هي ترهف السمع ... و بالفعل برقت عيناها و ارتفع احدى حاجبيها و بان الشر على ملامحها .....
بينما قال
محمد ببساطة وهو يتخلص من الورق الزائد
( أعتقد أنها لطيفة .......... )
اصدرت أمينة صوت ضحكة ساخرة و هي تقول باستهزاء
( لطيفة !!! ........ ها هي لم يكد شهر العسل البائس ينتهي و تعود قرب منتصف الليل )
مط محمد شفتيه وهو يقول
( انها التاسعة يا أمينة ......... )
عادت أمينة لتتنهد و هي تقول بحزن
( التاسعة !! ..... دون اذن والدك , والله لو فعلتها في شبابي لكان زوجي رحمه الله قتلني .... )
قال محمد بهدوء
( ها هو سبقك رحمه الله .......... )
نظرت أمينة اليه بغضب وهي تقول
( هل أنت في صفي أم في صفها يا ولد !!! .... صحيح أنك ابن أبيك , يؤثر بك البكاء الخائب فتتحول الى قطعة عجين بين يديها ...... )
رفع محمد حاجبه وهو يكور شفتيه ليقول بشك
( لا أظن أن حاتم يبدو كالعجين في يدها ..... فكلما اجتمعا سويا , يكاد صوته يوقظ سكان القارة القطبية )
مطت أمينة شفتيها و هي تتنهد بحزن قائلة
( المسكين سيصاب بأمراض الشيخوخة مبكرا بسببها ..... تحرق دمه كل يوم و الإسم شهر عسل !!! ... حسبي الله و نعم الوكيل ..... )
ارتفع حاجبي كرمة معا و هي تضع يديها في خصرها لتسمع الى المزيد .... فتابعت أمينة ببؤس
( المسكين رغم أنه أحمق العقل .... لكنه طيب القلب مرهف الحس ..... هل سيتحملها أم يتحمل هلوسات أمك ..... لقد صبر على أمك كثيرا من قبل .... يبدو أن السعادة ليست من نصيبه .... من خيبة الى خيبةٍ أكبر منها ...... )
ارتبكت قليلا و هي تقول ناظرة الى محمد قائلة
( لا أقصد اهانة ......... )
مط محمد شفتيه في حركةٍ تشبه حركتها وهو يقول
( خذي راحتك يا أمينة ......... حاتم يقول دع أمينة تقول ما تريده و لا تحاسبها على كل كلمة .... )
عقدت أمينة حاجبيها و هي تقول بغضب
( لماذا !!! .... أتظناني مجنونة أم أصابني الخرف !! ...... )
قال محمد يسترضيها
( العفو يا أمينة ..... الإحترام واجب ..... )
نظرت اليه أمينة بغضب غير مقتنعة ثم قالت بغيظ
( آآآخ منك ..... خبيث و ناعم مثل والدك ...... )
أخذ محمد الأطباق ليخرج بها وهو يقول
( أنا ناعم .. و حاتم خبيث .... و أمي مهلوسة .... و كمرة مجنونة ... الا ترين خطأ ما في الصورة يا أمينة !! )
الا أنه توقف مكانه ما أن رآى كرمة تقف كالمجنونة فعلا و يديها في خصرها .... فقال بذهول مبالغ فيه
( كمرة ...... كنا نحكي عنكِ بكل خير ..... )
ارتفع احدى حاجبيها أكثر ... فصمت تماما لكنه عاد ليقول ليحسن الوضع و قد وجد أمينة تطرق برأسها مرتبكة للمرة الأولى في حياتها ...
( لدينا محشوات و مشويات للغذاء اليوم ........ )
الا أن ملامح كرمة لم تلين ... وهي ترمق أمينة شزرا .... فاقترب منها محمد وهو يجذبها من ذراعها بيد ... بينما يوازن الأطباق على اليد الأخرى قائلا
( أهتدي بالله يا كمرة ..... و اخرجي من هنا قبل أن يأتي حاتم و يطردنا جميعا ... لقد شبعنا من النكد لليوم .. )
ظلت كرمة تنظر الى أمينة شزرا بينما قوة محمد كانت أكبر منها وهو يجذبها غصبا خارج المطبخ
وضع محمد الأطباق على مائدة الطعام بينما نظر اليها ليقول بهدوء
( لا تشغلي بالك عما سمعتيه للتو ... لم تكن تقصدك )
قالت كرمة بحدة و هي تشير للمطبخ
( من تقصد ان لم تكن تقصدني !!! ....... )
وضع محمد يده على صدره وهو يقول ليسترضيها
( أمي ........... )
ظلت كرمة تتنفس بسرعة و غضب بينما أمسك محمد باحدى مناشف المائدة و أخذ يلوح به أمام وجهها كي يهدىء الهواء من غضبها و احمرار وجهها ... و ما أن أخذ تنفسها يهدأ قليلا حتى قال بتوجس
( هل أنتِ أفضل الآن !!! ...... )
هزت رأسها ايجابا و هي تكز على أسنانها ... بينما قال محمد
( أتعلمين ما المشكلة ؟!! ..... المشكلة تكمن في هذا الإحتفال نفسه ... كلما قررنا أن نحتفله ... يقطع الجميع بعضهم .... )
زفرت كرمة بعمق و هي تهمس
( ياللهي ..... يالها من نهاية يوم مغايرة تماما لما تخيلته ...... )
قال محمد بتذمر
( اذن مرري المتبقي من يومك على خير ... و اذهبي لتبدلي ملابسك و تحسنين من شكلك .... لنحتفل بهذا الإحتفال البائس و ننتهي منه ...... )
عبست كرمة و هي تقول
( يا ولد عيييييييب ........ )
قال محمد بملامح غبية من الملل
( اذهبي يا كمرة بالله عليكِ ........ )
أومأت كرمة برأسها في يأس و هي تتنهد قائلة
( محمد حبيبي ..... أعد المائدة و الأطباق ..... لكن قالب الحلوى اتركه في الثلاجة لبعد الغذاء .... )
قال محمد وهو يوزع الأطباق
( تحت أمرك يا سيدة كمرة ..... لو لديك غسيل اتركيه كي أغسله لكِ )
قالت كرمة بيأس
( لقد أخذت من طولك و أضفته الى لسانك ......... )
قال محمد عابسا
( أنا من اطول طلاب صفي بالمناسبة ......... )
رفعت حاجبها و هي تقول بخبث أنثوي
( وأطول من .... جوووووووودي ؟؟ ....... )
لم يرد محمد ولم تتغير ملامحه .... لكنه لم يلبث أن حمل ابريق الماء و سكب منه على يده و انطلق يجري خلفها وهو يرميها بالماء بينما كانت صرخاتها تصل الى حاتم عند النافذة ....
ابتسم لصوت صراخها الممتزج بالضحكات الغالية على قلبه .... بينما الألم بداخله لا يهدأ و لا يمل .....
همس و يده تتلمس الزجاج
( توجعيني يا كرمة ..... و يوجعني قلبك العاصي .... )
ظل واقفا مكانه طويلا يراقب سواد الليل الذي يماثل ظلام قلبه حاليا ... الى أن استطاع استنشاق عطرها قبل أن يسمع صوتها الهامس
( تعال يا حاتم ........... )
تسمر مكانه للحظات وهو يغمض عينيه ... يسكره صوتها الناعم و المبحوح بنبرةٍ باتت كالنغم في أذنيه
ثم استدار اليها ببطىء .... حينها عرف معنى أن يموت الإنسان عشقا في الجمال ....
كانت بهجة للنظر ....و هي تقف أمامه تمد يدها اليه ... تبتسم بحزن جعلها جميلة و هي تطلب منه السعادة ...
شعرها المموج طال على ظهرها في موجاتٍ بدت خلابة .... بينما حجزته بشريطٍ حريري وردي داكن التف حول وجهها لينتهي بعقدةٍ أنيقة أسفل أذنها ....
و ارتدت فستان حريري من نفس اللون ... طويل و ملتف حول قوامها مظهرا كالعادة نحافة خصرها و امتلاء وركيها .....
كان الفستان لونه متدرج من الوردي الداكن للغاية في أسفله ....صعودا الى الدرجات الأفتح حتى ينتهي عند صدرها بلون وردي فاتح يكاد يكون أبيض ....
و تطبع أسفله ببعض الياسمينات البيضاء .... المتناثرة هنا و هناك .... كانت تبدو !!!!
لم يجد وصفا يصفها به سوى اسمها ... فهمس بصوتٍ أجش مختنق
( كرمة .............. )
اتسعت ابتسامتها و هي تنال الثقة من نظراته و صوته الأجش .... وهو أيضا يبدو وسيما لحد الذهول ... و هي تحاول الهمس لنفسها بين كل حين ...
" هذا الرجل الوسيم و الذي ينظر الي و كأني آخر نساء العالم .... هو في الحقيقة زوجي "
كانت تدرب نفسها كل يومٍ على هذا المقطع دون أن تطلعه بعمق محاولاتها ,.... على الرغم من أن رجلا مثله ليس في حاجةٍ الى كل هذا المجهود في الإقناع .....
لكن العيب بها هي ..... العيب في قلبها الذي لا يزال يخاصمها غاضبا منها ......
كيف يمكن للإنسان أن يحيا حربا بين العقل و القلب .... بين الم الماضي و سعادة الحاضر .....
كيف يمكنه أن ينسى الألم و الإهانة .... لكن أيضا ينسى معهما حبا كان .....
همست كرمة بصوتٍ يتعدى معنى حروفها لشيء اعمق بكثير .... لإستجداء
( تعال يا حاتم ...... أنا أنتظرك , أرجوك ..... )
ظل واقفا مكانه .... بداخله رفض و توسل للقبول بيدها الممدودة .... تبا لها دائما تربح و تريه ضعفا لم يعرفه في نفسه قبلها ....
اقترب منها ببطىء ..... و عينيه القاتمتين الجائعتين عليها ... ترسمان جمالها على قلبه .... الى أن وصل لها دون أن تلين ملامحه .... فأدركت أنه لا يزال غاضبا ....
وقف أمامها ينظر الى يدها الممتدة دون أن يمسك بها ... فابتلعت ريقها و ظلت تمدها و هي تهمس بدلال
( تخذل يدي يا حاتم !! ........ )
الا أنه لم يمسكها ... بل مد كلتا يديه ليمسك وجهها يرفعه اليه ... و دون مقدمات هبط بوجهه اليها راشفا قبلتها و كأنها اكسير الحياة بالنسبة له ....
لم تكن قبلة .... كانت شيئا غريبا .... شيئا يسحب منها روحها لتمتد عبر شفافهما اليه ....
أغمض كرمة عينيها و هي تستسلم لهذا السحر الغريب ..... تمنحه ما يطلب و تستمد منه شيئا آخر لا تعرف هويته .....
هل هو انعدام هوية ما يفعله بها .... ام هي احدى طرق استعبادها و التي بات يتقنها جيدا , و الأغرب أنها ليست رافضة أو غاضبة .... بل باتت تشعر بالكمال يوما بعد يوم .....
مر وقت طويل ... طويل جدا قبل أن تتمكن من تحرير وجهها قليلا طلبا للحياة و هي تشهق لاهثة بقوة
( انتظر يا حاتم ......... )
الا أنه لم ينتظر .... لم يسمح لها بأكثر من لحظتين لتلتقط بهما أنفاس الحياة قبل أن يعود الى إزهاقها مجددا وهو يميل بها الى الخلف فارتعبت من فقدانه السيطرة على نفسه لتحاول الهمس بعيدا عن مرمى شفتيه
( زينتي يا حاتم ........ )
الا أنه زمجر بخشونة و هو يعيد تخطيط زينتها بشفتيه
( تبا لزينتك يا كرمة ....... )
رفعت ذراعيها تحيط بعنقه و هي تتأوه بخفوت سامحة لفمه أن يشعل النبض الثائر أسفل عنقها ....
و ما أن سمعت صوت أقدام تقترب ... حتى أبعدت نفسها بمحاولة يائسة دون أن تستطيع التحرر هامسة بقلق
( محمد ....... محمد يا حاتم ..... )
رفع وجهه حينها يلهث بغضب ... بقوة ... بحزن .... ينظر الى عينيها العميقتي العاطفة ...
بينما همس بداخله بعنف
" لو تعرفين كم أصبح يؤلمني اسم ابني من بين شفتيكِ المسكرتين .... "
ابتعد عنها في لحظة ما أن سمعا صوت محمد يقول عن بعد
( من الجيد أن نتناول شيئا قبل أن نبدأ في التساقط ضحايا هذا اليوم ........ )
استدار حاتم عنهما وهو يحاول التهدئة من عنف أنفاسه و مشاعره ... تاركا المهمة الصعبة ليدي كرمة المرتجفتين تحاولان التسوية من ملابسها و شعرها و هي تلهث باضطراب من مدى جنون استسلامها
خلال لحظةٍ واحدة .... قبل أن يدخل حاتم اليهما , وهو ينقل عينيه بينهما بارتياب ثم قال بخفوت
( أريد أن آكل يا كمرة ........... )
اتسعت عينا كرمة بهلع و هي تنظر الى وجهه الوسيم المطالب بأبسط حقوقه في الحياة و شعرت بتأنيب ضمير كاد أن يقتلها و هي تدرك مدى تأخر الوقت , فهمست و هي تقترب منه لتلاعب شعره الجميل
( هيا بنا ........ كنت أصالح والدك فقط ..... )
مط محمد شفتيه وهو ينظر الى ظهر حاتم ... بينما همس في داخله دون أن تعلم كرمة
" سيفسد كل شيء أحبه كعادته ....... "
مدت كرمة يدها المرتجفة لتمسك بكف محمد تستمد منها الثبات و الشجاعة ... قبل أن تدير وجهها الى حاتم لتقول برقة مجددا
( تعال يا حاتم .......... )
استدار اليها ينظر اليها بطريقة نفذت الى روحها بقوة ..... ففغرت شفتيها قليلا تبادله النظر قبل أن يقترب منها ليمسك بيدها الممتدة اليه هذه المرة .....
بقت مكانها تنظر الي كفها في يده التي تطبق عليه ببطىء وقوة .... و هو كذلك كان ينظر الي كفيهما ...
ثم جذبته ليتبعها بصمت .... تنظر اليه و هي تجره خلفها كل لحظة ..... الى أن جلسوا ليتناولو صعامهم بصمت قلق مشحون ....
كانت تنظر اليه بطرف عينيها ..... تراقبه .... تتأمل فكه القوي ... شعره الجميل و الذي نالته بعض الفوضى من أصابعها الخرقاء ... و كلما انتبهت تجده يبادلها النظر بطريقة لم تفهمها ... فتبتسم بسرعة باشراق تحاول أن تزيد بريقه كل مرة .....
مد يد بمعلقته الى فمها ... ففتحته تلقائيا و هي تأكل بصمت , ... مرة بعد مرة .... الى أن همست أخيرا بارتباك لوجود محمد الذي كان منقضا على الأكل دون ان يعيرهما اهتماما
( كل أنت يا حاتم ........ )
ظل ينظر اليها قليلا ... قبل أن يقول بصوتٍ أجش
( أحب حقيقة أنني أصبحت قادرا على اطعامك بيدي كلما أردت ..... )
احمر وجهها بشدة و هي تعاود النظر الى وجه محمد المتجه الى طبقه ... بينما كانت تمضغ الأكل بعصبية و خجل و توتر ..... أصابعها تمر على الشريط الحريري المحيط برأسها ....
تتلمس وجنتها المحترقة ..... قبل أن تمدها بقلق و تلتقط قطعة لحم صغيرة من طبقها على أطراف شوكتها , لتمدها الى شفتي حاتم في المقابل ....
فهجم عليها دون تردد و عينيه على عينيها .... فاحمر وجهها أكثر و كأنها الحركة الأكثر حميمية على الإطلاق ......
فأعادت وجهها الى طبقها و أقسمت الا تعيدها مجددا .... " في وجود محمد " ......
و بعد انتهاء الطعام أشارت كرمة الى محمد بطرف عينيها .... فأومأ بملل و دون حماسٍ ... بينما كان حاتم ينقل نظره بينهما بشعور همجي في اقتحام تلك العلاقة السريعة بينهما .... بينما يبقى هو خارج تلك الدائرة ...
التفتت كرمة اليه تبتسم برقة قبل أن تقول
( اذهب لتغسل يديك ....... هيا ...... )
نظر اليها قليلا قبل أن يقول بجفاء
( تعالي معي ........ )
اتسعت عيناها قليلا قبل أن تضحك بعصبية لتقول
( سأحمل الأطباق الى المطبخ أولا ........ هيا اذهب أنت )
نهضت من مكانها و هي تدرك عيناه اللتان تدوران بجنون حول قدها المكتنز في الفستان الحريري ...
الا أنه نهض ليجمع الأطباق معها ... فتنهدت يأسا و هي تقول بغيظ
( ماذا تفعل يا حاتم بالله عليك !! ......... )
قال بهدوء
( أساعدك .............. )
تركت ما بيدها ... لتأخذ ما بيده بالقوة , لتدفعه بقوة كي يبتعد ... الا أنها اكتشفت أنها تتحرك في مكانها دون أن تقدر على زحزحته خطوة ....
فتوقفت لتزفر بقوةٍ مطيرة خصلة مموجة منسابة من تحت الشريط الحريري على وجهها و هي تقول
( تلك وظيفة الزوجات و يمكن لأمينة حبيبتي أن تساعدني .... هيا ابتعد من هنا )
تطوع محمد قائلا
( أمينة في سابع نومةٍ الآن ........ )
مطت كرمة شفتيها و هي تقول بغيظ
( نشكر لك تلك المداخلة العميقة يا محمد ...... )
ثم صرخت أخيرا بجنون
( اخرجا من هنا ........ الآن ..... )
ارتفع حاجبي حاتم ومحمد بنفس الحركة تماما .... قبل أن تخفف كرمة من حدة لهجتها و هي تقول بوداعة
( سأنظف الأطباق صباحا ...... هيا ابتعدا ..... شووو شوووو .... )
ابتعدا في النهاية ..... فزفرت كرمة بقنوط أخيرا و سارعت لتبعد الأطباق الى المطبخ .... ثم نظفت الطاولة وأحضرت قالب الحلوى .... بينما ملأت كؤوس من الكريستال بالماء ...... لتضع على سطح الماء في كل منها شمعة خفيفة معطرة قابلة للطفو .... و تشعلها بحرص .....
حتى امتلأت المائدة بالكؤوس المشتعلة ..... ثم وضعت بعض الشموع في قالب الحلوى .....و أشعلتها ...
اسرعت لتخرج الهديتين المغلفتين بجمال لتضعهما بجوار القالب بوضع فني .....
أنتهت أخيرا لتنظر الى تنظيمها مبتسمة بفخر قبل أن تطفىء الأنوار .... حينها بدا المكان يشع بجمالٍ خاص ....
لم تعلم أن حاتم كان قد عاد ووقف عند الناحية المقابلة من الطاولة ..... ينظر الى مدى جمالها المتألق بين الشموع و هي تنظر اليها بابتسامة لا يفارقها حزن جميل .....
ثم تنهيدة حارة ...... كانت كفيلة بإشعال نار حاتم و ألمه ...... حينها فقط رفعت كرمة وجهها لتفاجأ بوجوده أمامها ... وجهه القوي مضاءا على ضوء الشموع الضعيفة ....
ينظر اليها عاقدا حاجبيه و كأنه يتألم ..... ففغرت شفتيها قليلا بنفسٍ مرتجف .... و تلك اللحظة بينهما جمدت العالم في الخارج ....
لكنها فجأة أفسدت اللحظة و هي تصرخ فجأة بغضب
( لم أسمح لك بالعودة بعد يا حاتم ........ )
لم يرد على الفور ثم قال أخيرا بجفاء خافت
( ما هذا ؟!!! .............. )
زفرت بقوة و هي تلوح بذراعيها بحنق
( مفاجأة ..... يوم ميلاد سعيد .... أوووووووف .... الذكور هم الأفضل في افساد كل شيء )
ظل ينظر اليها قليلا .... قبل أن يقول بصوت أكثر خفوتا
( يوم مولدي فات منذ فترة ........... )
نعم تعرف حق المعرفة .... و لم تحب التطرق الى ذلك الحدث مجددا ..... لذا لم تعرف ماذا تفعل , من المؤكد أن ذاكرته عادت الى فعلتها الحمقاء السابقة ..... فأخفضت وجهها بيأس
محمد محق .... هذا الإحتفال بائس ....
الا أن حاتم وفر عليها عناء القلق الذي افترسها بوضوح و قال بهدوء
( هل هذا هو ما أخرك كل هذا الوقت ؟؟ .......... )
رفعت كرمة وجهها اليه ببطىء ..... و هي تنظر اليه ممسكة بظهر المقعد أمامها كي تدعم نفسها
يكفي أن توميء برأسها ...... فقط ايماءة صغيرة كي تنقذها , الا أنها .... لا تستطيع الكذب عليه أبدا
اكتشفت أن بعينيه سحر غريب .... يجعلها غير قادرة على الكذب عليه مطلقا ....
تماما كأمينة أمام " السيد " في الثلاثية الشهيرة .....
سيكون بينهما حوار طويل .... لكنها أرادت تأجيله قليلا ..... لأنها تعرف عواقبه , و كانت تطمع أن تخفف فرحة الحمل الذي كان من وطأة هذا الحوار ...
لم تتحرك و هي تنظر اليه بصمت .... فعلم أن الإجابة هي " لا " لم تستطع مغادرة شفتيها .....
فلم يتابع ..... لم يصرخ كعادته ... لم يسألها .... فقط ظل ينظر اليها ينتظر أن تتكلم بنفسها .... فهمست بخفوت
( أريد أن نطفىء الشموع أولا .......تأتي الي أم آتي اليك ؟؟؟ ..... او ربما نلتقي في نصف الطريق ؟؟ ... )
لم يتحرك من مكانه .... وهو ينظر اليها نظراتٍ غير متهاونة , فتنهدت بتعب و همست
( آتي اليك أنا و أمري لله ........ )
اقتربت منه ببطىء و هي تشعر بأنه على حافة أن يفترسها في أي لحظة ... حتى بدأت تشعر بالتسلية و هي تختبر مدى صبره ....
وصلت اليه لتقف بجواره كتفها يعلو مرفقه قليلا ..... ممسكة بظهر مقعد بجوار المقعد الذي يمسك هو بظهره
ثم رفعت اليه وجهها الذهبي على ضوء الشموع
( كم أصبح عمرك ؟؟ ....... )
ظل ينظر اليها طويلا بملامح صلبة قبل أن يقول بنفس الجفاء
( منذ أن عرفتك ...... أحسبيه أنتِ اذن , أنتِ ماهرة في الحساب ....... )
فغرت شفتيها من سماع تلك العبارة الرومانسية و التي تتناقض تماما مع جفاء صوته و صلابة ملامحه ...
ثم لم تلبث أن ضحكت بعصبية و هي تقول بذهول
( كم أنت رومانسي !! ......... )
اطرقت بوجهها و هي تتشبث بظهر مقعدها ..... ثم تابعت بخفوت دون أن تنظر اليه
( كان هذا ........ من أجمل ما سمعت .... )
رد حاتم ببساطة
( تعرفين أنها الحقيقة ............ )
تنهدت بقوة و هي ترتجف كتلميذة مرتبكة .... قبل أن ترفع وجهها اليه لتقول بصدق و حرارة
( كل عام و أنت بخير يا حاتم ...... كل عام ...... و أنت معي )
اتسعت عيناه قليلا ..... قبل أن يرفع يده ليحيط بها وجنتها بقوة ليقول بصوتٍ أجش مشتعل
( كل عام و أنتِ حياتي يا كرمة ..... حبي ... روحي .... و حظي الأجمل في الحياة ..... )
ابتلعت ريقها أمام تلك العاطفة الخالصة ..... حينها لم تستطع مقاومة أن تنال بعضا من السعادة و هي ترتفع على أصابع قدميها لتحاوط عنقه بذراعيها و هي تطبع شفتيها على وجنته بقوة هامسة
( شكرا لك ....... شكرا لك .... )
هز رأسه بيأس وهو يقول بغضب ضاما اياها بقوةٍ عنيفة الى صدره
( غبية أنتِ يا كرمة .......... )
غشاهما ضوء مفاجىء جعلها تشهق لتنزل على قدميها و تنزل من ذلك العالم الذهبي بقوةٍ الى أرض الواقع ....
بينما قال محمد ببساطة
( ماذا تفعلان ؟!! ..... ماهذا ؟!! ..... هل أنهيتما الإحتفال !!! ..... جيد .... المناسبات العائلية تخنقني )
قال حاتم بصرامة دون أن يتخلى عن خصر كرمة وهو يتنفس بصعوبةٍ قليلا
( ما دمت لا تفضلها لماذا لازلت مستيقظا حتى الآن !!! ..... اذهب لتنام .... )
حينها قالت كرمة بغضب
( لن ينام محمد ...... فهو لديه شيء يريد أن يقدمه لك ....تعال يا محمد قدم هديتك الى والدك )
نظر محمد الى الهدية المغلفة و التي أمسكتها كرمة بين يديها ليقول ببساطة
( لم أحضرها ....... أنتِ أحضرتها ...... )
قال حاتم بجفاء
( اتركيه براحته يا كرمة .... لا تضغطي عليه )
نظرت اليهما بقلق ثم قالت
( هل تشاجرتما أثناء غيابي ؟؟ ...........)
لم يجبها أحدهما .... بل لم ينظرا الى بعضهما من الأساس كطفلين عنيدين .... فرفعت كرمة ذقنها و هي تقول
( اذن لن تأخذ الهدية اليوم ...... لن تأخذها قبل أن تتصالحا , لكن يمكنك أخذ هديتي .... فأنا لا أحمل ضغينة لك ..... )
شددت كرمة على الكلمتين الأخيرتين و هي ترمق محمد بنظرات مؤنبة ....
ثم مدت بالهدية المغلفة الى حاتم و هي تقول بأمل
( افتحها ............. )
مد حاتم يديه ليتناول الهدية بين يديه .... يتأمل شكلها الجميل بصمت و على وجهه كان هناك انفعال قوي هدأ القليل من ملامح وجهه الصلبة و الغاضبة منها ....
ثم قال أخيرا بخفوت
( لم يكن عليكِ فعل ذلك يا كرمة ...... )
همست كرمة برقة
( بلى ...... لو كان الأمر بيدي لكنت أهديتك شيئا أغلى ...... )
ظل حاتم ينظر الى اللفة في يده ..... ثم رفع وجهه الى كرمة ليقول بهدوء
( سأؤجل فتحها يا كرمة .......... )
بهتت ابتسامتها و امتقع وجهها ... بينما همست بتلعثم
( الا تريد ....... الا تشعر بالفضول .... لرؤيتها على الأقل .... )
تلمست أصابعه الورق الجميل .... قبل أن يقول
( ليس اليوم ............ لا ....)
شحب وجهها .... فأطرقت دون أن تجيب فتذمر محمد قائلا بغضب
( لماذا تفعل ذلك ؟؟ ........ أنت دائما تفسد كل شيء و تتسبب في رحيل الجميع )
ساد صمت متوتر .... بينما نظرت كرمة الى وجه حاتم الذي شحب لعينيها فقط .... فالتاعت روحها عليه .... في تلك اللحظة شعرت بأنها توجعت من أجله جدا .....
استدارت كرمة الى محمد تقول بخفوت
( عيب يا محمد .... عامة لقد حرم والدك نفسه من الرقصة معي ....... بينما ستكون أنت أميري لهذه الليلة )
ابتعد محمد وهو يقول بغضب
( سأذهب لأنام ...... )
الا أنها تركت حاتم وحيدا لتلحق بمحمد بسرعة .... و هي تقول
( ليس بعد ....... لن تنام و أنت غاضب ..... تعال معي .... )
بينما أخفض حاتم وجهه لينظر الى الهدية المغلفة مجددا .... بورقها اللامع الأحمر و الذهبي يعد نفسه وعدا بعيدا ..... بعيدا جدا .... .....
حين ذهب ليبحث عنهما بعد وقت طويل ..... انساقت قدماه خلف مصدر موسيقا ناعمة منبعثة من المسجل الضخم في غرفة الجلوس ...
فاتجه اليهما ليقف متسمرا مكانه وهو يرى كرمة ... تضع يدها على كتف محمد ... و الأخرى تتوازن على يده .... بينما يراقصها مبتسما و كأنها صديقته في المدرسة ....
استند حاتم بتأوه غاضب الى اطار الباب وهو يتأمل ملامحها المشرقة و التي تشرق لمحمد فقط ...
بينما كان جسد كرمة يقشعر و هي تشعر وجوده خلفها .... فابتسمت ... تعرف انه لا يقاوم ملاحقتها ابدا ....
فتعمدت التمايل و الرقص برشاقة .... و هي تشعر بغرابة بأن كل ذرة من جسدها تحترق تحت أنظاره .....
بداخلها عفريت شرير يستمتع بتلك السيطرة الخطيرة التي يفرضها حاتم على نفسه .... حتى الآن لم تخبره أين كانت .... مع أنه ليس مكانا مفرحا .... الا أنه لا يعلم حتى الآن وهو غاضب ... و هي تعلم أنه غاضب و مع ذلك .... يقاوم و يقاوم .... يقاوم غضبه ... و يقاوم سحرها عليه .....
ذلك السحر التي باتت تثق به كل يومٍ عن الآخر ......
تبدل اللحن الى لحن سريع مرح .... فتركت كتف محمد لترفع شعرها المتموج بيديها عاليا و هي ترقص بحماقةٍ أمام عيني حاتم المراقبتين من الظلام .....
لا يمكنها الإنكار ..... تشعر بالسعادة و هي تستشعر تلك السيطرة المؤلمة التي يفرضها على نفسه ....
بالرغم من أنه حاد الطباع .... حامي الدم و الأعصاب .... يغار عليها من نفسه كما قال ....
تكاد نظراته تحرق المكان ما أن يرى احد زملائها يحادثها ..... يغار عليها من مطربها المفضل و يبدل القناة بتأفف ما أن يصادف تواجده وهما جالسين معا على الأريكة هنا ليلا .. و رأسها مستلقي على حجره ....
زادت من رعة رقصها الأحمق و كل ما بها يرقص على الرغم من إحباطها ....
فإن كانت أمومتها قد انهزمت الليلة كسنواتٍ طويلة خلت .... فلا مانع من أن تستمتع اذن بأنوثتها و ثقتها بنفسها ........
بينما كان حاتم ينظر اليها بتوهج مشتعل كاشتعال فستانها .... انها تحرقه حيا .... يود لو يخبئها عن العالم بأسره .... في برجٍ عالٍ مفتاحه في يده هو وحده ..... لكن و ماذا عن المفتاح المفقود لقلبها .....
زفر نفسا قاسيا محترقا وهو يهمس
" هل كان حقا الحظ الأجمل ؟؟ .... أم الأشقى يا كرمة العنب .... "
قالت كرمة بسعادة و هي تراقص محمد كأمير صغير
( أنت راقص رائع .......... )
قال محمد وهو يبتسم بثقة و هدوء
( و أنتِ كذلك ......... بالمناسبة , تبدين جميلة جدا الليلة ..... )
أمالت كرمة وجهها و هي تسأل رافعة احدى حاجبيها بخبث
( حقا !! ....... اجمل من جودي ؟؟ ....... )
عبس حاتم عند الباب ... و أعصابه تتنبه .... جودي !!! .... من هي جودي !!! ......
الا أن محمد قال بغيظ
( لكنك لازلت حمقاء يا كمرة ....... انتِ الأنثى المثالية بكل عيوبها ... أتعرفين ذلك ؟؟ ....)
ارتفع حاجبي كرمة و حاتم معا ..... بينما قالت كرمة عابسة و هي تعي وجود حاتم خلفهما ....
( و أنت الابن المثالي الأكثر حماقة .... أتدرك ذلك .... لقد أفسدت يوم والدك ..... )
قال محمد و قد تلبدت ملامحه
( لا بأس .... سترتاحان مني , فغدا سأذهب الى أمي ....... )
تسمرت كرمة مكانها فجأة .... و سقطت ذراعيها فتهدل شعرها بكآبة ... و هي تهمس بوجوم
( ماذا ؟؟..... لماذا ؟!! .... هل فعلت شيئا أغضبك ؟؟؟ ...... )
توقف محمد وهو يقول ببساطة مندهشا
( لا ....... انه موعد ذهابي لأمي ....... )
مالت عينا كرمة بصدمة غير متوقعة .... بينما همست بشرود
( آآآه ....... أكيد ....هل أنت سعيد ؟؟ ..... )
قال محمد وهو يهز كتفيه بلا انفعال
( نعم ..... زوجها طريف جدا و دائما ما نقوم بأشياء مجنونة معا ..... )
امالت كرمة وجهها جانبا .... و قلبها يوجعها على المسكين الواقف خلفهما يراقبهما ... و هي تعرف أنه يحب أبنه أكثر من نفسه ..... من يغار بتلك الصورة و لديه كل تلك المشاعر التملكية تجاه زوجته ... من المؤكد أنه يشعر بأكثر منها تجاه ابنه الوحيد ..... لكنه يسيء التصرف و كأنه يحاول القيام بدور الأب بمنتهى الجدية كصبي صغير مشاغب يتقمص دورا .....
نظرت كرمة الى محمد و قالت بخفوت
( من الرائع ان يكون صديقا لك ........لديك والد و صديق ... أنت أكثر حظا مني ... أنا لدي صديقة واحدة فقط ..... )
قال محمد بهدوء
( فريدة ؟؟؟ .......... )
هزت كرمة رأسها نفيا و هي تقول بخفوت
( لا ...... صديقة اسمها وعد ... صديقتي منذ أيام دار الرعاية .... عشنا معا أياما صعبة للغاية , لكننا لم نفترق يوما ..... الى أن كبرنا ... فافترقنا ..... )
قال محمد باهتمام
( لماذا ؟؟؟ .................. )
اخفضت كرمة وجهها الواجم و هي تهز كتفيها دون أن تعلم سببا ... ثم قالت
( البعد لا يمنع الحب ...... فأنا لازلت حتى اليوم أساعدها في التحضير لعملها .... و هي لا تزال تخيط لي ملابسي ... حتى هذا الفستان الذي أرتديه الآن .... لكن .... أسرارنا تباعدت ... بات لكل منا ما تخفيه عن الأخرى و تحرج من أن تخبره لها ......... )
قال محمد وهو يجلس على ذراع الأريكة
( و أين هي الآن ؟؟ .......... )
قالت كرمة مبتسمة برقة
( زوجها خطفها ...... لذلك أقوم أنا و أختها بالتحضير لعملها نيابة عنها .... )
رفع محمد حاجبيه وهو يقول بدهشة
( زوجها خطفها ؟!!! ........ الا تعد تلك جريمة ؟!!! ...... )
اتسعت ابتسامة كرمة أكثر .... و مع ذلك بحزنٍ أعمق وهي تقول
( بل يعد عشقا .......... )
أظلمت عينا حاتم .... وهو يسمع نبرة الحزن في صوتها و التي بدت كقذيفةٍ قصفت صدره و مزقت أحشاؤه ....
قالت كرمة و هي تداعب شعر محمد الناعم لتهمس بحزن
( من يعلم !! ..... قد تخطف زوجتك ذات يوم ......... )
ابتسم محمد وهو ينظر اليها تتحدث بحالمية ..... و للحظة شعر بأن الإناث لسن سيئاتٍ تماما ... من الممكن بلعهن بكوب ماء ..... أو ربما .... عصير فراولة ليتناسب مع رقهتن الساذجة .....
قال محمد أخيرا
( بالمناسبة ....... أين كنتِ الليلة ؟؟ ..... فلقد أوشك حاتم على خطفك و حينها كنا ارتحنا منه بعد أن يتم وضعه خلف القضبان ...... )
عادت كرمة لتميل بوجهها للخلف قليلا و هي تعرف ان حاتم خلفهما .... خارج الغرفة في الظلام ...
انتهى التلذذ و اللعب ...... و انتهى المرح ...... و بهتت نشوتها المؤقتة .....
فقالت وهي تعلم أن أوان الحقيقة قد آن
( كنت عند الطبيبة ...... لأن ...... )
صمتت تأخذ نفسا محبطا لكن و قبل أن تجيب كان حاتم قد شعر بضربةٍ في معدته من سماعة لكلمة طبيبة .... هل هي مريضة ؟؟؟ ..... لماذا تخفي عنه الذهاب الا اذا كانت تخفي عنه شيئا خطيرا ...
رفع يده الي صدره بألم ..... بينما اندفعت ساقاه للداخل بقوة ... و قبل أن ينطق محمد و كرمة ... كان حاتم قد قبض على معصمها بعنفٍ بالغ منبعه رعبه دون أن يدرك عنف أصابعه وهو يقول بصوتٍ آمر
( اذهب الى سريرك الآن يا محمد ..... أنا اريد كرمة في موضوع خاص ... )
ثم جرها خلفه بقوةٍ وهو يتنفس بصعوبة ... بينما كرمة تقول بقلق من خلفه
( انتظر لحظة يا حاتم .................. )
الا أنه سحبها بقوةٍ الى غرفتهما .. و أغلق الباب خلفهما في الظلام ... ثم سرعان ما أشعل الضوء فهالها مظهر وجهه ... كان مرعبا ... مرتعبا ... وهو يتراجع بها الى ان التصقت بالجدار ليرفع ذقنها بيده وهو يقول بصوتٍ اجش منقطع الانفاس
( هل أنتِ مريضة ؟؟؟ ......... )
فغرت شفتيها امام هذا الارتجاف الذي ينبعث من جسده الضخم منتقلا عبر جسدها المسحوق تحته ....
فهمست برقة
( أنا بخير يا حاتم ...... اهدأ قليلا .... )
الا ان صوتها الهادىء لم يفلح في تهدئة الجنون العاصف على وجهه وهو يهدر بعنف خافت النبرات
( أي طبيبة ؟؟ ..... و مما تشكين ؟؟ .... وجهك غريب التعابير منذ أن عدت ِ ..... )
كانت تنظر اليه بذهول .... غير مستوعبة ذلك التحول من الجفاء الي هذا القدر من الاهتمام ... بل و الذعر ... فهمست بذهول تتمادى قليلا و هي تختبره
( ربما أكون قد اكتشفت اصابتي بمرض خبيث مثلا ؟؟!! ........ )
فقد وجهه ألوانه .... جمدت عيناه .... حتى قلبه شعرت بأنها لم تعد تشعر بضرباته .....
و حينها همست لنفسها بغرابة
" أنا لست وحيدة في هذه الدنيا ..... لدي أسرة , لم أشعر بها من قبل "
مدت يديها المرتجفتين .... لتفتح أول زرين من أزرار قميصه ... ثم تسللت احداهما تتلمس صدره برقة ... لتنحي اليه تقبل موضع القلب الضخم الخائف و هي تهمس
( أنا بخير .... لا تقلق , لقد كانت طبيبة نسائية ....... )
شعرت ببعض أنفاسه تهدر باضطراب فوق جبهتها ..... لكنه لم يطمئن بعد .. فهدر بخشونة و قلق
( تبا لك يا كرمة انطقي .... توقفي عن التلاعب بأعصابي , أعرف أنكِ تستمتعين بالأمر .... ما حاجتك لها ... مما تشكين ؟؟ .... )
ابتسمت رغما عنها و هي تستمع الى تطفله المجنون في أدق أمورها الخاصة ... لكن رغما عليها عليها التوقف عن مراقبة كل ردات فعله حاليا و الإنذهال بها ....
عليها أن تبدأ حوارا تأخر بينهما ....
فقالت بخفوت مضطرب
( كنت ....... أجري تحليل لإختبار ح ...... حمل .... )
للحظات لم يبدو أنه قد سمعها أبدا .... ظل مكانه ينظر اليها بنفس الملامح القلقة ... فقط أنفاسه المجنونة كانت تضرب جسدها .... ثم عقد حاجبيه ببطىء وهو يعيد مجددا محاولا الإستيعاب
( حمل ؟!!! ..... كيف ؟؟ .... ظننت أن ..... أن الأمل معدوم !! .... لقد مرت عشر سنوات ..... و أنتِ أخبرتني أن .... )
لم يكن مستوعبا ما يقوله .... و هي كانت واجمة مضطربة .... غير قادرة على مواجهة عينيه في تلك اللحظة .... بينما سألها حاتم بعدم فهم
( هل كان هناك أملا للعلاج ؟!!! .......... )
ابتلعت ريقها بتوتر ... ثم همست أخيرا بخفوت
( لا علاج يا حاتم ........ أنا لم أحتج الى أي علاج من قبل ...... )
ازداد انعقاد حاجبيه وهو يهز وجهه قليلا ... بينما همست متابعة قبل أن تفقد شجاعتها
( أنا يمكنني الإنجاب ..... لقد كنت شبه متأكدة من انني حامل ..... )
بهتت ملامح حاتم ... و أظلمت عيناه بشدة بإدراك مفاجىء وهو يقول بذهول قاتم
( كان العيب به هو .......... )
شحب وجه كرمة و عقدت حاجبيها بألم و هي تقول بقوة و قسوة
( ليس من حقنا انتهاك ما يخصه ..... ما يؤلمه .... ولولا الظرف الذي أنا فيه حاليا لما كنت نطقت بكلمة )
اتسعت عينا حاتم وهو ينظر اليها بذهول ما بين الصدمة و الذهول .. ثم قال بشرود غريب
( عشر سنوات !!! .... حرمتِ نفسك من الأمومة عشر سنوات من أجله !!! ..... لانك تحبيه ... لأنه بدمك .. بروحك .... لأنه عشقك يا كرمة .... لأنه كان يغنيكِ عن اطفالٍ من صلبه .... )
عقدت كرمة حاجبيها أكثر بغضب بينما هتفت بقوة
( كفى يا حاتم ..... ليس من حقك , لقد أمرتني من قبل الا نعاود ذكره مجددا على الرغم من شدة احتياجحي لسماعك .....و ها أنا آمرك بالمثل و خاصة في هذا الأمر ... فهو أمر خاص به , لا يخصك .... )
جنت عيناه و التهبتا بينما يداه تطبقان على خصرها تكاد ترفعانها عن الأرض وهو يقول بخفوت شرير
( لا يخصني !!! ..... أخبرتني أنكِ لا تستطيعين الإنجاب ثم تزوجنا ... الا ترين من أبسط قواعد اللياقة أن تتذكري يوما بأن تخبريني بإمكانية أن أكون أبا لأطفالك !! ..... أم أنكِ ببساطة أغفلتِ هذا الموضوع و كأنه شيء غير هام بالنسبة لك ...... )
كانت كرمة تهز رأسها نفيا و هي عاقدة حاجبيها بذهول بينما تابع حاتم بحقد بالغ
( بقيتِ معه عشر سنوات يا كرمة تدفنين حلم الأمومة بداخلك ..... بينما أغفلتِ حتى عن الإهتمام ولو للحظة بامكانية حملك مني ..... )
هتفت كرمة بقهر
( هذا ليس عدلا ...... ليس عدلا , اليوم .... اليوم .... لو رأيتني عند الطبيبة و أنا أبكي بكل غباء لمجرد أنني لم أكن حاملا على الرغم من أنه لم يكد يمر شهرين على زواجنا ... لما كنت تقف الآن لتتهمني بتلك الإتهامات الظالمة ...... )
الا أنه أطبق على خصرها أكثر وهو يهدر بعمق و غضب متوجع
( لماذا لم تخبريني ؟؟ ...... كيف أغفلتِ عن ذكر خبرٍ كهذا ... و أنا أتعذب كلما رأيتك تحملين طفلة فريدة و تذوبين عشقا لها ....... )
هتفت كرمة بقوة
( أنا أتمنى الحمل ....... أتمنى أن أصبح أما بكل ذرة في كياني المحروم .... )
الا أن حاتم لم يهاون وهو يقول بخفوت لاهث
( ممن يا كرمة ؟؟؟ ....... الحمل بطفل من ؟؟؟ ....... )
اتسعت عيناها بارتياع وهي تقول
( ياللهي !! ....... لا أصدق أنك نطقت بهذا للتو !! ..... )
الا أنه ترك خصرها ليمسك بوجهها وهو يقول بوجع
( أعلم حلمك بالأمومة ...... و ما أنا الآن الا الأداة المتوفرة لتحقيق حلمك ... بينما في بدايته لم يكن لديك ذرة اهتمام لإخباري بخبر هو الحياة نفسها بيننا ...... لكن والد أطفالك الذي تتمنينه ليس له سوى صورة واحدة في خيالك...... )
هزت رأسها نفيا ببطى بينما انسابت دموعها على وجهها بصمت .... جزء من كلامه كان صحيحا
في بداية زواجهما ... لم تهتم البتة بتعديل ما أخبرته .... بل الأسوأ ... لم ترغب في أن تكون أما لطفل غير طفل محمد .......لم تشأ أن تطعنه بأن تحمل و تكيده .... بينما هو عاجز عن ذلك ....
لكن كان هذا في فترةٍ لم تكن متزنة بها .... فترة نقاهة لم تتعدى أيامٍ قلائل في بداية زواجهما ..... هل هذا كثير عليها !! ..... لكن بعدها يشهد الله أنها تمنت الطفل أكثر من روحها .....
شهقت كرمة ببكاء خافت و هي تهمس بعذاب
( هذا ظلم ... أنت تحاسبني على فترة تعلم جيدا أنني لم أكن طبيعية فيها تماما .... أول مرة تكون ظالما معي يا حاتم ..... لو كنت معي اليوم .... لو كنت رأيت بكائي .... لو كنت دخلت قلبي ليلة أمس و أنا أعد الدقائق ناظرة الى السقف انتظارا للحصول على تأكيد الخبر كي أزفه اليك .... لما ظلمتني بهذا الشكل الآن .... )
كانا يتنفسان بقسوة ووجع .... لا يصدق أنه آلمها لهذا الحد
على ماذا يحاسبها ؟؟ ..... أنها لم تخبره أم أنها كانت من الحب بحيث ارتضت البقاء معه على الرغم من .... من كل شيء .... حتى بعد زواجه بها رفضت ان تفضح سره .... فأي حبٍ هذا !!
أغمض عينيه بوجع ..... بينما صوت بكائها الخافت يقطع نياط قلبه ....
همست كرمة من بين دموعها و هي تتشبث بجانبي قميصه المفتوح لتدفن وجهها بصدره باكية بقوة
تودعه دموعها ووجعها
( اريد طفلا يا حاتم ..... اتمناه و لا أقوى على الإنتظار .... أريد الطفل أكثر مما أردته أنت .... )
مد يده يضغط مؤخرة رأسها بقوةٍ ليدمغ وجهها على شعر صدره وهو يهدر بعمق
( لأنني أريدك أنتِ أكثر من أي شيء آخر في العالم ..... لم أهتم ولو للحظة بأنك لن تحملين طفلي ... كنت أريده فقط من أجلك أنتِ ..... أريدك أنتِ يا كرمة ...... أريدك أنتِ ... )
كان تأكيده الأخير هادرا بقوةٍ زلزلت كيانها ... فرفعت وجهها المغرق بالدموع اليه تنظر اليه برهبة ... فمسحت وجهها قليلا و هي تهمس بخفوت
( و أنا لك ...... أنا هنا يا حاتم ..... المسني ..... )
انعقد حاجباه بألم وهو يتأوه بقوة رافعا يده يتلمس جانب محياها الجميل .... نعم إنها هنا ... بين أحضانه ....
الا أنه همس بجنون
( أريد قلبك يا كرمة ...... أحبيني .... )
و دون أن يسمع جوابا تمناه و لن يعثر عليه من عينين جميلتين نظرتا اليه بعجز و أسى ...
انقض على شفتيها فاغرتين وهو يداهم كل حصونها .. يهدها واحدا بعد آخر .... بينما كانت من الإحباط و الضغط بحيث تلاشت به بجنون و هي تشهق من بين أنفاسه المجنونة بها ...... كانت تحتاجه و هو يحتاج النفاذ الى أعماق قلبها ....
لم تنم للحظة .... و تعرف أنه لم ينم بعد ما كان بينهما .... لكنها فضلت الإختلاء بنفسها قليلا ... فنهضت ببطىء و هي تسير بخفة على أطراف قدميها فوق البساط الزغبي ... فداست على أشلاء الفستان الحريري المسكين .....
تعلم أن أنظاره عليها لكنها تناولت روبها لترتديه و تخرج شعرها منه ليتناثر بهمجيةٍ حول ظهرها و كتفيها
اتجهت الى غرفة الجلوس حيث رقصت طويلا مع محمد ... و كان الفجر قد اقترب ..... ففتحت نوافذ الشرفة تستمتع بالنسيم البارد ليلطف من حرارة بشرتها .....ابتسمت قليلا وهي تسمع صوت اليمام ... فهو صوت تعشقه منذ أن كانت طفلة في الدار ... وكان هذا الصوت دائما يخبرها بأن الغد أفضل ....
ارتفع رنين هاتفها الموضوع على الطاولة الخشبية الأنيقة القصيرة ... فاستدارت اليه عاقدة حاجبيها
من سيهاتفها في هذا الوقت من الليل !!
رفعت الهاتف لتجد رقما غريبا ... فازداد انعقاد حاجبيها و هي تشعر بالقلق ... و ما أن فتحت و ردت بخفوت ....
حتى وصلها صوت رجولي تعرفه حق المعرفة .... صوت عاشت على نبرته لسنوات مراهقتها و شبابها كلها ... وهو ينطق أجشا ..متأوها باسمها ما أن سمع صوتها
( كرمااا .......... )
شهقت بصوتٍ عالي وهي تغلق الهاتف بعنف قبل أن تلقيه على الأريكة و كأنها حية سامة ....
.................................................. .................................................. ......................
نظرت الى وجهها في المرآة ... و هالها أن ترى شحوبه و ازرقاق لون شفتيها ....
كانت قد اغتسلت و ارتدت بنطالا من الجينز و كنزة صوفيةٍ واسعة ... بينما تهدل شعرها المبلل على ظهرها ...
تنفست بعنف وهي تنظر الى نفسها هامسة بغضب
( الآن ماذا ؟!! ..... ماذا تملكين سوى انتظار رأسه أو أن يأتي حاملا رأس يوسف ..... )
تنهدت بقوة و هي تهتف بغضب
( اللعنة .... لماذا يكون الرجال أحيانا بمثل هذا الغباء !!! ..... )
صمتت للحظات تنظر الى ملامح وجهها العالية التفاصيل .... بينما قالت بخفوت من شدة وحدتها وهي ترفع يدها لتتلمس وجهها
( لقد خسرت الكثير من وزني ........ لكن لحسن الحظ أن العناية التي تلقيتها حسنت من شكلي كثيرا ...... )
أخذت تميل بوجهها يمينا و يسارا ... تراقبه و تقيم شكلها ... كم كانت تنوي الإهتمام بنفسها الفترة التي تسبق المعرض كي تبدو متلألئة به ....
لكنها هنا لن تجد عناية سوى الصابون فقط .... لذا على الأرجح ستتشقق بشرتها و يتقصف شعرها
استدارت بقنوط بعيدا عن المرآة ... و هي تستند الى طاولة الزينة .... بظهرها متنهدة بيأس و هي تقول
( عشرة فساتين لم يتم تفصيلها ..... عشرة فساتين متبقية ستخرج من العرض , لا لشيء سوى لأن السيد أمر بذلك ....... )
أخفضت وجهها و هي تقول بغضب مكبوت
( كم تعبت .... كم حلمت ...... كم تمنيت يوما مثل هذا اليوم ..... و بعد أن كاد يصبح الحلم حقيقة , يأتي زوجي العزيز و تنتابه نوبة تملكية عنيفة ما أن شعر بأنني قررت الإبتعاد .... )
رفعت وجهها تخاطب الفراغ
( الآن أصبحت بمثل تلك الأهمية لديه !! ........ لدرجة أنه الآن في طريقه كي يقتل رجلا لأجل عيني .. )
رفعت يدها فجأة الى صدرها و هي تشعر بإختناق رهيب .... تريد استنشاق هواءا بأي صورة قوية ... لا تكفيها فتح النوافذ ....
خرجت من غرفتها بصمت و هي تتأمل أرجاء المكان الصامت الباهت في غيابه ... على عكس اشتعاله في وجوده و كأن الحرب قد اندلعت ....
فتحت باب البيت .... فوجدت أنه لم يوصده هل هو واثق بأنها ستنتظره كأي زوجة صالحة بعد أن ينتهي من قتل غريمه ... أم أنه ببساطةٍ كان في حالةٍ من الجنون الغبي منعته من التفكير السليم ....
وجدت أن الأمطار قد توقفت .... و بدا الجو مندى بقطراتٍ رماديةٍ عالقة .... بينما برودته كانت لطيفة منعشة .... خاصة مع وقت الغروب الشاحب ....
خرجت وعد و أغلقت الباب خلفها .... بينما دست يداها في جيبي البنطال الضيق و هي تتلفت يمينا و يسارا بقنوط ... تبحث عن وجهةٍ معينة تمشي اليها ....
سارت ببطىء ... تستمتع بهدوء المكان الذي بدا كصفيرٍ هادىء في أذنيها .....
المكان كان منظما بجمال بسيط ... أربعة بيوت تشبه بيت سيف كلا منها على بعد كبير من الآخر مما يمنح كل منهم الخصوصية .... لكن في نفس الوقت يجعل المكان ليس مهجورا أو مخيفا ....
بيت واحد من الأربعة بيوت ... كان هو الأكبر ... و الأقرب للبحر ....
البحر بدا بعيدا نسبيا ... لكنها كانت تستطيع رؤيته .... و شعرت برغبة رهيبة في السير على رماله ...
تطاير شعرها المبلل كالأراضي من حولها ... و تركت للهواء مهمة تجفيفه .... فبدا فوضويا جميلا ...
قادتها قدماها الى البحر الذي بدا لها يقترب في كل خطوة .... و كذلك البيت الأكبر ....
شرد تفكيرها و الهواء البارد يضرب وجهها و شعرها ....
بداخلها قوتان تجذبانها بجنون الى ناحيتين متعاكستين .....
قوة تجذبها للخنوع .... للقبول برغبة سيف و البقاء بقربه ....
على من تكذب ..... نعم هي تحب البقاء معه ... تحب الشعور بأنوثتها معه ... تحب كل ما يثيره في نفسها من مشاعر لم تعرفها قبله ..... تحب ضحكتها النادرة له .... و تحب ابتسامته ما أن ينظر الي عينيها
تحب سماعها لعبارة أن عينيها هما الأجمل ... حين تخرج من بين شفتيه .....
تحب ..... تحب ....
توقفت مكانها و هي تنظر الى البحر الذي اقترب أكثر .... و هي تهمس بوجوم
( هل هذا هو الحب ؟!! ...... هل هذا هو ما يجبرها على التخلي عن احترامها لنفسها و البقاء مع سيف للتمتع ما يمنحه لها من مشاعر مترافقة مع مساعدات ... و .... اهانات هو غير قادر على السيطرة عليها .... )
أظلمت عيناها الرماديتان .... و ارتجفت شفتيها بشدة ... لا تعلم لماذا تذكرت كرمة الآن ....
بات وجه كرمة هو أول ما يطالعها حاليا .... لطالما أوجعتها وعد .... و بينت لها أن حبها لمحمد ينتقص من كرامتها و آدميتها
كيف لذلك الشعور المرفه المسمى بالحب أن يجعل انسانة ناجحة مثلها تقبل بالإهانة تلو الأخرى ....
تقبل بالفتات الذي يعرضه عليها ..... و تكون سعيدة ... بل و تدافع عنه .....
شحب وجه وعد و هي ترى انقلاب الأدوار الآن .....
لا تزال تتذكر صفعة كرمة لها ما أن تجرأت على اهانة محمد ..... حتى كادت صداقتهما على أن تنمحي في لحظةٍ بسبب هذا الحب المشوه .....
و الآن ..... لقد نجت كرمة بنفسها ..... نجت و تمكنت من الوقوف على قدميها ....
بينما هي قبلت بأول من عرض عليها المساعدة في لحظة احتياج .... ليس لأنه الوحيد .... لكن لأن انجذابا بينهما كان أقوى منها .... سهل لها القبول ....
إهانة تلو اهانة يرافقها اعتراف بحب لا تعرف ..... سيطرة على روحها و كرامتها .....
و الآن بعد أن أوشكت على الوصول لحلمها و بناء كيان لنفسها ....
ها هو ذلك الشعور المسمى بالحب .... يحثها بمكرٍ خادع على نبذ كل ما حققته خلف ظهرها و القبول ما يعرضه سيف ...
حتى اليوم لم تتوقف اهاناته لها ... و معاملته القاسية التي تنفجر ما أن تحاول الهرب من تحت سيطرته ...
نعم .... بداخلها رغبة في البقاء معه .... لتكون أنثى تنعم بحبٍ سمعت عنه و لم تصدقه الى أن جربته
رفعت وجهها الى السماء الرمادية بوجهٍ شاحب ..... و هي تهمس بوجوم
( نعم أنا أحب سيف ........ )
شهقت ببطىء و هي تشعر بنفسها توشك على الإغماء .... فالتقطت عدة أنفاس كي تقاوم الدوار بداخلها ...
و أسرعت الخطا الى البحر كي تجري على رماله الباردة المبللة ....
لكن وقبل أن تصل الى الرمال .. كانت قد وصلت الى البيت الأكبر ....
استمرت في السير بجواره و هي تتأمله كان بيتا حلو الطراز ... لكن ما جذب نظرها هو سوره الخشبي ... سور خشبي يدوي الدهان .... مفرغ بكل لوحٍ به قلب !! ....
سارت بجوار السور الذي لا ينتهي ... و عيناها تطولان بتطفل من بين الألواح الخشبية لتنظر الى الحديقة ذات الورود المختلفة .... و الأرجايح يدوية الصنع كذلك ....
عقدت وعد حاجبيها و هي ترى دميتين من القماش طريفتي الشكل لدرجة الغباء بين اثنين من الألواح و كأنهما معلقتين كنوع من الزينة
دميتان يدويتا الصنع .... بشعرٍ داكن و عينين خضراوين ......
طالت وعد بعينيها الى البيت حتى أعلاه ... لتجد سقيفة خشبيه ... ذات زجاج ملون ... بعضه مكسور بفعل الهواء القوي .... لكن السليم منها ينفذ المتبقى من أشعة الشمس الغاربة .....
كان بيتا ملونا دافئا ذكره بغرفة ملك التي كانت تسكن بها .....
أبعدت وعد عينيها عن البيت و هي تشعر بالحرج من تطفلها ..... ثم تابعت طريقها الى البحر حتى وصلت الى الرمال أخيرا .... فخلعت حذائها الأرضي الخفيف لتنطلق الى برودة الرمال التي دابعت أصابعها ...
كان البحر بموجه هادئا نوعا ما بعد الأمطار ..... رماديا بلون عينيها ....
فاقتربت أكثر قليلا .... تستنشق نسيمه , لكنها فجأة توقفت مكانها و هي تبصر شيئا غريبا ...
فعقدت حاجبيها و هي تمد رأسها كي تتأكد مما تراه ....وحينها تراجعت و هي ترفع حاجبيها بدهشة و هي تهمس
( مالذي ؟!! ......... )
اسرعت الخطوات فوق الرمال الباردة الى أن وصلت لطفلة صغيرة جالسة تلعب بالرمال .... ترتدي كنزة صوفية وردية تحت سترة بغطاء رأس ...
طفلة لا تزيد عن الثانية من عمرها .... خصلات شعرها البنية الناعمة تخرج في غرةٍ جميلة من تحت غطاء الرأس ....
كانت في شكل كرة ملتفة من كثرة الملابس الشتوية التي تحيط بها ... ملابس وردية و برتقالية و زرقاء
اقتربت وعد منها بذهول حتى انحنت على ركبتيها بجوارها و هي تهمس بخفوت كي لا تفزع الطفلة
( مرحبا !!! ..... ماذا تفعلين هنا وحدك ؟!!! ......)
رفعت الصغيرة وجهها الى وعد ...و التي رفعت حاجبها بتوجس و هي ترى الطفلة تأكل من الرمال بمنتهى الحرية و الأريحية ..... لكن عينيها كانتا غاية في الجمال ... داكنتي الخضرة و ذات بريق يفيض شقاوة ...
نظرت وعد حولها ... علها تجد أحدا من أهل الطفلة ... فلم تجد سوى بوابة مفتوحة للسور الخشبي ....
فأعادت نظرها الى الطفلة ذات الوجه الوردي بفعل العفرتة ..... و همست
( هل أهلك مجانين كي يتركوكِ هنا بمفردك ؟!!! ....... )
ضحكت الصغيرة التي بدت معتادة على الأغراب ....فابتسمت لها وعد و هي ترفع يدها لتتلمس جمال غرتها
لكن سرعان ما سمعت صوت امرأة تقول من خلفها
( مرحبا ............ )
التفتت وعد لتجد خلفها فتاة شابة في عمرها تقريبا .... جميلة , ذات شعر أسود طويل يكاد يصل الى وركيها ... و من عينيها عرفت أنها أم تلك الطفلة لا محالة ....
ردت وعد بفتور
( مرحبا ..... عذرا ... وجدتها وحدها على الشاطىء فانتابني القلق .... )
ابتسمت الشابة و هي تقول بغيظ و تذمر
( لا تقلقي .... عيني عليها من نافذة المطبخ ... لأن هذا ما أتوقعه من والدها .... كلما تركتها معه ... )
انحنت لتجلس على ركبتيها بجوارهما و هي تنفض وجه الطفلة من الرمال لتقول بغيظ أشد
( آخر مرة تركتها معه ..... عدت لأجدها مستلقية معه تحت السيارة في المرآب ..... )
نفضت الرمال عن وجه الطفلة و هي تقول بحدة
( لا يا ماما ... الرمال ليست للأكل .... عيب يا ماما ... )
الا أن الطفلة ضحكت بقوة و هي تمسك بقبضة صغيرة من الرمال على وجه أمها بكل قوة ....
بقت الشابة مكانها و الرمال تغطي وجهها و هي تتنفس محاولة الهدوء .... ثم تابعت بتذمر
( هذا أيضا بسبب والدها ..... تركتها مرة معه على على الشاطىء ... فعدت لأجدها و قد أكلت نصف رمال المكان بينما هو مستلقي باسترخاء في الحفرة التي حفرها لها كي تلعب بها ......
و حين عاتبته .... أخبرني بكل هدوء أن الدجاج يأكل بعض الرمال مع الحب لتساعده على الهضم .... )
زفرت بقوة و هي تقول بغيظ
( أشعر أحيانا أن تلك المسكينة سيكون مستقبلها سائقة شاحنة ان شاء الله .... و الفضل لوالدها )
انتبهت لنفسها فجأة ... فارتبكت و هي ترى وعد تنظر اليها بتوجس و حاجبها مرفوع ...
فرسمت على وجهها ابتسامة عريضة و هي تفرد ظهرها لتمد يدا مصافحة لتقول بود
( اعذريني ..... جررتك الى جزء من حياتي المذهلة و نسيت الترحيب بكِ .... أنتِ جارتنا الجديدة اليس كذلك ؟؟ ..... )
لم تبتسم وعد و هي لا تستطيع مواكبة تلك الطاقة الحيوية من الجنون التي هبت عليها فجأة .... لكنها اضطرت لرفع يدها و مصافحتها بدون حماس و هي تقول بفتور
( لو تقصدين أنني أنا من أقيم في أول بيت من جهة الطريق .... فالإجابة نعم ... )
ابتسمت الشابة بسعادة و هي تقول
( ياللسعادة .... أنتِ العروس الجديدة ؟؟ .... أنا سعيدة جدا بحضورك , كنا نعلم بقدومكما لكن قررنا أنا و زوجي ترك بعض الوقت لكما قبل أن نقوم بزيارتكما .... )
عقدت وعد حاجبيها و هي تقول بحيرة
( هل تعلمان بقدومنا ؟؟ .......... )
أومأت الشابة برأسها و هي تقول بسعادة
( نعم .... زوجي هو من باع البيت لزوجك ..... منذ عامين لم يكن هناك سوى بيتنا فقط في هذا المكان المهجور ... و زوجي اشترى المساحة من حوله و بنى عليها الأربعة بيوت المتشابهة كي نكون مجمع سكني صغير يقوم ببيعها حاليا كنوع من الإستثمار .... و في نفس الوقت كي لا نبقى هنا بمفردنا أثناء ذهابه للعمل كل يوم ... ستعجبك الحراسة و الأمان ..... كما أن زوجي لا يبيع لأي أحد .... إنه ينتقي المشترين بنفسه ....... )
رفعت وعد حاحبيها بشر و هي تقول بصوتٍ مشتد النبرات
( اذن زوجك هو من باع البيت لزوجي و انتقاه أيضا !!! .. كنت أعلم أنه اشتراه من شخص ابن حلال .... )
ابتسمت الشابة و هي تقول بتألق
( هل نال البيت اعجابك ؟؟ ....... )
زمت وعد شفتيها و ضاقت عيناها و هي تقول من بين أسنانها
( لقد خدمنا زوجك أكبر خدمة .......... )
ابتسمت الشابة بحرج و هي تحمل طفلتها فوق ركبتيها لتقول بسعادة
( لا تقولي هذا ..... إنه أقل واجب ...... )
ثم رفعت وجهها الى وعد و هي تقول بحب
( القي التحية على أصغر جيرانك .......... نوارة ...)
ابتسمت وعد رغما عنها للطفلة التي تشبه الشمس في جمالها و بريقها ..... بينما قالت أمها بلهجة المنتصرين
( لو تعلمين الحرب التي خضتها لأنجو بها من اسم " محسنة " !! ..... لقد دبت في الأمومة الشرسة حتى وصلنا الى حل وسط ... و سميناها نوارة ..... )
نظرت الشابة الى وعدى ثم قالت و هي تبعد شعرها الطويل عن وجهها الجذاب
( اذن ..... كم مضى على زواجكما ؟؟ ....... هل لازلتما في شهر العسل ؟؟ .... )
كان غيظ وعد يزيد و يفيض ..... من سيف و من زوجها الذي لا تعرف اسمه حتى ... فقالت بمنتهى الهدوء
( لا لسنا في شهر العسل ....... أنا أنتظر البت في دعوى خلع رفعتها ضد زوجي ... ......بينما هو يحتجزني هنا الى أن تلين رأسي ..... )
صمتت الشابة تماما و هي تفغر شفتيها بذهول ناظرة الى وعد التي تتكلم بلهجة طبيعية نسفت كل احلامها الرومانسية ....
رفعت وعد حاجبيها ببساطة و هي تنتظر أن تفيق المسكينة من ذهولها .... و بالفعل بعد فترة طويلة أمالت وجهها جانبها و هي تهمس بغيظ من بين أسنانها
( كنت أعلم طبيعة اختياراته ... و كنت أكذب نفسي ....... تبا له كنت أعلم ...... )
حاولت جاهدة رسم الإبتسامة على وجهها مجددا و هي تقول و كأنها لم تسمع شيئا
( اذن ........ هل زوجك في عمله ؟؟؟ ......... لذلك خرجتِ للشاطىء ......)
قالت وعد ببساطة
( لا ..... لقد ذهب ليضرب شخصا و سيعود سريعا ....... )
ارتسمت ضحكة صامتة على شفتي الشابة .... الا أنها ماتت قبل أن تخرج و هي ترى الجدية على ملامح وعد فابتلعت ضحكتها و هي تعود و تهمس جانبا من بين أسنانها
( تبا ...... و كان فخورا بالجيرة .... الآن عرفت لماذا .... )
ارتفع حاجبي وعد و هي تقول بهدوء
( صوتك مسموع على فكرة ......... )
تنحنحت الشابة و هي تنظر الى وعد مرتبكة ... بينما كانت تهدهد طفلتها التي كانت تقذف رمالا على كليهما ...
ثم قالت أخيرا بهدوء
( أمر مؤسف ...... الا أمل للإصلاح ؟!!! ..... )
نظرت وعد الى البحر دون أن ترد ....و هي لا تعلم جوابا للسؤال ... هي وحدها من يملك القرار ...
أي القوتين تختار .......
بينما تابعت الشابة و هي تتلمس شعر طفلتها بخفوت
( لو تعلمين كيف كانت بدايتي مع زوجي ..... كانت منذ الأزل , منذ أن كنت طفلة ..... و كنت أكرهه أكثر مما كرهت شخصا بحياتي ..... )
نظرت وعد اليها بصمت .... ثم نظرت الى الطفلة لتقول بهدوء
( من الواضح أنكِ تقبلتِ حياتك ....... )
ابتسمت وهي تهز رأسها نفيا ... ثم قالت ببساطة
( لم أتقبلها ..... لكن حدث أن عشقته ..... )
أظلمت عينا وعد و هي تطرق بوجهها ... بينما تلك الشابة ترمقها بإهتمام ... ثم لاحت خلفهما حركة , فاستدارت لتقول بتذمر ...
( ها هو شيخ الرجال .... وصل .... على الأرجح تذكر نوارة و كان من الممكن أن تكون الآن في منتصف البحر في طريقها الى اليونان ..... )
نهضت من مكانها تنفض الرمال عن فستانها البيتي البسيط ... بينما استدارت وعد تنظر خلفها لكنها صدمت بمرآى الرجل الضخم الذي كان واقفا ينتظر زوجته التي تحمل طفلته ...
كان خشن الملامح رغم وسامته .... ذقنه غير حليقة و قميصه مفتوح الصدر بإهمال ....
يبتسم بفخر و كأن أميرة تتجه اليه فوق الرمال و التي بدت بجواره كحمامة صغيرة بين مخالب دب متوحش ... بينما هي تتذمر بغيظ مع صوت الرياح
( لقد تركتها ...... مجددا ..... و أكلت رمال الشاطىء كله )
الا أنها شهقت ما أن ضحك عاليا وهو يرفعها بذراعٍ واحدةٍ وهي تحمل طفلتها .... هاتفا بقوة
( يا قوي !! ......... )
صرخت به وهي تلوح ساقيها
( أنزلني ..... لقد انسحقت نوارة بيننا ..... الن تكبر أبدا .... )
الا أنه كان ينظر اليها بعشق وهو يقول بصوتٍ وصل الى وعد يتناقض تماما مع شكله الإجرامي
( لقد أصبحت زيادة جمالك عادة .......)
هتفت بغضب و هي تضرب صدره
( لن يفيدك التملق ....... هيا لندخل ..... الظلام حل و الجو أصبح باردا على البنت .... )
أنزلها وهو يقول بلهجةٍ آمرة
( دقيقتين و أريد طعام الغذاء جاهزا ......لن تتعللين بتحميمها أو تنظيفها ... دقيقتين و الا قسما بالله ستجدينها تلعب بين الحمام فوق السطح ..... و تأكل من حبوبه .... )
زمت شفتيها بغضب و هي تقول
( لم أعلم من قبل أنني سأندم أشد الندم على انجابي فتاة الا الآن ..... والله لو كان ولدا لكنت سلمته للأحداث و ما اهتممت ....... )
طال زوجها بنظره قليلا....وهو يقول باهتمام
( من تلك التي كانت تجلس معك ؟؟ ..... )
انتبهت الى أنها نسيت وعد تماما .... فضربت صدره وهي تهمس من بين أسنانها
( بشائر خيرك ........ قضايا خلع و محاكم ... منك لله يا ابن محسنة لما تفعله بنا .... )
فتح ذراعيه وهو يقول مرحبا ببشاشةٍ و بصوتٍ أفزع سلطعونات الشاطىء
( يا مرحبا بالجيران الجدد ..... )
كانت وعد قد نهضت على قدميها و هي ترمقه شزرا ..... تتسائل عما يعرفه من قصتهما ...
لكنها قالت بهدوء
( اعذراني ........ يجب أن أعود الآن ...... )
لكنها فجأة وضعت يديها على جانبي وركيها و هي تقول بصدمة
( ياللهي !!! ...... ليس معي مفتاح !! ..... )
ابتسم الزوج وهو يقول ببشاشة .....
( ياألف مرحبا ...... لدينا ضيوف على العشاء اليوم عزيزتي .... )
نقلت زوجته نظرها بينهما و هي تريح طفلتها فوق جانبها ملتفة حول خصرها .... ثم قالت بخفوت
( يااااااااااااااللسعادة ...... )
.................................................. .................................................. ...............
كان أثناء قيادته للسيارة لا يتراىء أمامه سوى شيء واحد ....
لون الدمار ....
ضرب المقود بقبضته وهو يسرع في القيادة ... لا يتمنى شيء سوى الخلاص من ذلك الحقير ....
كانت أعصابه تزداد اشتعالا كلما قطع المزيد من الكيلومترات ....
يشتم بأقذع الألفاظ ...... بينما تنفسه يزداد حدة .....
الى أن شعر فجأة بعدم القدرة على التركيز فشتم وهو يميل بالسيارة ليقف على جانب الطريق المظلم
ارجع ظهره للخلف وهو يتنفس بقوة .... ناظرا أمامه الى الليل الذي أرخى ستائره ...
منذ سنواتٍ طويلة لم يشعر بغضبٍ يماثل ما يشعر به حاليا ......
لا ليس غضبا تماما .... بل كان خوفا ... خوفا هو ما جعله غاضبا بتلك الصورة ....
انها تتسلل من بين يديه كالزئبق ... كلما أمسك بها طارت من يده ....
هتف بعنفٍ وهو يضرب المقود مجددا بجنون
( لماذا ؟؟!!!! ........ )
صرخ مجددا في سكون الظلام
( لماذا يجب أن يكون الأمر بهذا التعقيد ؟؟ ........ )
الحقيقة أنه نال الفرصة لتفريغ غضبه كله .... ما أن سمع آخر يعرض الزواج على زوجته .....
لكن الغضب كان أكبر من ذلك بكثير ..... غضبا من بساطة تخليها عنه ....
أظلمت عيناه وهو يدرك أنه يرفض الإعتراف بالهزيمة .....
ربما ..... ليس عليه سوى الإستسلام ....
هدرت أنفاسه بقسوةٍ في البرد الذي بدأ يشتد ..... و استمر به الوقوف طويلا ... مع نفسه .....
الى أن أخرج هاتفها من جيبه ببطىء .... فطلب رقم يوسف و الذي لم ينتظر لأن يزيد الرنين عن رنتين فأجاب هاتفا بصوتٍ رجولي ملهوف لهفة يدركها سيف جيدا
( وعد .......... أين أنتِ ؟؟ ........ )
الا أن سيف أجاب بهدوء غريب
( لما لا تواجهني كرجل ..... عوضا عن التعرض لزوجتي كل مرة ...... )
سمع صوت تنفسا أجشا .... ثم تكلم يوسف أخيرا
( تلك الزوجة هي امرأة ...... تتنفس ... تحيا .... خطفتها ... حقرت من شأنها مرارا .... و الآن تتكلم من هاتفها بينما لا أحد يعلم أين هي و أي عذابٍ تذيقها ..... )
شحب وجه سيف .... لكنه لم يسمح لذلك التأثر الطفيف أن يظهر على صوته وهو يقول مشددا على كل حرف
( و ما دخلك أنت بما بيني و بين زوجتي ....... آآه تذكرت تريد أن تتزوجها اليس كذلك ؟؟ ... لكنها للأسف متزوجة ........ )
رد يوسف بصوتٍ قوي .... كادت ذبذباته أن تصل عبر الموجات الى سيف و بشدة
( إنها أمانة ..... قبل أن تكون المرأة التي أريد الإرتباط بها ..... )
كيف يتحمل سماع ما يسمعه ؟!! ..... هو نفسه لا يعلم ..... ربما هي الرغبة في أن يعذب نفسه وهو يفعل بها ما يفعله دون أن يجد القدرة على التوقف ....
قال أخيرا بصوت غريب
( أمانة !! ...... زوجتي أمانة لديك !!! .......أنت !! ....)
أجابه يوسف بقوة
( سافرت الي هربا ...... و كانت تنوي البقاء لفترة طويلة في الخارج و ترسل في طلب أختها .... لولا وفاة والدها .... حينها عدت معها على أن ترجع معي ..... لكنك أخذتها بكل سهولة دون رغبتها .... عادت الى ما هربت منه و كانت تحت حمايتي .... حتى ولو كانت زوجتك ...... انه ما يسمى الضمير ... هذا لو كنت تمتلك شيئا منه ...... لا تحملها المزيد , صحتها لم تعتد تحتمل ,...... تحلى ببعض الكرامة و استسلم ....)
ساد صمت أسود بينهما ... فعلم يوسف أنه ضرب ضربته الأقوى .. فألحقها قائلا
( أنت تدمر حلما عاشت من أجله لا تملك حتى المقدرة على تخيله ...... أنا الغريب عنها أدركت ذلك )
أبعد سيف الهاتف عن أذنه ببطىء ليغلقه بقوة ... بينما بقى مكانه طويلا , دون أن ينظر مرة واحدة للساعة ...
" أنت تدمر حلما عاشت من اجله طويلا ..... "
نظر سيف الى هاتفها في يده .... قبل أن يتذكر بأنه تركها وحيدة .... بلا هاتف ...
حينها عرف الجواب ... خوفه عليها أطفأ نارا كانت تشتعل أمام عينيه بلون الدم .....
و دون تفكير انطلق مجددا بالسيارةِ ..... عائدا اليها .....
.................................................. .................................................. ....................
نظرت الى وعد النائمة على الأريكة و قد دثرتها بغطاء سميك ....
ثم عادت الى زوجها لتهمس بقلق
( تبدو و كأنها لم تنم منذ أعوام ........ )
فرفع زوجها الهاتف الى أذنه وهو يقول لها
( سأهاتفه لأطمئنه عليها ........ ربما يكون في الطريق عائدا الآن ... )
مطت زوجته شفتيها بإمتعاض و هي تقول بغيظ شديد
( رجل متجه الى عراك .... بالله عليك ليس من المنتظر أن يعود قبل عدة ساعات .... )
نظرت اليه بطرف عينيها و هي تقول بتذمر مكبوت
( الرجال ما هم الا أطفال متمردين ...... )
رد الرجل أخيرا ليقول بصوته الأجش القوي ...
( هي بخير سيد سيف ..... سررنا بضياافتها حقا , على الرغم من أننا لم نقضي معها الكثير من الوقت بالفعل فلقد سقطت نائمة على الأريكة .... نعم .... نحن في انتظارك .... جيد جيد )
أغلق الهاتف وهو ينظر الى زوجته مبتسما ... ثم مد يديه ملوحا بتحدي
( انه على بعد دقائق من هنا ......... )
مطت شفتيها بامتعاض ثم استدارت لتبتعد ... الا أنه أمسك بمعصمها يديرها اليه بقوةٍ حتى وقعت على صدره .... فقال بخفوت
( إنه العشق الذي أوقعني بكِ ذات يوم ....... )
ابتسمت قليلا و هي تهمس مادعبة عنقه بيديها
( بل الذي أوقعني أنا بك ....... كنت اجمل حفرة سقطت بها )
قربها منه يتحسسها برفق وهو يهمس بخشونةٍ
( و ستظلين وسادتي الأنعم و الأجمل ...... )
همست بإعتراض ضعيف
( توقف ........... )
ضحك بصوتٍ أجش وهو يقول ملتهما تفاصيلها الجذابة
( ألم تيأسي بعد من أمر التوقف هذا ....... )
ضمها اليه بمحبة وهو يهمس في اذنها بصوتٍ أجش
( اعطني اشارة الحركة ....... )
ابتسمت رغما عنها و هي تعلم جيدا الى أن يسير مزاجه حاليا ... فقالت بخبث
( و كأنك تحتاجه !!!........... )
طافت يداه على قدها الناعم ذو المنحنيات وهو يهمس بخشونة
( لا ....... لكنه يبدو مثيرا من بين شفتيكِ ..... )
حاولت الإبتعاد عنه و هي تهمس
( لدينا ضيوف ...... احترم نفسك )
همس مقبلا عنقها
( إنها لا تبدو منتمية الى عالم الأحياء .......... هل عرفتِ الآن فائدة الجيران الذين أنتقيهم بنفسي , يثيرون في نفسي العاشق القديم ....... )
رفعت وجهها البريء اليه وهي تهمس بحب
( و كأنه غاب ولو للحظة!! .......... )
ارتجفت ابتسامته للحظة وهو يقول بخشونة خافتة
( هل أنتِ سعيدة ؟؟ ............ هل لازلتِ سعيدة بنفس الدرجة ؟؟ ..... )
ابتسمت بوله و هي تقول ناظرة الى عينيه بقوةٍ
( وعد مني .... لن أحب غيرك في الوجود .......... )
اقترب وجهه منها ببطىء دون أن يبتسم وهو يهمس ملامسا فخذها بحنان
( لقد طال شعرك جدا ....... حتى أصبح كليلٍ طويل ... في طول الليالي التي انتظرتك بها حتى تنام الصغيرة .... و أنتهت بأن نمت أنا قبلها ...... )
ليلتقط بعدها شفتيها في قبلاتٍ صغيرة مشتاقة .... قبل أن يعمق قبلته ناسيا الضيوف و المكان .... لكنهما انتفضا فجأة ما أن سمعا رنين الباب المجنون
فابتعدا عن بعضهما بذعر و كأنهما قد ضبطا متلبسين بفعلٍ مشين ..... فشتم بلفظ بذيء رغما عنه الا أنها وضعت يدها على فمه بسرعة و هي تنظر الى المكان الذي تستلقي به وعد وهي تهمس
( هششششش ....أين ذهب العاشق القديم !! ..... لسانك هذا بات خطيرا على تربية نوارة ... هيا افتح الباب )
ابتعد الى الباب بتذمر وهو يقول بصوتٍ خافت
( أقسم أنكِ لو نمتِ الليلة قبلي .... فسوف أحملك بنفسي للسقيفة و أبثك حبي الى أن تتجمدي بردا ... )
رفعت يديها لتغطي بهما وجنتيها اللتين لا تزالان تحمران خجلا من تصريحاته المخجلة حتى اليوم ...
بينما فتح الباب وهو يقول ببشاشة زائفة ظهرت للتو
( ياااااااا ألف مرحبا ........ )
الا أن سيف اندفع يقول بقلق
( أين هي ؟؟ ............ هل هي بخير ؟؟ ..... )
قال الرجل بهدوء
( انها بخير فقط نائمة ...... ستوقظها زوجتي .... )
نظر اليه سيف بصمت طويلا قبل أن يقول بصوتٍ خافت
( لا داعي من فضلك ..... هلا أرشدتني الى مكانها ........ )
أشار بيده بموافقة .... دون أن يتقدمه ليمنحه بعض الخصوصية .... فاتجه سيف اليها ببطىء ... حتى جثا بجوار الأريكة ينظر اليها ..... وعده .... كانت نائمة ووجهها يكاد أن يكون شاحبا مزرقا
مد يده يلامس وجنتها بظاهر كفه .... وهو يتأملها ... بينما الصوت لا يزال يهدر في أذنه
" أنت تدمر حلما عاشت من اجله طويلا ..... "
دس ذراعيه تحت ظهرها و ركبتيها ليرفعها و ينهض بها بحرص .... لكنها لم تستيقظ
فخرج بها بهدوء وهو يومىء لصاحب البيت و زوجته ..... فهمست زوجته بعطف
( دع الغطاء عليها ...... كي لا تبرد من الهواء )
همس سيف بشكر
( أنا ممتن لوجودكما ....... لن أتركها مجددا .....أشكركما )
أومأت مبتسمة برقة و هي تهمس
( لا عليك ..... لقد سعدنا بها ......)
ابتسم سيف قليلا قبل أن يخرج بها وهو يضمها الى صدره بقوة ..... كي يضعها في سيارته الواقفة أمام البيت
و ما أن أغلق صاحب البيت الباب .... حتى التفت الى زوجته بنظراتٍ شيطانية ... فابتسمت بحالمية وهي تهمس
( جارنا وسيم للغاية .......)
اختفت ابتسامته على الفور وبان التوحش على ملامحه وهو يهجم عليها بينما صرخت عاليا و هي تضحك لتجري منه بسرعة ... بينما أعاقه عن اللحاق بها عرج بسيط لا يزال متخلفا بإحدى ساقيه ... فوقف مكانه وهو يتأوه قليلا ... فانتفض قلبها و هي تستدير اليه تلهث قليلا , ثم عادت اليه بسرعة لتسنده بذراعيها و هي تقول بقلق
( ماذا ؟!! ...... هل عاد ظهرك ليؤلمك ؟!! ....)
رفع وجهه اليها و قد عادت اليه الشيطانية وهو يجذبها اليه بقوةِ ليسقطا أرضا وهو يقول بقوةٍ ضاحكا
(كلي يؤلمني .......... تعالي ....)
أخذت تضربه و تشتمه بينما سيطر عليها بسهولةٍ وهو يقول بخشونة
( اهدئي يا امرأة ......... )
و كان هذا هو آخر ما نطق به أحدهما لفترةٍ طويلة ..... أطول من شعرها ......
.................................................. .................................................. .....................
دخل سيف الي البيت وهو يحمل وعد التي ما تزال نائمة .....ثم تحرك عدة خطوات في اتجاه غرفته , الا أنه عاد و توقف مكانه قليلا وهو يخفض وجهه ليطيل النظر الى وجهها الشاحب ....
بعض آثار غضبه كانت لا تزال ظاهرة عليها بوضوح ... مما جعل شيئا ما يضربه اسفل قلبه بشدة ....
فاستدار ببطىء ليتجه بها الى غرفتها .... ليضعها على سريرها برفق دون أن تفتح حتى عينيها ....
جلس سيف بجوارها على حافة السرير برفق وهو يبعد شعرها الفوضوي بعيدا عن وجهها الشاحب و الذي يكاد أن يكون شفافا .... ثم همس بصوتٍ أجش
( ما كل هذا النوم ؟!! ..... مما تهربين ؟؟ .... مني ؟؟!! ..... )
لكنها لم تسمعه ... و لم تتحرك ... فانعقد حاجبيه بألم وهو يتأمل رقتها ... لقد بدت و كأنها مصنوعة من زجاجِ رقيق .... يهدد بالتهشم في أي لحظة
فنهض من مكانه ليساعدها على خلع ملابسها ببطىء و رفق كي لا تستيقظ .... ثم ألبسها إحدى سترات بيجاماته الشتوية عن قصد .... وهو يعرف نفسه يعشق رؤيتها بملابسه ....
و ما أن انتهى حتى بدت كطفلة أكبر قليلا من مراهقة .... بنحافتها و بياض بشرتها ... و شعرها الفوضوي بعيدا عن الترتيب ....
وقف مكانه يتأملها طويلا و هو يهمس لنفسه
" كيف تتخلى عمن تحب النظر اليها لمجرد النظر !! ....... "
تنهد باحتراق وهو ينحني ليدثرها جيدا ..... ثم قبل وجنتها بقوةٍ ليهمس بصوتٍ أجش
( تصبحين على خير يا وعد .......... )
ابتعد بعدها سريعا قبل أن يتهور و يندم مجددا ......
استيقظت وعد خلال الليل بعد عدة ساعات و هي تشعر بضيق في تنفسها ... فاستقامت جالسة في سريرها تنظر حولها و هي تضغط صدرها برفق تحاول ان تنظم تنفسها ....
الا أن يدها لامست سترة بيجامة سيف الشتوية الناعمة ... فهمست
( سيف !! ......... )
خرجت من سريرها بسرعة و هي تبحث عنه ..... الى أن فتحت باب غرفته و كان الظلام مغرقا المكان فعادت لتهمس بضعف
( سيف ......... )
شعرت بحركة سريعة و سرعان ما أضيء الضوء الجانبي لسريره و استقام جالسا ليقول بقلق
( لماذا قمتِ من سريرك ؟؟ ... هل أنت بخير ؟؟ .....)
قالت بضعف و هي تضغط صدرها
( أشعر بضيق في التنفس ........... )
انتفض جالسا مستويا و هو يفتح أحد الأدراج المجاورة لسريره ... ليخرج منه شريط دواء فتح منه قرصا وهو يقول بسرعة
( تعالي لتأخذي دوائك ........... )
نظرت اليه قليلا قبل أن تقول بوجوم
( هل تحمل دوائي معك ؟؟ ........ )
مد لها يده فاقتربت منه ببطىء الى أن جلست على حافة السرير كما كان يفعل هو عند سريرها
ثم أجاب بخفوت
( بالطبع ....... هيا ابتلعيه , ..... و اشربي الماء )
ابتلعت وعد القرص و هي تدلك صدرها قليلا .... و ما أن حاولت النهوض , حتى جذبها اليه ليجعلها تستلقي بين ذراعيه .... ظهرها ملاصق لصدره ... وهو يدثرهما معا بغطاءه هامسا بصوتٍ أجش
( نامي .......... )
كان جفناها يغلقان ببطىء بينما يده تدلك ظهرها بقوة ..... الى أن نامت بالفعل .....
و ظل هو ينظر اليها طوال المتبقي من الليل ...... من سيعطيها دوائها حين تحتاجه ؟؟ ......
↚
دخلت منيرة برفق حاملة معها صينية الطعام ... محاولة عدم اصدار ضجة كبيرة كي لا تفزع ملك لو كانت نائمة .... فوجدتها نائمة على جانبها و ظهرها الى الباب فهمست برقة
( ملك ....... ملك , استيقظي حبيبتي لتأكلي شيئا )
وجدتها انطوت على نفسها أكثر و هي تستخدم شعرها لتغطي به وجهها دون أن تلتفت ....
فاقتربت منيرة منها بهدوء لتقول مبتسمة بتعاطف و هي تضع الصينية على الطاولة المجاورة للسرير
( الم تستطيعين النوم ؟؟ .......هل يؤلمك جسدك بشدة ؟؟؟ .... )
لم ترد ملك .... لكنها التفت على نفسها أكثر و هي تشعر بمنيرة تجلس بجوارها على حافة السرير ...
انحنت منيرة اليها و هي تتلمس شعرها الطويل برقة هامسة بقلق
( هل تتألمين بشدة يا ملك ؟؟ .... هل أحضر لكِ طبيبا عله يعطيك اقراصا مسكنة ؟؟ ..... )
هزت ملك رأسها نفيا ثم قالت بصوتٍ منخفض مرهق للغاية
( انا .... بخير سيدة منيرة ...... شكرا لك )
ظلت منيرة مكانها تنظر اليها و قد اظلمت عيناها بشعور يائس من الحزن ... و الضمير المطعون بعد فوات الأوان ....
كانت تعلم ان اخت وعد هي الضحية الثانية لأنانيتها و عدم قدرتها على التسامح و نسيان دمار اسرتها الصغيرة .... حين رفضت تقبل وعد , و معها أختها الصغيرة ....
من كان ليظن أن تلك الأم التي تظهر عليها سيمات الطيبة و الحنان لكل من يراها .... هي في الواقع ليست أكثر من مجرد مجرمة .... أسوأ من زوجة أب حقودة .... بل هي عمة تخلت عن لحمها و دمها ....
ارتجفت شفتي منيرة و هي تبتلع غصة في حلقها ... قابعة منذ سنواتٍ طويلة ...
لم تستطع معها أن تتسامح مع الماضي ... و لا أن تسامح نفسها مع ما فعلته .... فكان أن ظلت طوال السنوات الماضية تعيش بنفسٍ مشتتة ... ما بين الرضا بأولادها .. و بين الغصة الدفينة في أسفل حلقها
الى أن جاء سيف و أصر على دفع الماضي أمامها بالقوة .... وضعها أمام مرآتها السوداء رغما عنها
و فاق حبه ألم الماضي .... فأجبر الجميع على الإعتراف به ...
و ها هي الان ... تمنح العطف للصغيرة التي ظلمتها سابقا ... اكثر مما منحته لابنة اخيها
همست منيرة بصوتٍ مختنق
( اذن اجلسي حبيبتي لتأكلي شيئا ........)
ظلت ملك صامتة قليلا .... فجذبتها منيرة من كتفيها برفق .. لتجلسها و كم كانت هشة و ضعيفة المقاومة
الا انها جلست في النهاية بضعف و اعياء ... مطرقة الرأس ليتساقط شعرها على جانبي وجهها يخفيه عن عيني منيرة ....
فرفعت منيرة يدها تبعد شعرها برفق الى خلف اذنها ... الا أن ملك لم ترفع وجهها ... ظلت مطرقة تتنفس من شفتيها بإجهاد ...... و هي تتلمس باطن ذراعها بشرود .....
قالت منيرة بخفوت
( لماذا تبدين بهذا التشتت صغيرتي ؟؟ ..... هل كانت صدمة قوية ؟؟ ..... )
ظلت ملك مطرقة برأسها و كأنها لم تسمع منيرة ... الا أنها بعد فترةٍ قصيرة أومأت قليلا ببطىء و هي تهمس بدون تركيز
( نعم ....... كانت .... صدمة قوية ...)
عقدت منيرة حاجبيها قليلا بتعاطف .... ثم جذبتها برفق الى أحضانها كي لاتؤلمها ... حتى أراحت رأس ملك على كتفها و أخذت تربت على وجنتها .... و هي تقول بخفوت
( لا بأس .... سيمر الألم سريعا , أسرع مما تتخيلين .... و حينها ستشعرين بالإمتنان لمجرد أنك بخير و لم يصبك مكروه حقيقي ...... )
تشوشت الرؤية أمام عيني ملك بغلالةٍ من الدموع .... فأغمضت عينيها , لتنساب دمعة من تحت أجفانها , كانت أثقل من أن تحجزها لتعود مع الكثير من دموعها السابقة الى خلف جدار قلبها المصدوم ....
همست منيرة أخيرا و هي لا تزال تربت على وجنة ملك ..
( هيا لتأكلي ........ )
لكنها عبست حين لامست راحتها وجنة ملك الرطبة ... فرفعت رأسها ببطء , و هي تضع يدها تحت ذقنها ناظرة الى وجهها الشاحب ثم قالت بتعاطف
( لتلك الدرجة الألم قويا ؟!! ......... هل أحضر لكِ الطبيب ؟؟ .... )
لعقت ملك شفتيها و هي تهز رأسها نفيا ببطىء ودون صوت ...ثم همست من بين شفتها
( أنا بخير سيدة منيرة ..... أنا فقط .... مرهقة قليلا ..... )
ظلت منيرة تنظر اليها عاقدة حاجبيها قليلا غير مقتنعة .... ثم قالت بهدوء
( حسنا يا ملك ...... يجب ان تأكلي شيئا , و بعدها سأتركك لتنامي ....... )
شعرت ملك و كأنها ستختنق مع كل لقمة كانت تمضغها بالقوة ... لكنها كانت مضطرة كي تنال الوحدة التي تريدها ....
اليوم .... اليوم تحديدا مات شيئا من روحها .. وولد شيئا آخر ... فقط تنشد الوحدة كي لا تنهار ....
دخلت ورد فجأة الى الغرفة بقوة ... الا أنها توقفت مكانها و هي ترى منيرة تساعد ملك على الأكل ... فعقدت حاجبيها و هي تقول
( يمكنك الذهاب للنوم يا أمي ...... أنا سأساعدها لو احتاجت شيئا .... )
نظرت منيرة الى ورد بصمت .... ثم الى ملك و هي غير مقتنعة بتركها , و كأنها تريد أن تعذب ضميرها أكثر بكل نظرةٍ اليها .... لكنها في النهاية لم تتحمل المزيد من النظر الى مرآتها السوداء ... فشعرت بالإختناق و هي تنهض ببطى لتقول بصوتٍ خافت
(حسنا يا ورد ..... سأترككما الآن لترتاحا قليلا ..... )
ثم خرجت سريعا و هي تبتلع الظلم الذي اقترفته ذات يوم ... بينما بقت ورد تنظر الى ملك عاقدة حاجبيها لفترة ... ثم قالت
( هل أخبرتِ أمي بشيء ؟؟ ........ )
شحب وجه ملك أكثر ... و بان الخزي قليلا على ملامحها الهادئة الفاترة , لكنها ابتلعت كرامتها المهانة و هي تومىء برأسها نفيا ببطىء
كان صوت الغريب لا يزال عالقا برأسها .... صوت رائف
"أنتِ تخشين التعرض للحكم و ربما الإهانة ... لكنها ضريبة ستدفعينها لا محالة بسبب ما ارتكبته .... اما التشبث بكبرياءك في تلك المرحلة , فهو أمر شديد التكبر منكِ ... لأن هناك ما هو أهم ...... و يجب عليكِ أن تتقبلي ذلك ...."
"ستتقبلين الأمر بشجاعة ...... لأنه جزء من عقاب طويل يتخضعين له , ثم تخرجين بكرامة ... و حينها ستأتين معي ......"
شردت عينا ملك و كل كلمة بصوته كانت تنحر جسدها بقوةٍ .. و مع ذلك ... و العجيب في الأمر أن كلماته رغم قساوتها .. كانت تمنحها القدرة على التحمل ... تمنحها الشجاعة ...
و في آخر كلمتين !! .... كان كل الأمان الذي تحتاجه !! ....
ذهولا كان يطل من خلف غيامات عقلها المصدوم .... من تلك الطمأنينة الخجولة المتسللة اليها بفعل آخر كلمتين نطق بهما
" ستخرجين بكرامة ..... و حينها ستأتين معي "
مهما حدث , سيكون هناك من سيمسك بيدها و يدلها على الخطوة التالية .... لأنها نفسها ليس لديها أي فكرة عن الخطوة التالية ....
لقد منع عنها القلق على الأقل و ترك لها الفرصة كي تشعر بالألم ... و تحمل هشاشة كبريائها دون الحاجة الى الذعر مؤقتا ....
احساس غريب ينتابها بأنها تود الذهاب مع الغريب ..... ربما لأنه غريبا .....
لا تعلم ..... الشيء الوحيد الذي تعرفه هو ذلك الإحساس الغريب الذي ينتابها بأنها تريد الذهاب معه سواء إن كان هربا ..أو ....... أو الإمساك بكفه و خوض الحرب .....
انتبهت من شرودها الى أنها ليست وحيدة ..... بل أن ورد معها , كانت تقف امام المرآة تنظر الى نفسها بصمت كئيب ... ترفع شعرها قليلا و هي تميل بوجهها لتنظر الى السماعة خلف أذنها ... فعقدت حاجبيها بقوة و عي تعيد شعرها مجددا تتنهد بغضب .... ثم استدارت الى ملك التي كانت تنظر اليها بصمت فقالت ورد بفتور
( إنه موعد دوائك ... .... )
ثم اتجهت الى الأدوية لتتناول ابرة منها , و هي تجهزها ... و ما أن اقتربت من ملك حتى انتفضت الأخيرة بصورةٍ ملحوظة قليلا و هي تنظر بصدمة الى الإبرة بيد ورد ....
فعبست ورد قليلا و هي تقول بهدوء
( هل تخافين من الحقن ؟؟؟ .......... )
ابتلعت ملك ريقها بضعف و هي تنظر الى الإبرة .. لكنها أخذت نفسا مرتجفا و هي تهز رأسها نفيا و هي تقول بخفوت به لمحة من القوة .... بل و القسوة أيضا
( لا ....... لا أخاف منها ....... )
رفعت ورد حاجبها قليلا ... الا أنها لم تجبها و هي تأمرها بأن تعتدل .... أغمضت ملك عينيها بوجع مع سن الابرة الحاد و الذي اخترق لحمها ..... لكنها فتحت عينيها بتصميم و هي تتنفس بقوة ...
تنظر أمامها بتناقض غريب ما بين الرغبة في الضعف و الاستسلام للإنهزام ... و بين قوة قاسية تهاجمها في نوباتٍ متفاوتة ....
انتهت ورد و هي تنظر الى وجه ملك المنخفض الشاحب .... ثم قالت بعبوس
( هناك اثار صفعة على وجهك بوضوح ..... من صفعك ؟؟ ..... هل هو التعيس الذي تزوجته دون علم أهلك ؟؟ ..... و على الأرجح هو من تسبب في اجهاضك )
غامت عينا ملك و قتم لونها الا انها لم تتكلم ... صوت رائف كان تعويذتها للتحمل ...
فتابعت ورد بغضب
( هذا ما هو متوقع ممن يخترق بيوت بنات الناس بتلك الطريقة ..... )
لم ترد ملك و هي تنتظر بصمت الى أن تنتهي ورد ... الا أن ورد تابعت ببرود
( عليكِ تعلم الدفاع عن نفسك ........... )
لم ترد ملك و لم ترفع رأسها ... فتنهدت ورد بغضب , الا أنها استدارت بسرعة حين فتح الباب و دخلت مهرة بملامح من يريد أن يتقيأ ..... فنهضت ورد بسرعة و هي تقول بحذر
( ماذا تفعلين ؟؟ ......... )
عقدت مهرة حاجبيها و هي تقول بغضب
( ماذا ؟!!! ....... سأنام .... هل لديكما مانع ؟؟ ...... )
الا أن ورد كانت قد وصلت اليها و ادارتها الى الباب مجددا و هي تقول بصوتٍ آمر
( ليس الليلة ...... هيا من هنا و نامي بجوار أمك ...... )
اخذت مهرة تتذمر و تهتف بقوة الا ان ورد كانت قد دفعتها بقوة و أغلقت الباب خلفها بالمفتاح ...
ثم استدارت و هي تتأفف بقوة .....
ظلت ملك تنظر اليها بشحوب قليلا قبل أن تقول بخفوت
( لقد اثرت الفوضى بوجودي ...... انا آسفة ... )
زمت ورد شفتيها و هي تقول بجمود
( نعم لقد فعلتِ ........ )
ارتبكت ملك بشدة ... و عاد وجهها للإنحناء ... فقالت ورد بفتور
( هناك الكثير من التعقيد بين هذا البيت و بين كل من ينتمي بطريقة ما الى اسم عبد الحميد العمري )
ارتبكت ملك اكثر و رمشت بعينيها و هي تقول بخفوت
( أنا لست أنتمي لاسم ......... عبد الحميد العمري ... )
قالت ورد ببساطة
( أعلم ........... و لهذا أنتِ هنا ...... )
انحنت عينا ملك و هي تسمع صوت ورد القاسي الذي لا يجامل و لا يهتم بمداراة شعورها الحقيقي ... فلم تتمالك نفسها من الهمس باعتراض
( وعد لم تكن يوما كأبيها ......... أنتِ تقبلتني الليلة لمجرد أنني لا أحمل اسم عبد الحميد العمري , بينما لا تتقبلين وعد لكنيتها على الرغم من أنني المخطئة لا هي ..... هي كان كل خطأها أن أحبها سيف ... )
استدارت ورد اليها تقيمها طويلا ... لا تصدق انها تدافع عن وعد و هي في حالتها تلك !! .... رغما عنها اعترف ورد ان تلك الفتاة من معدن خاص ... نادر .... و هي فعلا تختلف كل الاختلاف عن وعد ...
الا أنها قالت ببرود بعد فترة
( حب !! ...... هل تتحدثين عن الحب .. الليلة تحديدا ؟!! ... بعد ما نالك منه ؟!! ... اسمعي .. أنا لا أعرف أي تفاصيل عن قصتك .... لكن من المؤكد أن من تتزوج سرا قد فعلت ذلك لأجل شخص توهمت أنها تحبه .... و انظري الى ماذا انتهى الأمر ؟!! ..... الحب مجرد خدعة , نتحجج بها لننال بها رغبة معينة ... قد تكون جسدية أو مادية .... المهم انه الخدعة الأبدية ذات الطرفين ....
الطرف المنتفع .... و الطرف المخدوع ..... )
شعرت ملك وكأنها تلقت أكبر صفعة في حياتها بأقسى كلماتٍ من الممكن أن تكون قد سمعتها في حياتها
و على الرغم من قساوة الكلمات الغير منطقية و التي شوهت كل مشاعر جميلة في هذه الحياة
الا أنها لم تمتلك الجرأة أو الحق في الرد .... انعقد حاجباها بألم و اخفضت وجهها بينما نظرت ورد اليها بصمت طويلا .. ثم قالت أخيرا
( ربما وضعك لا يتحمل الصدق الآن ..... لما لا تنامين قليلا .... )
ارتجفت شفتي ملك و هي تبتلع غصة في حلقها .... قبل أن تنخفض ببطىء الى تحت الغطاء حتى استلقت و هي تنظر الى سقف الغرفة و الألم يرسم محياها
حتى الآن لا تصدق سرعة قتلها بتلك الصورة على يد صديقها .... صديقها الصغير الذي رفعته بعدم اقتناع ووضعته في مكانة حبيبا ... ليتها تركته ذلك الصديق الصغير للأبد
الحب صدمة .... تظهر بشاعة النفوس أحيانا ....
لقد أحبت أكثر أهل الأرضة دناءة ..... و سلمته نفسها بكل طيب خاطر , كما كانت تسلمه حلواها و طعامها في طفولتهما ..... و أكثر ...
اندست ورد في السرير المجاور بعد أن أغلقت الضوء ....و تركت ضوء جانبي ضعيف ....
تنظر الى وجه ملك البريء الناظر للسقف .. و الدموع محتجزة في عينيها , تسطير عليها بكل قوتها و يظهر ذلك بوضوح على عضلات حلقها التي تحاول ابتلاع غصتها بصعوبة ....
و حين طال الوقت قالت ورد بفتور
( توقفي عن التفكير و نامي الآن ......... التفكير لن يعيد xxxxب الساعة للخلف )
رمشت عينا ملك و اختنق صوتها و هي تهمس دون ان تنظر الى ورد
( أنا مرهقة جدا .... و ظهري يؤلمني , لكن يجب أن أخرج صباحا لأحضر القماش الجديد من البيت و أذهب به للشقة الثانية ...... اليوم الواحد محسوب كي ندرك العرض ..... )
اتسعت عينا ورد و ارتفع حاجبي ورد بذهول ..... ثم قالت أخيرا بصوت غير مستوعب
( هل هذا ما تفكرين به حاليا ؟!! .......عد و معرضها المبجل !! .... الا يمكنك التفكير بمصيبتك قليلا ؟!! ........ )
لم ترد ملك لفترة طويلة و هي تنظر الى السقف بسكون .... و ما أن نطقت أخيرا حتى قالت بخفوت ميت عبارة واحدة لم تجد أفضل منها ..... عبارة ورد تعيدها بصدق
( بماذا يفيد التفكير ؟!! ....... إنه لن يعيد xxxxب الساعة للخلف )
.................................................. .................................................. ......................
دخل رائف الى البيت العريق الأصيل .... فشعر بالإشمئزاز وهو يستنشق رائحة الدم في كل ركن من اركانه حتى بدا كمقبرةٍ ضخمة ... كان ينظر حوله بقساوةٍ و كأن الجدران تريد الإنطباق عليه ... اعتصاره ....
الظلم بات يحيى معهم في هذه المقبرة ......
أظلمت عيناه بشدة و هما ترسمان للصورة التي دخل و رأى عليها تلك الصغيرة بين براثن الحقير ....
متى كبر بهذه الصورة ليتحول الى هذا الشيطان !!!
ظهر الألم في عينيه رغم عنه وهو يدرك أنهم ضمو اليهم كائنا شريرا تحت وجه بريء طفولي .... و كبر شيئا فشيئا امام أعينهم ..... لكن في الحقيقة أن الشيطان الخفي هو من كان يكبر و يستزيد من شره
نظراته الى ميساء .... كيف اغفلها و اقنع نفسه مرة بعد مرة أنها مجرد نظراتٍ بريئة ... لمساته لها ...
كيف لم يدرك بأن الصبي بات رجلا يرعى بداخله شيطان ......
الى أن ظهر وجهه الناري .... و كانت الضحية هي الصغيرة المسكينة التي ضاعت برائتها على يديه ...
ابتلع رائف غصة حادة وهو يعيد العبارة مرة بعد مرة .... لقد ضاعت برائتها
شيء غالٍ نفيس ... اريق للأبد و لا مجال لإسترجاعه مطلقا .......
أغمض عينيه وهو يفكر بها مجددا .... مرة بعد مرة .... منذ أن تركها وهو لا يكف عن النظر الى وجهها في خياله .... تلك الهالة من البراءة ..... من كان يخدع حين كان يعاملها بقساوةٍ كلما رآها هنا في هذا المكان المدنس .....
الواقع أنه كان يصرخ بها دون صوت .... اهربي ... اهربي من هذا المكان ....
مجرد غريبين ... انطلقت بينهما غريزة تعلق و رغبة في الحماية ... و كأنهما مسافران على طريقين متعاكسين .... التقيا فاحتاجت لأن يضمها ... و تاق هو لأن يفعل و بقوة ....
توقف فجأة وهو يسمع صوت صراخٍ عالٍ متوحش ... و تحطيم عنيف ....
فرفع رأسه دون تعبير ينظر في اتجاه أعلى السلم ....
ووقف ينتظر .... أصوات التحطم تتعالى ... تتزايد .....
و الصراخ المجنون يتفاقم لشخصٍ فقد عقله ... ثم سرعان ما ظهر ....
ظل رائف مكانه ينظر ببرود الى كريم الذي نزل درجات السلم جريا و قد بدل ملابسه بأخرى عشوائية ... بينما لا تزال هيئته على حالةٍ مريعة ... من وجهه المكدوم ... و شعره الأشعث ....
كان شكله يبدو كالمجانين رسميا و عيناه يتطاير منهما الشرر .....
و ما أن التقت عيناه بعيني رائف حتى اندفع اليه كالمجنون و هو يصرخ
( أين هي ؟؟ ....... أين ذهبت بها ؟؟ ...... )
وضع رائف يديه في جيبي بنطاله ليقول بهدوء غريب بينما ملامح وجهه غامضة تماما
( من هي ؟؟ ........... )
تزايد الجنون في عيني كريم و هو يندفع اليه ليقول بشراسة
( ملك ...... ملك .... أين خرجت بها ؟؟ ..... )
هز رائف رأسه ليقول ببرود
( لا أعلم أحدا بهذا الآسم ......... )
حينها اندفع اليه كريم وهو يقبض على قميصه ليصرخ قائلا
( إنها زوجتي ......... ليس من حقك أن تهاجمنا و تأخذها معك بالقوة ,,.......)
حينها تبدلت ملامح رائف لتظهر عليها وحشية نادرا ما تظهر عليه ليخرج يديه من جيبي بنطاله ... ثم ضغط بإحداها على عنق كريم فجأة .... دافعا اصبعيه خلال عروقه مما جعله يجحظ و يشعر بإختناق فوري ... بينما همس رائف بكل هدوء يتسم بوحشية قاتمة
( تلك التي تدعي أنها زوجتك ..... ستنالها المرة القادمة فوق جثتي ..... )
ثم تركه فجأة ليشهق كريم بقوةٍ و يسعل وهو يدلك عنقه ناظرا الى رائف بذعر و جنون .....
و حاول الصراخ مجددا .. لكنه كان يسعل في كل مرة بينما تركه رائف ليستدير متجها الى مكتبة خاله ... بينما هدر صوته يزلزل جنبات القصر دون أن يلتفت
( استعد لتطلقها بإرادتك ........ أو سأفعل أنا .... سأطلقها منك و حينها ستدفع ثمن انتهاكك لها و لجنينها ..... )
صرخ كريم بصوتٍ أجش مبحوح
( لن يحدث ....... لن يحدث .............. إنها ملكي ..... )
استدار رائف اليه وهو لا يزال يبتعد بينما بدت ملامح وجهه مخيفة و هو يقول هادرا بقوةٍ جبارة
( بل ستفعل .....ستطلقها ...... )
صمت لحظة و ملامحه تنذر بالخطر وهو يهدر أعلى و أقوى
( إنها تخصني ....... مسؤوليتي منذ تلك اللحظة ..... لذا حاول أن تتخطاني أولا وصولا اليها )
اتسعت عينا كريم بذعرٍ مجنون وهو يرى رائف على تلك الصورة .... صورة رجل حسم امره و انتهى الأمر ...
بينما كان رائف يتنفس الغضب الداكن و هو يتصاعد بأبخرته بين خلايا رئتيه المتضخمتين ....
القتل كان التصرف الوحيد الذي يود أن يقوم به حاليا ...... انه في حضرة مجرم , قتل جنينا للتو و أوشك على اغتصاب فتاة لا حول لها و لا قوة .....
السيطرة التي كان يفرضها على نفسه حاليا كانت أكبر من إحتماله ..... لكن الأمر كان أكبر من ذلك و غضبه و تهوره ستدفع ثمنهما ملك وحدها ....
دخل رائف الى المكتبة و قد بدا بصورةٍ مشعثة من الغضب و القسوة ..... ذقنه غير حليقة .. قميصه مفتوح الأزرار حتى صدره .... عيناه تبرقان بوحشية ....
رفعت ميساء وجهها تنظر اليه بصمت ... حيث كانت تجلس بخنوعٍ على الأريكة بصحبة خالها و هي تدفن رأسها بين كفيها ...
بينما قال عاطف بخفوت
( ماذا فعلتم بالفتاة يا رائف ؟؟ ...... لا تكذب علي يا ولد مثل اختك , هناك جلبة في البيت تخصها و اريد ان اعرف ماذا حدث لها ..... )
نقل رائف عينيها بين خاله و بين عيني ميساء المتورمتين خزيا .... فقال بنفور منها و من ضعفها
( انها بخير يا خالي ..... و في مكانٍ أمين , لن يمسها مكروه بعد الآن ..... )
انعقدت ملامح عاطف وهو يقول بصوتٍ خافت أجش
( كنت اعلم ان مكروها سيصيبها ....... إنها أجمل من أن تظل دون أذى ..... )
عبس رائف بشدة و تصلبت ملامحه وهو يقول بوعد واثق
( لن يصيبها أي منهم بمكروه بعد الآن .............. لقد قارب الأمر على الإنتهاء ... )
صمت للحظة ثم قال بصلابة
( ستأتي معي يا خالي ...... فأنا سأغادر اليوم بلا رجعة ..... )
ظل خاله صامتا ... بملامح كئيبة حزينة , وهو ينظر الى صورة رؤى بشرود قبل أن يقول بصوت خافت
( لو أتت معنا أختك ........ أما لو لم تأتِ ....... )
تنهد بحزن عميق وهو يرى نفسه مسنا ... مقيدا بهذا المقعد و بصورة ابنته ... فاي مساعدة يمكن أن يقدمها لميساء ......
نظر رائف اليها ليقول دون مقدمات
( هل ستأتين معنا ؟؟ ............. )
كانت ميساء تنظر اليه بصمت و هي تبكي دون صوت .... عيناها عميقتان بلون الدم ......
و هنا عرف الإجابة دون أن يسمع لها صوتا ..... فزفر بيأس و ازدراء ليقول بصوتٍ قاتم
( اذن ابقي هنا ...... ابقي ليدهسك بقدميه كل يومٍ و ينتقص من قدرك كل ليلة .... ابقي حتى يستهلك المتبقي من روحك بعد أن هزل جسدك في عينيه ...... )
ارتجفت شفتيها بشدة و انسابت دموعها بغزارةٍ أكبر .....بينما اتسعت عيناها بصدمةٍ وهي تسمعه يخاطبها بتلك الصورة للمرة الأولى في حياته ..... و كلامه ذبحها بسكينٍ بارد ... فهمست بعذاب
( ماذا فعلت بك تلك الفتاة ؟!! ........... )
اجفلت ملامح رائف قليلا وهو ينظر الى خاله بسرعةٍ اثر كلمات ميساء .... والذي حفر الحزن الدفين قسماته وهو ينظر الى صورة رؤى و كأنه يخاطبها بحديثٍ سري طويل .....
أخذ رائف نفسا عميقا ..... ليقول بعدها بصوتٍ قاطع ردا على سؤالها
( أرتني حقيقتكم المخزية ........ حقيقة لطالما تجنبت النظر اليها عن قصد )
ارتجفت شفتي ميساء أكثر و مالت عيناها بذلٍ مخزي ..... بينما نظر رائف الى خاله و قال
( ابق معها يا خالي .... و طمئنني عليها , لربما أرادت الخلاص يوما ..... اما أنا فراحل عن هذا المكان للأبد .......... )
.................................................. .................................................. ......................
وقفت ورد أمام باب المشغل أخيرا و هي تتذمر و تشتم بصوتٍ خافت .... حاملة بين ذراعيها عدة لفافات من الأقمشة الحريرية المشغولة الغالية الثمن .... لا تصدق انها تقوم بذلك .... و لا في أسوأ تقديراتها ....
لو كان احدا قد أخبرها من قبل أن بإمكانها ان تضحي تضحية مثل تلك لكانت بصقت في وجهه !!
إنها تحمل أقمشة وعد .... الى احدى شقتيّ وعد .... كي يتم الإعداد لعرض وعد .....
انها تتنفس وعد في كل لحظة من لحظات حياتها .... حتى بعد أن من الله عليهم بابتعادها بكل ارادتها الحرة
لا تزال هنا .... بل و الأسوأ أنها سرقت سيف منهم .... و الأكثر سوءا من كل ما سبق .. أنها هي ورد فؤاد رضوان تحمل لها أقمشتها و خروقها البالية !!! ....
و كل ذلك بسبب الغبية الصغيرة الشاحبة حتى الموت و التي كانت استيقظت مصابة بالغثيان و ألم في ظهرها .. و مع ذلك كانت مصرة على النزول .....
أخرجت ورد المفتاح من حقيبتها بصعوبةٍ مع اللفات التي تحملها و هي لا تزال تشتم من بين أسنانها .... ذلك المفتاح الذي ذهبت قبلا الى شقة التعيسة و اختها و أخذته من هناك ... بعد أن فتح لها حارس الxxxx الباب بالمفتاح الإضافي ... بطلب من ملك
حين أتت ملك ليلة أمس لم يكن معها أي شيء ... لا حقيبة و لا هاتف و لا مفاتيح .... لذا تطوعت هي بكل غباء بالذهاب بدافع من ذرة ضمير باقية لديها و هي تتخيل ملك تسقط في الطريق مع اول خطوة لها ....
تمكنت من فتح الباب أخيرا و هي تشتم بخفوت .... شاعرة بالحقد يفوق ذرة الضمير لديها ...
رمت اللفافات أرضا بقوةٍ .....
تسمرت مكانها فجأة و هي تسمع صوت حركة في الشقة العريضة الخالية الا من ماكينات الخياطة .....
فتراجعت خطوة للخلف و هي تتمسك بحقيبتها بقوة و قبل أن تستدير للخروج من هنا ...
جحظت عيناها و هي ترى ذلك المجرم الذي تهجم على بيتهم ليلة أمس خارجا من الحمام و قميصه مفتوحا على مصرعيه مظهرا صدره العريض كثيف الشعر .....
تسمر مكانه هو الآخر و اتسعت عيناه و كأنه لا يصدق أن تلك المرأة موجودة هنا أمامه في هذه الساعة من الصباح ....
لكن صوته لم ينطق سوى بشيء واحد
( أنتِ مجددا !!! ........... )
لكنه حتى لم يدرك نطق الحرف الأخير و هي تندفع بكل سرعتها و هي تخرج رذاذ الدفاع عن النفس في حركة خاطفة لترشه في عينيه بكل قوتها ..... و هي تصرخ
( ايها المهووس ....... المترصد ...... )
صرخ يوسف فجأة بوجع رهيب والألم الحارق يتشعب في عينيه بكل قوة حتى أعمى النظر لديه وهو يرفع كلتا يديه الى عينيه ....
تراجعت ورد للخلف بسرعة و هي تشعر بالصدمة من صرخته الرجولية العالية ... لكنها صرخت بغضب
( سأبلغ عنك الشرطة و أخرب بيتك يا مجنون .... أيها المهووس )
ثم استدارت لتخرج جريا ....الا أنها و قبل أن تصل للباب كانت يدا قوية قد امسكت بذراعها و تديرها بقوةٍ و صوته يصرخ بغضب
( تبا لكِ أيتها المجنونة ............ لن اسمح لكِ بالهرب )
نظرت برعب الى عينيه الحمراوين بلون الدم و اللتين بالكاد تريانها الا انها حتى و ذراعها في قبضته لم تيأس ...بل رفعت يدها الاخرى و اخذت تضربه بحقيبتها فوق رأسه و هي تصرخ
( اتركني ...... ابعد يدك عني ...... )
الا أنه صرخ وهو يهزها بقوةٍ الى أن مد يده الأخرى و انتشل حقيبتها منها غصبا ليلقيها على اقصى قوته ...
نظرت ورد بهلع الى حقيبتها التي ارتمت أرضا و تناثرت محتوياتها في كل مكان ....
الا أنه عاد ليهزها وهو يصرخ غضبا و قد بدأت الناس في التجمع أمام الباب المفتوح
( لن أتركك ..... قسما بالله لن أتركك الا في قسم الشرطة )
حاول بعض من المتواجدين التدخل الا أن يوسف كان مصمما أن يحرر لها محضرا في قسم الشرطة ... بينما كانت هي تجاهد و تصرخ كي يبتعد عنها
( انه مقتحم لشقة زوجة أخي و منظره مريب .... ....... )
حينها هزها مرة أخرى وهو يصرخ بغضب مظللا عينيه
( هذه ليست شقة خاصة ...... انها الورشة التي يتم فيها التفصيل يا جاهلة ...و أنا معي المفتاح و آتي الى هنا كل صباح قبل الجميع .... .. )
كان يغلق أزرار قميصه بيده الأخرى ... بينما هو لا يرى أمامه من شدة الألم ....
نظرت ورد الى الجميع ... ممن أكدت لها نظراتها أنه محقا ... فعقدت حاجبيها و هي تشعر بنوعا ما من الغباء
لكنها لم تعترف و هي تجذب ذراعها من يده دون جدوى صارخة
( و من أين لي أن أعرف ؟!! ..... و لماذا تفتح قميصك على هذا النحو !! .... )
عاد ليصرخ بغضب وهو يهزها قائلا
( لأنني لم أتوقع أن أواجه أنثى مجنونة في مثل هذا الوقت صباحا ..... تبا لكِ عيني تكاد تحترق حتى الآن ) نظرت اليه ورد بامتعاض ثم قالت بازدراء
( انه مجرد رذاذ فلفل ..... توقف عن تذمر الأطفال هذا ..... )
حينها فتح عينيه و نظر اليها ..... بعينين حمراوين مخيفتين في شكلهما , فتوترت و صمتت .... بينما حاول الناس التدخل , و محاولة اثنائه عن الذهاب الى قسم الشرطة .....
نظر اليها قليلا بصمت و هو يلهث من الغضب و الألم ..... ثم قال أخيرا يواجهها
( سأتركك ما أن تعتذري ........... )
ابتسم بعض المتواجدين و هم يستبشرون بزوال الغمة ..... الا أن ورد التي كانت تنظر اليه بصمت قالت بعدها بهدوء
( هيا بنا الى قسم الشرطة ........... )
اتسعت عينا يوسف قليلا وهو ينظر الى صلابة وجهها .... و اشتعل الغيظ بصدره , فقال بهدوء خطير
( اذن هيا ...... فلو ظننتِ أنني لم أكن جادا فأنتِ مخطئة .... )
هتفت ورد بقوة
( أتظنني أخاف من مجرد محضر !! ........ ابتعد عني لأحضر أشيائي )
جذبت يدها منه بالقوة .... فعلم حينها أنه لا يزال متشبثا بذراعها ... فتركها على الفور , ثم راقبها و هي تتجه بشموخ الى حقيبتها التي تناثرت محتوياتها .... فجثت في الأرض على قدميها و هي تجمعها ....
الى أن وجدت شيئا ما صغيرا ... أمسكته في يدها و أخذت تتفحصه قبل أن تثبته خلف أذنها باحتراس و هي جاثية أرضا ....
ضاقت عيناه الملتهبتان وهو يرى أن شعرها كان مرفوعا حول وجهها الجذاب حاد الملامح .... لكنها سرعان ما نزعت مشبك الشعر و أسدلته على أذنيها بعد أن ثبتت سماعتها خلف اذنها ...
ثم نهضت لتواجهه بملامح قاسيةٍ و قالت بصلابة
( أنا مستعدة ........ )
ظل ينظر اليها قليلا قبل أن يقول بصوتٍ حاسم
( لن أعيدها لمرة ثالثة ...... لو اعتذرتِ الآن فلن أحرر ضدك محضرا بالتعدي .... )
رفعت ذقنها و هي تقول بهدوء
( أتعرف الطريق أم أدلك ؟؟....................)
قست نظراته وهو يتطلع الى ملامحها الثابتة القاسية .... بينما عيناها كانتا كعيني فهدٍ مجهد ....
كانت ملامحها غريبة منذ ان رآها في المرة الأولى .... تشبه اخاها الى حدٍ بعيد .. شكلا جذابا و عقلا محدودا .... و همجية مبالغ بها ...... امثالهما هما من يجعلاه يعيد التفكير في العودة للبلاد ....
, الا انها لم تأخذ عينيه أبدا ..... كانت عيناها مختلفتان ......
ليس واثقا تماما من انها من الممكن ان توصف بالجميلة ....لكن شيئا بها كان ........
رفعت ذقنها لتقول بغلظة
( هل نذهب ام نبقى هنا لتلتقط لي صورة ؟!! ........ )
الغيظ في صدره في تلك اللحظة فاق الألم في عينيه ..... فقال من اسنانه و قد غلبه عناده
( اذن تقدميني ........ )
استقل سيارته بغضب بعد ان انفض الجمع و احكم غلق الورشة خلفه ... ثم جلس ينظر اليها و هي تقف على الرصيف .... بكبرياء , الى ان اشارت بيدها الى سيارة اجرة ... و استقلتها لتنطلق بها
تنهد بغضب و هو يدلك عينيه , يشك في انه يستطيع القيادة بتلك الحالة ... و مع هذا كان متأكدا من انها قد هربت الى بيتها بجبن ..... و بصراحة هو كان يهددها فقط تعتذر , لكنه امام اصرارها ترك لها الفرصة كي تهرب .....
جلس مكانه يشعر بصداعٍ عنيف من جراء الم عينيه الحارق .... لا يصدق بعد أن تلك المجنونة كادت أن تصيبه بالعمى قبل أن يتدارك نفسه ....
زفر بعمق و غضب ..... فتأثره باتصاله مع أخيها ليلة أمس لا يزال حيا يحرق صدره بحقد قاتم .... و لم يكن لينقصه المزيد من أفراد تلك الأسرة الهمجية كي يسوء يومه أكثر ....
شعورا ملحا بالغضب جعله يتحرك بالسيارة في اتجاه أقرب قسم شرطة .... لا لشيء الا لمجرد أن يهدىء نفسه حين يتأكد من فرارها كالجبناء بعد أن كانت تمثل دور المرأة التي لا تقهر ....
وصل الى قسم الشرطة أخيرا وبعضا من غضبه قد هدأ أثناء القيادة ... الا أن الألم القاتل في عينيه جعله يحمد الله أنه لم يدهس أحدا أثناء القدوم الى هنا ....
لكنه سرعان ما فتح عينيه بصدمة وهو يراها هناك واقفة تنتظره و هي تطرق الأرض بقدمها بعصبية و كأنه قد تأخر على موعدٍ غرامي بينهما !! ....
ظل على ذهوله عدة لحظات لا يصدق مدى عنجهيتها ... الى أن زم شفتيه و هو يزفر بحنق متمتما من بين شفتيه بغضب
( حسنا ...... أنتِ أردتِ ذلك و أنا أكثر من سعيد به ... )
خرج من السيارة بقوة و هو يصفق بابها .... ليندفع في اتجاه القسم و ما أن رأته ورد حتى اعتدلت بتحدي و هي تنتظر منه أن يكلمها الا أنه رمقها بنظرة اشمئزاز واضحة ثم تخطاها ليدخل بكل ثقة دون ان يعيرها أي اهتمام ....
وقفت ورد مكانها و هي تشعر أن دلوا من الماء البارد قد سكب فوق رأسها .... فهدر تنفسها و هي تندفع خلفه بكل غضب .....
الى أن وجدته واقفا في آخر رواق طويل مستندا بظهره الى الجدار وهو يضغط عينيه بيده ..... فاتجهت اليه بعنف و هي تضرب الارض بغضب حتى و صلت اليه فوقفت أمامه و هي تهز ساقها بعصبيةٍ ....
فرمقها من اعلى رأسها و حتى قدميها ... ثم ابعد عينيه عنها بتحقير واضح ....
حينها قالت بغضب و هي توشك على ان تفقد اعصابها
( اذن ماذا الآن ؟!! .......انا لست متفرغة لجنابك ... )
عاد ليرمقها بنفس النظرة التي باتت تثير جنونها كل مرةٍ اكثر من سابقتها ... ثم قال بهدوء
( انتظري هنا في اي مكان الى ان يتم استدعائك .... و حتى هذا الوقت تجنبي مخاطبتي لأن لا رغبة لي في سماع صوتك المزعج ..... )
اتسعت عيناها قليلا ....و هي تهمس بذهول
( انت !! ..... كيف تجرؤ ؟!! ..... من تظن نفسك كي تخاطبني بتلك الطريقة ؟!! .... )
زفر يوسف بملل واضح ثم استقام فجأة و هو يتقدم اليها بقوةٍ جعلتها تتراجع للخلف و هي ترى غضبه بدأ يتزايد مع عينيه الحمراوين قبل ان يقول من بين اسنانه
( اسمعيني الآن ....... لقد ضقت بكِ و بصلفك و غرورك ... و فوق كل ذلك جنونك الذي كاد أن يتسبب في ضياع عيني التي أرى بها من هم على شاكلتك .... و السبب الوحيد الذي يجعلني أقف هنا بالقرب منكِ هو ايجابيتي في عدم السماح لأمثالك بالتكاثر في المجتمع ..... )
صمت قليلا يلتقط أنفاسه الغاضبة أمام عينيها المذهولتين ... قبل أن يقول بعنف رجولي واضح
( الآن ابتعدي ......... )
كانت لا تزال واقفة أمامه متسعة العينين فاغرة الشفتين غير مستوعبة لتلك المعاملة .... فهدر بها
( ابتعدي ......... )
فتراجعت بسرعة للخلف حتى ارتطم ظهرها بالجدار المقابل فرمقها شزرا قبل أن يعود للإستناد الى جداره و يتجاهلها .....
كانت ورد في حالةٍ همجية من الغضب .... الشيء الأكثر على الإطلاق و الذي لا تستطيع التعامل معه هو الإهانة
شعور الإهانة لديها عالٍ جدا .....
مجرد نبرة صوت مزدرية يمكنها أن تجعل منها مجنونة طائحة الرأس .....
سمعت فجأة جلبة لعدد كبير من الأشخاص تم اقتيادهم الى نفس الجوار .... منظرهم كان مريعا و هم ممزقي الملابس و تغطيهم الجروح السطحية في مناطق مختلفة ...
و كان الرواق مزدحما من الأساس .... فاندفعوا تجاهها و أفراد الأمن يحاولن منهم من زيادة الجلبة ....
توترت و شعرت بالخوف و هي تبتعد قدر الإمكان ... فلم تجد سوى أن تتجه للجدار المقابل بجوار يوسف و هي تنظر اليهم بقلق ....
كانت الفوضى و الصوت العالي يعلو المكان و العديد يحيط بهما حتى أ أحدهم ارتطم بذراعها فشهقت بخوف و هي تتراجع الي يوسف الذي أسرع بالوقوف بينها و بينهم .... و هو يضع يده بجوار وجهها على الجدار مشكلا من ظهره و ذراعه حاجزا يبعدها عنهم ... بينما كان يتم دفعه بين الحين و الآخر ....
لكنه لم يلمسها وهو يزفر بحنق من مدى سوء المكان و سوء تواجدها به ..... كانت تتنفس بسرعة و هي تنظر الى تلك الفوضى بينما تعالت الألفاظ النابية ... فاحمر وجهها رغما عنها ...
رفعت وجهها فجأة لتجد وجه يوسف يعلو وجهها وهو يرمقها متأملا اياها بغضب ....
طرفت عيناها قليلا أمام عينيه الحمراوين المحدقتين بها ..... فابتلعت ريقها بتوتر ... حينها قال يوسف بصوتٍ خافت غاضب
( كلمة واحدة ...... سنخرج من هنا حالا و أقلك بسيارتي الى بيتك لألقيك هناك و أرتاح منكِ للأبد .... مفهوم ؟؟ )
فتحت شفتيها و هي تنوي الجدال بعنف الا أن نظرة مع صوته الرخيم القوي جعلها تصمت وهو يقول بتهديد خافت من بين أسنانه
( أو تبقين هنا حتى المساء و سأكون محظوظا و أنا أجدك في نهاية اليوم معلمة بضربة شفرة سلاح طائشة ...... )
زمت شفتيها بغضب بينما عيناها تبرقان بشدة ... لكن رغما عنها طالت بنظرتها من فوق ذراعه المحتجزة لها فصدمتها الجلبة الرهيبة .... و رائحة العرق الفظيعة ....
و فكرت في هلع أمها حين تتصل بها و تعرف سبب تأخرها ..... و كان من المفترض أن تذهب لتحضر فستانها من أجل العريس ممنوع الصرف .....
زفرت بحنق ... ثم قالت بإباء
( سأغادر ........ أرجو الا أقابلك مجددا ...... )
استقامت لتبتعد ... الا أنه لم يتحرك من مكانه و لم يرفع ذراعه كي تمر ... فبدت محتجزة تماما ....
و قبل أن تشتمه قال بلهجته الرخيمة التي لا تقبل الجدل
( قسما بالله .... إن لم تصعدي مع الى السيارة دون جدل ... فسأبقيك هنا لنحرر المحضر و لو اضطررنا للبقاء حتى الليل ...... )
همست من بين أسنانها بغضب
( لن أفعل ............. )
رد عليها بصوتٍ قاطع
( لقد أقسمت ......... )
ظل تحدي العينين بينهما طويلا ... الى أن زفرت مؤخرا و هي تجد نفسها فقدت الجرأة في تحدي عينيه للحظةٍ أطول .... فأخفضت وجهها لتقول بحنقٍ بالغ
( تبا لك .......... )
قال بقوةٍ و إختصار
( سأعتبر تلك موافقة ...... هيا ...... )
أبعد ذراعه لتتحرك ورد في صعوبةٍ محاولين اجتياز تلك الموجة من البشر الممزقين و الملتصقين ببعضهما ... و كان يوسف يحاول جاهدا احاطتها بذراعيه دون أن يلمسها ...
لكن هذا لم يمنع أن تنال الكثير من الكلمات البذيئة ... فكان يوسف يدفعهم بغضب واحدا تلو الآخر الى أن استطاعا أخيرا الخروج من تلك المأساة ....
وصلا أخيرا الى السيارة بسلام ...
ففتح لها الباب الأمامي بقوة .... الا أنها رمقته شزرا تجاوزته لتفتح الباب الخلفي و تجلس صافقة الباب بكل قوتها ...
ظل مكانه ممسكا بالباب المفتوح وهو ينظر اليها بذهول الغضب .... فبادلته النظر لتهتف بقوة
( هيا ...... ليس أمامي اليوم بأكمله ....... )
كان تنفسه يزداد و يتسارع .... الا أنه انحنى من الباب المفتوح و قال من بين أسنانه ...
( اخرجي بكل ذوق و اجلسي في المقعد الأمامي .... انا لست السائق الخاص لكِ )
ظلت مكانها مكتفة ذراعيها برفض .... فقال مجددا بلهجةٍ أشد خطرا
( لو ثبت أن عيني اصيبت بضررٍ دائم فستتحول الى جنحة ........ )
نظرت اليه بطرفِ عينيها .... و هي تتنفس بسرعة و غضب ... قبل ان تزفر فاتحة بابها بقوة و تتجه الى القعد الامامي و هي تدفعه بكل قوة عن طريقها و تجلس بعنف مكتفة ذراعيها ...
ظل ينظر اليها عاقدا حاجبيه و هو يدلك ذراعه التي لكزته به و كأنها لاعب هوكي ... ثم صفق الباب بكل عنف دون ان يأبه لسلامة سيارته الخاصة ....
دار حول السيارة ليجلس بجوارها ثم اغلق الباب بعنف و تحرك بها مصدرا صريرا عاليا أوضح ببساطة عن مبلغ ما يعانيه من غضب ...
استمر الصمت بينهما طويلا .... وهو يقود بسلاسة و لا يعيرها أدنى اهتمام ... بكل كانت ملامحه هادئة بل شاردة ....
رمقته ورد بطرفِ عينيها بعد فترة ... تتأمل ملامحه الهادئة الوقورة ....
ثم نظرت أمامها بقنوط و هي تلاحظ أنه لا يراها من الأساس .... بل كان شاردا تماما مع أفكاره الخاصة و على الأرجح هو يريد تسليمها الأن كطرد غير مرغوب به .....
رفعت ذقنها لتقول بحدة
( اريد المرور على مكان أولا ......... )
اجفل من شروده وهو ينظر اليها عاقدا حاجبيه ليقول بدهشة
( ماذا ؟!! .......... )
ردت ورد بحنقٍ بالغ و استياء
( ماذا ؟!! ...... هل أصاب الرذاذ أذنيك أيضا ؟!!! ...... قلت لك أريد المرور على مكانٍ أولا ..... )
كان ينظر بذهول و استياء ما بينها و بين الطريق و كأنه لا يصدق نفسه .... و حين وجد صوته أخيرا قال بثورة
( هلا أخبرتني من فضلك .... سببا منطقيا واحدا يجعلني أمتثل لأوامرك ؟؟....... )
ردت ورد بحدة و هي تنفض شعرها
( السبب الأقوى .. وهو انني مضطرة حالا للذهاب لإستلام فستان لمناسبة مهمة ... بينما انت اصريت بكل عناد البغال على ان تقلني للبيت ..... )
ظل ينظر اليها بذهول عاقدا حاجبيه بقوة ... الى ان تلافى الارتطام بسيارةٍ امامه في اخر لحظة ...
فوقف بقوةٍ وهو يتنفس بغضب .... لكم يود أن يلكمها لكمة حاليا تعيدها الي بيتها رأسا ......
زفر بقوة وهو يقول أخيرا
( أين تريدين الذهاب ؟؟ ......... )
رفعت ذقنها بانتصار و هي تمليه اسم المكان بصلف و هو على طريقهما .....
تحرك يوسف بالسيارة و هو يتأفف بقوة ... بينما كانت ورد تشعر بالغضب من معاملته لها بتلك الطريقة الفجة ....
وصل اخيرا الى المحل ووقف امامه .... فنزلت دون كلمةٍ و هي تصفق الباب خلفها ...
ال انه ناداها بقوةٍ امرة
( ورد ........... )
تسمرت مكانها و هي تسمع اسمها بصوته الرخيم .... له لكنة خاصة ....غريبة ...
فاستدارت اليه رافعة احدى حاجبيها بوجوم .... حينها قال ببرود جليدي
( لو هربتِ من باب خلفي ..... فسأعود لقسم الشرطة مجددا و معي شهود .... لن أقبل بأن تتسببي في الحنث بقسمي ....... )
مطت شفتيها و هي تنظر اليه بقرف ... ثم قالت من خلف أنفها
( المكان ليس له باب خلفي ......... )
ثم ابتعدت بقوةٍ و هي تفكر بغضب ...
( بعكس عقلك ........ )
راقبها يوسف و هي تخرج بعد فترةٍ و على ذراعها فستان مطوي داخل حقيبة خاصة ....
كانت عابسة و غاضبة و ...... شاردة ...
تنظر الى خطواتها و هي تحمل الفستان بعدم اهتمام ..... شدته ملامحها في تلك اللحظة , بدت أقل غرورا من طبيعتها ....
فتحت ورد الباب و جلست بجواره دون أن تنظر اليه ..... بينما كانت أصابعها تتلمس الفستان الظاهر من الجزء الشفاف من الحقيبة .....
تحرك يوسف بالسيارة في صمت .... ثم نظر اليها أخيرا وهو يشعر بشفقةٍ عليها دون أن يعلم لها سببا ....
اول مرة يعامل فتاة بتلك الطريقة الخالية من الأدب .... لكنها بصراحة قادرة على اخراج العالم عن طوره
زفر بقوةٍ وهو يفكر حانقا
" استغفر الله ..... نسخة من أخوها .... "
نظر اليها أخيرا بوجوم وهو يراها شاردة في الفستان ....
كان الفستان ذو لون برتقالي فاتح ....عبس قليلا وهو يشعر بتلوث في النظر , فأعاد نظره للطريق ... من الواضح للأعمى أن هذا اللون تحديدا لن يليق بها أبدا ....
فتح حوارا أخيرا بهدوء
( هل هي مناسبة خاصة ؟؟ .......... )
رفعت وجهها اليه عاقدة حاجبيها .... ثم قالت بفظاظة
( و ما دخلك ؟؟ .......... )
عقد حاجبيه وهو يفكر مجددا " سبحن الله ..... أخوها بالضبط "
أخذ نفسا عميقا محاولا السيطرة على نفسه ... ثم قال بهدوء
( لما لا تحاولين تصنع اللطف ولو للمرة .... من يعلم ربما تفاجئين و تجدين الأمر ممتعا )
نظرت اليه بغضب و هي تقول
( بالنسبة لشخص تهجم على بيتنا ليلة أمس مطالبا بزوجة أخي .... و مقتحم لبيتها صباحا وهو عا ..... وهو بمظهر غير لائق ... و بعدها أخذني الى قسم الشرطة مع المجرمين و حثالة البشر ..... اذن اعذرني إن لم اقذفك بأقرب حجرٍ الآن ....... )
ضحك رغم عنه بخفوت .... فالتفتت تنظر اليه بصدمة ... حتى ضحكته رخيمة !!!
فقال دون أن ينظر اليها
( أولا .... أنا لم أتهجم عليكم ليلة أمس .... أنا كنت أسأل عن مكان وعد بمنتهى الأدب لكنما لم تساعداني لأحافظ على هدوئي .... ثانيا و للمرة الثانية حاولي استيعاب ان تلك الشقة ليست بيتها ... بل هي الورشة التي يتم بها خياطة الفساتين و أنا أملك احد مفاتيحها .... أنا و ملك و صديقتها كرمة ... و هناك عدد من الخياطات يقمن يوميا بتفصيل عدة أثواب للعرض خلال اليومين القادمين ..... ثالثا أنت من أصر على الذهاب لقسم الشرطة بعدم اعتذارك بكل صلف بعد جريمتك الشنيعة .... رابعا ... اعذريني إن لم افتح بابك و أدفعك الآن و السيارة تتحرك بعد كل ما سبق ...... )
زمت شفتيها بغضب و هي تقول بحدة
( همجي ............... )
اتسعت عيناه بذهول و كأنه يتسائل بدهشة " أنا ؟!!! ... أم أنتِ ؟!!! "
و هي فهمت السؤال من دهشته فغضبت أكثر بينما قال بهدوء
( و أنتِ قليلة الأدب ...... )
اتسعت عيناها و صرخت بغضب
( احترم نفسك ........ )
هز يوسف كتفه وهو يقول
( هذه ليست اهانة مقصودة ..... انه وصف لقد اهملت والدتك في تربيتك )
بان الشر على وجهها فاحمر بشدة و هي تصرخ
( لا تجلب اسم والدتى على لسانك .... افهمت ؟؟..... )
صمتت تتنفس بحنق , ثم قالت بغضب
( و بالمناسبة لا تنطق اسمي مجددا .... من اين عرفت اسمي اصلا ؟؟ ... )
ابتسم قليلا وهو يقول بهدوء مستفز
( من والدتك ..... سمعتها تناديك ليلة امس )
اجفلت قليلا و هي تتعجب من انه استطاع التقاط اسمها بهذه السهولة من مرةٍ واحدة .... شيئا ما بداخلها ارسل بها رفرفة ساذجة .... فعبست بشدة ....
بينما كان هو مبتسما بهدوء وهو يفكر ان سبب تذكره لاسمها هو انه لم يسمع اسما من قبل مثل هذا الاسم في استحالة ان يليق بصاحبته .... تماما مثل فستانها هذا ...
قال يوسف بهدوء
( اذن اخبريني عن المناسبة المهمة ......... )
نظرت اليه شزرا ... الا أنها رفعت ذقنها بطفولية و هي ترغب في الظهور بمظهر الأنثى المرغوبة و هذا شعور جديد عليها فقالت بثقة
( لخطبتي ......... )
اتسعت عيناه بدهشة و هو ينظر اليها ... ثم أعاد نظره الى الطريق وهو يقول
( لا حول و لا قوة الا بالله ..... و من هو مسكين الحظ و العقل الذي قبل بالدخول معكِ في تلك المعركة الأبدية ...... )
شحب وجهها و هي تنظر اليه بصمت ... ثم قالت بخفوت
( هذه أكثر وقاحاتك سفالة و انحطاطا .......... )
ارتجفت ابتسامته قليلا .... و ضاقت عيناه وهو ينظر اليها ليجدها مكورة شفتيها تنظر من نافذتها الجانبية
فقال بهدوء بعد فترة
( أنا آسف ......... )
اتسعت عيناها بصدمة و هي تسمع اعتذاره ..... فعقدت حاجبيها بشك لكنها لم تجب بشيء وهي تعاود النظر من نافذتها ..... فنظر اليها بصمت الى أن قال بعد فترة بهدوء
( طالما انتِ تحتاجين ثوبا للمناسبة ... لماذا لم تطلبي المساعدة من وعد ؟؟ .... ذوقها رائع و تصميماتها خلابة )
جنت عيناها و اشتعلت وجنتاها ... فالتفت رأسها اليه كالقذيفة و هي تقول بغضب
( هذا ما كان ينقصني ..... أن تلبسني ابنة عبد الحميد .... )
ظل صامتا قليلا ينظر الى الطريق أمامه .... ثم قال باهتمام
( أرى بوضوح أن المودة مفقودة .......... عامة سينتهي هذا قريبا بعد أن يعود أخوك الى رشده .... )
عقدت وعد حاجبيها بغضب و هي تقول
( اعتقد أنه قد آن الأوان لتخبرني عما تريده من وعد بالضبط !! ...... )
نظر اليها بسرعة ثم نظر الى الطريق .... ليقول ببساطة
( أريد أن أتزوجها ....... بعد أن تحصل على الطلاق من أخيك ... )
اتسعت عينا ورد بذهول وهي تنظر اليه ... غير مصدقة لما سمعته للتو .... و عدت عدة لحظات قبل أن تصرخ بغضب
( أيها القذر عديم الشرف و الأمانة .... كيف تتجرأ .... أنزلني هنا حالا .... أنزلني .... )
الا أنه لم يتوقف للحظة ... بل عقد حاجبيه و هدر بها
( اصمتي ........... و تعلمي الأدب , أنت فعلا انسانة سليطة اللسان رغم سنوات عمرك ..... )
عبست بشدة و هي ترتجف بغضب مهول .... ثم صرخت بقوة
( أنا من تتعلم الأدب !!! .... و أنت حين ترتبط بسيدة متزوجة ماذا تكون ؟!! ........ )
رد عليها هادرا بقوة
( ظنونك في مثل سواد قلبك و لسانك ...... لست مرتبطا بها .... زوجة اخيك ستحصل على الطلاق قريبا ..... اي انهما منفصلان .... و أنا أنوي الزواج بها بعد الطلاق نقطة آخر السطر .... لا خيانة من أي نوع )
صرخت بحدة
( حين تفكر في خطف زوجة من زوجها تلك خيانة ..... )
رد عليها بغضب وقوة
( لماذا كل شيء هنا بات مرتبطا بلفظ الخيانة !! ..... هل هو هوس بالكلمة ؟!! ...... لا علاقة بيني و بين وعد ..... و طلبها الطلاق من اخيك لم يكن بسببي .... )
كانت تغلي و ترتجف مكانها بقوة .... لكنها لاحظت بانه اوقف السيارة اخيرا ... نظرت من نافذتها بسرعة لتدرك انها قد وصلا الى بيتها دون ان تشعر .....
عادت لتنظر الي بعينين داكنتى اللون .... فبادلها النظر بصمت ليقول بعدها بهدوء
( أنتِ على وشكِ الإصابة بالإغماء من شدة الغضب ...... لما لا تهدأي و تعترفي بأنكِ تريدين لهذه الزيجة أن تنتهي !!! ..... هل انتِ منافقة لهذا الحد ؟!! ..... زوجة ابن و اخ ... لا ترحبون بها و لا تريدونها ... فلماذا التمسك بها ؟؟ .... اهو نوع من العبودية ؟؟ ....... )
ظلت تنظر اليه و هي تلهث بنفس سريع .... لا احب لديها من طلاق وعد و سيف ... من تخدع ؟؟ ....
لكن شعور غريب بطعم الحامض أشعرها بالغيرة من وعد ..... من ذلك الرجل الذي اتى خلفها بعد كل سنوات الغربة ليحارب زوجها رغبة في الفوز بها ... من هي وعد اساسا لتملك مثل تلك الجاذبية ؟!!
انها ابنة عبد الحميد العمري !! .... مادية منتفعة وصولية .... الا يوجد من عاقل يراها على حقيقتها لمرةٍ واحدة ؟!!! ........ انها ابنة عبد الحميد العمري !! فماذا تكون سوى افعى سامة !!!
هزت رأسها باستهانة مريرة ... ثم قالت
( أنت مسكين ...... و أيضا واهم لو ظننت للحظة بأن سيف يمكن أن يتخلى عن شيء يملكه ... )
نظر يوسف اليها نظرة قاسية بعثت رجفة في اوصالها .... ثم قال بهدوءٍ قاسٍ
( هل وعد شيء يملكه اخاكِ ؟!!! ......لا عجب أن المسكينة هربت منكم في أول فرصةٍ القت نفسها بها للمجهول ...... )
نظر أمامه وهو يقول
( أنا آسف لها .... و لما تعانيه في تلك اللحظة بالذات على يديه دون أن أجد القدرة على مساعدتها ..... )
صمت للحظة ثم نظر اليها بقساوةٍ وهو يقول بخفوت
( و أنا آسف على تعيس الحظ الذي سترتدين له هذا الفستان ..... لتجعلين منه مجرد شيئا داخل اطار هذا البيت الأقرب الى مؤسسة منه الى أسرة و عائلة ..... )
فغرت ورد شفتيها بذهول مما تسمعه منه .... بينما قال يوسف بصوتٍ آمر
( أخرجي الآن ...... لقد أتممت مهمتى أخيرا ..... )
.................................................. .................................................. ....................
رمشت بعينيها عدة مرات و أشعة الشمس القوية تداهم ملامحها البيضاء ....
شعرت بنعومة الأغطية التي تدثرها بدفء و تجعلها مدللة بداخل غيمة زغبية .... مما اعطاها شعور غريب لطيف لم تستشعره منذ عدة أيامٍ مضت .....
نهضت وعد من مكانها بعد أن استيقظت تماما .... لتجلس في السرير و هي تنظر الى أنحاء الغرفة .... غرفة سيف ....
لم تكن متأكدة ان كان ذلك حلما أم لا ...... لكن وجودها هنا في غرفته و سريره .. و هي ترتدي سترة بيجامته الشتوية ..... يجعل الحلم حقيقة ...
رفعت يدها تتلمس نعومة سترته و هي تتذكر نومها بين ذراعيه القويتين ... و يده التي أخذت تدلك لها ظهرها برفق حتى هدأ تنفسها ..... فنامت ....
نهضت برقة و هي تبحث عنه بعينيها .... فوجدت خفه بجوار السرير في انتظارها !! .... مكان انزال قدميها , كي لا تضعهما على الأرض الباردة !! ....
مجرد تفاصيل تخبرها أنه هنا بالفعل ... في مكانٍ ما ....
أم أنها تفاصيل تخبرها بما هو أكبر و أعمق !! ......
وضعت قدميها في الخف الضخم و كتفت ذراعيها و هي تخرج لتبحث عنه في كل مكان ....
شعرت على الفور بنسيم بارد لطيف أثلج قلبها من عند باب البيت المفتوح جزئيا .....
اتجهت اليه بهدوء و كأن قدميها تقودانها اليه ... الى أن وقفت في الجزء المفتوح من الباب ...و الهواء البارد يلفح وجهها برقة ... مطيرا خصلات شعرها الناعم و التي باتت برية دون تنظيم ....
تغضنت زاويتي عينيها في شبه ابتسامة خائنة ... بينما استندت بكتفها الى اطار الباب مكتفة ذراعيها أمام صدرها و هي تنظر الى ظهره العريض .... وهو يقف خارجا أمام الباب يتأمل المنظر أمامه بصمت ...
لا تعلم كم مرت من الدقائق و هي مكانها تنظر اليه ... و كأنها تحاول أن ترتوي من هيئته التي طالما فتنتها ...
ثم وجدت نفسها تقول أخيرا بهدوء
( أصبحت مدخنا شرها مؤخرا ............. )
لاحظت أن جسده تصلب لسماع صوتها من خلفه .... لكنه لم يلتفت اليها .. بل أخذ نفسا آخر من سيجارته ليقول بعدها بخفوت
( ياللعجب !! ............ )
ارتفع حاجباها و هي تسأل بخفوت رقيق
( هل من المفترض أن تصلني رسالة ما هنا ؟!!! ....... )
لم يرد سيف ... و لم يستدر اليها , فقط أخذ نفسا آخر و نفثه في الهواء وهو يرفع رأسه عاليا قليلا ...
فشعرت بالشفقة عليه لسبب ما ... حنان مفاجىء ظلل رمادية عينيها و هي تراقبه بكل تفاصيله ....
فقالت ممازحة قليلا
( أنا أيضا أصبحت أتناول العديد من الأدوية و دخلت المشفى أكثر من مرة مؤخرا ... لماذا يا ترى ؟!! ... )
تصلب جسده أكثر ... بل تشنج , و التفت اليها ببطىء .... ينظر اليها طويلا بنظراتٍ لم تفهمها ....
كان حاجبيه منعقدان ... و عيناه عميقتي السواد .....
ارتجفت شفتيها بفعل نظراته العميقة .... و طال بهما النظر و كأن العالم حولهما أصبح الهواء بين رئتيهما فقط ... كل شيء آخر فقد معناه ....
أسبلت جفنيها أمام حرارة نظراته ..... تلك العينين السوداوين , تتشربان برمادية عينيها و كأنه لن يمل منهما أبدا ..... شعرها ذو الفوضى الجديدة عليه ....
متأكدة هي من منظر شعرها في تلك اللحظة وهو يتموج متناثرا في كل مكان ..... خاصة أن جانبيه المتدرجين حديثا ... زادا من فوضويته ....
لم تعرف مدى جاذبيتها في تلك اللحظة .... نظر اليها سيف بحزن وهو يلتقط لها بعدستي عينيه كل صورة ممكنة ...
كم بدت شهية و هشة في ذات الوقت ...
بشرتها الشاحبة يعلوها بعض التورد بفضل الهواء البارد .... و شعرها بات كشعر مراهقة متمردة ترفض أن تجمعه بترتيب .....
سترته .... هل أخبرها من قبل أن أبسط ملابسه عليها تبدو أجمل مارأت عيناه ؟!! .....
طالت عيناه الى ساقيها الطويلتين .... ممتدتين الى مالا نهاية .... لا .... بل لهما نهاية ... و هي خفه الضخم الذي يحتضن قدميها الصغيرتين ....
شعر بصدره ينبض بقوةٍ وهو يعود بنظره الى عينيها ...... ثم تكلم اخيرا ....
فقال بنبرةٍ عميقة للغاية
( هل أنتِ أفضل اليوم ؟؟ .......... )
لا تعلم كيف بدت ملامحها في تلك اللحظة ..... ربما بدت مراهقة سخيفة ....
لا كامرأة على وشك الإنفصال عن زوجها ......
الذي تعرفه جيدا أن قلبها قفز بداخل صدرها كطفلٍ حصل على لعبته الجديدة لمجرد سماعها لسؤاله البسيط ... و كأنها أكثر العبارات غزلا في العالم أجمع ......
احمر وجهها بحماقة و هي تخفضه هامسة برقة
( أنا بخير ......... أنا .... بأفضل حال .... )
كانت احدى ساقيها تلتف خلف الأخرى .... بينما انخفضت عيناه اليهما و حتى احدى قدميها التى كانت ترتفع على اطراف اصابعها بتوتر خجول ....
رغما عنه ابتسم .... ابتسامة لا ترى بالعين المجردة ... لكنها كانت حنونة ... حزينة ...
كل ما بها كان يثير غضبه .. غيظه ... ناره .... و عطفه .....
تنهد بقوةٍ كادت أن تفجر الحجر وهو يتطلع بعيدا الى السماء و كأنه يريد جاهدا التخلص من عبءٍ يرزح تحته .....
ابتلعت وعد ريقها و هي تلتقط نفسا مهتزا ... قبل أن تقول بصوتٍ خافت لكن شجاع
( ماذا حدث ليلة أمس ؟؟ ........ )
التفت ينظر اليها بصمت .. الا ان نظراته جمدتها مكانها , لكنها لم تستسلم ... فأعادت بقوة اكبر
( ماذا فعلت مع يوسف ليلة امس يا سيف ؟؟؟ ...... )
برقت عيناه غضبا ما ان نطقت اسم يوسف .... و انعقد حاجبيه ببطىء بينما استطاعت سماع صوت أنفاسه بوضوح ....
ارتجفت بشدة ..... باتت الآن تحفظ سيف عن ظهر قلب ,..... انسان قوي و مسيطر على نفسه لابعد الحدود ... تمرين درب تفسه عليه لسنواتٍ طويلة ... حتى نجح ... و اصبح على ما هو عليه الان ...
لكن بداخله يقبع امتلاك ... و غضب ... و حمم بركانية طافية تحت ذلك السطح المسيطر
فما أن يقتحم احدهم تلك القشرة السطحية .... تنفجر تلك الحمم التي بات يدفنها بداخله لسنواتٍ طويلة ...
و غضبه حينها يجعل منه مجرما .... تماما كما قال لها من قبل ....
و ها هي الآن تحفر و تخترق تلك الطبقة مجددا ... لكنها لن تسمح لخوفها منه أن يثنيها عن محاولة الحصول على جواب
فرفعت ذقنها للتابع بقوة
( اي حماقةٍ ارتكبتها في حقه يا سيف ؟؟ ......... )
ظل ينظر اليها طويلا ... ثم قال اخيرا بصوتٍ غريب خطير
( هل يهمك أمره ؟؟ ........... )
زفرت بقوة و غضب و هي تميل بوجهها جانبا ... ثم استقامت لتقف أمامه بتحدي قائلة
( نعم يا سيف يهمني أمره ...... هذا الرجل ترك عمله و مصالحه ليرافقني .... هذا الرجل كان بإمكانه أن يستولي على حقي في الميراث بعد هذه المدة الطويلة و لكنه لم يفعل ..... هذا الرجل يا سيف .... )
قال سيف بصوتٍ غريب يقاطعها
( يحبك يا وعد ......... )
اجفلت من نبرته القاطعة كشفرة حادة ... و رمشت بعينيها ....
ارتجفت انفاسها قليلا .... لكنها قالت بخفوت ثابت
( هذا شأنه ...... و ليس معناه أن تقتله ....... )
ظل ينظر اليها طويلا .... قبل أن يسألها بلهجته القاتمة
( هل أحببتهِ يا وعد ؟............ )
اتسعت عيناها بذهول و هي تنظر اليه غير مصدقة لهذا السؤال الذي خرج للتو من بين شفتيه
فهمست بخفوت
( هل جننت يا سيف ؟!! ....... )
اقترب منها خطوتين فتراجعت خطوتين هي الاخرى بسرعة ... ثم اجبرت نفسها على التسمر مكانها بقوةٍ وهي ترفع ذقنها لتجابهه قائلة بعنفوان
( ماذا ؟!! .... هل ستتحول الى مجرم كليلة أمس ؟!! ... لن تخيفني يا سيف و لم تكسرني بعد ... أنا قوى مما يخيل لك مرضي و ضعفي .....و أستطيع تحمل نوبات غضبك في سبيل الحصول على إجابة ... )
كانت تنظر اليه ... تتحداه .... بينما كانت احدى قبضتيه تنقبض بشدة .... فكه يتشنج و عيناه حمراوان ....
رغما عنها ارتجفت ...لكن ليس خوفا هذه المرة .... بل حزنا عليه ......
دخل البيت و هي تتراجع امامه .... الى ان توقف ... فتوقف تنظر اليه بحزن , حينها قال مجددا بصوتٍ غريب خافت
( هل أحببتهِ يا وعد ؟؟........... )
فغرت شفتيها و هي تنظر اليه .... لا تصدق انه اعاد السؤال لا ليهينها و انما لأنه يريد جوابا حقيقيا ......
رمشت بعينيها بتفكير .. ثم همست بخفوت
( و تعطيني الأمان ؟؟ ........... )
التوى فكه بشدة ... و استطاعت أن ترى عينيه تضيقان وهما تضمان طوفانا غريبا من الغضب و الألم ....
الا أنه قال بصوتٍ أجش بعد فترة قصيرة
( أعطيتك ...... الأمان ...... )
ظلت تنظر اليه طويلا و كأنها تحفظ ملامحه عن ظهر قلب ... و كأنها تحتاج الى ذلك من الأساس ... فملامحه هي الشيء الوحيد المنقوش بذاكرتها ... كل شيء آخر ذاهب و زائل بداخلها ... بلا قيمة ... بلا مكانة .... الا ملامحه .... هي السر الذي قفلت عليه قلبها الجليدي ....
حينها قالت بخفوت
( لم أحبه يوما يا سيف ...... و لن أحبه فاطمئن .... لأنني حتى و بعد أن ننفصل .... لن أحب غيرك .... )
اتسعت عيناه فجأة ببريقٍ مذهل وهو ينظر اليها ..... وهو يفغر شفتيه غير قادرا على الرد .....
فابتسمت رغما عنها بحزن ....
أنها المرة الأولى التي يخونه فيها الكلام ...... لدرجة العجز .....
فهمست برقة و هي تبتسم ابتسامةٍ ذات خطين مائلين منحدرين من زاويتي شفتيها .....
( هل أكلت القطة لسانك ؟!! ...... هذا يومِ مشهود في التاريخ اذن ..... )
شعرت بقلبها يتضخم ..... لأول مرة تشعر فعليا بالمعنى الحرفي لمصطلح تضخم في القلب و الذي يسبب مرضها ....
فاستدارت بعيدا عنه ...... تعطيه ظهرها ..... و قلبها ....
بينما كان هو ينظر اليها غير قادرا على الكلام بالفعل .... حاول و لكنه لم يستطع , فقالت وعد بخفوت و هي ترجع شعرها الى الوراء بشرود دون أن تجد القدرة على الإلتفات اليه ....
( على الرغم من أنك جعلتني أكرر اعترافي هذا عشرات المرات ..... لذا أجد صمتك الآن مذهلا ... )
ابتلع غصة في حلقه المتشنج ليقول بصوتٍ مختنق
( جعلتك ......... تلك الكلمة هي الأساس , أنني جعلتك تقومين بذلك ...... لكنها المرة الأولى التي تنطقين بها بملىء ارادتك ........ )
زفرت نفسا مرتجفا قبل أن ترفع رأسها قليلا و تقول ضاحكة قليلا
( لو لم أشعر بها لما استطعت النطق بها و لو علقتني من قدمي في البرد ليومٍ بأكمله ..... من أخدع !! )
ابتسم بجنون متألم و هو ينظر الى ظهرها ... قدها النحيل ... ساقيها الطويلتين .... وشعرها الفوضوي الطويل .....
تابعت وعد بخفوت
( أكتشفت ليلة أمس أنني ...... أنني كنت أموت من الرعب ..... عليك .... أن تتسبب لنفسك في مصيبة و تضيع بها حياتك ..... ليكون والدي فعلها في بادية حياتك .... و أنا أكملتها ....... )
أظلمت عيناه دون أن يبارحه الجنون بها ...... لكن وعد تابعت و هي تتنهد بعمق
( أذهلني أن أعيش الرعب مما قد يصيبك بعدها ..... أكثر من خوفي على حياة يوسف ..... كم هذا دنيء مني !! ....... لكن عبارتك ظلت ترن في أذني منذ أن غادرتني ......
" انتِ لم ترين غضبي بعد .... فهو يجعل مني مجرما " ........... و أنا أعلم ما فعلته بمراهقتك ..... )
سمعت صوته يلتقط نفسا أجشا خشنا .... ثم قال بخفوت خشن
( هناك سؤال بعد لم أسمع اجابته يا وعد .......... )
همست وعد بخفوت دون أن تستدير اليه
( ما هو ؟؟ ............. )
قال سيف بصوتٍ جاف مجهد ... و على الرغم من ذلك لم تخبو قسوته
( هل هو الرجل المناسب لكِ ؟؟ .......... )
عضت على شفتها و هي تغمض عينيها .... الرجل المناسب لكِ !! ... كم بدت عبارة بهتة بجوار آتون المشاعر المشتعلة بينهما ... فهمست وعد بفتور
( أشك أن يكون هناك من هو مناسب لي بعد ذلك .......... بعدك )
تحشرجت أنفاسه وهو يقول بخشونة
( تعالي الى هنا ............. )
أغمضت عينيها بقوة ..... فقال بصوتٍ خافت أكثر خشونة و غلظة
( أمامك لحظة واحدة .......... لا تستفزيني أكثر )
استدارت اليه مطرقة برأسها ... لا تجد القدرة على مواجهة عينيه .... فقال بخشونة
( اقتربي مني يا وعد .... بمحض ارادتك , كما نطقتِ بحبك للتو بمحض ارادتك .... تعالي الي )
تقدمت قدماها ببطىء تقترب منه ... و قلبها يخفق بعنف , بينما هي تشعر بنظراته عليها , تلك النظرات التي تعرفها جيدا و هي اكبر من احتمالها .... من شدة عمقها و عنفها ...
وصلت اليه و هي مطرقة الرأس... فوقفت تنظر الي صدره الذي لطالما توسدته و نامت آمنة للمرة الأولى بحياتها ....
ثم همست متندهة بحرارة
( ياللهي ..... كم خفت عليك !! ....... ظننت أنني فقدتك للأبد )
حينها التقطت ذراعيه خصرها يرفعها اليه بقوةٍ و هو يدفن وجهه بعنقها بقوةٍ و ألم ..... بينما انطبع وجهها على وجنته الغير حليقة .... و التي خدشت بشرتها بكل عمق مشاعره الهائجة في تلك اللحظة .....
همس سيف بخشونة وهو يرتشف من دفىء عنقها الناعم
( و مع هذا مصرة على الرحيل ؟!!! .........)
اختنق صوت وعد و هي تتعلق بعنقه قائلة بضعف
( ما حدث لك قديما على يد والدي ... أكبر من الحب .... نهمي لحلمي الأول في الحياة أكبر من هذا الحب .... لذلك دائما ما نجرح بعضنا البعض ..... لقد آلمتني كثيرا يا سيف و آلمتك أكثر .... أي فرصة لنا !! ...)
هتف بخشونة وهو يعتصرها أكثر
( لم أقصد ايلامك ...... و أستطيع تحمل غبائك , .... لذا أرى فرصة كافية لو حاولنا .....)
هزت رأسها دون أن يسمح لعنقها بالتحرر ... و قالت بيأس
( سأحيا كارهة للحظة التي فضلتك بها عن انشاء انسانة لها كيان مستقل ناجح .... و أنت .... أنت كلما ظهر لك الماضي في أي لمحة ........ )
قال بقوة و استياء
( نسيته تبا لكِ ..... نسيته .... الم تخبرك قبلاتي ؟!! ... شوقي !! .... فقداني السيطرة مرة بعد مرة بعد سنوات طويلة تعلمت بها ضبط كل جموحي .... جئت انتِ و نسفتِ كل تعب السنوات في لحظة .... )
أغمضت وعد عينيها و هي تتلمس شعره بيأس .... ثم همست
( و هذا سببا آخر لتكرهني .......... )
هتف بقوة و يأس
( لست أكرهك ..... لست أكرهك يا عمياء .... أحيانا ... أحيانا فقط ... )
صمت دون أن يجد القدرة على المتابعة ... فرفعت رأسها و هي تبتلع غصة في حلقها لتأخذ نفسا مرتجفا لتقول بهدوء حزين
( أعرف ...... أعرف ......لست في حاجةٍ لقول المزيد ..... قد تعفو لما حدث لك .... لكن والدتك ....كيف يمكنك أن تنسى ,.... و تسامح ... . )
أنزلها على قدميها ببطىء .. دون أن يتخلى عنها , فرفع وجها حزينا شاحبا ينظر اليها طويلا وهو يتنفس نفسا قاسيا متناغما مع تنفسها .... ليقول بقوة و غضب
( لو كان حبك من القوة .... لساعدتِني ...... )
ابتسمت برقة و حزن و هي تميل برأسها و تهمس بخفوت
( و أنا أقول عنك المثل .......... )
أظلمت عيناه بشدة ... بينما رفعت وعد وجهها لأعلى و هي تأخذ نفسا عميقا ... و كأنها تحاول الحياة ....
ثم لم تلبث أن نظرت اليه و هي تقول بشجاعة
( اذن .... ماذا فعلت به؟!! ........ )
عصفت عيناه و دفعها عنه بقوة ...... و استدار عنها , لكنها لم تخاف و هي تقترب منه هاتفة بقوة
( ماذا فعلت يا سيف ؟؟ ...... ارجوك لا تصدمني ؟؟ .... هل شوهته ؟؟؟ ... اصبته بعاهة ؟؟ .... تبا المعرض لم يتبق له سوى ايام قلائل .... و ها أنت تمنعني عن الحضور و تشوه شريكي ..... أي غباء آخر ينقصك لتكون متخلف العام !! ....... )
وضع يديه في جيبيه بنطاله دون أن يستدير اليها .... لا يزال يتعامل مع صوتها الهامس بحبه ....
كيف يتركها الآن ؟!! ...... كيف يتخلى عنها بعد أن سمع منها تلك القصيدة الحزينة و المتمثلة في مجرد كلمةٍ من أربعة أحرف !! .......
قال اخيرا بصوتٍ خافت دون ان ينظر اليها
( عدت من منتصف الطريق .......... )
عقدت حاجبيها و هي تسمع صوته الفاتر المتناقض مع عاصفة عينيه و قسوة مشاعره ...
فهمست بوجوم غير مصدقة
( لم تذهب اليه ؟!! ....... لم تراه ؟؟!! ...... و ما الذي غير موقفك ؟!! .... كنت كالمجنون !! ... )
لم يلتفت اليها و هو يخفض رأسه قائلا باختصار
( خفت لأنني تركتك وحدك ....... دون هاتف .... )
فغرت وعد شفتيها بنفس مرتجف لاهث ..... أي زوجة كانت لتغضب لو عاد زوجها دون أن يضرب خصمه .... لكن تلك العبارة البسيطة التي نطق بها و هو مطرق الرأس ......
جعلتها ...... جعلتها .........
تغمض عينيها و تبتسم .... و هي ترفع يدها لتضعها على قلبها العليل برقة و هي تهمس لذلك القلب ممتنة
" شكرا ...... أنت السبب .... "
رفعت وجهها تنظر الى سيف ثم قالت بخفوت
( دعني أعود يا سيف .... حل قيدي قليلا .... دعني أحقق حلمي و اهتم بعملي .... ربما كنا في حاجةٍ الى تلك الفترة و بعدها سنرى ان كانت مشاعرنا من القوة بحيث تواجه كل ذلك .... )
رأت بوضوح تشنج جسده .... و شعرت به يرفع رأسه قليلا ... لكنها قالت بقوة
( هذا حقي .. بعد كل التعب الذي تعبته في حياتي ... أترك لي حرية القرار .... الا يكفيك أنني أحبك !! .. )
سمعته يضحك ضحكة خشنة قصيرة ... قبل أن يقول بصوتٍ أجش
( كم أنتِ واثقة من نفسك ........ )
هزت رأسها نفيا بهدوء ... لكنها تنبهت أنه لا يراها فقالت بخفوت
( لست واثقة من نفسي فيما يخصك ........ خاصة بعد أن حصلت على اعترافي طوعا ..... )
استدار اليها ببطىء ينظر اليها .... طويلا , نظرة لم تفهمها تماما .... فرمشت بعينيها و احمر وجهها ...
فأطرقت و هي تقول بخفوت متهربة من نظراته
( هل ستدعني أحضر حفل الإفتتاح و العرض ؟؟ ........ )
طال الصمت ... فرفعت وجهها اليه متسائلة .,... حينها صدمتها عيناه و قال بخفوت من بين أسنانه
( انسي أمر العرض هذه الأيام ...... أنت لازلتِ مرهقة ..... و أنا لن أسمح لكِ بالعودة اليه مجددا ... )
برقت عيناها غضبا و طارت مشاعرها المرفرفة ... كحماماتٍ أفزعها صوت طلقٍ ناري طائش ....
فصرخت بغضب و هي تضع يديها في خصرها
( العودة اليه !!! ..... لا فائدة .... تبا لك لا فائدة منك ...... كف عن تحريك حياتي كما تريد .... انه عرض حياتي كلها .... و أنت تقف هنا لتتصرف كمراهق سخيف ..... )
نظر اليها من أولها الى آخرها .... و توقفت عيناه على ساقيها لعدة لحظات قبل أن يقول ببرود
( على الأقل ارتدي ملابسك كاملة و أنتِ تدافعين حتى يمكنني أن أتقبلك كسيدة أعمال ..... )
عقدت حاجبيها فجأة بشدة و هي تخفض نظرتها الى ساقيها ... ثم لم تلبث وجنتيها أن احمرتا قليلا .... و هي ترفع رأسها لتقول بغلظة
( العيب ليس بي ... العيب فيمن بدل لي ملابسي ليلة أمس و اكتفى بسترته لغرضٍ ما في نفسه ... )
نظر سيف الى حافة السترة التي تقريبا اقتربت من ركبتيها .... ثم قال بخفوت دون أن يرفع عينيه
( لو كنت نلت الغرض الذي أريد لما كنتِ واقفة أمامي الآن تتكلمين بهذا التبجح ..... بل كنت لتهمسين باسمي متأوهة بكل رقةٍ و خضوع ..... )
ازدادت سماء عينيها قتامة و هي تقول بغضب خافت يحمل بعض الخزي
( هذا ليس مضحكا ......... )
رفع عينيه عن ساقيها أخيرا ليقول ببرود
( المضحك هو حالتك التي كنتِ بها ليلة امس ..... لقد نمتِ في بيت الأغراب على الأريكة بكل أريحية !! )
عقدت حاجبيها فجأة و هي تشرد بذاكرتها بعيدا قبل أن تقول بدهشة
( نعم !! ...... الآن تذكرت ..... لقد تعرفت ليلة أمس على زوج من المجانين .... و كنت قد خرجت بدون المفتاح ف ..... )
لم تلبث أن عقدت حاجبيها و هي تنظر اليه شزرا لتقول بشر
( ماذا يعرف هذا الرجل الذي ابتعت منه البيت عن حالنا ؟!!! ...... )
رفع سيف حاجبيه ببراءة و هو يقول
( ماذا يعرف ؟!! ............. إنه مجرد يقوم باستثمار ماله ببيع البيوت التي قام ببنائها .... )
نظرت وعد اليه بشك و هي غير مقتنعة .... ثم قالت أخيرا بفظاظة
( اريد أن أكلم ملك من فضلك ...... أم أن هذا شيء غير مسموح به ؟!! .... لقد جعلتني أترك أختي وحدها بمنتهى الأنانية و القسوة ..... )
رفع عينيه اليها بنظرةٍ جعلتها تصمت و تتراجع على الفور .....
لكنه توقف وهو يقول بهدوء
( ملك آمنة عند أمي .......... )
لم تستوعب وعد ما قاله تماما فقالت بحيرة
( عند أمك ..... عمتي ؟!! ........ )
قال سيف مبتسما قليلا بسخرية
( كم هي رائعة من بين شفتيك ........ نعم , ملك الآن آمنة بين أحضان عمتك ..... )
اتسعت عينا وعد بشدة ... و برقتا بغضب و هي تصرخ ضاربة الأرض بقدمها
( كيف حدث هذا ؟!! ...... و لماذا جعلتها تذهب الى هناك من الأساس ؟!! .... الا يكفي أنا !! ..... لماذا تجعلها تذهب الى مكانٍ ستكون مرفوضة فيه تماما ..... أنا أعرف ملك جيدا , إنها تقدر خصوصيتها لذا من المؤكد أنك قد أجبرتها ...... )
اقترب منها سيف ببطىء وهو ينظر اليها بينما تلجلجت و صمتت ..... الا أنه توقف على بعد خطوة منها , ليقول بخفوت
( لم أجبرها ولو للحظة ..... ملك كانت سعيدة بالذهاب الى هناك ..... و انا هاتفت أمي صباحا و كانت أكثر من سعيدة بها ....... )
شعرت وعد فجأة بشعور غريب .... و كأن حجرا سقط في تجويف روحها .....
بينما شردت عيناها قليلا ... و هي تقول
( أكثر من سعيدة بها ؟!! ..... و ماذا عن ورد ..... و مهرة ؟؟؟ ..... )
شعر سيف بالتوتر من اتجاه دفة الحوار .... لكنه قال بهدوء
( ورد هي من ذهبت لتصطحبها ........ )
لم تفعل وعد شيئا سوى أن أومأت برأسها ... ليس تفهما ..... بل تمعنا .....
فاستدارت بعيدا عنه .... الا انه لم يسمح لها وهو يجرها الى صدره حتى التصق ظهرها به .....
فحاولت التملص من بين ذراعيه الا ان شدد من تقيديها بين ذراعيه وهو يقول بصلابة
( ماذا بكِ ..... اهدئي يا وعد ...... )
الا أن وعد كانت تتلوى كالعفريت و هي تهتف بغضب
( اتركني يا سيف ......... اتركني ........ )
لكنه شدد عليها بقوة حتى رفعها بين ذراعيه و هي تلوح بساقيها الى أن ارتمىعلى كرسيه المتأرجح و أسقطها على حجره وهو يعاود تقيدها بالقوة ... هاتفا بصوتٍ صدمها
( توقفي عن التلوي و تعقلي ....... و الا والله اطرحك على ركبتي و اضربك كما تفضلين أن تعاملي .... )
هتفت من بين أسنانها بغضب و هي تدوس فوق قدمه بقدمها بعنف ......
الا أن قدمها الرقيقة لم تحدث في قدمه الكبيرة القوية أي تأثير يذكر ......
فسكنت في مكانها تلهث بغضب ..... حينها قال سيف بهدوء
( هل أنتِ مستعدة الآن للتحدث كالبشر المتعقلين ؟؟؟ ...... ام تفضلين تناول بعض التبن لعله يساعد عقلك الغبي على التعامل بوعي ...... )
ظلت مكانها على حجره ..... تتنفس بصعوبة , فشعر بالقلق عليها وسألها مربتا على ظهرها برفق
( وعد ...... هل أنتِ بخير ؟؟ ....... )
تلوت لتنزع يده من على ظهرها و هي تقول
( توقف عن تمثيلك هذا يا سيف ..... لقد سئمته ..... )
أظلمت عيناه وهو يقول بصوت لا معنى له
( تمثيلي !! .......... )
أطرقت بوجهها و هي تغمض عينيها .... لا ليس هذا ما كانت تقصد ......
لقد أفسدت الأمر مجددا .... لكن أي أمر هذا الذي أفسدته ؟!! .....
شعرت به يزيح شعرها عن عنقها .... ليطبع شفتيه علي ذلك العنق الطويل برقةٍ جعلتها تتنفس بإختناق
ثم قال بخفوت فوق بشرتها الحساسة
( لماذا كل هذا العنف ؟!! ......... ما الذي آلمك لهذا الحد ؟!! ..... )
برقت عيناها بغلالةٍ من الدموع لم تسمح لها بالتساقط أبدا ...... ثم صمتت قليلا قبل أن تقول بصوتٍ أج
( ملك مقبولة .... و انا ؟!! ...... ما كان ذنبي ؟!! ..... )
عقد حاجبيه بألمها هي و الذي ظهر جليا في نبرة صوتها .... فقال بخفوت بعد فترة طويلة وهو يلامس شعرها و يرجعه عن عنقها
( الهذه الدرجة كنتِ تعيسة في بيتي يا وعد ؟!! ........ )
لم ترد ..... لكنه حصل على الجواب من انحناء رأسها , فشعر بشيء يقبض على قلبه .....
ظل يمشط لها شعرها بأصابعه طويلا ... قبل أن يمسك بذقنها ليرفع قليلا وهو يقول بخفوت
( ارفعي رأسك ........ أنظري , الم تلاحظي شيئا جديدا هنا ما أن استيقظتِ ؟؟ ..... )
رفعت وجها حزينا باهتا دون أن تجيل وجهها في المكان .... فقالت بخفوت
( لا لم ألاحظ ......... )
ابتسم سيف بعطف وهو يقول بهدوء
( لقد أحضرت لكِ شيئا ...... هو ليس بهدية , لكنه دين علي .... و ستبقى هنا للأبد .... حتى بعد ذهابك )
نظرت اليه وعد من جانب وجهها و هي تقول بلا تحمس ....
( ما هو؟!! ......... مصيدة ..... )
مط سيف شفتيه يزفر بإختناق وهو يقول بغضب
( صبرني يا رب ....... حبك ابتلاء يا ابنة خالي .... )
تنفس بغضب وهو يحاول جاهدا التغاضي عن استياءه قبل أن يرفع ذقنها بالقوة هذه المرة وهو يقول بخشونة
( ارفعي وجهك و انظري الى الزاوية البعيدة في نهاية الرواق .... )
نظرت وعد الى حيث أشار ..... فعقدت حاجبيها و هي تتأكد من وجود صندوق أبيض كبير موضوع أرضا .... و من الرسم عليه عرفت محتواه .... فارتفع حاجبيها و هي تهتف بدهشة
( ماكينة خياطة !! ...... أحضرت لي ماكينة خياطة ؟!! ........ )
همس بخفوت وهو يقبل وجنتها
( عوضا عن التي كسرتها .......... )
قالت وعد ببلادة
( لكنني بت أملك العشرات منها الآن ...... )
رفع سيف شفتيه عن بشرتها وهو ينظر اليها بعينين مظلمتين ... ليقول بجدية
( أنت فعلا غبية المشاعر ........... )
التفتت تنظر اليه طويلا ...... فقالت بخفوت
( شكرا ...... لكنني لا أقبل العوض ..... لكن عامة .... )
هدر سيف بها بقوة
( قبليني شاكرة و اخرسي .......... )
عقدت حاجبيها و هي تقول بحنق
( ما هذا ...... حب بالإكراه ...... )
و قد كان بالفعل .. فقد أدارها اليه بقسوةٍ حتى استلقت بين ذراعيه و ارتفعت ركبتيها لتنثنيا فوق حجره ... وهو ينقض عليها منهيا المزيد من غبائها .... محاولا الإرتواء من شفتيها قدر الإمكان .... بينما أخذ الكرسي يتأرجح بهما بسرعةٍ حتى أصابها الدوار ...
رفع سيف رأسه عنها قليلا .... ليهمس وهو يلهث بصعوبة ... بينما بدت عينيه عاصفتي المشاعر
( نحن مدعوان اليوم لتناول الغذاء عند جيراننا ......... )
صرخت وعد بذهول و غضب و هي لا تزال تلهث من عمق مشاعرها
( ماذا ؟!!! ........لن يحدث ولو انطبقت ...... )
الا أنه قاطعها وهو يهمس برقةٍ حزينة
( اعرف علاجك جيدا ........... )
و اسكتها بأجمل طريقة متأرجحةٍ ... تم تسجيلها ببراءة اختراع تحت اسم سيف الدين فؤاد رضوان ....
.................................................. .................................................. .......................
بعد عدة أيام
وقفت أمام المرآة .. تربط حزام الثوب الواسع عليها ببطىء ...
ثم توقفت تنظر الى عينيها في لحظةٍ خاطفة .... كانت شخصا آخر ...
لم تكن نفس الرفيقة التي اعتادت النظر اليها طوال اثنين و عشرين عاما من قبل .........
لقد كانت أخرى خانت ثقتها ....
كانت لا تزال واقفة تنظر بتعبير مبهم ... الى ان سمعت صوت طرقة خفيفة على باب الغرفة , لتدخل منيرة الغرفة بعدها مبتسمة ....
اقتربت منيرة من ملك بهدوء و هي تطالعها من أول شعرها الطويل و حتى اخمص قدميها ثم قالت برقة
( بسم الله ماشاء الله ........ الفستان زادك جمالا حتى و إن كان واسعا قليلا ..... )
ابتسمت ملك قليلا و هي تقول بخفوت
( شكرا لكِ سيدة منيرة ....... هذا لطف منك و من الآنسة ورد .....لقد أتعبتكن و أثرت الفوضى هنا في البيت ....... )
مالت ابتسامة منيرة بحزن و هي تفكر .....
" لم يكن الأمر صعبا ...... أو ربما السنوات كانت هي الكفيلة بأن تطمس على الماضي بمراره ... ليتها كانت حاولت قديما بجدية و تمكنت من ضم الصغيرتين اليها .... ليتها حاولت أكثر ... لكانت حياتيهما قد اختلفت .... "
ارتجفت ابتسامة منيرة و هي تقترب منها لتربت على وجنتها هامسة بحنان
( لقد سعدنا بكِ بيننا يا ملك ..... أنتِ كزهرة بيضاء رقيقة تسر النظر أينما وجدت )
ابتسمت ملك قليلا و هي تشعر بشوق رهيب لوجود أم في تلك اللحظة في حياتها بالذات ... لكن و مع ذلك لم تتجاوز حدودها مع السيدة منيرة أبدا ..... كانت دائما متحفظة و مهذبة معها ...
حنان السيدة منيرة كان يتزايد يوما بعد يوم .... و حضنها يتسع أكثر ... لكن ملك لم ترتمي به أبدا ...
أبقت على تلك المسافة الآمنة التي كانت ....
تلك المسافة التي ما أن تخلت عنها للمرة الأولى ... فقدت نفسها بأبشع الطرق .....
تنحنحت السيدة منيرة و هي تقول مبتسمة برقة
( هناك زائر لكِ ...... ينتظر ليراكِ .... )
اتسعت عينا ملك قليلا و هي تقول بحيرة
( زائر لي أنا ؟!! ...... هل عادت وعد ؟!! ....... )
هزت منيرة رأسها نفيا و هي تقول
( لا .......انه السيد المهذب الذي ساعدك و أتى بكِ الى هنا ..... )
اتسعت عينا ملك اكثر و فغرت شفتيها وهما تنطقان اسمه دون صوتٍ يسمع بوضوح
( السيد ....... رائف !!! )
أومأت منيرة برأسها و هي تقول مبتسمة
( نعم لقد أتى ليطمئن عليكِ ............... )
كانت ملك تنظر اليها بعدم فهم .... و مع ذلك المفهوم الوحيد الذي أدركته هو أن الغريب قد عاد ....
مرة بعد مرةٍ يعود ......
رمشت ملك بعينيها بينما ربتت منيرة على وجنتها الشاحبة و هي تقول بحنان
( لماذا ارتبكتِ بهذا الشكل ؟!! ....... انه مجرد سيد مهذب ..... تعالي لتطمئنيه عليكِ بنفسك )
كانت ملك تنظر اليها بعينين واسعتين كبيرتين .... ثم أومأت قالة بخفوت
( حاضر سيدة منيرة ..... تفضلي و سألحق بكِ خلال لحظة واحدة )
ابتسمت لها منيرة موافقة و هي تربت على وجنتها مرة أخرى و كأنها لا تريد تركها ... لكنها تنهدت و هي تستدير لتبتعد بصمت بعد ان قالت بخفوت
( لا تتأخري عليه ......... )
همست ملك بخفوت مخاطبة الفراغ
( حاضر ............ )
ثم استدارت تنظر الى المرآة مجددا .... و هي تطالع الرفيقة الخائنة ... كانت شاحبة الوجه , بعينين كبيرتين و شعر طويل جدا منسدلا حولها مما زاد من نحول جسدها مقارنة بهذا الشعر الكثيف ...
مدت ملك يدا مرتجفة و هي تتناول فرشاة الشعر .... لتمشط بها تلك الأمواج الطويلة قبل أن ترفعها في ذيل حصان طويل ....
مما جعل بياض وجهها و اتساع عينيها اكثر وضوحا ...
نظرت ملك الى نفسها مقيمة ..... لقد زالت كدماتها تقريبا حتى بدت كمجرد ظلالا وردية هنا و هناك ... و كأنها تأبى أن تغادر بمثل تلك البساطة .... لكن الوشم المتقيح الذي خلفته على روحها لم يكن ليغادرها ابدا ...
خرجت من الغرفة و اتجهت الى السلم كي تنزل بهدوء .... و مع أول درجاته استطاعت رؤية رائف جالسا بأسفل على احد الكراسي ...
فغرت شفتيها قليلا و هي تراقبه بصمت ....
كان يجلس مائلا للأمام ... مستندا بمرفقيه الى ركبتيه و هو شاردا و كأنه يعيش عالما آخر ... بينما كانت أصابعه تتلاعب بسلسلة مفاتيحه وهو يديرها بشرود تام
لم تستطع رؤية الا جانب وجهه ... لكنها تمنت رؤية ملامحه كاملة , علها تعرف بماذا يفكر كل ذلك التفكير وهو ينظر الى سلسلة مفاتيحه ....
شرد رائف بعينيه وهو يتسائل عن مدى غباء جرأته في التطفل على بيوت البشر و القدوم الى هنا ...
لكنه ببساطة لم يستطع التخلي عنها ... لقد تركها الأيام السابقة على مضض ... دون أن يتخلى فكره عنها ولو للحظة .... مشكلتها أصبحت تشكل هاجسا له .... لقد باتت مسؤوليته كما أخبر الحقير .. كريم ....
توقف عن التفكير فجأة و هو يشعر بذبذباتٍ تتحرك في جسده ... و تأمره بأن يرفع رأسه ... و حين فعل تسمرت عيناه عليها نازلة أمامه ببطىء شديد و هي ترقبه بعينين متسعتين تكادان تخترقانه ....
نهض رائف ببطء و عينيه على عينيها .... تماما كما كانت عيناها على عينيه حتى وصلت اليه ...
وقفت أمامه أخيرا رافعة وجهها اليه بصمت ... ثم همست أخيرا غير متأكدة مما تقوله
( مرحبا ...... أنت هنا , مجددا .... )
صمتت قليلا ثم ضحكت قليلا ضحكة صغيرة مسكينة عصفت بقلبه و هي تقول بإمتنان
( لا أصدق أنك عدت ......... )
ابتسم طيف ابتسامة و هو يقول ناظرا الى وجهها
( ألم أقل لكِ بأنني سأكون موجودا دائما ....... )
ساد صمت قليل و هو يتأمل رقتها في ثوبٍ واسعٍ عليها قليلا ... و خصره مربوط بحزام رقيق ... بينما موجات شعرها الطويل كانت منحسرة بعيدا عن وجهها المثالي في برائته ....
حينها قال بصوتٍ أجش
( كيف حالك يا ملك ؟؟ ............... )
ابتلعت ريقها قبل أن تومىء برأسها قليلا و هي تهمس
( بخير ..... الحمد لله )
حينها أظلمت عيناه قليلا و هو يقول سابرا روحها المهزومة
( كيف حالك حقا ......... )
ارتجفت شفتيها بشدة ... فبللتهما و هي تأخذ نفسا يماثلهما ارتجافا , لكنها لم تستطع المقاومة طويلا هي تهمس بصوتٍ بدا كالنشيج دون دموع
( لست بخير ...... لست بخير ابدا ., لكن ماذا بيدي ؟!! .... صوتك لا يزال يلاحقني ... أنها ضريبة يجب أن أدفعها و أخرج منها بكرامة ...... )
عقد حاجبيه و ضاقت عيناه قليلا ... لكنه لم يلبث أن استدار ليحضر شيئا من على الطاولة ... ناوله لها وهو يقول
( خذي ..... هذه لكِ ....... )
اتسعت عيناها و هي تنظر الى اللفة في يده .... و نظرت الى عينيه دون أن تمد يديها ثم قالت بذهول
( لي أنا ؟!! ........ ما هي .!! )
قال رائف مبتسما قليلا بصوتٍ أجش
( افتحيها ........... )
ظلت تنظر الي عينيه قليلا .... قبل أن تمد يديها بتردد و تتناول اللفة منه ,
كانت جميلة ذات ورقٍ مفضض رقيق ..... بدت رائعة في عينيها دون حتى أن تفتحها .... ظلت ممسكة بها تنظر اليها بنفسٍ متحشرج ... فقال رائف بخفوت خشن
( ألن تفتحيها ؟!! ......... )
رمشت بعينيها و ارتجفت شفتيها قليلا ... و هي تحاول الكلام و تفشل .... ثم قالت أخيرا بصوتٍ مختنق
( هل هي هدية ؟!! .......... )
عقد حاجبيه وهو ينظر الى اللفة في يديها مجددا .. ثم قال بهدوء
( الم يتضح ذلك من لفتها ؟!! ..... لقد جعلت البائع يلفها ثلاث لفات مختلفة حتى وصلت للشكل الذي تظهر بأنها هدية دون الحاجة للسؤال ....... لقد ضيعت من وقتي عشرين دقيقة من أجل الإنطباع الأول ..... )
اتسعت عيناها اكثر ... لكنها ضحكت ضحكة خفيفة .... رقيقة و مرسومةٍ بزوايا الألم .....
لا تصدق انه هنا ... يمزح و معه هدية في مثل تلك الظروف التي تعيشها !!!!
ابتلعت ريقها و هي تنظر الى الهدية طويلا ... و طال وقوفهما .... فقال رائف بصوتٍ أجش دون أن يبتسم
( افتحيها يا ملك ..... و سأجلب معي المرة القادمة مترين من ورق الهدايا لو كنتِ مشفقة عليه .... )
ابتسمت دون صوت و الدموع تشوش الرؤية أمام عينيها .... فابتلعت تلك الغصة بحلقها و هي تقول بصوت مختنق متحشرج
( لم أحصل على هدية ملفوفة بتلك الطريقة من قبل . لا أتذكر أنني حصلت على أي هدايا من الأساس .... )
نبض صدره بشعور مؤلم وهو يسمع تحشرج صوتها و انفعالها بمجرد بادرة بسيطة مثل هذه ...
رفعت ملك وجهها اليه فجأة فارتبك كيانه و هي تطالع عينيه بعينيها الواسعتين و اللتين اختلط حمارهما الوردي بعسلهما الصافي .... الا انها لم تدرك ذلك الإختلال في التوازن و الذي اصابه و هي تتنحنح لتجلي صوتها قائلة بسرعة و لهفة
( ارجوك اجلس سيد رائف ......آسفة أنني جعلتك تقف كل ذلك الوقت ... )
جلس ببطىء و عيناه على فرحتها الطفولية بالهدية ..... لكنها كانت فرحة موجوعة و كأنها تخاطب الهدية هامسة
" تأخرتِ في الحضور .... بعد أن بات الفرح مستحيلا "
تحشرج نفسه قليلا وهو يقول بصوتٍ أجش
( توقفي عن كلمة سيد تلك .... باتت سخيفة )
رفعت عيناها اليه مجددا بسرعة ... فهمس بداخله بغضب ... "لو تتوقف فقط عن تلك الحركة " ....
لكن ملك همست بحيرة
( بماذا أدعوك اذن ؟!! .......... )
فتح شفتيه وهو ينظر الي عينيها ..... لكن الكلمة لم تخرج منه وهو يرى برائتها و الظلم في عينيها ... فعاد لغلقهما و هو يتأملها طويلا قبل أن يقول بعد فترة طويلة بصوتٍ خافت ....
( عمي ......... )
اتسعت عيناها أكثر و هي تنتظر أن يضحك ....... لكنه لم يفعل , فضحكت بخفوت و هي تقول مازحة باعتراض
( أنت لست كبير الى تلك الدرجة .......... )
ظل ينظر اليها طويلا ... ثم قال أخيرا بصوتٍ خافت
( لا ........ لست كبيرا , لكنك أنت الصغيرة ..... )
ارتجفت ابتسامتها و هي تنظر اليه بحزن و قد طار مزاحهما المزيف المتحايل ... لتقول ملك بخفوت
( لم أعد صغيرة سيد رائف ........ لقد كبرت كثيرا ....... )
ظل ينظر اليها بملامح قاسية .... لكنه لم يجادلها في شعورٍ من أبسط حقوقها .... فقال بخشونةٍ خافتة
( افتحي الهدية ........... )
أخفضت ملك عينيها الى الهدية ... تشد احدى شرائطها برقةٍ بدت فنية في نظره ... و أصابعها تتحرك برشاقة لتفض الورق الجميل دون ان تمزقه ......
فتوقفت و هي تجد أمامها علبة من خشب الأبنوس الأسود .... مزخرفة بزخرفاتٍ ذهبية راقية على زواياها ....
كانت صندوق موسيقى كما ظهر بوضوح ... لقد رأت منه كثيرا من قبل , لكن في مثل جمال هذا الصندوق , لم ترى .....
فغرت شفتيها و هي تمر بأصابعها فوق خشبه اللامع من مدى سحره و جماله ..... يبدو غالي الثمن جدا ... و كأنه قطعة فنية نفيسة .....
قال رائف بصوتٍ خافت
( افتحيه ............ )
ترددت ملك قليلا .... الا أنها فتحته برفق أخيرا ..... لتجد راقصة باليه ... تصعد شيئا فشيئا و هي تدور حول نفسها بموسيقى منبعثة منه راقية شهيرة ...
كانت راقية الباليه ترتدي فستانا ابيضا طويلا من الشيفون ..... ممسكة بطرفي تنورته لترفعهما عاليا مع دورانها و هي مرجعة رأسها للخلف ... مغمضة عينيها فبدت بشكل الفراشة بكل وضوح ....
بينما كان شعرها الأشقر طويلا .... منسدلا عكس راقصات الباليه ....
كانت تحفة فنية ..... فهمست ملك بذهول و إنبهار
( ياللروعة !!! ...... إنه .... مذهل !! ......... )
رفعت عينيها الى رائف في تلك اللحظة ببطىء شديد .... مما جعله يأخذ حذره هذه المرة فتنهد بقوةٍ داخلية ...
قالت ملك بجدية
( انه لا يليق بي سيد رائف ....... انه يبدو غالي الثمن جدا .... )
تجاهل رائف اعتراضها وهو يسألها بهدوء
( هل أعجبك ؟؟ ............ )
هزت رأسها و هي تعيد غلقه و فتحه بانبهار لتتصاعد الموسيقى مجددا و تصعد معها راقصة الباليه ... فهمست بذهول
( اعجبني ؟؟!! .... انه مذهل ....... )
ابتسم رائف ليقول هدوء
( الواقع أنه ليس جديدا ...... لقد احضرته معي من باريس منذ عدة اعوام ..... )
رفعت عينيها اليه و هي تقول بدهشة
( حقا ؟!! ........... هل هو ملكك ؟؟ ..... لكن لماذا تعطيه لي الآن ؟؟ .... )
ظل ينظر الى وجهها قليلا ... بينما كانت ملامحه حمل القليل من الحزن ... لكنه قال بهدوء
( لقد كنت قاسيا معك آخر مرة جدا ...... و شعرت بأنكِ لم تستحقي كل ذلك ... وضعك يختلف عن اي ممن هي في مثل مشكلتك ...... )
اخفضت ملك رأسها و مالت ملامحها بأسى و هي تهمس
( لأنني أعرفه ...... لأنني أقرب اليه منكم ..... لأنني ظننت ما أفعله طبيعيا و ليس خيانة لأي اسرة لا نملكها انا وهو من الأساس ...... )
اكتفى رائف بهز رأسه قليلا دون أن يرد ... على الرغم من ان كلماتها البسيطة لم تكن رحمة له ... بل زادت من انقباض صدره و هو يفكر في كل لحظة ان تلك المخلوقة البريئة انتهكت بالفعل على يد هذا الصبي .... فهم من ربوه في وقت انشاء الرجولة .... فإن لم يكن الذنب ذنبهم من يكون المذنب!! ....
رفعت ملك عينيها الميتتين اليه و هي تهمس بإختصار
( هل تظن أن هذا عذرا كافيا لي ؟!! .......... )
ظل ينظر اليها طويلا .... و كانت تنظر اليه بحزن و هي تعرف جوابه جيدا ... و بالفعل قال لها
( لا .... ليس عذرا كافيا ........ )
أسلبت جفنيها بألم و هي تعود و تتلمس الصندوق بصمت ....ثم لم تستطع ان تمنع نفسها من الهمس بقنوط
( اذن لماذا تساعدني ؟!! ........... )
ظل رائف صامتا طويلا و هو ينظر اليها بأسى ..... ثم قال أخيرا بصوتٍ جاد
( اليوم حين كنت أنقل أغراضي الخاصة .... وجدت هذا الصندوق بينها ... كان مخبئا و كنت قد نسيته منذ فترة ....... أتعلمين ما أن فتحته حتى علمت في لحظة أنه سيكون لكِ ..... )
رفعت عينيها اليه برهبة و هي تقول بصوتٍ خافت
( لماذا ؟!! ........... )
تنهد قليلا .... وهو يمد يده فجأة ليلامس الصندوق بين يديها و هو شارد .... حاجباه انعقدا قليلا ...فارتعشت و هي تشعر بيده قريبة منها و كأنها تلامسها هي بحنانٍ لم تعرفه بمثل هذه الصورة من قبل ...
تكلم رائف قليلا وهو يبتسم دون أن ينظر اليها ....
( لقد أحضرته الى رؤى ذات يوم ..... زوجتي .... , )
فغرت ملك شفتيها و هي تسمع منه تلك العبارة البسيطة ....
معقول !! .... أيهديها هدية كانت لزوجته المتوفية ذات يوم !!! .... لماذا فرط به بهذه السهولة ؟!! .....
قال رائف متابعا دون أن ينظر اليها ... و كأنه في عالمٍ غير العالم
( كنت مسافرا في عمل الى فرنسا .... و كنت دائما ما أحضر لها هدية معي من كل سفرة .... كنت أحاول جاهدا أن أحضر لها ما تحبه الفتيات ... من ملابس و عطور و غيرها .... لكن تلك المرة ما أن رأيته وقتها في واجهة أحد المحلات .... حتى عرفت أن هذه هي الهدية التي أريد أن أمنحها لها ..... و بالفعل كان لها )
شعرت ملك بغصةٍ في حلقها و هي تسمع صوته الشارد البعيد ....
فقالت بفضول ما أن صمت
( و ماذا كان رد فعلها حين رأته ؟!! ....... هل طارت به فرحا ؟!! .... )
ابتسم رائف قليلا ... ثم تحولت الإبتسامة الى ضحكة قصيرة خافتة ... ليقول بهدوء خافت
( رؤى لم تكن من ذلك النوع ..... الطائر بفرحته , .. دائما كا كانت هادئة .... بسيطة التعبير ... معي .... )
أخفضت ملك نظرها بسرعةٍ الى الصندوق و هي تشعر بالأسى عليه ...
" هل هذه هدية تواجه بالبساطة في التعبير ؟!! ..... خاصة حين تأتي من رجل مثل رائف ؟!!! ... ليتها تملك من يهديها مثله !! .... "
تسمرت مكانها فجأة و هي تدرك في لحظةٍ من الزمن أنه بالفعل أصبح لها .... و قد أهداه رائف بنفسه لها !!!
ثقل نفسها و هي تعقد حاجبيها قليلا بشيء غامض جاش بداخلها .....
الا أنها استمعت اليه وهو يتابع بهدوء
( لكنها انفعلت قليلا حين أخبرتها بأنه ذكرني بها ....... فقالت أنها ليست شقراء و أنها لن تصبغ شعرها )
ضحك قليلا بحزن وهو يقول
( حينها ضحكت عاليا و ضممتها الى صدري ..... و أخبرتها بأنه ذكرني بها , لكن تلك العروس لا تشبهها ..... بل أريدها منها ..... أخبرتها يومها أنني أتمنى انجاب فتاة و تكون شقراء ... تشبه شعاع الشمس ... بيضاء و جميلة ..... و حتى لو أنجبنا صبي .. سنحاول مجددا حتى ننجب فتاة شقراء تمنيتها من كل قلبي ... تخيلت و أنا ألحقها بتمرين لتعليم الباليه ... و الموسيقى و كل شيء .... تخيلت أنني سأحميها من النسيم نفسه الا يمسها بسوء .....ستكون صديقتي و قطعة من قلبي ..... كنت أرتعب مما قد يصيبها حتى من قبل أن أنجبها ...... )
رفع وجه اليها فجأة و هو يضحك بخفوت ودود ... لكن حزين ... بينما شاركته ملك الضحك دون أن تدرك بأن دموعها انسابت على وجنتيها بصمت ....
خفتت ضحكة رائف الى أن اختفت وهو ينظر اليها .... ثم قال أخيرا
( كل شيء في هذه الحياة مقدرا لسبب ما ..... منذ أول مرة رأيتك بها حاولت جديا أحميكِ من شيء كنت أشعر به و أكذب نفسي ...... كنت أعلم أن ذلك الصبي به خللٍ ما و مع ذلك لم أكن جديا في حمايتك ...أشعر بالمسؤولية عما حدث لكِ ....)
ارتجفت شفتيها و هي تهمس باختناق
( تشعر بالمسؤولية ؟!! ...... كنت فظا معي لدرجة أن أرعبتني كي أهرب بعيدا ... على الرغم من أنني لم أكن بالنسبة لك سوى مجرد غريبة ..... و بعد كل ذلك تشعر بالمسؤولية !! ...... )
صمتت قليلا و هي تختنق بغصةٍ في حلقها ... بينما انسابت دموعها غزيرة و هي تتابع بصعوبةٍ و اختناق
( أنت شخص صالح جدا ..... و ليتني خفت منك و هربت بالفعل ....... )
أخفضت وجهها و هي تبكي بصمت و كأن سيطرتها على نفسها قد هزمت في النهاية .....
عقد رائف حاجبيه وهو يرى بانزعاج واضح انهيارها ... بعد أن كانت مثال الشجاعة و القوة ....
قال بلهجة غضب من نفسه
( أرى أنها كانت فكرة هديةٍ فاشلة للغاية ...... أردت أن أخفف عنكِ .....و ها أنا أتسبب في ...)
صمت قليلا وهو يبلع ريقه لينظر حوله يتأكد من خلو المكان .... ثم أعاد نظره عابسا الى ملك التي كانت تضغط عينيها بأصابع كفها الرقيقة ..... و قد احمر وجهها بشدة .... بينما انساب شعرها على كتفها بنعومةٍ حتى استقرت أطرافه على فخذها ..... بينما ذراعها الأخرى تحتضن الصندوق و تضمه الي صدرها بقوة
فقال رائف بعبوس
( ملك ....... آآآه .......توقفي .... لم أقصد أن أتسبب في انهيارك .....توقفي يا ملك ... صحتك لا تزال ضعيف لمثل هذا الإنفعال ... )
ظلت تنشج قليلا قبل أن تأخذ عدة أنفاس مختنقة لترفع وجهها المتورم أخيرا .... تحاول التنفس بهدوء .. فشهقت عدة مرات الى أن هدأت أمام عينيه العابستين القلقتين ....
ثم نظرت اليه بوجهها المتورم و هي تقول بصوتٍ مجهد شاهق
( اذن ....... بالنسبة للرجل الذي غلفها لك و كونه أخذ من وقتك عشرين دقيقة !!! .... أفترض أنها كانت مبالغة درامية ...... )
انعقد حاجبي رائف بشدة و هو ينظر اليها مذهولا ... قبل أن يضحك عاليا و يقول بعدها بعدم تصديق و حرج
( الحقيقة أنني أنا من قمت بتغليفها عدة مرات الى أن نجحت ........ )
ضحكت ملك من بين دموعها و هي تمسحها بأصابع يدها المرتجفة ..... ثم نظرت اليه بصمت و قد فقدت ضحكتها بسرعة .... لتقول بعد فترة طويلة
( إنها أروع هدية تلقيتها في حياتي ....... ليتني تلقيتها من قبل , سأحفظها بحياتي ... )
ارتجفت عضلة بفك رائف وهو يشعر باختناق قوي .... ثم قال بهدوء وهو يشير بإصبعه
( انظري هذه العروس تشبهك ........ )
نظرت الى العروس الشقراء الجميلة طويلا .. ثم رفعت عينيها اليه و همست
( أشكرك من كل قلبي ...... على كل شيء ..... )
عبس وهو يقول بجدية
( الن تكفي عن شكري يا ملك ؟!! ........ )
نظرت ملك اليه طويلا قبل ان تهمس بجدية
( لا ....... بعمري كله .......... )
انتفضت فجأة بداخلها و هي تدرك ما نطقت به للتو ... فعقدت حاجبيها بشدة و هي تخفض رأسها ....
انقبض حلق رائف فنهض فجأة واقفا ... حينها رفعت ملك رأسها بسرعة و هي تنظر اليه بما يشبه استجداء لم تدركه و هي تقول بسرعة و خوف
( لماذا قمت ؟!! ....... هل ستذهب بهذه السرعة ؟!!! .... )
انعقد حاجباه هو الآخر بشدةٍ وهو يود لو يأخذها معه .... كي تكون أمام عينيه ليل نهار ...
احساس غريب هذا الذي يتملكه , و كأنه وجد من يفرغ بها كل مشاعر احتياجه لأن يكون حاميا ... راعيا ....
لكن للأسف .... جائت تلك الصغيرة بقصةٍ من أكثر القصص ألما ... مما جعل حمايته لها وجع في كل لحظة ....
قال رائف نافضا أفكاره بقوة
( يجب أن أذهب الآن ....... لم يكن علي المجيء من الأساس ... أنتِ الآن ببيت أهلك آمنة .... لن يصيبك مكروه ... ووجودي هنا أصبح شائكا ..... لقد فهمت أن والدة زوج أختك لا تعلم أي مما حدث لكِ .... و أنا أخاف لو يسمعنا أحد ...... وجودي هنا يعد تطفلا على حياتك يا ملك )
نهضت ملك من مكانها ببطىء و هي تنظر اليه نظرة لن ينساها أبدا .... نظرة لهفة و حزن .... و خوف ....
ثم همست بصوتٍ مرتجف
( هل هذا يبدو كوداع ؟!! .......... )
نظر اليها طويلا بنظراتٍ لم تستطع قرائتها ...... ثم قال أخيرا بصوتٍ خافت
( لن أترك مشكلتك طالما بجسدي نفس يتردد ..... طلاقك سيصلك رسميا .... و هذا دين علي .... أعدك بذلك )
فغرت شفتيها المرتجفتين و هي تهمس بوجوم حزين ضامة الصندوق تحت ذراعها
( نعم انه وداع اذن ........... )
شعر فجأة بصدره يعصف بقوة ... و عيناه تبرقان ببريقٍ لم يستطع تفسيره تماما و هو يهمس بقلق
( ملك ........ أنتِ .......... )
رفعت وجهها تنظر اليه بيأس .... ثم همست
( كن معي ....... ليس فقط هناك ...... بل كن بجواري .... أخشى المواجهة وحدي )
شعر بغضب عنيف وهو يدرك أن عبارتها جعلت منها صغيرة للغاية .... كما هي في الواقع ...
فقال بصوتٍ خافت
( سأكون موجودا يا ملك ...... ما ان تحتاجينني ستجدينني بجوارك , حتى لو تسبب ذلك في المزيد من الفوضى ....... )
أومأت برأسها و هي تشعر ببعض الراحة ... فقال يسألها بهدوء
( هل تعاملين هنا معاملة طيبة ؟......... )
أومات ملك برأسها بسرعة و هي تقول
( السيدة منيرة طيبة معي جدا ....... لا تسألني عن شيء ... و لا تحملني اي مجهود ......و كأنها تعرفني منذ سنوات ........ )
أومأ رائف برأسه قليلا وهو يقول بصوتٍ خافت
( جيد ....... هذا رائع يا ملك .... )
شعور لاذع شعر به .... شعور غريب يشبه ... الغيرة .... و كأنه تذوق طعم احتياجها المتلهف له منذ لحظة .. لتعود و تنفيه بالإستقرار و الرضا هنا ....
لم يكن يوما بمثل هذا التشتت في التعامل مع أمرٍ ما .... ربما لأن الغضب بداخله و قسوة ما تعرضت له يجعله غير متزنا و راسخ التركيز .....
كانت ملك تنظر الى يده و هي تلاعب الدمية الخشبية الصغيرة في سلسلة مفاتيحه .... فابتسمت قائلة
( انها لطيفة ............ )
أجفل من شروده وهو ينظر اليها ... ثم أخفض نظره الى ما تنظر اليه .... فابتسم هو الآخر ليقول بجفاء مازح قليلا رافعا وجهه اليها
( نعم انها لطيفة ..... هل تريدينها هي الأخرى ؟!! ..... لا تكوني طماعة , و اتركي هذه لي ... لا استطيع التفريط بها ...... )
شحب وجه ملك ... و ظلل الحزن و شيء ما عينيها ..... حينها قال رائف بصوته الرجولي العميق وهو يلتقط نظرتها الحزينة
( لا يمكنني أن أطلب منكِ نبذ هذا الحزن و الصدمة في عينيكِ يا ملك .... )
تنهدت ملك و همست ....
( لا تقلق سيد رائف ..... لن أموت .... على الأقل بسبب ما حدث لي ..... فقط أنتظر اليوم الذي أتحرر فيه ... )
أومأ رائف برأسه وهو يبادلها النظر ..... أرادت أن تخفض نظرها الا أنها لم تستطع .. كلما نظر اليها هذا الغريب .... وجدت في عينيه القوة و الأمان .....
ثم قال بهدوء
( هل أنت بخير ؟؟ ..... هل أصطحبك للمشفى لإجراء فحص ..... )
أحمر وجهها بشدة و أخفضت رأسها .... وشعر هو أنه أحرجها للغاية , لكنه ياللعجب حزين من أجلها نعم ... غاضبا و قادرا على القتل ..نعم ....
+
لكن لا ينتابه مثل هذا الشعور بالحرج .. ربما لصغر سنها ....
يشعر و كأنه يكلم مجرد طفلة ..... لا امرأة ....
طفلة أسرت عينيه ... هذا هو ما لا شك به .....
الا أن ملك أخرجته من أفكارها و هي تقول بخفوت من الخزي و الخجل
( أنا بخير ...... لم يعد هناك داعٍ )
حينها أومأ رائف وهو يقول بهدوء رجولي قوي
( اذن سأغادر الآن ........ و إن احتجتِ لأي شيء فقط هاتفيني .... )
رفعت ملك وجهها اليه بسرعة و هي تقول بلهفة
( أنا لا أعرف رقم هاتفك ........... )
نبض قلبه بلهفة هتافها ... فابتسمت زاوية شفتيه برقة ... ليخرج من جيب قميصه قلما ذهبيا وهو يقول بخفوت ناظرا الى عينيها
( هل معكِ ورقة ؟؟ ........ )
نظرت حولها بسرعة و يأس و كأنها تخشى أن يتراجع عن عرضه لسببٍ مجهول ....
لكن حولها لم تجد حتى قصاصةٍ ... فهمست بقلق و خوف باتٍ كفطرةٍ في صوتها رغم شجاعتها النادرة
( لا أرى أي ..... هل يمكنك أن تنتظرني لحظة كي أسأل السيدة منيرة لربما ...... )
قال رائف بهدوء
( لا داعي يا ملك ..... هاتي يدك .... )
فرد يده لها .... فنظرت الى راحته بذهول قبل أن تضع يدها مفرودة عليها .... حينها تنهد رائف بصوتٍ أجش قبل أن يرفع قلمه ليخط رقمه فوق راحتها البيضاء دون ان يلمسها بيده الاخرى ...
كانت ملك تنظر الى راحتها و قلمه الذي يخط الرقم فوقها ... و هي تشعر بأنه يخط وسيلة انقاذها للأبد ..
و هنا تسائلت عن المسافة الآمنة .... التي تخلت عنها لمرة مستجدية الحب ... و ها هي تتخلى عنها للمرة الثانية مستجدية الإهتمام و الأمان .....
رن فجأة جرس الباب .. مما اجفله و جعلها تننفض .. فنزعت يدها من يده بسرعة و هي تطبق راحتها حين أتت منيرة كي تفتح الباب ...
حينها عقد رائف حاجبيه وهو يقول بخفوت ... بصوتٍ لم تسمعه منيرة التي كانت بالقرب من الباب
( ما الأمر يا ملك ؟!! .......... )
لكن وجهها أحمر و هي تطبق يدها أكثر على الرقم .... فجأة سمعا صوت منيرة تقول بدهشة و حيرة
( محضر تجاه من ؟!! ....... )
استدارا بسرعةٍ الى منيرة فوجدا أمامها موظفا حكوميا يبدو بوضوح أنه من قسم الشرطة ....... و كان يقدم لها دعوة بتحرير محضر .....
حينها ترك رائف ملك و اتجه الى الباب ليأخذ دفة الحديث من منيرة و هو يخاطب المحضر ليقول له
( عفوا ماذا هناك و لمن المحضر ؟!! ....... )
مد له الموظف ورقة مسجلة وهو يقول
( محضرا تحرر في وقته و تاريخه ضد السيدة ملك ..... و مطلوب حضور ولي أمرها ..... )
جاءت ملك الى الباب جريا و هي مذهولة مما تسمع بينما كانت منيرة تنظر اليها بقلق .... فأمسكت بيدها توقفها بينما رائف لم يجفل وهو يقول بثبات
( ممن المحضر ؟؟ ...... و لماذا ولي أمرها وهي ليست قاصرا ؟!! ...... )
رد المحضر وهو ينظر الى الورقة ثم يناولها لرائف الذي نظر فيها أثناء كلام المحضر
( انه محضر سب و قذف و تعدي على أملاك الغير من السيد أكرم القاضي ... و السيد كريم القاضي .. تجاه السيدة ملك .. بعدم التعرض و مطلوب حضور و لي أمرها نظرا لأنها كما هو مسجل فاقدة الأهلية ..... و ذات ظروف خاصة ... )
همست ملك بعدم ثبات أو وعي
( ما معنى فاقدة الأهلية ....... و ذات ظروف خاصة ؟!! ..... )
رد رائف بصوتٍ قوي وهو ينظر الى الورقة بعينين متوحشتين
( اصمتي يا ملك ...... )
الا أن المحضر تبرع مجاوبا
( فاقدة الأهلية .... قد تندرج تحت صفة المرض النفسي أو أصحاب الحالات الخاصة و هذا ما يدعيه محرر المحضر ... )
فغرت ملك شفتيها بعدم استيعاب .... بينما رفعت منيرة يدها الى فمها بصدمة .....
أما رائف .... فكان منظره مخيفا وهو يقرأ كلمات المحضر كلمة كلمة .... مرة بعد مرة ...
و كل مرةٍ كان صدره يتضخم بها أكثر ..... عيناه كانتا تتناوبان ما بين الإعصار و الذهول ... و الوحشية ...
همست ملك و هي غير قادرة على الوقوف مكانها ... لتمسك بذراعه فجأة تتشبث بها
( رائف !!! ........ )
حينها ترك المحضر يسقط أرضا وهو يتلقفها بين ذراعيه هاتفا بقسوة و خوف
( ملك ......... )
رفعها بين ذراعيه في حركةٍ خاطفة .... ليتجه بها الى الأريكة و يمددها عليها قبل أن يقول للسيدة منيرة بقوة
( ابقي بجوارها للحظة من فضلك سيدتي حتى أنهي هذا الأمر القذر ..... )
ثم اندفع تجاه المحضر الذي هاله منظر وجه رائف المخيف فتراجع للخلف خطوتين بذعر الا أن رائف انحنى يلتقط المحضر الذي وقع منه أرضا ليناوله الى المحضرا قائلا بلهجةٍ متزنة و مع ذلك بدت ذات نبرةٍ مخيفة ...
( ولي أمر ملك الوحيد هي أختها الكبرى وعد .... و هي مسافرة حاليا , لذا لن نستلم المحضر .... )
تردد المحضر قليلا وهو يتناول الورقة من يدي رائف وهو يقول
( لكن هذا قد يسبب لها ....... )
قاطعه رائف بنبرةٍ أشد تسلطا و قسوة
( هذا كل ما لدينا .... و الآن بعد اذنك قم بما عليك .... فلدينا حالة طارئة الآن .... )
أغلق رائف الباب بقوة و هو يعود الى ملك التي كانت شاحبة الوجه بشكل مخيف و هي تطلع الى السقف بعدم تصديق ... و منيرة بجوارها ممسكة بيدها و هي تناديها بقلق
الا أن رائف جثا على ركبتيه بجوارها وهو يأخذ كفها من بيد يدي منيرة دون حرج وأخذ يضغطها بين يديه هو .. قائلا بقوة
( ملك ...... ملك هل انت بخير ...)
كانت ملك تتنفس بسرعة و هي تبدو و كأنها على وشك الإغماء ... أو تتمناه ... الا أنها لا تناله ... بينما كان لسانها ينطق بذهول
( أنا مريضة نفسية ؟!! ....... أنا ؟!! ....... )
ترك يدها ليمسك بكتفيها بقوةٍ وهو ينتزعها انتزاعا لتستقيم جالسة أمامه ثم هزها هاتفا بقوة
( ملك ....... توقفي عن ذلك و ردي علي ..... )
الا أنها كانت تلهث هامسة لفراغ واضعة يدها على قلبها
( أنا مريضة نفسيا يا شادي ؟!! ..... هل هذه هي النهاية ؟!!! ...... )
هزها رائف بقوةٍ أكبر وهو يهتف صارما
( لا تنطقي اسمه على لسانك يا ملك ....... أبدا ..... أفهمتِ .... )
حينها خفضت عينيها الضائعتين الى مستوى عينيه و كأنها تشعر بوجوده للمرة الأولى .... فهمست بعد فترة ذهول
( أنا فاقدة الأهلية يا رائف ؟!! ............)
لم تدرك انها نطقت اسمه مجردا ..... دون سيد ..... دون عمي ...... فقط رائف ... أدركها هو كجحرٍ ضرب صدره بقوة .....
هدر رائف بقوة محاولا الخلاص من تأثير اسمه مجردا بنغم شفتيها .....
( حذرتك أن القادم أسوأ يا ملك ...... ووعدتني بالصمود ... هل ستنهارين من أول جولة ؟!! ..... )
هزت رأسها نفيا و عينيها الضائعتين تاهتا في عينيه الهادرتين و همست
( أنا لست مريضة نفسيا يا رائف ....... صدقني ..... هذا ليس عدلا ....... )
هزها بقوةٍ مرة أخرى حتى اصطكت أسنانها وهو يهدر قائلا
( من تقنعين ؟!!! ..... أنا ؟!! ...... أنا رائف يا ملك أفيقي ... أنا معك .. بصفك و لن أتركك .... )
تدخلت منيرة التي كانت تتنفس بهلع دون أن تفهم شيئا .... و قالت برجاء و هي تتشبث بذراعه
( رفقا بها يا بني ..... أنها في حالة صدمة ......)
نظر رائف الى منيرة قليلا عاقدا حاجبيه ... ليفاجأ بأن يهز ملك محاولا أن يجعلها تفيق من صدمتها ...
فخفف من قبضتيه عليها دون أن يتركها ....
الغضب و الذهول بداخله فاقا كل اتزان ..... فأغمض عينيه محاولا استيعاب تلك القذراة ... ثم لم يلبث أن فتح عينيه ليقول بخفوت
( انها ليست الا البداية يا ملك .............)
تركت احدى يديه كتفها ليربت على وجنتها برفق .... قبل أن يقول بقوة لكن بنبرةٍ أكثر خفوتا
( اجمدي ...... اتفقنا ...... )
رفعت عينيها الى عينيه و هي تتنفس بسرعةٍ محاولة التقاط أنفاسها .... و طال بهما النظر الى أن همست بخفوت
( أنا لا أعاني من أي مرض نفسي ........ )
انقبضت كفه على وجنتها قليلا وهو يقول مشددا
( اجمدي من أجلي ...... لا تنهاري الآن ..... )
ظلت تتنفس بصعوبةٍ قليلا ... قبل أن تومىء برأسها ببطىء و بلا روح ... بينما انسابت خصلات شعرها الأقصر على جانبي وجهها بنعومةٍ و حزن .... فتجرأ على ابعادها الى خلف أذنها كي يرى عينيها وهو يقول بلهجةٍ آمرة
( اتفقنا ؟؟ ...... لن أغادر قبل قبل أن أسمعها ..... )
ارتفع رأسها قليلا و هي تنظر اليه بقصد و كأنها تقول
" لا تذهب ...... "
و كأنه فهم فقال بخشونةٍ رغما عنه
( يجب علي أن أتركك الآن يا ملك ........ )
رمشت ملك بعينيها عدة مرات قبل أن تقول بخفوت و عيناها تتقرحان بدموعٍ حبيسة ...
( انهم يعرفون أين أنا بمنتهى البساطة ....... )
تنهد بقوةٍ وهو يومىء برأسه قائلا بصرامة
( الآن استعدتِ تفكيرك ....... أريدك البقاء داخل جدران هذا البيت ... و لا تتحركي منه ولو انقلب العالم من حولك ...... )
هتفت بيأس و اختناق
( المعرض ... يجب أن أحضره .... حفل العرض بعد يومين ....... )
انعقد حاجباه بقوة ... فقال غير مصدقا
( ملك !! ....... كنتِ شبه منهارة للتو .... ترفقي بنفسك قليلا قبل أن تسقطي متداعية ..... )
رفعت يدها الى جبهتها و هي تطرق برأسها هامسة بصوت ميت ... مغمضة عينيها
( وعدت وعد أن أعرض فستان الزفاف بنفسي ........ )
صمتت حين ادركت تفاهة ما نطقت به .... و كأنها عبارة لا تليق بها .. فزفرت نفسا بطعم الأسيد الحارق ... و لم تجرؤ على النظر الى رائف .....
بينما هو كان ينظر اليه مضيقا عينيه و صدره يعلو و يهبط بعنف .... قبل أن يتركها لينهض مندفعا
ثم وقف يشرف عليها من علو .... ليقول بصوتٍ قاطع
( سأقلك بنفسي ........... )
تراجع خطوة قبل أن يقول بقوة واعدا
( أراكِ بعد يومين يا ملك ......... لا تفكري بما حدث الى حينها ..... )
ثم غادر امام منيرة الملتاعة .... و ملك التى اخفضت وجهها هذه المرة ... دون ن تجد الجرأة على استجاء بقاءه .....
.................................................. .................................................. ..................
دخل كريم الى غرفة مكتب اكرم ... و الذي كان يوليه ظهره ناظرا من النافذة .....
فقال كريم بصوتٍ مهتاج على الرغم من خفوته
( لقد تم ما أردته ........ لقد تخلصت من ابني لأكون ابنك ..... )
لم يتحرك اكرم لفترة ... ثم استدار اليه ببطىء ينظر الي هيئته التي بدت مجنونة .. بشعره الأشعث و عينيه الحمراوين و ذقنه الغير حليقة .....
ضيق اكرم عينيه و هو ينظر الى عيني كريم .... فتابع قائلا بصوتٍ كالهسيس
( الآن نفذ وعدك و اعدها الي .........انها جزء من جسدي ..... لم اعد اقوى على الابتعاد عنها مجددا . )
رفع اكرم ذقنه ثم قال بهدوء
( انت يا ولد من اغبى ما تكون ..... امامك بنات اكبر العائلات تتمنين ان تنظر اليهن نظرة ... و انت تربط نفسك بلقيطة من الماضي ....... )
تقدم كريم منه خطوة ليقول مترجيا .. مجنونا و عينيه تبرقان بخطورة مثيرة للشفقة
( ليت الأمر كان بيدي ..... لابتعدت عنها و لجنبتها ما نالها حتى الآن .... لكنني لا استطيع ... لا استطيع .... انها كالادمان بعروقي ...... )
هز اكرم رأسه بيأس ساخر ... قبل ان يضحك قليلا قائلا ....
( الولد ابن ابيه ....... كيف يمكنني لومك و انا ابقي على امك بين جنبات هذا القصر حتى الآن ... حتى نال الوهن و الجفاف من جسدها ..... لكن الشوق يجذبني اليها مرة كل عدة أشهر .... )
ضاقت عينا كريم و هو يسمع هذا الكلام ... فرفع اكرم عينيه ليقول ببساطة
( هل صدمتك بمثل هذا الكلام ؟!! ............ )
عاد ليضحك بخفوت قبل أن يقول
( لازلت عند وعدي ... بامكانك نيلها , لكن ليس قبل أن تكسرها تماما الى الا تستطيع النطق بكلمة ... و يصبح موقفنا ثابتا ....... )
هتف كريم بعذاب وهو يميل على المكتب بكلتا قبضتيه
( انا لا اريد كسرها ......... أنا حبها .... الم تعرف الحب يوما ؟!! ..... )
قال أكرم ببساطة
( عرفته مع أمك ....... و انظر الى الحال الآن , لا تكن غبيا .... مهما كنت تظن أنك تعشق امرأة ... ستتحول مع مرور السنوات الى مجرد جسد سئمت منه .... خاصة مع أول صدمة بينكما .... )
هتف كريم بقوة صارخة
( لا دخل لي بعلاقتك بأمي ...... أنا أعشق ملك و لن أفعل بها ما فعلته أنت بأمي ..... )
ظل أكرم ينظر الى كريم طويلا وهو يلهث أمام ككلب يستجدي العطف .....
ثم قال بهدوء
( أنظر خلفك ..... الى جوار الباب ..... )
ظل كريم مكانه يلهث قليلا .... قبل أن يستقيم و يستدير الى الباب بضعف
حينها تسمر مكانه و هو يتعرف على حقيبة جلدية مهترئة و ممزقة .... يعرفها جيدا مهما مر الزمن عليها
لم يجرؤ على الاتفات الى والده الذي تكلم ببساطة
( ألم تتعرف على تلك الحقيبة بعد ؟!! .... هل أنساك القصر سحابها الضائع و جيبها ذو الثقب الواسع ؟!! ..... انها تحمل ملابسك التي أتيت بها ..... لو كنت تريد حبيبتك اللقيطة ... خذها و انصرف ..... )
اتسعت عينا كريم بارتياع وهو يستدير الى أكرم هاتفا بذهول
( تتخلى عني بهذه البساطة ............ )
رد أكرم بكل ثقة
( لم يخلق بعد من يضغط ذراعي ........ أستطيع استبدالك في لحظة واحدة بابن من صلبي ... وهو ما سيحدث ما أن أنفذ فكرة زواجي ...... )
هنا اتسعت عينا كريم بشكل مصدوم ... بل مذعور وهو يهمس بعدم تصديق
( ستتزوج ؟!! .......... )
رد أكرم مبتسما
( ابنة وزير سابق .... و من حيتان المجتمع ..... بخلاف أنها لا تزال في سن الإنجاب ..... فما رأيك ... لما لا تصبح الزيجة اثنتين ..... أنا منها ... و أنت من ابنة شريكي ..... و حينها .... يمكنك الإحتفاظ بفتاتك لكن بشروطنا نحن ... بعد أن تكسرها ..... )
فغر كريم شفتيه بذهول و هو غير قادر على الرد ..... بينما تابع أكرم بلهجةٍ أكثر قسوة
( أو أمامك الخيار الآخر .... خذ حقيبتك و اخرج من هنا للأبد ..... )
بقى كريم بمظهر يكاد يكون مثيرا للإشمئزاز وهو يبدو مقززا .... مسكينا و خاضعا ...
لكنه انتفض فجأة حين دخل رائف الى غرفة المكتب .....
ساد صمت بين ثلاثتهم .... و هم ينظرون الى بعضهم و كل منهم يعرف حاجته من الآخر ....
و دون كلمة ... اقترب رائف من كريم ... ليصفعه بقوةٍ جعلته يرتد للخلف عدة خطوات و خيط من الدم ينسدل من شفته المشقوقة ....
ثم استدار الى أكرم و اقترب منه عدة خطوات ... رغما عنه تراجع أكرم للخلف نظرا للفارق بين عمره و عمر رائف ... و الفارق الجسدي بينهما .... فقال بقلق
( هل ستضربني أنا أيضا يا رائف ؟!! ....... ماذا , هل أعجبتك الفتاة الى تلك الدرجة ...)
لم يرد رائف ... و لم تتغير ملامحه من الصلابة المخيفة ... و عينيه لم تتخلصا من بريقهما الحارق ...
بينما تابع أكرم بهدوء مهتز
( تلك الفتاة الصغيرة أثارت بك رغبةٍ ماتت منذ سنوات .... متى كانت آخر مرة لمست بها امرأة يا رائف ؟!! ... ها ..... هل كانت تلك الفتاة مذاقها بطعم الطفولة و الأنوثة معا ....... )
صرخ كريم بهياج
( كفى .......... )
التفت اليه رائف .... ينظر اليه بتقزز ثم قال بصوتٍ خطير
( اذن فهي المريضة نفسيا ؟!! ...... هي المختلة ؟!! ......... )
لم يرد كريم وهو ينظرالى والده وهو يحاول أن يفهم قصد رائف ... بينما ضحك أكرم عاليا وهو يقول
( اذن كنت معها ؟!! .... أم أنك جرت اليك من فورها .؟!! ....... لم أظن أن أراك بهذا الضعف أمام فتاة ذات يوم يا رائف ....... )
صمت وهو ينظر اليه ببريق خاطف ... ليقول بعدها بلهجة الأفاعي
( خذها ..... هي لك .... ماذا تريد بعد ؟!! ...... )
ساد صمت طويل مشحون لا يقطعه سوى صوت تنفس كريم الذي كان يموت الف مرةِ في تلك اللحظة ...
فالتفت رائف اليه ليقول بصوتٍ غريب مخيف
( طلقها ..... طلقها و هي ستتنازل عن أي شيء تخيلته أو لم تتخيله ...و أنا سأتنازل لك عما تريده .. )
كان كريم يلهث عذابا وهو يبدو كالمشعوذين في هيئته ..... بينما نظراته التقت بعيني أكرم الذي كان يطالعه بقوةٍ محاصرا إياه ....
و بعد فترة طويلة قال بصوتٍ ذليل .. ميت
( أنا ...... لم أتزوجها ........... )
و كأن كلماته تجمدت فور أن نطق بها .....
ظل رائف ينظر اليه بلا أي تعبير ..... و كأنه فقد حتى القدرة عليه فزفرمن صدره نفسا حارقا مجنونا قبل ان يقول بصوتٍ غريب
( اذن أنت لم تتزوجها ؟!! ......... لم تعرفها ؟؟ .... لم تقابلها ؟؟ .... )
رد اكرم بالنيابة عن كريم
( كانت بائعة ورد مجنونة ...... دخلت البيت ووضعت عينيها على كريم منذ المرة الأولى ..... و بدأ الهوس يسيطر عليها و يخيل اليها انه متزوج منها ...... )
شعر رائف بالدم يفور بداخل اوردته ..... لكنه تحامل على هذا الوجع الحارق ليسمع كل كلمة من مخططهم القذر .. بينما تابع أكرم مبتسما وهو يمد يده ليلتقط ملفا من على سطح المكتب .... يرفع قليلا .. ثم يرميه مرة اخرى باتجاه رائف
( ما لا تعرفه يا رائف عن تلك الفتاة التي تبنيتها بكل ذرة من جسدك المحروم .... هو انها كانت تعاني مرضا نفسيا بالفعل في صغرها ... و قد تم علاجها لفترة طويلة بعد خروج اختها من الدار .... لقد كانت تنتابها الهلاوس و التشتنجات الشبية بتشنجات الصرع ..... لقد بحثت خلفها طويلا الى ان وجدت كل ما يخصها .... و كم كان هذا شبه مستحيلا .... الا أنني نجحت و معي الشهادات الطبية التي تثبت كلامي ... و طبعا لا يمكنني رشوة القائمين على حدثٍ قبل سنوات طويلة ..... الكلام صحيح تماما , خذ الملف و اقرأه و تأكد بنفسك .... تلك الفتاة عانت مرضا نفسيا لفترةٍ طويلةٍ في طفولتها ...... و على ما يبدو أنه قد عاد اليها )
نظر رائف الى الملف طويلا ..... بدون أن تتحرك عضلة في وجهه ... شيئا واحد يعلمه عن أكرم
حين يبحث ... يجيد البحث .... ثم يتصرف بعدها ....
لقد نال من صغيرته ..... وجد لها ثغرة ليقتلها من خلالها .....
لكنه لم يكن ليهتم للحظة..... بل نظر الي كريم الذي كان يبدو بحالٍ يرثى له ... فقال مجددا بلا تعبير
( اذن أنت لم تتزوجها ؟؟ .......)
ظل كريم يتنفس بصعوبة ٍ وهو ينقل نظره بين رائف و الحقيبة الجلدية الملقاة خلفه
فهمس باختناق كلمة وحيدة
( ل .... لا ........)
ظل رائف صامتا طويلا دون أن تتحرك ملامحه الجامدة .... الى أن قال أخيرا
( لقد سهلت علي الأمر اذن ..... ملك ستكون لي ....)
اتسعت عينا كريم بذهول وهو يسمع عبارة رائف البسيطة ... فهمس بتعثر
( ما ..... ما .......)
قاطعه رائف بهدوء
( ملك ...... ستكون لي , و سأكون محظوظا بها ..... )
فغر كريم شفتيه أمام البساطة التي يتكلم بها رائف ..... و مرت لحظة ... اثنتين .... ثلاث ...
بعدها قام رائف بما كان يود أن يقوم به من البداية .... بصق عليه بكل قوته ....
قبل أن يندفع ليأخذ الملف بقوةٍ و يخرج كثورٍ هائج .............
.................................................. .................................................. ......................
جلست على أريكتها كتمثالٍ حي من الرخام الابيض .....
جالسة باستقامة و كأن كل ما بها يؤلمها .... تنتظر ......
عيناها الخضراوان الكبيرتان كانتا خائفتين .... بل مرتعبتين ... ووجهها شاحب ... و على الرغم من ذلك
الا أن شفتيه الحمراوين القرمزيتين ابتسمتا .....
شبه ابتسامة ...... ابتسامة ضائعة في وقتٍ خاطىء ... و مع ذلك لم تحرم نفسها منها ...
من حقها أن تبتسم .... اليست عروسا !! .... و ستتزوج بمن تحب ....
أطرقت بوجهها و هي تتلمس القماش الأبيض الناعم الذي انسدل على جسدها كثياب الأغريق ....
لكنه كان بكمين طويلين تجمعا عند مرفقيها و هي تفرك أصابعها بتوتر ...
لقد ارتدت الأبيض !! ..... ترى أي عذابٍ نفسي سيكبدها بسبب هذا اللون تحديدا .... من المؤكد أنه لن يدع الفرصة تفوته كي يذلها على اختيار اللون
لكن و مع هذا .... و بكل شجاعةٍ قررت فعل ما تتمناه .... فاشترت ثوبا بسيطا أنثويا أبيضا هفافا ... يتناسب مع بساطة عقد القران ....
نعم كانت تتمنى أن ترتدي فستانا أبيضا لوليد .... و قد فعلت , حتى لو عذبها بعدها
و ياللعجب .. ما أن انسدل على جسدها حتى شعرت و كأنها عروس عذراء ... لم تعرف رجلا من قبل ...
ستتزوج بمن تحبه و يحبها ......
أما شعرها فجمعته في لفةٍ أنيقة في مؤخرة رأسها ... و غرست بها وردتين جوريتين حمراوين تناسبتا مع لون أحمر الشفاة القرمزي الذي تضعه .....
كانت نموذجا من البراءة و الأنوثة و الإغراء في نفس الوقت ..... و كم شعرت بالخوف !!
الا أن الخوف لم يمنع شعورا ..... بالرغبة في تلك الإبتسامة ....
و ها هي تجلس على أريكة شقتها .... تنتظر منذ ساعةٍ كاملةٍ حسب الموعد الذي أبلغه لها باختصار قبل أن يغلق الخط في وجهها ......
انتفضت فجأة على صوت هاتفها بجوارها .... فشهقت رغما عنها و هي تنظر للهاتف بخوف ... قبل أن ترفعه بأصابع مرتجفة الى أذنها و همست
( وليد ............ )
ساد الصمت للحظةٍ ظنت بها أنه قد يكون تأثر بصوتها الهامس .... لكنها كانت واهمة حين سمعت صوته القاسي يقول آمرا
( انزلي ........... )
ثم أغلق الخط بقوة ..... فأبعدت الهاتف عن أذنها لتنظر اليه طويلا .....
كلمة !! ..... كلمة واحدة يا وليد !.....
لكن على الرغم من ذلك .... لم تتخاذل , بل نهضت من مكانها بكل اباء .... و هي ترفع ذقنها و تفرد ظهرها
لتتوازن برشاقة فوق كعبي حذائيها العاليين ..... لتخرج .... لكن قبلا استدارت لتنظر الي شقتها التي كانت عبارة عن محطة استراحة بين زيجاتها .....
طالت نظرتها قليلا ... قبل ان تطفيء الانوار ... و تغلق الباب خلفها ....
جلس في مقعده بسيارته الفخمة ينتظرها .... بينما ملامحه كانت و كأنها قد قدت من حجر ....
و ما أنشعر بغيمة بيضاء تهفو من باب الxxxx ... التفت رأسه ببطىء ينظر اليها بلا تعبير
لقد استطالت القصيرة على كعبين عاليين جعلاها تسير برشاقة عارضات الأزياء و الفستان الأبيض يهفهف حول ساقيها ...... بينما الوردة الحمراء في شعرها تظهر لعينيه على الرغم من المسافة بينهما
اقتربت شيراز منه و هي تفغر شفتيها الحمراوين .... تنتظر اشارة ... اي اشارةٍ بالحنان ....
الا انه ابعد وجهه للجهة الأخرى ..... منتظرا بملل!! .....
فتحت شيراز باب المقعد الأمامي ... لتجلس برقةٍ بجواره .... ثم نظرت اليه تتأمل وسامته بملامح واجمة و نظرات كسيرة ....
لقد كان مرتديا بنطالا من الجينز المهترىء ... و قميصا أبيضا !! .....
لقد كان متأنقا أكثر في كل المرات التي رأته بها سابقا ... لم يهتم بأن يرتدي أي شيء مميز ....
الا أنها لم تيأس و هي تهمس ما بين الخوف و الرجاء بابتسامة
( مرحبا ......... )
قال وليد دون مقدمات وهو ينظر اليها نظرة استهزاء واضحة
( أبيض !! ........... )
لقد حضرت نفسها طويلا .... والله حضرت نفسها طويلا .... لكن كل تحضيرها ذهب هباءا و هي تشعر بصفعةٍ من الألم لمجرد نبرةٍ نطق بها كلمة !!!!
كيف يمكن لكلمة واحدة أن تكون مهينة و مزدرية بهذا الشكل القاتل !! .....
الا أنها بتلعت تلك الغصة لتقول بخفوت
( لقد ارتديته للتفاؤل ليس الا ........ )
صدرت عنه ضحكة اكثر ازدراءا ..... ثم قال بهدوء وهو يحرك السيارة بكل ثقة
( اتمنى ان يظل تفاؤلك قائما بعد الليلة ......... )
ابتلعت شيراز ريقها بتوتر و قد تشنجت عضلات حلقها .... ثم قالت بعد فترة بخفوت و هي تنظر الى جانب وجهه
( أنا لست خائفة .......... )
ادار مقود السيارة ...... ثم قال متمهلا دون ان ينظر اليها
( حقا !! ....... اذن أنتِ أغبى مما ظننت ...... )
رمشت بعينيها و اهتزت حدقتاها .... و ظلت تنظر اليه طويلا .... أنه يرغب بها ... هذا ما لا شك به ....
فكيف تكون رغبة رجل في امراءة غاضب منها .... و بشدة ...
نظرت امامها و هي تزفر نفسا مرتجفا و قد تراءت لها بعض الصور المؤلمة ....
انتظرت عدة لحظات و هي تنظر من نافذتها تتأمل الناس في الطرقات ....
فرفعت قبضتها الى ذقنها و هي تشرد بهم ..... لم تعرف يوما الحياة البسيطة ....
ضحكت قليلا دون صوت .... لم تعرف الحياة المملة الرتيبة .... دون ألم ... دون خزي .... دون عار ....
ارتجفت ضحكتها قليلا .... ثم لم تلبث ان استدارت الى وليد تنظر اليه و هي تقول بخفوت
( وليد ........ أريد شيئا ....... )
ارجع رأسه للخلف فجأة ضاحكا بقوةٍ أجفلتها ...... بل جعلتها تنتفض ....
ثم لم يلبث ان قال بوحشيةٍ من بين ضحكاته
( انت تتكلمين كعروسٍ حقا ........ )
نظرت شيراز اليه بملامح رخامية باردة ... و نظراتٍ فارغة ... قبل أن تقول بخفوت و دون تعبير ما أن فرغ من ضحكاته
( لأنني فعلا عروس ....شئت أم أبيت ....... بل في الواقع شئت فقط .... كل شيء تم وفقا لمشيئتك .... )
ساد صمت طويل قبل أن يقول وليد من بين شفتيه بعد فترة طويلة
( لا تستفزي هدوئي كثيرا يا شيراز ..... )
ابتلعت ردا كانت تنوي أن تقذفه به ... الا أنها أخذت نفسا عميقا ذا صوتٍ عالٍ ... سمعه هو ليقول مبتسما بصلف
( هكذا أحسنتِ ....... تعقلي منذ الآن ..... )
ظلت شيراز تنظر أمامها بملامح جامدة و نظراتٍ فارغة قبل أن تقول دون أن تنظر اليه
( طلبي هو ..... بل رجائي هو .... ملك .... أتتذكرها .... الفتاة ذات الضفيرة الطويلة .... أيمكن أن نصطحبها معنا .... لتحضر عقد القران معي .... ليس لي أي أحد غيرها .... )
لم يرد عليها ..... بل ظل ينظر أمامه بملامح صلبة كالفولاذ ... ثم قال أخيرا بصوتٍ متهكم قاسٍ
( آآه الفتاة ذات الضفيرة .... هالة البراءة و النقاء .... لكن من يعلم ماذا تكون هي الأخرى فكل ما يتعلق بك ثبت أن كان مجرد هراء .... هل كانت تحضر معك كل زيجاتك السابقة ؟!! ...... هل هي بمثابة مديرة أعمالك في تلك الشؤون !! ...... )
لم تستطع شيراز أن تمنع نفسها من الهمس بقوة و كأنها تبصق من بين شفتيها
( قذر ........... )
مرت لحظة صمت .... لتتبعها صفعة مفاجئة من كفه لم تكد حتى تلمحها ... حطت على وجنتها جعلتها تميل بوجهها جانبا .....
شهقت شيراز عاليا و قد اتسعت عيناها بذهول ... رافعة يدها الى وجنتها التي لسعتها في لحظةٍ خاطفة ....
بينما قال وليد بهدوء دون أن ينظر اليها
( حذرتك من قبل ....... ما كنت أتقبله منكِ سابقا , لم يعد مسموحا لكِ به حاليا ..... )
ظلت تنظر اليه بصدمة و يدها على وجنتها التي زال احمرارها سريعا .... لكن اثرها بقى و كأنه أحرقها بوشمٍ فاسد ......
ظلت تنفس بصعوبة قليلا نفس متحشرج .... قبل أن تخفض يدها و تنظر من النافذة لتقول بعد فترة بصوت ميت
( أريد العودة ....... لم أعد أريد هذا الزواج ...... أعدني )
لم يرد عليها , و لكنه بعد لحظةٍ واحدة أوقف السيارة جانبا .... و مال عليها بعنف ليفتح بابها قبل أن يقول بجفاء
( اخرجي ......... )
اتسعت عيناها بذهول و هي تنقلهما ما بينه و بين الرصيف بجوارها ..... بينما أمسك هو بالمقود بين يديه ناظرا أمامه قبل أن يقول بصرامة
( أمامك لحظتين لتقرري بها .... إما أن تخرجي ... و إما أن تغلقي بابك .... )
ابتلعت شيراز ريقها و هي تنظر اليه و قد فقد قلبها دقاته .... و ما أن نظر اليها بنظرةٍ أخبرتها بوضوح أنه ناويا على أن يرميها خارجا .... سارعت دون تفكير بغلق الباب
حينها سمعت منه ضحكة ساخرة خشنة .... لكن حين نظرت اليه بطرف عينيها بصغر , لم يكن يضحك ... بل كانت ملامحه مظلمة .... لدرجةٍ أوجعت قلبها ...
قاد السيارة بعدها وهو يزيد من السرعة .....
عادت شيراز تنظر من نافذتها و قد انسابت دموعها بصمت ... مسيلة الحكل الأسود من عينيها على وجنتيها
فأطرقت برأسها و هي تفتح حقيبتها الفضية الصغيرة ..... لتخرج منها منديلا ... أخذت تمسح به وجنتيها بصمت ... محاولة الا تفسد المتبقي من زينتها .....
وصل وليد أخيرا الى الجامع المقرر عقد القران به .... فأوقف السيارة .. و مال عليها مجددا ليفتح الرف الأمامي بالسيارة ثم أخرج منه وشاحا ورديا مطويا بعناية ... القاه في حجرها وهو يقول دون أن ينظر اليها
( خذي ....... غطي شعرك بهذا قبل أن ندخل ....)
رفعت الوشاح الرقيق الى أنفها تستنشقه بحذر ..... ثم سرعان ما همست بوجوم
( إنه يخص امرأة أخرى !! ........)
لم ينظر اليها وهو يقول بصرامة
( أسرعي ..........)
ابتلعت شيراز ريقها و هي تتلمس الوشاح بيديها ... ثم همست بصوت ميت دون أن تنظر اليه
( من يخص هذا الوشاح ؟!!! ......... )
زفر وليد بعنف قبل أن يستدير اليها هادرا بقوة
( بالله عليكِ غطي شعرك و اخرجي ..... لقد تأخرنا بما فيه الكفاية )
ظلت ساكنة مكانها طويلا بقلبٍ ينزف .... قبل أن تمد يديها لتنزع الوردتين الحمراوين .... و تضع هما أمامها عند زجاج السيارة بصمت .... و هي تعلم أنه يراقبها بعينين كالصقر .... ينتظر منها أي خطأ كي يقتنصها ....
لفت الوشاح حول وجهها ..... تحاول جاهدة وهو ينساب مرة بعد مرة ....الى أن قال وليد بحدةٍ بدت مبالغ فيها
( اسرعي قليلا ......... و احكمي تغطية شعرك )
لم تستطع اصابعها ان تسرع أكثر ...... ثم همست بخفوت
( اهتمام غريب من شخص اعتاد المقامرة ! ......... )
لم يرد على الفور و هو ينظر اليها .... قبل ان يضحك سخريةٍ ليقول بصوتٍ هادىء بعدها
( أنا ماهر في اللعب لدرجة يحسدني عليها أعتى المقامرين .... الا انني لم أقامر يوما .... )
لم ترد عليه وهي تحكم لف الوشاح حول وجهها لمرة اخيرة
ثم قالت بجمود
( مخطىء ...... لقد قامرت بالفعل , ..... و ربحتني )
اظلمت عيناه وهو يراها تفتح الباب لتخرج بخيلاء و قد تناسب الوشاح الوردي و زينتها المنتهية .... مع الفستان الأبيض فبدت غاية في البراءة و البهاء .....
بعكس الحمرة القانية و الوردتين الحمراوين
كيف يمكنها ان تتحول بهذه السهولة من هيئة يمقتها .... الى أخرى أضاعت صوابه ....
جلست شيراز أمامه و بينهما المأذون .... و بدأ عقد القران ... فكانت تنظر اليه تتمنى دعمه ....
تنظر اليه و هي تترجاه ان يمنحها بعض الشجاعة ..... ذرة طمئنينة .......
لكن نظرته التي لم تبارح عينيها الخضراوين ... كانتا قاسيتين .... مؤلمتين .... فهل كانتا متألمتين كذلك ؟!!!
لم تستطع تحديد هذا أبدا .....
أخرجت بطاقة هويتها .... بشرى عبد العزيز ....
اسمها الذي أخذته في الدار ..... و لم يكن يخص والدا معينا ....
فأطرقت برأسها و هي تشعر بنفسها و قد تعرت أمامه من كل ما سترت به نفسها من قبل .....
انتهى عقد القران بسرعة ... و قبل حتى أن تعيد التفكير للمرة الألف . لتجد نفسها زوجة وليد .......
رفعت وجهها تنظر اليه بصمت وهو يناولها بطاقة هويتها قائلا بخفوت
( هويتك ........... )
ابتسمت قليلا .... ابتسامة أسى و كأن الموقف ساخرا بما يكفي , لكنها مدت يدا مرتجفة لتتناول البطاقة منه و هي تقول بصوت بدا ساخرا حتى في أذنها دون أن تقصد
( نعم ..... هويتي ..... )
نهض من مكانه وهو يقول بفظاظة
( هيا ......... لنذهب .... )
نهضت شيراز تتبعه بصمت .... و كأنه مضى عقد شرائها و انتهى الأمر .....
جلست بجواره في السيارة التي انطلق بها صامتا دون كلمةٍ واحدة .....
و استمر بهما الطريق طويلا جدا ... حتى بدأت تتوتر و يعاودها الخوف مجددا من غضب وليد ... تعلم جيدا أنه محقا في غضبه و جنونه بعد ان نال أكبر صفعة في حياته .....
" أنا ...... ما أنا الا مجرد صفعة له "
تنهدت شيراز بحزن و هي تميل برأسها لتستند به الى زجاج النافذة .... و لزمت الصمت تماما , الى أن شعرت به يخفض من سرعة السيارة .... ثم يوقفها أمام xxxx مكون من طابقين ....
استقامت شيراز تنظر الى البيت ..... ثم نظرت الى وليد لتقول بخفوت
( هل هذا هو بيتك ؟.! ........... )
الا أن وليد لم يرد عليها ..... بل خرج من السيارة ليقول بصوتٍ آمر
( أخرجي ......... )
تنهدت شيراز بقنوط وهي تخرج صاغرة .... لترفع وجهها ناظرة الى المكان .... الى أن اصطدمت عيناها بفتاة شابة محجبة .... تقف في الشرفة الأولى و هي تنظر اليهما مبتسمة .... قبل أن تستدير و تختفي بسرعة ....
تقدم وليد ليقول آمرا .( هيا اتبعيني .......... )
تبعته شيراز مطرقة الرأس ليدخلا الxxxx .... فصعدت خلفه سلما لا يتعدى الطابقين .... و ما ان وصلا الى الطابق الأول حتى فتح باب الشقة و خرجت منه تلك الفتاة المحجبة مندفعة و هي تتعلق بعنق وليد و هي تقول بفرح و رقة
( مبارك حبيبي ........ )
ضمها وليد اليه بقوةٍ أكبر.... بينما ارتجفت شيراز بهلع و شعرت بنفسها تكاد تموت ..... هل يمكن ان يكون هذا هو انتقامه ؟!! هل هو متزوج ؟؟؟ .... او تزوج حديثا ؟!! فقط لينتقم منها ........
شعرت شيراز بالغثيان و أنها على وشك السقوط ..... لكن وليد حرر الفتاة من بين ذراعيه أخيرا ليستدير الى شيراز الشاحبة قائلا بفظاظة
( شيراز ........ هذه لجين .... اختي ... )
فغرت شيراز شفتيها بذهول
" اخته !! ....... نعم لديه اخت اخبرني هنا ذات يوم "
تطلعت شيراز الى لجين .... و ابتلعت ريقها و هي تستشعر بها الرقي رغم بساطتها .... كانت جميلة و كما يطلق عليها بنت اصول ....
شحب وجه شيراز اكثر و هي تراها تتحرر من وليد لتقترب منها و هي تقول برقة و سعادة حقيقية
( مبارك شيراز ........ )
ثم دون مقدمات اندفعت اليها تحتضنها بقوةٍ مما جعل شيراز تتوتر و تتشنج اكثر ....فرفعت عينيها الضائعتين لتصطدما بعيني وليد وهو يرمقها بنظراتٍ غاضبة ..... حزينة ....
ابتعدت لجين عنها قليلا و هي تقول بسعادة
( لا اصدق انني امسك بين ذراعي زوجة وليد اخيرا .... ظننت هذا اليوم لن يأتي أبدا .... )
ثم لم تلبث ان قالت برقة
( كم انتِ جميلة يا شيراز ..... تبدين كطفلة جميلة )
ابتلعت شيراز ريقها قبل ان تهمس بخفوت و هي تنظر الى وليد
( اسمي بشرى ............ )
اتسعت عينا لجين قليلا ... قبل ان تقول بحيرة
( حقا !! ....... لم يخبرني وليد ., ...... )
ثم لم تلبث ان نظرت اليه بعتب لتقول متابعة
( عامة سيكون لدينا كل الوقت كي نصلح كل ما فات وليد ان يعرفني به ...... )
استدارت الى شيراز لتقول بسعادة
( شقتكما في الطابق العلوي وهي جاهزة تماما ... لكن لو اردتِ اي شيء , ما عليكِ الا ان تأمري فقط .....هيا اصعدا الآن .... لا اريد ان اكون عزولا لفترة اطول )
ابتعدت شيراز الشاحبة و هي تقترب من وليد طالبة منه العون .... الا ان لجين قالت بسعادة
( وشاحي غاية في الروعة عليكِ ..... يمكنني ان اعيرك كل ما تحتاجينه طالما انه جميلة عليك بهذا الشكل ... )
رفع شيراز يدها بسرعة و هي تدرك للمرة الأولى أنها لم تنزع الوشاح حتى الآن .... فارتبكت وقالت بسرعة
( لا .... لقد وضعته فقط من أجل عقد القران ..... أنا لست محجبة .... )
لم تتغير ابتسامة لجين و هي تقول برقة
( و مع ذلك يبدو رائعا عليكِ ......... )
شعرت شيراز فجأة بقبضة حديدة تطبق على ذراعها .... فشهقت بصمت و هي تسمع وليد يقول بفظاظة
( سنصعد الآن يا لجين ..... و غدا نتحدث ..... )
أومأت لجين برأسها مبتسمة دون ان تدخل .... بينما صعدت شيراز خلف وليد وهو يجرها على السلم خلفه .....
تتعثر بفستانها و كعبي حذائها .... لكنها لم تجرؤ على الإعتراض ... كا الخوف قد وصل معها الى اقصى درجاته .....
وصلا اخيرا الى باب شقتهما ... فمد وليد يده بالمفتاح ... ليفتح الباب .... ثم دفع شيراز بجفاء لتتقدمه ....
دخلت شيراز الي الشقة التي تتسم بالرقة من جميع جوانبها ..... لكنها لم تستطع تأمل ذرة بها و هي تحاول التعامل مع قلقها .... و غضب وليد ....
تراجعت قليلا وهي تراه يقترب منها بصمت ..... و عيناه غير مقروئتين ... الى ان وصل اليها فجذبها من ذراعها الى الرواق الطويل و الذي ينتهي بغرفة النوم الرئيسية ....
دخل وهو يدخلها خلفه .... ثم لم يلبث ان ترك ذراعها ليبتعد عنها .... و بدأ يفك أزرار قميصه بقوةٍ امام عينيها المذهولتين .....
ابتلعت شيراز ريقها و هي ترفع يدها المرتجفة الى صدرها اللاهث .... بينما التفت اليها بعينين تشتعلان ... رغبة و غضبا .... حاولت ان تجد بهما العشق الذي رأته سابقا لكنها فشلت تماما ....
اخذت تتراجع و هي تراه يقترب منها بطىء و ما ان انهى الجدار تراجعها .... حتى شهقت صامتة
الا ان وليد لم يعير خوفها .. اي اهتمام وهو يمد يديه لينزع الوشاح عن شعرها بفظاظة ... و يرميه ارضا ... بينما تخللت يداه خصلات شعرها وهو يفك ربطته بقوة حتى انسدل على كتفيها ....
ثم تراجع خطوة ليقول بلهجةٍ غريبة وهو يتخلى عن قميصه و يرميه ارضا
( اخلعي ملابسك ........... )