📌 روايات متفرقة

رواية بعينيك وعد الفصل الخامس 5 بقلم تميمه نبيل

رواية بعينيك وعد الفصل الخامس 5 بقلم تميمه نبيل

رواية بعينيك وعد الفصل الخامس 5 هى رواية من اجمل الروايات الرومانسية السعودية رواية بعينيك وعد الفصل الخامس 5 صدر لاول مرة على موقع التواصل الاجتماعى فيسبوك رواية بعينيك وعد الفصل الخامس 5 حقق تفاعل كبير على الفيسبوك لذلك سنعرض لكم رواية بعينيك وعد الفصل الخامس 5

رواية بعينيك وعد بقلم تميمه نبيل

رواية بعينيك وعد الفصل الخامس 5

( كرمة !! .............. )
شهقت عاليا و هي تنتفض مكانها ما أن سمعت الصوت الرجولي العميق من خلفها ... فاستدارت بسرعة و هي تضع يدها على صدرها اللاهث ....
لتنظر بهلع اليه ... الى حاتم ..
حيث كان يقف بباب غرفة الجلوس ينظر اليها بنظرةٍ غريبة ... فابتلعت ريقها بصدمةٍ تجلت على ملامحها بوضوح و عيناه تأسرانها فتمنعانها حتى من النطق ...
اقترب منها ببطىء شديد .. فارتجف النفس الخارج من بين شفتيها المنفرجتين و هي تتراجع عنه خطوة !
تسمر حاتم مكانه و عيناه تتسعان قليلا ... ثم لم يلبث أن همس بصوتٍ أجش
( ياللهي !! ........... )
كان وجهها مرتعبا ..... لا معنى لتعبيراتها سوى الإرتعاب .....
كان ضوء الصباح الشاحب قد أحاط بجسدها المهلك .. بينما نثر شعرها همجيا حول وجهها و كتفيها ... هي بكل روعتها البدائية حين تمتزج بالملوكية الفطرية ...
لكن جمالها الآن لم يكن هو من خطف قلبه ... بل رعبها الواضح !! ....
باتت ملامح وجهه مخيفة في خوفها عليها ....
كانا يقفان على مسافةٍ من بعضهما .. و كل منهما يعاني خوفه الخاص .....
ثم لم يلبث أن اندفع اليها غير قادرا على التعامل مع ذلك الشعور القاتم بداخله بأنه السبب في ذلك الرعب المرتسم على وجهها ...
وقف على بعد خطوةٍ منها ... بينما رفعت وجهها اليه , متسعة العينين .... تلهث بوضوح ....
اشتعلت عيناه بنار الصدمة و هما تلاحقان شفتيها المنتفختين بقوة اثر قبلاته المجنونة ليلة أمس .... بل لم تكن قبلات .... كانت هجوما على كل حواسها فقد معه كل سيطرته و ما عرف عنه من اتزان ....
زفرت أنفاسه نارا حارقة لفحت وجهها الشاحب المرتفع اليه .... بينما همس بصوتٍ أجش و كأنه يخاطب نفسه
( لقد آذيتك !! ............ )
مد يده الضخمة ... و التي كانت ترتجف !! ... ليمر بأصابعه على شفتيها المتورمتين ببطىء و صدمة ....
و كانت أنفاسها المرتعشة الملامسة ليده تزيد من قوة احساسه بالجنون و الكره الذاتي لنفسه ...
للحظات طويلة عجز عن الكلام .... غير مصدقا لنفسه ... غير مصدقا للمرحلة التي وصل اليها ... معها ....
هل وصل الى حد أذيتها !! ... فعلا !! ......
همس بصوتٍ أجش مبحوح .... مرتعب
( كرمة !! ............. )
كانت حدقتاها تهتزان بوضوح .... بينما هي غير قادرة على خلع عينيها عن عينيه .... و كأنه يربطهما به برباطٍ سحري لا فكاك منه ...
كانت أصابعه لا تزال تجري على شفتيها ببطىء الى أن تابع بصوتٍ متقطع مصدوم
( كرمة ..... لم أقصد ايلامك !! ...... أرجوكِ لا تنظري الي بتلك الطريقة .... )
ابتلعت ريقها بوضوح ... فانحدرت اصابعه تتلمس عضلات عنقها المتشنجة ليتأكد مما تشعر به .....
حينها تأوه بصوتٍ أجش ليقول بصوتٍ خافت ...
( كرمة ...... كرمة اسمعيني ...... )
صمت قليلا غير قادرا على التبرير .... فأخفض رأسه قليلا و هو يرفع يده ليتخلل مقدمة شعره بأصابعه بيأس ....
ثم رفع رأسه بقوة وهو يقول بصوتٍ قوي ... مسيطر .. خافت
( كرمة ...... هل أستطيع أن اضمك لصدري ؟!!! ... لا تخافي مني حبيبتي ...... )
صمت قليلا ينظر الى عينيها الواسعتين على شكلتين لوزتين حلوتين .... فتابع بصوتٍ خافت أكثر الحاحا وهو يقترب منها أكثر
( أرجوكِ حبيبتي ..... اقتربي مني ... تعالي الى صدري .... )
حينها أفاقت كرمة قليلا من صدمتها و هي ترمش بعينيها ... لتأخذ نفسا مرتجفا , ثم اقتربت منه الخطوة الفاصلة بتردد ووقفت بالقرب من صدره ....
مخفضة رأسها .... ترتجف قليلا , بينما تهدل شعرها حول وجهها فأخفاه عنه ...
فمد يده ببطىء ليضغط بها ظهرها برفق ... حتى ألصقها بصدره دون جهد , فأراحت وجنتها عليه تلقائيا و هي تغمض عينيها بتعب .....
ظلا على تلك الحالة طويلا و كأنه يحاول أن يبدد خوفها ... لم يتخيل يوما أن يصل به الى الحال الذي يحاول معه تهدئتها من خوفها منه ....
ظل يداعب ظهرها برقة .... و ما أن شعر بأنها سكنت قليلا على صدره , تجرأ على رفع كلتها ذراعيه ليضمها بين ذراعيه بقوة .... قوة مختلفة هذه المرة ... قوة حماية و أمان ...
فتنهدت بصوت مسموع و هي ترفع يدها لتلامس صدره ... تستشعر قلبه الذي يضخ حياة بقوة ...
كانت مؤخرا تقوم بتلك الحركة كثيرا ... لا يشعرها بالإطمئنان سوى ملامسة قلبه المندفع ....
بينما كان هو يغرق وجهه في شعرها و حلاوته ..... محاولا أخذ بعضا من نعومته .... لربما افادته في محاولة تفسير ما حدث بينهما ليلة أمس ...
رفع رأسه أخيرا بعد فترة طويلة .... لينظر الى قمة رأسها المحني على صدره .... فقال بصوتٍ خافت أجش
( تعالي ........ )
أبعدها عنه .... وهو يرفع رأسها بحزم رقيق , ... لن يسمح لها بالإبتعاد ... لن يسمح لها بالتباعد ...
ليلة أمس , على الرغم من جموحها .... على الرغم من الخوف الظاهر حاليا على وجهها المسكين ..
الا أنه للمرة الأولى يشعر بها منصهرة معه بتلك الصورة الغريبة ... و كأنها تحتاجه ... تحتاج العاطفة التي يمنحها لها .... لا بل شعر أكثر و كأن هذا لم يعد يكفيها .... بدت بين ذراعيه تحتاج لأكثر و هذا جعل منه مجنونا جنونا اضافيا مع التصادم الذي حدث بينهما ...
لا يزال يتألم ... لازالت رجولته تتأوه بصمت من موضوع امكانية حملها دون أن تعلمه ...
لكنه الآن أجبر نفسه بالقوة على أن ينحي ألمه جانبا كي بدد ذلك الخوف الدخيل بينهما ...
هل ينقصهما المزيد من الحواجز !!! .... تبا !!
ترك ذقنها ليمسك بكلتا يديها و يسحبها معه الى أن جلس على الأريكة و جذبها لتجلس بقربه ... كانت تبدو كتلميذة مذنبة و هي مخفضة رأسها و شعرها من حوله تنظر الى حجرها حيث يديهما متشابكتين ...
اقترب منها أكثر فبات لا شيء يفصل بينهما ... حينها أخفض رأسه ليبعد شعرها عن وجهها بشفتيه الحنونتين و هو يهمس بصوتٍ أجش بالقرب من أذنها
( الا تريدين حتى النظر الي ؟!! ....... )
رفعت وجهها اليه بتردد .... فصدمت قلبه ! ...
كان وجهها الجميل .. شاحب .. متوتر ... بينما شفتيها الحمراوين المتورمتين هما نبض الحياة في تلك الملامح الباهتة القلقة ...
فهمس مجددا بصوتٍ خشن
( هل تكرهيني بسبب ليلة أمس ؟!! ........ )
رمشت كرمة بعينيها مجددا و هي تنظر اليه .. تحاول منذ برهة الكلام وهو لا يعطيها الفرصة ...
تريد الصراخ ... تريد البكاء .... تريد نبذ الماضي الذي لا يتخلى عنها ...
لم تستطع النطق و هي تهز رأسها نفيا ببطىء ....
شعر ببعض الراحة وهو يرى نفيها الصامت .... لكنه لم يكتفي بذلك بل ترك يديها ليحيط ظهرها بذراعه وهو يضمها الي صدره هامسا بخفوت
( اذن لماذا هذا الخوف الي يظهر على ملامحك حبيبتي ؟!! ....... )
طالت عينيها الخائفتين رغما عنها الى هاتفها الملقى على الأريكة بجواره في الجهة الأخرى ..... فتغضنت عيناها أكثر و هي تزفر نفسا حادا ... قلقا .....
لكنها استجمعت كل قواها غصبا و هي تهمس بصوتٍ بدا عصبيا ... على الرغم من رقته
( ما ..... ما الذي جعلك .... ما الذي ايقظك مبكرا ؟؟ ........ )
عبس قليلا و هو يراها تبني الجدار حول افكارها كي لا يقرأها .....
لقد ذكرته بفيلم يعرفه حق المعرفة .... لأطفالٍ خارقين يخترقون التفكير و ينفذون اليه و في نفس الوقت يبنون جدارا لمنع الآخرين من قراءة افكارهم ...
و هي بالفعل تبدو لعينيه كطفلةٍ نابغة خارقة ... تحاول جاهدة بناء جدار عازل كي تمنعه من النفاذ الى تفكيرها ...
الا أنه رد بخفوت خشن
( بداخلي جهاز انذار ..... يضيء ما أن تغادريني , في صحوي ... و في نومي .... )
رفعت عينيها القلقتين كقطةٍ حذرةٍ اليه ... ثم لم تلبث أن فرغت ذعرها في ضحكةٍ خافتة متوترة .. و هي تقول برقةٍ خافتة
( ألم أقل لكِ أنك رومانسي للغاية !! ...... )
رد عليها بجدية عابسا
( لم تكن تلك رومانسية ..... بل حقيقة ..... )
تحولت ضحكتها الى ابتسامة جميلة و هي تنظر الى ملامحه العابسة .... حسنا أنه خانق , قليلا .... لكنه لطيف ....
عقدت حاجبيها قليلا و هي تفكر بأن ليلة أمس كانت أبعد ما يكون عن اللطف !! ....
كان حاتب يراقب تعاقب الإنفعالات على وجهها الواضح ... بينما بداخله بركان الغضب و القلق يتحرك بعدم ثبات ...
يحاول معاملتها بحذر خوفا من أن تنتفض و تتخذ خطوة متهورة لأنه آلمها أو أزعجها ....
للمرة الثانية يدرك أن ما حدث بينهما كان له صدى في ذاكرته مما مضى ... حين كانت تأتي الى العمل على مرآى من العاملين و منه شخصيا ... ببشرةٍ صافية نالها ما نالها على يد الهمجي الذي كانت متزوجة منه ...
فهل هو أفضل حالا منه الآن !! ....
زفر نفسا أجشا وهو يسأل نفسه بيأس
" الى متى ستظل تقارن نفسك به يا حاتم!! ... متنازلا كل مرةٍ عن جزء من كرامتك و أنت تفعل !! "
كان اصبعه يطوف على شفتيها الممتلئتين و كأنه يرغب بقوى سحرية أن يضيع احمرارهما .... على الرغم من أن هذا الإحمرار كان يثير حبه أكثر .... و يخبره بوضوح عن مدى شغفهما المتنامي بالتدريج .. من جهتها هي على الأقل ...
فمن جهته هو فهو شغوفا بها كقطعة بطيخ باردة في صيف حار !!
انه حتى أصبح يتكلم مثلها !! ......
مد يده ليرفع ذقنها اليه ناظرا لعمق عينيها وهو يقول بقوة غير قادرا على التحمل الخوف من مغبة خوفها
( كرمة !! ...... لم أقصد ايلامك ..... آنا آسف حبيبتي ...لا تخافي مني .. )
صمت قليلا وهو ينظر اليها بعينين تشتعلان تهديدا .... تهديدا بالثقة وهو يهتف بخفوت مشددا على ذقنها
( إياكِ و الخوف مني ...... إياكِ ..... )
عادت نظراتها الى الهاتف الملقى بجواره بصمت .... و كأنها مذعورة من أن يرن مجددا .....
فرفعت عينيها اليه و هالها أن ترى مدى العذاب مختلطا بالتهديد في عينيه ... فهمست بعد لحظة
( أنت لم تؤذني ليلة أمس ..... أنا .......أنا ..... )
صمتت قليلا و هي تنظر الى ملامحه بوعي غريب ... فحثها حاتم وهو يهمس بصوتٍ أجش
( تابعي ...... إياكِ أن تتوقفي الآن ...... )
عبست قليلا و هي تقول بغيظ مفاجىء
( توقف عن التهديد ..... ماهذا ؟!! .. ارهاب فكري !! ..... أعطني فرصة لأركز ..... )
ازداد عبوسه بشدة .... بينما أخذت نفسا آخر أكثر سيطرة و هي تبعد عينيها بالقوة عن هاتفها ...
لتعاود النظر الى عينيه .. قائلة بخفوت واضح
( أنت لم تؤذني ...... أنا كنت في حاجة ماسة لتلك العاطفة التي أغرقتني بها .... أنت لن تتخيل ما شعرت به ليلة أمس .... إحباط سخيف غير مسبب , ..... )
أطرقت بوجهها قليلا أمام عينيه المظلمتين ... ثم تابعت بصوت هامس
( لا ليس سخيفا ...... كدت أموت و أنا أمام الطبيبة ليلة أمس ..... كدت أن أموت حين ثبت أنني مضطرة للإنتظار شهر آخر ... و آخر ... و من يدري ....... )
ابتلعت ريقها بينما كان صدره الهائج يضرب بقوةٍ دون أن يسمح لها بالإفلات .... فعضت على شفتيها قليلا و هي تتابع بهمس
( الحقيقة أنني أنا من آذيتك ..... و بشدة ..... )
هزت رأسها نفيا قليلا .و صوتها يختنق . فتراقصت بعض الخصلات على جانبي وجهها ...
فشدد من ضمها اليه أكثر ... و أكثر ....
فتشبثت بصدره و هي تغمض عينيها لتهمس بخفوت مختنق
( ليلة أمس شعرت ......شعرت بالكمال ... و كأن الكثير كان ينقصني .... ليكتمل فجأة بذلك الطوفان .... )
صمتت و هي تشعر بخجل رهيب و كأنها فتاة بريئة .... فلم تستطع رفع رأسها و مواجهته , الا أن هدير انفاسه وهو يقول بصوتٍ أجش
( كرمة ....... ياللهي .... انظري الي , ارفعي وجهك ..... )
هزت رأسها نفيا في صدره و هي تقول بصوت مختنق
( لا أستطيع ........... )
عقد حاجبيه و عينيه تلمعان بقوة ... ثم قال بخشونة
( لكن أنا أستطيع ........)
أبعدها عنه بالقوة , فأخفضت وجهها المشتعل .... لم تصدق أن بإمكانها الإعتراف بسيطرته عليها بمثل تلك السهولة و الجرأة !! ...
الا أن حاتم لم يسمح لها بالإختباء مجددا وهو يرفع ذقنها رغما عنها بينما هي تتهرب منه معترضة و هي تقول
( لا يا حاتم .... لن أرفع وجههي .... )
قال بصيغة الأمر بينما نبرات صوته تتوهج
( بل ستفعلين ........ انظري الى و أعيدي ما قلته للتو .... )
قالت بعناد و هي تزم شفتيها
( مستحيل ................ )
الا أنه شدد على ذقنها ليقول بقوة و صدره يتسع و يتسع
( بلى ....... أتظنين أن أتركك بعد ما قلته للتو !!! ..... )
التزمت العناد و هي تتلوى منه متهربة من عينيه و يديه ... تحاول ىإخفاء وجهها في كتفه ... حينها لم يجد بدا من النهوض فجأة ... ثم دون سابق إنذار , سحبها من يديها حتى وقفت على قدميها ... ثم رفعها بين ذراعيه حتى باتت ساقيها تلوحان في الهواء .. و عينيها على مستوى عينيه ...
ترى النار المتأججة في عينيه ... وهو يعتصر خصرها الهش بين ذراعيه القويتين .. فتعلقت بعنقه و هي تقول ما بين الخوف و محاولة الظهور بمظهر العابس الحازم
( انزلني يا حاتم ......... )
قال من بين أسنانه و عينيه تلفحانها
( ليس قبل أن تعيدي ما قلتِ ..........و عينك بعيني , دون أن تخفضيهما .... )
عبست و هي تنظر اليه قليلا .. ثم قالت بدلال أنثوي خافت
( توقف عن صفة التملك تلك ..... قلتها و سمعتها ..... الا تخجل !! ...... )
اشتدت صرامة ملامحه ... و تأجج النيران بعينيه وهو يقول بجدية
( الخجل بيننا .... بات صفة لا تخضع للمنطق .... انت بداخلي كرمة , هل اخجل من جزءٍ مني؟!! )
ابتسمت برقة و عمق و هي تتطلع اليه ... فرفعت يديها تتلمس ملامح وجهه بتركيز .. و كانها ترسم له صورة في ذاكرتها ....
هذا الرجل هو زوجها !!....... الدرس اليومي الذي تلقنه لنفسها
لكن بعد مرور الايام بينهما ... لم يعد الدرس فرضا .... بل متعة .......
عبس حاتم قليلا و هو يشعر بالغيرة من ابتعادها عنه مجددا فقال آمرا متناسيا طلبه حاليا
( بماذا تفكرين ؟؟ ..... ما الذي شغلك عني مجددا ؟؟ .....)
ظلت تتلمس وجهه قليلا و هي تميل بوجهها .. تؤرجح قدميها ببطىء و رقة ... و تعمدت اطالة الصمت بخبث بينما هو يحترق و حرارته تشع عبر جسدها .... ثم قالت أخيرا
( أتعرف عليك ............ )
اتسعت عيناه قليلا وهو يدرس مدى اهمية كلمتها المختصرة ... ثم لم يلبث أن ازداد عبوسه و كأنه يدرك لأول مرة ... فقال بشك
( أنت تتمتعين بذلك ...... أليس كذلك ؟!! ..... )
رفعت اليه عينين بريئتين و هي تقول برقة
( أتمتع بماذا ؟!! ........... )
اجابها حاتم دون مواربة
( تتمتعين بتلك السيطرة التي تفرضينها علي ...... تتمتعين بعذابي !! ..... )
حينها أشرق وجهها بابتسامة حقيقية .... بدت خلابة في جمالها و هي تقول برقة
( و اي مرأةٍ في هذا الكون لا تتمتع بتلك السيطرة التي تفرضها على رجل !! ......... )
ضاقت عيناها قليلا و هي تهمس بتفكير
( لا ...... ليس اي رجل , .....بل زوجها ...... تلك السيطرة تشعرها بالأنوثة و .... الوهن ... )
عقد حاجبيه بإرتياب و هو يقول بخفوت بينما صدره يسحقها بشدة انفعالاته المتزايدة في توهجها ....
( حقا يا كرمة !!! ...... الا تخنقك مشاعري !! ..... و تلك السيطرة التي تحدثتِ عنها ؟ .... )
كانت تراقبه .... تتأمل ملامحه و ترسم حدودها بعينيها .... ثم همست برقة
( نعم تخنقني ...... لم أعتدها من قبل .... )
عبس حاتم أكثر و هو يشعر بالألم ... الا أنها تابعت بصوتٍ أكثر رقة
(لطالما كنت متحملة مسؤلية نفسي ...... كنت أشعر أنني مخلوق مزدوج , نصفه رجل و الآخر امرأة ..... )
عادت لتصمت و ضاعت الإبتسامة عن وجهها الذي لونه حزن شاحب و هي تتابع همسا
( الرجل بداخلي كان متعبا للغاية .... و المرأة كانت مهانة و أنوثتها منكسرة ...... )
صمتت قليلا و هي تغلق شفتيها كي لا تنطق بالمزيد ..... و هي ترى ملامح حاتم تتخذ وجع الرجولة من ماض لم يتواجد به ...
حينها أنزلها ببطىء على الأرض دون أن يحررها .....
شعرت بالقلق من احتمال غضبه مجددا .... فأطرقت بوجهها بندم , الا أنه قال بخفوت و يداه على خصرها ترفضان تراجعها
( تابعي ...... أنا أسمعك ...... )
فغرت شفتيها قليلا ... لا تصدق أنه يعطيها الفرصة للكلام عن ارهاقها و تعبها في حياتها مع غيره ...
لكنها فجأة شعرت بأنها لا تريد ذلك .... بل تريد قول ما هو مختلف ,
فهمست بخفوت
( أما الآن ...... الآن ...... سيطرتك قتلت الرجل بداخلي ... و أحيت الأنثى ..... تمنحها الوهن الذي يذيب مفاصلها و بنفس الوقت تمنحها القوة كي تعلو و تعلو ..... حتى باتت مدللة!!! ...... )
سمعته يأخذ نفسا أجشا .... فرفعت وجهها اليه تتمتع بتلك العاصفة المرتسمة على ملامحه الوسيمة قبل أن تقول بخفوت متابعة
( لذا اعذرني ان كنت أتمتع بالأمر ...... فأنت السبب .... )
زفر حاتم نفسا قويا ... و هو يهمس بصوتٍ أجش في نهايته
( آآآه يا مدللة !!! ........ ماذا أفعل بكِ !! ...... )
أفترت شفتيها عن ابتسامة رقيقة مشعة و هي تهمس بدلال
( زد من دلالي .......... و عانقني كل صباح .... )
اظلمت عيناه قبل ان يخفض وجهه دون كلام لينفذ طلب مدللته و طفلته العبقرية ....
و بداخله سؤال موجع لم يخرج الى شفتيه
" وقلبك يا مدللة ؟؟ !! ........ "
اما كرمة فقد تقبلت العناق برقةٍ و هي تنعم بدفئه الذي بدد رعبا استيقظت عليه ... و بينما هي ترفع ذراعيها لتحيط بهما عنقه , كانت قد نسيت مؤقتا هاتفها الملقى على الأريكة و كأنه كان وهما .... رسمه الماضي !! .....
.................................................. .................................................. ...................
بعد فترة طويلة و اثناء وجود حاتم في الحمام .... ذهبت الى غرفة الجلوس و قدماها الحافيتان تسيران بصمت و كأنها تمس الأرض بحذر ....
وقفت أمام الأريكة تنظر الى هاتفها !! ... لقد مرت ساعتين ... أو ثلاث ... و لم تسمع رنينه مجددا !!
هل كانت تحلم ؟!! .... هل كانت تتوهم !!! .... ربما حالتها النفسية اثر خيبة أملها ليلة أمس أثرت على نفسها و جعلتها تخلط الواقع بالحلم ؟؟ ...
انحنت لتلتقط هاتفها بارتجاف و الذي كانت قد نسيته تماما اثناء وجودها مع حاتم ....
فتحت سجل الأرقام المتصلة و هي تدعو الله من كل قلبها ان يكون آخر من اتصل بها هو حاتم ليلة أمس ...
اغمضت عينيها و ترجت ...
ثم لم تلبث ان فتحتهما .... و سرعان ما انتفض قلبها حين ابصرت رقما غريبا وقت الشروق!! ....
عادت لتغمض عينيها بيأس و هي تزفر ألما .......
ماذا تفعل الآن ؟! ......
فتحت عينيها و هي تفكر بأمل واهي ...
" ربما تكون قد أخطئت الصوت ... نعم ... ربما يكون شخص ما يعاكسها ...و قد اختلطت عليها الأصوات فظنته ......... "
عقدت حاجبيها و هي تهمس بقوة
( من تخدعين يا كرمة ؟!! ...... هل تخطئين صوتا أحببته لمدة عشر سنوات ؟!! )
سقطت جالسة على الأريكة بتعب و عيناها تنحنيان بألم و هي تهمس مجددا
( لماذا يا محمد ؟!! ..... لماذا الآن و قد بدأت أجد السعادة أخيرا ؟!! ..... لماذا تفسد عليّ ما طلبته لنفسك ؟!! ..... )
غامت عيناها بغلالة من دموعٍ لن تستطع توجيهها ....
شهقت بنفسٍ صارم و هي تحاول بجدية التفكير في حل للأمر ....
ستتصل بالرقم ..... ستتصل و تتأكد أولا أنه هو .... ثم تتصرف .....
كان اصبعها يلامس الرقم بشرود دون اتخاذ القرار
ربما استطاعت اقناعه باللطف أن يبتعد ....
لحظة و رفعت رأسها بقوة و هي تقول بشدة
؛( ماذا تفعلين بنفسك يا كرمة ؟!!! ....... توقفي .......توقفي عن جر نفسك للماضي بارادتك ..... )
نهضت من مكانها و هي تسمع صوت حاتم ينادي عليها ....
فاتجهت الى غرفتها ووقفت باطار الباب .... تنظر اليه بصمت و هي تراه يقف أمام المرآة يجفف شعره المبلل ... بينما يقول بهدوء صارم و هو يشعر بوجودها دون أن يحتاج لرفع وجهه
( اياكِ أن تكوني قد تناولتِ افطارك ....... )
استندت بكتفها الى اطار الباب و هي تكتف ذراعيها ناظرة اليه بابتسامة رقيقة ... بينما هاتفها في حضنها ... فقالت بخفوت رقيق
( تهديد آخر !! ....... و ماذا لو فعلت ؟!! .... هل ستمسك بحلقي كي تخرج ما ابتلعته !! )
انهى تجفيف شعره ليرفع وجهه الوسيم اليها ... بينما كان شعره الندى فوضويا بجموح ....
فنظر اليها بنظراتٍ لا تعرف الشبع منها ابدا ... يتأملها بنفس الطريقة التي تتأمل بها كعكة شوكولا ......
ثم قال ببساطة
( الأمر أبسط من ذلك ....... و أقل تعذيبا , فكل ما هنالك هو أنكِ ستحرمين نفسك من المخبوزات الساخنة و التي كنت أنوي الخروج حاليا لإحضارها لكِ ..... )
برقت عينا كرمة و هي تستقيم قليلا لتقول بشك
( حقا !! ....... من أين ستحضرها في هذه الساعة ؟!! ..... )
قال بهدوء و هو يخرج بدلته الرياضية ...
( هناك مخبز اعتدت أن أحضر منه كعكات محلاة كلما خرجت للجري ....... )
عبست قليلا و هي تقول
( هل ستخرج للجري ؟!! ...... لم أعرف أنك معتاد على ذلك , لم تفعلها قبلا !!..... )
قال حاتم
( لم أفعلها منذ أن تزوجتك حبيبتي ...... و لاحظت أن بطني بدأت في الظهور قليلا و كل هذا بسببك .... )
عبست كرمة أكثر و هي تقول بحدة
( و هل منعتك ؟!!! ........... ثم ما ذنبي في بروز بطنك ؟؟!! ..... ينقص أن تخبرني برومانسيتك المعتادة أنني حين آكل , تكتسب أنت السعرات بدلا مني !!!! ..... )
نظر اليها بهدوء وهو يقول بجدية
( انها ليست رومانسية ..... إنها حقيقة .... )
مطت كرمة شفتيها و هي تنظر اليه ... بينما كانت روحها الأنثوية تعلو و تزدهر أكثر بداخلها ...
ثم لم تلبث أن قالت بعناد
( اذن سأرافقك ......... دقيقة واحدة و سأكون جاهزة )
اسرعت الى دولابها تنوي اخراج بدلتها الرياضية التي تبدو فيها كزجاجة مياه غازية شديدة الإنحنائات ...
الا أن صوته كان هادئا من خلفها وهو يقول
( لا ......... )
توقفت مكانها ثم استدارت اليه عاقدة حاجبيها و هي تقول بحيرة
( لا ماذا ؟!!! ...... أنا لم أضع شيئا في فمي منذ أمس , لذا أستحقها ....... )
أخذ وقته في تمشيط شعره و استخدام عطره الذي دوخها .... ثم استدار اليها ليقترب منها بهدوء و عيناه على عينيها المزعوجتين ....
الى أن وصل اليها ووضع يديه على خصرها وهو يقول بجدية كانت تحمل من حنان صوته
( لن أسمح لزوجتى بأن تجري علنا أمام الشعب المنتظر رؤيتها بتلك الحلة المستديرة من حولها ...... الا تدرين مدى اغرائك و أنتِ تفعلين !! ..... )
اتسعت عينا كرمة بغضب ... و بدأ تنفسها يتسارع قليلا .... ووجهها يحمر غيظا و هي تحاول السيطرة على حنقها ...
بينما كان حاتم متسليا تماما كتسليتها و عبثها في اثارة و استفزاز سيطرته على نفسه ...
يعرف جيدا أنها لا تحب أن يأمرها أحد أو أن يفرض عليها ارادته .....
قالت كرمة بقوة و غضب
( من أين لك أن تعرف أنني مغرية و أنت لم تراني أجري من قبل ؟!! ... انه عذر واهي كي لا أرافقك ... )
ابتسم وهو يقربها منه اكثر ليقول بصوت خافت أجش
( بلى رأيتك ....... فأنا أجلس خلفك في غرفة الجلوس و انتى تجرين على جهاز الركض يوميا كل مساء ... و متعتي الخاصة تجعلني ارفض خروجك للركض علنا رفضا باتا ... و لا مجال لمناقشة الأمر .... )
احمر وجهها بشدة و ارتبكت كما أراد تماما ... الا أنها عبست أكثر و هي تستدير عنه هاتفة بغضب
( تبا لك يا حاتم .... و أنا التي أظن أنك كنت تركز في فيلم كل ليلة ..... ابتعد عني ..... )
الا أنه لم يتخلى عنها وهو يضم ظهرها الى صدره ... ليقبل عنقها برقة فهتفت بحنق اقل حدة
( ابتعد عني يا حاتم لقد أحرجتني للغاية ..... ثم ليكن بمعلومك , أنت لن تقضي أي أمسيات معي أبدا مستقبلا ......)
لكنه كان يضمها اليه بحنان وهو يقول برقة
( هل تخجلين مني ؟!! ..... أنت جزء مني ألم أخبرك ذلك قبلا !! ...)
صمت قليلا وهو يقبل شعرها بحنو قبل أن يقول بجدية خافتة
( ثم أنني أريد أن أفكر وحدي قليلا ... و حين أعود سيكون لنا حديثا طويلا ...)
شحب وجهها فجأة .... و رمشت بعينيها و هي تقول بتردد
( الا زلت غاضبا مني ؟!! ...... يبدو أنني لن أتوقف عن هذا السؤال يوما ! .... )
جذبها الى صدره فأطرقت بوجهها .. بينما أحاطت ذراعاه حول خصرها ... ليهمس بالقرب من أذنها
( و سبق أن أخبرتك ان مشاعري تجاهك لن تتأثر بغضبي منكِ مهما بلغ حجمه ..... )
همست بقنوط دون ان ترفع رأسها
( اذن لازلت غاضبا ............. )
ظل صامتا دون ان يرد عليها فانتفض قلبها بين ضلوعها ... و هي تشعر بان السعادة الحديثة التي تحياها باتت مهددة فجأة من عدة جهات ..... او ربما .... هي جهة واحدة .... الماضي ....
اجابها حاتم بعد عدة لحظات
( و هل يضايقك أن أكون غاضبا ؟؟ ........ )
همست باختناق بعد فترة بائسةٍ طويلة
( هل تسأل يا حاتم ؟! ........ لا أريدك غاضبا , اريد أن ...... )
صمتت قليلا ... فقال يحثها بهدوء
( ماذا ..... ماذا تريدين ؟؟ ....... قولي حبيبتي و سيكون لك ما تريدين ...... )
همست كرمة بخفوت
( اريد أن أمنحك بعضا من السعادة التي منحتها لي ....... )
حينها أدارها حاتم اليه برفق يحتوى على بعض الحزم ... فاسبلت جفنيها أمام نظراته المتفحصة ...
ثم قال بجدية
( هل أمنحك السعادة يا كرمة ؟!! ..... هل أنتِ حقا سعيدة ؟!! .... )
قالت بقوة و هي تنظر اليه متشجعة
( كم مرة يجب أن أخبرك فيها أنني سعيدة ..... جدا ..... جدا .... )
قال حاتم بهدوء قاطع و عيناه تخترقان عينيها
( بدون حب ؟!! ............. )
تسمر وجهها بملامحه فجأة و شحب لونها و قد أخذها على غفلةٍ ... ففغرت شفتيها مترددة ... تنوي أن تخبره بأنها تحبه .... يجب أن تخبره بأنها تحبه حتى و ان كانت تكذب ...
فهذا ليس عيبا أو حراما ....... الكذب على الزوج في تلك الحالة ليس عيبا .....
حاولت النطق .... و هي ترسل اشارات النطق من عقلها الى لسانها كي تتكلم .... حينها قال حاتم بصرامة
( لا تحاولي أكثر ....... )
فغرت شفتيها أكثر و اتسعت عيناها و هي تهمس بذهول
( ماذا ؟!! .............. )
أعاد حاتم بصرامة
( لا تحاولي الكذب ... فلن تستطيعي , و بالأخص معي أنا ........ )
هزت كرمة رأسها نفيا و هي تقول بإختناق
( أنا .... لم ........... )
قال حاتم بجدية قاطعة
( من بين الأشياء الرومانسية التي تهتمين بعدها .... هو أنني أستطيع قراءة أفكارك بكل وضوح ... و أنكِ من المستحيل أن تكذبي أمامي ....... و أنتِ الآن تحاولين جاهدة النطق بحبي كي ترضيني ... )
زفرت نفسا مرتجفا و هي تهمس بحزن بالغ
( حاااااتم ............ )
الا انه لم يتراجع .... بل قال بخشونة
( الا أستحق منكِ الإنتظار الى أن تشعرين بها حقيقة ثم تنطقينها ؟!!! ...... )
ظلت تنظر اليه طويلا بملامح مترجية واهنة .... قبل أن تهمس برقة معذبة
( أنت تستحق كل ما هو أفضل ....... لكنك ليلة امس طالبتني ..... طلبت أن ...... )
قاطعها بقوةٍ وهو يهزها قليلا
( أعرف جيدا ما طالبتك به ...... أردت قلبك .... أردت حبك .... صرخت بكِ أحبيني يا كرمة ... و أغرقتك بين أمواج عشقي بكِ ....... لكنني لم أطلب منك ادعائها كذبا لمجرد أنني أستحق الأفضل !..... )
لم تجد كرمة ما تجيب به ... لماذا رفض و جرحها بهذا الشكل ؟!
كانت تحتاج لأن تقولها .... كي تقنع نفسها بالسعادة و هي فعلا سعيدة .... فقط كان ينقصها أن تتسلح بتلك الكلمة ... أخفضت عينيها قليلا و هي تنظر الى هاتفها الذي نسيته في حضنها ....
بينما تركها حاتم ببطىء و على مضض وهو يقول بهدوء خافت
( أنا سأخرج الآن ............ )
لم ترد كرمة على الفور ... بل ظلت مطرقة برأسها , لكن و ما أن وصل لباب الغرفة و عيناه عليها لا تريدان مغادرتها و هي تقف وحيدة حزينة ... قالت بخفوت واجم
( أريد الذهاب معك .......... )
ابتسم قليلا بعطف ... و هو ينظر اليها كطفلته المدللة ... بينما كان قلبه ينبض بوحشية و ألم رغبة في انتزاع الحب الذي يريد من قلبها ولو رغما عنها ....
فقال بخفوت
( لا .............ابقي هنا و انتظريني , ماذا أحضر لكِ معي بخلاف المخبوزات ...... )
زمت شفتيها و مالت عيناها الحزينتين ..... و همست بخفوت يحده الألم
( لا أريد شيئا ... ....... )
أومأ حاتم برأسه قليلا وهو يقاوم رغبته في البقاء معها .... لكنه أخذ نفسا قويا و استعد ليغادر ... و قبل أن يخرج نادته كرمة للمرة الثانية
( حاتم !! ............... )
عاد ليلتفت اليها بصمت .... فهمست بحزن ووجع
( هناك مخبوزات محلاة بالسكر ..... بخلاف المحشوة بالجبن .... هل هي موجودة لدى المخبز؟؟ )
ابتسم ببطىء .... و عيناه تتشربناها رشفة رشفة .... في حزنها و في فرحها .. و في جوعها حبيبته ... قطعة من قلبه ....
فقال بخفوت
( و حتى لو لم تكن موجودة لديه ....... تتواجد لكِ يا مدللة .... )
.................................................. .................................................. ......................
نظر اليها من بعد ..... و كانت هي ترنو اليه بعينيها بصمت ....
أحيانا يتسائل عن تلك العلاقة التي باتت تجمعهما .... هل يريدها حقا ؟!! .... أم هو لا يستطيع الإستغناء عنها ؟!!
كان يحاول جاهدا قولبتها في اطار طفلته الأولى ... كرمة ....
حاول مرة بعد مرة .... لكنه فشل فشلا ذريعا ..... فقلبه لا يزال ينبض هاتفا باسمها ... و عينيه لا تريان سوى عينيها .... عيني كرمة ....
كلما نظر الى عيني علياء شعر بالغضب يفور في أعماقه .... فعينيها هما من تخبرانه أنها ليست كرمة ....
لا فارق التعليم أو الثقافة .. أو حتى الأناقة هي من شكلت الفرق بالنسبة له ...
فقط عينيها .......
تلك العينين البسيطتين في نظرتهما ... تختلفان كل الإختلاف عن عيني كرمة الجامحتين ......
لكن عيني علياء على الرغم من بساطتهما الا أنهما تملكان عمقا يكاد يعري روحه ... و يفضحه ...
خاصة حين تطيل النظر اليه دون تعبير .... و كأنها تأخذ وقتها كاملا في قراءة أفكاره بكل وضوح ....
قال محمد بخشونة
( توقفي عن النظر الي و مراقبتي بهذه الصورة ........ )
أخفضت علياء وجهها بسرعة ما أن سمعت الأمر القاسي منه و هي تقول بخفوت
( حاضر ............ )
لكن ليس قبل أن يرى لمحة الألم في وجهها قبل أن تخفضه ... فانسابت خصلة من شعرها الناعم الحريري على وجهها بحزن ...
شعرها أيضا بعيد كل البعد عن شعر كرمة المموج الساحر .... فشعرها منسابا كالحرير المفرود .. لا يخضع لأي ربطاتٍ طويلا .... حتى بات يشعر بالملل من شدة انسيابه دون روح أو حركة ....
بخلاف شعر كرمة الذي كان يتراقص بأمواجه مع كل حركة تتحركها ....
عاد لينظر اليها .... ربما لا يحب شكل شعرها ...لكنه بات لايستطيع التخلي عن ملامسة نعومته كلما شرد بعيدا ... بينما هي تجلس عند قدميه دائما ... و كأنه الحياة بالنسبة لها .....
قالت علياء بخفوت
( هل أحضر لك الشاي ؟............ )
نظر اليها بصمت طويلا ثم قال بخفوت شديد القسوة
( أحيانا تسألين أسئلة في منتهى الغباء !! ...... و ما حاجتي اليه عندك ؟!! ..... )
عادت لتطرق بوجهها و هي تضع كأسه في الصينية مع ابريق الشاي الصغير ثم تقترب منه ... الى أن انحنت أرضا على ركبتيها و هي تضع الصينية على الطاولة الصغيرة أمامه ... و اخذت وقتها في وضع السكر أولا بشرود ....
همست أخيرا دون أن ترفع وجهها
( محمد ...... أنا سأذهب للمبيت لدى جدتي اليوم , .... و ربما أمكث لديها عدة أيام .... )
نظر اليها بسرعةٍ و عيناه تشعان فجأة ببريق غضب باتت تعرفه جيدا كلما حاولت الخروج عن سيطرته ...
و بالفعل قال بلهجةٍ تنذر بالشر
( هل هذا قرار ؟!! ....... أم أنني ببساطة بت لا أملأ عينك كي تطلبي الإذن قبلا !! ... )
ارتبكت قليلا و أخفضت عينيها .... ثم قالت بخفوت
( أنا أطلب اذنك الآن ........... )
ظل محمد صامتا قليلا وهو ينظر اليها شاعرا بالغيظ منها و من شعرها المنسدل .... شعور حارق ينتشر في اصابعه يحثه على جذب خصلاته و التمتع بنعومتها ... و أيلام صاحبتها , علها تبث بها بعض الروح عوضا عن تلك الملامح الميتة الباهتة .....
رفعت علياء عينيها اليه بصمت .... و كأنها تريد ان تزيد من غيظه بمرآى عينيها اللتين تقرآنه و في نفس الوقت تخبرانه بأنهما ليست عينا كرمة ....
فقال مباشرة ... و بلهجة أكثر قسوة مما أراد
( ردي هو " لا " .... و لا أريد المزيد من الجدال , فلا تحاولي اثارة استفزازي الآن ..... )
مالت بوجهها تنظر اليه بملامحها الباردة ..... قبل ان تقول بخفوت
( انا لا أجادلك في اي من الأمور التي تخصني .... لكن جدتي بمفردها الآن و تحتاج رعاية ... )
نظر اليها بعينين لا تلينان .... ثم قال بصوتٍ قاطع
( يمكنك مساعدتها طوال فترة عملي ..... المبيت ليس ضروريا )
ظلت تنظر اليه بتلك النظرات التي يمقتها قبل ان تقول بخفوت
( اثناء عملك اذهب الى عمتي والدتك ..... لانظف لها البيت و احضر الطعام .... )
نظر اليها و قال باندفاع
( و من طلب منكِ أن تفعلي ؟!! ..... هل تتباهين بعرض مساعداتك ثم تتذمرين الآن ؟!! )
قالت بخفوت و بلا تعبير
( انا لا أتذمر ........ )
قال محمد بصوت قاطع جعلها تنتفض قليلا
( لا تذهبي الى امي و اذهبي الى جدتك لقضاء طلباتها ..... لكن المبيت هناك مرفوض تماما .... )
حينها نطقت سؤالها بكل وضوح
( لماذا ؟! ............ )
اتسعت عيناه قليلا و برقت عيناه خطرا ... و قال بهدوء يسبق العاصفة
( الازلتِ تجادلين ؟!! .......... )
ارتجفت قليلا ... الا انها لم تتراجع و هي تقول بخفوت رافعة رأسها اليه و هي جاثية أرضا عند ركبتيه
( لا أجادل ... أنا فقط أريد أن أعرف السبب الذي يجعلك ترفض مبيتي خارج البيت , على الرغم من انني أحيانا أشعر أنك تريد اخراجي من بيتك و حياتك كلها ...... )
زاد بريق الغضب في عينيه فانتفض هادرا بقوة
( اذن دخلت الى رأسي .... و استنتجتِ حقيقة مشاعري وفقا لعقلك المحدود... و بناءا عليه تتخذين القرار و كأن لا رجل لكِ !!! ..... ماذا بكِ اليوم ؟!!! .... هل جننتٍ ؟؟؟ ....... )
انطبقت شفتيها و هدر نفسها بصوتٍ مكبوت ..... و هي تنظر الى ثورة غضبه التي تعرفها جيدا .... لكنها لم تخف و لم تتراجع و هي ترفع وجهها اليه و هي تقول بقهر
( لا لم أجن يا محمد ..... منذ بداية زواجنا و أنا أعلم أنك لا تريدني أنا .... لا تريدني سوى بديلة لامرأة اخرى ..... و بالرغم من ذلك قبلت ... قبلت بأخذ الدور الذي حددته لي .... ووضعت نفسي به بالقوة ... )
اتسعت عينا محمد أكثر وهو يسمع هجومها الحاد لأول مرة على الرغم من ان صوتها لم يكد يعلو عن الهمس المقهور
لكنها تابعت بقوة
( كنت أتحمل اسمها بيننا ... و أنت تناديني به متأوها ... و أهديء من ألمي و أتعلل بأن فترة انفصالكما لازالت أقصر من العشرة الطويلة بينكما ..... لذلك أغمض عيني و أتظاهر بأنني هي ..... فقط لأرضيك و أمحو بعضا من وجعك ...... )
كانت عينا محمد تتسعان وهو يراها للمرة الأولى تنبذ استسلامها الصامت لتنفجر على هذا النحو , لكن و قبل أن ينفجر بها كانت هي قد سبقته هاتفة بحدة
( أستطيع أن أتحمل لأجل شيء واحد فقط ...... وهو اخلاصك لي , كنت متأكدة أنك ستكون مخلصا لي , لذا يجب عليا في المقابل أن أشاركها حبك لها .... لا .... عفوا ... لا مجال للمشاركة ... فأنا خارج الصورة أصلا ..... و من أنا لأقارن بتلك السيدة الأنيقة المتعلمة و المثقفة ..... حتى و لم تكن .... هي حبيبتك الوحيدة في كل أحوالها ...... كنت مقتنعة و راضية رغم ألمي .......بل موتي كل ليلة .... )
صمتت تلتقط نفسا لاهثا موجعا للحظة ... ثم صرخت
( كل هذا لقاء اخلاصك لي يا محمد ...... لكن حين أكتشف أنك لا تزال تهاتفها و تسمع صوتها ليلا .... فأنا لن أقبل ....... لا أستطيع تحمل الخيانة ...... لقد سمعت بنفسي فجرا ... فلا تكذب .... )
و كأنها قد أطلقت شرارات مارد غاضب مسجونا بداخل مصباح ضيق مغبر .....
فانتفض من مكانه صارخا بعنف
( اخرسي ............ أخرسي أيتها ال ...... )
و كان رافعا يده ينوى ضربها .... لكنه لم يجد الفرصة , فبنهوضه المفاجىء تسبب في اطاحة الطاولة الصغيرة أمامه و انقلاب ابريق الشاي الساخن على جسدها ......
صرخت علياء بصوتٍ عالٍ أفزع محمد بقوة .... ثم قفزت واقفة و هي تنفض السائل الساخن عن جلبابها البيتي البسيط قبل ان تجري الى الحمام لتوصد بابه خلفها ....
وصل محمد بعدها بخطوة ... و اخذ يطرق الباب صارخا
( علياء ..... افتحي الباب ..... افتحي الباب دعيني اطمئن عليكِ ..... )
لكنها لم تفتح الباب ... و لم تفتح الماء البارد ليهدىء من حروق جسدها .... بل جلست ارضا و هي تبكي بقوةٍ للمرة الأولى منذ زواجها بمحمد .....
صوته الهامس باسم "كارماااا "
كان خارجا كتنهيدة بصوتٍ أجش من قلب يحترق شوقا .....
أخذت تشهق بصوتٍ عالٍ بينما ضربات محمد تزداد بقوة مع تعالي صوت شهقاتها و هو يصرخ
( ياللهي علياء افتحي الباب و دعيني ارى ماذا اصابك ....... )
و حين ظلت على بكائها .. اخذ يضرب الباب المتهالك بكتفه مجرد ضربتين ... فتهالك القفل الصدىء ليفتح و يندفع للداخل بقوة ...
لكنه تسمر حين وجدها على حالها جالسة أرضا تبكي بقوةٍ و هي تدفن رأسها بين ركبتيها اللتين رفتهما الى صدرها و هي تحمي نفسها من ألمٍ يفترسها ببطىء
فاندفع اليها وهو يجثو بجوارها ليبعد وجهها عن ركبتيها بالقوة و هو يصرخ
( ايتها الغبية ........ توقفي عن تلك الهيستيريا و اريني وجهك ..... )
اخذ يتفحص وجهها المحمر اثر البكاء و الذي لم يناله السائل السخن .... الا ان بخارا كان لا يزال يتصاعد خفيفا من ثوبها المبتل .... فرفع ذراعيها ليخلع عنها ثوبها بالقوة رغم ممانعتها ....
و حين رأى الإحمرار ينتشر على جسدها في بقعٍ قاتمة منتشرة على خصرها و بطنها .... شتم عاليا ...
فانقبضت و هي ترتجف مبتعدة عنه.... الا أنه في الواقع كان يشتم نفسه وهو يشعر بغضبٍ حاد يفترسه من كونه أصبح السبب في جعلها ضحية تستحق عطفه .....
حملها بين ذراعيه بقوة ... وأوقفها في المغطس ليفتح الماء البارد على جسدها المحترق ... لكنها لم تشعر بحرارة الحروق ... و لا برودة الماء ... كل ما كانت تشعر به هو قهر قلبها الذي لم عتد مثله من قبل ...
كانت تعتقد انها امرأة بسيطة ... تقبل بالموجود ...
و حين تقدم لها الرجل الوحيد نظرا لظروفها الصعبة و عدم قدرتها ماديا على تجهيز نفسها كأي عروس قبلت به مباشرة .... على الرغم من كونه متزوج .....
لكنها لاقت بنفسها قبولا فوريا ما ان نظرت اليه ...... و مع مرور الأيام بينهما نبع بداخلها احساس لم تظن ان مثيلاتها قادراتٍ على الشعور بمثله ....... الحب ..
لقد عشقت زوجها بكل جوارحها ..... حتى انها تكاد تعشق المرأة التي يحبها كل هذا الحب , و تتسائل عن سبب سحرها .....
أغمضت عينيها و شهقت بالبكاء أكثر بينما هزها هو صارخا
( توقفي عن البكاء ..... لم يحدث لكِ سوءا .... )
و كان هذا كفيلا بأن يزيد من شهقاتها أكثر و أكثر ... حينها توقف محمد مكانه و هو ينظر اليها على تلك الحال .... تبكي بعنف أثار رجفة بداخله رغما عنه ...
تلك العينين المختلفتين عن عيني كرمة .... تمردتا على سكونهما المقيت و انفجرتا بفيضانٍ أقوى من آلام الإحتراق ... ما أن سمعت صوته يهمس باسم طفلته ... حبيبته ... كرمة ....
عقد حاجبيه قليلا ... وهو يتحدى نفسه أن ينكر ذلك الشعور الذي شعر بها ما أن سمع صوتها الدافى ء ينساب الى أذنه مع اول أشعة الشروق .....
اتتجرأ الآن على أن تبكي لأنه سمع صوت كرمة ؟!! ..... فقط سمعه !!!
الا تدري النار التي تكويه كل ليلةٍ وهو يتخيل كرمته بين ذراعي رجل آخر ......
أفاق من شروده البائس على مرآى علياء و هي تلتقط منشفة كبيرة لتلف بها نفسها ... بعد أن هدأت تماما أثناء شروده الذي ظهر على وجه بوضوح .... فكأنما كان له مفعول السحر في ايقاف هستيريتها المفاجئة .....
همست أخيرا و كأنها عادت الى قوقعتها الهادئة
( أنا بخير الآن ....... آسفة لانني أثرت غضبك ... )
نظر اليها بذهول غاضب و هي تتخطاه على ارض الحمام الباردة .. حافية تقطر منها الماء كقطرات مطرٍ أغرقت فتاة تخلف حبيبها عن موعده ....
لحقها بسرعةٍ ما أن دخلت الى غرفة النوم .... فوقفت تنظر في أرجائها قليلا بصمت ,., ثم لم تلبث أن أغمضت عينيها بألم و كأن صورةٍ ما أثارت غثيانها .....
امسكت قبضته بذراعها يديرها اليه بقوةٍ .... فأخفضت رأسها بصمت و هي تتمسك بمنشتها بشكلٍ أثار حزنا ما في قلبه .... فعاد للغضب عليها مجددا بسبب دور الضحية ... الذي لا يجيد التعامل معه حين يعرف أنه صحيحا .... و ليس ادعاءا ....
نظر اليها بقساوةٍ قليلا قبل أن يقول بصرامة
( حين تزوجتك ..... كات لي شروط , وافقتِ عليها كلها ..... )
أومأت براسها دون أن ترد ..... و دون أن ترفع رأسها اليه .... فتابع بجفاء
( و كان أولا الا تتدخلي بحياتي الخاصة .......الا تملي اي فروض عليها .. اليس كذلك ؟ .....)
لم تهز رأسها موافقة هذه المرة .... و ظلت صامتة مطرقة برأسها عن عمد .... فاشتعل غضبه بجنون و هو يهدر في وجهها
( اليس كذلك !!!...... أجيبيني ...... )
قالت بصوتٍ باهت مرتجف قليلا دون أن ترفع رأسها ....
( و هل تعتبر الخيانة ضمن الأمور المحظور التعرض لها ؟!! ........)
لم تكمل الحرف الأخير الا و كانت يده قد صفعت وجنتها ....
ليس عنف الصفعة هو ما جعلها تغمض عينيها .... فقد كانت خفيفة لم تترك أثرا .... لكنها تركته واضحا على نفسها المكسورة ..... فصمتت و هي مغمضة العينين بملامح فاترة ....
بينما صرخ محمد هادرا في وجهها
( المرأة التي تتهم زوجها بالخيانة .... لا تستحق سوى الضرب .... )
لم ترد و لم تفتح عينيها .... فزفر بحنق و وهو يتراجع عنها خطوة , الا انها قالت أخيرا
( و مكالمتك لها ليلا و هي امرأة متزوجة ؟!! ....... ما اسمه ؟!! ...... )
عاد ليرفع يده عاليا وهو يصرخ بجنون
( اخرسي ............ )
فازداد انطباق عينيها و هي تنكمش على نفسها قليلا .... الا أن يده بقت معلقة في الهواء , غير قادرة على اتباع امره و النزول على وجهها ....
الى ان تركها تسقط لجانبه .... فقال بهدوء بعد فترة طويلة
( سماعي لصوتها خيانة ؟!! ...... و قبولك برجلٍ متزوج , ماذا كان ؟!! ..... الم يكن خيانة لأسرة و دمارا لها ؟ ...... تلك كانت وجهة نظرها بالمناسبة .... من تدعين انني اخونك معها .... هي ترى خيانتنا لها امرا واقعا .... و ليس مجرد سماعٍ لصوتها ..... )
تجرأت على فتح عينيها الهادئتين بلا تعبير سوى الدموع المنسابة منهما .... و قالت بخفوت
( الزواج ليس خيانة ..... انه شرع , و أنا لست مرفهة لدرجة التدلل في القبول او رفض رجل لأنه متزوج ..... الزواج نفسه كان رفاهية لي ...... )
صمت محمد فجأة و هو ينظر الى ألمها ربما للمرة الاولى .... و هي ترفع وجهها الشاحب الفاتر اليه ... تنساب عليه دموعها بصمت ... و هي منحنية الكتفين تتشبث بمنشفتها ....
الا انه قال بصوتٍ خافت مشدود
( اذن الزواج ليس خيانة ؟!! ....... و ذلك هو رأيي ..... فماذا لو تزوجت عليكِ اذن ؟.... )
شحبت ملامحها فجأة ..... اكثر و اكثر ... و فغرت شفتيها قليلا ... بينما ارتسمت الصدمة على محياها بأقسى صورها .....
فابتسم بقسوة .... وهو يقول بهدوء
( لماذا صدمت؟!! ...... قبلتِ بي متزوجا ؟!! ..... ما الفرق ؟!! ..... )
أسبلت جفنيها بألم و هي لا تجد ما تقوله .... و ساد الصمت المشحون بينهما , بينما زالت ابتسامة محمد القاسية وهو يراقب وجهها المحنى الشاحب ....
فقالت علياء بخفوت بعد فترة طويلة و كأن شيء لم يكن
( هل أستطيع المبيت عند جدتي عدة أيام لرعايتها ؟........ أرجوك .... )
قتمت ملامحه أكثر و أزدادت صلابتها .... فقال بصوتٍ قاسٍ
( هل تتحدين أوامري لإختبار صبري يا علياء ؟! ........... أنا لا أحب ايذائك .... )
رفعت عينيها فجأة .. و زال بعض من فتورهما و هي تهمس بألم
( حقا ؟؟ ......... الا تحب ايذائي حقا يا محمد ؟؟ ...... )
عقد حاجبيه بشدةٍ وهو يقول بغضب
( هل فعلت ما يجعلني ساديا في نظرك من قبل ؟!! ......... )
رمشت علياء بعينيها قليلا ... و هي تفكر بوجع
الا يعلم أن كل ما يفعله يؤلمها ؟!! .... يعذبها ... ببطىء و تلذذ .... لكن دون حتى ان يراها أو أن يهتم ....
ليته كان يتلذذ بألمها , على الأقل لشعرت أنه يراها ..... لكنه لا يشعر بوجودها اطلاقا ....
حين ساد صمتها .... شعر برغبةٍ بداخله تتحرك تجاهها ...
رغبة قوية في امتلاك استسلامها ..... هذا هو ما يحركه تجاهها بشدة ....
فهي تستلم له دون شروط .... تغمض عينيها و تهمس باسمه .... تتنهد بخفوت لم يعلو يوما ....
و كان استسلامها اليائس الصامت يثير جوعه لها .... على الرغم من البرود المحيط بحياتهما في المجمل ....
اقترب منها قليلا ... لينحني بوجهه اليها و يستنشق رائحة البخور على عنقها ... ليهمس بصوتٍ أجش
( هل تريدين الذهاب يا علياء ؟!!! ...... هل تريدين العودة لجدتك ؟!! ...... قولي .... )
أغمضت عينيها بيأس و هي تشعر بنفسها تستسلم له بقوةٍ من عمق قلبها المستسلم لحبه .....
فهزت رأسها نفيا بسرعة و هي تهمس
( لا ...... لا ...... لا أريد الابتعاد عنك ...... )
حينها هاجمها بقوةٍ وهو يحملها و يعتصرها على صدره .... ساحقا انفاسها ..متمتعا بكل ذرةٍ من استسلامها الصامت الراضي ... البعيد كل البعد عن جموح كرمة ...
مما يجعل من علياء مخدرا مؤقت لمشاعره المهتاجة باستمرار ...
محاولا بها ان ينسى صوت كرمته ... و هو ينهل من كل حنايا جسدها المنتظر دون شروط .....
.................................................. .................................................. .....................
رفع وجهه عنها ببطىء وهو يتنفس بوهجٍ دافىء على بشرتها الشفافة المرتجفة ....
رمشت بعينيها و هي تبلل شفتيها المشتاقتين ....
بينما عيناه الداكنتان بشدة .. تطالعان أقل حركةٍ منها و هو يتأرجح و هي على حجره .... كانت أرق و أجمل قبلاتٍ ذاقها بعمره كله ....
حلاوة رقتها أذابت مرار الماضي .... و بددت مخاوف المستقبل ...
كان هو أول من تمكن من الكلام ... وهو يؤرجحها برقة , فقال بخفوت
( هل هدأتِ الآن ؟!! ........ )
ارتبكت كفتاة خجولة سخيفة ... و أخفضت وجهها المرتسم بملامح عشقٍ مضطرب غير ثابت ....
فقالت بخفوت و هي تستكين على صدره ... كطفلةٍ تحتاج الحنان الذي حرمت منه طوال عمرها
( أتظن أن بضعة قبلات يمكنها أن تزيل غضبي !! ....... )
قال سيف وهو يؤرجحها ...
( لم أقل أنها أزالت غضبك ..... بل سألت إن كانت قد هدأتك ..... )
زمت وعد شفتيها بغضب و هي تتنفس بصوت مسموع قليلا .... فقال سيف بهدوء
( على ما يبدو أنها لم تفعل ..... واضح أنني فقدت أسلوبي .... كنت أكثر مهارة فيما سبق .... )
استقامت فجأة و عيناها تبرقان بشر لتنظر الى وجهه الثابت الملامح ... فقالت بلهجة غريبة
( هل كانت لك مهارة سابقا ؟!!! ........)
عقد حاجبيه بينما عيناه تلمعان بتسلية وهو يقول
( كم تعتقدين عمري ؟!! ............)
اتسعت عيناها أكثر و هي تقول بغيظ
( ما معنى ذلك ؟!! ....... هل كانت لك علاقاتٍ قبلي ؟!! ....)
رفع احدى حاجبيه و هو يقول بخبث
( أتعتبرين نفسك علاقة يا وعد ؟! ..... كم أنتِ مسكينة و محدودة العقل !!..... )
زمت شفتيها بغضب و هي ترى التسلية في عينيه واضحة دون أن يبتسم ... فقالت من بين أسنانها
( لا تراوغ يا سيف ...... هل كانت لك علاقاتٍ قلب زواجنا ؟!! .... )
الا أنه ظل على حالة اللوع وهو يقول باهتمام
( ماذا تظنين ؟!! ............ هل كانت لي ؟!! ....... )
تأففت وعد بصوتٍ عالي و هي تشيح بوجهها عنه تحاول الابتعاد ... الا أنه لم يسمح لها وهو يؤرجح الكرسي أكثر بينما ذراعه تلتف حلو خصرها كقيد حديدي يمنعها من الهرب ....
سكنت وعد مكانها بتمرد بعد أن باءت محاولاتها بالفشل ..... فقالت بخفوت غاضب
( أريد النهوض يا سيف .......... )
رد عليها بصلابة دون أن يحررها
( ليس قبل أن تجاوبي على سؤالك ........ )
زمت شفتيها بعنادٍ أكثر و هي تشعر بالندم على تطرقها الى هذه الأمور التي تجعل منها مجنونة .. تماما كالحال الذي تلبثها أثناء وجودهما عند المحامي مما جعلها تستحق منه صفعة لما نطقت به ....
أخفضت نظرها الى يده المرتاحة على فخذها و هي تتذكر صفعة تلك اليد لوجهها ....
كلما تذكرت الأمر حقدت عليه ....... ليس لأنه صفعها ... لكن لأنه تمكن من جعلها تفقد سيطرتها على نفسها و تنحدر الى المستوى الذي نطقت به ما نطقته .....
تشعر أحيانا لأنه يجرها الى فقدان السيطرة على النفس بطرقٍ لم تعرفها قبله .... و كأنه يحولها شيئا فشيء الى امرأة تافهة لم تكنها يوما ....
قالت وعد برفض
( لا رغبة لي في الرد ..... و لست مهتمة أصلا ..... فليكن لك ما يكون .... ففي النهاية ها أنت تترجاني أنا لأبقى معك ... و ليست أي مما كن مجرد محطات استراحة في حياتك ..... )
عقد حاجبيه قليلا .... دون أن تختلف ملامحه , لكن نظرة باردة ظللت عينيه وهو يقول
( أنتِ مغرورة أكثر مما يسمح لك به وضعك ...... أتعلمين ذلك ؟!! ...... )
نظرت اليه بطرف عينيها لتقول بفتور
( لأننى ذكرت الواقع ؟!! ........ انها الحقيقة يا سيف , انت تترجاني لأبقى ..... و الترجي لا يكون فقط بالبكاء و التلوي ارضا ..... بل أحيانا يكون بالغباء و التعنت ... و الخطف مثلا .... كل ذلك يخبرني أنك تصبح رجلا غير متزنا في وجودي ...... )
الآن ارتفع حاجبيه بدهشة حقيقية وهو يتأمل وجهها الأبيّ .... ثم لم يلبث أن ضحك ذهولا ضحكة قصيرة وهو يهز رأسه استسلاما قائلا
( أحيانا ابقى مع نفسي لأتسائل بحيرةٍ حقيقية عن السبب الذي جعلني أحبك !! ..... )
أظلمت عيناها و هي تنظر اليه بتصلب ... الا أنه لم يعبأ بنظرتهما القاسية .... بل تابع بهدوء يتأملها شاردا ...
( أنتِ قاسية كالجليد .. باردة مثله ...مصلحتك قبل أي شيء آخر ... لا تأبهين بمن تحبين .... و لا بمن يحبك .... تعتبرين الحب ضعفا يجذبك للخلف .. تحاولين الإنتقام لكل ما حدث لكِ سابقا دون أن تدرين .... )
صمت قليلا دون أن يهتم بملامح الغضب الشرس الظاهرة على وجهها ... لتسرح عيناه على ذلك الوجه ... شعرها ... عنقها ..... جسدها .... ليتابع بصوتٍ أكثر خفوتا قليلا
( نحيفة للغاية ...... دون وجنتين تقريبا ....... بشرتك شديدة البياض , لا تقبل الإسمرار .... مجرد بعض التورد بمعجزةٍ ما حين يحدث و تخجلين في ظروفٍ نادرة ..... )
ارتفع حاجباها و هي تهتف بغيظ
( توقف عن إهانتى يا سيف .... لا يحق لك ..... ثم أنني لست دون وجنتين !!! ..... )
عاد حاجبيه ليرتفعان وهو يفيق من شروده بها ليقول بحيرة
( هل هذه هي الإهانة الوحيدة التي آلمتكِ ؟!! ...... الم يوجعك ما سبقها ؟!! ...... )
شدت على شفتيها و هي ترفض أن يتسلى على حسابها لتقول بغيظ
على الرغم من الألم القوى الذي طعنها حين بينها كإنسانة لا تهتم سوى بمصلحتها ... و غير مهتمة بمن يهتمون لأمرها ......
( توقف يا سيف ........ لن أسمح لك أكثر .... )
الا أنه تابع متأملا بهدوء الى أن استقرت عيناه أخيرا على عينيها
( و عيناكِ !! .......... )
التمعت عيناها بأكثر قسوةٍ و هي تضع يدها في خصرها غير قادرة على ادعاء البرود هذه المرة و هي تقول بشر
( ما بالهما عيناي أيضا ؟!! ..... الا ينالان اعجاب جنابك ؟!!! ...... )
لا تزال تتذكر لقب " عيني الجثة " .....
الذي كان الأطفال يلقبونها به في الدار ....
لكن سيف ... هو الوحيد الذي شعرت معه أن عينيها تضمان أسرارا .... أسرار يعرفها ,و تجهلها هي ....
ستتألم حقا لو ذكر عينيها بسوء الآن .....
أخذ سيف وقته في التفكير وهو ينظر الى عمق عينيها طويلا الى أن ارتبكت و أسبلت جفنيها رغم عنها ... فقال بخفوت
( لا ...... الا عينيكِ , .....إنهما حبيبتاي ..... سمائي الممطرة .... الشاحبة بعد المطر .... الداكنة وقت العواصف .... المظلمة في ليلها .....والعميقة في العواطف حين أضمك بين ذراعيّ.. .. )
ارتفع حاجباها استخفافا و هي تلوي شفتيها بسخريةٍ كاذبة ..... بينما قلبها كان يخفق بجنون كاد أن يصم أذنيها ....
الا أنها لم تستطع نفسها من بلع غصةٍ بحلقها حركت عضلات حلقها بصعوبة ....
قال سيف متابعا بصوت هادىء
( كما أن أحدهما تغمز وحدها كلما شردتِ .... مما يربكني فأنسى ما كنت أقوله ..... هل هذا مرض أم أنه عيب في عضلة الجفن ؟!! ........ أيا كان ... فهو خلاااااااب )
زفرت وعد ببطىء و تذمر .....
بينما تابع سيف وهو يمد يده ليتخلل خصلاتِ شعرها بقوةٍ مرجعا وجهها للخلف قليلا ... حتى نظرت اليه بصمت ...
( لا ...... الا عينيكِ وعد........... احجبيهما عني لو أردتِ الفرار حقا ... و ابطلي فنون سحرهما .... )
عادت وعد لتبتلع رقيها بصعوبةٍ أشد .... حتى بدا اختناقا .... ثم قالت بخفوت ما أن وجدت صوتها
( أنت شاعر اليوم ....... هل هي حالة مراهقة متأخرة ؟!! ..... )
لم يرد عليها و لم ينفجر بها ..... فتسائلت أين مجنون الأمس الذي كاد أن يتحول الى مجرم على يديها ....
ثم جاوب أخيرا بمنتهى الهدوء وهو يداعب شعرها و يمشطه بأصابعه
( بل هي حالة حيرة و تساؤل ..... عن ذلك الحب الذي يربطني بعاهة ..... )
اتسعت عينيها و هي تهتف بغضب حقيقي
( توقف يا سيف ........... )
الا أن سيف تابع بهدوء أكبر دون أن يهتم لغضبها
( لكن لو أردتِ انصافا ..... فما قلته لكِ الآن , لم أقله لكل من عرفتهن من قبلك .... أنتِ الوحيدة التي يمكنني أن أكون معها شاعرا ..... و أي شيء آخر اريد أن أكونه ..... راضية ؟!! ......)
عقدت حاجبيها و لمعت عينيها و هي تتنفس بسرعة و صعوبة لتعاود السؤال مجددا قبل أن تتمكن من منع نفسها نابذة الغرور الذي تملكها للحظات
( هل كانت لك علاقاتٍ قبلي ؟!! .......... )
رفع حاجبيه وهو يقول ببراءة
( هذا ما لا تعرفينه أبدا يا وعد ..... و إن كانت بعض الأسئلة غاية في الغباء حين تبدو أجوبتها غاية في الوضوح ..... )
ابتلعت ريقها بألم ..... و شعرت و كأنه ركلها في معدتها ....
صورته مع أمرأة أخرى بين أحضانه وهما ....... كانت من أشد الصور ألما لها ....
الا أنها رفضت أن تظهر له ذلك فقالت بخفوت لم يخفي نبرة الألم تماما ...
( أنا أريد أن أهاتف ملك من فضلك ..... هل يمكنني ذلك أم أنه من قائمة الممنوعات ؟! .... )
ظل يتأملها طويلا بصمت ..... دون أن يتخلى عن تمشيط شعرها بخصلاته الطويلة
ثم قال بهدوء
( ليس قبل أن تخبريني ..... الازلتِ غاضبة من وجودها لدى أمي ؟؟ ........ )
اشاحت وعد بوجهها .... لكن ليس قبل ان يرى القسوة ممتزجة بالالم وقد ارتسمت على ملامحها ....
ظلت صامتة قليلا .... بينما يده كانت تستشعر ارتفاع و انخفاض أضلعها بغضب ....
ثم قالت أخيرا بصوتٍ قاس النبرة رغم خفوته
( لقد رفضتني والدتك مرتين ....... مرة حين تركتني في الدار أنا و ملك ... و هذه لا أستطيع أن ألومها عليها .... فأكاد أن أقسم أنني لو كنت مكانها لتصرفت بالمثل .... و المرة الثانية حين رفضت زواجك بي و كأنني وباء حل على بيتكم الغالي ......
قبل سفري ... اعتقدت انني تصافيت معها .... و تصالحت مع هذا الماضي ....
لكن ما أن عرفت بأنها سعيدة بوجود ملك عندها ., حتى عاد الى الغضب في فورة سماع الخبر ...
الآن أصبحت ملك محبوبة و تحتاج لرعاية ؟!! .....
ليتها أخذتها من الدار و تركتني .... فأنا كنت سأخرج مع والدي في كل الأحوال ....
أما ملك .......... )
صمت وعد و هي ترفع وجهها لأعلى قليلا ... و راقب سيف بحاجبين منعقدين بوجع ... عنقها الطويل الممتد أمامه وهو يتشنج لتبتلع غصة مسننة .....
تنهدت بتعب و هي تقول بخفوت
( لقد بقيت ملك ...... و حتى الآن لا أعلم أي أهوال رأتها بدوني ..... بعد أن تركتها بكل حقارة .... )
ابتسم سيف قليلا بألم قوي .... منذ قليلا كان غضبها حادا لأن أسرته لم تتقبلها و تقبلت ملك .... أما الآن , فتكاد أن تذوي أمامه بسبب عقدتها القديمة في تركها لملك وحدها ...
على الرغم من أنها لم تكن سوى مجرد طفلة ! ........
لم يستطع الرد لعدة لحظات .... غادره القول و لم يجد سوى أن يتأملها طويلا ....
و بعد فترة ..... مد يده ليتناول كفها .... ففردها مفتوحة فوق كفه .....
أخفضت وعد وجهها لتنظر الى يدها المفتوحة على كفه بصمت ......
ثم رفع سيف اصبع يده الأخرى و أخذ يمرره على راحتها ... و كأنه يقرأ لها الكف وهو يتكلم بخفوت شارحا مسألة رياضية معقدة بإصبعه
( اذن دعينا نرى ......أنا أحبك لسبب غير معلوم حتى الآن .... و أنتِ تحبينني بمعجزةٍ فتت بعضا من جليد قلبك .... لكن .... و ضعي خط تحت " لكن " .... والدك دمر بيتنا ..... ووالدتي آذتك أنت و ملك ..... و أنا جرحتك بكل صورةٍ ممكنة ... و أنتِ رددتِ لي الجرح مرة بعد مرة بأكثر الصورة ايلامٍ لرجولة زوج ...... بعد أن نلتِ من والدتي من قبل في ضربةٍ قاضية ........ )
صمت قليلا وهو ينظر الى راحتها المفرودة بتفكير ... و كأنه يدرس المعضلة التي خطها بإصبعه ...
ثم قال بخفوت مفكرا
( أممممممممم .... معك حق , انها مشكلة معقدة فعلا .... و لا أرى منها أي مخرج ..... )
قالت وعد بخفوت حزين
( نعم .............. )
قال سيف وهو يقرأ كفها بتمعن أكبر ....
( أراها مقفلة كلعبة "دومينو " .................. )
قالت وعد بجفاء
( لقد نسيت عملي ..... أنت ترفض القبول بمتطلباته ....... )
رفع حاجبيه وهو يومىء برأسه متفهما ليقول بوداعة
( عفوا ..... سهو كبير مني , .... اذن لو أضفنا للمسألة عملك المبجل .... بما أنك أصبحتِ سيدة أعمال تنحني لها الهامات و على رأسها نظارة شمسية طراز*** بسعر ...... )
قاطعته وعد بغضب
( لا تهزأ بي ............. )
فقال سيف بهدوء
( عفوا مجددا ....... سامحيني ..... أنا أحاول فقط دراسة الأمر بمنظور يحتوى على نظارتك الغالية ... و التي تفوق ثمن نظارة البصر .... التي اشتريتها بمالي ...... )
قالت من بين أسنانها
( لم تكن بمالك ...... لقد استحققتها بعملي ..... تماما كالحذاء ...... )
رفع سيف وجهه ليقول بهدوء
( صحيح ....... أين هما الآن ؟!! ...... النظارة و الحذاء ......... )
ردت بجفاء ممتعض
( الحذاء في البيت ...... و النظارة معي , كانت في جيب بنطالي الجينز حين خطفتني بكل عاطفية .... )
رفع سيف وجهه لينظر الى عينيها العاصفتين
أصدر سيف آة متفهمة ... ليقول بهدوء بعدها
( اذن ..... هلا ساعدتني في ايجاد حل لتلك المعضلة ؟!! ...... أم أن كل وظيفتك تقتصر على التأرجح ؟!! .... )
حاولت النهوض الا أنه ترك يدها ليتمسك بخصرها كي لا تنهض ... فقالت بجمود
( لا حلول عندي ...... و هذا ما أخبرتك به .... الأمر أصعب من قدراتنا ..... )
قال سيف ببساطة
( تكلمي عن نفسك رجاءا ...... فأنتِ لا تعرفين كل قدراتي بعد .... )
نظرت اليه بارتياب .... فالتوى فمه بابتسامة عابثة وهو يقول رافعا احدى حاجبيه
( حسنا ...... عرفتِ أهمها ......... )
احمر وجهها قليلا بينما مطت شفتيها بإمتعاض لتقول ببرود
( حس الفكاهة لديك منعدم ....... من فضلك لا تحاول مجددا ..... أنا صاحبة مرض ,اشفق على حالي و اعفني من فكاهاتك ...... )
قال سيف ببساطة
( عاهة ........ أجزم أنكِ عاهة ..... )
حينها فقزت من على ركبتيه و هي تستغل أنه أرخى ذراعيه عنها ..... ثم تراجعت عدة خطوات ناظرة اليه بجموح و هي تنفض شعرها بغضب ...
بينما لم يتحرك هو من مكانه .... وهو جالسا في كرسيه يتأمل جمالها الصباحي الشاحب .... و هي تبدو ككتلة فوضوية من العنفوان و الجمال ....
لم يلحظ أن توقف أن أرجحة الكرسي وهو ينظر اليها متأملا تلك اللوحة الخلابة ....
حينها ذاب القليل من غضبها و هي تخضع لتأمله الصامت ..... فأطرقت بوجهها قليلا ....
و هي تستدير بارتباك ..... ترجع شعرها خلف أذنها برقة ... تتحرك أمامه كراقصات البالية على الأرض العارية ....
تعلم أنه يحاوطها بعينيه الغير مبتسمتين ..... المحاصرتين و المفترستين .....
ارتبكت و تعثرت في طرف البساط ... فاحمر وجهها ... لكنها اتجهت الى صندوق الماكينة ...بجانب الرواق
فانحنت تجثو بجانبه و هي تتفحص نوعها و امكانياتها .... ثم لم تلبث ان قالت بخفوت دون ان ترفع وجهها لسيف
( انها غالية الثمن ..... و نوعها ممتاز ......... )
ساد صمت طويل ثم قال سيف بخفوت و دون تعبير
( جيد ......... أتمنى ان تكوني قد سعدتِ بها )
فغرت شفتيها قليلا ثم قالت بهدوء
( الخياطة تحتاج لاشياء كثيرة ..... ماذا يمكنني ان افعل بماكينة خياطة وحدها في هذا المكان المهجور دون أدوات ؟!....... )
قال سيف بهدوء وهو لا يزال في مقعده دون ان يتحرك
( انظري بجانب الصندوق ....... اعتقد ان هناك حقيبة بلاستيكية موجودة .... )
عقدت حاجبيها و هي تنظر بجانب الصندوق و بالفعل وجدت حقيبة .... بها عدة أمتر من حرير مطوى بعناية ... أحدهم لونه ذهبي شاحب .... و الآخر رمادي متدرج .....
ثم وجدت بكرات خيط عديدة و مقص و أقلام .... بخلاف ورق الخياطة الشفاف .....
ارتفع حاجبي وعد بذهول و هي تنظر الى كل تلك الأشياء و التي لم تأخذ حيزا يذكر من المكان و مع ذلك كانت كاملة ..... فغرت شفتيها و هي تنظر اليها
بينما قال سيف من خلفها دون ان تدرك بأنه قد قام من كرسيه و أصبح واقفا من ورائها يشرف عليها
( هل ينقصك شيئا آخر ؟؟ ........... )
انتفضت وعد و هي ترفع وجهها اليه ..... فرأت ملامحه الجامدة و التي تظللها لمحة حزن !! ... أم أنها تخدع نفسها !! ....
قالت وعد بخفوت
( كيف استطعت ان تحضر كل هذا ؟؟!!! .......... )
رد سيف ببساطة وهو يهز كتفيه واضعا يديه في جيبي بنطاله
( بالهاتف ............. )
تنفست وعد نفسا مرتجفا .... و هي تنظر الى أشيائها الخاصة .... ثم قالت بشرود
( القماش جميل ........ هل اخترته بنفسك ؟؟! ....... )
لم يرد سيف على الفور ... فعادت لترفع عينيها اليه ... حينها قال بخفوت أجش
( اخترت القماش الرمادي ...... بلغت أحدهم بأنني أريد رماديا متدرجا .... من الشاحب و حتى العاصف ... حتى بالداكن العميق ....... )
كان صوته هو العميق بدرجة أثارت الرجفة في جسدها .....
فاتسعت عيناها أكثر ... حتى بدتا تامتي الاستدارة ....
فأخذ سيف وقته يسبح بلونهما القمري ..... قبل أن يتنحنح ليقول بخشونة
( سأذهب لأتفقد المكان خارجا ....... الهاتف بجوار سريري , ان احببت الاطمئنان على ملك .... و )
صمت قليلا وهو ينظر الي الاشياء في يدها و هي جاثية ارضا
( و العبي بهداياك الجديدة .... كي تشغلي وقتك حتى موعد الزيارة .... )
وقبل ان تستسلم لغضبها من عبارة " العبي بهداياكِ " .......
الجمتها الصدمة و هي تتذكر .... فقفزت على قدميها و هي تتشبث بذراعه لتقول محركة رأسها نفيا بقوة
( لاااااا لا لا لاااااااا ...... لن أذهب لزيارة هذا الثنائي العجيب مجددا ..... انسى الأمر يا سيف أو اذهب بمفردك ..... )
تصلبت ملامحه وهو يقول بلهجة خشنة
( فلتتحلي باكتساب بعضا من كرات الدم الحمراء .... لقد ساعداك في غبائك بعد ان تركت المفتاح في البيت ... و اكرماكِ حتى نمتِ على اريكتهما كطفل رضيع ...... الا تخجلين من نفسك !! )
ثم نظر اليها بقرف بينما اتسعت عيناها ذهولا .... وهي تراه يخرج و يتركها مكانها !!! .......
رفعت احدى حاجبيها و هي تتخيل ذلك الثنائي المريب ... فانتفض جسدها بقشعريرة و هي تشعر بروحيهما موجودة في المكان ...
تأففت وعد بحنق .... و هي تنظر حولها واضعة يديها في خصرها ....
ثم لم تلبث نظراتها أن توقفت على الحقيبة ذات الأقمشة و الأدوات ..... و رغما عنها شعرت بالإثارة تدب بداخلها طلبا للهرب في هوايتها القديمة ....
برقت عيناها قليلا و هي تنظر الى الحرير الرمادي المتدرج .... انه يشبه قماشا خاطت منه فستانا ورديا متدرجا لكرمة .... ترى هل ارتدته ؟!! .... و ما هو مصيره الآن ؟!! ....
شعرت برغبةٍ كبرى في أن تنال واحدا مثله .....
و خلال لحظات ..... كانت قد فرشت القماش على الطاولة و هي تثبت عليه الورق الشفاف الذي يحتوى على خريطته .... لم يستغرق رسمها سوى بضعة دقائق .....
و بينما كانت تستعد للقص .... وضعت سماعة الهاتف في أذنها و هي تطلب رقم ملك .....
لكن الرنين تواصل دون أن تجيب .... فعقدت حاجبيها و هي تتسائل ان كانت ملك قد فقدت هاتفها !! .... في لم تكلمها منذ فترة ! ....
حينها اضطرت وعد الى الإتصال ببيت سيف على مضض ....
استمر الرنين عدة لحظات قبل أن تسمع صوت عمتها ..... فتصلب جسدها تلقائيا و هي تستقيم عن الطاولة ...
ثم ردت ببرود
( صباح الخير يا عمتى ....... أنا وعد ..... )
ساد صمت مشحون بينهما قبل أن تجيبها منيرة بتردد
(آآه ... أهلا يا وعد .... صباح الخير..... كيف حالكما أنتِ و سيف ؟ ..... الن تعودا ؟!! .... )
زمت وعد شفتيها بغضب قبل أن تقول بلهجة حادة قليلا
( هذا يعود لمزاج ابنك يا عمتي ..... فهو يحتجزني رغما عني ..... )
سمعت صوت نفس منيرة المرتبك .... و شعرت بتوترها بوضوح , فقالت بصلابة
( هل يمكنني أن أكلم ملك من فضلك ؟؟ ........ )
ردت منيرة بخفوت
( انها نائمة يا وعد ...... انها قلقة لتغيير المكان , تستيقظ طوال الليل ... لذلك تذهب في سباتٍ عميق أثناء النهار ...... هل تريدين أن أوقظها ؟؟ ...... )
زمت وعد شفتيها و هي تقول من بين أسنانها
( لا يا عمتى شكرا لك ..... اتركيها نائمة , و شكرا لعنايتك بها ..... شيئا كنا نفتقده أنا و هي منذ سنوات طويلة .... رائع أن " نشعر " به أخيرا .... أراكِ لاحقا لو أراد ابنك ...... )
ثم أغلقت الهاتف و هي تسمع صوت شهقة منيرة .... قبل أن ترد عليها مصدومة بكلمة سلام !! ...
استندت وعد بكفيها الى حافة الطاولة و هي تتنفس بسرعة ....
ما قلة الذوق تلك ؟!!! ..... لماذا لا تستطيع السيطرة على نفسها و لسانها ؟!!! .... تبا لتربيتها ؟!!
لكن لماذا تلوم نفسها ؟ .... فهي بالفعل قليلة التربية ان لم تكون عديمتها .... لماذا تهتم ؟!!
هل وجد من يربيها و اعترضت ؟!!! ......
زفرت بقوة و هي تبعد شعرها عن وجهها بغضب مفكرة
" لا يا وعد ..... لطالما كنت تتفاخرين بتهذيبك ... و أنكِ أنتِ من اكتسبته بنفسك .... لماذا الآن في حضور سيف و أسرته .... دائما تبدين كالشوكة الحادة !!! ...... "
شعرت بتأنيب ضمير رهيب .... و فكرت أن تتصل مجددا لتعتذر لها .... لكنها عادت و امتنعت ....
فأطرقت بوجهها بندم ..... لا تريد أن تكون بتلك القسوة .... لماذا لا تستطيع أن تكون مثل ملك ....
ملك الجميلة .... ظروفها متشابهة بل أقسى .... و مع ذلك متسامحة , حالمة , بريئة .....
رفعت وجهها و هي تزفر بقوة ...... ثم تنهدت و هي تهمس
( ما كل هذا الضغط يا ربي !! ..... أشعر و كأن قوتان متناقضتان تجذبانني الى طريقين متعاكسين ....... أحدهما يشبهني و الآخر لا ...... أحدهما به آدميتي ... و الآخر انسانيتي ..... )
أغمضت عينيها و هي تأخذ نفسا عميقا ....ليتردد في أذنها صوت سيف وهو يحل خارطة حياتهما على راحة يدها !!! .... فابتسمت رغما عنها ..... على مضضٍ منها ....
زفرت مجددا و هي تطلب رقم كرمة .... التي سرعان ما ردت عليها بلهفة
( وعد ...... كيف حالك ؟ ..... و كيف حال زواجك ؟ ..... هل اصطلحتما ؟...... هل انتى في المفنى ؟؟ بدأت أشك أن زوجك غريب الأطوار )
مطت وعد شفتيها و هي تبدأ في قص القماش قائلة بهدوء
( هل بدأ الشك عندك الآن فقط !!!! ........ اليس من العائلة الكريمة ! .... لابد أن يكون غريب الأطوار ....)
صمتت قليلا ثم قالت بخفوت
( اشتقت اليك يا كرمة .........)
تأوهت كرمة و هي تقول بحزن
( و أنا أيضا ..... جدا , لو تعلمين كم أحتاجك !! ......)
عقدت وعد حاجبيها و هي تقول بشك
( لماذا ؟!! ...... لا تخبريني أن زوجك الثاني ثبت أنه من نفس العينة !!! .... )
قالت كرمة بقوة و تنبيه
( وعد ....... انتقي ألفاظك قليلا من فضلك ......)
عادت وعد لتط شفتيها و هي تهز رأسها يأسا من كرمة التي تحمل جزءا من سذاجة ملك ...
ثم قالت بهدوء
( اذن ما هي مشكلتك ؟!! ...... ربما حللتها لكِ ..... بما أنني ناجحة جدا في حياتي اللهم لا حسد .... )
صمتت كرمة قليلا ... ثم لم تلبث أن قالت بصوتٍ فاتر
( متى ستعودين ؟!! .......... )
قالت وعد من بين أسنانها
( هل تعتقدين أنني لو كنت أملك أدنى فكرة .... لبقيت هنا معك على الهاتف بينما العرض لم يتبقى له سوى ثلاث أيام !! ...... )
ردت كرمة بهدوء
( اطمئني يا وعد ..... كل شيء جاهز ,.... يعمل معنا حاليا عددا كبيرا من العاملات ... و صديقك عليّ ... و السيد يوسف ..... و أنا أشرف بنفسي على كل شيء .... و انضمت لي فريدة .... )
كانت ملامح وعد تتعاقب من الابتسامة ما أن سمعت اسم علي ,..... ثم التوجس ما أن سمعت اسم يوسف الذي كاد أن يروح ضحية جنون سيف .... ثم الإرتياب و هي تسمع اسم فريدة !!
رفعت وعد وجهها لتقول بحيرة
( من هي تلك فريدة ؟!! ........... )
ردت كرمة بود
( انها قريبة حاتم ..... تعرفت عليها حديثا , باتت ترافقني لكل مكان .... انها شعلة اناقة و طاقة ... كما أنها خدومة جدا ..... و راقية لأبعد الحدود .... أما طفلتها ... لديها طفلة يا وعد سبحن الله ...جمالها يخطف القلوب .... )
لم تسمع وعد معظم الحوار و هي تتوقف عن القص لتستقيم بوجه واجم ... لتقول ما أن انتهت كرمة بصوت غريب
( هل أصبح لديكِ صديقة جديدة ؟!! ........ )
ضحكت كرمة قليلا و هي تقول باستهزاء
( هل تغارين علي يا وعد ؟!! ........ اطمئني , قلبي يتسع لإثنتين )
لم تنفي كرمة صداقتها لتلك الفريدة من نوعها ..... فوجمت ملامح وعد أكثر , ثم قالت بفتور
( قريبة زوجك .... لابد و انها تناسب مستواك الجديد اكثر مني ..... )
ساد صمت متوتر قبل ان تقول كرمة بخفوت
( ماذا بكِ يا وعد ؟!! ...... لماذا تتكلمين بهذا الشكل ؟ ..... انسيت انكِ اصبحت تمتلكين عملك الخاص و على اولى درجات النجاح !! ..... )
قالت وعد بجمود
( لكنني سأظل دائما صديقة الدار ..... و هذا أمر تودين نسيانه ,أو حذفه ربما .... )
صمتت قليلا ثم لم تلبث أن هتفت بتحدي طفولي
( و بالمناسبة ..... أنا أيضا أصبحت أمتلك صديقة جديدة .... جارتي و تسكن في البيت المجاور لي ..... علاقتنا أصبحت قوية جدا .... لذا لا تأبهي ..... )
قالت كرمة بشك
( لديك صديقة ؟!!! ....... حقا !!! ...... )
ردت وعد بتهور
( نعم ....... انها أكثر من رائعة و متزنة و راقية ....... )
ثم أغمضت عينيها و هي تهمس لنفسها بغيظ " سامحني يا رب على تلك الكذبة .... "
قالت كرمة بهدوء و ثقة
( ما اسمها تلك الصديقة ؟ ............... )
عقدت وعد حاجبيها و هي تعصر تفكيرها لتتذكر اسم تلك الجارة غريبة الأطوار ... فلم تفلح ... فقالت مندفعة
( طفلتها رائعة ..... اسمها نوارة ....... )
عاد الصمت مجددا ثم لم تلبث كرمة أن ضحكت بخفوت .... ثم قالت بعدها بهدوء
( أنتِ لستِ في حالتك الطبيعية أبدا يا وعد ....... و الا لما اتهمتني بهذا الإتهام ....)
زفرت وعد بقوة ... و هي تخفض رأسها
لماذا تبدو كل جملة منها قاتلة .... بينما سمعت من سيف و أمه و شقيقتيه ... ووالدها أكثر بكثير .... و لم يتهمهم أحد بشيء ....
حين ظلت صامتة ... ردت كرمة بخفوت
( أتتذكرين ذلك الوعد الغير معلن الذي اتخذناه ما أن كبرنا قليلا ؟؟..... الا نتعمق كثيرا في أسرارنا على الرغم من أخوتنا ...... و حين تجاوزنا هذا الوعد ذات يوم كدنا أن نخسر تلك الصداقة الطويلة ....لأن كل منا تحمل نفسا متعبة .... مشرحة .... لا تملك نصحا للأخرى . )
وقفت وعد مكانها تستمع في صمت ..... الى أن قالت بخفوت
( نعم ...... أتذكر ذلك الوعد الغير معلن ....... )
قالت كرمة بعدها بهدوء
( أتمنى لو نكسره الآن ....... لأنني بالفعل في حاجة لكِ ...... فريدة الجميلة واضحة النفس و المشاعر ,لن تستطيع فهم ما مررنا به ..... )
رفعت وعد يدها الى جبهتها بصمت .... بينما قالت كرمة بصوت مرتجف
( حياتي كلها تسير على وتر مشدود ..... اخاف على الرضا الذي اعيشه حاليا و الذي يطال مرتبة السعادة شيئا فشيء ....... )
ابتلعت وعد غصة مسننة و هي تبلل شفتيها ثم همست بيأس
( أنا آسفة يا كرمة ...... أنا آسفة ..... لا أعلم ما بي , حتى عمتي لم تسلم مني و نالها من لساني نصيب لا بأس به ..... انهم يستحوذون على ملك أيضا .... و ذلك أشعرني بالإختناق ....
لقد ظننت أنني ما أن أبدأ في تحقيق حلمي حتى أبدأ في لم شملي مع ملك ..... و الإتمام بعلاقتنا و السماع عن حياتها ...... لكنهم يستحوذون عليها .... و ها أنت تستحوذ عليك صديقة جديدة .... اين حياتي اذن !! ... )
قالت كرمة بهدوء
( هل تبحثين عن عذر للبقاء مع سيف يا وعد ؟!! ...... لست بحاجة للبحث .... يمكنك البقاء ..... لا تبرري لنفسك أكثر ....... )
مدت وعد يدها تتلمس القماش الحريري بصمت ..... ثم لم تلبث ان قالت بخفوت
( على ما يبدو يا كرمة انني لن اتمكن من حضور العرض ...... اهتمي انتِ به كأنه عملك الخاص .. ملك لن تستطيع وحدها ...... )
ردت كرمة بخفوت
( لا تقلقي ........ اخبرتك ان كل شيء جاهز , و مع ذلك أنا واثقة أن سيف لن يمنعك عنه .... لن يفعل ذلك بكِ ..... أنا متأكدة ...... )
ردت وعد بخفوت شارد
( و أنا أيضا أريد أن أتأكد ......... ربما حينها سأتمكن من أخذ القرار دون ندم .... )
.................................................. .................................................. ......................
في الخامسة مساءا ....
وقف سيف بجوار وعد أمام باب بيت جاريهما ......
كانت وعد تلهث غضبا و غيظا بينما ملامح وجهه متصلبة و هو يحمل قالب حلوى ضخم ... لا تعلم من اين ابتاعه اساسا .....
دفعها قليلا في كتفها وهو يقول بصرامة
( ابتسمي و فكي فمك قليلا بالله عليكِ ...... لا نريد فضائح ... )
لكزته في معدته بمرفقها و هي تقول بحنق
( لا تمد يدك علي ......... )
رفع قالب الحلوى قليلا وهو يمنعه من السقوط ... ثم قال من بين اسنانه
( والله لو وقع القالب لجعلتك تجثين و تلمين قطعه .... و تأكلينها )
نظرت اليه بطرف عينيها و هي تقول بنبرة شريرة
( كان يجب أن أعلم أن شاعرية الصباح سببها لفحة شمس ضربت رأسك ... ثم اختفت و عدت لطبعك )
نظر اليها بقساوة وهو يقول بغضب حقيقي
( من يمكنه أن يكون شاعري مع امرأة مثلك تعمدت استفزازي على مدى اربع ساعات كاملة بشتى الوسائل )
نعم لقد استفزته بأقصى قدراتها على السماجة .... على أمل أن يمل منها و لا يجبرها على الذهاب ...
لدرجة أنه في النهاية حملها على كتفه بالقوة ليدخلها للغرفة كي تبدل ملابسها و هي تتشبث بيديها في إطار الباب .....
الى أن أقسم صارخا إن لم تمتثل لأوامره فسيأخذها كما هي .....
قالت وعد بقسوة
( اسلوب همجي ........ أقسم أن أرد لك كل ما تفعله يا سيف ..... )
قال وهو يدفعها في كتفها بقوة
( اقفلي فمك .......... )
حاولت لكزه في معدته مجددا الا أن قبضة يده أمسكت بمرفقها بكل قوته ثم ضغط عليه حتى شهقت ألما وهو يقول من بين أسنانه
(هل أكسره ؟!! ...... حقا هل أكسره ؟!! .... لأنني استنفذت كل صبري اليوم .... )
فتح الباب فجأة على هذا المنظر ....
و جارهما يقف فاتحا ذراعيه وهو يقول مرحبا بقوة جهورية
( يا ألف أهلا .... يا ألف ...........!!!! )
صمت قليلا وهو يرفع حاجبا مرتابا .... ناظرا الي سيف الذي كان رافعا قالب حلوى بيده لأعلى كي لا يسقط و يبدو عليه الحنق جليا ... بينما يد الأخرى تمسك بمرفق زوجته .... و التي كان الشرر مرتسما بوضوح على وجهها ....
ليتابع بعدها بصوتٍ اكثر خفوتا
( أهلا و سهلا .......... )
جذبت وعد مرفقها من ذراع سيف و هي تعدل من قميصها لترسم ابتسامة متزنة غصبا , بينما اخفض سيف القالب وهو يهدىء من انفعاله .... ليصافح جاره ...
بينما نادى ذلك الجار بصوت جهوري مما جعل وعد تنتفض في مكانها
( حنييييييييييييييييييييييي يين .... لقد وصل جيراننا )
حنين ... تلك هي , فلتحاول ان تحفظه كي لا تنساه مجددا .....
جائت حنين من خلفه و هي تحمل الطفلة الصغيرة التي كانت تأكل من رمال الشاطىء ..... و قد بدت فوضى شعرها اللامع من الجمال بحيث شاركت عينيها الخضراوين فتنتهما ....
كانت حنين ترتدي فستانا اسبانيا ملون ... و قد جمعت شعرها في ذيل حصان طويل .. و ارتدت حلقا مبهرجا ... فبدت كتلة من الجاذبية و البهجة ... خاصة مع ابتسامتها المشرقة ...
الا انها ما ان وصلت حتى قالت بتذمر
( لماذا لا يزالان عند الباب يا جاسر ..... الن تتعلم اصول الضيافة ابدا ؟!! ... تفضلا ... )
ابتسم جاسر لسيف وهو يرفع حاجبه المتآمر و كأن ضبطهما بالجرم المشهود وهما يتشاجران امام باب البيت ...
دخلت وعد تتقدم الرجلين ببطىء و عيناها تطوفان سريعا في المكان ....
حيث كان هذا المكان يبدو مثل خارجه .... ملون و مشكل بأعمالٍ يدوية ... ما بين الأنوثة و الطفولية ...
كان بيتا دافئا يتحدى البرد .... مهما كان الصقيع خارجا ....
شعرت وعد بشيء يؤلمها فجأة .... دون ان تعرف له سببا ......
حين جلس اربعتهم ... حافظت وعد بعناد على مسافةٍ بينها و بين سيف الذي رمقها شزرا .... بينما قال جاسر ببساطة لزوجته التي كانت تحضر صينية اكواب العصير
(تعالي هنا يا زيتونة .......... )
جذبها اليه ليجلسها على ذراع مقعده .... و ذراعه تحيط بخصرها , بينما تمسكت حنين بكفه و هي تبتسم له بحب .... و كأن بينهما سر ما .....
قالت وعد من بين اسنانها لسيف
" زيتونة !!! ...... اقسم انني سأصاب بالغثيان من تلك الميوعة ..... "
همس سيف بقسوة
" كفى فضائح و مرري اليوم على خير ........ "
قال جاسر فجأة وهو يلاعب أصابع حنين
( اذن يا سيف ......... لقد تعارفنا طبعا , و اعرف عملك .... فهل تعمل زوجتك ؟؟ ..... )
تكلم سيف ووعد في وقتٍ واحد
فقالت وعد "نعم "... و قال سيف" لا"
نظرا الى بعضهما شزرا .... بينما ارتفع حاجبي جاسر و حنين و هما ينظران اليهما بتوجس
لكن وعد تطوعت و هي ترفع ذقنها لتقول بعلياء
( لدي معرض لتصميم و تفصيل الأزياء ........ )
صدرت عن سيف ضحكة خافتة ... و ما ان نظرت اليه حتى تظاهر بأنه يسعل ....
ثم لم يلبث ان قال بهدوء
( نعم ...... انها تساعدني في مصاريف البيت ..... )
ضحك جاسر عاليا وهو يضم خصر حني الى صدره ليقول بلا حياء
( اقسم انني احببت هذين الاثنين أكثر من زوجي اثيران أبني عمك يا زيتونة ....... )
برقت عينا حنين و هي تقول بقسوة
( توقف يا جاسر ...... لا تهينهما مجددا .... ثم الا ترى أن هذين المسكينين يعانيان من المشاكل ما يكفيهما كي يتحملا مزاحك الثقيل ....... )
امتقع وجه وعد من تلك الشفقة الصريحة دون مواراة ... فنظرت الى سيف غضبا ....
بينما قالت حنين متفادية احراج الموقف
( أنا أيضا أمتلك عملي الخاص .... لدي دار لحضانة الأطفال .....)
نظرت وعد حولها بقصد ... ثم قالت مازحة
( و أين هم الأطفال ؟!! ...... هل تخفينهم في قبو البيت ؟!! ..... ههههههه )
ساد صمت يسمع له المسمار لو سقط أرضا .... بينما شعر سيف بإحراج واضح وهو يقول
( اعذري زوجتي ...... فهي أحيانا تكون ظريفة الى حد ال ....... )
قالت وعد آمرة بقوة
( كفى ............ )
ضحك جاسر وهو يقول
( أنت أيضا لديك " كفى " ؟!! ...... انا لدي أمر توقف مستمر....... )
احمر وجه حنين للغاية و هي تقول هامسة
( جاسر احترم نفسك و توقف ..... أنا جادة هذه المرة ...... )
رفع وجهه اليها و ابتسم ..... فاحمرت أكثر و ابتسمت , لتقول بخفوت
( أنا جادة ......... )
شردت ابتسامة جاسر وهو ينظر الى ملامحها طويلا .... لا يصدق أن تلك المرأة الجميلة كادت أن تضيع من بين يديه ذات يوم ......
و أثناء تبادلهما النظر .... كان كلا من وعد و سيف ينظران اليهما بوجهٍ ممتقع شارد ...
نظرت حنين الى وعد وهي تقول برقة متداركة خجلها و احمرار وجهها
( هلا اتيتِ معي للمطبخ لتساعدينني ..... و اتركيهما لمزاحهما الميؤوس منه ..... )
نظرت وعد الى سيف بصمت ... بينما بادلها النظر بوجوم , ثم نهضت سريعا و هي تملس تنورتها التي أظهرت نحافة قوامها الشبيه بقوام عارضات الأزياء .....
و ما أن ابتعدتا .... حتى نظر جاسر الى سيف و قال بهدوء
( أتعلم !!! ............. )
الا أن صوت حنين قاطعه بقوة من بعيد
( جاسر .... راقب نوارة جيدا ..... لا تدعها تأكل ورق النبتة .... )
هدر جاسر
( من عيوني زيتونتي .............. )
ثم نظر الى سيف متابعا كلامه
( أتعلم !! ..... أنت تذكرني بصديق لي .. سبحن الله , كان جلفا مثلك تماما في التعامل مع زوجته في بداية زواجهما ...... كان يظن نفسه محقا في كل خطوة و عقاب ... مما جعله احمق العام الأول ..... هيييييح اسمه عمر ..... لكنه الآن تحول الى الزوج المثالي الأول .... من البيت للعمل و من العمل للبيت .... زوجته تمكنت من ربط قيده للأبد ..... لكن الحق يقال لطالما كان ابن أناس محترمين ...... )
كان سيف ينظر اليه وهو يميل بشفتيه ... بينما عقله يفكر
" ربما وعد محقة !! ...... و أنهما غريبا الأطوار بالفعل !! "
دخلت وعد الى المطبخ خلف حنين .... تتأمل أجزاءه جيدا .... كان محببا للنفس و دافىء ....
اقتربت من الثلاجة و هي تعقد حاجبيها بذهول و هي تجد وريقات صفراء ملتصقة عليها بملاحظات مريبة ... ما بين المزاح و العشق .... لكن هذا ليس الغريب في الأمر ....
الأغرب أن تلك الملاحظات كانت مغلفة بالبلاستيك !!!
التقطت وعد واحدة مرسوم عليها وجه دب بدائي .. بعين واحدة .... و مكتوب عليها
" لنا حساب معا ... فيما بعد ... "
و علامة جمجمة و عظمتين !!! ....
كانت وعد تنظر اليها بذهول ... و ما أن رأتها حنين حتى ضحكت عاليا و هي تقول
( انها احدى ابداعات زوجي !!! ...... صحيح أنه ضخم و مجرم قليلا , الا أن قلبه كقلب طفل ... )
قالت وعد بذهول
( لماذا هي مغلفة بالبلاستيك ؟!! ............ )
ردت حنين مبتسمة ببساطة و حب يتألق من عينيها الزيتونيتين
( لاحظت أن الحبر يبهت لونه مع مرور الأشهر .... خاصة مع بخار الأواني و الطعام ... لذا لم أجازف بفقدانها .... فغلفتها كالبطاقات بالبلاستيك .... )
كانت وعد تنظر اليها بعينين مذهولتين ... متسعتين .. و هي فاغرة شفتيها ....
و هي تهمس لنفسها
" ياللهي !! ..... انها تغلف ملاحظات زوجها بالبلاستيك كي لا تبهت !!! ...... انها مجنونة !!! .... و أنا سأصاب بالشلل حالا !!!! "
تنهدت باستياء و هي تنظر حولها مجددا الى أن رأت كرسي متحرك في أحد الزوايا ....
فقالت بغيظ تلقائيا
( من منكما مشلول ؟!! .......... )
ارتفع حاجبي حنين بدهشة ... بينما رفعت وعد يدها الى جبهتها و هي تقول متداركة خطأها
( لم أقصد ..... قصدت ...... لمن ... من ..... )
ضحكت حنين و هي تقول بمودة
( لا بأس ......... أعرف قصدك .... زوجي تعرض لحادث منذ عامين وهو ما ترك اثرا للعرج قليلا في ساقه ....... وهو مصمم على الاحتفاظ به .... )
صمتت قليلا و هي تنظر للكرسي بحب مبتسمة .... ثم قالت بهدوء
( لقد اعتاد أن يجري به و أنا على قدميه ..... و بعد أن أنجبنا نوارة .. أصبحت أجلس أنا على ساق و هي على الأخرى )
رفعت عينيها الى وعد التي ارتسمت الصدمة على ملامح وجهها و هي تستمع الى صوت حنين الهامس الشجي ....
و تتسائل في نفسها ......
" هل يمكن أن يوجد هذا التكامل في هذا الكون بالفعل ؟!! ..... "
قالت حنين و هي تحضر اطباق الطعام ...
( كل مشكلة لها حلها ... ثقي بي .... المهم ان يكون الحب بينكما صادقا .....)
نظرت اليها وعد بصمت ... ثم لم تلبث ان قالت و هي ترفع وجهها الشاحب
( هناك قضية خلع في المحكمة تنتظر النظر بها ...... و أنا هنا رغم عني .... لو كان الامر بيدي لرحلت ..)
ظلت حنين صامتة دون ان ترد ..... ثم لم تلبث ان نظرت الى يد وعد بالفعل و كانها تبحث عن القيد
ثم قالت بهدوء
( اذا لماذا انت هنا ؟!!.........)
عقدت وعد حاجبيها و هي تقول بحيرة
( الم تسمعينني ؟!! ....... انا هنا رغم عني ..... )
رفعت حنين وجهها اخيرا و هي تقول بثقة
( لدي في غرفتي .... قيد حديدي حكومي , قيدني به زوجي ذات يوم في السرير .... )
اتسعت عينا وعد بذهول و احمر وجهها بشدة .. بينما قالت حنين ببساطة
( ليس لأغراض دنيئة ..... لا داعي لأن يحمر وجهك ....... لقد قيدني كي لا اهرب منه حرفيا )
ازداد ذهول وعد اكثر .... بينما قالت حنين برقة
( يومها ظننت أنني اتمنى له الموت ..... و انظري الي اليوم , اكاد افقد عقلي حين يتأخر ساعة اضافية بعد الحادث الأخير ..... )
ابتلعت وعد غصة مسننة في حلقها بينما تابعت حنين برقة اكبر
( مغزى كلامي .... هو انكِ لستِ مقيدة .... هذا ما توهمين به نفسك .... يمكنك الرحيل من هنا وقت تشائين , انت لست عاجزة لتلك الدرجة كي تنتظري وسيلة مواصلات من زوجك ترجعك الى المدينة ..... فجدي عذرا آخر غير الخطف ....... )
فغرت وعد شفتيها قليلا .... بينما غمزت لها حنين و هي تبتسم بجمال ... ثم تعود لتحضير الأطباق ...
بينما وقفت وعد مكانها .... تشعر برغبة غبية في البكاء ... لكنها لم تجد الدموع !! ...
.................................................. .................................................. .................
( حين تريد استعادة زوجتك ..... عليكِ أن تكون ما ليس أنت حقيقة .... أياك و التصرف بطبيعية , لأنه لو كان طبعك مناسبا .... لما كنتما في هذا الوضع الآن ...... لذا عليك التصرف بعكس شخصك تماما ...
لا مانع من أن تحني رأسك قليلا .....و تتجمل و تتلطف ... و تدعي الخنوع .... الى أن تضمنها في قبضة يدك ...... )
نظر سيف واجما الى جاسر وهو يشرح له اجراءات كيفية استعادة الزوجة .....
ثم لم يلبث أن عقد حاجبيه بشدة وهو يرى شيئا يتحرك في الأرض ... ثم اتسعت عيناه و هو يرى دجاجة .... تمشي في المكان مجبرة الجناح !!!!!!!!
حيث كان جناحها ملفوفا برباط أبيض يجعله ثابت .....
لم يستطع سيف منع نفسه من القول بهذول
( ما هذا ؟!!! ............ )
نظر جاسر المضجع في مكانه الى الدجاجة ... ثم لم يلبث أن لوح بيده وهو يقول ببساطة
( انها دجاجة أصيب جناحها ..... لذا جبرته حنين و ربطته , و أنزلتها الى البيت كي لا تزيد اصابتها .... لا تشغل بالك بها ..... ماذا كنا نقول ؟!! ..... )
رفع سيف احدى حاجبيه وهو يقول بقلق
( الا يجب أن تبعد طفلتك عنها ؟!!! ......... )
رد جاسر ببساطة ....
( لا ... انها صديقة نوارة .... الحقيقة ربما يجب أن أبعد الدجاجة كي لا تكسر نوارة جناحها المصاب .... )
نهض من مكانه ليبعد الدجاجة عن متناول يد الصغيرة ... ثم لم يلبث أن عاد وهو يقول
( أين كنا ؟!! ..... نعم .... اذن لاستعادة زوجتك .... اكذب .... صدقا أكلمك ... اكذب حتى تنالها .... )
تنهد سيف بقوة ووجوم .... وهو يشعر بالقلق على وعد في هذا المكان ..... و يود لو يقوم للبحث عنها .... قبل أن يكسروا لها جناحا .....
.................................................. .................................................. ..................
بعد أن أغلق جاسر الباب خلفهما ... التفت الى حنين بعينين غريبتين ....
بينما كانت هي تميل برأسها و هي تدلك عنقها أمام عينيه النهمتين ....
فتسمر مكانه وهو يراها مغمضة العينين تدلك عنقها بانسياب .... كانسياب ذيل حصانها على احدى كتفيها ...
بينما خلعت حذائها ... ثم تبعته بالآخر و هي تهمس دون أن تفتح عينيها
( لقد تعبت اليوم .......... )
اقترب منها جاسر و في عينيه نظرة عشق ممتزجة بخوف و ألم ...... و ما أن وصل اليها حتى فتحت عينيها و ابتسمت برقة و هي تقول بخبث
( لقد نامت نوارة.......... )
ابتسم جاسر قليلا وهو يضم خصرها بكفيه ..... بينما قالت متابعة بصوت كله اغراء طفولي
( و غادر الجيران ....... )
ضمها أكثر اليه ... و تعبير غريب يطوف على وجهه ..... فارتفعت على أصابع قدميها لتحيط عنقه بذراعيها و هي تهمس برقة
( و أنا أحبك .......... )
اشتعلت عيناه بجنون وهو يلتهمها بنظراته ..... التي كانت بعيدة عن المرح .. فقالت حنين و هي تداعب صدره
( كم من الإغراء سأحتاج ..... كي تحملني الى غرفتنا .... و ليس أي مكان آخر كما هي العادة ....)
قال جاسر بخفوت أجش
( ارقصي معي أولا .........)
عبست بشدة و تصلبت و هي تهتف
( قلت لك ألف مرة يا جاسر لن أرقص رقصا شرقيا ..... أولا لأنني لا أمتلك الإمكانيات و التضاريس المطلوبة .... ثانيا لأنني أراه تقليلا من شأن المرأة ...... )
عبس جاسر قليلا و هو يقول بنبرة تهديد
( هذا ليس كلامك ..... كلام من هذا ؟!!!! .....)
ردت بمنتهى الوضوح
( صبا ..................)
ضحك عاليا وهو يضمها أكثر الى صدره ثم قال
( والله أحيانا أتناسى كرهي للمذكور الثور ابن عمك ..... و أشفق عليه من تلك الفتاة التي أتت لتهاجمني دفاعا عنكِ ذات يوم ...... )
ضحكت وعد مقهقهة عاليا و هي تتعلق بعنقه و كأنها تتأرجح على عمود انارة ......
ثم قالت محاولة الجدية
( لكنني أقتنع بكلامها كل يوم أكثر ......... )
رفع حاجبه وهو ينظر اليها فعادت لتضحك و هي تعرف نفسها لا تستطيع مقاومة جنونه و عنجهيته ... و همجيته طويلا .....
فاكتفت بالنظر اليه بحب .... ثم قالت برقة
( لن أرقص لك يا جاسر ..... أنا أخجل .... )
قال بعبث
( هذه أكبر كذبة في التاريخ ....... )
ردت حنين حازمة
( توقف ........ )
انحنى وجهه ليقبل عنقها الناعم من تحت ذيل حصانها وهو يقول بخفوت
( هل تخجلين من التلميح الى انكِ لا تعرفين الخجل معي ؟!! ...... )
ردت حنين متذمرة
( الاجابة الصحيحة هي .... أنك غير محترم على فكرة )
ضحك بصوتٍ أجش ليقول مذكرا
( متذبذب ........... )
ردت بوجهٍ محمر خجلا ضاحكة
( آآآه الذبذبات ...... كنت قد نسيتها .....)
رفع يدها ليضعها على قلبه وهو يقول بخفوت
( اشعري بها ...... ذبذبات قلبي .... تقول زيتونة ... نونة .... نونة .... نونة .... )
ارجعت رأسها للخلف و هي تضحك عاليا بجنون , بينما قال مبتسما
( لو ايقظتِ نوارة بصوت ضحكاتك ,,, فسأقتلك ..... و القي بجثتك لسمك البحر .... )
ابتعد عنها قليلا .... فعبست تقول
( لن أرقص لك .............. )
قال جاسر بحنان
( يا متهورة .... يا متعجلة ..... قلت معي .... و ليس لي ..... )
ابتعد عنها ليذهب الى مسجل الاسطوانات ثم لم يلبث أن قام بتشغيل أغنية قديمة ....
حينها همست حنين برقة
( انها اغنية شرقية ياجاسر ........ لن ينفع ذلك .... )
اقترب منها مبتسما , ليضمها اليه وهو يتمايل بها ليهمس بصوتٍ اجش
( هشششششششش ...... )
أغمضت عينيها و هي تدفن وجهها في عنقه .... و تتمايل معه لتسمع الأغنية
عجبا لغزالٍ قتالٍ عجبا ....
كم بالأفكار و بقلوبٍ لعب ....
يخطو بدلالٍ فيثير الشهب .....
عجبا لغزالٍ قتالٍ عجبا ......
قالت حنين بخفوت و هي تمايل معه
( ماذا بك ؟!! ....... أنت مختلف ... )
صمت قليلا وهو يتمايل معها ... ثم لم يلبث أن قال بخفوت حزين
( حين كنت أنصح جارنا ...... شعرت للحظة و كأن وجودك بحياتي أمرا مسلما به ..... )
همست برقةٍ مبتسمة
( وجودي في حياتك هو بالفعل أمرا مسلما به .......... )
ابتلع شيئا قاسيا في حلقه .... وهو يهز رأسه قائلا بخفوت
( لا ...... انت لست شيئا مسلما به ..... احيانا اصحو من نومي وانا اتصبب عرقا بعد كابوس قاتل أراه و قد عاد بي الوقت لسنواتٍ طويلة .... و أنا أجدك متزوجة من غيري .... )
رفعت وجهها و هي تمس شفتيه بيدها لتهمس عوضا عنه
( هششششش ..... أتتذكر حين بكيت مرة بعنف و هيستيرية في بداية زواجنا الثاني !! ..... أتتذكر بماذا أجبتك حين سألتي السبب ؟!! ...... )
أومأ برأسه مختنقا .... ليقول بخشونة
( قلتِ أنكِ تكرهينني .... و ترغبين في ايذائي .... تريدين ان تذيقيني من كل المرارة التي تحملتها قديما .... بداخلك نقمة لا تستطيعين السيطرة عليها ......و أنك تريدين الانتقام لكل دمعة ذرفتها بسببي ... لكل تجبري على حياتك .....)
أومأت حنين مبتسمة و هي تقول
( و أنت سألتني بحزن .... و ما الجديد في ذلك ؟!! .....)
ابتسم جاسر بألم وهو يتابع الحوار قائلا
( أنتِ أجبت .... الجديد أنني أتسلل الى حياتك بببطىء خبيث .. أجعلك ترغبين في كل ما أقدمه لك .... أجعلك ترغبين في النسيان و المتابعة .......)
أومأت حنين برأسها و هي لا تدرك أن دمعتين انسابتا على وجنتيها بصمت على الرغم من ابتسامتها المشرقة .... لتهمس بعدها ....
( أنت نجحت ..... و جعلت من وجودي أمرا مسلما به .... تخللت حياتي بالقوة فرفضتك ... لكنك تسللت و سيطرت على كل طاقة الغضب بداخلي .... ليستقر وجهك مكانها ..... أتظن أن من ينجح في ذلك , من الممكن أن ينتزع من داخلي لأي سبب كان !!! .....)
التوى فك جاسر وهو يقول بهمس أجش
( أحيانا تنتابني الشكوك ..... حين أرى مدى روعتك و طيبة قلبك ... و أتسائل ماذا فعلت أنا لأستحق امرأة مثلك ........)
ابتسمت و هي تمسح دموعها لتقول بسعادة
( تظاهرت بغير طبعك .......)
عبس جاسر وهو يقول
( هل سمعتني ؟!!! ..........)
أومأت مبتسمة و هي تقول بصدق
( لو تعرف كم أثرت بي تلك الحقيقة يا مجنون ..... أنت بالفعل تكبدت كل ما يخالف طبعك و نشأتك و تظاهرت بكل تحضر لا تملكه .... لتحظى بي ...... أي محظوظة أنا !!! .....)
ابتلع جاسر غصة في حلقه وهو يقول بصتٍ أجش
( حنين ..........)
ردت برقة و هي تبكي بضحكة رقيقة
( همممممم .........)
قال بخشونة
( هل أحمر شفتيك مهم لديك ؟!! .........)
ابتسمت أكثر و هي تهز رأسها نفيا لتقول هامسة
( لا .... لكن شفتي مهمتين .... هلا حافظت عليهما قدر الإمكان ؟!!! .....)
همس بصوتٍ أجش محتنق و النار تحترق في عينيه
( آسف ...... لا أستطيع أن أعدك بذلك )
.................................................. .................................................. ......................
( اخلعي ملابسك ........... )
لم تصدق شيراز ما سمعته للتو .... هل نطقها بالفعل ؟!! ......
رفعت يدها تتحسس صدرها المرتجف و هي تراقب عضلات صدره القوية السمراء بفعل الشمس ....
وهو يتخلى عن قميصه و يرميه أرضا ....
فهمست بصوتٍ مرتجف
( ما .... ماذا ..... ماذا قلت للتو ؟!! ....... )
نظر اليها بعينين ليستا عينيه اللتين وقعتا في حبها .... ووقعت هي في حبهما ...
بل عينين شيطانيتين غريبتين .... وهو يقول بصوتٍ لا يحمل أي نبرةٍ للآدمية
( هل تحبين سماعها أكثر من مرة ؟!! ....... هل تحبين الأمر بتلك الصورة ؟!! .... )
صمت قليلا ثم قال بنبرةٍ أكثر ازدراء
( حسنا اذن ..... مستعد لتلبية رغباتك لنحصل معا على المتعة المنشودة ..... اخلعي ملابسك ببطىء أمامي ... )
فغرت شفتيها وهي تتراجع على الجدار و كأنها حربائة زاحفة .....
بينما كان فمها الأحمر فاغرا بذهول ..... و هي تهز رأسها نفيا قليلا ....
فقال بهدوء مزدري
( هل تحبينها اكثر اذلالا ؟!! ....... )
رفعت يدها الى فمها و هي تشعر بالدوار قليلا ..... الا أنها تمكنت من الهمس بقسوة
( توقف عن ذلك ....... لماذا تفعل بي ما تفعله ؟ .......... )
رفع حاجبه وهو يقول مقتربا منها بخطواتٍ فهد اسود ... براق العينين
( أنا لم أفعل شيئا بعد يا شيراز ..... لا يزال الليل طويلا بيننا ...... )
وصل اليها اخيرا و اقترب منها لدرجة ان لامس جسده صدرها فأبعدت وجهها عنه و لوته الى الجدار قدر الإمكان .... فهتفت من بين شفتيها المنطبقتين و المرتجفتين
( ابتعد عني يا وليد ...... ابتعد قبل ان تفعل ما قد تندم عليه فيما بعد ..... )
ارجع رأسه للخلف و ضحك عاليا بعنف ... مما جعلها تغمض عينيها بقوة اأكبر و ترتجف بشدة من هول صوته ضحكاته المرعبة .....
ثم لم يلبث أن قال من بين تلك الضحكات
( ياللهي ..... انتِ تتصرفين كعذراء مثالية ...... صدقيني لو أردت ما كنت لأسند هذا الدور لمن هي أفضل منك ...... )
صمت قليلا وهو يرفع يده ليمر بها على منحنياتها ببطىء جعلها ترتعش و تشهق بصوتٍ عالي
بينما قال هو بخفوت ثلجي
( حتى ارتعاشك حقيقيا .... بالله عليكِ أخبريني من أين لكِ بمثل تلك المهارة و القدرة على التمثيل ؟!! ..... )
هتفت شيراز دون أن تنظر اليه
( ارتعاشي تقززا و ليس خوفا ..... لذا اطمئن أنا لست عذراء مرتعبة .... لكن ما ستقوم به سيجعلك تكره نفسك فيما بعد .....)
أظلمت عيناه وهو يقول بصوتٍ غريب
( حقا !! ...... اذن دعيني أنا أحكم على ذلك بنفسي فيما بعد ....)
و دون سابق انذار مد كلتا يديه ليطبق بهما على مقدمة فستانها و فأجة شعرت بقوة هائلة تجذب عنقها قبل أن تسمع صوت تمزق حاد في الصمت المحيط بهما لتراه يشق صدر فستانها الخفيف بيديه من عنقه و حتى بطنها .....
صرخت شيراز بقوة و هي تضم جانبي الفستان الى صدرها ... تحاول أن تخبىء نفسها عن عينيه الشيطانيتين ..... الا أنه لم يسمح بذلك لأكثر من لحظتين قبل أن يمسك بيديها و يبعدهما بالقوة قبل أن يبعد المتبقي من قماش فستانها عن جسدها بعنف بينما هي تتلوى ... و تصرخ ... الى أن أنهى مهمته بأكثر طريقة مهينة استطاعها ... فحملها من خصرها بذراعٍ واحدة ليلقيها على السرير بقوة ...
شهقت شيراز و قد بدأت تبكي بذعر و هي تندفع محاولة الفرار الى الجانب الآخر من السرير ....
الا أنه كان قد وصل اليها و أعادها من كاحليها بقوةٍ بينما هي تحاول جاهدة التلوي و المقاومة دون جدوى ...
و ما أن تمكن من رميها مجددا على السرير عشوائيا حتى التف حولها يمنع حركتها بينما عي تتقوس بكل قوتها محاولة الإفلات لكن دون أمل .... خاصة و أنه أمسك بذراعيها يكبلهما بقبضته فوق رأسها ... فأصبحت عاجزة تماما تحت سيطرة جسده .... و يده التي عاثت فسادا في كل ما تطاله ....
أخذت شيراز تشهق مرة بعد مرة محاولة الاستسلام كآخر نوع من السيطرة على النفس و هي تهمس لنفسها بجنون و هلع
" ماذا بكِ ؟!! .... ليست أول مرة ؟!! ..... استسلمي بالجزء المتبقي من كرامتك ..... استسلمي ... "
لكنها لم تعي أنها كانت قد بدأت تصرخ .... تحاول الإستسلام و امتاعه قدر خبرتها ... لكن لسانها كان يصرخ دون ارادة منها .... على الرغم من أنها لم تصرخ من قبل .... اطلاقا ... في أي من زيجاتها ...
و لا حتى مع مشرف الدار الذي كان يحتجزها في أحد الأركان كل ليلة .....
لم تعرف معنى الصراخ الا الآن ......
شدد وليد على معصميها وهو يصرخ عاليا فوق صراخها
( اخرسي ......... اخرسي ...... توقفي عن هذا الإداء المزيف .... يمكنك تقديم عرضا أفضل اللعنة عليك..... )
الا أنها لم تستطع .... و مع ذلك بداخلها كانت تحاول القيام بتدريباتها الخاصة على التحمل ... و التي كانت تساعدها في تحمل ما كانت تعانيه على يد زوجها الثاني ....
لكنها أيضا فشلت ... فصرخ بها وليد بغضب
( لا تصلبي جسدك و الا ضربتك ...... أنا لا يمكنني السيطرة على غضبي الآن ..... )
هتفت و هي تشهق باكية
( أنا أحاول ....... احاول و لا أستطيع .......... )
فجأة قبضت يده على ذقنها ترفعه لأعلى بقوةٍ آلمتها و جعلتها تصرخ ألما بينما مال عليها و هو يهدر بعنف أمام
( من تخدعين ؟!! ..... من تخدعين بتمثيلك الردىء هذا !!! ..... هل أنتِ مرتعبة حقا ؟!! .... زوجة رابح السابقة قادرة على الاحساس بالذل أو اي شعور آدمي ؟!! .... أتظنين انني لا اعلم سمعته المشبوهة ؟!! .... و طريقة اختياره لزيجاته السرية ...... و سببها ...... فكيف تتجرأي الآن على ادعاء الخوف و الشعور بالمهانة ؟!! ...... )
شعرت و كأنها القيت في الجحيم بمعرفته لسمعة رابح ...... فشهقت باكية بعنف ....
حينها هزها بقوة و قد جن جنونه
( توقفي عن ذلك العبث ؟!! ...... هل تلعبين دور الضحية الآن ؟!! ...... و ماذا عنه ؟!! ..... كيف كنتِ بين ذراعيه !!!! .....)
تعالى صوت شهقاتها بعنف .... حتى بات جسدها الصغير ينتفض أسفل جسده , لكنه لم يرحمها وهو يصرخ بها مجددا
( انطقي ..... لن أتركك قبل أن تصفي كيف كنت بين ذراعيه ......)
صرخت شيراز عاليا دون أن تفتح جفنيها المطبقين
( كان ساديا لدرجة مجنونة ..... و كان مقرفا و قذرا .... و كنت أرضيه .... كنت أكثر امرأة استطاعت أن ترضيه.... حتى أنه توسل لي الا أتركه ....... )
شعرت بجسد وليد يثقل عليها .... يكاد يدفنها .... و غضبه يصلها عبر لهيب أنفاسه الملامسة لبشرتها المرتعشة و قد تعالى نحيبها بعنف ....
لكنها تمكنت من الصراخ مجددا .....
( أحاول أن العودة لما كنته لكنني لا أستطيع ..... لا أستطييييييع .....أرجوك أرحمني .... أرجوك .....سأنحنى الى قدمك لأقبلها .... لكن اتركني الآن ....... لا أستطيع بتلك الصورة .......)
ظل صدره يهدر بقوة و جنون فوق جسدها المرتعش .... بينما نحيبها تحول الى مواء القطط في الأزقة و هي مغمضة عينيها بشدة ....
حينها ألقى نفسه من فوقها و هو يهدر بجنون
( تبا لك ...... تبا لك و لخداعك ... و دناءة أصلك ..... أي قذارة تلك !!! .... أنت تثيرين اشمئزازي .....)
انتفضت شيراز و كأنها و جدت الخلاص أخيرا ... فالتفت بالغطاء الملقى على السرير ... لتقفز هي الأخرى .... لكن ساقيها لم تسعفانها على الجري سريعا ... فانحدرت أرضا ترتجف بقوة ...
الا أنها زحفت على ركبتيها و كفيها الى أن وصلت لزاوية الغرفة تحت النافذة ... فضمت ركبتيها الى صدرها و هي تشهق و تنتحب بقوة ... بينما كان وليد جالسا على حافة الفراش بجسده الضخم وهو يلهث غضبا و نارا .....
و صوت مواء القطط الذي تصدره يكاد يفقده كل ذرة من انسانيته ... هذا ان كان قد تبقى منها شيئا .....
استطاعت شيراز أخيرا النطق بهذيان من بين نحيبها المخيف
( أنا غيرت رأيي .... أنا تراجعت في قراري .... طلقني أرجوك ..... لا أريد أي شيء ... و يمكنني بيع سيارتي و اعطائك ثمنها ..... كتعويض .... لكن حررني أرجوك .... لم أعد أستطيع ..... لقد فقدت مهارتي ....... فقدت قدرتي على التحمل و الإرضاء .... )
قام وليد من مكانه مندفعا فبدا كالطود المهول وهو يصرخ بجنون
( اخرسي ....... اخرسي ........ حقيرة )
رفعت شيراز كفيها لتغطي بهما اذنيها و هي تدفن وجهها بين ركبتيها ليتعالى موائها اكثر و اكثر .....
و لم تسمع صوت حفيف ملابسه ..... لكنها سمعت صوته هادرا بوضوح
( لقد عقدنا صفقة ..... و ستنفذينها ..... و تقدمين افضل ما عندك ..... سأتركك الليلة .... لكن ليس كل ليلة )
خرج وصفق الباب خلفه ..... بينما اخذت تموء دون ارادة منها و كأنها انفصلت عن كونها انسانة ... و تحولت الى كائم مهزوم يصر صوت عويل غريب .... حتى دون القدرة على البكاء بطبيعية ....
بينما كان وليد واقفا خارج الباب .... مستندا اليه بظهره .... مرجعا رأسه للخلف وهو مغمضا عينيه .... يتنفس بصعوبةٍ كادت ان تمزق صدره الذي يرتفع و ينخفض بسرعة جنونية ... تتوائم مع صوت موائها
.................................................. .................................................. ......................
بعد يومين ..
نظرت وعد الى نفسها في المرآة ..... و ابتسمت بقلق ... و شوق
الليلة ... ستغريه ....
منذ أن عادا من زيارة جيرانهما .... وهو يتعمد الإبتعاد عنها .... جسديا فقط ....
بينما كان يحاول قد الإمكان أن يكون مراعيا لها و هذبا ...
تكاد تقسم أن تلك الزيارة أثرت به كما أثرت بها .....
و مع ذلك لا يقترب منها مطلقا .... حتى أنه ينام في غرفته دون أن يدعوها لتشاركه .....
بينما الشوق يحترق بها .... كم اشتاقت للمساته و قبلاته ....
لدرجة انها اجلت التفكير في معرضها في الغد ......
الليلة ستحظى به ... و لتترك الماضي و المستقبل لوقتهما ....
منذ ساعة فقط انهت تفصيل الفستان الرمادي .....
و ها هي تقف امام المرآة منذ اكثر من عشر دقائق .... لتقيم نفسها ....
فقد جمعت جانبي شعرها بمشبكين بسيطين خلف اذنيها ..... بينما انساب الباقي بكلاسيكية على ظهرها
اما لون الفستان فكان مذهلا مع عينيها ....
ابتسمت قليلا و هي تتخيل انطباعه وهو يراها في الفستان المربوط خلف عنقها بشريطين رفيعين .... ليحدد جسدها بكل اناقة .... تاركا شقا طويلا من كاحلها و حتى منتصف فخذها ....
قرصت وجنتيها قليلا حين لاحظت تزايد شحوبها ...
" ربما يجب ان تأخذ قرصا من دوائها ... فضربات قلبها غير ثابتة ... "
سمعت صوت الباب فانتفضت مكانها و هي تنظر الى باب غرفتها برهبة ....
ثم لم تلبث ان خرجت جريا و الفستان يتطاير خلف ساقيها ...
الى أن رفع سيف رأسه و تسمر مكانه وهو يرى كل ذلك الجمال القمري في ليلةٍ قاتمة ....
وقفت وعد مكانها حافية القدمين تلهث قليلا و هي تحاول الابتسام .... بينما سيف كان واقفا مكانه وهو ينظر اليها مذهولا .... ثم قال بصوتٍ اجش ...
( وعد !! .......... )
اخذت نفسا مرتجفا و هي تبتسم لتقول بهدوء
( ما رأيك في نتيجة هديتك ؟!! ........ )
ثم استدارت حول نفسها و هي ترفع شعرها بذراعها لتريه الفستان و تصميمه .... الا ان آخر همه كان تصميم الفستان
فقال بصوت أجش
( لم أتخيل أنكِ موهوبة لتلك الدرجة !! ...... كنت أعلم .... لكن ليس لتلك الدرجة ... و خلال يومين فقط !! ... )
اشرق وجهها بابتسامة كبيرة و هي تتلقى مديحه .... فقالت بحرج لذيذ
( انه في الواقع بسيط التصميم ...... لذا لا تنخدع به ...... )
ظل ينظر اليها متأملا طويلا بصمت .... ثم قال أخيرا بصوتٍ أجش
( بل أنتِ مبدعة ........ )
أطرقت بوجهها خجلا .... ثم قالت بخفوت
( لم أشكرك على هديتك حتى الآن ............ )
لقد حضرت الى تلك الجملة .... و كانت تنوي الذهاب اليه لتقبله بقوة .... فينصهر معها ....
الا أنه قال بخفوت شديد
( ليس عليكِ أن تشكرينني ...... لقد كان دينا في عنقي .... )
شعرت و كأن أحدهم قد سكب دلوا من الماء البارد فوق رأسها .... فأطرقت بوجهها و هي تفقد كل حماسها في لحظةٍ واحدة ....
حينها شعر سيف بشيء ما أوجع صدره و كأنها نوبة برد شديدة في أضلعه ..... فقال بخفوت و كأنه يكلم انسانة غريبة
( هل تناولتِ طعامك ؟؟ ......... )
زمت وعد شفتيها و هي تحدق للبساط بضيق ... هل هذا هو أقصى ما تفتق ذهنه عنه لينطق به بعد يومين من الخياطة و ساعتين من التزين ...
الا أنها قالت بفتور واهي
( لا ..... كنت أنتظرك ........لقد حضرت طعاما بسيطا ... . )
رفعت وجهها تنظر اليه , ثم قالت
( أين تذهب كل يوم و تتركني ؟!! ....... )
قال سيف وهو يتحرك ليضع مفاتيحه ...
( أعاون جاسر جارنا في اصلاح سيارته ........ )
ارتفح حاجبها ببطىء شديد .... قبل أن تقول بصوت لا تعبير له
( كم هذا رائع !!! ...... لم أكن أعرف أن تصليح السيارات هو هوايتك المفضلة في العطلات ... )
رفع سيف وجهه اليها ليقول بصوت خافت
( نجن ..... لسنا في عطلة ........ )
نظرت اليه بصمت طويلا .... ثم قالت ببرود
( آه عفوا ...... نحن في بيت الطاعة ... اعذرني لقد نسيت )
أطرق بوجهه قليلا و بملامح غامضة وهو يدس يديه في حافة حزام بنطاله الجلدي ....
و بقى على هذا الحال طويلا و هي تنظر اليه بطرف عينيها .... تود لو تسأله عما يؤلمه الى تلك الدرجة ...
لكن شيئا ما يمنعها من التواصل معه .... شيء ما يخنق كل كلمة طيبة تحاول بثها اليه ....
رفع سيف وجهه اليها اخيرا .... ينظر اليها طويلا و على شفتيه طيف ابتسامة قبل ان يقول بخفوت
( لما لا نتناول الطعام ...... انا حقا متعب )
انحنت عيناها يأسا ... لم يكن هناك ايا من الاغراء او الشوق اللذين حضرت لهما طويلا .....
مجرد محادثة باهتة .... مهذبة بشكل مقيت ....
الا انها قالت بكتفين محنيين
( حسنا ........ سأحضر الطعام ..... )
ثم استدارت امامه .... بعد ان كانت قد تركت شعرها كله على احدى كتفيها .....
فتراى لعينيه المشتاقتين ظهرها المكشوف بأناقةٍ في فستان لم يكن ليسمح لها بارتدائه خارج جدران البيت
فتنفس نفسا خشنا وهو يراها تزداد جمالا كل يوم ... بشكل متسارع لامع ... كنجمةٍ خلقت للشهرة ....
بعد ان جلسا الى الطاولة ..... نظر اليها طويلا بصمت دون ان يمس طعامه .... و ما ان رفعت اليه عينين متسائلتين ..... حتى قال بهدوء
( هل يمكنك الأكل بيدٍ واحدة ؟؟ ........ )
ارتبكت نبضاتها قليلا .... قبل ان تقول بخفوت و هي تبتلع ارتباكها ...
( لماذا ؟!! ............... )
قال بخفوت وهو ينظر الى عينيها فاردا يده على سطح المائدة بينهما
( لأنني أريد الإمساك بيدك و أنا أنظر اليكِ .......)
ارتجفت بشدة ..... و انتفض قلبها , الا أنها أومأت برأسها متفهمة .... متفهمة جدا ....
فناولته يدها المرسوم عليها خارطة حياتهما معا .... بماضيها و حاضرها و مستقبلها ......
و ما أن أمسك بها حتى اطبق عليها ببطىء و عينيه في عينيها .....
استمر الصمت بينهما طويلا كئيبا ..... و هما يبتلعان الطعام بغصةٍ حارقة ... دون أن يترك أحدهما يد الآخر ...
و ما أن انتهت تلك الوجبة المؤلمة ..... و رفعت الأطباق ..... حتى استدارت لتجده خلفها مباشرة ينظر اليها بعاطفةٍ لا يمكنها أن تخطئها أبدا ........
فشهقت بصمت .... و اتسعت عينيها و هي تنتظر منه تقدما .... حركة مندفعة .... اي شيء يبعث الروح لقلبها المحتضر ... و الغير ثابت .....
الا أنه مد يديه ليمسك بجانبي وجهها يرفعه اليه .... و ظل ينظر اليها طويلا بنظرةٍ لم تفهمها الآن ....
ثم انحنى ليطبع شفتيه فوق جبهتها بضغطٍ قوي ..... كاد أن يكون وشما ساحرا ....
فأغمضت عينيها .... و بقى على هذا الحال ... دقيقة ... ثم دقيقتين كاملتين وهو مغمض عينيه و هي كذلك ...
الى ان ابتعد عنها قليلا وهو يهمس بصوتٍ أجش
( شكرا للعشاء ...... لقد كنتِ خلابة اليوم .... بشكل ........... )
صمت وهو لا يجد الكلمة المناسبة ...... فابتسم ابتسامة أوجعت قلبها بشدة ......
قبل أن يتركها و يبتعد عنها و عينيه عليها .... ثم استدار و غادر دون أي كلمة اضافية !! .....
.................................................. .................................................. ....................
الليلة التالية ....
جلست وعد بتقاطع على مقعد كبير في غرفتها .... تتطلع من نافذة الغرفة الى السماء الرمادية .... وهي تضم ركبتيها الى صدرها ........
الليلة هي ليلة المعرض .....
لم تقفز فرحا منذ الصباح لأن المعرض سيتم اخيرا.... و لم تنفجر غضبا لأنها لن تحضره .....
فقط وجوم غريب احتل قلبها .... جعلها تسقط في هوة لا معنى لها .....
لآخر لحظة ... لم تظن أن يمنعها عن حلمها بمثل تلك القسوة .... و لم تتخيل أن يرفضها ليلة أمس بمثل تلك المهانة ......
أظلمت عيناها انعكاسا للون السماء الرمادية ....
و فجأة سمعت صوت باب غرفتها يفتح دون استئذان ..... و قدميه تقتربان منها ببطىء ...
لكنها لم تجد الرغبة في النظر اليه أو رؤية وجهه ..... و حين استمرت في النظر من النافذة .....
قال بهدوء
( وعد .........)
لم ترد عليه في المرة الأولى .... و حين ناداها مرة أخرى قالت ببرود
( ابتعد من هنا ......... لا أريد أن أراك )
صمت قليلا قبل أن يقول بخفوت
( للأسف أنتِ مضطرة لأن ترينني .......... انظري الي )
حاولت المقاومة قليلا ... الا انها فشلت فأدارت وجهها الحزين اليه بصمت ... لكنها تسمرت مكانها و هي تنظر اليه ....
لدرجة أنها شهقت قليلا من شدة وسامته !!
كان أخاذا بدرجة تسرق عقل و قلب أي أمرأة تراه ......
كان يرتدي حلة سوداء غالية فخمة .... و كأنها فصلت خصيصا له .... بدا بها و كأنه ... أميرا متوجا ....
همست وعد بصوتٍ واهي مذهول
( هل أنت خارج ؟!!! ......... )
شعر بالعطف عليها بدرجة جعلته يكاد أن يهجم عليها و يعتصرها بقوةٍ الى أن تصرخ ألما ....
لكنه قال بهدوء
( نعم أنا خارج ........ فهلا رافقتني من فضلك ... )
و قبل ان تستوعب ما يقوله ... كان قد رفع ما يحمله خلف ظهره و يفرده أمامها ....
شهقت وعد بقوة و هي تنزل قدميها أرضا و ترفع يديها الى فمها المصدوم .....
ثم همست من خلف كفيها
( فستاني !!! ................... )
ابتسم سيف وهو يقول بهدوء و عيناه تحملان انفعالا قويا برؤية ذهولها المسكين ....
( هل هذا هو ؟!! ................. )
أومأت وعد بصمت .... و بعينين مذهولتين كانت تتأمل الفستان الأسود الذي خاطته بنفسها منذ فترة بغرض حضور حفل الإفتتتاح ....
كان يجمع ما بين الكلاسيكية و العصرية .... حيث تصل بطانته الى حافة ركبتيها ... بينما انسدل طبقة من الشيفون الأسود فوقها بتهدل حتى كاحليها ....
و أكمامه أيضا كانت من الشيفون ..... ....
كانت تتنفس بصعوبة و صوتٍ مرتفع ..... بينما قال سيف بنبرةٍ لم تعتدها من قبل ...نبرة حنان خالص
( كل شيء جاهز و في انتظارك ...... عشر دقائق و الا سأذهب بدونك ... )
رفعت وعد عينيها اليه و هي تلهث قليلا ... ثم همست تتأكد
( حقا يا سيف !!! .......... )
ظل سيف ينظر اليها طويلا .... قبل أن يقول بهدوء
( عشر دقائق يا وعد ................ )
.................................................. .................................................. .....................
سمع صوت كعبي حذائيها من خلفه .... فانتفض جسده وهو يستدير ببطىء ....
حينها عقد حاجبيه ألما .....
وهو يرى أمامه أجمل امرأة رآها في حياته .... و هي تخطو تجاهه ......
و قد ارتدت من تحت الفستان الهفهاف جوارب سوداء شفافة .... لتنغطي ساقيها الطويلتين .... فبدت كأجمل عارضة ازياء ... خاصة مع شعرها الطويل الذي جمعته في ذيل حصان طويل منخفض خلف عنقها .....
اما عيناها ...... فكانتا خلف نظارتها ذات الإطار الأسود !!!! .... مما زادها غموضا و جمالا مع أحمر الشفاه القاتم المتناقض مع تلك النظارة !!!!
همست وعد أخيرا بقلبٍ يهذي و ابتسامة مرتجفة
( أنا جاهزة ................. )
انعقد حاجباه أكثر وهو يشعر بقلبه يموت ألف مرة وهو يهمس بداخله بوجعٍ ينبض
" لكنني لست بجاهزٍ بعد .... ياوعدي .... "
لكنه همس بصوتٍ مختنق
( هل أخبرتك الليلة أنكِ .... فائقة الجمال ؟!! ..... , و كأنكِ نجمة تسطع في سماءٍ داكنة ..... )
ارتجفت ابتسامتها و هي تضحك بتعثر .... بينما أحرقت دموعٍ حبيسة مقلتيها ... فقالت بخفوت مختنق بائس من شدة سعادتها
( و أنت أيضا لا بأس بك .......... )
بعد فترة طويلة من خروج حاتم .. ذاك اليوم ... كان التوتر يخنق كرمة و هي تتنقل من غرفتها الى غرفة الجلوس و منها لغرفتها ... مجددا .... تتسائل عما سينتهي به تفكيره !!
زفرت كرمة بقوة و هي تمسك بهاتفها تنظر اليه بين الحين و الآخر ....
مرة تنوى الاتصال بالرقم الغريب .. تريد فقط من انه كان محمد بالفعل ...
و مرة تنوى الاتصال بحاتم تسأله لماذا تأخر .... و تترجاه ان يعود سريعا ....
لكن في الحالتين كانت اصابعها تتخاذل كل مرة ......
لذا حين يأست من تبديد قلقها .. اتجهت الى الغرفة الأقرب الى قلبها ....
طرقت كرمة باب الغرفة بهدوء و هي تنادي برقة ....
( هل استيقظت يا محمد ؟!!.........)
فاجابها بعفوية
( ادخلي يا كمرة ..... انا احضر حقيبتي )
شعرت كرمة بغصة شوق و هي تتأكد من أنه بالفعل ذاهب لأمه .... ففتحت الباب ببطىء و عيناها تلتقطان الحقيبة الرياضية المفتوحة على السرير ... و رأت الأغراض الشخصية تتطاير لتحط بها و كأنها سلة للكرة الطائرة ...
دخلت كرمة الغرفة و هي تنظر اليه مبتسمة بحزن ... تراه يعبث في دولابه بحثا عن ملابسه , فقالت بخفوت
( هل تحتاج الى مساعدة ؟؟ .......)
رد عليها ببساطة دون ان ينظر اليها
( يمكنك طي الملابس التي اقذفها في الحقيبة ..... )
ابتسمت كرمة و دخلت لتطوي كل قطعة على حدة .... و قلبها يشعر بالإفتقاد له قبل حتى أن يغادر ....
التفتت قليلا اليه ... تشعر ان وجود محمد بالنسبة لها كان اكبر اهمية من مجرد كونه صبي محبوب و يشعرها بالصداقة احيانا و بالأمومة العزيزة احيانا اخرى
محمد هو حجر التوازن لها في حياتها الجديدة هنا في هذا البيت ....
هل يعقل أن تشعر بالقلق من ذهابه الى أمه و تركها هنا وحيدة !! ..... مع والده المفترس عاطفيا ....
هزت رأسها قليلا مبتسمة ... بينما عادت الى طي قطع الملابس و هي تنظر الى كلا منها بتقييم ... ثم تنظر الى محمد و هي تقول باهتمام عابسة قليلا
( هل انت متأكد من أنك تريد هذا القميص يا محمد ؟؟!! ............من اختاره لك من الأساس ؟!! ... )
استدار محمد ينظر الى القميص في يدها فقال مكشرا
( أي قميص يثير بداخلك الشعور بالحيرة تفكير من اختاره لحظة اختياره ..... فاعلمي أنه من اختيار حاتم )
نقلت كرمة عينيها من محمد الى القميص المخطط بالازرق و الابيض ... و هي مجعدة انفها ...
ثم قالت بصدق
( والله معك كل الحق يا محمد ..... اي قميصٍ هذا ؟!! .... لا ينقصك و أنت ترتديه سوى الجريدة تحت ذراع و البطيخة تحت الذراع الآخر ..... ماذا يظنك والدك ؟!! .... كاتب في الأرشيف ؟!! ..... )
نظر محمد الى القميص في يدها و هو يحمل عدة من القمصان القطنية الرياضية بين يديه ....
و قال بغيظ ...
( منذ أن انفصل عن أمي وهو يصر على معاملتي و كأنني أصغر سنا مما كنته و هما متزوجان ...... )
أخفضت كرمة القميص و هي تنظر الى محمد متأملة طويلا ... ثم جلست على حافة السرير و هي تسأله بهدوء خافت
( هل يزعجك كثيرا موضوع طلاقهما ؟!! ......... )
لم يرد محمد لفترة .... ثم لم يلبث ان هز كتفه وهو يقول بلا مبالاة
( اعتقد أن هذا أفضل كما قال حاتم لي تمهيدا للموضوع ....... )
سكت قليلا بينما كانت كرمة متفهمة تماما ... احساسه حينها مهما بدى متفهما ظاهريا .. بينما تابع محمد بهدوء
( لقد أخبرني حينها أنه أحيانا يكون من الأفضل لزوجين أن ينفصلا كي حين تختلف بهما الطرق .... فيكون الانفصال هو الحل الأمثل ليحافظا على الحب بينهما ....... )
شحب وجه كرمة فجأة .... و هي تقريبا تكاد تسمع صوت حاتم ينطق بهذا الكلام بالفعل ... و قد وجد هذا الكلام صداه بداخلها ... مما جعل ملامحها تمتقع قليلا .... هل هذه هي الحقيقة ؟!! ....
أن يكون الإنفصال حلا للحفاظ على الحب ؟!! ....
ارتبكت و هي تطرق برأسها هامسة لنفسها ..
" الكلام منمق و جميل .... لكن لو تم تطبيقه و التصديق عليه ستكون كارثة ..... أنا أريد أن أخلع حبا بداخلي ... لا الحفاظ عليه ..... لا أستطيع ..... اخلاصي لحاتم يمزق روحي كل يوم و كل ليلة ... "
قال محمد مقاطعا سيل أفكارها المرتبكة ...
( لقد أخبرني حاتم أنه سيظل يحب أمي دائما ...... و لن تتغير مكانتها لديه اطلاقا ... )
و كأن أحدهم سكب فوقها دلوا من الماء البارد ..... فبهتت ملامحها أكثر و هي تضم القميص بين قبضتيها المحكمتين أكثر .... لتقول بخفوت
( حقا !! ...... هذا ..... رائع ... )
لم يبدو على محمد أنه قد أدرك الخطأ العفوي الذي وقع به ... فتابع مجددا ...
( الحقيقة أن خلافهما في النهاية قد زاد كثيرا .... حتى أنني كنت أشعر بالملل و الرغبة في الهروب من البيت .... )
نظر اليها و رفع حاجبه وهو يقول بلهجة ذات مغزى
( لكن بصراحة .... كان حاتم دائما يحاول التحكم بصوته , لم أره يصرخ الا معك أنتِ .... )
اتسعت عينا كرمة و فغرت فمها و هي تقول بصوت باهت لا حياة به
( حقا !! ....... )
رد محمد ببساطة
( نعم ..... أنتما لا تتوقفان عن الشجار و الصراخ كديوك المصارعة ..... حتى تلك المسابقة تم تحريمها دوليا بينما أنتما لا تزالان تصرخان .... بت لا أستطيع النوم من صوتيكما .... )
هز رأسه بيأس وهو يتجه لإحضار المزيد من أغراضه وهو يقول بخفوت
( لماذا يتزوج اي اثنين طالما أن بينهما كل هذا القدر من الخلاف !! ...... حتى أمي تتشاجر مع زوجها طوال الوقت و تصرخ دائما ..... و أنا أعتقد في هذه الحالة أنهما على وشكِ الإنفصال ايضا ..... أي أننا لم نحقق أي هدفٍ يرجى من حكمة حاتم الذهبية ...... )
هنا شهقت كرمة دون صوت .... ففغرت شفتيها أكثر و هي تنظر الى محمد الذي لا يدرك أثناء تحركه هنا و هناك بأنه كان يلقي البنزين على النار في كل ما ينطق به ....
شعرت كرمة فجأة أن حياتها مع حاتم مهددة بقوى أكبر دون أن تنتبه لها من قبل !!
فسألت محمد محاولة السيطرة على ثبات صوتها قدر الإمكان ....
( هل تظن أن والدتك على وشك ال ....... الطلاق !! ......)
رد محمد وهو يضع المزيد من أدواته في الحقيبة
( أنا شخصيا لن أندهش لو حدث ..... بت أعلم ان الإحتمال الأكبر في الزواج هو الطلاق .... )
ابتلعت كرمة ريقها و هي تضم القميص أكثر الى صدرها بشرود دون أن تعي ...
لم تسأل نفسها يوما عن طبيعة مشاعر حاتم تجاه زوجته السابقة .... و لم تهتم اطلاقا لسؤاله .....
و لم يخطر ببالها كذلك من قبل احتمالية أن تنفصل عن زوجها الحالي ....
فلو هذا حدث .........
كل ضمير في هذا العالم سيرجح عودتها لحاتم من أجل مصلحة محمد !! ......
فقالت كرمة بخفوت و هي تتطلع الى وجه محمد الجانبي و هو منحنيا ليرتب أشياءه في حقيبته الخاصة ...
( و لو حدث هذا لا قدر الله ..... هل ستتمنى أن تعود والدتك الى والدك .... و تجتمعون سويا ؟!! ....)
نظر محمد اليها بدهشة و كان هذا أول انطباع حيوي يصاب به منذ أن بدآ حوارهما ... فقال بدهشة
( كيف ؟!! ......... و أنتِ موجودة ..... هل نسيتِ أنك زوجة أبي الآن ؟!! ....... )
أطرقت كرمة بوجهها و هي تقول بشرود
( نعم ...... معك حق ...... كيف و أنا موجودة !! ....... )
ترك محمد أغراضه وهو ينظر اليها بتأمل .... ثم جلس بجوارها على حافة السرير ... و مما أثار دهشة كرمة ... أنه مد يده ليلتقط احدى يديها الممسكتين بالقميص المسكين من عنقه حتى اختنق و قفد كيه الأنيق ....
نظرت كرمة بصمت الى يدها في يد محمد التي قاربتها حجما ... فضغطت عليها بشدة و ابتسمت .... ليقول محمد بخفوت بعدها
( لا أريد تركك بمفردك مع حاتم !! ...... خاصة و أن أمينة تذهب الى مدينتها كلما ذهبت أنا لأمي .... اي أنه سينتهز الفرصة و يتنمر عليك بمناسبة و بدون مناسبة .... )
عبست كرمة قليلا على الرغم من انها لم تفقد ابتسامتها .. لكنها قالت بخفوت و ثقة
( حاتم لم يفعل ذلك من قبل ....... أنت تظلمه , .... لقد ساعدني كثيرا و كان بجواري طوال الوقت )
شدد على قبضتها و هو ينظر الى كفيهما قليلا ثم قال بصدق
( هل تودين أن أبقى ؟؟ ...... يمكنني الإعتذار لأمي هذه المرة حتى تستقر أوضاعك هنا .... )
اتسعت عينا كرمة و هي تسمع منه تلك التضحية ..... ففغرت شفتيها و هي تهمس بذهول
( محمد !! ............ أنه ألطف شيء قلته لي ........ )
سرعان ما تخلت عن الحواجز و هي تضمه الى صدرها بقوةٍ لتغمض عينيها على شعره الجميل و تقول
( كم أتمنى لو وافقت على عرضك و طلبت منك البقاء ....... لكن كرم أخلاقك يجبرني على أن أعاملك بالمثل و الا أحرمك من أمك ...... أنا أكثر انسانة من الممكن أن تتفهم اشتياقها اليك ..... )
رد محمد بعد فترة وهو يربت على كتفها تلقائيا و كأنه اعتاد المساندة رغم حداثة سنه
( أحيانا لا أشعر بأنها تشتاق الي الى تلك الدرجة ........... )
اتسعت عينا كرمة و هي تبعده عنها قليلا لتمسك بكتفيه و تنظر اليه قائلة بدهشة
( لماذا تقول هذا يا محمد ؟!! ............ )
هز كتفه وهو يقول بعدم اقتناع ...
( لا أعرف .... فقط لا أشعر بها مشتاقة لي كل هذا القدر ....... )
تنهدت كرمة بتعاطف ثم قالت بهدوء
( الأم عادة لا تظهر عليها المشاعر بمثل هذا الوضوح .... انها تظهر فقط على من حرمت من نعمة الأمومة .... )
نظرت الى عيني محمد مليا ثم قالت مبتسمة متشجعة
( يبدو أن حالتي قد أثرت عليك ..... اذهب و استمتع بوقتك مع أمك و ان شاء الله لن يكون هناك أي انفصال مجددا ...... )
لم يسمعها محمد و هي تعد بكل حسم و صلابة بداخلها
" سوف أتأكد من ذلك ....... "
قال محمد بلهجة تآمر
( أستطيع أن أقنع أمينة بالبقاء معكِ هنا ...... كي لا ينفرد بكِ حاتم ... )
تجمدت كرمة مكانها و هي ترفع حاجبا شريرا لتقول من بين أسنانها ...
( لو بقت أمينة معنا هنا ... فستقرأ في الصحف خبر مقتلي على يد حاتم بدافع من مدبرة المنزل .... )
قال محمد متملقا
( هيا يا كمرة ..... ليس الى تلك الدرجة !! ..... انها تحبك صدقيني ..... )
قالت كرمة بتشكك
( تحبني من اي جهة بالضبط ؟!! ..... جهة الذهاب بلا عودة ربما .... )
قال محمد وهو يربت على كفها برفق
( حسنا ..... اتعدينني الا تتهوري و تتركي البيت تحت اي ظرف الى ان اعود ؟؟ ....... حتى لو استنفذ كل حبيبات الصبر لديك ِ .....)
حينها اتسعت ابتسامة كرمة تدريجيا ... حتى شملت وجهها كله و هي تقول بخفوت ضامة قبضتها على صدرها بوعد و شرف
( لن أمنحه الفرصة ....... أعدك ..... )
فمنحها تحية الكشافة و هو يتقبل منها الوعد ... بينما عادت لتجذبه اليها و هي تقول مجددا
( سأشتاق اليك ..... جدا .......)
سمعا حينها صوتا رجوليا متذمرا من عند الباب يقول بخشونة
( حسنا فهمنا انكِ ستشتاقين اليه ...... هلا تركته ينهي ترتيب اغراضه من فضلك !! .... )
ابتعد محمد عن كرمة و هو ينظر الى حاتم الذي كان يقف عابسا عند الباب ...
بينما ارتبكت كرمة قليلا و هي تنظر اليه بدقة .... محاولة قراءة أفكاره و عما وصل اليه في أثناء جريه المنفرد ....
كان ينظر اليها بعينين تتألقان ... و كأنه يحتويها كلها , و كان غاضبا نوعا ما .....
عبست هي الأخرى فقامت من مكانها لتقول متجاهلة حاتم تماما
( حسنا يا محمد .... سأتركك كي لا أعطلك أكثر .... و سأذهب لتناول افطاري ..... )
ثم خرجت متجاوزة حاتم الذي نظر اليها من فوق كتفه بصمت .... لكنها تجاهلت نظرته كذلك و ابتعدت تحت انظاره التي كانت تعرف جيدا أنها تلاحقها بعنف .....
تجولت كرمة في البيت سريعا .... الى أن وجدت العلبة الملفوفة ....
حينها انتابتها روح شريرة مغتاظة منه , فنظرت اليها بانتصار و سارعت اليها تفض الورق الذي يغلفها ...
و فتحت العلبة .....
شعرت به خلفها يتحرك بخطواتٍ خفيفةٍ كخطواتِ نمر متحفز ...
فاستدارت تنظر اليه نظرة عابرة , قبل ان تلتقط واحدة من الكعكات المحلاة بالسكر .....
ثم اتجهت بتباطؤ الى غرفتها و في يدها الأخرى المجلة التي وجدتها تحت العلبة ......
و ما ان دخلت حتى ارهفت سمعها محاولة الوصول الى مؤشر غضبه الآن و معرفة الى اين وصل ؟؟ ....
لكنها سارعت و جلست بلا مبالاة على كرسي غرفة النوم و هي تضع ساقا فوق الأخرى حين سمعته يقترب من الغرفة ليدخل بعدها مباشرة ... ثم يغلق الباب خلفه ....
وقف أمامها كمارد ضخم وهو مكتفا ذراعيه .... بينما هي تقضم كعكتها بكل تلذذ .. متصفحة المجلة ...
ساد صمت طويل .... بينما هو لا يزال في مكانه , الى أن شعرت بالتوتر و القلق ...
لم تستطع منع نفسها من النظر اليه ... فصدمتها طلته الضخمة وهو يقف عابسا بملامح حادة ...
مكتفا ذراعيه , بينما قميصه القطني مبلل كحال خصلات شعره ....
ارتبكت قليلا من الهالة الرجولية المحيطة به .... و ملامح التملك العاصفة الظاهرة على وجهه ...
فشعرت بأنها قد استفزته أكثر من اللازم ... الا أنها سرعان ما نبذت ذلك القلق بقوةٍ و هي تنهر نفسها عن القلق و الخوف لمجرد أنها تناولت فطورها بدونه ...
و ماذا عنه !! .... لقد اصر على الخروج بمفرده ... للتفكير .... و كأنه سيفكر كيف سيعاقبها ؟!!
شعرت بالغيظ من اسلوبه هذا ...... لذا حاولت استفزازه الآن ....
قال حاتم فجأة بصوتٍ قاطع
( نعم أنتِ محقة فيما تفكرين به ...... لقد تماديتِ ........ كثيرا ... )
فغرت شفتيها قليلا و هي تنظر اليه .... لكنها عادت لتزم شفتيها و هي ترفع ذقنها لتقول بعناد
( لأنني تناولت كعكة !! ...... ربما يجب عليك اذن أن تحيط الثلاجة بسلك شائك ... و تقوم بكهربة الأطعمة ..... )
ثم دون كلمة أخرى فتحت فمها لتقضط قطعة أكبر و تمضغها أمام عينيه الغاضبتين ....
فقال بصوت خافت خطير
( هلا تعطفتِ و اخبرتني سبب هذا المزاج الشرس !! ....... على ما أذكر هو انني قد تركتك في حالٍ أفضل قبل خروجي ..... )
كانت تتعمد لعق السكر من على شفتيها ببرود أمامه .... ثم قالت بعد فترة متمهلة
( أنا في أفضل حال ...... أنت فقط من تقف أمامي بمزاج دبٍ شرس لمجرد أنني اتناول كعكة يتيمة ....)
قال حاتم بصوتٍ مشدود
( لقد اتفقنا أن نتناول طعامنا سويا .......)
نهضت كرمة من مكانها و هي تقول بقوة
( لا .... لم نتفق , بل كان قرارا منك ..... و انا امتثلت له , لذا يمكنني تغييره في أي وقتٍ أريد ....)
استدارت عنه و هي تقول بلهجة ٍ ذات مغزى
( خاصة حين تستثنيني من باقي نشاطاتك .........)
قال بصوتٍ هادىء لكنه قاصف
( أخبرتك السبب ..........)
عادت لتلتفت اليه و هي تنظر اليه شزرا ..... ثم قالت بعنف
( آآآه عن كوني مغرية و سحري لا يقاوم أثناء جريي !!! ....... اعذرني لست مقتنعة , حاول أن تجد عرا أفضل ......)
عبس بشدة هذه المرة و هو ينظر اليها بغضب و كأنها اصيبت بمسٍ من الجنون .... فقال بصوت هادىء خطير
( ماذا بكِ يا كرمة ؟!! ........ الا تملكين الشجاعة لإخباري بما يغضبك حقا .... بدلا من التعلل بأعذارٍ تظهرك بمظهر من سقطت على رأسه قالب طوب .....)
عبست بشدة و هي تزفر بغضب ..... ثم ابتعدت عنه و هي تقول بحدة مبالغ فيها
( سأذهب لأعد الإفطار لمحمد ..... أما أنت فيمكنك اعداد افطارك وحدك كما ستتناوله تماما ... )
لكن و قبل ان تتجاوزه للمرة الثانية ... كان قد اتعقل خصرها ليرفعها اليه وهو يقول من بين أسنانه
( ماذا بكِ ؟؟ ......... )
هتفت كرمة و هي تلوح بساقيها هاتفة بغضب
( انزلني يا حاتم ..... توقف عن تلك العادة في حملي كلما اردت استنطاقي ....أنا لست طفلة صغيرة سترهبها بحجمك ..)
قال حاتم بقوةٍ و كأنه يحمل دمية لا تزن شيئا
( احساس الطفلة ستجربيه لاحقا حين اضربك على مؤخرتك لو تماديتِ في عنادك .....)
هتفت بغضب و هي تلوح ساقيها اكثر كي تسقط من بين ذراعيه
( توقف يا حاتم و أنزلني حالا ..... أنا لا أسمح لك بمخاطبتي بتك الطريقة .....)
قال حاتم بهدوء و قد بدت التسلية تظهر عليه قليلا
( حسنا امامك عشرة ثواني لتنطقي قبل ان انتقل للمرحلة الثانية في استجوابك .... )
زمت كرمة شفتيها بعناد .... فقال حاتم بهدوء وهو ينظر الى وجهها
( واحد ..... اثنان ....... ثلاثة ...... اربع....... )
برقت عينا كرمة بتحدي و غضب قبل ان تعض على المتبقي من كعكتها المحلاة .... و دون سابق انذار
انحنت الى الأمام لتمسح فمها المغطى بالسكر في كم قميصه الرياضي .....
اتسعت عينا حاتم قليلا و ارتفع حاجباه وهو ينظر الى فمها ذو السكر المنطبع على كم قميصه .. فقال بدهشة خافتة
( أنتِ فعلا غاضبة !!! .......)
ثم لم يلبث أن قال بصوتٍ حاد
( و مع ذلك .... حركتك المتهورة تلك تسببت في القضاء على الخمس ثوانٍ المتبقية )
ثم انزلها على قدميها و سحبها من يدها خلف حتى جلس على الكرسي فوقعت على ركبتيه , حينها صرخت عاليا بذعرو غضب مجنون
( اياك يا حاتم ....... ايااااااااك ....... )
قال حاتم و قد عادت اليه روح التسلية وهو يقضي على مقاومتها الواهية بسهولة
( ماذا بكِ اذن ........ و قبل ان تكبي اعلمي انكِ بين يدي ..... )
سكنت كرمة مكانها قليلا و هي تزفر بقوة و قنوط ..... حينها شعرت بيد حاتم تداعب شعرها برقة و يتخلله باصابعه .... ليقول بخفوت رقيق
( يبدو انني لن افهمك ابدا يا كرمتي يا عنقود العنب ......... )
كلامه الخافت عاد ليتلاعب بها و يدغدغ أعصابها .... فأغمضت عينيها قليلا ... قبل أن تتنهد برقة
ثم قالت أخيرا
( أنت تستثنيني من بعض أجزاء من حياتك .... على الرغم من أنك لا تسمح لي بالمثل )
ارتفع حاجبي حاتم قليلا ,, فأنهضها ليجلسها على ركبتيه وهو ينظر الى وجهها المحمر الطازج ... و شفتيها المتكورتين الشهيتين ....و شعرها المجنون الرائع الجمال ...
حتى صدرها اللاهث جعل منها طفلة متمردة شهية .... و هي لحسن الحظ زوجته .....
تنهد وهو يشعر بنشوى الكلمة مجددا ... و التي لن يملها أبدا ...
فقال بخفوت و كأنه يحايلها بالفعل
( متى استثنيتك ؟!! ...... كل هذا من اجل الجري صباحا لبعض الوقت ؟!!! ....)
زمت شفتيها بعناد و هي تهز رأسها نفيا بقوة ... ثم قالت بحدة
( لا ليس ذلك ...... أنت خرجت لتقرر أمرا ما ... ما هو ؟!!! .... معاقبتي ؟!!... هل لازلت غاضبا مني ؟!!! ... و ماذا عن زوجتك .... انت لم تكلمنى عنها مطلقا .... لم تكلمني عن مشاعرك تجاهها ابدا ..... و محمد ... )
قاطعها حاتم بقوةٍ وهو يقول مذهولا
( هوووو هووووو .... انتظري لحظة ..... أولا ... بالنسبةِ لمشاعري تجاهها فهذا أمر لا يقبل السؤال و لا الجدل .... أنا أعشقها ... و لن أتخلى عن حبها مطلقا ....)
شعرت كرمة بصدمةٍ كبرى و كأنها لطمتها بعنف ... ففغرت شفتيها بذهول قبل أن تهمس بصوتٍ غريب
( اذن لماذا ؟!! ...... كيف .... ماذا عني اذن !! ......)
زفر حاتم بقوةٍ و غضب وهو يقول من بين أسنانه
( كما تخيلت تماما ...... أنتِ تقصدين والدة محمد , او زوجتي السابقة .... لكنك كالعادة تتجاهلين أهم الصفات أثناء الحديث .... مما يجعلك تقذفين قوالب حجرا من فمك عوضا عن الكلمات ...)
ارتبكت كرمة بشدة أمام هذا الهجوم .... بينما مشاعره التي نطق بها لا تزال تداعب اذنها و هي تعلم الان انها المقصودة بها .....
رفع ذقنها اليه يمنعها عن المزيد من التفكير القاتم وهو يقول ناظرا الى عينيها ....
( كرمة ...... اسمعيني جيدا , والدة محمد ستظل دائما لها مكانة خاصة بقلبي ... لأنها أم ابني الوحيد .... لكن العشق شيء آخر .....العشق هو لكِ انتِ وحدك ..... هذا شيء خارج عن ارادتي و حساباتي ... )
فكرت كرمة في كلامه مليا و هي تطرق برأسها ..... و رغما عنها شرد تفكيرها بفكرة واحدة
" هل سيتقبل منها نفس ما قاله ؟!! ..... أن يكون محمد ذو مكانةٍ خاصة ... لن تستطيع ان تمحوها بسهولة ... و مع ذلك , هذا لم يمنع ان ينفصلا ...... "
أظلمت عيناها قليلا أمام عينيه .... فأدرك أنها عادت للماضي من جديد ....
كم أنتِ قاسية ايتها المدللة !! ....
لقد كاد ان يرقص طربا ما ان استشعر بادرة غيرة في كلماتها ..... لكنها عادت و بمنتهى القسوة , أغلقت الأبواب في وجهه
هدر قليلا بصوتٍ جهوري
( كرمة ............. )
انتفضت مكانها و رفعت يدها الى صدرها و هي تهمس بصدمة
( ماذا ؟!! ......... افزعتني .......)
زم شفتيه بغضب ... و انقبضت اصابعه و كانه يتمنى لو اقتلع عقلها .. و قام بمسح من عليه ليعيد تحميله من جديد وفق هواه .....
لكنه قال بصوتٍ مشتد النبرات
( اذن بما انكِ أثبتِ حماقة لا تضاهى ...... اسمحي لي أن أريكِ ثمرة تفكيري لمدة ساعة واحدة خرجت من بين براثنك .... )
ثم نهض و انهضها معه .... و دون كلمة جذبها خلفه ليخرجا من الغرفة ... فقالت بحيرة
( الى اين يا حاتم ؟؟!! .......... )
الا انه لم يجبها ..... بل ساقها خلفه كفرسةٍ روضة تسرع الخطا لحاقا به ... الى ان فتح باب غرفة ضيوف غير مستغلة اطلاقا .....
ثم جذبها خلفه الى داخل الغرفة .... ووقف ينظر اليها مبتسما , ابتسامة جميلة غضنت زاويتي عينيه
ثم همس بخفوت وهو يحيط خصرها بذراعيه
( لقد اخترته وردي ........ )
كانت كرمة في حالة حيرة من كل شيء .... غير مستوعبة لما يقوله ,,, فسألته بخفوت
(ماذا ؟!! ....... أنا لا افهمك !! ........ )
أشار بعينيه الى أرض الغرفة وهو يقول مبتسما ......
( دلو الطلاء ...... اخترته وردي , دون الحاجة للسؤال ..... فأنا أريدها فتاة ...... )
ففغرت كرمة شفتيها و هي تنظر الى حيث أشار لترى دلوا مغلقا من الطلاء الوردي الفاتح ....
حينها شهقت بصمت و هي ترفع يدها لوجنتها بينما همست بذهول
( حاتم !! ...... ظننتك لن تقبل الكلام معي في الأمر مجددا ...... )
جذبها اليه بقوةٍ حتى كاد أن يصهر عظامها وهو يقول بنفسٍ هادر ساخن
( هل أنتِ مجنونة !! ...... هل تخيلتِ في أحلامك المريضة ... انني من الممكن أن أتخلى عن صورتك و أنتِ تحملين طفلة مني ......)
صمت قليلا وهو يمد يده ليلامس بطنها المسطحة .... بينما عيناه شردتا بحركة أصابعه عليها ....
رمشت كرمة بدمعتين حبيستين قبل أن تهمس باختناق
( لكنني لست حاملا .......... )
رفع وجهه اليها لينظر اليها نظرة انصهرت لها عظامها .... ثم قال بخفوت و ثقة
( ستكونين ............خاصة و انني انوى استغلال ذهاب محمد الى زالدته ... و استهلاك كل لحظة في خلوتنا النادرة الحدوث .... )
احمر وجه كرمة بشدة ..... بينما ضحكت من بين دموعها التى انسابت على وجنتيها و هي تتنفس باختناق ...
ثم لم تلبث أن هتفت و هي تغطي وجهها لتبكي بقوة
( ياللهي !!! ......... ياللهي لا أصدق أن حلمي من الممكن أن يتحقق!! ....)
ضمها اليه بقوةٍ وهو يقبل كل ذرةٍ بوجهها .... حتى ذابت به و هي تتعلق بعنقه ....
تتقبل منه و تمنحه ......
قبلاتٍ مستعرة ...... كانت اقوى منهما معا ...... وهو ينهل من عنقها و ملامح وجهها بشغف , بينما هي برقتها تتلمس بشرته بشفتيها بنعومة كانت تثير جنونه اكثر .....
انتفضا فجأة مبتعدين عن بعضهما ... على صوت طرقة عالية ... و صوت امينة الذي بدا كقاصفة لهب بين انغام اللحن الذي كانا يعزفاه حاليا ... و هي تقول بغضب
( هل تدركان انكما تركتما الباب مفتوحا !! ....... و ان هناك صبي صغير يمر في البيت بين الحين و الآخر !!)
رفعت كرمة يدها الى شفتيها المرتجفتين و هي تضحك بذهول و جنون .... بينما شتم حاتم بصوتٍ لم يسمعه سواها وهو لا يزال يتنفس بصعوبة .....
بينما تابعت امينة بازدراء
( قلة ادب !و انحطاط ........... )
ثم غادرت بعد ان تركت بصمتها الاخيرة في صوت شفتيها المحتقر .....
و حين نظر حاتم الى كرمة بغضب رفعت يديها استسلاما و هي تقول ببراءة
( معها حق ....... بصراحة...... انحطاطك اصبح لا يمكن السكوت عليه ........ )
جرت من بين يديه الغاضبتين و هي تضحك .... ثم استدارت تنظر اليه من بين ضحكاتها و هي تقول بعبث
( يا منحط ...............)
ثم سارعت لتجري منه , الا انه تمكن من امساكها بسهولةٍ ليهمس من خلفها ملامسا عنقها
( طعم السكر في قبلاتك جنوووووون ..... قرار , تعمم الكعكات المحلاة كل يوم .... و خاصة ليلا )
ثم لم يلبث أن ضم خصرها اليه حتى التصق ظهرها الى صدره وهو يهمس بشوقٍ جارف
( متى يأتي الليل !!!! ........لقد طال اليوم .... . )
ضحكت كرمة عاليا و هي ترجع رأسها للخلف فارتطمت بانفه بقوة ........
شهقت و هي تسمع تأوهه فاستدارت اليه و هي تنظر اليه بهلع هاتفة
( حاتم ........ هل انت بخير ؟!! ........ )
دلك انفه بقوةٍ بينما احمرت عيناه ..... لكنه قال من بين اسنانه
( تبا للسكر ..... يجعلك مجنونة و ذات طاقاتٍ خطيرة ....... )
عادت لتضحك و هي تقول بخبث
( اذن ربما ستفيدنا تلك الطاقات لاحقا ............ )
حاول الإمساك بها مجددا الا أنها هربت منه و هي تضحك بقوةٍ ... فارتطمت بأمينة اثناء خروجها ... و التي هتفت بصرامة
( قليلي الأدب ...... ماذا تركتما للمراهقين !! .....)
صرخت كرمة و هي تضحك متابعة جريها
( قولي له هو ......... هو المنحط الأكبر .......)
بينما استطاع حاتم تجاوز أمينة ليلحق بكرمة جريا الى أن وصل لها و رفعها من خصرها بذراعٍ واحد و هي تضحك بهستيرية ....
سمعا رنين الباب فجأة .... فأنزلها لاهثا قليلا وهو يقول بيأس
( انها والدة محمد .......... يبدو أننا لن نجد الفرصة في المحاولة ابدا .... ربما علينا أن نعيد دلو الطلاء و نسترد ثمنه .....)
جذبته كرمة من مقدمة قميصه القطني لتقول لاهثة مهددة
( لو اقتربت من دلوي الوردي ..... ستجد قمصانك كلها غارقة به ........ و أنا أعني ما أقول )
ثم ابتعدت عنه تختال أمامه بخطواتها برقة ...بينما صفر هامسا من بين شفتيه ليقول بخفوت
( وحش وحش ..........)
التفتت اليه لتقول بصرامة
( كفى انحطاطا ..........يا أبا الأولاد ....)
تسمر مكانه وهو ينظر اليها بعينين تتألقان ...... يسأل نفسه هامسا
" أي حظ سعيد جمعني بكِ !! ......"
.................................................. .................................................. ..................
أغلقت كرمة حاسبها ليلا و هي تضغط عينيها بإرهاق .....
لقد أمضت فترة طويلة في العمل على رسالتها ...... حتى نست الوقت تماما , فرفعت وجهها بسرعة تنظر الى حاتم الذي لم تسمع له صوتا منذ فترة طويلة .... بعد أن اصر على البقاء معها الى أن تنهى دراسة اليوم ....
فغرت كرمة شفتيها قليلا و هي تراه ممددا على الأريكة و ذراعه تحت رأسه و قد راح في سبات عميق ....
لا تعلم لماذا أثر بها منظره المرهق و هو ينتظرها الى أن تنتهي ... بينما يرفض الذهاب للنوم بمفرده ....
رفعت يدها لتستند بذقنها الى كفها و هي تتأمل جسده الرجولي القوي .....
ماذا به يجعلها تشعر و كأنه طفلها المعلق بساقها ..... على الرغم من كل تحكماته الخانقة ....
عادت لتتنهد بصمت .... ثم حانت منها التفاتة الى هاتفها الموضوع على سطح المكتب بجوارها ....
لم يرن منذ فجر اليوم ......
طوال الوقت و هي تنظر اليه بصمت و كأنها ........ و كأنها تنتظر ان تسمع رنينه
جزء خفي بداخلها جعلها تشعر بحنق رهيب
ماذا كان يريد بذلك الاتصال ؟!! ..... لو اراد حقا مكالمتها لأعاد الإتصال .....
لقد عيشها في رعبٍ جعلها تفقد القدرة على التنفس .... ثم اختفى فجأة ....
أطرقت بوجهها قليلا و هي تتذكر الموقف المريب الذي وضعت نفسها به صباحا .....
حين كانا يتناولان فطورهما .... فنظرت اليه بصمت و قالت بخفوت و دون مقدمات
( حاتم ...... سأغير رقم هاتفي ..... )
حينها رفع وجهه اليها بدهشة ... لم تلبث ان تحولت الى لمحة غضب وهو يقول بخفوت
( لماذا ؟!! ...... هل يعاكسك أحد ...... هاتي هاتفك دعيني أراه )
شعرت حينها أنها على وشكِ الإصابة بانهيار عصبي ... فسارعت للقول
( لا ...... لا ..... الأمر ليس ذا أهمية ...... )
قال حاتم بصلابة
( لو شخص ما يقصدك شخصيا فسيحصل على رقمك كل مرة بنتهى السهولة ..... هاتي هاتفك يا كرمة و أنا سأتصرف .... )
حينها قالت بصوتٍ مشتدٍ قليلا
( لا شيء من هذا القبيل يا حاتم ...... انسى الأمر ارجوك )
رمقها حاتم وقتها بنظرةٍ غريبة .... فسارعت بدفن وجهها في الطبق و هي تدعو الله ان ينسى الأمر ...
و بالفعل نساه و كان طبيعيا تماما طوال اليوم ....
لدرجة انه ظل مستيقظا معها الى ان تنتهى .... و الى ان غلبه النوم اخيرا ......
الحقيقة انها تشعر بارهاق ذهني و عصبي يفوق الوصف .... و كل ما تتمناه حاليا هو الذهاب الى السرير مباشرة .....
شيعت هاتفها بنظرةٍ مضطربة اخيرة .... قبل ان تنهض في اتجاه حاتم .....
انحنت لتجثو على ركبتيها امامه و هي تتأمل وسامته الخاطفة للقلب .... و هي تهمس لنفسها
( هذا الرجل الوسيم ...... هو زوجي .... زوجي أنا ....... )
مدت يدها تتلمس ملامحه بصمت و كأنها تدرسها .... أو ترسمها ..... و كأنها تتعرف عليه كما قالت له قبلا ....
و ما أن تاهت أصابعها في شعره حتى همست بخفوت مرهق
( حاتم .......... حاتم ...... )
ابتسمت قليلا و هي تعرف جيدا نواياه ما أن يستيقظ ..... لكنها فعلا متعبة ...لذا همست من باب الضمير بصوتٍ لا يسمع تقريبا
" حاتم ......... حاتم "
لم يرد و لم يبدو عليه أنه من عالم الأحياء أصلا .....
فتنهدت بنظرة حزن مزيفة و هي تهمس ببراءة
" هل نمت ؟!! ...... والله لقد كسرت بخاطري ....... ....... "
رمشت بعينيها بوداعة و قامت من مكانها و هي تكاد تجري الى السرير ....
الا أن قبضة احكمت على معصمها جذبتها لتقع على صدره بقوةٍ ... و هي تصرخ عاليا
و ما أن تمكنت من رفع وجهها الغاضب الى وجهه المقابل لوجهها .... حتى هتفت بحدة
( الن تتوقف عن تلك الحركات ابدا !!! ..... تبالك افزعتني )
الا ان حاتم قال و عيناه تبرقان بشيطنة
( اذن .... فقد كسرت بخاطرك !!! ........ اذن تعالي لأرممه لك يا مدللة .... )
و قبل ان تهتف بأنها متعبة .... كان هو قد دار بها ليسجنها بمهارةٍ حتى علا وجهه وهو يشرف عليها بجموح قائلا بصوتٍ مشتعل
( على من يا حلوة !! ........ نحن من اخترعنا تلك الحركات و درسناها في الكتب .... )
همست بدلال ناعم
( حاتم ............ )
فقال بصوتٍ يحترق
( اسم هذا أم بقايا السكر على شفتيك ؟!!! ....... )
.................................................. .................................................. .................
ليلة المعرض ...
وقف مكانه مستندا بظهره الى سيارته في الظلام ينتظر خروجها اليه ....
كان في حالةٍ من الشرود و التفكير العميق منذ يومين .... و لم يهاتفها خلالهما سوى اليوم صباحا ... حتى أنه لم يخاطبها شخصيا ... بل ترك لها رسالة مع السيدة منيرة ...
ان تستعد مساءا ليقلها الى صالة العرض .....
على الأرجح أنها غاضبة منه الآن .... و ربما تعتقد أنه قد تخلى عنها و نسيها ...
آخر مرة رآها .... كانت متشبثة به كطفلة صغيرة , تخشى أن يذهب و يتركها ...... عيناها كانتا تستجديان بقاءه ,.....
لكن كبريائها منعها من أن تترجاه لفظا .,........
أطرق بوجهه ينظر الى سلسلة مفاتيحه ذات الدمية الخشبية الصغيرة ... و التي اخذ يؤرجحها حول إصبعه بشرود ......
لو امتنعت عن الذهاب معه الآن فلن يلومها ...... فلقد تعمد تجنبها خلال يومين و تحديدا منذ أن غادر القصر تاركا المزيد من الأوحال خلفه .... و أخته أول من تغرق بها دون ارادة او حتى الرغبة في المقاومة ...
لذا كان من الضغط بحيث لم يستطع مواجهة ...... عيني ملك الصغيرة الى اليوم ......
أفاق من شروده على رؤية باب البيت يفتح ..... فأصبح كهالة من الضوء الذهبي وسط الظلام السائد ....
رفع وجهه ينظر بصمت ..... الى أن رآها تخرج منه ببطىء ....
توقف اصبعه عن اللعب بالدمية الخشبية .... و تسمر مكانه بملامح واجمة ... و زفرة ....
زفرة خائنة كانت مصطحبة بهمسة لم تخرج من بين شفتيه ...
" ياللهي !! .......... "
كانت تسير في اتجاهه مطرقة الرأس ..... و أقل ما يقال عنها أنها كانت تمثل كل جمال الشباب و الأنوثة معا ....
بفستانها الشيفون الوردي الشاحب ..... و المنقط بالأسود
كان أنثويا بسيطا ..... مربوطا عند الخصر بشريط أسود بينما يلامس ركبتيها و يتطاير من حولهما .....
اما شعرها !!! ..... شعرها كان امواج مسافرة على كتفها جمعت اشعة الشمس و مناجم الذهب في نهرٍ اهوج وصل الى خصرها و تعداه .....
اين تلك الضفيرة التي كانت تحجز جماله الفياض عن العالم !! .....
لقد ولى زمنها .... و تحررت موجاته من قيدها ......
كانت تقترب بأناقة ., تدس خصلات جانب وجهها الى خلف أذنها و كأنها واعية لوجوده ...
ساقاها تتقاطعان برشاقة تشبه راقصة البالية في الصندوق الذي اهداه لها .....
الى أن رفعت وجهها اليه اخيرا و كأنها قد قررت مسامحته .... فالتقت نظراتهما و توقفت على بعد خطوتين منه بصمت ... عيناها متعلقتان بعينيه .... بينما كان هو اول من قال بصوتٍ رجولي اجش قليلا
( ملك ............. )
رمشت بعينيها مرتين ... و تشابكت أصابعها على قماش فستانها و هي تسمع نبرته العميقة ... و كأنه أخبرها بوضوح عن رأيه في شكلها دون الحاجة الى النطق سوى باسمها فقط ......
كانت شفتيها متكورتين قليلا ... و كأنهما تعاتبانه ... بينما العتاب في عينيها أكثر وضوحا ... فابتسم قليلا رغم عنه ....
مجرد مرآها يبعث به الرغبة في الإبتسام .... و قتل كل من يمس هالة البراءة تلك بسوء .....
فأمال وجهه بيأس وهو يفكر بداخله هامسا
" من اين خرجتِ ايتها الصغيرة ؟!! ...... كنت مرتاحا قبل ظهورك في حياتي ..... على الأقل كنت أتظاهر بالراحة !! "
قال رائف بخفوت
( الا أستحق حتى رد السلام ؟!! .......... )
ارتبكت قليلا و عادت لتدس خصلتها خلف أذنها رغم أنها لا تزال في موضعها لم تتحرك .... فهمست ببراءة
( أنت لم تسلم علي !!! ........... )
رفع حاجبيه وهو يتظاهر بالدهشة قائلا
( يالهذا التقصير !!! ........ اعتقدت أنني سلمت عليكِ ,.... ربما كان شكلك هو من سبب لي الإرتباك اذن ... )
اتسعت عيناها و عادت لتعيد الخصلة المسكينة خلف أذنها من جديد و هي تسأل بارتباك و توتر
( شكلي !!!! .......... )
عبس رائف فجأة و هو يقف مذهولا من نفسه ...
" ماذا يفعل ؟!!! ..... أنه يقف هنا و يغازلها مازحا !!!!! ... بالله عليه ماذا يحاول أن يفعل !!! "
تنحنح أخيرا وهو يقول بصوتٍ أجش صادق لا يحمل أثرا للمزاح محاولا قدر الإمكان أن يكون حياديا
( أنتِ جميلة جدا الليلة يا ملك ....... سيحسدني كل الرجال الليلة ... )
" تبا لذلك !!! ........ تعقل يا رجل !! .... أنت تعدل من كلامك فتنحدر أكثر !! ....."
احمر وجهها بشدة حتى كاد ان يظهر لعينيه واضحا على الرغم من الضوء المعتم من حولهما ....
الا أنها همست بخفوت دون أن تنظر اليه
( انت مجامل ...... لكن شكرا لك ..... )
قال ببساطة
( مجامل !! ...... ألم تنظري الى مرآة قبل خروجك ؟! ..... )
عادت لترفع وجهها اليه بصمت ..... حينها قال بصوتٍ خافت أجش
( اصعدي للسيارة ...... لربما تمكنت من مصالحتك و تبديد نظرة العتاب تلك ...... )
عادت لترتبك اكثر و ترمش بعينيها الكبيرتين و هي تهمس بتوتر و خجل
( لم ..... انا لم ..... لم احاول معاتبتك ....... )
عاد ليبتسم قليلا قبل ان يقول بخفوت .....
( يكفي أن تنظري الي فقط يا ملك ....... )
هزت رأسها نفيا بسرعة و هي تقول بارتباك رهيب
( لم أقصد .... لا ليس هذا ما ....... )
الا أنه تحرك ليرحمها من شدة الإرتباك ....ففتح باب السيارة من خلفه و قال بخفوت لطيف
( ادخلي آنستي من فضلك ...... فقد تأخرتِ على حفلك .... )
أغمض عينيه فجأة ... و أدرك أي خطأ قد وقع به .... ففتح عينيه وهو يمسك بالباب لينظر اليها .... فرآها تخفض وجهها بصمت ... و شفتيها انفرجتا بحزن ... بينما انسدل جفناها تخفي عنه ما بهما من ألم
الا أنه لن يسمح لها .... ليس الليلة .... فقال بصوتٍ هادىء
( هل ستتركينني واقفا هكذا ؟! ............. )
انتفضت و هي تدرك قلة ذوقها ... فسارعت الى التقدم لتدخل الى السيارة ... الا أنها تعثرت بكعبها العالي و كادت ان تسقط ارضا ...
لكن يده امتدت من اللامكان فأمسكت بمرفقها بقوةٍ وهو يرفعها ليه , حتى انها استندت الى صدره قليلا و تهدل شعرها على وجهها ...
تكلم رائف بصوتٍ مختنق قليلا .. أجش بصورة مربكة
( هل أنتِ بخير ؟!! ....... )
اومأت برأسها بسرعة و هي تسارع لدفعه في صدره قليلا حتى استقامت واقفة و هي تضحك بعصبية
( لقد أصبحت خرقاء جدا ...... و من المفترض أنني سأعرض بعضا من تصميمات وعد الليلة !!... )
لم يرد عليها وهو ينظر اليها بجمود ... بينما قال بعد لحظة بخفوت أجش
( ادخلي ............ )
دخلت ملك الي السيارة فأغلق الباب خلفها بحرص و هو ينظر اليها بصمت من خلف الزجاج .... فبدت له مراهقة و هي محنية الرأس ... تتلاعب بطرف فستانها و هي ترتبه ليغطي ركبتيها ....
تنهد بقوةٍ وهو يأخذ نفسا عميقا من نسيم الليل عله يبرد القليل مما يشعر به من غضب .. و ألم .... و تعاطف معها ...
هذا لو كان مخادعا و أصر على تسميته بالتعاطف !! ....
دار رائف حول السيارة بصمت وهو مطرق الرأس يفكر في لحظة فارقة أنه الآن لن يستطيع خداع نفسه أكثر ... فمنذ اللحظة التي نطق بها بتهديده لكريم ... بأنه سيتزوجها !!!!! .....
و شعور غريب يتلبسه .... طاقة غضب فتحت بداخله قادرة على تدمير وهو يشعر بملكية حصرية ... لم يشعر بها قبل اعلان تهديده .....
لا يعلم من أين انبعث ذلك التهديد !! .... و تجاوز اللفظ حروفه ... فبات واقعا يفرض نفسه .....
ملك تخصه !!!!
رفع وجهه وهو يدور حول السيارة , ليعاود النظر الى ملك من الزجاج الأمامي للسيارة بنظرات غريبة ... و كانت هي قد رفعت وجهها لتنظر اليه بصمت .....
بينهما زجاج فاصل .... و مع ذلك شعر كلاهما أنهما مقترنان في تلك اللحظةِ بقوةٍ لا يمكن كسرها لأي من يحاول .......
جلس رائف مكانه بصمت دون أن ينظر اليها مجددا .... على الرغم من شعوره بها و هي تنظر اليه بوجهها ... فتحرك بالسيارة بصمت .....
كانت قوى غريبة تتحرك بداخله .... بينهما بمعنى اصح .... فهو يدرك أنها لم تتوقف لحظة عن النظر اليه و كأنها تنتظر منه أن يتكلم
قوى تفجرت في الوقت الخاطىء تماما ..... ليس لها سبيل أو نهاية ........
ساد بينهما الصمت المشحون طويلا ....الى أن قال رائف بخفوت أجش
( أنتِ غاضبة مني يا ملك ...... اليس كذلك ؟!! ...... )
نظرت اليه بدهشة .... قبل أن تهمس بسرعة و هي تهز رأسها نفيا
( لا ...... لا طبعا ...... لماذا أغضب منك سيد رائف ؟! ...... )
ابتسم باستياء وهو يقول بخشونة
( ها قد عدت الى سيد رائف مجددا !! ...... اذن أنا محق )
ردت ملك بصوت فاتر و كأنها تماثله عمرا بل حتى و كأنها تهزأ منه قليلا
( اعذرني ...... كلمة عمي أصعب من ان أحاول نطقها ....اشعر بالغباء من مجرد المحاولة .... . )
لم يجد سوى أن يضحك بقوة و كأنه كان يحتاج اليها كي تبدد بعضا من الكبت الذي يشعر به ....
رمشت عينا ملك ثم اتسعتا ببراءة ... و هي تسمع ضحكته القوية لأول مرة ....
ثم قال بعدها بصوتٍ أجش خافت قليلا .... مبتسم
( اذن فليكن رائف ........... )
ارتبكت ملك اكثر .... فالتفت اليها مبتسما قليلا , ثم لم يلبث ان عاد بنظره الى الطريق و هو يتنهد دون ان تعرف لذلك سببا .... بينما قال بجدية خافتة بعد عدة لحظات
( وعدتك بأن أكون الى جوارك و اختفيت الفترة السابقة ...... لكِ كل الحق أن تكوني غاضبة مني )
ليست غاضبة .... بل كانت حزينة بشكلٍ لم تستطع تفسيره ابدا ....
لقد مر عليها اليومان و كأنهما عامان .....
عامان ما بين مرارة للماضي لا تتذكرها تماما ... و بين خيانة طعنت روحها في الحاضر
لم تتخيل ان يذبحها شادي بتلك الصورة .... و بين كل ذلك كانت تنتظر اتصالا من الغريب ..... تتوق لسماع صوته وهو يخبرها بأنه هنا ..... يسألها عن حالها .....
نظرات السيدة منيرة كانت تشيعها بصمت يائس حزين في كل خطوة .... بينما بدت ورد و كأنها تحاول جاهدة التعاطف معها دون ان تستطيع حقا ...
ان كانت هي نفسها لا تملك التعاطف لنفسها .......
همست ملك بخفوت حزين و هي تنظر امامها
( لم يكد يمر سوى يومان ..... و ها انت قد حضرت )
نظر اليها بطرفِ عينيه ثم قال بصوته الأجش
( كيف كان حالك خلال هاذين اليومين ؟؟ ........ )
نظرت اليه بطرف عينيها ... فالتقط نظرة الاتهام في عينيها , لكنها سرعان ما أطرقت بوجهها عنه كي تكذب ما رأته عيناه .... لكنه كان قد رآهما و انتهى الأمر ....
فاعاد نظره للطريق بغضب .... لو تعلم كم كلفه الأمر من تفكير مضني خلال هذين اليومين ......
قالت ملك بخفوت شديد استدعى كل حواسه كي يتمكن من سماع نبرتها المهزومة
( هل من جديد ؟؟ ......... )
عاد لينظر اليها بسرعة ... فرأى توسلا بعينيها , جعله يوشك على ان يحيد عن الطريق ليهرب بها بعيدا ...
الى مكان لا يصله غيره فقط ... حيث يتمكن من حمايتها
" ياللهي ... أي عاطفة أبوية غريزية تثيرها به تلك الفتاة ... ممتزجة بشعور جديد من التملك لم يعرف الا بعد أن جهر علنا بأنه سيتزوجها ... و قد كان مجرد تهديد كي يستحث رجولة الحقير الذي غرر بها بدناءة و الآن يتنكر لها ....
فورة من السخونة اجتاحت جسده كلما عبر ذلك التهديد على ذاكرته
فزفر رائف بغضب ... دون أن يعاود الالتفاف اليها .... حينها قالت ملك بخوف
( هناك ما هو أسوأ ..... اليس كذلك ؟!! ....... )
زم شفتيه و تجنب الرد .... وهو يتذكر المحادثة السرية و التي دارت بينه و بين أعز أصدقائه ... جلال ...
ولولا أنه يثق به ثقته بنفسه و كونه أيضا محاميا .... لما أخرج السر لمخلوق قط ....
نظر جلال الى الملف الذي أخذه رائف من اكرم بصمت بعد أن قرأه جيدا ... و منه الى المحضر المحرر تجاه ملك بقسم الشرطة .....
ثم رفع رأسه الى رائف ليقول بعد صمت طويل
( آخر ما كنت اتخيله .... هو الا يكون كريم هو ابن أكرم القاضي بحق !! ... )
كان رائف يجلس أمامه وهو يسند فكه الى قبضته بصمت و بوجهٍ قاتم واجم .... ثم قال أخيرا بخفوت
( جلال ..... لولا ثقتي بك و حاجتي اليك لما تفوهت بكلمة ....أرجوك ... أنا ..... )
قاطعه جلال بهدوء
( رائف .... هل ستعرفني اليوم ؟!! ....... )
رد رائف بخفوت و هو غير قادرا على تمالك نفسه
( اعذرني يا جلال ..... الأمر خطير كما ترى .... و أنا حقا أحتاج لاستشارة احدهم .... )
عاد جلال لينظر الى الملف ... و المحضر المحرر ....
ثم رفع عينيه الى رائف ليقول بهدوء قاطع
( ما مدى أهمية تلك الفتاة بالنسبة لك يا رائف ؟!! ....... )
كان سؤالا مباغتا ... اربك كيانه , فاجفل لعدة لحظات و اختلت نظراته .... قبل ان يتمالك نفسه وهو يقول بصوت مضطرب قليلا
( إنها ..... مجرد فتاة صغيرة السن .... في مقتبل حياتها , و تعرضت لتلك الفاجعة .... صحيح أنها غريبة عني تماما , لكن ...... ضميري يأبى أن أتركها و أغمض عيني و أنا أعلم الحقيقة ..... الأمر ليس أكبر من هذا بأي صورة من الصور .... فلو كنت تتخيل أنني ولو للحظة قد ...... )
قاطعه جلال بصوت هادىء اكثر حزما ووعيا
( رائف ...... لم اسألك لأطلب منك تبريرا كي تشرح لي كل ذلك , فهو واضح وضوح الشمس ... و لم يطرأ ببالي أي معنى مختلف .... )
صمت قليلا و هو ينظر الى الأوراق أمامه .... ثم قال دون أن يرفع عينيه بلهجةٍ ذات مغزى
( حتى الآن ........ )
عقد رائف حاجبيه و أجفل بشدة أكبر من المرة الأولى .... و بان ارتباكه واضحا ..... فقال بقوة
( جلال أنت لا تفهم ......)
قاطعه جلال و هو يقول
( سبب سؤالي الوحيد ..... هو أن أعرف تحديدا أي جبهة ستختار ؟!! ....... لأن الطرق ستفترق بك و عليك الإختيار ..... )
عقد رائف حاجبيه وهو ينظر الى جلال ... يفهم ما يقوله جيدا و مع ذلك يرفض الاعتراف ... فتابع جلال قائلا وهو يرفع المحضر قائلا
( هل تعرف معنى هذه الورقة ؟!! ...... ثم هذا الملف ؟!! ......... هل استطعت الوصول للرسالة التى ارسلها اكرم اليك ؟؟ ...... انهم يرفضون الاعتراف بوجودها اصلا .... من الواضح انه المعلومات المجمعة عن تلك الفتاة صحيحة تماما .... لقد عانت من هلاوس في طفولتها , حيث فقدت النطق لفترة بعد خروج اختها ... و بعدها بدأت تصاب بالهلاوس و بدأ علاجها ........ و هذا هو ما سيلجأ اليه ...... )
صمت قليلا ثم تابع مشددا على كل كلمة
( أن كريم .... لم ... يتواجد ... بحياة ملك من الاساس ... و أن كل ذلك من وحي خيالها ..... )
كانت يد رائف مستريحة على فمه وهو يسمع جيدا .... بينما عيناه تظلمان بما استنتجه سابقا ...
ثم قال بخفوت و بصوتٍ لم يتعرف عليه ...
( و ما هو موقفها في تلك الحالة ؟؟ .......)
رد جلال دون أي مواربة
( سيء جدا يا رائف .... كلامها لن يمت للمنطق بصفة .... خاصة أنها لا تملك أي دليل على تلك الزيجة .... و أي محكمة سترفض دعواها باثبات الزواج ...)
مال رائف الى الأمام فجأة وهو يقول بوحشية
( اسمعني جيدا يا جلال .... قضيتنا تختلف عن كل القضايا المماثلة , انها لا تريد اثبات نسب جنين ... لا تريد ميراث .. لا تريد أي شيء ... كل ما تريده هو طلاق رسمي كي يثبت زواجها ... و بعدها ستبتعد عنه تماما ..... فليعتبرها نزوة أمام المجتمع و لن يضره هذا شيء ... فقط يطلقها رسميا ...)
رفع جلال حاجبيه وهو ينظر الى رائف بصمت ... ثم قال بخفوت
( واضح أنهما لن يعترفا بذلك ..... و بالتالي لن يمنحها طلاق .... أقصى ما نستطيعه هو أن نقنعه وديا من باب الضمير أن يلقي عليها يمين الطلاق كي حررها بينه و بينها ...... لكن لو رفض ....)
تنهد وهو يصمت لتتلاعب أصابعه بطرف الورقة ... ثم قال
( حينها ستظل معلقة به ........ ولو رفعت الدعوى , لن تستفيد سوى أن تتدمر سمعتها علنا .... و سمعة عائلتها .... و تظهر امام الجميع كمجرد فتاة اصابت بالهوس تجاه ابن صاحب البيت الذي كانت تحضر له باقات الورود ...... )
كان وجه رائف يتحول الى اللون الداكن مع تدافع دماء الغضب تحت بشرته ... بينما عقله يرفص استيعاب عبارة جلية
" ستبقى معلقة به للأبد ...... الا لو توسلاه من باب الضمير ان يلقي عليها يمين الطلاق من باب الرحمة "
ضرب رائف على سطح المكتب بقوةٍ فجأة وهو يهدر بغضب
( لن يحدث ...... لن يعلقها به بتلك الطريقة الدنيئة .... لن اسمح بذلك ........ و لن نتوسله , سيطلقها رغم عنه ..... )
مد جلال يديه علامة الاستسلام وهو يقول بهدوء
( ماذا بامكانها ان تفعل ؟؟ ........... سوى !!! ...... )
عقد رائف حاجبيه وهو يلهث من شدة الغضب .... لكنه همس بهدير مخيف
( سوى ماذا ؟!! ......... )
تمهل جلال وهو يشعر بالقلق ... ليقول بخفوت
( سوى ان تكون من النوع المحارب الذي لن يترك حقه ..... حينها ستحاول الوقوف امام سلطان اكرم القاضي بمفردها و تثبت انها بكامل قواها العقلية .... و ذلك بتقديم اتهام بحقيقة كريم ليس ابن عائلة القاضي و انه زميلها بالفعل في الدار و ذلك سيحسن من صورتها ... لو تم اثباته ...... )
رفع وجهه الى وجه رائف الذي شحب قليلا .... بينما تابع جلال بوضوح
( حينها .... سيتم البحث في الأمر , ولو فشل أكرم في تداركه .... فستكون تهمة كبيرة تحمل العديد من الجرائم تحتها ..... من تزوير و خلافه .... و لن يكون وحده المتضرر , بل طبعا اختك السيدة ميساء ..... )
ازداد شحوب رائف أكثر و بوضوح أكبر .... حينها قال جلال بقوة
( لهذا سألتك منذ البداية ..... أي جبهة تختار ؟؟ ..... عائلتك أم ....... ضميرك ....)
1

كان رائف يقود السيارة دون ان يدرك بان سرعته زادت تلقائيا و الجنون يتولاه مجددا ....
يومان وهو يدور حول نفسه كالمجنون دون ان يملك القدرة على مواجهتها ولو حتى صوتا فقط ....
همست ملك بجواره و هي ترى المشاعر العنيفة متعاقبة على وجهه
( هل الأمر بهذا السوء ؟!! ........ )
لاحظت ان مفاصل اصابعه قد ازداد بياضها على المقود ... و اصراره على النظر اليها ....
كان كفيلا بأن تعرف درجة سوء الأمر ...الى أن قال في النهاية بصوت قاطع
( إنه يرفض ان يحررك يا ملك ...... و يرفض الاعتراف بك .... و خطوة المحضر المحرر ضدك كانت الخطوة الأولى ...... )
فغرت شفتيها قليلا ... ثم اعتدلت تنظر أمامها بصمت .... و استمر صمتها طويلا , فقال رائف بقلق وهو يلتفت اليها
( ملك !! ......... هل أنتِ بخير ؟؟ ...تكلمي .... لا تصمتي هكذا ....)
ظلت صامتة لفترة مجددا قبل أن تقول بصوت خافت
( سيد رائف ....... أنا لست مهووسة أو مهلوسة .... لست كما يدعون .....)
تنهد بعمق وهو يقول
( على الأقل أنتِ هادئة ..... انا اعرف ذلك حق المعرفة , لقد كنت شاهدا على الحكاية منذ بدايتها يا ملك ....)
هزت رأسها قليلا و هي تطرق بوجهها ... قبل ان تقول بصوتٍ واهي
( لكن من سيصدقني ؟!! ............ لقد بحثوا بمنتهى المهارة في طفولتي ..لقد انتهى الأمر اذن ... .)
نظر اليها بغضب .... فاعتصرت قبضة قوية قلبه وهو ينظر الى وجهها الباهت دون حياة و كأنها استسلمت للأمر الواقع .....
أي شخص بمكانه ... كان ليسعد بمثل هذا الإستسلام ..... الا أنه لم يشعر الا بنارا تزداد بداخله اشتعالا ....
لكنه تمكن من ابتلاع ريقه بتشنج وهو يقول بصوتٍ صلب أجش
( هناك حل واحد يا ملك ...... أن تشعلي النار يا صغيرة , كما سبق و أخبرتك .... لكن هذه المرة علنا ... يمكنك أن تقدمي اتهاما بأنه ليس ابن عائلة القاضي ..... )
اتسعت عيناها فجأة و هي تلتفت اليه تتأكد من أنه يتحدث بجدية ... و حين رأت وجهه .... علمت أنه جاد كل الجد ..... فاتسعت عيناها اكثر ... و فغرت شفتيها .... و همست قبل ان تستطيع ان تمنع نفسها
( و انت ؟؟ ....... هل ستكون بجواري لو فعلت ؟؟ !!! ....... )
ابتسم قليلا دون مرح .....ثم قال بصوتٍ اجش
( السؤال الصحيح هو ..... هل ستكون بصفي لو فعلت ؟؟ ....... )
لعقت ملك شفتيها و هي تومىء برأسها ... و تهمس بذهول
( نعم ...... هذا هو السؤال ..... هل ستكون بصفي ... أنا ؟؟؟ ...... )
نظر اليها مجددا ... فاخترق عمق عينيها , قبل ان يقول بصوت غريب
( شاهد واحد ... لن يضرك اختفاؤه من صفك , طالما بدا التحقيق بالامر ..... لذا وجودي او عدمه لن يشكل فارقا ضخما ...... )
هتفت ملك فجأة بقوة اجفلته
( هل ستكون بجواري لو فعلت يا رائف .؟؟ ........ ضد عائلتك .... ضد اختك .... )
شعر و كأنها تنفذ الى داخله بكل اصرار .... مصممة الحصول على جوابٍ شافٍ .... و مر وقت مشحون قبل ان يقول بخفوت ..... مستسلم ...
( سأكون الى جوارك يا ملك .......... )
فغرت شفتيها بذهول و هي تنظر اليه ... و كأنما تراه للمرة الأولى ... فاستندت الى ظهر معقدها دون أن تحاول التظاهر بعدم النظر اليه ... بل ابقت وجهها عليه و كأنها منومة مغناطيسيا ....
فقال بعد عدة لحظات بخشونة
( توقفي عن النظر الي بتلك الطريقة ......)
همست بصدق مسلوبة الإرادة
( لا أستطيع ...... لا أستطيع ........ )
حينها همس بصوتٍ أجش خشن
( تبا يا ملك انظري أمامك ......... الطريق لا يزال طويلا .....)
لكنها لم تنظر امامها ... بل ابقت عينيها عليه و هي تضيق بين حاجبيها , لتهمس باختناق بعد فترة طويلة
( الآن تأكدت أنه ليس من دمك ...... )
عبس رائف بشدة .... و زفر بعمق , قبل أن يقول بصوتٍ قاسٍ قليلا
( اياك و البكاء يا ملك ..... و الا والله فسوف أعيدك من حيث أحضرتك ....)
اغمضت عينيها و هي تهتف و كأن صدرها يتألم
( أريد الصراخ ....... أحتاج الى الصراخ يا رائف ..... )
عاد اسمه مجردا من بين شفتيها ليكويه كيا ... خاصة و هو صادر مقترنا بكل تلك الحرقة ....
قال بقوةٍ يعدها وهو يقبض أكثر على مقود السيارة
( ليس الآن يا ملك ..... ليس الآن ... اصبري قليلا و عندما يحين الوقت ... سآمرك بالصراخ عاليا ... حتى تستنزفين كل جروحك .....بكل بما تحمله من دنس ...... )
أخذت تتنفس ببطىء محاولة السيطرة على الإختناق المسيطر عليها ..... تبذل مجهودا جبار لتتعامل مع كل ذلك الظلم الذي يحيط بها ....
وصلا اخيرا الى صالة المعرض ..... فأوقف السيارة ...و ظل ممسكا بالمقود قليلا ناظرا أمامه لعدة لحظات و كأنه يحاول السيطرة على نفسه .... ثم التفت اليها , ينظر لها و هي مطرقة الرأس .... لا تزال تتنفس ببطىء و رتابة كي تهدأ من الصدمات المتوالية ....
فقال أخيرا بصوتٍ أجش
( هل أنتِ بخير ؟!!! ........... )
أومأت برأسها دون ان ترد .... و دون أن تنظر اليه , الا أن وجهها كان شاحبا بشدة , و شفتيها ترتجفان ...
فقال فجأة بصوتٍ أجش خافت
( لا أريدك أن تعرضي تلك الملابس ...... لستِ سلعة ليتأمل الناس ألمها و هم يتضاحكون ... )
تنفست نفسا مرتجفا و هي تنظر اليه طويلا .... عيناها تترغرغان بالدموع رغما عنها .....
فهمست بعد فترة طويلة .....
( يجب أن أعرض أزياء وعد ..... كان طلبها الوحيد أن يكون وجههي هو العلامة المميزة لتصميماتها ....
صمتت قليلا و هي تنظر الي استياء وجهه ..... ثم همست بصوت واهن شارد
( كلما صدمتني بتفكيرك بي و بكل ما يؤلمني ..... كلما شعرت ببعض القوة كي أتحمل هذه الأيام ...... )
شحب وجهه قليلا ... و هو يتسائل عن حقيقة عمرها .... عن حقيقة ما اصابها في طفولتها ...
هل من الممكن ان تكون تلك الشابة القوية امامه ... هي نفسها , الطفلة التي كانت تعاني الهلاوس !!!
هي نفسها الشابة الساذجة التي انساقت خلف صديقها و حب طفولتها بعينين معصوبتين !!!....
حينها همس بجفاء و صدق
( اي امرأة انتِ يا ملك ؟!! ......... )
ابتسمت قليلا و وجهه يتشوش امامها من غلالة الدموع امام حدقتيها .... فقالت باختناق
( لم اعد صغيرة اذن !! ........ )
ظل ينظر اليها طويلا بتعبير غريب ... ثم قال اخيرا بصوت اجش خافت
( اقوى صغيرة عرفتها ...... و اضعف امرأة احتاجت الي يوما ..... )
" امرأة ...... تخصني "
نظر امامه بصمت و بملامح باهتة ..... قال بلا تعبير
( هيا ...... انزلي ........ )
.................................................. .................................................. ...................
أوقف سيف سيارته امام صالة المعرض كذلك .... ثم التفت اليها متأملا و نظرت اليه كذلك مبتسمة ابتسامة لم يعرفها منها مسبقا ....
ابتسامة تختلف عن كل ضحكاتها له .....
ابتسامة قلق .. و توتر .... و سعادة غريبة .... تنبع من عمق عينيها الرماديتين ....
همست وعد مبادرة بابتسامة مشرقة و هي ترفع يديها باستسلام متوتر قلق
( اذن ....... ها نحن هنا !!......أخيرا .... )
ابتسم سيف وهو يومىء برأسه ببطىء قائلا بخفوت
( نعم يا وعد ......ها نحن هنا ...... أخيرا نهاية المطاف ..... )
نظرت الى بوابة صالة المعرض .... و همست بشرود سعيد متوتر
( بل البداية ........... )
ساد صمت طويل و هو ينظر اليها .. و هي مستديرة الى نافذتها تنظر الى المتوافدين بقلق و تألق في نفس الوقت ....
فعاد سيف ليومىء برأسه وهو يقول بخفوت اكبر
( اذن فلتكن البداية ......... )
و حين اردا اقتناص نظرة أخرى من عينيها الحبيبتين ... قال بخفوت
( هل أخبرتك أنكِ جميلة بشكلٍ خلاب الليلة ؟!! ....... )
استدارت اليه بسرعة و على وجهها اوسع و اكبر ابتسامة اظهرت أسنانها كلها و هي تقول من كل قلبها
( نعم أخبرتني ........... )
التوت ابتسامته بحب و هو يقول برقة تذيب العظام
( آآه عذرا ..... نسيت أنني قلتها مسبقا ...... )
عقدت حاجبيها دون ان تفقد ابتسامتها ... فقالت بغيظ لذيذ
( ألن تكررها ؟!! .............. )
هز رأسه نفيا ببطىء و هو ينظر الى عينيها المشرقتين من تحت نظارتها ....فعبست و هي تكشر له ...
حينها قال بصوتٍ عميق نفذ الى اوردتها
( هل أستطيع تقبيلك ؟؟ ............ )
احمر وجهها فجأة و اتسعت عيناها و هي تسمع طلبه المهذب البسيط و المشروع .... فقالت بشك
( لم اعتد منك هذا التهذيب يا سيف !! ..... لقد بدأت أقلق عليك بالفعل !! .... )
لم يرد عليها ... و بدى شديد الجدية وهو يقول آمرا بهدوء
( اقتربي يا وعد .... و اغلقي فمك , أو دعيني أنا أقوم بالمهمة ....... )
ارتجفت قليلا و نبض قلبها بجنون .... فنظرت بطرف عينيها من النوافذ و همست بتمنع أنثوي مدلل غريب عليها
( الناس يا سيف !! ............ )
رد عليها دون تراجع ودون مرح ....
( لقد أوقفت السيارة بعيدا في الظلام ............ )
عبست و هي تقول متمردة
( اذن كنت محضرا لذلك من البداية ......... )
نزع حزامه .... ثم حزامها وهو يقول بصوتٍ محترق نفذ صبره
( اقتربي ....... )
حينها تركت نفسها له و هي تغمض عينيه متأوة في قبلةٍ بدت كوشم سيفي الطابع ..... محملا باسمه الذي دمغها منذ مولدها .....
مال سيف بوجهه وهو يقبلها بينما مد يده ليرفع نظارتها قليلا .... دون أن ينزعها ...... و كأنها شريكتهما في الجريمة .....
استمرت بينهما لحظاتٍ بدت اكثر رقيا من كل ما خبراه معا سابقا ... و حين استطاعت التنفس اخيرا همست وهي مغمضة العينين ذاهبة الروح
( هل شكرتك لأنك تنازلت و أحضرتني ؟؟ ............ )
التوت وجنتاه قليلا .... وهو ينظر الى وجهها المرفوع اليه في الظلام .... ثم قال بخفوت هامسا برقة
( رأيتها بعينيكِ .... فلا تشغلي بالك ..... )
فتحت عينيها و ابتسمت له بجمال ...... فترك نظارتها لتسقط على انفها مجددا و صدره يعصف من قوة جاذبيتها ......
لكنها أومأت برأسها و همست صادقة بصوتٍ حالم ...و بابتسامةٍ عاشقة
( شكرا .......... )
انها ال " شكرا خاصتها ... التي طالما كانت باهتة و فاترة ..... ها هي الآن تخرج كآهات العاشقين من بين شفتيها ......
ابتلع غصة في حلقه قبل أن يقول بصوتٍ أجش
( هيا كي لا تتأخري ...........)
ظلت تنظر اليه طويلا مبتسمة دون أن تتحرك من مكانها .... و حين نظر اليها متسائلا ... مدت يدها لتخرج منديله الأبيض من جيب سترته و مدته اليه و هي رافعة احدى حاجبيها قائلة بخبث
( امسح شفتيك أولا يا حضرة المحترم ........ )
عبس سيف و ارتبكت ملامحه أمام عينيها الضاحكتين ..... بينما سارعت يده لتمسح شفتيه بالفعل من الأحمر القاني الذي لونهما ....
بينما استدارت وعد و يدها على مقبض الباب و هي تقول
( آمل أن يكون لديهم أحمر شفاة من نفس اللون في الداخل ...... )
و قبل ان يجيبها مغتاظا ..... كانت قد استدارت اليه مجددا لتتعلق بعنقه فجأة و هي تكاد تقفز على ركبتيه ... لتطبع شفتيها على وجنته هامسة باشتعال
( وسامتك الليلة .... ستسرق أعين كل أنثى في المكان ....... فاحترس مني .... )
ابتعدت عنه ضاحكة لتفتح الباب .... و هي تقول مازحة بعبث
( امسح وجنتك كذلك يا حضرة المحترم ..... ثم الحقني و اجلس بين المدعوين ....)
خرجت من السيارة و أغلقت الباب خلفها لتنطلق جريا و القماش الشيفون الهفهاف يسترسل حول ساقيها الطويلتين
بينما كان هو يجلس متسمرا مكانه .... مسحورا .... بالجنية التي خلقت الليلة !!.....
.................................................. .................................................. ...................
دخلت وعد ترتجف محاولة التوازن على كعبي حذائيها بتردد الى غرفة تبديل ملابس العارضات ....
كانت قد فقدت ابتسامتها سريعا ... و اقشعر بدنها من ذلك التحضير المهيب الذي لم تعلم عنه شيئا ....
كانت صالة العرض غير التي اتفقوا عليها ... بل أخرى أرقى و أكبر .....
بينما المدعوين في الخارج عددهم أكبر بكثير مما تخيلت ... و تبدو الأناقة عليهم بوضوح , رجالا و نساءا
فغرت شفتيها بصدمة و هي تنظر حولها ...
كان المكان كخلية عمل .... الفتيات ترتدين تصميماتها .... كلها تصميماتها ...
رمشت بعينيها و هي ترى الفساتين التي لم تفصلها بيدها ... فعقدت حاجبيها مذهولة ... نعم انها هي
و كأنها ترى دفتر رسمها كله مجسدا أمامها بأعجوبةٍ ما ..... بينما هي نفذت الجزء الأقل منه ....
لم يكن أحد قد انتبه لدخولها بعد .... فرأت كرمة و هي تصرخ غضبا بأن الفستان الزمردي لم يظهر بعد ... اين العارضة المسؤولة عنه ....
و حينها .... رأت ملك و هي تخرج من خانة التبديل و هي ترفع القماش الحريري بين يديها و هي مطرقة الوجه لتقول بخفوت و بصوت ذو نبرةٍ حزينة ساحرة ...
( إنها أنا ....... لقد ارتديته ....... )
تأوهت كرمة و هي تسرع اليها لتضمها قليلا دون أن تفسد زينتها و هي تقول بتوتر
( اعذريني حبيبتي .... القلق يكاد يقتلني , أشعر بالمسؤولية أمام وعد ..... )
رفعت وعد يديها تغطي بهما شفتيها و هي ترى ... الفتاة " راوية " منكبة على الأرض تعدل من ذيل أحد الفساتين التي ترتديها احدى العارضات ... وهو بالتأكيد فستانا آخرا ليس من تنفيذها ... و لكنه من تصميمها ... ...
اخفضت وعد يديها من فمها لتكتف ذراعيها حول خصرها و هي تشعر بنفسها ترتجف بشدة ... بينما عيناها تغرقان بدموعٍ سخيفة .... و ابتسامة رقيقة تشق شفتيها و هي تراقب تلك الخلية الضخمة ......
كانت على وشك الاصابة بالدوار .... لكن كرمة رفعت وجهها فجأة فأبصرتها .... فشهقت عاليا و هي تصرخ
( وعد !!! ...... ياللهي لقد حضرتِ )
فارتفع وجه ملك منتفضة و هي ترى وعد واقفة بالفعل في آخر الغرفة .. ...
فهمست باعياء
( وعد !!! ............ )
لكن أحدا لم يسمعها .... بينما اندفعت كرمة الى وعد لتعانقها بقوةٍ و هي تقول بصوت هادر منتصر
( كنت أعلم أنه سيحضرك ...... كنت متأكدة ..... )
ابتعدت وعد عنها قليلا و هي تقول مرتجفة
( ألم تعلمي قبلا ؟!! ........ كنت اظنك انتِ من سلمه فستاني !! ..... )
هزت كرمة رأسها نفيا بسرعةٍ و هي تقول بصوتٍ عالٍ يعلو فوق صوت كلام العارضات ....
( لا لست أنا .......... أنت بالمناسبة تبدين مذهلة !!! ...... )
لكنها عبست قليلا و هي تدقق النظر بوعد قبل أن تقول بخفوت
( ماذا كنتما تفعلان تحديدا اثناء قدومكما ؟!! ....... )
عبست وعد و هي ترفع يدها لتتلمس شفتيها ... ثم سرعان ما احمر وجهها بشدة و وغضت وجنتها بيدها و هي تهمس من بين اسنانها بذعر
( ياللهي!! ..... هل دخلت الى المكان بهذا الشكل ؟!! ..... )
سرعان ما ضحكت كرمة عاليا و هي تغطي فمها بيدها كي لا تثير فضيحة .... بينما قالت باختناق ضاحك
( اذهبي الى الحمام آخر الغرفة و اغسلي وجهك .... لدينا هنا فريق تجميل جاهز ... ألم تري الصغيرة ملك كيف تحولت !! ..... )
رفعت وعد وجهها الى ملك التى كانت لا تزال واقفة مكانها بعيدا .. دون ان تسارع اليها لتعانقها على الاقل
كان وجهها مختلفا بالفعل .... لوحة كاملة من الالوان تلونه , حتى بدت مذهلة .... ساحرة .....
لكن لم يكن ذلك هو الإختلاف الذي لاحظته وعد .... شيئا ما بها كان يحد نظراتها ... يجعل وجهها ممتقعا من تحت غلالة الألوان ... و هي تقف بعيدا ... ممسكة بطرفي الفستان .... فاغرة شفتيها بما يشبه ....
الأسى !!! ......
تحركت وعد تجاهها .... و عيناها على عيني ملك ..... و بداخلها قلقٍ ما بدأ يفترسها ....
وصلت اليها اخيرا فوقفت على بعد خطوة و هي تقول بخفوت محاولة الإبتسام .....
( مرحبا يا ملك ...... لماذا لا ترحبين بي ؟!! ........ )
رأتها و هي تحاول جاهدة الكلام .... الى ان قالت بخفوت دون ان تبتسم
( اشتقت اليك يا وعد ....... حقا ....... )
اقتربت وعد منها اكثر ..... وضمتها بقوة و هي تقول بحرارة
( لقد عدت يا ملك ........ و لن ابتعد عنك مجددا .... زمن الفراق قد انتهى أخيرا ... )
الا أن ملك لم تكن هي نفسها المتقبلة للعودة دائما .... فربتت على ذراع وعد لتبعدها قليلا و هي تنظر الي عينيها القلقتين و تقول بصوتٍ خافت غريب
( وعد ......... هناك ما أريد أن اخبركِ به , قبل أي أحد ...... )
عقدت وعد حاجبيها بخوف حقيقي ثم قالت بتوتر
( هل اساء احد اليك في بيت سيف ؟!! ......... ماذا حدث أخبريني ... )
هزت ملك رأسها بسرعةٍ و يأس و هي تقول بلهفة
( اطلاقا يا وعد ...... اسمعيني ارجوك ..... انا ......... )
تعالى هتاف عالٍ من احدهم وهو يصرخ من عند الباب
( سيبدأ العرض ....... اجهزن في طابور رجاءا ........ )
بدأت العارضات في الجري ليقفن خلف بعضهن ..... بينما قالت ملك بصوتٍ يكاد يكون باكيا دون اي اثر للدموع
( انا اول عارضة ....... يجب ان اخرج )
امسكتها وعد من ذراعها عابسة و هي تقول بقلق
( ليس قبل ان تخبريني بما تريدين ..... تكلمي ....... )
الا ان الهتاف تعالى مجددا ... فنزعت ملك ذراعها و هي تجري لاول مكان بالصف ....
ثم خرجت ما ان أشير اليها .... بينما بقت وعد مكانها تشعر بانقباض غريب .....

.................................................. .................................................. .....................
جلس مكانه بين عدد كبير من الحضور الراقي ... عيناه على الممر الطويل قبل العرض ....
لكن أحدا لم يلفت انتباهه ..... كيف وعدة صور هي فقط من أسرت عينيه .....
جلس في مقعده وهو يميل على ركبتيه ... محدقا بخلفية الممر و قد تغطت بصورٍ ضخمة .... اكبر من الحجم الطبيعي ..... تظهر الصغيرة في عدة اوضاع مختلفة ....
ترتدي العديد من الفساتين المذهلة .... بينما وجهها كان بريئا خاليا من اي زينة ..... و شعرها بجنون امواجه ملتف حول قدها النحيف .....
زفر نفسا ملتهبا كالجحيم وهو يرى الصور أمامه و كأن وجهها المكبر عشرات المرات كان ينظر اليه من كل اتجاه .... بينما همس فجأة دون أن يشعر
" أي حورية أنتِ !! ......... "
سمع صوت رجولي بجانبه يقول بخفوت
( عفوا !! ........ )
التفت رائف ليجد سيف الدين فؤاد رضوان بنفسه جالسا بجواره بهيبةٍ ووقار مكتفا ذراعيه ..
يعرفه من حفل زفافه الذي دعي اليه ذات يوم ... و كانت المرة الأولى التي يرى بها الحورية الصغيرة ....
فاجفل قليلا لذكراها و هي تجري لتصطدم به .... و هي تضحك بقوة ... و موجات شعرها تطير من خلفها ...
تنحنح رائف بقلق ليقول بخفوت وهو يبتلع غصة الذكرى البريئة التي كانت ....
( عذرا .... لا شيء ...... )
اطفئت الأنوار فجأة .... و صدحت موسيقى عالية و صوت يتكلم و يعلن عن البدء ... بينما بقت صورها الخلفية مضيئة لتشعل صدره اكثر ......
ابتلع ريقه بصمت بعد ان كان يظن للهدير بداخله نهاية .....لكنه عاد فجأة ليشعر بصدمة جديدة و هو يراها تدخل كأول عارضة ...
فغر شفتيه قليلا وهو يراها تتهادى برقة .في فستان فيروزي من الحرير الباهي ... انساب حول جسدها فمنحها أنوثة بشكل جديد
مطرقة بوجهها و كأنها تخجل من مواجهة هذا الجمع .. بينما وجهها كامل الزينة كان ملونا كلوحة فنية خلابة ... تناقضها ملامحها البريئة في الصور الضخمة من خلفها ....
شعرها الطويل ازداد تماوجه في لفاتٍ كموج نهرٍ هادى منسابٍ الى خصرها ...
كانت عيناه تتأملان جمالها الذي ظهر خلابا ... فهمس رغم عنه
( سبحن الله !! ......)
حينها نظر اليه سيف مقطبا بريبة .... و ظل يراقبه قليلا خوفا من ان يكون رجلا ذو نظراتٍ دنيئة يخص بها ملك ....
لكنه لم يستطع ان يتبين شيئا من ملامحه المظلمة ...
اما رائف فقد كان ينظر اليها و كأنه يعيش عالما غير العالم ... دون أن يبدو شيئا على ملامحه الوقورة ...
بينما كانت الهمسات تعلو و تتحدث عن الفستان و عن عارضة الفستان !! ...و جمال عارضة الفستان !!
شعر حينها بحالة من الضيق تسيطر عليه أكبر مما توقع ..... ود حينها لو اندفع من كرسيه العقيم ليجذبها من ذراعها قسرا و يبعدها عن الاعين المتلصصة ....

و ما أن وصلت ملك الى نهاية الممر قريبا منه ... وصلت الي مضخات من الهواء البارد فطارت موجات شعرها قليلا خلفها حتى بدت كستارٍ ذهبي و هي ترفع وجهها اليه مباشرة ...
و ما ان التقت اعينهما حتى برقت عيناه بشدة ... فتعثرت خطوة .... و تسمرت مكانها ....
شعر بها تتشنج و تتوتر ... و عيناها تبحثان عن عينيه بهلع ... كطفلٍ تائه يبحث عن والده بين الزحام ...
حينها نهض من مكانه دون تفكير .... و أومأ لها برأسه ..... وهو يبتسم لها كي تتابع ....
فابتسمت بارتجاف و دون ان تدري لوحت له بحركةٍ خفية دون أن ترفع يدها .... ففعل مثلها تلقائيا وهو يومىء لها مجددا ....
ثم اضطرت الى الاستدارة و الإبتعاد تحت أنظاره المشتعلة .....
فجلس مكانه بقنوط وهو يتبعها بنظراته ... حينها قال سيف بارتياب
( عفوا ....... هل تعرف ملك ؟؟ ...... )
نظر اليه رائف بصمت وهو يراقب ملامحه المتربصة ... فقال بخفوت
( نعم ..... كانت تحمل لنا باقة ورد كل يوم .... لخالي على وجه الخصوص , و قد ...... )
صمت قليلا وهو ينظر الى الممر ... ليتابع بشرود
( احبها ...... )
عاد ليصمت .... ثم قال بصوتٍ أكثر خفوتا
( و منذ وقتها و هما أصدقاء .......... )
أومأ سيف برأسه وهو يتابعه ... ثم قال بخفوت
( أظنني رأيتك من قبل ...... لكن لست تحديدا .... )
قاطعه رائف مانعا المزيد من سيل الاستجواب
( لقد حضرت حفل زفافك من السيدة وعد ...... )
ثم مد يده وهو يقول بتهذيب
( رائف القاضي .......... )
صافحه سيف بسرعة وقد ارتاحت ملامحه قليلا ليقول متباسطا
( آآه مرحبا ..... من عائلة القاضي , هذا شرف كبير .....)
شعر رائف بخزي قاتم يملأه ....لو يعلم هذا الرجل الذي يبدو عليه الاحترام ... ان اسم عائلة القاضي الذي يشعره بالشرف .... هو نفسه السبب في ضياع شرف صغيرة عائلته
نظر رائف أمامه بصمت و العارضات تتوالين دون أن يبصرهن .....
و صوت بداخله يقول بشدة و غضب
" سأعيد لها شرفها ......... و هذا وعد "
همس رائف متجنبا الحوار في اتجاه معين
( لا بد أنك فخور بزوجتك سيد سيف .........)
نظر اليه سيف بصمت وكأنه أجفل مما قاله رائف للتو و نظر الى العارضات بصمت ....
الفساتين كانت رائعة .... بل حقيقة كانت أكثر من رائعة .... لا يصدق أن وعد نفذت وحدها ما يقارب نصف عددهم .....
أي مجهودٍ جبار هذا !! .....
استمر العرض و التصفيق يتلو كل فستان .... بينما عرضت ملك اثنين آخرين .....
و انتظر رائف ان يراها مجددا ..... و فعلا صدحت موسيقى زفاف قوية رنانة ....
و سرعان ما رآها تخرج من اليمين بفستان زفاف رائع .... جعل الحضور يشهق اعجابا ... بها و بالفستان الذي لن يناسب غيرها مطلقا .....
لكن و مع خروجها نودي اسم المصممة ... وعد العمري ...
فخرجت وعد امام عيني سيف المسحورتين من جهة اليسار لتسرع الى ملك و ما ان التقيتا حتى امسكت بيدها و هي تنظر اليها نظرة جديدة تماما ... و كانها نظرة ام تنظر الي ابنتها في حفل زفافها بالفعل ....
و ابتسمت لها مشجعة و هي تتلألأ جمالا بفستانها الأسود و نظارتها السوداء بتناقضهما مع فستان ملك الابيض البراق ...
حينها اختنق تنفس ملك و هي ترى ابتسامة وعد الجديدة لها .... بدت لها وعد و كانها قد ولدت من جديد
بينما هي كانت تخط آخر حروف قصتها .... فاغروقت عينيها بالدموع و هي تطرق برأسها تسير بجوار وعد الممسكة بيدها وسط تصفيق الحضور .....
الى أن وصلا لنهاية الممر ... فرفعت ملك رأسها تنظر الى رائف مجددا .... و ابتسم لها مرة أخرى ..
لكن هذه المرة لم يستطع أن يخدعها .... وهو يبتسم لها ابتسامة مزيفة ... اختفى خلفها اقرار بوضعها الحالي
و ما أن رأت ابتسامته .... حتى انهارت حواجز عينيها ..... فانسابت دموع عينيها بصمت , مسيلة زينة عينيها السوداء مما لطخ وجهها في خطوطٍ مؤلمة .....
كان العالم من حولها يصفق .... بينما هي و رائف كانا في عالمٍ وحدهما .....
حتى أن أحدا لم يعلق على دموعها و ربما لم يلحظها أحد .... فقد تركزت الأضواء كلها على وعد التي كانت تبتسم ما بين الضحك و الوقار ... و هي متشبثة بيد ملك دون أن تتركها ....
صعد مقدم العرض الى جوار وعد .... و معه مكبر الصوت و بعد ان هنأها اعطاه لها كي تقول كلمة مختصرة ....
فنظرت وعد الى مكبر الصوت في يدها مذهولة ... و هي تضحك قليلا ... فشاركها بعض المدعوين الضحك , بينما كان سيف ينظر اليها مبتسما فاغرا فمه قليلا ... و كأنه يراقب الشخص الأجمل لعينه ... و الأقرب لقلبه ...
كانت مرتبكة .... مذهولة .... و هي البطلة امام هذا الجمع ...و الجميع يبتسمون اعجابا ... بل و يصفقون أيضا ...
ابتلعت وعد ريقها .... ثم رفعت المكبر أمام فمها لتهمس بارتباك و هي لا زال تبتسم ثم تضحك مرة بعد مرة
( أنا ....... أممممم .... مساء الخير ....... )
رد عليها بعض الحضور ضاحكين .... فاتسعت ابتسامتها و همست ما بين الإشراق و الذهول لتقول بصوت رقيق بدا مكبرا للغاية فارتج به المكان .... و ارتج به قلب سيف وهو ينظر اليها مبهورا
( أنا في غاية السعادة ... بتشريف كل منكم لعرضي المتواضع ...... )
ابتلعت ريقها قليلا و هي تطرق برأسها .... فانسابت خصلة حالكة السواد على وجهها ... فأبعدتها الى خلف اذنها ... ثم رفعت وجهها بأجمل ابتسامة تصل من الأذن الى الأخرى و هي تقول بعفوية
( لقد جعلتهم هذا اليوم من أجمل و أروع أيام حياتي على الأطلاق ..... بعد أن كان فقط أهمها ...)
صمتت و هي تشهق باكية ضاحكة فجأة .... رافعة يدها الى فمها .... بينما كانت عينا سيف تتسعان و فمه مفتوح قليلا ... لا يصدق أن زوجته الجليدية هي نفسها تلك الطفلة التي لا تستطيع تجميع جملتين معا ...
و ها هي تضحك و تبكي في آنٍ واحد ... حتى انها رفعت نظارتها الى اعلى رأسها و هي تمسح وجنتيها بيدها ... بينما تعالى تصفيق عالٍ كتشجيعٍ لها ... مع هتاف البعض كي لا تتخاذل ...
فأخذت نفسا مرتجفا و رفعت وجهها لتنظر حولها .... دون أن تركز عينيها على سيف الذي كان حاله غريبا ...
ما بين الزهو و الألم .... العشق و النزف سرا .....
انها تبدو كوردة تتفتح أمام عينيه .... أو كفراشةٍ تخرج من شرنقتها .....
انها تحلق بعيدا .... و كم هي تليق بالتحليق عاليا في تلك اللحظة .....

و حين شعر بأنه لن يحتمل أكثر ... و أن القبضة التي تعتصر صدره تكاد تخنقه ...
نهض من مكانه ببطىء وهو يقول لرائف بخفوت كي يسمح له بالمرور ...
فنظر اليه رائف مجفلا ... نازعا عينيه عن ملك بالقوة ... فنهض واقفا هو الآخر .... بينما قال سيف بصوتٍ مختنق
( بعد اذنك ..... أنا راحل .....)
سمح له رائف بالمرور ... بينما رد عليه بصوتٍ مشتد و عينيه على ملك
( تفضل .... أنا باقٍ ........... )

كانت وعد تقول بارتجاف الكلمات القليلة التي استطاعتها .... لكنها صمتت فجأة حين لاحظت مقعد سيف الخالي !!!
ففغرت شفتيها القانيتين قليلا و هي تنظر الى كل المقاعد دون ان تجده .... لقد رحل !! ...
زفرت نفسا مرتجفا تردد صداه في مكبر الصوت .... فنظرت اليه قليلا بملامح واجمة ... و أعين الجميع عليها .... قبل أن تقول بصوت خافت ... ثابت ....
( أود فقط ان أشكر كل من ساعدني ..... صديقتي الوحيدة كرمة .... أختى ملك , ... تلك الجميلة صاحبة الوجه الدعائي ..... السيد يوسف الشهاوي .... و رجالى .... علي و راوية .... انهما بذرة فريقي ... حين لم يكن هناك سوى ثلاثتنا فقط ..... )
ابتسمت راوية و هي تنظر الى علي بصمت ... بينما كان هو ينظر الى وعد و قد طاله سحرها في تلك الليلة فبدا عاشقا أكثر من ذي قبل ....
بينما كان يوسف واقفا ينظر اليها بصمت .... و ملامح وجهه حزينة مدركة ... بأن هذه الجميلة , لن تكون له مطلقا .....
فتابعت وعد بعد لحظة صمت و هي مطرقة بوجهها
( و ...... شكر خاص جدا من قلبي ... لابن عمتى ... و زوجي ..... و حبيبي ....له الفضل في وقوفي هنا بعد الله .... فلولاه لما تمكنت من الوقوف على قدمي ...... )
رفعت وجهها و هي تنظر الى المقعد الخالي لتقرب المكبر من شفتيها و تهمس
( كل حبي و شكري لك يا زوجي و حبيبي ........... )
تعالى التصفيق من كل جانب بينما سحبت ملك يدها فجأة و هي تبصر عينين تعرفهما جيدا ....
تراقبانها من ركنٍ مظلم .... فشهقت بصمت و هي ترفع يدها الى صدرها .....
انهما العينين الجائعتين .... و الذائبتين بعشقها .... تبرقان بنظرة بدت لها مرعبة في تلك اللحظة
فاستدارت لترفع فستان الزفاف و اسرعت الخطا على طول الممر ....
نظرت اليها وعد بصدمة ...بينما تعالى التصفيق مجددا ... ثم عاد مقدم العرض معلنا عن نهايته و التوجه الى مائدة مفتوحة كانت معدة على اكمل وجه .....
نهض رائف من مكانه مندفعا خلف ملك و هو يعلم ان هناك شيء خاطى .... و بالفعل تمكن من الوصول الى المدخل الذي خرجت منه , و ما ان لمحها و هي تجري بفستان الزفاف ... حتى اسرع في عدوه الى أن امسك بذراعها ليديرها اليه بقوةٍ .... فهاله منظر وجهها الشاحب و الملطخ بزينتها السوداء
وهتف بقوةٍ قاطعة زلزلت كيانها
( ماذا حدث يا ملك !! ....... ماذا بكِ ؟؟ ....... )
هتفت ملك و هي ترتعد بعينين حمراوين متسعتين
( انه هنا ...... لقد رأيته ........ انه يراقبني ..... )
عقد رائف حاجبيه ليقول بحيرة ....
( من هو ؟!! ....... من يراقبك ؟!! .......... )
هتفت و هي تتشبث بكفه دون خجل
( شادي .... كريم ...... انه هنا ... لقد رأيته ..... )
عبس رائف بشدة ... ثم قال بخفوت وهو يقربها منه قليلا ...و قد هاله ارتجاف جسدها البشع
( لا يمكن أن يكون هو يا ملك ..... انه لن يجازف بالقدوم الليلة ..... سيعمل على تجنبك تماما هذه الفترة )
صرخت ملك بقوةٍ و هي ترفع يدها المضمومة الى صدرها
( لقد رأيته يا رائف .... رأيت عينيه ..... كانت بهما نظرة مخيفة .... )
رفع رائف رأسه عنها و أخذ ينظر خلفها و جانبهما بحاجبين منعقدين ..... و حين لم يجد له أثرا قال بخفوت وهو يربت على كفها
( حسنا لا تخافي ..... حتى لو كان هو , فلن يستطيع أن يمسك بسوء )
صرخت ملك بحالة غريبة من الهلع
( أنت لم ترى عينيه ..... انه مجنون , انها نفس النظرة التي كانت بعينيه قبل ان يقيدني و يتسبب في قتل جنيني )
سمعا فجاة صوت شهقة عاليةٍ ... تكاد ان تكون صرخة شقت المكان .... فاستدار كل من ملك و رائف وهما ينظران الى وعد التى وقفت على بعدٍ منهما ... متسعة العينين الى حد الذهول و هي تغطي فمها بيديها ....
و نظرة  عينيها اخبرتهما انها بالفعل قد عادتا الى وصفهما القديم .... "عيني الجثة " ....
ظلت مكانها طويلا بعد أن ترك الغرفة و خرج .....
جالسة بنفس الزاوية تحت النافذة ... تلتف بغطاء السرير.... متمسكة به و كأنها تتشبث بحياتها ....
عيناها فارغتان .... متقرحتان من شدة البكاء لفترة طويلة الى أن نضبت دموعها تماما .... فبقت على حالها رافعة وجهها ... تنظر الى السماء المعتمة الظاهرة من النافذة أعلى رأسها ......
رأسها الصغير كان يضرب الجدار من خلفها بإيقاع رتيب مستمر .... لم تأبه للصداع المنتشر حول عينيها ... بل لم تشعر به أصلا .... و هي تطرق الجدار مرة بعد مرة دون أن تكل أو تتعب ....
" ماذا حدث لها ؟!! .....لقد تعطلت!!
لقد أصبحت كآلةٍ معطلة ..... حاولت تشغيلها أكثر من مرة دون أن تفلح ...
من أين نبعت تلك الهيستريا التي أصابتها ما ان شن هجومه عليها !! ......
كانت واثقة أنها ستسحره بقدراتها .... فهو رجل في النهاية و رغباته ستتمكن من قتل غضبه يوما بعد يوم ... الى أن يترجاها في النهاية بل يتوسل لها كي لا تتركه ..... كما فعل رابح من قبل تماما ....
كان ذلك هو السلاح الوحيد الذي تملكه ...... انها المؤهلات الوحيدة بيدها و التي كان بعضا منها بداخلها بالفطرة و البعض الآخر اكتسبته منذ طفولتها رغم عنها .....
ما الذي سيجعله يتمسك بها الآن ؟! ......
لا شيء ....
ان كانت قد فقدت القدرة الوحيدة التي كانت تمتلكها .... فبماذا اذن تستطيع أن تجعله ينسى ...
ما هو المخدر الذي يمكنها استخدامه كي تجعله يغفر ... و يسحر بها .......
كان الليل قد أرخى ستائره .... و بقت بعض النجمات الشاحبة من بعيد ... تضيء سماءا ليست صافية تماما ... تماما كروحها .....
بينما هي تنظر اليها بعينيها الفارغتين .... لا تعلم كيف تتصرف .... و ماذا ستكون خطوتها التالية ....
انتفضت فجأة مكانها حين سمعت صوت باب الغرفة يفتح ....
فأدارت وجهها بهلع الى الباب وهو يفتح ..... و يظهر من شقه المضيء جسد وليد الضخم المعروف لديها ...
و حينها أكتشفت أنها كانت تقبع في الظلام الدامس دون أن تلاحظ .....
ابتلعت ريقها بصدمة و هي تراه يقف مكانه عدة لحظات بهيئته المظلمة دون أن تتبين ملامحه ....
ثم لم يلبث أن دخل ببطىء الى الغرفة .....
كانت تتنفس بسرعة و اختناق ..... و هي تحاول جاهدة أن تمنع صوت أنفاسها من الخروج ...
و كأنها مختبئة في زاويتها المظلمة عله يخرج و يتركها لحالها الليلة .....
لكن على ما يبدو أنه قرر أنه قد منحها وقتا كافيا ليعاود هجومه مجددا ......
فغرت شفتيها المرتجفتين قليلا و هي تراه يتقدم الى ناحيتها ..... فتراجعت تلتصق بالحائط أكثر ... و بدت كطفلة مرتعبة في الظلام ....
لكنه اتجه فجأة الى المصباح الجانبي بجوار السرير ... فأشعل الضوء الشاحب الباهت ...
رمشت شيراز عدة مرات بعينيها المتقرحتين على الرغم من خفوت الضوء .... و رفعت وجهها اليه , فصدمتها رؤية ملامح وجهه ...
كانت ملامح صلبة ...مخيفة .....
وهو ينظر اليها دون أي ذرة للرأفة ....
كانت تحاول جاهدة ابعاد عينيها عن عينيه المخيفتين ... لكنها لم تستطع و كأن بهما قوة سمرت عينيها ....
فبدت متوسلة و مرتعبة ... تترجاه بصمت ...
ثم تحرك تجاهها ببطىء نمر فترس .... و ما أن لامست قدمه فخذها و هي جالسة أرضا حتى أنحنى ليجلس القرفصاء أمامها .....
شعرت شيراز بأنها فقدت كل قدرة على التنفس ... لذا شهقت بصمت و هي غير قادرة على رفع عينيها عن عضلات صدره الضخمة السمراء المواجة لها ....
بينما ذراعاه القويتان مرتاحتين على ركبتيه .....
كل ما به كان ينبض قوة و شبابا رجولي مهلك .... كانت تراه من قبل ساحرا .... فهي لم تعرف مثله سابقا ...
لكن الآن أصبحت تلك المقومات تشكل لها تهديدا .....
لم تدرك أن ارتجافها تحول الى انتفاضاتٍ ... و هي تضم ركبتيها الى صدرها أكثر .... حتى بدت ككرةٍ صغيرة الحجم مرتعبة .....
حينها تكلم اخيرا بصوتٍ مزدري .... خافت ... زاد من قوة ارتعاشها
( انتِ تجيدين الدور تماما ...... أتدركين ذلك ؟!! ....... )
هزت رأسها نفيا بارتجاف .... بحركةٍ بدت ضئيلة و غير مسيطرٍ عليها .... و همست بصوتٍ ميت ذاهب النبرات
( أنا لا أمثل دورا ....... ......... )
سقطت دمعة من عينها بسرعةٍ دون ان تستطيع منعها .... فابتلعت تلك الغصة التي توشك على ان تخنقها و هي تضم الخطاء اكثر الى صدرها ... و تتراجع اكثر الى الجدار ....
ثم همست أخيرا بصوتٍ بدى غير صوتها .... و كأن أخرى هي من تتكلم
( دعني اذهب ....... ارجوك ..... لن تستفيد مني شيئا .... )
بعبارةٍ واحدة .... ناقضت كل الرعب بداخلها من ان ينبذها لعدم قدرتها على امتاعه .....
بدت و كأن بداخلها شخصين ....
احداهما لا تزال تحمل له مشاعر مبهورة .... لم تعرفها مع رجلٍ قبله ....
و أخرى مرتعبة .... تريد الفرار منه ....غير قادرة حتى على السماح له بلمسها ....
ضحك ضحكة أثارت الرعشة أكثر في أوصالها .... لكنها لم ترفع عينيها الى عينيه ... بل ظلت تنظر الى عنقه فقط بعينيها الكبيرتين المتورمتين ....
فقال بصوتٍ هادىء يحمل تحت سطح هدوءه الكثير ....
( هل كان هذا هو المدخل لكل من ليالي زفافك ؟!! ...... أراهن أن كل منهم قد تدله رغبة وهو يسمع منكِ تلك النبرة المتوسلة ....... )
حينها رفعت وجهها المتورم اليه ببطىئ شديد ... و التقت عيناها بعينيه ...
و دون ان تدري همست بصوتٍ ميت خافت ... و كأنها منومة مغناطيسيا امام عينيه
( واحد فقط ........ كنت أتوسل اليه بخفوت ....... )
التوت عضلة بفكه .... بينما بدت عيناه مرعبتان اكثر .... بدرجةٍ مفزعة .... لكن ملامحه بقت صلبة مزدرية ... فقال أخيرا
( و ماذا كان يفعل حينها ؟؟ ............ )
ظلت تنظر الى عينيه بصمت طويلا .... قبل أن تقول أخيرا بخفوت و هي لا تحمل روحا
( لم يتوقف يوما ......... و كلما توسلت زدت من رغبته بي .... حتى توقفت عن التوسل أخيرا .... )
ضحك قليلا .... و هو يميل برأسه ....
كان صدره بدأ يسرع في حركة تنفسه .... بينما انقبضت كفاه بتوتر ....
بينما ظلت عيناها مسمرتين على عينيه المتوحشتين اللتين فقدتا كل أثرٍ للسخرية ... و بدا وجهه مثالا للسواد و الكره النابعين من داخله ....
و همسة واحدة منه جعلتها تجفل قليلا
( قذرة ............. )
كان تنفسها قد تسارع هي الاخرى قليلا ... لكنها لم تنهار قبل أن تقول بصوتٍ مرتجف بائس
( القذرهو من يطلب السماع بعنجهية .... ثم يظهر ضعفه المثير للشفقة بعدها ..... )
حينها لم يتمالك نفسه فرفع يده و هوى بصفعةٍ على وجهها ....فأغمضت عينيها دون ان ترفع يدها الى وجنتها ...
بل شددت قليلا على ضم ركبتيها الى صدرها و هي تتجنب النظر اليه ... تمنع نفسها من البكاء بالقوة
لكنه أمسك بذقنها بقوةٍ رفع وجهها اليه بعنفٍ أكبر من قوة صفعته ... وهو يقول بصوت بدا مهتزا من شدة الغضب البادي في عينيه الناريتين
( أنذرتك بمراقبة ألفاظك ...... و لا تتخيلي للحظة بأنني سأتحلى بالشهامة الكافية كي أعاملك كامرأة محترمة .... فانت خسرتِ هذا الحق بنفسك ...... لذا لا تحاولي اختبار رجولتي بتلك النقطة ..... فهي شبه منعدمة فيما يخصك ........ )
كانت تنظر اليه من بين انفاسها المتسارعة .... و دون ان تتمكن من منع لسانها همست و هي تنظر الى عمق عينيه
( قذر ....... ككل من عرفتهم .... بل اشد قذارة ..... )
اتسعت عيناه للحظة .... قبل ان يعقد حاجبيه و يهدر من بين آتون انفاسه وهو يشدد على فكها بقوةٍ كادت ان تهشمه
( ايتها ال ....... و تجرؤين على التطاول بالألفاظ بدلا من شعورك بالخزي و العار !!!! ....... )
..... اخرسي قبل ان اصيبك بحق )
مال وجهها قليلا بينما احمرت وجنتها قليلا و باتت وردية و كأنها وجنة فتاة خجولة بريئة ... و ما ابعد الواقع عن الظاهر ....
لكنها لم تلبث ان نفضت شعرها و هي تعاود النظر اليه .. فقالت بشراسة خافتة بدأت تعود اليها قليلا ...
( هذا ما تتمناه ...... أليس كذلك !! ..... أن تشعرني بالخزي و الدناءة !! ...... )
و ما ان تمكنت من استثارة عينيه و اسرها ... حتى مالت بوجهها و بصقت باتجاهه بكل قوة ... ثم همست من بين اسنانها
( اذن ستنتظر هباءا .....هذا رأيي بك ........ يا أدنى من حيوان ....... )
لم تعلم أنها رمت نفسها بتلك الحركة في دوامة جنون عصفت به فأغرقتها و هو يندفع ليقف على قدميه فجأة ,,,
ثم انحنى ليقبض على معصميها ليوقفها بحركة واحدة .... و مجددا ضربها حتى دارت حول نفسها ...
ترنحت قليلا .. الا أنها عادت لتلتفت اليه و هي تبعد شعرها عن وجهها الملتهب ... لتنظر اليه بنيران عينيها الخضراوين ... قبل أن تندفع و تهتف من بين اسنانها بلفظ سباب لا ينطق الا في الطبقات الدنيا ... خاصة و انه نال من والدته .....
عادت عيناه لتتسعان قبل ان يندفع نحوها مجددا وهو يهدر و قد فقد السيطرة تماما على جنون غضبه
( اقسم أن انظف لسانك القذر هذا ........ )
ثم ضربها لتتراجع للخلف حتى ارتطمت بالدولاب من خلفها ثم سقطت أرضا ... الا أنها لم تنتظره هذه المرة ... بل اندفعت واقفة و هي تصرخ من بين شهقات تنفسها الهائج
( قبل أن تفعل .... دعني اذن أنقل لك المزيد من رأيي بك ايها ال **** )
فغر فمه قليلا و هو ينظر الى وهي تقف أمامه مشعثة الشعر ... براقة العينين بجنون مفاجى ... بينما طولها كله لا يتعدى كتفه .... حتى انها تبدو في السادسة عشر من عمرها لا أكثر .... و مع ذلك كان لسانها يخرج أقذع الألفاظ .... و لم تتوقف و هي تصرخ بجنون
( أنا تربية طرقات و دور رعاية ...... الأسوأ منها ..... و ما سمعته ليس سوى قطرة مما سينالك مني .... )
هجم عليها و هو يمسك بشعرها في قبضته وهو يهدر بجنون ....
( اخرسي .......... )
لكنها استمرت في السباب و نعته بكل ما يمكنها و هي تقاوم غير آبهة لشعرها في قبضته .... بينما قدمها تركل ساقه بكل قوتها و هي تصرخ و تصرخ و تصرخ ......
و كأنه قبض فجأة على مشردة ..... من ساكني الطرقات ....
حينها لم يتمالك نفسه من الصراخ مجددا مذهولا وهو يهزها بعنف
( اخرسي يا شيراز ........ اخرسي ....... )
لكنها لم تستطع ..... بل ظلت تقاومه و تصرخ بلسانها البذيء .... الى أن صفعها بقوةٍ أكبر من الصفعات الواهية التي سبقت تلك .....
حينها ترنحت في قبضته قليلا و رمشت بعينيها عدة مرات كي تستعيد قدرتها على الرؤية ....
حتى أنها امسكت بذراعه ذات اليد القابضة على شعرها .... و هي تسند نفسها كي لا تسقط ....
بدى الكون يدور من حولها قليلا ...... فهمست من بين رؤيتها المشوشة
( عديم الرجولة .......... ككلكم ...... و انا التي ظننتك ...... مختلفا ..... )
نطقت كلمتها الأخيرة و هي تتهاوى قليلا ... الا انه سارع بلف ذراعه حول خصرها و رفعها الي صدره ... قبل أن يتجه بها الى السرير .... و ألقاها عليه بفظاظة ثم وقف ينظر اليها وهو يتنفس بسرعة بينما كل ذرة به تشتعل سخونة و غضبا .... كان يهدر من أعماقه و حتى خارجه ....
وصل الى حالٍ من الغضب جعله يفقد آخر ذرات رجولته كلها في بضعة ساعات قليلة ....
بينما كانت شيراز مستلقية و هي ترمش بعينيها .... حدقتاها تهتزان بعدم تركيز و هي ترفع يديها الى جانبي جبهتها .... تلمسهما بترنح و هي تلف رأسها يمينا و يسارا قليلا .....
بدت غير واعية لوجود وليد ..... بينما هو بدى في حالٍ مختلف قليلا وهو يطالها بنظراته و قد انحصر الغطاء عنها .... فبدت أصغر سنا بحجمها الضئيل و شعرها المشعث ....
كان بها شيء يجذب الجانب الخفي الغير متحضر من أي رجل يراها ..... ربما مظهرها الطفولي الهمجي قليلا ..... لا يعلم .... لكن ما يعلمه هو أنه انجذاب مريض الهوى قليلا ....
دون حتى أن تفعل شيئا ......
ابتلع ريقه قليلا وهو يشعر برغبة لحظية اشتعلت بداخله مجددا ... تختلط بغضبه و جنونه ......
فزفر نفسا مرتجفا و هو يختبر في نفسه شيئا لم يألفه من قبل ..... وإن كان قد شعر ببعض بوادره في بداية تعارفهما .... لينمو برقي تحت أشعة الشمس و بقرب البحر .....
لكن الآن .... غابت الشمس ... و انحسرت أمواج البراءة .....
فانكشفت له رغبة عنيفة بداخله ..... رغبة مجردة , لا يمنعها غضبه و احتقاره .... و شعر في تلك اللحظة و كأنه .... و كأنه تعرى أمام مرآة داكنة .... غريبة على ناظريه .....
انحنى اليها قليلا ويده تمسك بحافة الغطاء عند خصرها ..... و أصابعه تنقبض عليها قليلا .... بينما عيناه تطوفان بها على غير هدى و هي تبدو في حالةٍ غريبة من الضياع و الدوار ......
حينها تمكنت من النظر اليه بعينيها الضائعتين ... فهمست بتركيز متداعي
( لا تظن نفسك .... أكثر نظافة مني ...... أو حتى من أي ممن تزوجت منهم ...... كلنا في نفس المستنقع و أنا التي ظننت ....!! ..... أنا التي ظننت ....... )
ضاع صوتها قليلا و هي تسبل جفنيها بتعب ..... الا أنها انتفضت ما أن شعرت بذراعين تلتفان حولها لترفعانها الى صدرٍ قوي .... فتحت عينيها و حاولت مقاومته .... الا انها لم تفلح في زحزحته ولو لخطوة ....
بينما همس صوته الأجش في أذنها بنبرةٍ مخيفة في خفوتها
( أنا لست ...... لقيطا ......... )
مدت يديها الى كتفيه تحاول ابعاده .... الا أنها كانت كمن يزحزح جدارا ..... بينما شعرت بشفتيه تلامسانها بنفسٍ خافت يحترق بسخونة تعرفها جيدا
فصرخت بنشيج غاضب .. و دمعة ساخنة
( هذا ليس فضلا منك .............. توقف عن النطق بتلك الكلمة ايها الحقير )
حاولت المقاومة بكل ما تبقى لها من قوة .... لكنها اكتشفت أنها لم تعد تمتلك ذرة منها ....
فلم تجد سوى أن تهتف باعياء وهو يميل بها الى أن استلقت على السرير
( لا ...... ابتعد ........لا أريد .... )
حينها همست شفتاه الجائعتان بالقرب من اذنها ... يحاول نيل ما قد يمكنه من التوقف
( لمن قلتها قبلا ؟!! ........... )
صدر منها أنين و هي تحاول الإبتعاد عنه دون جدوى .... فهتفت بتعب و قهر
( لا أحد ....... لم يحدث أن طلبتها من احد ....... )
فتحت عينيها و نظرت الي عينيه بنيرانٍ خضراء قاربت على الإنطفاء ثم همست مشددة على كل حرف و هي تئن بتعب
( أنت الأول ....... ابتعد عني .......... )
لكنه كان قد وصل الى قمة شعوره بها ... فأمسك بذقنها وهو يمر بشفتيه على فكها قائلا بصوتٍ محتقر لكنه يشتعل
( لقد تركتك فترة كافية حتى تخلصتِ من كل تظاهرك بالجنون .... و ها أنتِ بدأتِ بدورٍ جديد .. لكنه لن يوقفني الآن شيراز ...... )
صدر عنها أنين آخر و هي تحاول مقاومته بقوى واهنة مضحكة و هي تحرك رأسها يمينا و يسارا ... قبل أن تهمس بأسى و نشيج
( اسمي بشرى .............. )
صدرت عنه ضحكة قميئة ... تردد صداها داخل تجويف اذنها ., فأغمضت عينيها عن رؤية ملامح وجهه في تلك اللحظة .... لكنه قال بخفوت و هو يتذوق طفولتها بارادةٍ مسلوبة
( فليكن بشرى ..... لو سيجعلك ذلك اكثر تقبلا للأمر ...... )
همست أخيرا بأنينٍ يائس حاد النبرات و كانه وتر مشدود
( ارجوك ........... لا تفعل .... لا اريد ان تكون بهذا الشكل ..... ليس هكذا ارجوك .... لم اعد املك الطاقة لمقاومتك ...... )
شعرت بجسده يتشنج قليلا .... فنظت انه سينسحب بالفعل , لكنه سرعان ما استعاد قوةٍ مظلمة الاحساس وهو يهمس في اذنها مباشرة بكلمةٍ خطها ذات يوم على بطاقة باقة ورد
( آسف .......... )
و كانت تلك هي الكلمة الوحيدة بينهما قبل ان يتمكن من سحق كل اعتراض لها ..... بقوةٍ همجية قليلا ...
كانت اقل بكثير ... و لا تقارن بهمجية من عرفتهم قبله .....
لكن لأنها صادرة عنه هو ........ فقد جعلت منه حيوانا ....
يلتهم منها ما يستطيعه .... و براكين غضبه تزيد الأمر سوءا ......
حينها عرفت ان المزيد من المقاومة سيقصمها شطرين ..... فأسبلت جفنيها ..... و نشجت بصوتٍ خافت ضاع بين هدير انفاسه و قبلاته .... بينما هي تحاول جاهدة الذهاب الى مكانٍ بعيد بعقلها ......
و كأنه كان يدرك ما تفكر به ..... فامسك بفكها بين قبضته بقوةٍ حتى فتحت عينيها و نظرت اليه من خلف دموعٍ خضراء متجمدة ... حينها همس بصوتٍ أجش ما بين عاطفة و غضب
( أنتِ بخيلة جدا معي ..... على الرغم من أنني كنت أكرم من كل أزواجك السابقين .... لكنك تصرين على منحي الفتات ...... )
فغرت شفتيها قليلا و كأنها تنوى النطق بشيء ... لكنها لم تلبث أن أغلقتهما قليلا و همست بعد لحظةٍ بصوتٍ ميت
( خذ ما تريده ....... لقد تعبت ...... هذا أفضل عقاب لك .... و حين تنظر الى نفسك في المرآة بعد أن تنتهي مني .... ستتذكر كلماتي ..... )
التوت شفتيه قليلا فيما يشبه ابتسامة ساخرة ... الا أنها كانت فاقدة روح السخرية الحقيقية ....
و قبل أن يتراجع ... هبط بوجهه اليها ..... و قرر نيل العقاب , بعد ان انتصرت عليه غرائزه ........
و صوت بكائها الناعم يطوف بأذنه دون هوادةٍ .. فيشعل من رغبته بسادية لم يعرفها قبلا .....
بعد فترةٍ طويلة مجهدة .... رمى نفسه بعيدا عنها وهو يلهث بتعب ... بينما اهتز السرير بها و هي مستلقية مكانها كجثة هامدة ...
فأغمضت عينيها لتنساب من تحت جفنيها آخر دموعها .....
كانت تسمع أصواتا مكبوتة حادة له وهو يرتدي ملابسه ..... فلم تقوى على النظر اليه و تمنت من قلبها أن يغادر .... كفاها من تلك الليلة التي لم تتخيلها في أسوأ كوابيسها ...
أي حمقاء كانت حين وثقت أن هناك شيئا ما يسمى حبا .... قد يغفر لها يوما ....
انتفضت فجأة حين شعرت بقبضته القوية تمسك بكفها و ترفعها ... ففتحت عينين مذعورتين و هي تشهق بخفوت لتضم اليها الغضاء ....
و كانت حركتها الصغيرة وصوت شهقتها قد وصلتا الى عينيه القاتمتي السواد .. واذنيه ....
فتشنجت عضلاته قليلا .....
أو ربما أنها توهمت ذلك و هي تنظر الى يده الأخرى التي ارتفعت لتدس شيئا باصبعها بقوة مكبوتة ...
رمشت بعينيها قليلا حين دفع يدها بعيدا ... فرفعت كفها بجهد أمام وجهها تنظر الى حلقةٍ ذهبية بسيطة جديدة ... التفت حول اصبعها ......
ثم رفعت عينيها الناعستين اليه بتساؤل .... فرأت وجهه المشوش خلف غيامات الارهاق و قد بدا غريبا و كأنه شخص ثالث .... ليس من احبته ... و ليس الهمجي الذي قضى على مقاومتها خلال الساعات الماضية ....
بل شخص ثالث بتعبير متباعد .... يحمل الكثير ..... وهو يقول بصوتٍ أجوف قاسي
( لا تخلعيها من اصبعك ......... )
حاولت الرد .... و هي تبحث في قاموسها عن احدى مصطلحاتها اللاذعة .... لكن لسانها ثقل , كما ثقل جفناها ..... و تساقطت يدها الى جوارها ببطىء ....
حاولت ان تفتح عينيها عدة مرات .... لكن التعب كان قد نال منها و من كل ذرةٍ بروحها .... فهمست مستسلمة
( حسنا .............. )
و كان هذا آخر ما أدركته من عالم الواقع ... قبل أن تغيب في سباتٍ عميق , أغرقها بعيدا عن العالم المر الذي تحياه مؤقتا .....
ظل وليد ينظر اليها قليلا بتعبير غير مفسر .... قبل أن يبتعد عنها مسرعا ..........

و قف تحت الماء البارد لفترةٍ طويلة مطرق الرأس .... مستندا بكفيه الى الجدار الرطب .......
كان جسده يبدو كحجرٍ ضخمٍ يشتعل .... و لم يفلح الماء في تهدئته ....... بدا و كأنه قد خرج للتو من فيلم ردىء .....
كيف استطاع الاستسلام الى نوبة غضبه و احتقاره حتى وصل الى القاع بتلك الصورة ...
خرج من تحت الماء أخيرا .... فلف خصره بمنشفة دون أن يزعج نفسه بتجفيف جسده .....
استند الى المغسلة عدة لحظات قبل ان يرفع وجهه الى المرآة أمامه ..... و التقى بعينيه ....
حينها تذكر صوتها و هي تهمس بضعف
" خذ ما تريده ....... لقد تعبت ...... هذا أفضل عقاب لك .... و حين تنظر الى نفسك في المرآة بعد أن تنتهي مني .... ستتذكر كلماتي ....."
كيف استطاع أخذها عنوة بتلك الطريقة !! ....
صحيح أنه لم يخطط لحرمان نفسه منها .... بل كان عازما على نيل كل ما يستطيعه من تلك الزيجة الخاسرة ....
الا أنه لم يتخيل كذلك أن تصر على مقاومته للنهاية ..... فيأخذها رغم عنها !! .....
همس من بين شفتيه بصوتٍ غريب
( تبا لكِ ........ و كأنك دخلتِ الى هنا و أثرتِ فوضى من الدناءة من حولك .... )
عاد لينظر الى عينيه الحمراوين الهمجيتين ... و فكه الملتوى بقسوة ...... و همس بجنون
( لماذا أحضرتها الى هنا ؟!! ......... أي سلطانٍ تمتلكه تلك الفتاة الضئيلة المشردة على رجالها ؟!! ... )
صمت قليلا و هو يتنفس هسيسا مسمما .... ثم همس بهياج وهو يضيق عينيه
( تبا لكِ ....... و لماذا أهتم !! ...... أنتِ بعتِ و أنا اشتريت ....... لست الأول و لن أكون ال ....... )
لم يستطع اكمال عبارته .... بل شعر أن نارا سوداء انتشرت بداخله منعته من نطق الكلمة الأخيرة ....
فبدا ذلك له ضربا من الجنون ......
بعد ما كان بينهما الليلة .... وهو يعيش حالة من هادرة من تخيل كل لحظةٍ لها مع رجالٍ غيره .... و كان هذا من المفترض ان يكون كفيلا لان يجعله ينفر منها و يلفظها من بيته ...
الا ان هذا لم يحدث ..... بل جعله الجنون الذي يشعر به غير قادرا على تخيل ان يكون هناك من يمتلكها بعده ....
رجولته تزأر حاليا من حالٍ وصل اليه .......
ضحك بقتامة بغيضة
الأخير و ليس الأول في حياة امرأة منحها اسمه !! ......
شعر بأنه حاليا على وشكِ ارتكاب جريمة .... و ان من الافضل له ان يغادر البيت قبل ان يتهور ...
عاد الى الغرفة ينوى ارتداء ملابسه .... و الخروج قبل حلول النهار ......
لكن الضوء الشاحب كان قد بدأ ينتشر في الغرفة بالفعل ..... ممتزجا مع ضوء المصباح الذي كان لا يزال موقدا بجوارها ....
وقف وليد يتأملها قليلا ....
صغيرة جدا في منتصف السرير الواسع .... و قد انتشر شعرها الزغبي من حول وجهها و كأنه هالة ذهبية تامة الاستدارة ..... فبدت كشمس صغيرة مرسومة على احدى كتب الأطفال ....
لم يشوه تلك الهالة من البراءة الزائفة سوى آثار صفعاته لها و التي بدأت في الظهور على وجهها .....
عقد حاجبيه قليلا ....
لم ينوى ضربها ...... على الرغم من كل غضبه و احتقاره لها , الا أنه لم يكن ينوى ضربها ....
الفرق بين حجم جسديهما مهول ..... لذا لم يتخيل أن يضربها .......
لكن كلما اندفع لسانها الشبيه بلسان الأفاعي فقد السيطرة على أعصابه ......
انقبضت كفاه الى جانبه .... و هو غير مستوعب أن هاتين القبضتين اللتين حملتا الحديد من قبل قد مارسا هذه العدوانية تجاه امرأة بتلك الصورة العنيفة !! .....
وجد نفسه يجلس على الكرسي المقابل للسرير يتأملها بصمت ......
كيف استطاع الرغبة في التقدم للزواج من فتاة لم يعرفها قبلا ..... و في النهاية يتحول الى أكبر مهزلة في التاريخ !!
أفلتت منه ضحكة شبيهة بضحكة مارد شيطاني ....
كيف كان بمثل هذا الغباء !! .... لقد بدت كفتاة طبيعية للغاية !!!
عرفها لاشهر طويلة .... لم يبدر منها أي مما قد يثير الشبهة ...
لقد لحق بها الى بيتها عرف محل سكنها .... كل ما يحيط بها كان بسيطا و غير مبهرجا ....
حتى ملابسها الجريئة التي كانت تثير جنونه .... ظنها مجرد عادة لفتاة اعتادت الوحدة دون رقيب بعد فقدانها لأبويها ....
لسانها السليط كان يظنه وسيلة دفاع اتخذتها ضد أي متهجم عليها ....
رفع يده الى فكه و هو يتذكر ارتعاشها و خوفها كلما اقترب منها في البداية .... كيف تمكنت من تمثيل الدور بمثل هذا الإتقان ؟!!!! .... تبا .... لقد ظن أن مأساة حدثت لها ..... و كان مستعدا لأن يداويها بنفسه !
همس بصوت خافت أجوف
( ياللغباء ! ............. لقد خرجت من بين يديها كرجلٍ ساذج لم يعرف في الدنيا شيئا ...)
تحركت قليلا و كأن همسه ضايقها .... لكنها عادت لتستكين في نومها متأوهة قليلا ... حتى أن حاجبيها انعقدا و كأنها تتألم .....
زفر نفسا مختنقا .... لقد كان كالحيوان معها !!......
أظلمت عيناه قليلا و هو يتذكر عبارتها المأساوية عن رابح ... زوجها الأخير .....
عن كونه ساديا و مقرفا ..... و على الرغم من ذلك , كانت ترضيه !! .... هل هذا هو سبب ارتعاشها ؟!! ...
أنها تحملت الكثير من الألم من قبل !!
زم شفتيه وهو يشتم نفسه بجنون .... ها هو قد بدأ في منحها أعذارٍ و تبريرات .... أي شيء يصلح من منظرها !!
تنهد تنهيدة كالجحيم ثم أرجع ظهره للخلف وهو يسأل نفس السؤال .... لماذا أدخلها لحياته !! .....
و حصل على نفس الإجابة في كل مرة ...... لم يكن ليستطيع تركها تخرج هكذا ..... ببساطة !! ....
.................................................. .................................................. ......................
فتحت عينيها بضعف و هي تشعر بكل عظمةٍ في جسدها تؤلمها ..... فتأوهت بضعف ....
رمشت بعينيها عدة مرات قبل أن تعاودها ذكرى ليلة أمس .... من بدايتها و حتى النهاية البائسة ......
رفعت يدها بشك و هي تتأمل الحلقة الذهبية في اصبعها .....
فتأوهت بشرى بصوتٍ غريب .... يبدو كصوت حيوان صغير يتألم من مصيدة ناشبةٍ في جسده .....
و ظلت تنظر الى السقف طويلا بلا أي تعبير أو شعور ..... كانت متبلدة تماما .....
لقد افسد كل شيء ......
لكن هل تلومه ؟!!.........
نهضت ببطىء حتى استوت جالسة و هي تنظر الى السرير المشعث بفظاعة ....
فهمست بخفوت ضائع
( هذا جزائك حين صدقتِ في لحظةٍ ما ان هناك وهم ما ...يسمى ...... الحب .... )
اطرقت برأسها بوجهٍ شاحب ..... باهت دون حياة . و هي تدلك ذراعيها اللتين تحملان علاماتٍ زرقاء ... فتأوهت قليلا .....
لكم تشعر بأنها استيقظت مختلفة الآن !!! .....
لقد بدد كل احلامها الغبية خلال ليلة واحدة ... اكتشفت االان انها لم تكن تبحث معه عن المتعة ....
اكتشفت ان شبابه و رجولته الجسدية لم يجذباها ابدا ..... بل كانت تبحث معه عن من يربت على اوجاعها ...
و ها هي افاقت على صفعاتٍ بديلا عن تلك التربيتات التي انتظرتها .....
نهضت من مكانها تتعثر و تكاد تسقط تعبا .... و اضطرت الى الامساك بحافة السرير الى ان توازنت ....
ثم تحركت ببطىء خلال الغرفة ...... و هي تنظر حولها بعينيها المتورمتين .....
لكنها اصطدمت فجأة برؤية فتاة تشبهها الى حدٍ ما في المرآة المقابلة لها .....
شهقت بشرى بصوت خافت و هي تنظر الى صورتها .... ثم اقتربت تميل اليها محدقة ... و هي تعقد حاجبيها ثم همست
( ياللهي !! ....... ما كل هذا !! ....... )
رفعت يدها تتلمس وجهها الذي بدا ملونا بألوان الطيف .... ما بين كدماتٍ حمراء و زرقاء و أرجوانية .....
فغرت شفتيها و هي تقول بصدمة
( يالها من ليلة زفاف !! ............ )
استدارت حول نفسها تتابع تأملها للغرفة الأنيقة البسيطة ككل البيت .... ثم اتجهت ببطىء الى الدولاب ....
ففتحته تتأمل ما به قليلا .... قبل أن تلتقط فستانا أخضر فاتح قطني ..... بدا مريحا بقدر ما احتاجت في تلك اللحظة .....
أدخلته في رأسها لتشد حوافه عليها .... و بدا واسعا قليلا ... لكنه كان مريحا و ناعما ....
مدت أصابعها و تخللت بها خصلات شعرها .... ثم أخذت نفسا و هي تنوي الخروج الى المزيد من أقدارها ...
من الواضح من سكون البيت أنه قد خرج .... فحمدت الله على ذلك ....
فهي لم تعد قادرة على السيطرة على لسانها أمامه .... و هو أوضح لها بكل جدية عدم نيته في السماح لذلك بالإستمرار ....
كانت تنوي الاتجاه الى الحمام بحثا عنه ..... الا أن الصداع الذي تملكها جعلها ترفع يدها الى وجنتها النابضة بألم .... فبحثت عن المطبخ عوضا
الى أن أبصرته .... فاتجهت اليه مباشرة , ..... فتحت المبرد و هي تنظر اليه بتدقيق ..... فلم تجد ثلجا ...
حينها همست بخفوت
( أي غباء هذا !! ...... لا توجد مكعبات ثلج !! ..... أوووف )
لكنها وجدت أكياس الخضراوات المجمدة سريعة التحضير .... فأمسكت بأحدها بغضب و هي لا تجد بديلا لها ...
ثم رفعتها و ضغطتها الى أعلى وجنتها ... فأغمضت عينيها متأوهة براحة ....
لكن حركة من خلفها جعلتها تشهق عاليا و تستدير و الخضراوات المجمدة تسقط من يدها .....
اتسعت عيناها و هي تجده واقفا في باب المطبخ ... ينظر اليها و كأنه مصدوما مما كانت تفعله ,.....
ارتبكت بشدة و ....... خجل !! ....
كادت أن تنفجر ضاحكة بهيستيريا و هي تشعر بالخجل ربما للمرة الأولى ....
لكن طيف ليلة أمس مر سريعا بمخيلتها مما جعل وجهها يتورد قليلا .....
" ماذا يفعل هنا ؟!! ....... ظنته خرج !! ..... "
ابتلعت ريقها و هي تبتعد و تتراجع ببطىء الى أن استندت بكفيها الى السطح الرخامي خلفها ....
كان عاري الصدر .... ضخم الجثة .... تماما كما تعرفه من على الشاطىء ....
حاولت تمالك نفسها سريعا ... و هي ترمش بعينيها قبل أن تقول بفتور
( ظننتك خرجت ............ )
لم يرد عليها على الفور ... بل ظل ينظر اليها و كأنه كان ينتظر منها شيئا مختلفا .... ماذا ؟!!
مزيدا من الهيستيريا ربما !! ...
اذن سيكون مخطئا .... لقد تدربت على أيدي افضل المعلمين ... و جنونها ليلة أمس لم يكن سوى جنون الصدمة الألى ليس الا .......
طافت عيناه على وجهها الملون ...... بتعبير لم تفهم إن كان ندما أو لا مبالاة .... فملامحه كانت متصلبة تماما .....
انحنت بشرى و هي تلتقط أنفاسها المرتجفة خفية ... لتلتقط كيس الخضراوات و تعيده مكانه ... ثم أغلقت باب البراد بهدوء و هي تتابع حين يئست من رده ....
( بيتك لطيف ........... )
اتسعت عيناه قليلا ... و كان هذا هو البادرة الآدمية الوحيدة التي أظهرها منذ أن رأته صباحا .....
حينها ابتسمت ابتسامة صغيرة ... فاترة ... ميتة ... و هي تقترب منه حافية القدمين على ارض المطبخ .... الى ان وصلت اليه تحت انظاره الحادة الثاقبة ....
و كونها حافية القدمين جعل من قامة رأسها لا تتعدى صدره ... فرفعت عيناها الخضراوان المتورمتين الفارغتين و اخفض هو عينيه البنيتين اليها بصمت .... و سمعت صوتا خفيفا لأنفاسه الخشنة ....
مما زادها رضى ...
رضى غلف الألم بغلافٍ جليدي و دفنه عميقا كما صممت منذ لحظة خروجها من غرفته ....
فقالت بصوتٍ ناعم أنثوي ... يفتقد الإغراء الذي كان يوما .... و هي ترفع احدى حاجبيها
( ماذا ؟؟!! ...... هل فقدت صوتك بعد الليلة المجهدة ؟!! ....... )
عادت ملامحه لتشتد خطوطها .... و أظلمت عيناه .... و ظل ينظر اليها طويلا , حتى كادت ان تفقد تظاهرها بالتماسك .... فقال اخيرا بصوتٍ صلب بارد
( هل هذا انفصام في الشخصية ؟!! .. أم أنكِ ببساطة خلعتِ عباءة الدور الذي كنت تمثلينه ليلة أمس ؟! .... )
ابتسمت أكثر قليلا و بفراغ أعمق ... و هي تبتلع كل غصة و أخرى , تماما كمن يبتلع شفرة حلاقة مسننة .... نفس الألم ...
ثم رفعت يدها لتلامس بها عضلات صدره بخفة .... تمر بأصابعها في دوائر ... حتى شعرت بعضلاته تتشنج تحت يدها .... فالتوت ابتسامتها و هي ترفع اليه نظراتها الخضراء المشعة ...
ابتلع ريقه بصعوبة و هو يرى جيدا .. خبرة لم يلحظها من قبل .... خبرة ممتزجة بفطرة غريبة ...
و بدا منظرها العشوائي ... و أشعة الشمس تلمع من خلفها على شعرها الذهبي ... حافزا له كي ينهل من فوضويتها و طفولتها مجددا .....
ثم ابتعدت عنه فجأة فشعر بخطوط جليدية في مناطق لمساتها الحارة .....
نظر اليها و هي تبتعد بخطواتٍ خرقاء .... الى الثلاجة مجددا لتفتح بابها السفلي بحثا .... الى أن وجدت زجاجة مياه .... فرفعتها الى فمها و أخذت تنهل منها ببطىء متمهلة .... غير متعجلة على الرد ....
بينما قطرة ماء باردة تساقطت على عنقها المتراجع للخلف .... حتى وصلت الى حافة ثوبها القطني فبللته برقة ....
كانت كل حركة تقوم بها مدروسة بعناية .... و كان يدرك ذلك جيدا , و مع ذلك التهبت نظراته ....
شعر بأنه يريد أن يضمها الى صدره .... يتحسسها برفق مجددا .... برفق ..... لا بعنف .....

و ما أن انتهت دون عجلة .... رفعت يدها لتمسح فمها بظاهر يدها و هي تقول بفتور مفاجىء
( لن يتكرر هذا ............ )
رمش بعينيه و هو غير مستوعب لقصدها .... فاستدارت اليه و هي تتابع بعينيها الخضراوين الكبيرتين بخفوت
( هيستيريا الأمس لن تتكرر ..... سأحاول أن أكون أكثر ...... تعاونا )
سمعته وهو يسحب نفسا أجشا خشنا ..... بينما أظلمت عيناه بشدة .... و انطبق فكاه ....
ثم قال أخيرا بصوتٍ متقزز قبل أن يستطيع منع نفسه
( الا تملكين ذرة كرامة ؟!! ........ أنتِ تثيرين الإشمئزاز ...... )
كانت تنظر اليه بوجهها الجامد ... دون تعبير ... و طالت نظرتها اليه و كأنها تتأمل سؤاله بعينيها ...
ثم قالت أخيرا بعد فترة طويلة ... بصوتٍ أجوف
( هل نظرت الى نفسك في المرآة اليوم ؟!! ...........)
التهبت عيناه فجأة بصراعٍ قوي .... و سؤالها الخافت بدا و كأنه لطمة أدارت وجهه .... فقال بصوتٍ متشنج
( هل تحاولين التحلي بدور الضحية ؟!! ........ جدي دورا آخر من أدوارك يا شيراز ... فدور الضحية تحديدا لا يلائمك .....)
ظلت تنظر اليه طويلا و هي تميل برأسها قليلا ... قبل أن تقول بخفوت هادىء
( لكنه يناسبك تماما ........ حاول أن تقنع نفسك بهذا الدور حين تنظر الى نفسك في المرآة مجددا ....)

اتسعت عيناه .... و هو يشعر بأنها ترد اليه كل صفعة بمهارة دون أن تلمسه .... لكن الغضب كان أقوى من ان يسمح له بأن يكون منصفا ... فاقترب منها على أرض المطبخ ... و عيناه الغاضبتان عليها ....
ارتجفت قليلا .... الا أنها رفضت الاستسلام للخوف منه .. فقد مرت بما هو أسوأ آلاف المرات ..
فبقت مكانها .... على أرض حلبة النزال .... لكن المعركة كانت غير متكافئة ....
وقف على بعد خطوة منها ليقول بصوتٍ خطير
( اسلوبك لا يعجبني ......... احذريني ...)
تعمدت رفع وجهها اليه .... ثم رفعت يدها تتلمس آثار صفعاته قبل أن تقول ببهدوء خافت
( بالتأكيد ...... لا أريد أثارة غضبك كليلة أمس .... أعدك ... لن يتكرر هذا ...)
صرخ وليد فجأة
( توقفي عن اسلوبك هذا ....... لن تنالي به شيئا .....)
ارتجف كيانها من صرخته المتوحشة ... الا أنها تماسكت و بقت هادئة ظاهريا , بينما هي تشعر بالتضعضع في كيانها كله ..... فقالت ببرود
( لا أرجوك ......أنا لا أريد أن أخسر ربحي من تلك الصفقة ...... فأنا سأبذل بها الكثير من المجهود ...... )
التمعت عيناه قسوة و تلجم لسانه قليلا ... الا أنه لم يلبث أن قال بخفوت مكررا
( لقيطة ............ )
تراجع وجهها قليلا .... الا انها تماسكت بكل قوتها ثم قالت بنفس الفتور
( تلك الكلمة تجرحني ..... لا تكررها .......)
رفع حاجبيه مندهشا لأدبها المفاجيء بعد ما سمعه منها ليلة أمس ... لكنه لم يستطع أن يمنع نفسه من الضحك عاليا أمام وجهها المتجمد الباهت و هي تراقبه ببلادة الى أن انتهى من ضحكاته ...
و ما أن انتهى حتى نظر اليها مليا بعينين قاسيتين ... قبل أن يقول ببساطة ...
( لماذا تنكرين الواقع ؟! ..... لا ازال اتذكر حتى الآن تلك القصص المثيرة للشفقة التي نسجتها في حكايا طويلة متضافرة ...... )
صمت قليلا وهو يدور حولها ببطىء ... ناظرا اليها بسخرية و استهانة بينما بقت هي واقفة مكانها بتضاؤل ... بينما ملامحها ثابتة كتمثال حجري .... فيما تابع هو بصوتٍ خافت اثار في نفسها قشعريرة
( عن والديك الرائعين ..... والدك تحديدا الذي كنتِ تعدين له القهوة , و ماذا عن شقيقتيكِ المتزوجتين بعيدا ...... و خالك .... )
صمت قليلا وهو يضرب جبهته بيده ضاحكا دون مرح ... بل كانت ضحكة مقيتة ... وهو يقول متعجبا بشراسة
( خالك !! .............. )
ثم لم تلبث الضحكة ان ماتت تماما .... و حلت محلها ملامح مرعبة بالتدريج ...
فانقض عليها فجأة ليمسك بأعلى ذراعيها بقوةٍ ضارية .... يدفعها للخلف حتى ارتطمت بالثلاجة فاتسعت عيناها بذعر قليلا و هي ترى انفجار غضبه مجددا ... و تساءلت ...
كم من مرة في اليوم سيتوجب عليها احتمال ثورة عنفه .....
كان وجهه مخيفا .... و عيناه مرعبتين وهو ينظر الى وجهها بتفكير غريب ... ثم همس بصوت خطير مهدد
( من كان ؟!! ..... ذلك الذي ادعيتِ أنه خالك !! ..... من كان ؟!! ...... )
رمشت بعينيها مرة .... فكانت تلك الحركة سببا في احتقان وجهه اكثر ... لكنها لم تمنحه اكثر من لحظة و هي تطرق بوجهها امامه .... لتقول بفتور بعد ان تداعت حياتها التي رسمتها بفرشاة ملونة على صفحة بيضاء في عطلة سعيدة ....
( كان ...... زوجي ...... زوجي الثاني ...... )
اتسعت عيناه ذهولا من البساطة التي نطقت بها كلماتها ... فلهث نفسا اجشا له صوت يشبه الزئير وهو يهز رأسه بعدم تصديق .....
لكنه قبض على ذقنها يرفع وجهها لاعلى ... ينظر الي عينيها الفارغتين المتسعتين ....
و همس بجنون بينما انتفخت أوداجه بعروقٍ حمراء
( زوجك !! ........ ذلك الذي كنتِ تتوسلين اليه و تبكين !! ....... )
كان يلهث بنفسٍ هادر ... و هو يشعر بكرامته المهدورة تراق على يديها مجددا .. لكنه قال بصوتٍ صادم
( هل لحقتِ به ؟!! ....... هل كنتِ تعلمين بوجوده ؟!! ..... )
هزت رأسها نفيا ببطىء بينما انسابت دمعة ساخنة على وجنتها ..... و همست بخفوت على الرغم من قبضته التي كادت ان تهشم فكها
( لم اعلم بوجوده ...... كانت مجرد صدفة .... لقد كانت زوجته و اولاده معه ..... )
هدر وهو يهز فكها بقوة
( ربما كنتِ تريدين افساد زواجه مجددا ........... )
صمت للحظة وهو يخفض رأسه اليها ليقول بصوتٍ مقيت
( لماذا كنتِ تبكين في وجوده ؟!! ....... بماذا كنتِ تترجينه ؟؟...... )
اغمضت عينيها امام طاقات غضبه و كرهه ... فانسابت دمعتان اخرتين من تحت جفنيها المسبلين ....
لكنها قالت بفتور
( ترجيته ان يعيدني كزوجة له ....... باي طريقة يريدها .... باي شكل ... دون اي حقوق .... )
سمعت صوت هدير انفاسه ... قبل ان يصرخ امام وجهها
( لماذا ؟!! ...... هل كانت تعانين فترة نقص زبائن لهذه الدرجة المثيرة للشفقة ؟!! ...... )
ابتلعت الشفرة المسننة في حلقها و هي تنال منه كل اهانة و اخرى .... ثم قالت بخفوت دون ان تفتح عينيها
( لأنني كنت احبه .......... )
ساد صمت طويل ..... و انتظرت ان تطير رأسها اثر احدى ضرباته .... لكنه قال بصوتٍ غريب
( اتظنين انني قد اصدق ذلك ؟؟!! ...... رخيصة مثلك تعرف معنى الحب ؟!! .... )
فتحت عيناها الخضراوان تنظر اليه بصمت .... الى شكله المجنون ووسامته التي تحولت الى شراسة ....
فقالت بخفوت
( عرفته معك .......... )
تراجع رأسه للخلف قليلا .... لكن ملامحه لم تلين .. و عيناه لم تهدآ ... بينما تابعت هامسة
( لكن حبه كان يختلف عن حبك ...... كان الأمان و الحنان ....... أما حبك فكان مجرد سراب .... )
هدرت عيناه بنيرانٍ لافحة وهو يصرخ دافعا اياها الى الثلاجة لترتطم بها مجددا ...
( و هذا الذي حبه كان أمانا ...... لماذا ألقاكِ كمنديل مليء بالقذارة ؟!! ...... بعد أن شبع من جسدك الي يماثل جسد ابنته ...... )
فغرت شفتيها المرتجفتين .... و هي تميل بوجهها غير قادرة على النظر اليه .... ثم همست باختناق
( كانت له أولوياته ....... )
ضحك عاليا بشراسة .... وهو ينظر اليها بازدراء .. لكنه لم يلبث أن قبض على ذراعها وهو يقول بلهجة الأمر
( هل عاشرك ؟..........)
عقدت حاجبيها و ارتبكت من مدى فظاعة الكلمة ... فابتلعت ريقها و همست بتوتر و اختناق
( كنا متزوجين لذا ..........)
شدد على ذراعها أكثر وهو يهدر قائلا
( في تلك العطلة اللعينة ........ هل فعل ؟!! .......هل عا..)
الا انه لم يتابع الكلمة ..... فقدت مدت يدها و صفعته بكل قوتها قبل ان تستطيع ان تمنع نفسها
فغر شفتيه للحظة .... فها هي قد اعادت نفس بداية اول لقاء لهما .... و سرعان ما هدر وهو يرفع يده عاليا ...
ففغرت شفتيها و تعلقت عيناها بقبضته المرتفعة لفترة طويلة ...لم تدري أن دمعة أخرى انسابت على وجنتها و هي تتطلع الى يده منتظرة ......
بينما التوى فكه بشدةٍ وهو ينظر الى وجهها الصغير بقسوة .... قبل أن يخفض يده و يدفعها عنه و هو يهمس لنفسه بتقزز
( حقيرة ........... )
ساد صمت طويل ...فاستدار بعيدا عنها بجسد متشنج و رأس مطرق .... قبل أن تقول بخفوت
( أختك جميلة ........ )
اندفعت رأسه اليها ينظر اليها بغضب ذاهل... لا يعلم لماذا نطقت بتلك المجاملة الآن تحديدا بعد أن نعتها بالحقارة ... .... فتابعت و هي ترفع ذقنها قليلا
( محظوظة ........ بأن لديها أخ مثلك ..... من المؤكد أنك أجدت حمايتها ... )
اتسعت عيناه أكثر .... و أشتعلتا بجنون ... فعاد اليها مندفعا وهو يقول بصوت ذاهل
( ماذا تقصدين ؟!! .......... )
عقدت حاجبيها قليلا ... و هي تقول بخفوت متوتر و هي ترفع يدها لتمسح تلك الدمعة المنزلقة على وجنتها
( لم أقصد شيء ....... قصدت ما قلته فقط ...... )
الا أنه عاد ليقبض على ذراعها بقوةٍ وهو يهدر قائلا
( بلى قصدت ....... ماذا تعرفين عن لجين ؟!....... )
اتسعت عيناها و هتفت بخوف من شدة غضبه الذي كاد أن يفتك بها
( ماذا يمكنني أن أعرف عنها ؟!! ...... أنا لم أقابلها الا الأمس ...... )
صرخ وهو يهزها بقوةٍ ....
( لماذا تعمدتِ ذكرها الآن ؟!! ....... انطقي ..... )
صرخت هي الأخرى بهلع و هي تنتفض مكانها
( لأنك نعتني بالحقيرة ..... و لقيطة ..... و ادعيت أنني أقيم علاقة محرمة .... لمجرد أنني ..... )
صمتت قليلا و هي تلهث ناظرة لأبعد من كتفه .... ثم تابعت هامسة بشرود و اعياء معترفة
( لأنني لقيطة ............ )
رفعت عينيها الحمراوين اليه و قالت بخفوت و هي تنظر اليه بأسى
( و كان يمكن لأختك أن تكون مكاني ........ )
فتح فمه قليلا وهو ينظر اليها بصدمة .... بينما كان صدره يندفع بسرعةٍ غريبة .. ووجه يكاد يكون بلون الدم ...
رفع اصبعه أمام عينيها .... و هوا يحاول النطق , ثم قال أخيرا لاهثا بصوتٍ خطير
( لا دخل لكِ بها ....... أفهمتِ ...... لا تنطقي حتى اسمها على لسانك مطلقا ... )
ارتجفت شفتيها و همست بفراغ
( هل سأدنسه لو نطقته ؟............ )
صرخ بغضب
( نعم ...... نعم ......... مجرد نطقك له سيدنسه ...... )
اخذت نفسا مرتجفا .... و هي تحاول ان تتماسك ... تحاول و تحاول .... ثم لم تلبث ان صرخت فجأة و هي تضرب صدره
( توقف عن اهانتى ......... )
امسك بمعصميها بقوةٍ ليدفعها عنه فسقطت ارضا بعنف .... حينها تأوهت بشدةٍ من صلابة الأرض الباردة ...
لكنها لم تهتم ... فقد كان الألم بداخلها أفظع ....
حينها انحنت على نفسها و هي تبكي بصوتٍ خافت ....
بينما هو بدا غير قادرا على مراقبتها أكثر ... فاندفع عابرا من فوقها ... وهو يهدر غضبا بجنون
( صباحية مباركة يا عروس .......... )
كان يدور حول نفسه غير مسيطرا على ما بداخله ....
دوامة متداخلة .... تطوف سريعا
حبه الغبي لها ... ثقته السريعة بها .... رقتها و برائتها الزائفة و رغبته الحمقاء في دفن نفسه بتلك البراءة المعرضة للخطر ...
ثم الصدمة التي ضربت ثقته فجأة .....
ثلاث أزواج !! ....
ضرب أقرب حائط له بقوة .....
وهو يهمس بجنون هادر
" ثلاث أزواج قبله !! ... "
كل منهم دفع لها ثمن ما ناله منها ......
من بينهم مختل نفسيا من الواضح أنه كان ساديا معها ....
و آخر ... عرف الآن أنها كانت تحبه !!
ذلك الذي ذهب اليه مدافعا عنها ... مهددا له من أن يمسها بسوء !!!
عاد ليضرب الجدار مجددا بكل قوته ....
من المؤكد أنه ضحك منه حتى أوجعته معدته .... كم كان غبيا مثيرا للشفقة ...
أخته .... أخته .....
رفع وجهه مجددا بملامح غير مفسرة ..... مجرد نطقها لاسم لجين كاد أن يطيح بالمتبقي من صوابه ....
نظر في اتجاه المطبخ ....
كانت لا تزال ظاهرة له و هي على نفس الوضع .... متكورة ارضا ... و كتفاها تهتزان ببكاء صامت ...
و كأن تعب الليلة الماضية قد حل عليها أخيرا ....
رفع يده ليغرز اصابعه في شعره , يكاد ان يقتلعه من جذوره .... بينما بدت عيناه حمراوان بلون الدم وهو ينظر اليها ....
مجيئه بها الى هنا كان اكبر خطأ ارتكبه في حياته ..... و عليه ان يدفع ثمنه كل لحظة قبل ان يقرر اطلاق سراحها ....
اسرع الى غرفته كي يبدل ملابسه كيفما اتفق ... وهو ينوى الخروج من هذا البيت في اسرع وقت قبل أن يؤذيها اكثر ....
و ما ان خرج من غرفته مستعدا للخروج ... حتى وجدها خارجة كذلك من باب المطبخ ... مطرقة الرأس ...
تمسح وجهها بظاهر يدها و كأنها إكتفت ... فما ان شعرت به حتى رفعت وجهها تنظر اليه بنظراتٍ واهية ...
ثم همست قبل أن تستطيع منع نفسها بصوتٍ مرتجف قليلا
( الى أين أنت ذاهب ؟! ........... )
ظل ينظر اليها طويلا .... قبل أن يقول بصوتٍ جليدي قاسي
( لا شأن لكِ .... حدودك اهتمامك هنا تقتصر على جدران هذا البيت .... و بالتحديد غرفة النوم لا أكثر ... )
عاد وجهها الغبي ليحمر قليلا .... قبل أن يشحب تماما و هي تتطلع اليه بصمت , قبل أن تومىء برأسها لتقول بصوتها الفاتر
( حسنا ............... )
كان رضاها المستسلم الذي تتخذه بقصد يثير جنونه بشدة ..... فهو يعلم جيدا اي قطة شرسة هي ... و أنا ما أن تخرج مخالبها حتى تتحول الى قطة أزقة بلسان ملوث .... فأي لعبةٍ تنتوي !!
كان ينظر اليها بغضب ...و في داخله رغبةٍ خائنة من التمتع بحلاوتها مجددا ...
لكنه كان متأكدا ان كل مرةٍ سيفعل .... سيخسر جزءا من نفسه ..........
استدار كي يخرج ... لكنها نادته بسرعةٍ و بصوتٍ ضعيف من خلفه
( وليد .............. )
توقف مكانه قبل ان ينظر اليها .... دون أي تعبير يمنحها بعض الرقة .... فقالت بخفوت
( هل ستعود الليلة ؟؟ .......... )
ابتسم بشراسةٍ مقيتة وهو يقول متأملا ....
( اشتقتِ الي بهذه السرعة ؟!! ...... لا داعي للتظاهر .... فقط كوني موجودة و هذا يكفي )
استدار قليلا ... الا انه عاد و التفت اليها قائلا بجمود
( حتى اعود ........ يمكنك التفكير مليا بوضعك ..... لو شعرتِ بالرغبة في الإنسحاب ........)
رفعت وجهها اليه بملامح باهتة .... منتظرة قراره .... الا انه قال ببرود مشيرا الى الباب
( يمكنك الخروج ........... و ستحصلين على ما وعدتك به ........ )
فغرت شفتيها قليلا .... و هي تشعر بان قلبها يهوى بين قدميها .... و هذا يدل على ان هذا القلب لا يزال يحمل بداخله شيئا ما .. مدمغ باسم وليد ....
فقالت بصوتٍ مهتز
( ظننتك رفضت انسحابي ليلة ..... ليلة امس !! ....... هل غيرت رأيك ؟!! ....... )
التوت ابتسامته بقسوةٍ وهو يقول بصوتٍ مزدري
( لقد نلت ما اردت بالفعل ...... لا انكر انني ساكون ممتنا بتكرار التجربة .... لكنني ارفض دور الاغتصاب المثير للشفقة الذي تعمدتِ رسمه ليلة امس ....... قد يفلح مع بعض مرضى النفس .... الا انه لا يعجبني .... لذا لو اردتِ البقاء هنا , عليك نبذ هذا الدور تماما ..... و معرفة امكانياتك و حدودك ...... و طبيعة وجودك هنا ...... مفهوم ؟ .... )
لم ترد عليه .... لكن نظرة عينيها شعر بهما و كأنهما لكمة قوية في معدته .... فاستدار هذه المرة مبتعدا وهو يعلم بانه سيعود و لن يجدها ..... خاصة و أنها ستحصل على ما وعدها دون جهد ....
صفق الباب بعنف وهو يقول ضاحكا بوجع
( كل ما ربحته يوما ..... مقابل ليلةٍ واحدة ! ..... يالها من صفقة !! ..... )
ابتعد سريعا بصدرٍ يلهث غضبا ... مدركا أنه كتب نهاية تلك المهزلة .... و سيترك لها مهمة التوقيع عليها ......

كانت لجين تنظر من شق الباب و هي ترى وليد مندفعا ... و على ملامحه عواصف و براكين ....
الى ان خرج من البيت ..... بينما كان قلبها هي الأخرى يعصف قلقا ...
لكنها سمعت صوتا من خلفها يقول بلهجةٍ آمرة يحمل نبرةٍ صارمة ترهقها
( لماذا تقفين عندك بهذا الشكل يا لجين ؟! ................ )
اغمضت لجين عينيها عدة لحظات ... قبل ان تغلق الباب و تستدير ببطىء قائلة بهدوء
( صباح الخير يا خالتي ........ كنت انتظر نزول وليد ..... لكنه كان يبدو غاضبا .. مستاءا ... لا كعريس في صباح ليلة زفافه ....... )
نظرت الي خالتها سمية ....
كالعادة تطيل النظر اليها كل مرة .... ملامح قاسية حادة قليلا ... لكنها تضم خلفها قلبا مراعيا و قلقا مستمرا ...
لقد اتى بها وليد كي تسكن هنا معها ... و ابتعد هو ..... منذ أن .....
تنهدت بألم و هي تترك وشاحها ليسقط عن شعرها الناعم و الذي انسدل على جانبي وجهها برقة تناسب رقة ملامحها ... بينما اطرقت بوجهها و هي تقول بخفوت
( اردت رؤية العروس الجديدة ...... تبدو حلوة و صغيرة للغاية .... و هي بجوار ضخامة وليد يشكلان ثنائيا جميلا ..... للغاية .... )

زفرت سمية بقوةٍ وهي تقول
( كفي عن احلامك العاطفية تلك يا لجين .... هل تخدعينني ام تظنين انني لم اسمع صراخهما ليلة امس كاملا ... )
ابتعدت و هي تضع كوبين من القهوة المرة على الطاولة قبل ان تقول بصوتٍ رافض
( من اين اتى بها ؟!! ........ زيجة مريبة و لا تناسبه .... )
سحبت لجين الوشاح عن رأسها فانسدل شعرها البني الطويل من تحته على كتفها و هي تقول بجدية
( انها اختياره يا خالتي ...... لذا لا يحق لنها الإعتراض ... كما أنها تبدو .... لطيفة و مسكينة )
أطرقت بوجهها قليلا ... ثم اتجهت الى الكرسي المجاور لكرسي خالتها ... فجلست بجوارها ببطى و امسكت بكوب قهوتها بين كفيها الرقيقتين تنظر الى الدخان الخفيف المتصاعد منه ...
قبل ان تقول بحذر
( هل استطعت تمييز شيئا مما كانا يصرخان به يا خالتي ؟...... )
رفعت سمية وجهها الحاد القسمات اليها و هي تقول بصرامة
( هل سأتلصص على ليلة زفاف اخيك و زوجته يا لجين ؟!! ....... )
زمت لجين شفتيها بكبت ... ثم تنهدت و هي تعيد عينيها الى سطح القهوة الداكنة ... ثم قالت دون ان ترفع عينيها
( لقد كان سعيدا ذات يوم حين اخبرني بان هناك فتاة يريد ان يعرفني بها ...... لكن وجهه بالامس بعد فترة غياب طويلة .... لم يكن نفس الوجه المشرق الذي تكلم عنها برقة ....)
زمت سمية شفتيها مجددا و هي تنظر من النافذة لتقول بصوتٍ جامد
( فتاة تعرف عليها في عطلة ..... ماذا ننتظر من زيجة كهذه ؟ .... نحن حتى لم نعرف لها والد او عم او خال ......)
نظرت اليها لجين طويلا .... قبل أن تقول بخفوت
( ربما كانت وحيدة .... و لا أقارب لها ....)
تأففت سمية و هي تقول بغضب
( و لماذا يتزوج من فتاة ليس لها كبير ؟!! ...... أخاك متهور منذ صغره .... دائما ما يتهور و يندم بعدها )
تركت لجين كوب قهوتها .... لتقوم ببطء و هي تشعر بجدران هذا البيت تخنقها ....
فقالت بهدوء بعد فترة طويلة
( اعتقد أنني يجب أن اعد لها بعض من طعام العروس و أحمله لها ....... )
رفعت سمية رأسها قائلة بصلابة
( لجين ....... لا تعاندي , لقد شدد وليد الا نصعد لها ...... )
زفرت لجين بقوةٍ و هي تقول بألم
( هل هي سجينته ؟!! ...... أنا لم أعد أفهمه مطلقا ..... هل يحاسبها على ما حدث لي ؟!! ..... )
هتفت سمية بصرامة
( توقفي عن ذكر ذلك مجددا يا لجين ...... لقد انهينا الأمر و تعبنا الى أن نسي وليد ما حدث .... )
رفعت لجين عينيها الى عيني سمية الصارمتين ...بملامحٍ متألمة حزينة حزنا دفين .. ثم همست بصوتٍ غريب
( نعم ..... هذا هو المهم ..... أننا تمكنا من جعل وليد ينسى ..... بينما أنا ..... ربما كان الموت لي افضل )
تحركت الى الداخل تريد ان تبتعد و هي تتجاهل نداء سمية الصارم من خلفها
... علها تجد المساحة كي تشعر بأنها انسانة مجددا ... لا مجرد مدعاة للخزي .....
.................................................. .................................................. ....................
( و ...... شكر خاص جدا من قلبي ... لابن عمتى ... و زوجي ..... و حبيبي ....له الفضل في وقوفي هنا بعد الله .... فلولاه لما تمكنت من الوقوف على قدمي ...... )
توقف مكانه متسمرا ..... وهو يرفع وجهه قليلا عاقدا حاجبيه ... بينما يشعر بقلبه ينتفض بطريقةٍ غريبة .. و هو يسمع نبرات صوتها الشجي تتردد في مكبر الصوت ...
ليتكرر صداها من حوله في موجاتٍ حالمة .... شرسة ..... تخبره أن أوهامه تسيطر عليه .....
لم يتقدم خطوة أخرى .... و لم يستدير حتى ليعود و يتأكد إن كانت فعلا قد نطقت بما سمعه للتو .....
ظل مكانه ينعم بتلك النغمة القصيرة التي سمعها للتو .... من زوجته !!
ما أروعها كلمة .... فاقت كل كلمات الغزل
زوجته .... تلك النجمة الساطعة التي تتألق في بداية ممرٍ طويل و الأعين كلها مسلطة عليها ....
جعلته فخورا بها .... و كأنها كانت وردة صغيرة مغلقة ... ثم تفتحت بين يديه ....
و ها هي تزدهر بحبه أمام العالم كله .... و الصدى يتردد في صدره .....
حين سمع التصفيق أدرك أن النغمة الرقيقة انتهت ....
فأخذ نفسا عميقا و ساقه تتقدم خطوة لمتابعة خروجه ... بينما الأخرى تتلكأ ....
ظل مكانه يقاوم خطوته برجاء قلبه .... بينما عقله يأمره بالذهاب و تركها الى أن تأتي اليه ....
و لم تمر لحظتين حتى همس بصوتٍ أجش غاضب
( تبا لكل المنطق ..... إنها زوجتي .... )
ثم استدار عائدا يسارع الشوق اليها ... و كأنه تركها منذ سنوات ...
و مرآى وجهها و هي تضحك له في السيارة يغرق قلبه .... و ملمس شفتيها على شفتيه ووجنته تملآنه نشوة لا تزال تاركة آثارها بقوة حارقة .....
لكنه ما أن وصل الى مكان العرض حتى لمح طيفها و هي تبتعد مسرعة لتختفي خلف ستارٍ جانبي و كأنها تلحق أحدا ...
وقف سيف مكانه بإحباط وهو ينظر في اثرها بين الجموع التي بدأت تتدافع من حوله ... فزفر بحنق ...
انها زوجته !! ..... زوجته هو ..... و ها هي تعاود الإبتعاد بسرعة البرق ....
همس بخفوت
" هذا ما كنت أخشاه ....... "

.................................................. .................................................. ....................
( أنت لم ترى عينيه ..... انه مجنون , انها نفس النظرة التي كانت بعينيه قبل ان يقيدني و يتسبب في قتل جنيني )
سمعا فجاة صوت شهقة عاليةٍ ... تكاد ان تكون صرخة شقت المكان .... فاستدار كل من ملك و رائف وهما ينظران الى وعد التى وقفت على بعدٍ منهما ... متسعة العينين الى حد الذهول و هي تغطي فمها بيديها ....
و نظرة في عينيها اخبرتهما انها بالفعل قد عادتا الى وصفهما القديم .... "عيني الجثة " ....
تراجعت ملك قليلا بوجهٍ مخيف بعد أن انسابت زينة عينيها السوداء على وجنتيها و تشعبت .... الى ان ارتطمت بصدر رائف من خلفها و الذي رفع يديه تلقائيا ليمس كتفيها ....
ساد صمت غريب بين ثلاثتهم .... بينما بدت وعد بمنظر شاحب .. مرتعب ... و مع ذلك غير مستوعب ...
و حين تمكنت من النطق أخيرا ... قالت بصوت متشنج , به انكار للواقع
( أي جنين هذا ..... الذي ..... تتحدثين عنه ؟!!! ...... )
شعر رائف بملك ترتجف بشدةٍ بين يديه ... فشدد من قبضتيه على كتفيها تلقائيا دون أن يدرك ... بينما انعقد حاجباه و هو يدرك ما تشعر به في تلك اللحظة .....
فغرت وعد شفتيها و هي تدرك أن الصمت كان أوضح اجابة لسؤالها ... فطرقت وجنتها بقوةٍ و هي تهتف بذعر
( انطقي يا ملك ...... أي جنين هذا الذي تحدثتِ عنه للتو !! ..... هل كنتِ تهذين ؟أما أنا كنت أتوهم ؟!! )
قال رائف بصوت خافت صارم
( اخفضي صوتك من فضلك ......... هناك ما يجب أن تعرفيه قبلا .... )
انتقلت عينا وعد بذهول و عدم فهم اليه ...و كأنها تشاهد مسرحية هزلية .. تبعث الرعب في أوصالها ....
فصرخت بجنون ......
( من أنت أصلا ؟!! ........ هل أنتما مجنونين ؟!! ....... ماذا كنتما تقولان منذ دقيقة واحدة ؟!! .... )
تكلمت ملك أخيرا بصوتٍ خافت صلب على الرغم من ارتجافها
( لقد تزوجت أثناء سفرك يا وعد ...... و كنت أحمل طفلا لكن حدث أن ....... ضاع الحمل )
خفت صوتها و ارتجف في العبارة الأخيرة فصمتت تتأمل الذعر البشع على ملامح وعد .... التي كانت تنظر اليها بذهول ...
و ساد صمت متشنج بينهما .... بينما وعد تهز رأسها قليلا تحاول استيعاب ما سمعته للتو ....
و ما ان وجدت صوتها حتى هتفت بجنون
( تزوجتِ ؟!! ......تزوجتِ من ؟!! و كيف ؟!! ...... هكذا بمفردك ؟!! .....اين هو زوجك هذا ؟!! .. )
ارتجفت شفتي ملك بشدةٍ امام عيني وعد مما زاد من جنون شكها ... فهتفت بجنون و ارتياب بينما القلق ينشب مخالبه في صدرها بعنف ....
( انطقي ..... اين زوجك هذا ؟!! ... لقد عدت منذ فترة لا بأس بها , لماذا لم يأتي لرؤيتي حتى الآن؟!! .... )
اخفضت ملك وجهها بضعف و خذلان ...... لكنها همست بصوتٍ ميت
( لقد ....... تركته ..للأبد ........ )

ازداد ذهول وعد و شحوبها و هي ترفع يدها الى صدرها الخافق بعنف ... و هي تهز رأسها بعدم تصديق ...
ثم سرعان ما عقدت حاجبيها بشدة و هي تتأمل ملك بدقةٍ قاتلة .... و الإدراك يكذب الأمل الواهن ...
فقالت بصوتٍ مرتجف .... يكاد أن يكون متوسلا
( زواج رسمي ...... اليس كذلك ؟! ........ مأذون و شهود و ..... اليس كذلك ؟)
أغمضت ملك عينيها بأسى ...... بينما فغرت وعد شفتيها و هي تدرك الإجابة قبل ان تقول ملك بصوتها الميت النبرات
( عرفي .............. )
ظلت وعد تلهث قليلا و هي تتلقى الكلمة التي ضربتها في مقتل .... ثم لم تلبث أن قالت بصوت خافت يسبق العاصفة ... متوقعة ما هو ظاهر للأعمى ....
(و الآن يرفض الإعتراف به ببساطة ...... اليس كذلك ؟! ..... )
لم ترد ملك .. و لم ترفع وجهها ... بل ظلت مطرقة الرأس بملامحها الباهتة ... فهتفت وعد بصوتٍ خافت يهذي
( ياللمصيبة !!! ........ ياللمصيبة !!! ..... )
تدخل رائف يقول بصوتٍ خافت ليقول بينما صدره يغلي بنار الغضب المتأججة تجاه الحقير و الذي كان السبب في كل هذا ...
( سيدة وعد لو فقط تمكنتِ من سماعها حتى النهاية ........ )
رفعت وعد وجهها منتفضة و هي تقول بعينين تقدحان شررا
( أسمعها ؟!!! ..... نعم أنا أريد أن اسمعها ..... لكن على ما يبدو أن لا شيء لديها لتنطق به بعد تلك المصيبة التي طعنتني بها ....... )
هزت رأسها قليلا و هي ترفع يدها الى جبهتها ... تتمنى أن يكون ذلك كابوسا لتصحو منه سريعا ...
ثم لم تلبث أن صرخت بهياج
( لماذا ؟!!! ......... لماذا فعلتِ ذلك بالله عليك ؟!! ....... كنت أنوي أن أزوجك كأميرة .... بعد أن بدأت الدنيا تبتسم لي أخيرا ..... لماذاااااا؟!! .... )
رفعت ملك وجهها الباهت الى وعد و قالت بخفوت
( أنتِ فعلتها من قبل ....... و لم أحاسبك ...... لكل منا حياتها ...... )
شهقت وعد بقوة ... ثم صرخت بجنون
( اياكِ و أن تقارني نفسك بي بعد فعلتك السوداء ..... أنا تزوجت زواجا لا شائبة به , .... و على الرغم من ذلك مجرد الفارق بيني و بينه جعلني أخفي الأمر عنكِ كي لا أسبب لكِ الحرج .....
ألم تجدي سوى زواجي لتقلديه تقليدا رخيصا !!......
زواجي الذي عانيت منه أياما و أشهرا و أنا أعامل كخادمة !! ...... هل هو عناد غبي منكِ لتكرري التجربة مع الفارق الشنيع بين الزيجتين !! .......ألم تتعلمي شيئا من زواجي البائس كي تترفعي بنفسك عن مثله ؟!! )
كان واقفا متسمرا مكانه خلفها يسمعها و هي تنطق بسمومها الطائشة يمينا و يسارا ....
بدا متسمرا مكانه و هو غير مصدقا لأن ذلك الفم الذي يرمي بأسهمه المسممة .. هو ذاته الذي نطق بحبه للتو على الملأ !!
وقف سيف خلفها على بعد مسافة جعلته يسمعها بوضوح و هي تبين رأيها الصريح في زواجهما .....
بينما تابعت وعد هتافها بقهر .....
( لماذا ؟!!! ......... لقد أردتك أن تكوني أفضل حالا مني .... فاتخذت أنتِ حتى طريقا أسوأ و أبخستِ من ثمنك ...... تبا لكِ )
رفعت ملك وجهها فجأة و هي تنظر الى وعد و كأنها تنظر الى مخلوق غريب .... و فجأة صرخت بعنف
( ليس لكِ الحق في محاكمتي ......... أبدا ..... أنتِ بالذات ليس لكِ الحق , لذا سواء تزوجت أو حتى ارتكبت خطيئة , فلا تشغلي بالك بحياتي .... اهتمي انتِ بحياتك بمنتهى الأنانية كما تفعلين دائما .... فهذا ما تجيدينه ....... )
فغرت وعد شفتيها غير مصدقة لهجوم ملك المفاجىء ..... و كأن شيطان قد تلبسها و هي تصرخ بعينين ناريتين ليستا عينيها الطيبتين أبدا ....
لكن وعد لم تتمالك نفسها و هي تندفع اليها ... رافعة يدها صارخة
( و تجرؤين على اهانتي بعد ما فعلتِه !! ........... )
حينها ترك رائف كتفي ملك في لحظةٍ ليندفع أمامها بقوةٍ .. ثم التقط معصم وعد المرفوع في الهواء و قبض عليه قائلا بصرامة مخيفة
( توقفِ لحظة سيدتي ..... عند هذه النقطة لن أسمح لكِ بضربها ...... )
تسمرت وعد مكانها و هي ترى معصمها مقيدا في قبضته ... بينما كانت ملك تختبىء خلفه و هي تتشبث بذراعه ... تنظر اليها بنظرة رفض لم ترها في عينيها سابقا .... حينها قالت وعد بعدم فهم
(كيف تتدخل بيني و بين أختي ؟!! ....... من أنت ؟!! ........... )
رد رائف بصوتٍ قاطع
( مما رأيته ...... يمكنك القول بأنني المسؤول عنها .... لذا وجههي حديثك لي .... )
شحب وجه وعد و هي تنظر الى صرامته و ملامحه القاطعة ... بينما اندفع صوت جهوري من خلفها يقول بجنون
( أنت ...... أترك يد زوجتي حالا ....... )
جذبها سيف بجنون ما أن ترك رائف معصمها .... و أبعدها خلفه بينما قبض على قميصه هادرا
( كيف تجرؤ على أن تمس زوجتي !! ........ )
قبض رائف على كفي سيف الممسكتين بقميصه بقوةٍ ليبعدهما بعنف قبل أن يسحب نفسا خشنا ... ثم لم يلبث أن قال متراجعا بصوتٍ خشن
( آسف ........... لكني لم اكن لأسمح لها بضرب ملك , أنا من أتيت بها الى هنا .... و أنا من سأعود بها )
ارتبك سيف قليلا وهو لا يزال يدور في دوامة الصدمات المتتالية ما بين ما اكتشفه عن مصيبة الصغيرة ملك ... و بين ما نطقت به وعد للتو .... و منظرها الهمجي و هي تحاول ضرب ملك ...
التفت رائف قليلا الى ملك المتشبثة بظهره وقال بخفوت
( تعالي يا ملك ...... سنرحل من هنا , .... اخلعي فستان الزفاف هذا أولا و بدلي ملابسك .... )
الا أنها اندفعت من خلفه فجأة و كانت عيناها لا تزالان على وعد لتقول من بين اسنانها و قد فاض بها الكيل
( الآن تريدين ضربي !! ...... لانني شوهت الصورة المثالية التي تحاولين رسمها .... لأنني خذلتك امام اسرة زوجك المحترمة ..... بينما كل ما انا به بسببك .....)
هتفت وعد بذهول و هي تندفع اليها بينما امسكها سيف من خصرها قبل ان تتهور و تؤذي ملك الصغيرة ...
( بسببي أنا ؟!! ..... لماذا .... هل تلقين علي اللوم لانك جعلت نفسك العوبة في يد فتى طائش يرفض الاعتراف بك الآن !!! ..... كيف تجرؤين ؟!! .... )
هجمت عليها ملك و هي تصرخ و قد بدأت تنتحب بقوة .. بينما رائف يمسك بها هي الأخرى و هي تبدو في حالٍ غريبٍ عليها
( انهم يدعون انني مهووسة بسببك ...... يدعون انني اهذي و اتوهم ..... انا لست مجنونة ... و لم اكن يوما ..... لقد استغلوا ما حدث لي بعد ان تركتني ..... لقد تحملت وحدي حياة طويلة بعد ان رحلت مع والدك .... و لم المك يوما ....... و الآن يدعون انني كنت طفلة مهووسة و اعاني خللا ..... انا لم اكن اعاني اي خلل ... و لست مهووسة ..... لقد كان صديقي ... كان اقرب الناس لي ... كان الوحيد الذي تمسك بي .... و ظنته سيظل كذلك .... انه زوجي ..... اقسم بالله انه زوجي .... )
كانت تحاول الاندفاع الى وعد بقوةِ و هي تبكي و تنتحب و كأنها تهذي ....
الا ان رائف كان ممسكا بها بشدة يمنع هجومها على وعد .... وعد التى همست و هي تهز رأسها بغباء
( لست افهم حرفا واحدا مما تقولينه ....... )
نظرت الى وجه سيف الذي كان يضمها بشدةٍ الى صدره و هزت رأسها بعدم تركيز و هي تقول
( لست افهم منها شيء ....... اي هوس و مرض ؟!! ......)
كان سيف ينظر اليها بملامح جامدة وهو يضمها اليه بقوةٍ و قد شحب وجهها بشدة ... تحاول فهم اي شيء دون جدوى ....
انهارت ملك بشدة على صدر رائف و هي تغطي وجهها بكفيها تنفجر ببكاءٍ عنيف ....
بينما تشنج هو للحظة ينظر الي رأسها المحنى ذو الخمار ... ثم لم يلبث أن ضرب الحائط بكل التقاليد حين رفع ذراعيه يضمها اليه برفق و هو يقول بخفوت
( لكن أنا أفهم ............. )
سمعته ملك و كأن صوته الرجولي العميق قد تخلل الى موجات انهيارها ...
و كأنه ضوء طفيف اخترق ظلامها
فرفعت وجهها المغرق بزينتها السوداء .... و قالت بصوت مرتجف
( أريد أن أخرج من هنا يا رائف ..... أرجوك ابعدني عن هذا المكان .....أرجوك ... كان علي أن اسمع كلامك و لا آتي )
توهجت عيناه للحظة دون أن تتركها ذراعاه .... لكنه قال بخفوت وهو ينظر الى فستان الزفاف الذي ترتديه
( الن تبدلي فستانك أولا ؟!! .......... )
نظرت الى فستانها بصمت .... ثم قالت بنبرةٍ ماساوية
( أريد الخروج حالا ...... أشعر بالإختناق في هذا المكان ..... )
انخفضت ذراعاه من حولها ... الا أن كفه الضخمة أحاطت بيدها بقوةٍ ... ثم استدار الى وعد و سيف قائلا بصوتٍ حازم
( سأعتني بها ........ )
جرها خلفه خطوتين ... الا أن وعد صرخت فجأة
( قف مكانك ..... الي أين تأخذ أختى ؟ .......... )
أمسك سيف بذراع رائف وهو يمر به ليقول بقوة
( ملك ستظل مع أمي و شقيقتي ............ لن أسمح بغريب أن يأخذها من أهلها ... )
الا أن ملك رفعت وجهها الجامد و قد نفذت دموعها لتقول بصوتٍ باهت يحمل صيغة القرار المنتهى
( رائف ليس غريبا ....... أنا اخترت الذهاب معه , و أنا لست قاصر .... لكن شكرا لك على كل شيء )
اظلم وجه سيف بحرج بعد أن تمردت ملك على أمره ... و لم يكن ليستطيع أن يمنعها بالقوة و هو لا يملك عليها أي حق أو سلطة .....
قال رائف بخفوت
( اعذرني ...... وعدت أن أحميها , و هذه هي رغبتها )
و دون كلمة أخرى جرها خلفه و هي ممسكة بكفه ...دون أن تنظر مرة واحدة للخلف ...
و كانت هذه المرة هي المبادرة بترك وعد .... دون أحساس بالندم ....
شهقت وعد بقوةٍ و هي تهتف متشبثة بقميص سيف
( امنعها يا سيف ..... افعل شيئا .....امنعها بالقوة ....... )
نظر الى وجهها الشاحب بجمود و ملامح غامضة قبل أن يقول بصلابة
( لا أملك منعها ....... )
صرخت وعد بقوةٍ و هي تضرب صدره بقبضتيها
( ما تلك السلبية !!.... تحرك .... افعل شيئا ....... مارس احدى سلطاتك الهمجية التي كنت تمارسها نحوى ... أنت أكثر شخص متقلب رأيته بحياتي ...... أختى خرجت مع رجل غريب و أنت تتركها مدعيا التحضر ...... تحرك ..... )
قبضت يداه على معصميها بقوةٍ يمنعها عن ضرب صدره .... وهو يهدر بصرامةٍ قاطعة
( توقفي يا وعد ........ توقفي ..... ملك ليست قاصر ... و لا أستطيع جرها من شعرها علنا لو لم ترغب في العودة معك أو معي ...... )
كانت وعد تنظر اليه بعينين متسعتين ذاهلتين ... غاضبتين ... دامعتين ... بينما كان صدرها يلهث بشدة و هي لا تزال متشبثة بمقدمة قميصه .... لتهمس بإختناق
( كانت تحمل طفلا !! ..هل سمعت ذلك ؟!! ..... ملك الصغيرة تحمل طفلا في أحشائها .... من رجل يرفض الإعتراف بها .... هل سمعت ؟!! ..... هل سمعت ذلك مثلي أم أنني كنت أعيش مجرد كابوس ؟!! ... )
رفع يده الى وجهها بعد فترة نظر الى عينيها القتيلتين ... قبل أن يهمس بخفوت
( سمعت حبيبتي .......... )
شهقت نفسا مخنوقا و هي تهز رأسها بعدم استيعاب .... ثم همست بهذيان
( و أنا ..... أين كنت حين حدث كل هذا ؟!! .....أين كنت ؟!! ....... )
شدد سيف على وجهها بقبضتيه قبل أن يقول بصوتٍ قاسٍ قليلا
( لن يجدي الكلام الآن يا وعد ...... تعالي الى البيت .... لنفكر كيف نحل تلك الكارثة .... )
نظرت اليه بعينين تبرقان فجأة ... ثم نزعت يديه بعنف عن وجهها و هي تصرخ
( كنت معك ...... لطالما كنت معك ....... كنت مشغولة بمعضلة زواجي بك .... بينما انت بكل عنجهية لا هم لك الا اخضاعي ... مرة في العمل و بعدها ببيت عائلتك .... ثم خطفي ..... اشهر تلي اشهر و انا ادور في دوامة سيف الدين فؤاد رضوان .... احاول ابعادك مرة .. بينما رفضك اخرى ... ثم ارضائك مرة ..... الى ان حاولت الهرب منك في الأخير مرارا ..... و لم أفلح في كل تلك السبل .....
بدلا من الإهتمام بأختى التي فقدتها قديما ..... كنت مشغولة بدوامتك المجنونة ..... )
صمتت تلهث امام عينيه الصلبتين ... و كأنهما تدعونها الى المتابعة ... و الا تصمت ....
فتابعت بالفعل و هي تضرب صدره هاتفة بقهر
( هل أنت راضٍ الآن ؟!! ....... هل حصلت على مبتغاك من ابنة عبد الحميد العمري ؟!! .... هل نلت حق والدتك أخيرا ؟!! ....... )
ساد صمت طويل بينهما ..... و هي تشهق بقوةٍ و كأنها تحاول التنفس ... فقال سيف بصوتٍ غريب غير مقروء
( هل انتهيت ؟!! ............. )
رفعت وجهها الشاحب اليه .... لتقول بصوت ميت مذبوح النبرات
( مهما أنكرت ...... و مهما كان حبك لي , أدرك أن بداخلك سعادة لا تقدر على دفنها ...... لقد نلت انتقامك بحق هذه المرة ...... دون أن تريق بيديك قطرة من دم المسكينة ملك .... دون أن تلوث أصابعك .... يكفي فقط أن أبعدتني عنها الى أن ضاعت مجددا ....... مهما أنكرت ... )
قاطعها بصوتٍ هادىء كشفرةٍ باردة بينما عيناه كانتا تخطان حروف النهاية
( لن أنكر ............ معك حق ..... لقد انتهت القصة ....... )
و دون كلمة واحدة اخرى .... ابعد معصميها عنه .. ليتراجع عنها خطوة قبل ان يقول بصوتٍ ثقيل جامد ....
( لقد تعبت يا وعد ........ لأول مرة أدرك أنني تعبت منكِ بحق ..... )
اطرق برأسه قليلا بينما هي تنظر اليه يائسة ..... تفصل بينهما مسافة مترين , و كأنهما ضما الصحاري و السهول ... ليقف كل منهما على حافة جبل مواجها للآخر ....
الى ان قال سيف في النهاية و كأنه يكلم نفسه
( انتهت القصة ................ )
ثم استدار ببطىء ليبتعد عنها ......
تنظر الى ظهره المفرود بخيلاء .... و كأنه اطول و اضخم من كل من هم حوله .....
لا تصدق انه يبتعد ... و هذه المرة سيكون البعاد الأخير .....
همست بإختناق تنادي الهواء الخالي من وجوده
( سيف !! .......... )
لكنه كان قد رحل ...... للأبد .......
حينها انهارت لما فقدت القدرة على الوقوف على قدميها .... فسقطت على ركبتيها ... تضم نفسها و شعور غريب بالبرد يجتاحها .... تنظر حولها بحدقتيها ... لا تصدق أن حلمها البراق انتهى ككابوس مرعب بضياع أختها و ........ حبيبها ....
لا يهمه اي شيء الآن سوى انه ممس بها الآن بين قبضته القوية .... تركض خلفه لتلاحق خطواته ...
و كأنه يريد التحليق و الإبتعاد بها الى العالم الآخر ... الذي ترتسم خطوطه كل يومٍ أكثر أمام عينيه ....
شعر بيدها الصغيرة تجذب يده قليلا و تشده ليقف ... بضعف شديد , الا أنه توقف على الفور و بقلبه خيبة من أن تطلب العودة لأختها بعد ان فكرت في الأمر ....
استدار ينظر اليها .... و كم كانت صورة عشوائية من الجمال و المأساة
بفستان الزفاف الأبيض ... و الخمار المتطاير .... بينما شعرها مشعث برقةٍ من تحته ... ووجهها مغطى بأصباغ الزينة و كأنها أبت أن تلوث برائتها فانسابت على وجنتيها ....
قال بخفوت
( ماذا تريدين يا ملك ؟!! ....... أتريدين العودة ؟! ..... )
شعر بالراحة حين رآها تهز رأسها نفيا ببطىء .... لكن بإصرار ... و كأنها سلمته أمرها بالفعل ...
لكنها قالت بصوتٍ خافت هامس يتذبذب
( انه هنا ....... أشعر به يلحقني ....... أنا خائفة ....... )
ظل ينظر اليها و عيناه على عينيها بنظرةٍ قويةٍ غريبة .... بينما صفير الليل يطوف من حولهما بعد أن ابتعدا عن الصخب قليلا ...
لكنه حين تكلم قال بصوتٍ ثابت
( لا تخافي ........ اتفقنا ؟!! ..... لا .. تخافي ....... )
رفعت يدها الحرة الي صدرها و هي تنظر جانبه قليلا ... ثم همست
( بل أنا خائفة جدا ...... أنت لا تعرف ما يمكنه فعله ..... لقد وثقت به مرتين ... و في المرتين نهايتهما كانت ......... )
ارتجفت بشدةٍ دون ان تكمل و انتهى ارتجافها بانتفاضة عنيفة ....و هي تشرد بعيدا ... حينها جذب رائف يدها اليه قليلا .. فساقها اليه خطوة وهو يقول
( أعرف مرة منهما ... حين ...... أجهض الطفل ...... اما الثانية , فهل تقصدين عقد الزواج ؟! ..... )
كانت حدقتاها تدوران و كأنها تنتظران ظهوره في الليل كمصاص الدماء .......
لكنها هزت رأسها قليلا قبل أن ترفع عينين متوسلتين الى رائف لتقول بإختناق ما أخفته طويلا
( كان من المفترض أن يكون عقد قران فقط ............ )
عقد حاجبيه قليلا ...... وهو يسأل بصوتٍ مهتز قليلا
( لا أفهم ...... ماذا تعنين ؟!! ......... )
اقتربت منه أكثر وصوتها يخفت أكثر و كأنها تهمس سرا بعينيها الواسعتين المترجيتين
( كان المفترض أن ....... أن ننتظر الى أن يوافق والده .... لكنه ......... لكنه .... لقد كانت مرة واحدة .... لا أستطيع أن أنسى تفاصيلها حتى الآن ...... )
فغر شفتيه قليلا ...... وحاجبيه ينعقدان أكثر و اكثر بينما عيناه تتوحشان الى أن قال بصدمة لا تنتهي مما حدث لها و لا زال يحدث
( هل ........ لا ....... لا ...... لا تخبريني أنه ........ )
ترك يدها فجأة ليقبض على وجنتيها بكلتا يديه يرفع وجهها اليه لتقابل عيناه الماردتين وهو يسأل مباشرة بصوتٍ يرتجف
( هل اغتصبك ؟!! .......... )
لم ترد ..... حدقتاها المهتزتان و شفتيها المرتجفتين أخبراه بالجواب .... لكنها همست بعدها بفتور غريب
( أريد أن اقتله ....... الرغبة في قتله تتزايد بداخلي يوما بعد يوم ..ماذا أفعل يا رائف ؟!! .. )
كان اسمه الذي خرج من بين شفتيها المرتجفتين بنغمةٍ ترج صدره رجا ... هو الشيء الوحيد الذي جعله يستفيق من هول الصدمة الجديدة و هو يترك وجهها لتسقط ذراعاه الى جانبه وهو يرفع وجهه عاليا الى الفضاء الأسود من حوله ... مغمضا عينيه بينما ملامح وجهه بدت مخيفة و هو يهتف بصوتٍ خافت محاولا التقاط نفسا باردا يهدىء من النار المشتعلة بداخله ...
( ياللهي !!! ............... )
كان يقف مغمض العينين ..... يتنفس بصوتٍ أجش , بينما جسده الرجولي يرتجف من هول الغضب و المحاولة الواهية للسيطرة على انفعاله حاليا ....
بينما قبضتاه كانتا منقبضتين بشدة ... حتى ابيضت مفاصل اصابعه ....
كان يبدو كمنظر رجلٍ ينوى ارتكاب جريمة .....
و كانت ملك تراقبه بعينين منحنيتين .... و بداخل قلبها الميت ... نقطة وحيدة حية تنبض ... لا لشيء سوى لتشعر بالشفقة عليه !!!!!
اليس هذا غريبا ؟!! ..... بل ضربا من الجنون ؟!!!
جزء كبير من خوفها تحول الى شفقة على هذا الرجل الغريب !! .... بدلا من ان تهتم بحالها المأسوي ... الا انها تقف هنا لتعطف عليه هو من شيء ...... لا تستطيع تحديده تماما .....
فهمست باختناق
( أنا .......آسفة ............ )
فتح عيناه و ارتجفت من هولِ النظرة بهما ..... فقال بصرامةٍ مخيفة
( لماذا تعتذرين ؟!! ............. )
فغرت شفتيها المرتجفتين .... و شعرت بنسيم الليل يطوف حولها فيطير خمارها .. و يتخخل جسدها مرسلا خيط من الصقيع بداخلها .....
فلفت ذراعيها حول جسدها النحيف ...... و همست بخوف
( لا ........ لا أعرف ....... )
استدار اليها بكليته .... ينظر لها باندفاع ليقول بعدها بصوتٍ رجولي مخيف على الرغم من ارتجافه ...
( ربما لأنك أخبرتني للتو بأنك تعرضت لإغتصاب ...... و ها أنا أقف عاجزا لا أدري ما أفعل ؟ !!! ...)
تشوشت الرؤية امام عينيها المبللتين بالدموع ....و هي عاجزة عن النطق .... الالم بداخلها كان كالذبح دون الموت .....همست أخيرا بصوت مختنق
( لا استطيع ادعاء أنني كنت ضحية كأي فتاة مغتصبة ........ لقد قبلت بزواجه و استحققت كل ما حدث لي لذا ليس لي حق الشكوى ........ لكن الرغبة في قتله بداخلي تتزايد ...و تخنقني .. )
صمتت قليلا و هي تبتلع غصة في حلقها ... بينما التوى فكه بصعوبةٍ و جنون
ثم همست مجددا
( أبقى وحدي طويلا ...... لأتفنن و أتخيل طرقا مختلفة في قتله و تعذيبه قبلها ....... )
يستطيع فهمها جيدا ..... ان كان هو حاليا بدا يرسم في خياله صورة دمه المدنس على يداه ....
فساد صمت قاتم بينهما ..... و كل منهما يعيش جنونه المؤلم ....
سمعا صوت نفير سيارةٍ فجأة .شق صمت الليل .. فشهقت ملك و هي تقفز لترتمي على صدره و دون وعي منه رفع يديه الى ظهرها ....
كانت السيارة قد مرت مسرعة ..... الا انه اغمض عينيه و يداه تشعران بنبض قلبها الذي يرف متخللا جسدها و صولا الى ظهرها تحت كفيه ......
انخفضت ببطىء مبتعدة عنه ..... و هي ترفع وجهها اليه .. بينما ترك يداه تسقطان عنها لينظر اليها بنظرةٍ صرعتها ..... و استمر الصمت بينهما طويلا قبل أن تهمس بخفوت
( إنه هنا .......... أستطيع الشعور بوجوده ..... )
رفعت يدها الى الصدرها اللاهث و هي تهمس
( إنه هنا ............. )
ساد صمت قصير بينهما ... بينما نظر رائف نظرة حولهما ... قبل أن ينظر الى عينيها و يقول بغموض
( أنتِ تتوهمين ....... إنه ليس هنا ....... لا تخافي ... )
كلمة تتوهمين ضربتها في مقتل .... فهزت رأسها نفيا و عيناها تغرورقان بالدموع ....و همست باختناق
( لست أتوهم ............. أنه خطير ... صدقني ... )
ظل صامتا قليلا .... وهو ينظر اليها نظرة غريبة .... فهمست بذعر
( أنت لا تصدقني يا رائف ؟!! ..... ما أخبرتك به للتو .... هل تظنها مجرد قصة أتوهمها كذلك ؟!! )
لم يرد عليها مما زاد من ألمها .... فضمت شفتيها بألم لتهمس بعدها بإختناق
( ربما كنت أتوهم ذلك أيضا ....... لم أعد واثقة من شيء .... )
أطرقت برأسها بألم .... حينها دس رائف يده في جيب بنطاله , و أخرج سلسلة مفاتيحه ... و قال بصوتٍ صلب لا يحمل اي مشاعر
( خذي ....... أنتِ تعرفين أين أوقفت السيارة ..... اذهبي اليها و اجلسي بها , سأذهب لاحضر شيئا ثم أعود اليك ...... )
رفعت وجهها المذعور اليه و هي تهتف دون أن تاخذ منه المفتاح
( لا تتركني بمفردي في الظلام أرجوك ...... سأتي معك ... )
قال رائف بصلابةٍ أشد .... و صوتٍ لا يقبل الجدل
( ربما لو رآك زوج أختك مجددا لافتعل فضيحة و أصر على أخذك بالقوة ..... انتظريني في السيارة )
قالت ملك بارتجاف
( لن يستطيع , لا يملك الجق لذلك ...... أرجوك لا تتركني .... لم أعد أملك القوة على مقاومته ... )
اقترب منها رائف ليمسك بكتفيها حتى رفعت و جهها اليه ... فقال بصوتٍ صلب
( هل تثقين بي ؟؟.............. )
أومأت برأسها تلقائيا دون أن ترد ..... فقال ناظرا الى عينيها
( اذن اذهبي الى السيارة و لا تخافي ....... أنا هنا ...... )
لم ترد و هي تنظر اليه مستجدية .... لكنه أمسك بكفها و فتحه ... ليضع به سلسلة المفاتيح و اطبق أصابعها عليها جيدا وهو يقول آمرا
( هيا اذهبي .......... )
ظلت تنظر اليه بصمت .... الا أنه أغلق قلبه بقوةٍ دون ان يستسلم لرجاء عينيها الطفلتين ....
سارت ملك تتجاوزه و هي ترفع حافتي الفستان بيديها ... تسير متعثرة و هي ترفع رأسها كل خطوةٍ لتنظر هنا و هناك خوفا .....
بينما وقف رائف مكانه ينظر اليها و كأنه ينظر الى طفلته تسير وحدها بين غابةٍ موحشة ..... و ذئابٍ ضالة ...
وصلت ملك الى السيارة .... و هي ترتجف بشدة , تكاد تقسم انه خلفها .... مدت يدها تلامس زجاج النافذة و هي ترتجف قليلا و يدها على سلسلة المفاتيح .. تبحث عن زر الفتح بأصابع مرتجفة ...
لكن همسة بصوتٍ أجش من خلفها جعلتها تتسمر مكانها بذعر
( مليكة ........ )
لهثت نفسا مرتجفا .... و أغمضت عينيها محاولة التماسك و الثبات ....
" حسنا اهدئي ...... انه شادي .... مهما كان ما ارتكبه , فهذا هو اقصى ما يستطيعه ... لا يملك شيئا اكبر ليؤذيك به ..... اهدئي و تماسكي ..... "
لم تكن قد رأته منذ هجومه الأخير عليها .... تقييده لها ... و اجهاض جنينها بالقوة , ثم محاولة اعتدائه عليها ....
لقد تحملت منه كثيرا من قبل .... و كانت تعرف أن به مس من الجنون .... و كانت من الغباء بحيث ارتضت بأن تقبله بكل اختلاله ...
لكن منذ آخر حادثة بينهما .... و هي تتلوى بين ذراعيه مستجدية بينما يقتل جنينهما بدمٍ بارد ...
جعلها هذا ترتعب منه و تدرك أنه مجرم ... و قد يفعل أي شيء في سبيل نيل رغباته ...
لقد أفزعها اجهاضه لها أكثر من اغتصابه ....
كانت من الممكن أن تمنحه اي تبرير لفقدانه السيطرة بناء على رغبته بها ....
لكن اهنتهاكها عن طريق الإجهاض ... كان شيئا آخر ... جعله في نظرها سفاحا ... ترتعب ما أن تسمع صوته ... تشعر بالغثيان ما أن ترى عينيه ...
تكلم مجددا من خلفها حين وجدها متسمرة مكانها مستندة الى باب السيارة ... غير قادرة على الإستدارة اليه
فقال بصوتٍ خافت أثار الرجفة في أوصالها
( الا ترغبين حتي في النظر اليّ ؟!! ....... إنه أنا .... حبيبك و زوجك ....... )
شعرت بغثيان شديد .. و رعب متزايد .... بينما همست في داخلها دون أن تفتح عينيها
" أين أنت يا رائف ؟!! .....أرجوك تعال .... أرجوك ..... "
تكلم كريم مجددا بخفوت ملح .... متوسل
( انظري الي فقط .... و ستغفري كل خطايايا .... انظري الى عيني و ستعرفين الجواب بنفسك , ... أقسم أنني ما فعلت ما فعلته الا خوفا من أن افقدك مجددا ..... أنا لست ملكا لنفسي ..... )
ابتلعت مرارة الكره التي ما عرفتها الا على يديه ... مقترنة بحبه الذي كان ....
قال مجددا وهي تسمع صوت خطواته وهو يقترب منها على الأسفلت القاسي ...
( وجودك في حياتي كان أهم من ألف طفل ..... و كان الإختيار بينه و بينك ..... )
هزت رأسها نفيا بصورة غير ملحوظة ... على الرغم من ارتجافها , و كأنها تقول
" لا ..... كان الإختيار بينه و بين هويتك ..... التي بعت نفسك من أجلها "
رفعت وجهها قليلا و هي تستنشق المزيد من هواء الليل البارد كي تقاوم الغثيان و الدوار ...
لكنها تشنجت أكثر و هي تشعر به خلفها تماما .. ثم توقف ... حينها نبض قلبها بعنف ... و توترت عضالاتها استعدادا للدفاع عن نفسها ما أن يحاول لمسها ...
الا أنه لم يحاول حتى هذه اللحظة و قال بخفوت و صوت يرتجف من فرض انفعاله برؤيتها بعد ايامٍ طويلة
( حين رأيتك بفستان الزفاف .... شعرت بصدري يتضخم و صورتك تملأ عيني بوهجٍ ساطع .... تخيلتك و أنت تمشين نحوي ....و أنا أنتظرك .... بعد كل تلك السنوات .... أخيرا )
نشجت بنفسٍ رافض ... دائخ .... و غضبٍ مكبوت ,
بينما تابع بخفوتٍ لاهث
( ارجعي لي مليكتي .... ارجعي لي و أقسم أن أقضي المتبقي من عمري في اسعادك و جعلك تنسين كل ما فات ..... )
سحبت ملك نفسا مرتجفا آخر و هي تهمس لنفسها بذات السؤال
" أين أنت يا رائف ؟!! .......... "
و فجأة شعرت بأصابعه فوق كتفيها وهو يهمس بشفتيه اللتين انخفضتا لتلامسان الفاصل بين عنقها و كتفها
( أنت الجمال نفسه ..... التفتي الي , لقد اشتقت اليك ِ بدرجةٍ جعلتني مجنونا ...... مجنونا يا مليكة .... )
حينها اندفع الادرنالين في عروقها فانتفضت صارخة بجنون و هي تستدير اليه كموجةٍ حريرية عنيفة
( ابتعد عني ...... اياك و أن تلمسني مجددا ..... أنت تقرفني ... )
اشتعلت عيناه بنظرته التي تعرفها و تخافها .... الا أنه أطبق بكفيه على خصرها بمخالبٍ شرسة وهو يتقدم بها الى أن ارتطمت بباب السيارة وهو يقول بنبرةٍ مهووسة
( تكونين مخبولة تماما ... لو تخيلتي للحظةٍ أنني قد أتركك ...... أنتِ ملكي منذ سنواتٍ طويلة و أنتِ ملكي )
أبعدت وجهها بقوةٍ أقصى اليمين و هي تتخبط محاولا التحرر من شفتيه اللتين كانتا تجولان على عنقها بلزوجةٍ قبل أن يرفع رأسه ليقول
( تعالي معي ...... هيا .... )
أمسك بذراعها و هو يكبل الأخرى محاولا اقتيادها الى سيارته ... الا أنها كانت تتلوى و تقاوم بساقيها صارخة
( أبتعد عني ...... سأصرخ ...... )
الا أنه كان خلفها يدفعها الى الأمام وهو يهمس بنعومةٍ
( لن يسمعك أحد هنا ...... لم يكن يجدر بحارسك أن يوقف سيارته في مكانٍ بعيدٍ كهذا .... )
اخذت ترفسه بقدمها في ساقه دون جدوى ... بينما كانت شفتيه تلامسان صدغها وهو يهمس دافعا ايها
( اهدئي يا ملك ..... لم أعتدك فرسا غير مروضة .... )
لكن فجأة شعرت بثقله يجذبها معه .... حين انتزعته قوةٍ هائلة مما جعله يشدها معه ... الا أن ذراعي رائف تلقتها قبل أن تسقط معه أرضا ... ليوقفها على قدميها و يبعدها خلفه .... صرخت ملك بقوةٍ
( أين كنت ؟؟؟ ........ )
لهث رائف بعينين تقدحان شررا وهو يقف متحفزا ناظرا الى كريم الذي وقع أرضا مثيرا الغبار من حوله
( كنت أنتظره ........... )
تشبثت ملك بظهره و هي تهتف برعبٍ مرتجفة
( أبعدني من هنا قبل أن ينهض ,....... أرجوك ..... إنه مجنون و قد يفعل أي شيء ....)
الا أن رائف وقف مكانه بقوةٍ نبضت سخونتها خلال كفي ملك و هو ينظر الى كريم الذي قفز واقفا بعينين مجنونتين .... ثم قال بهدوء
( ابتعدي يا ملك ........... )
الا أن ملك نشبت أظافرها في ظهره و هي تهتف بذعر ...
( لن أتركك ...... هيا لنغادر أرجوك ..... )
الا أن رائف هدر بصرامة
( ابتعدى يا ملك ........... )
زلزلتها صيحته فابتعدت تلقائيا و هي تنظر اليهما بخوف ... بينما كان كريم يقترب من رائف ببطء و هو يهز رأسه ضاحكا ضحكةٍ مهتزة
( آآه الحارس الشهم ..... الذي تولى على عاتقه أمر رعاية زوجتي ...... )
رفع عينيه الى عيني رائف الصلبتين بنيرانٍ باردة ..... ثم قال بصوتٍ كالفحيح
( لقد ضحيت بالكثير من أجلها يا خالي ..... لذا لن تمنعني قوة على الأرض من أخذها .... )
قال رائف بصوتٍ قاطع كالسيف
( على جثتي ............ )
حينها قال كريم بصوتٍ عالٍ بعد أن فقد قدرته على السيطرة على نفسه
( كما تشاء .......... )
ثم اندفع هاجما على رائف الذي ابتعد عنه في اللحظة الأخيرة .... مترافقا مع صرخة ملك ..
و ما أن تجاوزه حتى رفسه في ساقه .. و ما أن شهق كريم ألما حتى عاجله رائف بضربةٍ من ركبته بين ساقيه ....
حينها تأوه كريم بشدة و احمر وجهه بفظاعةٍ و هو يسقط على ركبتيه أرضا ....
بينما سارع رائف الى خلع حزام بنطاله الجلدي ... و قبل أن يتمكن كريم من النهوض كان رائف قد انحنى اليه .... ضاغطا بركبته على صدر كريم بشدةٍ جعلت عينيه تجحظان ألما ....
ممسكا برسغيه و ربطهما معا بحزامه ثم قال بقوةٍ
( ملك ....... هناك حبل في مؤخرة السيارة .... أحضريه حالا .... )
كانت ملك تنظر اليه فاغرة شفتيها بذهول و هي غير قادرة على استيعاب ما يقوم به فهدر بقوةٍ
( الآن يا ملك .................... )
لم تستطع ملك الا أن تجر ساقيها و هي تحضر الحبل متعثرة في حواف فستان الزفاف .. و ما أن ناولته لرائف حتى سارع الى ربط ساقي كريم معا ....
فغرت ملك شفتيها و كانها تشاهد فيلما غريبا ... ثم هتفت بذهول و هي ترى رائف يسحب كريم الذي كان يتلوى بجنون ... الى أن ألقاه على مقعد السيارة الخلفي .... ليصفق الباب بعنفٍ وهو يلهث
( ماذا ستفعل به يا رائف ؟!!! ....... )
ابتسم رائف بوحشية وهو يلهث قليلا ... ثم قال ببساطة
( سأحقق لكِ أمنيتك ........ سنقتله و نتخلص منه .... )
اتسع فم ملك المفتوح .... و اتسعت عيناها بذهول ... بينما دار رائف حول السيارة وهو يقول آمرا
( اركبي ............. )
ظلت تنظر اليه بذهول وهو يفتح لها الباب الأمامي منتظرا .... و ما أن رآها متسمرة مكانها حتى قال بهدوء
( هل تثقين بي ؟؟ ....... )
عادت لتوميء برأسها تلقائيا .... فقال بلهجةٍ آمرة لا تقبل الجدل
( اذن اركبي .......... )
جلست ملك في المقعد الأمامي و هي تلملم حواف فستان الزفاف .. الى أن أدخلته .. فأغلق رائف الباب خلفها .... ليدور حول مقدمة السيارة و سرعان ما انطلق بها ....
كانت عينا ملك تنظران الى الطريق الممتد المظلم أمامها ... و كأنها منفصلة عن الواقع ...
بينما كريم ملقى على المقعد خلفها و هو يصرخ بجنون ... شاتما و لاعنا ... مهددا بأقذع الألفاظ ...
كان صوت صراخه يبعث رجفة طفيفةٍ في جسدها
فأرجعت رأسها لتنظر اليه بجمود .... فالتقت أعينهما و برقت عيناه جنونا وهو يصرخ
( لن أحررك يا مليكة ..... أقسم بالله لن تتحرري مني ..... )
حينها قال رائف بصوتٍ آمر
( انظري أمامك يا ملك ............ )
فأطاعت أمره مباشرة و هي تعود بعينيها الى الطريق الممتد أمامهما .... بداخلها رضا سادي و هي تشعر بتلويه خلفها .... ضاربا ظهر مقعدها بركبتيه ....
فتمنت ان يطول الطريق .... كي تشعر بالمزيد من تلويه .... مقيدا بحزامٍ جلدي و حبل ....
شاهدت رائف ينعطف بالسيارة الى مكانٍ مهجور .... خارج الطريق السريع ....
و ما أن أوقف السيارة حتى نظر اليها و نظرت اليه بصمت في الظلام و كأن بينهما تواصل غريب .... فقالت في النهاية و هي ترتجف بشدة
( هل ستقتله حقا ؟!! .......رائف لا تتهور أرجوك لقد كنت أهذي ... لا تستمع لكلامي .... )
ظل ينظر الي عينيها طويلا قبل أن يقول بهدوء مشيع بصراخ كريم المجنون
( انزلي ........... )
نزلت ملك تنوي منعه من ارتكاب جريمة .... لم تكن قد وصلت بعد الى الحد الذي يجعلها مجرمة ..
صحيح أنها تخيلت طرق عديدة لموته ... الا أنها كانت مجرد تخيلات لتهدىء من مرارة انتهاكها ...
فتح رائف الباب الخلفي .. ثم سحب كريم من ساقيه الى أن رماه ارضا ...
تأوه كريم صارخا و هو يتلوى في قيده كثورٍ مذبوح ....
( سأقتلك ...... سأقتلك ....... )
الا أن رائف كان يدور حوله و هو ينظر اليه ... ثم قال بهدوء شق صمت الليل المهيب
( اذن يا حبيب خالك ... سنفعل ذلك بالطريق السهل .... و إما الصعب ... أيهما تختار ... )
صمت للحظة وهو ينظر الى تلويه الشرس ... ثم لم يلبث أن قال آمرا بصوتٍ مزلزل
( طلقها ........... )
نظرت ملك فاغرة الفم الى رائف الذي عرفته هادئا وقورا و قد تحول الي شخصٍ آخر وقت الحاجة ...
بينما صرخ كريم بجنون
( لن يحدث ..... حتى لو قطعت من لحمي ... لن يحدث .... )
حينها أومأ رائف برأسه بهدوء ... قبل أن يرفع قدمه ويرفسه في جانبه بقوةٍ ... مما جعل كريم يشهق بقوةٍ و عيناه تتسعان أكثر ...
ثم أعاد رائف بهدوء
( طلقها ................ )
صرخ كريم وهو يتلوى يمينا و يسارا
( لن افعل ..... انها زوجتي .... لا يحق لك ...... )
رفسه رائف مرة اخرى بشكلٍ اقوى ... مما جعله يصرخ عاليا , بينما صرخت ملك ايضا و هي ترفع يديها الى فمها ....
بينما قال رائف بهدوء
( هذه من اجل ايهامك لها بأن زواجكما كان رسميا ........ )
ثم ضربه مجددا فصرخ كريم اعلى .... و صرخت ملك مرة اخرى , و رائف يقول بصوتٍ مشتد
( وهذه من أجل اجهاضك للجنين الذي كانت تحمله ....... )
كان كريم يلهث بعذاب بينما صرخت ملك و هي ترفع يديها الى اذنيها و هي تتشنج و تبكي
( كفى يا رائف ......... كفى .... )
الا أن رائف لم يسمعها .... بل قال بصوتٍ جليدي أكثر
( و هذه ........ لإغتصابك لها ...... )
ثم ضربه ضربةٍ أقوى من سابقتها .... فصرخ كريم بألم ... و صرخت ملك هي الأخرى بجزع
( كفي يا رائف أرجوك ..... لم أعد أتحمل ...... )
الا أن رائف قال آمرا
( طلقها ............. )
لكن كريم بصق تعبا و ألما ..... و أخذ يلهث من شدة الألم , ثم قال بصوتٍ مختنق
( لن يحدث ...... لقد ضحيت بابني من أجلها )
هزت ملك رأسها يأسا و هي تغمض عينيها بوجع ....
انه يعيش في حالة نكران عجيب للواقع ... و لا يزال يظن انه قتل جنينهما في سبيل الاحتفاظ بها ...
دون ان تفتح عينيها سمعت صوت ضربة مجددا مترافقة مع شهقته ...
حينها لم تستطع ان تمنع نفسها من الصراخ بشدة
( كفى ارجووووك ..... لم اعد اريد الطلاق ... كفى )
الا ان رائف هدر بقوةٍ
( اخرسي يا ملك ........... )
ثم التفت الى كريم قائلا بصوتٍ آمر
( طلقها ............ )
لهث كريم بعنف وهو يهمس بشراسة
( لا ........ سأتركها معلقة الى أن تعود الي .... لقد دمغتها باسمي .... وشمت جسدها باسمي )
رفعت ملك يديها لتغطي بهما أذنيها بقوةٍ و هي تشعر بالخزي ممتزجا بالرعب ...
ثم صرخ كريم بألم حين ضربه رائف مجددا بقوةٍ أكبر وهو يبصق عليه .....
و بعد عدة لحظات من التأوه تمكن كريم من الهمس بلهاث مختنق
( حتى لو نطقتها ....... لن تقع , فقد نطقتها تحت تأثير الألم ..... أيها الجبااااان )
ارتجفت شفتي ملك بشدة ... و أطبقت عينيها برعب .....
كريم معه حق .... أي كلمة طلاق سينطقها الآن لن تقع ... فهو تحت تأثير الضرب و التعذيب ..
انتظرت سماع صوت مزيدا من الضربات ....
الا أنها لم تسمع ... فتجرأت على فتح عينيها المهتزتان ... لتجد رائف يتجه الي السيارة .. و يفتح الجارور الأمامي ليحضر منه شيئا ...
فشهقت برعب و هي تفكر فيما ينتويه ؟! ....
هل سيحضر سلاحا ؟!!
هل سيمزقه قطعا صغيرة واحدة تلو الأخرى الى أن يطلقها ... فرفعت يدها الى صدرها المرتعب دون أن تجرؤ على النطق بكلمة ...
الا أنها رأته يعود حاملا في يده مظروفا كبيرا ....
ثم جثا القرفصاء بجوار كريم المسجا أرضا ... ثم قال مبتسما دون مرح
( اذن الطلاق لن يقع لأنك مرغم عليه .... اليس كذلك ؟!.... اذن لما لا أرمي الكرة بملعبك .... و أترك لك الخيار ..... )
صمت قليلا وهو يلوح له بالمظروف قائلا بهدوء
( أتعلم ما هذا ؟!! ....... انه مظروف سري للغاية .... هل يمكنك تخمين ما به ؟!! ..... )
نسى كريم ألمه مؤقتا وهو يطالع المظروف الملوح فوق رأسه بشك .... فلهث بشكٍ قائلا
( ماذا يمكن أن يكون ؟! ........... )
ابتسم رائف بشراسة وهو يقول بتأني ....
( تحليل dna ..... من بضعة شعرات من فرشاة شعرك ..... هل يمكنك أن تتوقع ما هي النتيجة المذكرة به ؟!! ....... )
اتسعت عينا كريم بذعر وهو ينظر الى المظروف الملوح و كأنه سيف مسلط على عنقه ....
بينما تابع رائف ببساطة قائلا
( لذا يا حبيب خالك ..... فالخيار الآن لك , ..... إما أن تطلقها بملء ارادتك .... و إما أن تكون تلك الوثيقة الصغيرة موجهة غدا صباحا لكل الجهات المعنية ...... )
شحب وجه كريم حتى حاكى وجوه الموتى .... بينما اتسعت عيناه بمنظر مثير للشفقة ...
ثم همس بصوتٍ واهي ضائع ..
( لن تجرؤ ...... أختك ستتهم بالنصب و الإحتيال ....... )
ضحك رائف ضحكة خشنة ... جوفاء , ثم قال بخفوت
( حين يريد الرجل امرأة ..... بشدة .... فمن يختار , .... هي أم أخته ؟!! ..... )
فغرت ملك شفتيها بشهقةٍ صامتة ... و هي لا تصدق ما سمعته للتو .....
هل أصيب رائف بالجنون تماما ؟!!
بينما ازداد شحوب كريم بعنف ... و همس بضياع
( اخرس ..... إنها زوجتي ....... انها زوجتي ....... )
ابتسم رائف بشراسةٍ أكبر ... لعله يحمل ذرة من الرجولة تجعله يتألم لكل كلمة ينطقها
عقابا له على تجاوزه السافر تجاه ميساء ....
لطالما كان ينظر بعين الخطر الى لمساته لها .... نظراته ..... استغلاله المستمر لإنهيارها ...
و كان يكذب نفسه ..... لكن بعد ما حدث لملك أدرك أي قذر مختل النفس هو ....
ثم تكلم أخيرا فقال بهدوء جليدي
( بخلاف أن ميساء لن يمسها سوء ..... فهي لم توقع ورقة واحدة تخص الأمر ..... أي أن لا دليل مادي ضدها ...... لقد استفسرت جيدا ... لذا يمكنك القول بأنني و اسرتي في أمان .... بينما أنت ووالدك الغالي ... ستخوضان أهوالا ما أن أفتح عليكما النيران ...... )
صمت رائف قليلا ... وهو ينظر الىى رعبه .... ثم نظر الى ساعة معصمه ليقول هادئا
( أمامك خمس دقائق لتقرر بها مصيرك ............. )
ظل رائف على وضعه ... ينظر الى ساعة معصمه ... بينما التوت رأس كريم لينظر الى ملك مستجديا
بينما كانت هي تبادله النظر بعينين مغطاتين بغلالةٍ من دموع باردة .... جليدية ... و هي تنتظر لتسمع قراره ...
قد يكون سماع قراره بالنسبة لها حاليا أهم عندها من سماع كلمة الطلاق .....
فحينها ستتأكد .... من مدى اختلاله في قتل جنينهما بدمٍ بارد ....
قال كريم هاتفا .... مترجيا
( مليكة ...... ارجوكِ ....... )
ظلت صامتة بشفتين ترتجفان قليلا ... قبل ان تقول بجمود ميت خافت
( القرار ليس بيدي .... كما ان المظروف ايضا ليس بيدي انا ....... لا مفر من الاختيار هذه المرة يا كريم )
اخذ رائف دفة الحوار منها فقال بصرامةٍ
( بقى لك ثلاث دقائق ........... )
ظل كريم ينظر الي ملك مترجيا ..... بينما قال بيأس
( ابي لن يسمح بما تفعله ........... )
لوى رائف شفتيه بسخرية قاسية , ثم قال بهدوء
( دع والدك العزيز لي ....... انا كفيل بمواجهته ...... بعد ان اكون قد وضعته خلف القضبان , فلقد آذى اختي كثيرا ..... و انا ممتن جدا لهذه الفرصة كي انال منه ..... )
تأكد كريم ان رائف صادقا ..... و ان لديه مئات المبررات كي ينال منهما معا ....
و حين انقضت الخمس دقائق ... رفع رائف يده الاخرى ليقبض على ذقن كريم وهو يقول بصوتٍ خافت لكن مخيف وهو ينظر اليه
( طلقها ............. و حينها قد افكر في تركك لحالك القذر .... )
ساد صمت طويل ... و كريم ينازع كحيوانٍ شرس في لحظاته الأخيرة ....
بينما هدر رائف بقوةٍ عنيفة
( طلقهااااااا ............ )
حينها فغر كريم شفتيه فنظرت ملك الى شفتيه منتظرة قراره ..... و اطلاق سراحها ....
فهمس باختناق
( انتِ طا ......... طالق ......... )
اغمضت ملك عينيها بشدة .... بينما خرج نفسا مرتجفا من بين شفتيها الزرقاوين المرتعشتين
يخالجها شعور قوي بتدني الذات ... لهذه الدرجة كانت رخيصة الثمن مرة بعد مرة !!
بينما يغلف ذلك الشعور ... موجةٍ عاتية من الراحة و التحرر أخيرا ....
دفع رائف وجه كريم بقوةٍ ... ثم نهض واقفا وهو يرمقه بإزدراء ... قبل أن يقول من بين أسنانه
( قذر ........... )
توجه الى ملك التي كانت تقف في العراء وسط الليل .... الهواء يطير فستانها و خمارها ... بينما هي رافعة رأسها مغمضة عينيها تستنشق بعض الهواء بارتجاف ...
قال رائف بخفوت
( هل أنت ِ بخير ؟!! ........ )
هزت رأسها ايجابا .... بينما كان شكلها أبعد ما يكون عن الخير ... فقال رائف بخفوت أكبر و حنان اختفى في اللحظات السابقة
( لقد انتهى الأمر يا ملك .......... يمكنك الصراخ الآن ... )
ازداد ارتجافها و هي تنتحب بصمت ... دون أي صوت .... فقال بصلابة حانية
( ألم أعدك بذلك ؟!! ........ يمكنك الصراخ قدر ما تشائين .... )
ازداد نحيبها الصامت و هي مطبقة جفنيها .... بينما انحنت للأمام و هي تنتفض شاهقة ببكاء مرير ... تلف خصرها بذراعيها ... و سرعان ما تحول النحيب الصامت الى شهقات بكاء واضحة .... ثم تحولت الى عويلٍِ عالي الصوت .... أخذ يتعالى و يتعالى ... الى أن تحول الى صراخٍ هادر شق سكون الليل و هي تنحني على نفسها أكثر .....
حينها اقترب منها رائف .. و بحركةٍ مندفعة , جذبها بين ذراعيه بقوةٍ كادت ان تطبعها على صدره .... بينما ارتفعت يده من تحت خمارها و هي تملس شعرها المنهار من ربطته ...
و يده الأخرى تضمها اليه ضاعطة ظهرها بحنانٍ قوي ... شديد البأس
وهو يريح ذقنه اعلى خمارها .... فأغمض عينيه هامسا
( لقد انتهى الأمر .............. )
استمر صراخها عاليا فوق نبضات قلبه الثائرة ..... طويلا , بينما صراخ كريم من خلفهما يهدر بعنف
( اتركها ........ اتركها ....... )
الا ان ملك لم تسمعه هذه المرة ...... و كأن صوته قد تلاشى من وجودها للأبد ......
فأخذت وقتها في الصراخ ... الى أن تهدمت قواها في النهاية و انهارت على صدر رائف كغريقٍ انهار على بر الأمان أخيرا ... بعد أمواجٍ عاتية ... ضربته مرارا ...
ما أن سكن صراخها و تحول الى شهقاتٍ باكيةٍ خافتة .... حتى أبعدها عنه قليلا وهو ينظر الى عينيها المتورمتين ... قبل أن يقول بصلابةٍ و عيناه تحملانِ انفعال لم تستطع احتماله ..
( هيا بنا لنرحل عن هذا المكان ..... )
عاد ليجذبها من يده خلفه الى أن أجلسها في السيارة .... ثم أغلق الباب خلفها بعد أن انحنى على عقبيه ليلملم حواف الفستان بنفسه....
عاد الى كريم ... ووقف بحذائه بجوار رأسه قبل أن ينحني ... ليخلع الحزام الجلدي عن يديه و يرميه بعيدا على أقصى قوته ....
ثم استقام واقفا ليقول بصوتٍ مشمئز
( سأتركك لتحل وثاق قدميك ...... ربما في تلك اللحظات خلال فعلك لهذا , تتمكن من حل وثاق روحك ....... لتصبح ما يقترب من آدمي .....)
تركه و ابتعد الى السيارة بينما كريم يصرخ من خلفه
( ابي لم يمرر لك ما فعلته ...... لم ينتهى الأمر بعد ..... أقسم أن أمزقك ما أن تقع بيدي ....)
الا أن رائف رماه بنظرةٍ ساخرةٍ ملتوية ...
قبل ان يدخل سيارته و ينطلق بها تاركا كريم يحارب بعذاب مع قيوده .....
بعد مسافةٍ طويلة .... كان ينظر خلالها الى ملك بين لحظةٍ و اخرى .....
قالت ملك بخفوت دون ان تنظر اليه ....
( كيف استطعت اجراء التحليل بمثل تلك السرعة ؟!!...... )
نظر اليها طويلا , قبل ان يبتسم ابتسامة قاسية .... قبل ان يقول ببساطة
( لم افعل ........ )
ثم تناول المظروف عن الرف الامامي للسيارة .. لينظر اليه طويلا قبل ان يقول بهدوء
( انه اقراري الضريبي ............ )
فغرت ملك شفتيها بذهول و هي تراه يرمي المظروف على المقعد الخلفي بإهمال ..... قبل أن يعاود القيادة بهدوء ....
بينما ظلت ملك تنظر اليه مفتوحة الفم و العينين ... لا تصدق أنه حصل على يمين الطلاق بمظروف يحوي الإقرار الضريبي ....
و ما أن شعر بصدمتها ... نظر اليها مبتسما ليقول ببساطة
( منتهى الذكاء .......... اليس كذلك ؟!! ...... )
لم تستطع الرد على الفور ..... ثم لم تلبث ان قالت بخفوت
( أنا منبهرة ............ )
عاد رائف لينظر الى الطريق أمامه مبتسما .... على الرغم من أن روحه أبعد ما يكون عن الإبتسام ...
فمجرد كلمةٍ بسيطة ... قليلة الأحرف , لن تجعلها تنسى ما حدث لها ....
لقد تدمرت تماما ..... وهو يدرك ذلك .....
و ذلك يملأ نفسه بغيامةٍ داكنة .... و كأنها من لحمه ... و دمه ......
كان الصمت هو رفيق رحلتهما للمتبقي من الطريق ..... الى أن وصل الى مكانه البعيد و الأحب على قلبه ... فأوقف السيارة في جنح الظلام ثم بقى ناظرا أمامه لفترةٍ طويلة .... قبل أن يلتفت اليها قائلا بخفوت
( لقد وصلنا ............ )
نظرت ملك الى البيت الصغير الذي وقف أمامه .... بينما قال رائف بتردد
( ملك ..... لو أردتِ العودة الى أختك ..... ما عليكِ سوى الطلب ..... )
نظرت اليه طويلا قبل أن تقول بصوتٍ مرهق باهت
( لتضربني ؟!! ...... و تسمعني المزيد من قصائد الإحتقار التي أشعر بها دون الحاجة الى سماعها ؟!! ..... اليوم تحديدا ... لم أشعر بأنني كنت قبلا أبعد ما يكون عن وعد ....... لا أرغب في مساعدتها .... أو بمعنى أصح لا أستطيع تحمل تلك المساعدة ..... لقد أتت متأخرة جدا ......)
قال رائف بحذر ....
( لقد كنتِ قاسية معها قليلا الليلة .......... )
رفعت ملك عينيها الضائعتين اليه قبل أن تهمس بإجهاد
( يحق لي أن أكون قاسية قليلا الليلة .......... اليس كذلك ؟!! ..... )
صمت قليلا , قبل أن يقول بصدقٍ لم يستطع مداراته
( نعم يا صغيرة ........ يحق لكِ أن تكوني قاسية الليلة ....... )
صمت للحظة قبل ان يقول بهدوء
؛( هيا انزلي ............... )
نزلت ملك و هي ترفع حواف فستانها بينما كانت تنظر الى البيت .... بينما سارع شخص ما يرتدي جلباب صعيدي نحوهما وهو يقول بذهول غير مستوعبا المنظر أمامه ...
( مبارك ..... مبارك يا سيد رائف ...... لو كنت أخبرتنا لكنا جهزنا البيت لك و لعروسك ..... )
اتسعت عينا ملك بذهول و هي تنظر مستجدية الى رائف الذي وقف ينظر اليها بنظرةٍ غريبة ...
قبل أن يقول بهدوء
( ادخل أنت يا سيد ............ سأتولى الأمر أنا ..... )
أومأ الرجل برأسه وهو ينظر الى رائف و الذي كان يقتاد ملك الى البيت بينما ملامح الذهول الغبي لا تزال ظاهرة على وجهها .....
ثم قال بذهول
( حتى يوم عرسه لا يسمح لأحدٍ بدخول المكان لتنظيفه !!! ...... )
دخل رائف خلف ملك ثم اغلق الباب خلفهما و اشعل الأضواء
فاستدارت ملك نحوه بسرعةٍ جعلت فستانها يدور من حولها بموجةٍ سحبت أنفاسه
لكنها بدت غافلة و هي تنطق بذهولٍ هامسة
( لقد ....... ظننا ...... أنا ..... و أنت ........ )
أومأ رائف برأسه دون أن يرد .... وهو يرمقها بنفس النظرة , قبل أن يقول بخفوت
( أعرف ما ظنه ............ )
ارتبكت ملك ... و ارتجفت و هي تسارع الى خفض رأسها بذهول ... لقد ظنها الرجل عروسا ... بينما هي حصلت على الطلاق للتو ........
لقد ظنها عروس ...... رائف !! .......
ظلت صامتة قبل أن ترفع رأسها قليلا ... محاولة السيطرة على مشاعرها المرتبكة .... ثم قالت بخفوت مسكين
( هل ....... سأبقى هنا ....... معك ؟!! ....... )
لمعت عيناه بدرجةٍ جعلتها تنتفض داخليا و هي تنظر اليه مذهولة ... و كأنها منومة مغناطيسيا بفعل عينيه ... لكنها أيقنت أنها تتوهم حين سمعته يقول بهدوء خافت
( لا بالطبع ...... سأرحل حالا ......... )
شعرت بالخوف فجأة من ان يتركها هنا بمفردها .... بعد ان تباجحت و رفضت العودة الى وعد ....
لكنها قاومت الشعور بالخوف و هي تنظر اليه قائلة بخفوت
( ماذا لو .....؟!! ........ )
رد رائف ببساطة دون الحاجة الى متابعة سؤالها المرتجف
( لو كان هناك احتمال واحد بالمئة في امكانية وصوله الى هنا ..... لما أحضرتك ..... )
أومأت ملك برأسها بصمت .... بينما قال رائف بخفوت
( هناك طعامٍ كافٍ في الثلاجة ..... و ملابس قطنية مريحة ....كما أن التلفاز يعمل و معد بكل القنوات ... )
لم تتمكن ملك من منع نفسها من الضحك بخفةٍ و ألم و هي تهمس متوجعة بسخريةٍ مريرة
( تلفاز ؟!! ........... )
اظلم وجهه قليلا وهو يقول بصرامة ...
( ستشاهدين فيلما كارتونيا يا ملك ...... و هذا أمر ...... )
ابتسمت قليلا و هي تنظر الي عينيه طويلا بحزن .... قبل أن تقول برقة
( انت دائما تراني طفلة ....... على الرغم من انني ابعد ما يكون عن ذلك ..... )
قال رائف بثقةٍ و صرامة
( ستظلين دائما طفلة ....... حتى لو صرتِ جدة ..... )
عادت لتبتسم بسخرية مريرة و هي تقول بصدمة
( جدة !! ....... يلزمني الزواج اولا كي اكون جدة ...... و هذا ابعد ما يكون عني .... )
اشتعلت عينا رائف بغضبٍ رافض .... لكنه امتنع عن الرد عليها , بينما قال بصوتٍ خافت متصلب
( يجب أن أغادر الآن ...... هل ستكونين بخير ؟!! ....... )
اومأت ملك برأسها ببطىء و الشعور بالخوف يعاودها .... فقال رائف مترددا
( حسنا اذن ...... )
صمت قليلا قبل أن يقول فجأة عابسا دون تفكير
( هل ستتمكنين من خلع هذا الشيء بمفردك ؟!! ........ )
اتسعت عينا ملك ..... و احمر وجهها بشدة , بينما لعن رائف غبائه وهو يقول مسرعا و بصوتٍ متحشرج
( يجب أن أغادر حالا ........... )
ثم اندفع في اتجاه الباب دون حتى كلمة سلام ..... الا ان ملك نادته قبل ان يخرج بصوت خافت
( رائف .......... )
توقف مكانه يتنفس بسرعةٍ قليلا .... قبل ان يقول بخشونة دون ان ينظر اليها
( نعم يا صغيرة !! ........ )
ظلت ملك تنظر الى ظهره طويلا .... قبل أن تقول بخفوت حذر
( حين كنت ...... تضربه ...... صرخت بي .... و قلت " اخرسي يا ملك " ..... هل .... كنت تقصد ذلك ؟!! )
التفت اليها عاقدا حاجبيه بحيرة فعلمت أنها أربكته ..... بينما قال عابسا
( هل قلت ذلك ؟!! ........ لا أتذكر ..... )
أومأت رأسها اجابة على سؤاله .... الا أن عينا رائف رقتا فجأة و قال بخفوت
( لم أقصد ذلك ........ لا تخافي يا صغيرة , كنت في حالٍ مريعة ...... )
شيء ما تسلل دافئا الى صدرها متخللا جبال الجليد بداخله ... الا أنها قالت فجأة بشجاعة
( الم تقصد كل ما نطقت به حينها ؟!! ....... )
حينها علمت أنها أربكته بشكلٍ أعنف .... و هو يدرك تماما أي عبارة تقصد .... و ظهر ارتباكه في عينيه ....
لكنه رد بصرامة
( أراكِ صباحا ...... صغيرتي ..... )
ثم خرج مسرعا .... صافقا الباب خلفه بعنف .... بينما ظلت ملك واقفة تنظر الى الباب المغلق ....
و لا زال السؤال يتردد بداخلها دون جواب .....
كان الحارس جالسا مكانه .... يدخن أرجيلته ... لكنه انتفض معتدلا وهو يرى رائف يخرج مندفعا ... مكفهر الوجه .... الى أن قاد سيارته و انطلق بها بسرعةٍ عنيفة ....
بينما ظل الرجل ينظر في اثر السيارة المختفية قبل أن يقلب كفا على كف وهو يقول متحسرا
( لا حول و لا قوة الا بالله ... رجل طول و عرض ..... لم يكن يظهر عليه علامات الفشل من قبل !! .... )
.................................................. .................................................. ......................
كانت عيناه تبحثان عنها بين الجموع ..... و بداخله غضب من تركها له كل هذا الوقت بمفرده ....
منذ أن أحضرت له طبقا من المائدة المفتوحة .... "أكلت معظمه أثناء الطريق ! "
و هي تبتعد عنه كالفراشة .... من يراها يظنها تمارس عملها الشخصي ... لم يكن يعلم أن لديها موهبة خاصة في الاعداد لحفلات و العروض .... بدءا من الأساسيات ... و حتى اصغر التفاصيل كالطعام .....
لكن طبعا الطعام لم يكن أصغر التفاصيل بالنسبة الى كرمة ..... بل هو أعظمها ....
فكلمها وجدها بالصدفة عن بعد .... و جد شيئا ما بيدها تدعي تذوقه .....
كم كان منظرها و هي تتلذذ بكل صنف جيد يدفىء قلبه .... الا أنه في نفس الوقت يصيبه بالغضب لأنه يعلم جيدا أنها لن تتناول العشاء معه بتلك الطريقة ...
كان قد حضر تحضيرا خاصة لليلة .... فالليلة هي أول ليلة سيقضيانها بمفردهما ....
خاصة و أن أمينة غادرت اليوم صباحا .... بعد أن لوت كاحلها في نفس اليوم الذي غادر به محمد الى أمه...
فأصرت كرمة بكل سماجةٍ بأن تبقى معهما الى أن تتمكن من الوقوف على كاحلها مجددا ....
و كان نتيجة ذلك حروبا طاحنة بين كلتيهما ... كل يوم .... صباحا و مساءا ....
حتى أنه كان كلما اقترب منها ليلا في الظلم ... تهمس بعينين براقتين في الظلام
" هشششش .... بهدوء , أنا متأكدة أنها تسمعنا ...... "
لكن اليلة ... ستكون ليلة كالمفرقعات النارية .... لن يكون هناك غيرهما في البيت ..... و يشك انها قد تخرج منها سليمة .... و هذا جيد بالنسبة له , فقد تضطر لأخذ أجازة من المصرف و الجامعة ... و تنتظره في البيت الى أن يأتي اليها فيبثها أشواقه ...
أخيرا لمحها من بعد .... كانت واقفة كملكة راقية ....
لطالما أبرهته طلتها الرزينة الملوكية التي تخفي بداخلها جموحا يعرفه حق المعرفة ... عمليا و عاطفيا ....
فهل هناك من هو أكثر منه حظا في هذه الدنيا ؟!!! ..... لقد تزوج حبيبته المستحيلة ,, و يتنعم كل لحظة ٍ بالمزيد مما يكتشفه عنها ......
الليلة تبدو ذات جمال خاص ... بفستانٍ منسدلٍ على قوامها المهلك المكتنز ... بينما شعرها المنحدر بموجاته كان يسبي كل من ينظر الى بريقه ...
همس بخشونة مختنقة
( تبا لذلك ....... ماذا افعل كي أخفيها عن الأعين ...... هذا فوق احتمالي .... )
رآها تسير حول نفسها قبل أن ترفع الهاتف في يدها الى أذنها .... و سرعان ما علت وجهها ملامح عاطفية رقيقة .... قبل أن تبتسم بسعادة مبهجة ,.... لكل من يراها .... الا هو ....
كانت هناك نارا تحرق أحشاؤه كلما رآها مؤخرا تتكلم في هاتفها ....
منذ طلبها المرتجف منه أن تغير رقمها و هو يشعر بقلق يفترسه ... و لطالما كان احساسه صادقا ...
خاصة فيما يتعلق بكرمة ....
كثيرا ما كانت تترك الهاتف خلفها في كل مكان .... و كأنها تتحداه بإحدى ألعابها الأنثوية التي تتعمد اختبار صبره ...
فكان يقف طويلا بجوار الهاتف الملقى بإهمال ... و أصابعه تتآكله كي يلقي نظرة عليه ....
تحديدا رجوعا الى تاريخ ذلك اليوم الذي سألته فيه تغيير الرقم ... وهو يحفظ التاريخ عن ظهر قلب ....
ابتسم بوجع وهو يهمس
" كم انا محظوظ ...... بحبيبتي ذات طعم السكر ... و التي أتحرق بنارها كل يومٍ و ليلة ... "
كان يبتلع ريقه بتشنج و هو يراها تتمشى قليلا ... و ذيل فستانها المحدود يحف الأرض خلفها ...بينما ابتسامتها الى من تحدثه تكاد تقتله ...
ترى هل تبتسم نفس الإبتسامة حين يهاتفها ؟!! ....
أنهت كرمة مكالمتها أخيرا بعد أن كانت قد أحرقت أعصابه و حتى النهاية ....
فرفعت وجهها اليه مباشرة .... و أشرقت ابتسامتها بهزل .....
عض باطن خده وهو يهدر بداخله
" لا أريد نظرة الهزل تلك على الرغم من عشقي الميؤس بها ...... بل أريد نظرة أعرفها جيدة ... و لم تنظرها يوما الي .... )
اقتربت كرمة في اتجاهه و هي ترفع حافة فستانها الرائع .... بينما الإبتسامة تمنحها بريقا و طفولية و بهجة ...
الى أن وصلت اليه فانحنت اليه تقبل وجنته .... الا أنه أبعد وجهه , فعبست بمرح و هي تجلس أمامه قائلة بخبث
( يبدو أن صغيري غاضب من ماما ...... )
عبس حاتم بشدةٍ وهو يقول بشدة
( توقفي يا كرمة عن مزاحك ذلك ..... قد يسمعنا أحد ..... )
ادعت الحزن ببراءة و هي تقول بصدمة زائفة
( الم يعد يعجبك مزاحي الآن ؟!! ........ )
زفر حاتم بوهجٍ دافىء قبل أن يقول متراجعا
( أخبرتك من قبل ...... ليس أمام الناس ..... )
نظرت حولها ببراءة ... قبل ان تعود اليه بابتسامة جميلة و هي تقول بخبث
( لا أرى أحد يسمعنا ........... )
عاد ليزفر بحنق وهو ينظر أمامه قبل أن تقول كرمة باهتمام و هي تمد يدها لتلتقط شيئا من طبقه لتقضم من قضمة بتلذذ
( لماذا لم تأكل ؟!! ...... الم تعجبك نوعية الطعام !! ...... )
نظر اليها عباسا وهو يقول بخشونة
( ربما لو لم تقضي عليه كله ... لكنت استطعت أن أبدي رأيي ...... )
عبست كرمة و هي تقول بغيظ
( أنت بمزاجٍ سيء جدا الليلة ...... أنت لا تعاتبني على الطعام الا لو كان هناك شيئا ما يغضبك ..... )
زفر حاتم وهو ينظر اليها طويلا .... قبل أن يقول بهدوء
( مع من كنتِ تتحدثين في الهاتف في مثل هذا الوقت ؟!! ....... )
مدت كرمة يدها تلتقط قطعة مخبوزات اخرى و هي تضعها في فمها بنهم قائلة بتلذذ
( كنت اكلم محمد ........... )
تابعت اكلها ... دون ان تدرج ان ملامح وجهه تتصلب في ردة فعل باتت تلقائية ....
ترى هل تعلم انها اصبحت السبب في اجفاله المستمر كلما نطق اسم ابنه مقترنا بها !! ...
نظر حاتم الى ساعة معصمه وهو يقول بخشونة
( هل محمد مستيقظ حتى هذه الساعة ؟!! ..... كل ما افعله وهو معي , تهدمه والدته و زوجها خلال يومين )
نظرت اليه كرمة بجدية و هي تقول
( حاتم ترفق بالولد قليلا ..... انه لم يعد طفلا .... و لا ضررمن ان يسهر مع امه قليلا ..... )
نظر اليها حاتم بغضب وهو يقول
( انه وضع سيستمر طويلا ..... لذا فان ادائه يتأثر في الملعب اليوم التالي ..... وهو على وشك دخول البطولة ..... )
نظرت اليه كرمة بصمت و جدية قبل ان تقول بحدة
( اي بطولةٍ تلك التي تهتم بها ؟!! ...... محمد رغم تفوقه دراسيا و رياضيا , الا انه يعاني كبتا عميقا ... كان عليك ان تلاحظه قبل ان تهتم بالبطولة الخارقة التي تتحدث عنها ..... )
نظر اليها حاتم ليقول بكبت و غيظ
( كرمة ارجوكِ لا تعلمينني كيفية التعامل مع ابني ..... انا اب منذ اثني عشر عاما ... لذا بالتأكيد انا اكثر خبرة منكِ .... )
ساد صمت طويل بينهما .... بينما لم يظهر على كرمة انها سمعت شيئا مما قاله ... فنظرت امامها تراقب الحفل بملامح هادئة .... لكنها مدت يدها تعيد المخبوزة التي كانت في يدها في الطبق برقة ...
و ما كادت ان تسحب يدها حتى اطبق حاتم كفه هلى يدها يأسرها فوق المائدة وهو يقول بصرامة
( كرمة ! ............. )
لكنها قالت مبتسمة برقة و هي تحاول أن تجذب يدها
( اريد الذهاب لحجرة السيدات يا حاتم ....... )
الا أنه شدد على يدها بغضب أكثر وهو يقول بشدة
( لن تذهبي يا كرمة .......... هل هكذا سيكون الوضع بيننا ؟!! .... أتحسس و التمس الحذر قبل النطق بأي كلمة !! ...... كرمة أنااتحدث معك كما اتحدث مع نفسي ... دون أي فوارق .... )
نظرت اليه نظرة سمرته مكانه و هي تقول بهدوء
( لم أشعر بأنك كنت تتحدث مع نفسك .... فعلى حسب ما أتذكر أنك تمتلك خبرة اثني عشر عاما ... بينما أنا لا ..... )
تنهد حاتم بقوةٍ وهو يرفع يده الى جبهته دون أن يترك يدها ....
و بعد فترةٍ رفع وجهه اليها ليقول بهدوء
( هلا عذرتني ؟!! ....... الا تسامحين طفلك المتمسك بثوبك !! .....)
ظلت على ملامحها الصارمة قليلا ... قبل أن تفقد قدرتها على المقاومة و تضحك برقة تهز رأسها بيأس لتقول برقة
( تبدو سخيفا للغاية..... انها لطيفة مني لكن منك تبدو في غاية الحماقة ..... )
ارتفع حاجبه بخبث وهو يقول بعبث
( أتنكرين أنني أتمسك بثوبك الى أن ينخلع في يدي باستمرار !! ...... )
احمر وجه كرمة بشدة و هي تنظر حولها خوفا من ان يكون احد قد سمعهما ..... ثم لم تلبث أن أرجعت وجهها لتطرق به بعد ان اصبح بلون الطماطم ... فقال حاتم مازحا مسحورا
( أنتِ تحمرين خجلا !!! .......... )
قالت و هي تتشاغل بترتيب المحرمات امامها
( و هل هذا عجيب أمام وقاحتك العلنية ؟!! ........ )
قال حاتم بجدية
( ان لم تغادر على الفور ... فستعرفين معنى الوقاحة العلنية .... )
ارتبكت أكثر ... و أحمر وجهها بشدة .... فقال مكررا بصوتٍ خافت آمر
( هيا لنغادر يا كرمة ..... أنها أول ليلة نقضيها بمفردنا سويا ....... و انا أنوي استغلال كل لحظةٍ منها )
احمر وجه كرمة بشدةٍ اكبر لكن مشاعر الشوق اجتاحتها اليه كما يحتاج اليها .... فقالت بخفوت دون ان ترفع عينيها اليه
( سأذهب لأخبر وعد بمغادرتنا ........ )
.................................................. .................................................. ......................
كان حاتم يقود بكبت و شعور رهيب بالغيظ ... بينما كانت كرمة تنظر خلفها الى وعد التي كانت جالسة على المقعد الخلفي بوجهٍ بائس شاحب .... بعد ان نضب دموعها كلها ....
فمنذ أن دخلت كرمة و قبلت المكان بحثا عنها لتجدها جالسة على ركبتيها أرضا و هي تضم ذراعيها و تبكي بشدة في ركن منعزل ....
فضمتها كرمة بهلع دون أن تدري سببا لتلك المأساة التي تعيشها في ليلة كهذه .... خاصة و أن سيف رحل و تركها بمفردها .... و كذلك ملك اختفت !!
حينها استدعت حاتم ليساعدها في ايقاف وعد و قاداها الى سيارته بعد أن أصرت كرمة على أن تبيت معهما بعد ان تركها الجميع في مثل تلك الحالة .....
أعادت كرمة نظرها الى حاتم معتذرة دون كلام .... بينما لم يستطع الابتسام حتى وهو يشعر بغيظ لا يستطيع مداراته ...
وصلا الى البيت في النهاية فقادتها كرمة الى غرفة الضيوف
و حملت اليها احدى مناماتها القطنية و ساعدتها على ارتدائها ....
جلست وعد على السرير تضم ركبتيها الى صدرها بتعب و هي تهمس بصوتٍ ميت
( لقد ضاع كل شيء يا كرمة ..... كل ما حلمت به ضاع في لحظة )
جلست كرمة الى جوارها تمسد ركبتها بحزم و هي تقول بلهجة الأمر
( الآن ستقصين علي كل شيء ...... دون أن تغفلي عن أي تفصيل )
تكلمت وعد بخفوت بينما عينا كرمة تتسعان مع كل كلمةٍ حتى شهقت عدة مرات و هي تضرب صدرها بيدها ... و ما أن انتهت وعد من الكلام ... حتى شهقت كرمة هاتفة
( ياللمصيبة !!! ..... ملك !!! ..... ملك !!! .... متى ؟! ... و أين ؟! ... و كيف ؟!! ..... )
رفعت وعد الى جبهتها و شهقت بالبكاء فجأة و هي تهمس بيأس
( أنا السبب ..... أنا التي تخليت عنها , .... كنت أظن أنها اعتادت البقاء بمفردها و الإعتناء بنفسها جيدا على مدى سنوات طويلة ..... لذا فكرت بواقعية ,., ففكرت أن أنشعل بجمع ما يؤمن لها مستقبلها كي لا تعيش المزيد من الشقاء مثلي ...... لم أكن أعلم أنها لا تزال في حاجة الى رقيبٍ تعتمد عليه كي لا تنزلق بلك الصورة المؤسفة ........ )
كانت عينا كرمة تدمعان بشدة .... بينما تشعر باختناق كاد أن يزهق أنفاسها ....
ففي لحظة واحدة عادت اليها كل ذكريات الطفولة المضنية .... تخبرها بقسوةٍ أن حياة كل منهما لم تكن بمثل تلك السهولة .... بل و أن بعض منهن ضل بها الطريق تماما كملك .... و يعلم الله من أيضا ؟!! ...
شعرت كرمة بأنها غير قادرة على النطق حتى بمواساة بسيطة ..... كان الألم بداخلها أفظع ....
فهمست باختناق و هي تربت على ركبة وعد التي دفنت وجهها بينهما بنحيبٍ خافت ...
( لن نتحدث بشيء الآن ..... فقط نامي و غدا سنتحدث بعد أن تكونين قد هدأتِ كي نرى حلا لتلك الكارثة )

دخلت كرمة غرفتها و اغلقت الباب بهدوء ... ثم توقفت و هي ترى حاتم مستلقي في السرير .. عاري الصدر و ملامح الرجولة كلها تنبض منه ...
فقالت بفتور
( الم تنم بعد ؟! .......... )
لم يرد عليها على الفور ... بل طالعتها ملامحه الصلبة قليلا وهو يقول بهدوء حازم
( كنت أنتظرك .......... )
اتجهت كرمة الى دولابها هي تقول دون أي مشاعر
( ما كان عليكِ الإنتظار .... فربما رغبت البقاء مع وعد كي أخفف عنها )
لم يرد حاتم على الفور .... بل ظل يراقبها بهدوء جامد وهو يراها تفتح سحاب فستانها بصعوبةٍ دون أن تبادر بطلب مساعدته كالعادة .....
فانزلق الفستان ساقطا على الأرض عند قدميها و هي توليه ظهرها بعد اهتمام .....
ثم التقطتت أول قميص نوم طالته يدها لتدسه فوق رأسها باهمال ....
كان عادة ما أن يراها قد بدأت في خلع ملابسها حتى يندفع اليها ... يغرقها في اشواقه قبل حتى أن تلتقط أنفاسها ....
لكن اليلة شيئا ما بها جعله يتراجع بحذر .... فقد شعر أنها بعيدة عنه مئات الأميال ....
اتجهت الى جانبها من السرير بصمت و هي تتعمد تجنب النظر اليه ..... الى أن استلقت بجواره , توليه ظهرها ... و هي تنحني على نفسها بصمت ....
بقى حاتم مكانه صامتا متصلبا قليلا قبل أن بقول بخفوت
( ألن تتناولي عشائك ؟! ....... لقد حضرت أن أطلب عشاءا فخم لكلينا الليلة ..... )
همست كرمة بصوت خافت دون أن تستدير اليه
( أنا آسفة يا حاتم لست جائعة حقا ...... لكن تستطيع أن الأكل , لا تقيد نفسك بي .....)
لم يرد عليها و كأنه لم يسمعها من الأساس .... بل زم شفتيه بجمود , ثم قال بعد فترة ٍ طويلة
( الن تخبريني بما حدث لصديقتك ؟! ......... )
ظلت كرمة صامتة لبرهة ... قبل أن تقول بفتور
( إنه شيء حساس و خاص جدا يا حاتم ..... لا أستطيع اخبارك , الأمر لا يعود الي .....)
همس حاتم بجنون في داخله
" تبا ...... لقد عادت لترفع الحواجز بينهما مجددا ..... "
كان آخر همه أن يعرف ما أصاب صديقتها ... الا من باب المواساة ليس أكثر ....
لم يكن يوما فضوليا بطبعه ...
لكن المشكلة لا تكمن في وعد .... بل تكمن في زوجته التي تغدق عليه من حنانها و جموحها العاطفي طالما هي سعيدة راضية .... لكن ما أن تواجهها مشكلة حتى تعود الى رفع الجدران بينهما بكل صرامة ...
سمح لها ببعض الوقت كي تهدأ .....
ثم انحنى على جانبه برفق ... حتى صار ملاصقا لظهرها .... فشعر بها تتشنج , الا أنه لم يسمح لها بأن تبتعد بعواطفها ... فمد يده و هو يمس جسدها على طوله برفق ... مارا على كل منحنياته ... حتى شعر بصدره يتضخم بقوةٍ و سخونة ....
أطبق شفتيه على عنقها بعد أن أبعد شعرها برفق ..... ثم همس بسخونة
( استديري يا كرمة ...... أريد أن أقبلك ..... )
ظلت متشنجة قليلا .. الا أنها نفذت أمره في النهاية مستسلمة فانحنى اليها مبتسما بحنان قبل ان يلتهم ثغرها بشوقٍ مضني ..
لكن مرت اللحظات بينهما صامتة .. لا يقطعها سوى صوت أنفاسه المرتجفة ....
رفع حاتم وجهه المتوهج أخيرا وهو يلهث بعاطفة جامحة قائلا بصوتٍ مشتعل
( ماذا بكِ يا كرمة ؟!! ........... )
ابتلعت كرمة ريقها قبل أن ترفع يدها لتمسح شفتيها بظاهر كفها ... بحركةٍ ضربته في صدره بقوةٍ قبل أن تهمس بلهجة اعتذار
( أنا آسفة يا حاتم ..... وجود وعد في غرفة قريبة يوترني ... )
استند الى مرفقه وهو ينظر اليها مليا .... قبل أن يقول بهدوء
( لطالما كان بيتنا كاستراحةٍ عامة لعابري السبيل ...... فما الذي اختلف الآن ؟!! .... )
ظلت كرمة صامتة قليلا قبل أن تقول بخفوت
( أنا آسفة ..... حالتها تؤلمني ... صدري يضيق جدا فلا أستطيع أن أتجاوب معك ..... )
قال حاتم بشدة
( توقفي عن الإعتذار ...... أنا لا أريد سوى أن أعرف ما بك ؟!! ..... )
همست كرمة بلهجة تبرير حادة
( أنا حزينة من أجل صديقتي ليس الا ...... أرجوك تفهم شعوري )
رد حاتم بصوتٍ قاسي
( كل امنيتي ان افهم شعورك يا كرمة ......... تصبحين على خير )
استدار يوليها صدره .... فنبض قلبها بلوعة و هي تناديه ...
" أرجوك تعال .... ضمني الى صدرك , أنا أحتاجك "
لم ستسطع منع نفسها من البكاء بصوتٍ خافت و هي تشعر بانقباض في صدرها بعنف ...
حينها اندفع حاتم اليها و هو يتأكد مما يسمعه .... ثم ضمها بقوةٍ الى صدره حتى كاد أن يحطم أضلعها قائلا بقلق
( ماذا بكِ حبيبتي ؟!! ........ أخبريني ماذا بكِ ؟؟ ..... لا تبتعدي عني .... )
همست كرمة من بين دموعها بصوتٍ مختنق
( تذكرت أيام دار الرعاية ...... لقد كانت صعبة جدا )
تأوه حاتم بقوةٍ وهو يضمها اليه بعنف أكبر هامسا بخشونة
( ما الذي يجعلك تتذكرين تلك الأيام... حبيبتي ؟!! ....... انظري الى حالك الآن , انظري الى ما حققتهِ من نجاح .... )
اختنق صوت كرمة ببكاء صامت و هي تقول بضعف
( كانت ايام صعبة جدا ..... لقد نالنا منها ضرب و اهانة و جوع ..... على الرغم من انني كنت افضل حالا من الكثيرات .... لانني كنت ملتزمة و اخضع للاوامر دائما ..... لكن بالرغم من ذلك نالني الكثير من الاذى ... )
عاد ليضمها وهو يقبل شعرها بشرهٍ لا يطلب سوى سحب المها منها اليه ....
الا ان كرمة تابعت بختناق
( كان من الممكن ان اضيع في تلك الحياة ..... )
قال حاتم ببأس وهو يضغط يده على قلبها
( لكنك لم تفعلي ..... لقد نجحت و اخترت الطريق الصحيح ...... )
هتفت كرمة بقوة
( لم يكن ذلك براعة مني ....... لا يعود الفضل الي في اختيار طريقي ..... لو كنت بمفردي لضعت بسهولة ..... لم أكن لأنجح .... لولا ..... )
تشنج جسد حاتم بشدة .. و خاصة حين صمتت مرتجفة , فقال بصوتٍ جامد لا حياة به
( لولا من يا كرمة ؟!! .......... )
حين بقت صامتة هدر بقوة
( لولا من يا كرمة ؟!! ............. )
استدارت اليه على صدرها تنظر اليه بعينين غريبتين .... ليستا خائفتين من الجنون البادي على وجهه ....
بل قالت بصوتٍ غريب و هي تنظر الى عمق عينيه
( أنا أحبك يا حاتم .......... )
تجمد مكانه و فغر شفتيه قليلا وهو ينظر اليها ذاهلا بحاجبين منعقدين .... ثم قال بخشونة مختنقة
( ماذا قلتِ للتو ؟!!! ......... )
ابتلعت ريقها و هي تهز رأسها قليلا ... لتهمس باكية بيأس
( أنا أحبك ........ )
ارتجفت شفتيها بعنف و هي ترفع اصابعها لتلامس شفتيه الفاغرتين .... ثم همست مجددا باختناق
( أنا أحبك يا حاتم ....... لم أشأ أن يحدث هذا .... ارجوك ضمني الى صدرك , لا اشعر بأنني في حالٍ قادر على النطق بكلمةٍ اخرى )
ضمها حاتم اليه بقوةٍ وهو لا يزال مذهولا .... و صدره يضرب وجنتها بقوةٍ ...
لكنه همس دون وعي و شفتيه على جبهتها تدمغانها
( نامي الآن ........ غدا نتكلم )
+

حين استيقظت كرمة من نومها .... تمطت بشعورٍ غريب هي تحس بان انسانةٍ اخرى تملكتها , ....
مشاعر غريبة جدا تكتنفها ....
فادارت وجهها تنظر الى حاتم الذي كان لا يزال يضمها الى صدره بشدة و كأنه يخشى ان تهرب منه خلال ساعات الليل .....
فابتسمت بوهجٍ غريب و هي تتأمل ملامحه التي بدت متعبة ....
مدت يدها تتلمس ملامح وجهه .... عيناه ... وجنتيه .... لتتوقفان قليلا على شفتيه .....
ثم ارتفعت الى شعره الجميل تلاعبه دون ان تمل منه ابدا و ابتسامتها تتسع اكثر .....
انخفضت يدها تتلمس صدره القوي وهي تميل بوجهها حتى ضغطت بشفتيها على شفتيه بقوةٍ يمينا و يسارا ... الى ان ارتخت ذراعاه من حولها .... و بدا يتجاوب معها اثناء نومه ...
حينها رفعت وجهها فتذمر متأوها خلال نومه .... لكنها استغلت الفرصة لتقفز هاربة من بين ذراعيه ....
بقت واقفة تتأمله قليلا .... قبل أن تجري الى دولابها ... لتختار احدى مناماتها الطفولية ... تنوى الذهاب الى وعد .... و ابتسامة رقيقة على شفتيها
دخلت كرمة الى غرفة وعد و هي تهمس برقة
( وعد ...... هل انتِ مستيقظة ؟!! ....... )
ساد صمت قليل .... قبل ان تقول وعد بصوتٍ ميت
( أنا لم أنم يا كرمة ............ )
سارعت اليها كرمة و هي تسحبها من ذراعيها بقوةٍ حتى اجلستها .... ثم نظرت الى وجهها الشاحب بالهالات الزرقاء تحت عينيها المتورمتين ... و شفتيها اللتين تماثلانهما زرقة ...
لكن كرمة لم تستسلم و هي تقول برقةٍ حازمة
( هل تريدين العودة ليومٍ من ايام الماضي ؟!! ...... )
عقدت وعد حاجبيها و هي تقول بعدم فهم
( ماذا ؟!! ............. )
وقفت كرمة و هي تجذب كفها لتقول بهدوء خبيث
( تعالي معي ........... )
جرتها كرمة خلفها ... لكن ما ان تجاوزت وعد مائدة الطعام بعدة خطوات حتى ارجعتها كرمة و هي تشير بعينيها بخبث الى المائدة قائلة
( يبدو انكِ نسيتِ يا سيدة وعد ....... تفضلي هنا .... تحت .... )
مدت يدها تبعد احدى الكراسي .... ثم مدت يدها تشير الى وعد كي تنزل تحت المائدة ...
فتأوهت وعد و هي تهتف
( ياللهي يا كرمة ........ الا زلتِ تتذكرين ؟!! ...... )
قالت كرمة بسعادة طفولية ....
( لم أنسى يوما بيتنا الخاص الذي كنا نبنيه تحت مائدة الطعام في الدار ... كي نتحدث بحرية بعيدا عن المشرفات .... خاصة في غير أوقات الطعام ...... )
جثت وعد على ركبتيها و كفيها و هي تحبو أرضا الى ان دخلت تحت المائدة .... ثم لم تلبث أن صرخت بدهشة
( حلوى جلاتينية !!!! ...... ما كل هذه الألوان و الأنواع ؟!! ..... )
ضحكت كرمة و هي تتبعها لتجثو على ركبتيها و كفيها الى أن جلست أمامها تحت المائدة ....
ثم قالت و هي تنظر الى الأطباق التي ضمت كل الألوان من الحلوى الجلاتينية ....
( بيتي أصبح لا يخلو منها ....... و كأنني أعوض شوقي لها في طفولتنا )
مدت يدها تلتقط واحدة و دستها في فمها و هي تقول بخفة
( اتذكرين يا وعد حين كانت تأتي هذه الحلوى مع هدايا الدار من زائرين الدار ؟!! ..... كانت المشرفات تاخذ الهدايا بينما يتركن لنا هذه الحلوى .... فكنا نتصارع عليها .... )
دست وعد واحدة صفراء في فمها و هي تقول مبتسمة برقة
( كنت أنا أكثر من تضرب و تصارع الى أن آخذ ما يكفيني و يكفيكِ منها ...... )
ضحكت كرمة و هي تقول
( ثم نجلس تحت مائدة الطعام لنأكلها هربا منهم ...... و بعدها أبدو أنا الطيبة الملتزمة ... بينما تنالين أنتِ معظم الضرب و العقاب ..... )
ضحكت وعد رغما عنها و هي ترفع يدها الى عينيها المجهدتين ....
ثم قالت بشرود و هي تتذكر .....
( لطالما كنتِ المفضلة لدى المشرفات ......... )
عبست كرمة و هي تقول بغيظ
( لكن على الرغم من ذلك .... مهما بلغ التزامي , لم يمنع ذلك العقاب و الضرب عني تماما ... )
فتحت وعد عينيها على اقصى اتساعهما و هي تقول
( هل تذكرين اليوم الذي ضربتِ به ظلما .... فبقيت تبكين تحت المائدة الى أن أمرتك أنا بالقوة أن تكسرين القوانين .... فطالما أنكِ ضربتِ ظلما , لذا افعلي ما تستحقين به الضرب بأمانة ...... )
شهقت كرمة و هي تقول بصدمة
( ياللهي !! ....... كيف نسيت ذلك اليوم ؟!! .... لقد اجبرتني على الهرب من الدار من الصباح و حتى الظهيرة .... و ظللنا نجري في اشارات المرور و نتسول من السيارات الى ان جمعنا ما يكفينا لشراء الحلوى ..... )
ضحكت وعد بشدة حتى دمعت عيناها و هي تقول
( و حين عدنا مساءا ..... علقتنا الأستاذة نوال في الحائط و ضربتنا بالحزام )
أخذت كرمة تضحك بشدة و هي تقول لاهثة من شدة الضحك
( و كانت تصرخ بهلع حتى أشفقت عليها بصدق ... " حتى أنتِ يا كرمة !! ..... حتى أنتِ يا كرمة !! " )
ظلت وعد تضحك بعنف حتى رفعت يدها الى صدرها المتألم و هي تقول من بين ضحكاتها الدامعة
( لقد أوشكت على الإصابة بنوبة قلبية .......... )
اخذت كرمة تضحك بشدة .... ثم قالت و هي تسعل قليلا بعد ان هدأت
( أتعتقدين أنها لازالت على قيد الحياة ؟!! ........ )
صمتت وعد تسعل قليلا هي الأخرى ... ثم قالت بخفوت
( أتمنى لا ...... و أن تكون قد ماتت دون أن تجد من يناولها كوبا من الماء .... )
هتفت كرمة بصدمة
( حرام عليكِ يا وعد ....... لم اعهدكِ قاسية الى هذا الحد ........ )
قالت وعد بخفوت و هي تدس واحدة أخرى في فمها
( لقد كنا مجرد أطفالا يا كرمة ......... )
صمتت كرمة و هي تنظر اليه قليلا قبل أن تترك ما بيدها و مدت نفسها لتعانق وعد بشدة .... فعانقتها وعد بقوةٍ و هي تقول باختناق
( أنا أحتاج اليك بشدة يا كرمة ...... لا تتركيني ..... لقد رحل عني الجميع ..... )
همست كرمة و هي تربت على شعرها
( لن أتركك أبدا ....... مهما بلغت حماقاتك ........ )

استيقظ حاتم من نومه .... و امتدت يده تلقائيا ليبحث عن كرمة بجواره ما أن استشعر برود مكانها على صدره ....
فعلم أنها ليست موجودة دون حتى أن يفتح عينيه ....
استقام حاتم جالسا وهو يبعد شعره بأصابه للخلف .... مديرا رأسه بحثا عنها في ارجاء الغرفة بتلهف غريب
و سرعان ما عادت اليه ذكرى اعترافها المهيب ليلة أمس في لحظةٍ واحدة .....
قفز من السرير و خرج مندفعا و كل كيانه يصرخ بصرامة ...
" بينهما حوار لم ينتهي بعد ........ "
أخذ ينظر في كل أرجاء البيت .... فزفر غاضبا وهو يدرك أنها من المؤكد في غرفة وعد .....
لذا لن يستطيع الدخول اليها الآن .....
زفر حاتم بنفسٍ محترق .... من صدرٍ مشتعل ....
ثم اتجه بقنوط الى مائدة الطعام يسحب كرسيا وهو ينوى الجلوس هنا الى أن تخرج .... فهي لن تتهرب منه مطلقا .... ليس بعد اعترافها ...
لكن ما أن أبعد الكرسي قليلا لجلس ..... حتى سمع صراخا عاليا من تحت الطاولة و أطرافٍ كالقطط تخبط في ساقيه ....
فقفز واقفا وهو يرفع يده الى صدره هاتفا بعنف
( ما اللذي !! ............ )
لكن زوجين من الاعين الواسعة نظرت اليه ببراءة طفولية ممتزجة بالغضب ... بينما هتفت كرمة بحدة
( الا استطيع الحصول على بعض المساحة من الخصوصية التي أحتاجها أنا و صديقتي يا حاتم ؟!! )
كان ينظر اليهما مذهولا غاضبا ..... ثم لم يلبث ان اعاد الكرسي مكانه بعد ان قال بقنوط
( آسف ..... تصرفا بحرية ......... )
ابتعد غاضبا وهو يشتم بداخله .... الا ان صوت كرمة من خلفه كاد ان يفجر المتبقي من طاقات غضبه و هي تهتف بلهجة الأمر
( ثم حاول ارتداء شيئا من فضلك لتغطي صدرك .......... لقد احمر وجه وعد )
تمتم شاتما ... ثم قال من بين اسنانه غاضبا
( كله الا احمرار وجه المبجلة وعد ............ تبا لذلك ... لا ينقصني سوى أن أقيم كشك لحجز التذاكر أمام باب البيت ...... )
( هل أنتِ مصممة على المغادرة ؟!! ..... كنتِ قد أعدتيني لأيامِ من زمنٍ فات ... )
خرج صوت كرمة حزينا جميلا .... مترافقا مع ابتسامتها الخلابة ...
فابتسمت وعد و هي تمسح طرف عينيها من دمعةٍ خائنة ... لا تزال تتسلل حارقة كالأسيد من مقائيها ...
ثم قالت بخفوت ساخر
( لم تكن اياما سعيدة تماما ........ )
امالت كرمة رأسها و هي تقول مبتسمة
( اتعلمين ..... للعجب اشعر الآن فقط أنها كانت جميلة للغاية ..... بعد أن ارتاح بنا الزمان ... فذهبت ذكرى الألم و تبقت الذكريات الطريفة ..... )
شردت كرمة قليلا و هي تنظر بعيدا متابعة بحزن
( تلك هي المشكلة ....... حين نرتاح ... ننسى الألم الذي كان , و تبقى فقط الذكريات الجميلة .... و هذه الذكريات تشعرنا بأننا كنا نمتلك السعادة يوما .... فقط لو حاولنا أكثر قليلا .... )
عقدت وعد حاجبيها قليلا ... و هي تسمع صوت كرمة الغريب ....
فاقتربت منها خطوة .... لتهمس بصوت خافت
( كلامك لا يعجبني ...... هل لازلنا نتكلم عن أيام طفولتنا أم أنكِ تطرقتِ لشيء آخر ؟!! ..... )
رمشت كرمة بعينيها عدة مرات قبل أن تهمس مجفلة و عيناها تراقبان باب الغرفة خوفا من دخول حاتم على الرغم من استحالة ذلك ... لكن وجوده بات يشكل لها رعبا من أن تقول أيا مما قد يغضبه ...
( انسي ما قلته و اهتمي بما تمرين به ...... كل ما يهم الآن هو ملك و مشكلتها ..... )
مدت وعد يدها تمسك بذراع كرمة و قالت منعقدة الحاجبين
( هل أمورك بخير مع حاتم ؟!! ....... )
فغرت كرمة شفتيها قليلا و هي تنظر الى عيني وعد ... ثم أسرعت بالإيماء و هي تقول
( نعم .... نعم بخير , لا تشغلي بالك بي .... )
عبست وعد بشدة و هي تقول بصوت خافت كي لا يعلو خارج جدران الغرفة فيسمعه حاتم
( كرمة اياك و افساد الأمور بينكما ......... انه زوج لن تعوضيه ولو بعد مئة عام ... )
مطت كرمة شفتيها وهي تقول بخفوت
( انظري من يتكلم !!! ..........)
قالت وعد بشدة همسا من بين أسنانها
( الم تجدي من هي أكثر خيبة في الحياة كي تتخذين منها قدوة ؟!! ..... بالله حافظي على زوجك هذه المرة , لن نجد لكِ زوجا جديدا كل مرة !! ...... )
صمتت قليلا و هي تنظر الى كرمة بعدم اقتناع .. ثم قالت بوجوم
( لا أعلم ما الذي يمنحه الصبر عليكِ ؟!! ....... )
مطت كرمة شفتيها و هي تقول بامتعاض
( نفس السؤال أسأله لنفسي فيما يخصك أنتِ و سيف !! ......... )
صمتت قليلا ثم قالت بخفوت حزين
( وعد ...... أتظنين أن العيب بنا نحن ؟!! ...... هل نعاني خللا ما ؟!! ...... )
أمالت وعد وجهها و هي تتأمل كرمة جيدا .... ثم قالت بفتور
( نظرا لطبيعة نشأتنا ..... أجدنا بطلات .... لذا يتوجب عليهم أن يتفهموا ..... )
عضت كرمة على شفتها قليلا ... ثم سقطت جالسة على السرير بقنوط
( ماذا لو لم يتفهموا ؟!! ............ ما العمل حينها ؟!! ..... )
كانت وعد تنظر الى كرمة بقلق ... كلامها غريب و شكلها أغرب .... لقد أخذتها المشاكل بعيدا , و اطمئنت الى أن كرمة قد تزوجت ... فسلمت بأنها سعيدة و مستقرة .... و تناست تماما حبها لمحمد ....
لكن هي على الأخص تعرف مدى حب كرمة لمحمد ..... و مع ذلك اختارت تجنب ذكر الموضوع فيما بينهما ....
تركت وعد الحقيبة التي تحمل فستانها الليلي تسقط ارضا .... ثم ارتمت بجوار كرمة و هي تقول بحزم
( ما الأمر ؟!! ........ و لا تهيني ذكائي قائلة بأن كل شيء بخير ......... )
رفعت كرمة وجهها الى وعد و قالت بجدية
( وعد .... هل هذا وقت يسمح لكي تهتمي بمشاكلي النفسية التافهة !! ..... دعكِ مني و لنهتم بملك حاليا ... )
أظلمت عينا وعد و تنفست بصعوبة .... فكل نفسٍ تسحبه كان يبدو كالسكين المشدود بوتر ... ينحر في قلبها ....
اخذت نفسا مؤلما آخر .... ثم قالت بصوتٍ لا حياة به
( ملك ....... ملك ....... ماذا سأفعل ؟!! ..... و كيف سأتصرف ؟!! ...... أنا نفسي لا اعلم ..... لقد قتلتني ...... )
أطرقت بوجهها و رفعت يدها الى صدرها ..... أنه يؤلمها بشدة .... و الأقراص مع سيف ......
رفعت عينين مبللتين بزجاجٍ مغطى بقطراتِ مطر ندية و هي تفكر ....
" بأنها لن تجلب الدواء من نفسها أبدا ..... أبدا ..... فلا شيء يستحق بعد الآن .... "
تحشرج صوتها قليلا و هي تقول بخشونة
( دعي ملك الآن ..... فأنا أشعر باقترابي درجة من الموت كلما تذكرت ما فعلته ...... و أخبريني ... )
حاولت تجلية صوتها ... ثم قالت بخفوت
( اذن ....... مشاكلك النفسية التافهة ...... كنت أعرف أن الخلل يبدأ و ينتهي عندك ...... ما هي تلك المشكلة العويصة في حياتكما ؟! .... )
أخذت كرمة نفسا مرتجفا ... و هي تنظر امامها .... تبتسم بارتجاف لتعود ابتسامتها لتختفي بسرعة بقلق ... ثم قالت أخيرا بخفوت
( أكتشفت أنني ........ أنني أحب حاتم ..... )
ظلت وعد تنظر اليها و كأنها لم تسمع الاعتراف الذي نطقت به كرمة للتو .... بل اكتست ملامحها بالبلادة منتظرة متابعة كرمة وصولا الى لب المشكلة ....
و حين اكتشفت ... انه لا تكملة ..... رفعت حاجبها ببطىء لتقول بوجوم
( تحبين زوجك ؟!! ...... انه انحلال غير مغفور .... كيف استطعت ارتكاب تلك الجريمة الشنيعة ؟!! .... )
نهضت وعد من مكانها و هي تقول هاتفة بحدة
( صحيح انني طلبت منكِ تجنب الحديث عن ملك .... لكن لم اتخيل ان تكون مشاكلك بمثل تلك التفاهة مقارنة بنا ...... اراكِ فيما بعد يا عاشقة ..... انا راحلة , و حين يصفو بالي ... سأفكر لكِ في حل كي نتستر على فضيحة حبك لزوجك ...... )
قفزت كرمة و هي تكمم فم وعد لتقول همسا بحدة من بين اسنانها
( ششششششش ..... اخفضي صوتك , تبا لكِ ...... قد يسمعك حاتم ..... )
رفعت وعد حاجبها بارتياب و هي تنظر الى الباب المغلق .... ثم قالت من تحت كف كرمة بتوتر
( هل هو معتاد على التصنت عليكِ من خلف الأبواب ؟!! ..... ربما مشكلتك اكبر قليلا مما ظننت !! )
رفعت كرمة يدها عن فم وعد ببطىء و هي تهمس مراقبة الاجواء .. ووعد تتبع نظارتها بتوجس
( انه لا يتنصت ابدا ...... لكن لو سمع اسمه بالصدفة و هو يمر .. قد يقتحم الغرفة مطالبا بمعرفة كل ما قلته و كل ما اشعر به ........ )
زفرت كرمة بحدة و هي تقول بغيظ و هي تعود لترتمي جالسة على حافة السرير
( انه متملك لدرجة خانقة ....... و أنا ........ )
زفرت مجددا و هي ترفع يدها لتبعد شعرها عن وجهها و هي تقول بيأس و قنوط ...
( و أنا أحاول التعافي ...... لكن المشكلة انني لست مريضة كي أتعافى ..... )
جلست وعد بجوارها و هي تقول باهتمام
( لماذا لا تشرحين لي مما تعانين ... بدلا من محاولاتي الواهية في فك شفرة كلامك .... )
قالت كرمة بخفوت
( انه يتخلل كل ذرة من حياتي .... يحدد ما آكل .. و ما ألبس .... يسألني عن كل دقيقة أقضيها بغيابه ..... و كأنه يخشى لو أغفل النظر عني للحظة فسوف أتبخر و أتلاشى ....... )
رفعت وعد حاجبها و هي تقول بتعجب
( هل يحدد لكِ مواعيد دخول الحمام كذلك ؟!! ............ )
هزت كرمة رأسها و هي تقول بصدق
( لا أستبعد أن تكون تلك هي خطوته المقبلة ............. )
نظرت الى وعد و هي تقول بيأس
( تخيلي أنه يمنعني من الذهاب الى المطبخ ليلا لو شعرت بالجوع ...... إما ذلك أو أن يأكل معي حتى لو لم يكن جائعا ... حينها اشعر بالخجل و أعود معه الى الغرفة ....... )
عقدت وعد حاجبيها بشدة ... ثم قالت بخفوت
( لا حول و لا قوة الا بالله ..... لا أسوأ من جدي الا جدتي ..... لقد رزقك الله بزوجين كل منهما يسلك طريقا على الطرف الأخر من العالم عكس الآخر ..... )
لوحت كرمة بذراعيها و هي تهتف
( نعم ذلك هو ما أشعر به ........ إنه على النقيض تماما من محمد .... و كأنه يحاول ان يعوضني كل كل يوم قضيته قبل ان اعرفه ...... احيانا .....)
صمتت قليلا و هي تتنهد مبتسمة .. لتتابع شاردة بعبث و دلال
( أحيانا أشعر بكل ذرة من أنوثتي تتوهج لذلك .... و اتعمد ملاعبته و استفزاز عواطفه كي يزيد ..... لكن أحيانا أخرى ....... )
اختفى العبث من صوتها .... و حل تعبير حزين شاحب قليلا على ملامحها و هي تتابع بخفوت
(لكن أحيانا أخرى ....... أشعر بأنني أريد بعض المساحة لنفسي ..... كي احلل مشاعري .... و أحاول تفسير اشتياقي ل ....... )
صمتت و هي تطرق بوجهها .... مشبكة كفيها في حجرها .... حينها عقدت وعد حاجبيها بشدة و هي تهتف
( هل تشتاقين لمحمد ؟!!!!!!! ........ )
انتفضت كرمة و هي تهمس برعب
( هشششششششش ......... اخرسي , انه هنا .... في مكان ما ..... )
نظرت وعد بتوتر الى أرجاء سقف الغرفة ... و قد بدأت تشعر بالجنون في هذا البيت ....
لكنها اعادت وجهها الى كرمة و قالت بحدة هامسة
( انطقي ........ هل تشتاقين لمحمد ؟!!!!! ........ )
نظرت كرمة الى عيني وعد بصمت ..... قبل أن توميء برأسها و هي تشعر بالذنب لمجرد هز راسها ....
فغرت وعد شفتيها و هي تهمس بذهول
( ياللهي يا كرمة !! ...... الازلتِ تحبينه ؟!! ........ )
أبعدت كرمة عينيها عن عيني وعد و هي تقول بابتسامة يائسة
( ليلة أمس ...... أعترفت لحاتم أنني أحبه ..... لاول مرة ........ و حتى الآن لازلت أنتظر مصيري .... أخشى أن يتخلل ما بين جلدي و عروقي نتيجة لإعترافي ....... )
همست وعد عاقدة حاجبيها
( اذن !!!!.................)
تنهدت كرمة و هي تقول بخفوت
( لقد كلمني محمد منذ عدة أيام ....... لم يقل شيئا .... فقط نطق اسمي ....... )
هتفت وعد بهياج و هي تقفز من مكانها
( الوغد ..... الدنيء ....... الحقير .......ماذا يريد منكِ بعد أن أصبحت على ذمة رجل آخر ... الا يكفيه السنوات التي ضيعها وهو يستغل كل لحظة كي يذلك !!! .. )
قفزت كرمة برعب من مكانها و هي تهجم على وعد لتكمم فمها مجددا ... و تقبض على مؤخرة رأسها بيدها الأخرى ... ثم همست برعب و غضب من بين أسنانها
( لو علا صوتك مرة أخرى فسأقطع لكِ لسانك ........ و لو سمعك حاتم فسأقضي المتبقي من عمري في تعذيبك بصورٍ لن تتخيلينها من قبل ...... )
أومأت وعد برأسها دون أن تجد الفرصة كي تتنفس حتى .....
نزعت كرمة يدها بالقوة عن فم وعد ..... التي أخذت نفسها و هي تنظر الى كرمة بنظرة تهديد خطيرة قبل أن تقول بحدة خافتة
( طبعا أهدرتِ كرامته .... و صببتِ عليه كل لعناتك .... اليس كذلك ؟؟ ..... )
ظلت كرمة صامتة ... مطرقة الرأس ... تنظر الى قبضتيها , فرفعت وعد حاجها و هي تعيد مهددة أكثر
( اليس كذلك ؟!! ........ كرمة !!! ..... )
رفعت كرمة عينين محملتين بالذنب ... ثم همست بخفوت
( لم اجد الفرصة ..... ذعرت و أغلقت الخط ........ )
صمتت قليلا ثم همست متابعة بخفوت
( شعرت بالنقمة عليه لأنه عاد لحياتي فأربكها من جديد .... شعرت بالنقمة لأنني ..... لأنني ... في لحظة خائنة .... أردت أن أسأله عن حاله ... اطمئن عليه ..... شعرت بأنني مشتاقة اليه ...... )
تنهدت وعد و هي تقول بيأس
( ياللهي يا كرمة !! ........ هل تدركين ما تقولين ؟! .......... )
رفعت كرمة وجهها بقوةٍ لتقول
( كنت مذعورة من شعوري .... مذعورة و مرتعبة , الى أن تكلمت ذات يوم مع محمد ابن حاتم ..... يومها أخبرني بمنتهى البساطة أن والدته ستظل ذات مكانة غالية بقلب حاتم ....... لن تتغير هذه المكانة قط .....
أنا نفسي أرى و أسمع حاتم يهاتفها و يطمئن عليها ...... و ذلك لأنهما انفصلا بتحضر .... و بقت مكانة كل منهما لدى الآخر .... حينها وقفت أمام نفسي قليلا .... و تسائلت ... لماذا لا يحق لي المثل .... لماذا لا يحق لي الإعتراف بأن ..... بأن محمد سيظل دائما يحتل مكانة بقلبي ؟!!.... لماذا لا يحق لي الإنفصال عنه بنفس التحضر الذي انفصل به حاتم عن طليقته ؟!!..... ما أعانيه الآن ظلم ... ظلم أن أضطر الى انتزاعه و بتره من حياتي بمشرط جراح .... بينما أنا أعيش في بيئة لا تأبه بذلك الإنتزاع القسري المؤلم ..... )
صمتت كرمة أخيرا تلهث قليلا بعد أن رمت دفاعها كله .... و على الرغم من ذلك كانت ملامحها خائفة .. غير واثقة .... فقالت وعد مكتفة ذراعيها بهدوء
( هل انتهيت ؟!!! ................ )
أومأت كرمة برأسها بتردد ... فقالت وعد بقوة و هي تفك ذراعيها لتلوح بهما
( لأنه رجل يا كرمة ...... لأن زوجك رجل .... يحق له ما لا يحق لك ...... يمكنه الإعتراف بأن طليقته ستزال تحتل مكانة بقلبه ..... أما أنتِ فلا يحق لكِ ذلك ..... لا يمكنك التفكير بغير زوجك و الا ستكون خيانة ..... خيانة و قلة أدب ... و انحراف ..... )
تأوهت كرمة و هي تقول بخفوت معذب
( ارجوكِ لا تزيدي من احساسي بالعذاب ............. )
همست وعد بحدة مهاجمة
( بل يجب عليكِ ان تشعري بذلك .... الى ان تتمكني من تطهير نفسك منه تماما ... و تجتزيه من عقلك و تفكيرك ...... )
هتفت كرمة بيأس و عذاب
( لكن هذا مستحيل يا وعد ..... مستحيييييل ....انه جزء من حياتي .... انه بداية حياتي .... كيف اقتلعه كهذا بطرقعة اصبع ؟!! ....... )
رفعت وعد اصبعها الى فمها و هي تهمس حدة
( هشششششش ...... حاتم سيسمعك .... )
شهقت كرمة برعب و هي تكتم فمها بيدها بالقوة ..... لكن وعد ظلت تنظر اليها عاقدة حاجبيها قبل ان تذهب الى هاتفها الملقى على طاولة الزينة .... ثم مدته لها و هي تقول بصرامة
( حسنا ...... تريدين الانفصال المتحضر ؟!! .... خذي .... هاتفيه ... و اطمئني عليه .... و اسمعي صوته الحبيب و ابتسمي لنبرته ..... انتِ امرأة ناضجة ... ماذا يمنعك ؟!! .... )
ظلت كرمة تنظر الى الهاتف الممتد امام وجهها و كأنه أفعى سامة ..... ثم هزت رأسها نفيا ببطىء و صعوبة و هي تهمس بذعر
( لا استطيع ...... لا استطيع ....... لا يمكنني ذلك .... )
رفعت وعد حاجبيها و هي تقول بجدية
( لماذا ؟!! ...... الستِ تطلبين نفس حقوق حاتم ؟!! ..... خذي اذن ....... )
ظلت كرمة تنظر الى الهاتف باختناق ... و هي تهز رأسها بحركةٍ غير مرئية .... ثم همست اخيرا
( يجب ان يوافق حاتم ..... لا اريد فعل شيئا لا يرضاه .....)
اتسعت عينا وعد و هي تقول ببرود
( و تريدين موافقة حاتم أيضا ؟!! ..... أتعرفين ما هي مشكلتك يا كرمة منذ صغرك ؟؟ ..... أنها النقيض من مشكلتي تماما .... دائما كنتِ تريدين كل شيء .... تطمحين لنيل كل شيء ..)
صمتت وعد و هي تعيد هاتف كرمة مكانه ...ثم جلست بجوارها و هي تقول بقنوط
( بينما أنا كنت دائما أركز على شيء واحد ....... أضع حياتي في كفة .. وهدف واحد بكفة ..... لأنسى الباقي دونه ....... كأنني حصان عيناه محجبتان و موجهتان على طريق واحد لا غير ....)
همست كرمة بخفوت
( أنا لست بمثل هذا السوء و الأنانية ..........)
نظرت اليها وعد بطرف عينيها ... ثم همست بصعوبة
( بل أنا من هي التي بمثل هذا السوء و الأنانية ....... على الأقل أنت تريدين ارضاء نفسك و ضميرك و قلبك و من حولك و أحلامك ..... لكن أنا ...... دائما كنت أؤجل الإهتمام بكل شيء في سبيل تحقيق شيء واحد فقط ...... فلو تزوجت سيف نسيت ملك .... و لو أردت تحقيق حلمي نسيت سيف ..... و في النهاية اكتشفت .... أن الأكثر نسيانا في حياتي كانت ملك .....)
مدت كرمة ذراعها لتحيط بها كتفي وعد و تضمها اليها ... الى أن أراحت جبهتها على جبين وعد و قالت باختناق
( الم أحذرك أن مشكلتي تافهة بالمقارنة بمشاكلك .........)
رفعت وعد وجهها و هي تحاول التقاط أنفاسها قبل أن تقول بصرامة
( ليست تافهة ...... لقد كنت شاهدة على كل وجعٍ مررت به يا كرمة ..... فإياكِ و نسيان الألم الآن بعد أن ذقت طعم السعادة ...... فتكون النتيجة أن تتسرب من بين يديك ....... )
رفعت وعد وجهها الى كرمة و قالت بجدية
( ما تطلبينه مستحيل يا كرمة ..... مستحيل و خاطيء و يعد خيانة ..... فلا تنساقي لها ..... )
ارتجفت شفتي كرمة بشدة ..... و قالت بجدية
( أنا أحب حاتم ......... بدأت أشعر بالرعب من فقدان سعادتي معه ..... لكن ...... أشعر بذنب يحرق روحي .... و كأنني استخدمت محمد كدرجة سلم .... صعدت عليها ... ثم انطلقت للأفضل .. و المصيبة أنني أحبتته .... أي أنني تخليت عنه بمنتهى القذارة .... على الرغم من انني كنت أحبه يوما أكثر من نفسي .... )
قالت وعد بشدة
( كنتِ ...... الكلمة المهمة هي "كنتِ تحبينه " .... أنت الآن تحبين زوجك ... و علميا يستحيل أن يتسع قلبك لرجلين ... الا لو كنتِ تعانين من خلل ما في تكوينك العقلي ..... لا تسمحي له ان يدمر حياتك يا كرمة ......
لقد منحتهِ كل الفرص التي يحتاجها ... وهو ضيعها واحدة تلو الأخرى ..... )
أطرقت كرمة بوجهها .... قبل أن تنهض وعد و هي تقول بخفوت
( يجب أن أذهب الآن قبل أن يطردني زوجك ...... أخشى أن يكون ماكثا عند باب الغرفة منتظرا أن يزيحني بمجرفة كي يتحدث معك ........ )
تأوهت كرمة و هي تقول برجاء
( لا تتركيني معه الآن يا وعد ....... سيفترسني .... )
ضحكت وعد بأعجوبة على الرغم من الدموع التي تحرق حدقتيها ..... ثم قالت بخبث
(ربما هذا هو ما تحتاجينه كي تنسي أوهامك المعتوهة ........ )
نهضت كرمة من مكانها و قالت بخفوت
( وعد ..... لم نتكلم فيما يخص ملك ...)
قالت وعد تقاطعها بخفوت
( ليس الآن يا كرمة ..... ليست لي القدرة على ذلك .... ليس قبل أن تعود و أفهم منها ...... )
استدارت تتجه الى الباب فقالت كرمة بخفوت
( سأرافقك .......... كي أمنعه من دحرجتك على السلالم ...... أنه أحيانا يفقد تحضره )
لم يعلم منذ متى وهو يجلس على درجات السلم أمام باب البيت مطرق الرأس .......
يمسك بكرة محمد ليضربها على الأرض بين كفيه .... شاردا عن كل ما حوله ....
منذ أن أستيقظ وهو يحيى لحظات تبدو كأرجحة بين النيران و الجليد ..... لا ليس منذ أن استيقظ .... بل منذ أن نامت على صدره بعد اعترافها المترافق مع دموعها .... و كأنه يعذبها .....
شيء ما كان يؤلمه بنفس قدر السعادة المتوهجة التي يشعر بها ..... شيء ما غير صحيح تماما ... يجعل من اعترافها ليس بالكمال الذي انتظره يوما ..... انتظره في أحلامه البعيدة .....
فتح باب البيت خلفه فجأة و خرجت كل من وعد و كرمة ... الا أنهما شهقتا بصمت وهما تكادان تتعثران به وهو يجلس مكانه منتظرا .....
نظرت كرمة الى وعد تتنهد بصبر و يأس .... بينما همست وعد بخفوت
( لك الله ...... عذرتك والله ..... )
تكلمت كرمة أخيرا و قالت بهدوء
( ماذا تفعل هنا يا حاتم ؟!! ....... لماذا تجلس بهذا الشكل ؟!! .... )
نهض حاتم من مكانه و هو يرمي الكرة قبل أن يقف أمامها يرمقهما مضيقا عينيه و كأنه يحاول استنتاج ما كانا يتحدثان به ......
ثم قال أخيرا بهدوء
( كنت أنتظرك ....... فبيننا حديث لم ينتهي )
زمت كرمة شفتيها .... و هي تشير بعينيها الى وعد التي تقف بجوارها عله يشعر بالخجل , الا أنه واجه عينيها بكل قوة وهو متأكد أنها نقلت الأخبار كلها لوعد قبله .....
تنحنحت وعد و هي تقول بخفوت
( سأرحل أنا ...... و شكرا لكما على استضافتكما لي ....... )
قال حاتم بهدوء
( سأقلك الى حيث تشائين ............ )
قالت وعد بسرعة
( لا شكرا لك ......... و نترك كرمة بمفردها !!! .... ابقى معها ... )
ابتسم حاتم وهو ينظر الى عيني كرمة ليقول بهدوء و ثقة
( من قال أننا سنتركها ؟!! ...... سنأخذها معنا بالطبع ....... لا يمكنني الإبتعاد عنها ولو للحظة ..... )
رفعت كل من كرمة ووعد وجهيهما وهما تتنهدان معا ....
قبل أن تقول وعد بهدوء
( من فضلك ابق هنا ..... أنا أحتاج لأن أمشي بمفردي قليلا .... أرجوك ..... )
أومأ حاتم برأسه .... قبل أن تلتفت وعد الى كرمة كي تعانقها بشدة و همست في أذنها
( اثبتي على حبك ........ )
ابتسمت كرمة رغما عنها لتلك التوصية .... و هي تنظر الى عيني حاتم المحدقتين بها بقوة من خلف كتفي وعد .... تعرف انه يريد سماع ما همست به وعد لها .....
لكنها لن تريحه ..... تهوى التلاعب به ..... تعشق استفزاز تملكه .... و يأسرها تمالكه لنفسه بقوةٍ حد الألم كل مرة .....
بعد ان خرجت وعد ..... تلكأت كرمة مكانها قبل أن تستدير الى حاتم الواقف خلفها منتظرا ....
بينما شبكت أصابعها بتوتر كتلميذة مرتبكة .....
فاقترب حاتم خطوة وهو يحاصرها بعينيه النافذتين فلا تستطيع الهرب منهما ....ثم قال بصوت أجش خشن
( وحدنا أخيرا ............ )
عبست كرمة رغم احمرار وجهها و قالت متذمرة
( كان يمكنك الإلحاح على وعد أن تبقى بجدية أكبر ..... من المؤكد أنها شعرت برغبتك في رحيلها )
اقترب حاتم خطوة أخرى وهو يقول دون خجل
( تعرفين أنها تريد الرحيل ولو ألحننا لشهرين متتاليين ........ حاولي ايجاد حجة أخرى )
عضت على شفتها تمنع ابتسامتها المرتجفة و هي تنظر الى العشب الأخضر تحت أقدامها .... بينما كان حاتم يلتهمها بحنان بنظراته المحاصرة لها و المنهمرة عليها ....
كان يقترب منها دون توقف ... بينما عينيها تطالعان خطواته و قلبها يرتجف بعنف .... وجهها أحمر و شفتيها لا تتوقف عن الإبتسام المرتبك ... دون أن تجرؤ على رفع عينيها الى عينيه ....
وصل حاتم اليها اخيرا الى أن وقف أمامها ثم قال بصوت خشن مكررا بتأوه أجش خافت ....
( وحدنا أخيرا يا كرمتي ........... )
افلتت منها ضحكة صغيرة .... قبل أن توميء برأسها هامسة بخجل كاد أن يسلبه روحه
( نعم ............. )
قال حاتم و عيناه تدوران حولها
( ألا تخبئين لي أحدا تحت الكراسي أو الموائد ؟!!! ........... )
رفعت اصبعين و هي تهمس بخجل
( لا أحد غيرنا هذه المرة ....... وعد شرف ..... )
اقترب حاتم منها أكثر حتى لامسها بجسده ... فسرت الحرارة بداخلها مؤلمة ... رائعة .... فوضع يديه على خصرها يثبتها قبل أن تحاول الهرب ..... ثم انحنى بوجهه ليهمس في أذنها مباشرة بنفسه اللاهب
( بيننا حديث لم ينتهي بعد ....... فأين توقفنا ؟!! ..... آآآه نعم ... كنتِ تقولين أنك ........ )
صمت تاركا لها الفرصة لتعيد اعترافها الذي كاد أن يذهب بأنفاسه و حياته .... الا أنها كانت في حالة خجل و توتر غبية و كأنها في الرابعة عشر من عمرها .... فهمست بإختناق
( ربما كنت تحلم !! .............. )
رفع وجهه عابسا وهو يقول بنبرة خطر
( أحلم ؟!! ...... أنتِ لن ينفع معك الذوق ...... )
و قبل أن تسأله عما يقصد .... كان قد تركها لينحني اليها و يرفعها على كتفه .... و هو ينوي التوجه بها الى داخل اليت بينما كانت تشهق هلعا و هي تجد الدنيا قد انقلبت بها فجأة .... فهتفت و هي تلوح بساقيها ...
( أنزلني يا حاتم ...... أنزلني نحن خارج البيت , قد يرانا أحد ...... )
قال حاتم ببساطة وهو يصعد الدرجات القليلة التي تسبق باب البيت
( ثوانٍ و نكون داخل البيت ..... داخل غرفتنا .... و حينها سأستجوبك بمزاجٍ متفرغ .... )
شهقت صمتا و هي تخيل طبيعة استجوابه .... و عرفت أنها ستنطق بكل الغباء الممكن حينها ... هتفت بقوة
( لا لا ..... أنا آسفة .... أنزلني أرجوك و سنتفاهم ..... )
توقف قليلا ... قدمه على درجة سلم .... و أخرى تتراجع لتنزل أرضا .... لكنه لم يستسلم بل قال بصرامة
( هل ستعترفين ؟!! .......... )
هتفت كرمة و هي تضرب ظهره بقبضتها غاضبة
( تبا لك يا حاتم ....... هل هو استنطاق رسمي ؟!! ...... لقد ضيعت كل أثر للرومانسية .... أنزلني ... لقد أصبت بالدوار ..... )
أنزلها ببطىء حتى أوقفها على الدرجات القليلة .... فدار بها العالم مجددا .... حينها رفعت يدها الى جبهتها و هي تترنح .... الا أن حاتم جلس على أول الدرجات ... و جذبها اليه برفق حتى أجلسها بحجره قائلا بخفوت
( تعالي ....... اجلسي ....... )
نزع يدها من جبهتها برفق وهو يقول برقة
( هل أنت بخير ؟؟ ...... )
رفعت وجهها الغاضب المحمر اليه .... ففتنه توهجها و فوضى شعرها المموج .... الا انها هتفت بحنق
( لا احب اسلوب الإجبار ذلك ....... )
عقد حاجبيه ببراءة وهو يقول
( اي اجبار ؟!! ...... كنت سأساعدك لتنامي ... و الى ان تفعلي كنا سنتكلم قليلا ..... )
مطت شفتيها و هي تقول بامتعاض
( نعم متخيلة نوع المساعدة المستخدمة و المجهود المبذول ........ )
قال حاتم بلهجة هادئة تنضح بروح التهديد
( كرمة ........... هل ستبدأين الكلام أم ........ )
زفرت كرمة بحنق و هي تبعد وجهها عنه .... تتأمل السماء المشرقة من بعيد .... و اصوات العصافير لها نغم مختلف اليوم على اذنيها .... فابتسمت قليلا و هي تعيش الجو الحالم .... بينما كانت اصابع حاتم تمشط شعرها و تتخلل خصلاته .....
فأخذت نفسا عميقا و همست دون ان تنظر اليه
( ماذا تريد أن تسمع ؟! ....... أنني .... احب.... احبك ؟؟!..... )
اعادت وجهها تنظر اليه .... بوجنتين حمراوين و عينين خلابتين تهربان من عينيه ... و ابتسامة قتلته و هي تقول برقة
( انت تعرف انني احبك .......... الم تخبرك ضحكاتي ؟!! ...... )
عقد حاتم حاجبيه وهو يقول بخفوت اجش على الرغم من صدره الذي كان يهدر بعنف من بساطة اعترافها الذي كان ذو حلاوة تشبه مذاق الشهد ...
( ليس بالضرورة ..............)
تشجعت و رفعت عينيها الي عينيه و هالها الانطباع الجارف بهما و الذي كاد أن يغرقها ... فهمست مشدوهة من عمقهما
( بلى ........ في كل مرة اضحكتني بها , كنت اشعر انك تحفر حرفا من حروف اسمك بقلبي ...... )
صمت حاتم ينظر اليها بشك ...... فقالت بخفوت
( الا تصدقني ؟!!...... الهذه الدرجة كنت اسيء معاملتك ؟!! ..... )
ظل صامتا قليلا وهو يتلاعب بشعرها مفكرا .... ليلامس فكها بظاهر أصابعه .... و يمررها على عنقه ... ثم همس بصوت خافت
( لا يمكنك أن تكوني سيئة أبدا .......حلاوتك تتغلب على مذاق السكر و تجعل منكِ عسلا صافي ..... )
ابتسمت باشراق و هي تسمع منه غزلا يناسب شابة مراهقة .... تتوق لسماع كلماتٍ محلاة ككلماته ... و ياللعجب !! انها تشعر فعلا بأنها تراجعت في العمر لتصبح في اولى سنوات المراهقة .... فقالت برقة
( انت تجعلني اشعر بأنني أصغر في العمر ...... لا العكس ......)
ابتسم قليلا بشرود وهو يقول
( وهو المطلوب .............. )
قالت كرمة بقلق و هي تلامس فكه الصلب .....
( لماذا لا تبدو سعيدا ؟!! ..... أو ..... مقتنعا ؟!!! ........ )
نظر الي عينيها مفكرا .... لا يعرف كيف يجيبها .... كيف يشرح لها ....
المرأة التي تمنى حبها أكثر من أي شيء آخر في هذه الدنيا .... تجلس الآن على ركبتيه ... و تخبره بأنها تحبه ... ببساطة و ابتسامة مشرقة ..... و كأنه الخبر الأكثر بساطة في التاريخ .....
و كأنها تلقت لعبة جميلة تسعدها و تفرح قلبها ......
لكنه رآها من قبل في حالة حبها ..... بل عشقها ......
كانت ملامحها تنضح بحزن عاشق .... يتخلل كل ذرة من ملامحها .... و يفيض من عينيها ... و هي تنظر الى حبيبها و كأنه البطل الوحيد في هذا العالم .... مهما آذاها أو ابتعد .... كانت ترمقه في شرودها بنظراتِ عشقٍ ميؤوس منه .... و هي لم تنظر اليه يوما بمثل هذه النظرات .... و لا حتى في اعترافها السعيد الآن .....
اختلاف ما بين مشاعرها .... يجعله غير واثقا ان كان حبها له الآن هو الصادق ...... فهي شديدة البساطة و الصفاء ...... بينما كانت مع طليقها ........ عاشقة بيأسٍ معقد .....
بهتت ابتسامة كرمة أمام شرود حاتم الطويل ..... فقالت بخفوت
( ربما لست ماهرة في الكلام .........هل يمكنك نسيان ما قلته لو كان قد ضايقك ؟؟ ..... )
عبس بشدة وهو يخرج من شروده على طلبها البائس الحزين .... فقال بعد عدة لحظات بخشونة
( أتطلبين مني نسيان نجمة في السماء لمستها بأصابعي ؟!! ........ )
فغرت شفتيها قليلا ..... قبل أن تنفجر ضحكا من بساطة تعبيراته التي تجعله عاشقا مسرحيا ... بينما ملامحه الوقورة الصلبة تناقض ما ينطق به .....
حينها انحنت الى صدره .... ترتاح اليه .... و هي تغمض عينيها ... و تحيطه بذراعيها .....
قد يكون خانقا .... محاصرا لها ...... لكن حدث أن أحبته كطفلها الصغير ...... ربما كانت امومتها المتعطشة تجعل منها أما له .... مثل محمد تماما .....
بهما شيء فطري يثير غرائز امومتها تجاههما .... و كأنهما نسختين متطابقتين مع اختلاف الأحجام .....
قال حاتم اخيرا وهو يضمها اليه بقوة ........
( اذن سيدتي ........ كيف تحبين قضاء وقتك الآن ؟!! ...... )
رفعت وجهها اليه ..... و توقفت نبضاتها و هي تقرأ نواياه بوضوح .....فاتسعت ابتسامتها و هي تقول بعفوية
( نحن وحدنا أخيرا !!! .......... هل يمكنني ان انفذ اقصى احلامي جنونا معك ؟!! ..... )
ارتبك حاتم للحظة ... و شعرت به يجفل ... و اصابعه تتشنج فوقها برد فعل فوري ....
فابتسمت له ابتسامة ساحرة .... مما جعل احمرارا طفيفا يعلو وجهه وهو يشرد بتخيلاتٍ استطاعت رؤيتها ببساطة ...... بينما تمكن من القول اخيرا ما ان وجد صوته
( كنت اشعر أنكِ ستجدين نفسك .... ما ان تتوفر لك المساحة المطلوبة و الخصوصية الكافية ...... )
أومأت كرمة برأسها و هي تقول ببراءة
( أكيييييد ........... )
ثم قفزت واقفة من على ركبتيه .... لتنحني و تلتقط كرة محمد ...... ثم ترميها لحاتم بقوة فتلقاها مباشرة وهو ينظر اليها بصدمة و هي تتراجع بظهرها ضاحكة بعبث
( هيا قم ايها الكسول ....... اريد أن ألعب ...... لا اريد ان اشعر بأن شيئا ينقصني في غياب محمد ... و تلك هي مهمتك ....... )
كان لا يزال جالسا مكانه على درجات السلم .... وهو يراها ترفع شعرها في عقدةٍ عشوائية .....
ثم تنحني للأمام منتظرة و هي تضحك بعبث .....
لا يزال اسم ابنه يجفله .... و العجيب انها دائما ما تنطقه فيما يحتمل ...... المعنيين .....
تنفس نفسا مؤلما متحشرجا ..... لكنه نهض من مكانه غاضبا ....يضرب الكرة في الارض عدة مرات قبل ان يقول بصرامة مهددا
( تلعبين يا كرمة ؟!!!!!!! ........... )
ارتفع حاجبيها ببراءة ... و هي تهتف من بعيد
( هل لديك اقتراح آخر ؟!!! ............ )
زفر نفسا ساخنا وهو ينحني و يضع الكرة ارضا ..... قبل ان يقول بخشونة
( سأقوم بتأجيل قائمة اقترحاتي لوقتٍ لاحق ..... بعد ان اقضي على كل قواكِ المتلاعبة ..... )
و خلال لدقائق كانت كرمة تجري معه ضاحكة كالمجنونة .... و هي تحاول المناورة لأخذ الكرة دون جدوى .....
دائما كانت تجد ظهره كحاجز سد ... مهما واجهته ... و تتعرقل ساقها بين قدميه ....
لم تفلح في اخذ الكرة ولو لمرة واحدة .... بينما كان هو يمررها بين قدميه بمهارة .... و ذراعه تلتقط خصرها كل مرة ليرفعها عن الأرض كأنها دمية صغيرة و كانت حينها تهتف بغضب على الرغم من ضحكها
( انزلني يا حاتم ...... ممنوع إمساك اللاعبين بهذا الشكل ...... أنت تغش ..... )
و كان ينزلها دون ان يترك لها الكرة وهو يقول لاهثا
( أنا أمتلك الملعب ... و لاعبي الفرقة المنافسة .... لذا من حقي اصدار قوانيني الخاصة .... )
ثم انحنى اليها وهمس في اذنها
( و ملامستهم كيفما اشاء .......... )
ضحكت كرمة بهيستيريا و هي تدفعه بوجهٍ احمر قاني صارخة و هي تحاول عبثا التقاط الكرة
( توقف ....... أنت لا تلعب بإنصاف ..... أنا أرييييييييد محمد ...... )
توقف فعلا .... توقف مكانه يلهث قليلا بملامح هادئة .... بينما كفيه تستريحان على وركيه ... وهو يهمس لنفسه
" توقف عن ذلك يا حاتم ...... متلاعبة هي دميتك حتى في الألفاظ ... "
حينها استطاعت كرمة التقاط الكرة من بين قدميه مستغلة شروده .... و هي تصرخ مذهولة لا تصدق نفسها ... تلوح بقبضتيها بغباء و انتصار ... الى ان تعثرت بالكرة في غمرة غبائها بالفوز... فسقطت على وجهها ...
اندفع اليها حاتم دون ان يستطيع منع نفسه من الضحك بدرجةٍ أدمعت عيناه بشدة للمرة الأولى ...
وهو يجثو بجانبها ... و يساعدها على النهوض على ركبتيها و هي تحك أنفها الذي حفر خندقا بين الأعشاب ... فقال من بين ضحكاته و سعاله
( هل أنتِ بخير حبيبتي ؟!! ...... دعيني أرى أنفك ...... )
حاول مسح أنفها ... دون أن يستطيع للحظة التوقف عن ضحكاته العالية ... فدفعته و هي تقول بغضب
( توقف عن الضحك يا حاتم ..... تبدو سخيفا ...... )
الا انه لم يستطع على الرغم من محاولاته .... فقال متعثرا بضحكه
( لا اصدق ان هناك من يتعثر بالكرة و يسقط على وجهه !!......خاصة و أن قبضتيك كانتا مضمومتين و تلوحان بانتصار أكيد ........ )
ضربته في صدره و هي تهتف بحنق
( توقف يا حاتم ......... لن العب معك مجددا ..... ابتعد عن طريقي ..... أريد الذهاب الى الحمام ...)
حاول السيطرة على ضحكاته قليلا وهو يقربها منه قائلا
( حسنا ...... حسنا ...... لا تغضبي ..... اقتربي و أريني أنفي الذي اعوج بسببي أنا و ابني ..... لقد بات كأنف أبا الهول ....... لم يعد يصلح لشيء .... )
نهضت و هي تقاوم ذراعيه بشدة ... متأكدة من وضع انفها مكانه و هي تقول بحنق
( احيانا تكون في غاية السخف ....... ابتعد عني ..... )
نهض من مكانه يعترض طريقها وهو يقول بتملق
( كرمتي ...... أيهون عليكِ طفلك !! ..... كرمتي ..... )
رفعت وجهها تنظر اليه بامتعاض و هي تقول
( طفلي ؟!!!............ انظر لحجمك و راعي الفاظك ....... )
حاولت تجاوزه .... الا انه اعتقل خصرها بذراعه وهو يرفعها عن الأرض قائلا بتهديد
( حسنا يبدو أنكِ لن تتراضي بالذوق ........ )
صرخت كرمة
( حسنا ..... حسنا ...... عفوت عنك .... انزلني بالله عليك ..... )
قال حاتم بجدية حاسمة
( لن أنزلك ........... الى أن تتقولي " سامحتك يا حاتم يا حبيبي .... يا سيدي و تاج رأسي ".... )
هتفت كرمة و هي تقول من بين اسنانها
( سامحتك يا حاتم يا حبيبي .... تبا لك ..... انزلني ..... )
انزلها على قدميها ونظر الي عينيها يقول بسعادة
( ليس نفس العفو الذي كنت أتمناه لكن لا بأس ...... يمكنني الإستعاضة عن الباقي بقبلة ..... )
هتفت كرمة ضاحكة و هي تتلوى هاربة من بين ذراعيه
( لو سبقتني الى الحمام .......... )
و دون أن تمنحه فرصة القبول كانت قد انطلقت تركض في اتجاه باب البيت .... فصعدت السلالم و هي تلهث فرحا نادرا ... ثم جرت الى البهو ... و الرواق الى أن دخلت غرفة نومهما و التفتت برأسها خلفها فتأكدت من انه لم يتبعها ..... لكن و ما ان فتحت باب الحمام حتى اعتقل خصرها بذراعه من الداخل فشهقت برعب و هي تهتف ....
( حاتم ........ كيف ....... )
قال هامسا في اذنها دون ان يحرر خصرها
( لقد نسيت الباب الخلفي للمطبخ ....... و انني طبعا اسرع منكِ في الوصول .... )
ضربت جبهتها ضاحكة و هي تغمض عينيها بيأس .... بينما هتفت لاهثة بمرح
( أرجووووك اتركني ......... )
قال لها بصوت أجش وهو يغلق الباب خلفهما
( أتمزحين !!! ......... أخيرا وحدنا قبل أن أجد أحدهم تحت السرير ...... )
و كان صوت ضحكتها هو آخر صرخة قبل أن يوصد الباب .... على حبها الجديد ......
بعد فترة انتقالية طويلة ... من مرحلة المشاركة في البيت ... الى مرحلة التعود على الخصوصية بحرية تامة ......
جرت كرمة من عند الباب الى حاتم و هي تلهث بحيوية قائلة
( حاتم .... لقد وصلت البيتزا ..... لكن لا بقية معي لأدفع إكرامية ...... )
كان حاتم يجفف شعره بمنشفة ..... فنظر اليها قائلا بتوهج بدائي
( ليس معي الآن ..... ربما ...... انتظري لأرى في جيب قميصي ...... )
أخرج ورقة من جيبه وهو يقول
( انها مهترئة قلليلا ....... )
خطفت كرمة منه الورقة بطفولية ..... لكنها وقفت مكانها قليلا ... تنظر الى ورقة العشر جنيهات المهترئة في يدها ..... و قد خطفتها هي الاخرى الى ذكرى بعيدة ..... اولى ذكرى حياتها خارج الدار .....
حين بدأت حياتها بورقة تماثلها تماما ...... أخذتها من يدٍ مشحمة .... لم تكن تحمل غيرها وقتها .....
لم تدرك كرمة ان حاتم كان ينظر اليها و قد سقطت ذراعاه الى جانبيه ..... و دون الحاجة للسؤال ... كان يعلم انها سافرت للماضي .......
في اليوم التالي
خرجت من المصرف مسرعة و هي تنوي اللحاق بالجامعة ..... لقد اصبح يومها غاية في الإرهاق ... و مع ذلك كانت السعادة و الرضا يملاآنها تجاه خط سير حياتها ........
العمل .... الحب .... و الدراسة ......
هل يمكن أن تطلب المزيد ؟!!! .....
( كرمة ............. )
تسمرت مكانها فجأة و هي تسمع هذا الصوت من خلفها ...... فأغمضت عينيها بشدة .... و حاولت التغلب على رعبها ..... من نفسها .........
قالت بصوتٍ قاتم مرتجف
( ماذا تفعل هنا يا محمد ............ )
قال بصوت خشن..... مهدوم
( أحتاجك يا كرمة .............. )
ابتلعت ريقها بصعوبة و هي تلتقط انفاسها .... متشبثة بحقيبتها دون ان تلتفت اليه .......
ثم قالت بصوت غير ثابت
( لقد مرت فترة منذ أن هاتفتني ...... فظننت أنك عدت لضميرك و تركتني لحالي ....... )
الا أنه قال برجاء غريب متهشم
( أحتاجك يا كرمة ....... انا أموت و أحيا ألف مرة في اليوم ........ )
استدارت اليه مندفعة و هي تقول بقسوة
( اسمعني يا محمد .......... )
الا انها تسمرت مكانها و هي تراه بصورةٍ غريبة ...... طويل اللحية .... احمر العينين ..... معذب الملامح على الرغم من الشر الكامن في عمق عينيه ....
فهمست كرمة بذهول تقول
( يالللهي !! ........ ماذا حدث لك يا محمد ...... )
ظل صامتا ينظر اليها طويلا بعذاب ..... قبل ان يقول بصوت يرتجف يحمل بوادر ارتكاب جريمة
( علياء ............ حامل )
.................................................. .................................................. .....................
سارت ملك في الكوخ الصغير الدافىء تتفقده ....و عيناها تجولان من حولها .....
كانت تشعر بأنها منفصلة عن الواقع .... و كأنها خرجت للتو من فيلم مأسوي ......
توقفت أمام مرآة عريضة .... ضخمة ....
فهالها ما رأت ..... كانت أمامها عروس بفستان زفاف مشعث كحال شعرها و خمارها .... بينما وجهها كاد ان يكون ازرقا من شدة الزينة المنسابة عليه كأفلام الرعب .....
لكن نظرتها كانت اشد رعبا من زينتها السائلة ......
كانت نظرة تشبه نظرة الاموات .... فارغة بعد ان نضبت الدموع من عينيها .....
مدت اصابعها تتلمس قماش الفستان الابيض بشرود .....
" ما مدى الصدفة التي تجعل شابة تنال الطلاق و هي في فستان زفاف ...... "
رفعت وجهها تعاود النظر الى نفسها .... لطالما تمنت ارتداء فستان زفاف ابيض واسع .... بكل اشرطته الحريرية ...... ووروده ...... و خمار طويل يغطي وجهها .....
لم تظن ان ترتديه في طلاقها !!.....
نظرت الى عينيها مجددا و همست
( هل أنا حرة حقا ؟!!! ........ هل اعتقتني تلك الكلمة ؟!!! ....... )
رفعت يديها لتضعهما على صدرها مغمضة عينيها و هي تهمس بصوتٍ بدا كالزجاج المشروخ
( كيف سمحت لك؟!! ........ كيف سمحت لك بالنيل من حياتي الى ان بت اتمنى لك الموت في النهاية .... )
فتحت عينيها مجددا .. و هي تراقب ملامحها ....فعقدت حاجبيها و هي تشعر بأن هناك تجاعيد ملأته فجأة !!
اقتربت بوجهها تتفحصه جيدا .... و هي غير واثقة ان كانت تجاعيد فعلا أم أنها مجرد خطوط الزينة المنسابة .... لم تعد واثقة من شيء !! .....
شعرت فجأة بأن عينين بريئتين تنظران اليها من خلفها في المرآة .... فالتقلت عيناها بهما في صورة معلقة على الجدار خلفها ....
وقفت ملك مكانها .... تنظر مبهوتة الى صورة زوجة رائف .......
كانت صورة تشع براءة بعينيها الضاحكتين ..... فتاة ممتلئة حيوية و اشعاعا .... و كانت تنتظرها حياة مديدة ....
انزلت ملك يديها بجوارها و هي لا تعلم لماذا سمرتها الصورة طويلا ......
ربما كانت تشعر بالخجل من اقتحامها لذلك المكان الحميمي و الخاص به و بزوجته ........
استدارت ملك تواجه الصورة بصمت ..... ووقفت أمامها طويلا .....
من الواضح أنه كان يحبها بشدة .... كانت طفلته التى تربت بين يديه على مدى السنوات الطويلة .....
كان يحضر لها الهدايا و الالعاب .... حتى بعد أن تزوجا ......
همست ملك فجأة
( صندوق الموسيقى !!! ............. انه في بيت سيف !! ..... يجب ان استرده .... )
شعرت بالحرج فجأة و هي تنطق بتلك الكلمات امام الصورة .... او بمعنى حقيقي
امام صاحبة الصندوق ...... تلك الهدية الخاصة جدا .... و التي كانت ملكا ل .... ماذا كان اسمها ؟!! ....
هل نسيت اسمها في غمرة ما اصابها !!! ...... هل تأخذ هديتها و تنسى اسمها ؟!!! ......
ابتعدت ملك عن الصورة و هي تشعر بأنها على شفير الجنون .... لقد باتت تكلم المرايا و الصور القديمة لأشخاصٍ رحلوا عن العالم .....
سارت ببطىء و هي تحمل أطراف الفستان .... و صوته يحف في الأرض من خلفها يصدر لحنا حزينا مصاحبا لوحدتها .....
لكم تتمنى وجود رائف بجوارها الآن ..... ليخبرها بأن كل شيء سيكون على ما يرام .....
دخلت ملك بتردد الى غرفة النوم .... تريد أن تخلع هذا الفستان بأي طريقة ., لقد بدأ يخنقها بصورةٍ قاتلة ...
و كأنه أفعى ضخمة تعتصر عظامها .....
اشعلت الضوء و دخلت ..... الا أنها عادت ووقفت أمام نفس العينين !! ..... انه يضع صورها في كل مكان !!
هل هذا أمر صحي !! .....
عقدت حاجبيها و هي تنهر نفسها بشدة ... ثم همست
( لم تكونا سوى صورتين فقط ...... هل تحولتِ الى سوداء النفس ... مريرة الروح لتلك الدرجة !! ... أم أنكِ ببساطة تشعرين بالغيرة !!! ......)
صمتت قليلا مصدومة ..... فاستدارت حول نفسها و هي تحجز التفاف الفستان الضخم ...
فهمست في الفراغ المحيط بها
( قصدت ..... قصدت الغيرة بسبب ما حدث لي ..... و لم أقصد الغيرة عليه ....... )
أغمضت عينيها و هي تهمس بهلع
( أنا أهذي !!! ............لقد تشوهت أكثر مما ظننت ...... )
رفعت رأسها فجأة و هي تشعر بالإختناق .... فاستدارت حول نفسها مجددا و هي تحاول فك سحاب الفستان .... دون جدوى ... لقد كان ضيقا بشدة ... و بعيدا عن متناول يديها ....
أخذت تدور و تدور و هي تحاول فك السحاب الى أن شعرت بالدوار .... فسقطت على ركبتيها وسط كومة تنورة الفستان الحريرية و هي تلهث بغثيان .....
انسابت المزيد من الدموع على وجهها .... فرفعت وجهها عليا و هي تغمض عينيها لتنشج بخفوت ....
يبدو أن لديها مزيدا من الدموع لم تنضب مع الصراخ العالي ..... على صدر رائف .....
كم تحتاج لأن يضمها ...... تشعر به الأب الذي قاربت على نسيانه ... و الأخ الذي لم يوجد ..... و ......
أخذت تنشج و تبكي و هي تهمس
( لا أريد البقاء وحدي .... أرجوووك تعال ..... لا يهمني أي اعتبار آخر .... فقط تعال و كن بجواري .... )
بقت مكانها كوردة مكسورة على ساقها طويلا و هي تنحني بذراعيها على ساقيها المنثنيتين تحتها......
كراقصة باليه في آخر حركة من رقصتها على مسرحٍ مظلم .......
.................................................. .................................................. ......................
دار رائف بالسيارة طويلا ..... لقد قارب الليل على الإنقضاء وهو لا يزال يطوف بسيارته على غير هدى ...
يده تتخلل خصلات شعره وهو يزفر بقوة .... عل هواء الفجر يبرد من ناره ....
لكن لم يحدث ...... شعور غريب بالقسوة يملأه .... منذ معرفته باغتصاب كريم لملك ......
عقله يرسم له صورا تكاد تغشى عينيه ..... و صراخا يكاد يصيبه بالصمم .......
كل ما فعله بكريم ليلة امس لم يشفي غليله ..... لو اراد الحق و القصاص منه لها لكان قتله بدمٍ بارد ....
لكن ورقة واهية ... خادعة .... منحته الحق عليها ...... تبا لذلك ... اين كان عقلها ؟!! .........
حين شعر انه على وشك ارتكاب حادث سير بشع بسبب جنون ما يشعر به .... انحرف بالسيارة لأقرب طريق على البحر ......
ثم خرج ليضرب الهواء وجهه .......
فاستند الى مقدمة السيارة .... مكتفا ذراعيه .... يراقب الأفق الرمادي في خط التقاء البحر بالسماء ......
وجد نفسه يهمس فجأة
( كيف منتحهِ ما لا يخصك من الأساس ؟!! ............ )
أغمض عينيه و أطرق بوجهه بألم وهو يهمس بخشونة
( من أين خرجتِ لي يا صغيرة ؟!! ....... كنت قد اعتدت الهدوء و أطلبه ....... من اين خرجت لتحرقين صدري مرة بعد مرة و أنا أقف عاجزا ........ لا أملك سوى الخيال الذي رسمتهِ بقسوةٍ أمام عيني .....
ليتني كنت أستطيع أعادة xxxxب الساعة ....... لمنعتك بقوةٍ أكبر ........ و لأخفيتك عن أعين البشر .... )
تنهد بقوة و هو يفكر بقنوط
" هل نامت ؟!! ....... هل تمكنت من خلع الفستان الذي حيره و سلب الراحة من عينيه ؟!! ...... "
لم يشأ ان يتركهها ....... كاد ان يخترق كل القوانين و يبقى معها ... ماذا سيضرها اكثر مما اصابها لو فعل ؟!!!
زفر بعنف اكبر وهو يهمس بخشونة
( لقد اصبت بالجنون تماما يا رائف ...... لقد فقدت شعراتك البيضاء وقارها منذ ان دخلت ذات الضفيرة حياتك ......... )
اخذ نفسا عميقا من هواء البحر ....... ثم رقت عيناه قليلا , حتى تغضنت زواياهما .... ليهمس بخفوت
( انها حرة .......... انها حرة ...... و لن أتركها مجددا ..... )
عادت عيناه لتظلمان قليلا ... ثم همس لصوت الامواج المتكسرة
( لكن لماذا لا أشعر بالراحة ؟!! ......... هل كان علي قتله لأتخلص منه نهائيا ؟!...... )
زفر بقوة وهو ينظر الى ساعة معصمه ..... لابد أن يناقش الأمر مع جلال قبل أن يذهب اليها مع اولى دقات النهار .....
صحيح أن جلال معتاد على الإستيقاظ مبكرا ...... لكن هل من الذوق أن يهجم على بيته في مثل هذا الوقت ...
همس رائف بصوتٍ أجش
( فلأنتظر حتى الصباح ....... لا داعي لمثل هذا القلق ...... )
أخذ ينظر الى ساعة معصمه .... لمدة ثلاثين دقيقة ثم استقام واقفا وهو يقول بصرامة ....
( فليتابع نومه بعد أن أخرج من عنده ...... أنا لست متفرغا لأنتظر ...... )

ضغط جلال أعلى أنفه بين عينيه الناعستين ..... ثم قال بصوتٍ لم يستوعب بعد ...
( أعد لي مجددا ماذا فعلت ؟!!! ......هل ضربته حتى القى عليها يمين الطلاق ؟!!! أم أنني سمعت خطأ و لا أزال نائما !!! ....... )
كان رائف يجول أمامه ... يده على فخذه ... و أخرى تكاد تقتلع شعره وهو يقول بحدة
( ركز معي و استيقظ يا جلال ....... لقد قيدته و ضربته الى أن أطلق يمين الطلاق عليها بمحض اختياره ... لقد وقع في الفخ كثور عاجز ..... )
زم جلال شفتيه وهو يطرق بقلمه على سطح مكتبه في بيته ..... و ظل صامتا ... حينها نظر اليه رائف بقلق وهو يقول
( لقد أخبرتني أنه لو القى عليها يمين الطلاق لإنتهى الأمر يا جلال ........ )
ظل جلال صامتا دون أن يرد فصرخ رائف مما جعله ينتفض مكانه
( لماذا أنت صامت الآن ؟!!! ....... الم تنتهي المشكلة الآن ؟!!! .... لا أملك غير ذلك .... )
تنهد جلال قبل أن يقول بهدوء
( لقد تسرعت يا رائف ....... لقد عرضت عليك أن يلقي كريم عليها يمين الطلاق بمحض ارادته حقا .... و ليس بالتهديد و التخييره بينها و بين نسبه ....... )
نظر الي رائف الذي كان القلق يعصف بوجهه فتابع يقول
( يجب أن يكون مقتنعا ..... كي نخاطب ضميره .... هذا لو تبقى منه شيئا .... لكن في تلك الحال هو لا يزال يمتلك ورقة زواج عرفي ..... لو فكرت ملك في يومٍ من الأيام في الزواج ..... لربما تربص بها و أخرج الورقة ... و أتهمها بتهمة تعدد الأزواج .... فمن سيثبت حينها أنه طلقها شفهيا ؟!!! .... )
جلس رائف مرتميا على الكرسي وهو ينظر الى جلال بوجهٍ مظلم ..... ثم قال بصوتٍ خشن باهت
( كان يجب علي أن أجبره على التوقيع على اقرار بطلاقها ....... )
قال جلال بهدوء
( يمكن الطعن في صحته بسهولة ........ مجرد ورقة ليست دليلا قويا في المحاكم ..... )
لم يجد رائف شيئا ليقوله ..... فتنفس بخشونة وهو يرفع يده الى جبهته بتلك الصدمة الجديدة .....
بينما تابع جلال بخفوت .....
( يجب ان يكون اتفاقا موثقا ....رسميا .... كي لا ينتقم منها فيما بعد ..... )
رفع رائف رأسه ليقول بخشونة
( الاتفاق الاكيد سيكون مع اكرم ..... سنهدده بالتحليل .... وحينها يتم عقد جلسة بيننا بعد ان يستسلم ليوقع كريم على اقرار مصور بالطلاق ....... )
رفع جلال رأسه وهو يقول باتزان
( جيد ....... اولا يجب علينا الحصول على تحليل حقيقي ..... و ليس اقرارك الضريبي .... ثانيا .. قد تكون تلك الجلسة المصورة دليل كافٍ .... هذا لو خضع اكرم و انا اشك في استسلامه ببساطة ..... لكن هل هذا هو الحل الأمثل ..... ام الأسهل ؟!! ...... )
عبس رائف بشدة وهو يقول
( ماذا تقصد ؟!! ................ )
قال جلال بصوت هادىء
( لو أردت فعلا مصلحة ملك عليك أن تفكر بها .... كأختك ... أو ابنتك ..... ماذا لو أرادت الزواج يوما ... و تقدم لها شخص محترم له عائلة محترمة ..... ماذا سيكون موقفها ؟!! .... هل ستريه التسجيل المصور لجلسة الإقرار بطلاقها ؟!! .....و طبعا سيعرف المأساة بكل تفاصيلها .... فهل هذا وضع يليق بكرامتها كزوجة مستقبلية ؟!! ..... هل سيرضى بها أحد في مثل تلك الحالة ؟!! .... )
هتف رائف فجأة بقوة
( أنا لا يهمني ............. )
نظر اليه جلال باهتمام وهو يلاعب قلمه .... ثم قال بهدوء واضح
( هذا رأيك أنت ...... لكن هل سيكون نفس الرأي لمن يتقدم لها و لعائلته ؟!!! .... )
أجفل رائف بشدة .... و تراجع في مقعده و قد شعر في تلك اللحظة بمقدار بعده عن صورة حياة ملك .....
شيء غريب انتشر في صدره حين فكر في امكانية زواجها مرة أخرى !!!
شيء قاتم .... تشبث به و نشب مخالبه القاسية .......
فاشتعل في عينيه بلونٍ قاتم .... عميق .... سحيق ...........
قال رائف مندفعا ....دون تفكير
( انها لا تفكر في الزواج مجددا ......... انسى الأمر .... )
قال جلال بلهجة ذات مغزى
( لأنها لا تزال تحت تأثير الصدمة .. فكر بها كأختك ...... ماذا لو أحبت شابا ذات يوم ؟ ...... كانت لتتمنى أن تكون أمامه مرفوعة الرأس و مصانة الكرامة ...... )
أطرق رائف برأسه ...... ماذا لو أحبت شابا يوما ما !!! .........
التوت زاوية شفتيه في ارتجافة حزينة ....لقد أحبت " رؤى" ذات يوم ..... و كان شريكا في قتل حبها ....
فهل يجرؤ على تكرار هذا الذنب مجددا ؟!!!
قال اخيرا بخفوت
( اذن ....... ماذا ترى ؟!! ........ )
وقف امام باب البيت ... يستند بكفه الى الإطار ..... مطرق الرأس ... مهدود الهمة .....
بينما اندفع سيد من خلفه هاتفا بقوة وهو يحمل طرف جلبابه
( صباحا مباركا يا عريس ....... حمد لله على السلامة ...... )
ظل رائف مطرق الرأس .... لكنه اغمض عينيه بحنق وهو يهمس في نفسه
" هذا ما ينقصني !! ....... عريس !! ...... ابتعد يا سيد لا تكن اول ضحاياي هذا الصباح تحديدا ... "
رفع رائف رأسه أخيرا ثم استدار الى سيد الواقف خلفه مبهورا .... فقال بفتور
( صباح الخير يا سيد ....... هل الوضع آمن ؟!! ..... )
هتف سيد وهو يقول بأمانة
( لا بعوضة تتمكن من المرور دون اذني ....العروس في امان تام ... كما تركتها .... )
زم رائف شفتيه و اغمض عينيه لحظة بغيظ قبل ان يقول بهدوء
( جيد ........... )
استدار وهو يحاول الاستعداد ليضغط الجرس .... الا ان سيد قال من خلفه
( هل نسيت مفتاحك ؟؟!! ........ )
التوى فك رائف وهو يحاول السيطرة على نفسه ... ثم قال دون أن ينظر الى سيد قائلا
( نعم ............. )
قال سيد بفضول
( و ماذا لو كانت العروس نائمة ؟!! .......... )
استدار اليه رائف قائلا بهدوء خطير
( سنعرف هذا ما أن تتنحى جانبا قليلا كي تفتح الباب ..... فهلا ابتعدت رجاءا ..... )
أسرع الرجل مهرولا وهو يقول
( حاضر ..... خذا راحتكما ....... )
بينما كان يضرب كفا بكف وهو يقول
" منظره المعكر يؤكد ظني ..... لا حول و لا قوة الا بالله ..... على الرغم من أنها صغيرة و تعيد الشباب "
أخذ رائف نفسا قويا قبل أن يضغط على الجرس رغما عنه .... و كأنه يضغط على .... قلبه بالقوة !! ....
ظل مستندا الى كفه .... مطرق الرأس ...... طويلا .... قبل أن يسمع صوت خطوات مرتجفة .....
ثم توقفت خلف الباب مباشرة .....
ابتسم رائف بحنان حزين .... إنها خائفة .... و تقف خلف الباب مباشرة ملصقة أذنها به .....
كان عليه أن ينطق اسمه مباشرة كي لا يرعبها أكثر .... الا أنه أخذ وقته وهو يرفع يده ليلامس سطح الباب
جزء منه يريد الدخول اليها مندفعا ليطمئنها .... و جزء أكبر منه يرغب في الرحيل مسرعا ....
حفاظا عليها مما يحمله !!......
تكلم أخيرا بصوت قوي النبرة كي تسمعه ... يحمل دفىء العالم ...
( إنه أنا يا ملك ..... افتحي الباب ... )
لم تمر لحظة قبل أن تفتح الباب بسرعة و التقطت عيناه آخر تنهيدتها ......
تسمر مكانه قليلا وهو ينظر اليها .... الا أنها كانت قد ابتعدت للخلف و هي تهمس براحة
( ارجوك ادخل ............ )
دخل رائف ببطى و عينيه على ظهرها .... الى أن وقف مكانه , فاستدارت اليه مملك ببطىء كالفراشة الشاردة .....
كانت ترتدي منامة بلون السماء يعرفها حق المعرفة ...... تخص " رؤى " .......
شعر بصدره يعتصره الألم ......
شكلها ..... بشعرها الطويل المنساب ... حتى تجاوز خصرها .... و عينيها المتورمتين من بكاء زادته بعد رحيله .... لكن وجهها كان نظيفا من سواد ليلة أمس .... و كأن شيئا ما طهرها من الداخل قبل خارجها ....
تسمرت ملك مكانها و هي تراه يرمقها بصمت .... فارتجفت بشدة و أخفضت وجهها الى المنامة التي ترتديها ...
و شعرت بالرعب من جنون تصرفها الوقح ليلة أمس .... و حين تمكنت من النطق همست بإختناق يكاد لا يسمع
( أنا آسفة جدا ...... لم يكن هناك سوى ملابس .... ملابس ..... و ملابسك ..... و قد أوشك الفستان على أن يخنقني ......... )
رمش بعينيه عدة مرات .....دون أن يرد ... فهمست ملك متوسلة
( أرجوك ...... أنا آسفة ......... سامحني ... كانت وقاحة مني )
تحرك رائف مكانه .... قبل أن يقول بخفوت
( لا شيء يتوجب الإعتذار ......... لا عليكِ صغيرتي )
رمشت ملك بعينيها قليلا .... لقد قال صغيرتي للمرة الثانية خلال عدة ساعات !!.....
لكنها قالت بخفوت مختنق
( بل هو تصرف لا يغتفر ...... أنا آسفة يا رائف ...لكني سأذهب الى البيت لأجلب ملابسي من هناك ... ثم أعود ..... . )
أجفل رائف مما سمعه للتو .... و اندفع داخله طوفان الفرح و غريزة الحماية و هو يسمع عفويتها الغير مقصودة ....
" لقد قررت البقاء هنا ...... للأبد !! "
ابتسم قليلا حتى تغضنت زوايا عينيه .....
لكم هي متعطشة لبعض الحنان !! ...... و كم يريد لو يمنحها كل ما يستطيعه .....
قال أخيرا بخفوت دافىء
( صباح الخير يا ملك ........... )
ظلت ملك صامتة قليلا تنظر اليه .... قبل أن تضم ذراعيها و هي ترد بخفوت
( صباح الخير يا رائف .......... )
من الواضح أنها قررت منادته باسمه مجردا ...... لم يكن يعلم ان اسمه يحمل كل ذلك الرفق و الرأفة .. الا بعد ان سمعه بصوتها هي ..... و كأنها تعنيه بكل حرفٍ بمنتهى الصدق .....
قال بخفوت وهو يراقب عينيها الحمراوين
( كيف حالك ؟؟ ............ )
ابتسمت قليلا و هي تلوح بذراعيها قليلا بإجهاد قبل أن يسقطا دون أن يجدا القدرة ليرتفعا ....
( كما أنا ...... و كما سأكون دائما .......... )
ظلت صامتة قليلا قبل ان تتابع بخفوت
( لكنني حرة الآن ...... و الفضل يعود لك ...... لم يتسنى لي شكرك بعد ...... )
عقد حاجبيه محاولا تقوية قلبه ..... قبل ان يقول بجدية
( ملك ........ تعالي اجلسي .... اريد أن أتكلم معكِ قليلا ........ )
شعرت ملك بالقلق من لهجته المختلفة معها .... فانتفض قلبها و همست بداخلها
" ياللهي لم أعد أحتمل المزيد من الصدمات ....... تعبت من الوجع "
لم تجلس ملك .... بل ظلت واقفة مكانها تنظر اليه بصمت ... منتظرة ثم قالت اخيرا
( لم ينتهي الأمر بعد ...... اليس كذلك ؟!! ....... ماذا حدث ؟؟ ......)
تنهد رائف بصورة زادتها قلقا .... بل رعبا ..... ثم قال اخيرا .....
( هل فكرتِ في الخطوة المقبلة يا ملك ؟؟ ........... )
فغرت ملك شفتيها قليلا .... قبل ان تقول بخفوت
( دون مقدمات أرجوك ........... قل ما عندك ..... )
رفع رائف عينيه الى عينيها .... ثم قال مباشرة
( اسمعيني جيدا يا ملك ....... ما قمنا به حتى الآن جيد ..... لكنه لن يفيدك على المدى البعيد .... كريم لا يزال يمتلك ورقة زواجكما .... و قد يظهرها في أي وقت ليبتزك بها .... و لا أعلم حتى ان كان شرعا يجوز أن يعيدك الى عصمته دون معرفتك في حالتكما تلك ........ )
صمت قليلا يطرق برأسه كي يتهرب من عينيها المراقبتين له .... ثم قال بصوتٍ أكثر خشونة
( نحن الآن نملك ما نقايضهم به ......... يظنون أن التحليل معنا .... لذا يمكننا محاولة تصحيح الأمور الى نصابها الصحيح ....... و اجبارهم على ذلك ..... )
ارتجفت شفتي ملك قليلا ..... قبل أن تقول بخفوت حذر
( ماذا تقصد ...... بتصحيح .... الأمور ؟!!! ...... )
أخذ رائف نفسا آخر أكثر خشونة .... و قوى نفسه وهو يتشجع ليقول
( استرداد حقك يا ملك ..... بزواج رسمي أمام الجميع ........ كي يعود اليك شرفك و كرامتك .... )
ظلت ملك صامتة قليلا .... و كأنها لم تسمع شيئا .....
ثم قالت أخيرا صوت باهت كالشبح
( زواج رسمي ..... ممن تحديدا ؟!!! ........ )
كان رائف على آخر درجات سيطرته على الذات , فلم يستطع تمالك نفسه وهو يهتف بغضب
( ممن سيكون يا ملك ؟!!! ..... من هو الذي تزوجته قبلا ؟!!! ...... )
فغرت ملك شفتيها أكثر اتساعا .... و ظلت تنظر اليه بذهول بينما هو يتجنب النظر اليها ... الى أن صرخت أخيرا بقوة
( تريد ان تعيدني اليه ؟!!!!!!!!!!!!! .......... ستسلمني له ؟!!! ....... ستسلمني له من جديد ؟!!! )
رفع رائف رأسه ليهدر بقوة كي يوقف صراخها
( اهدئي يا ملك ...... دعيني أشرح لكِ ......... )
الا أنها صرخت أعلى برعب
( تشرح لي ماذا ؟!!! ....... أنت لا تعلم ماذا فعل بي ؟!!! ...... لا تعلم ...... )
لم يستطع منعها من الصراخ الا بإمساك كتفيها ليجلسها بالقوة على الأريكة .... و هاله أنها كانت ترتعش بقوة حتى خشى عليها من الإغماء ..... فجثا أمامها ممسكا بكفيها ليقول بصرامة هادرة
( اعلم جيدا ما فعله بك ...... أخبرتني ليلة امس بكل وضوح ...... )
كانت ترتعش بشدة .... و تنظر الى عينيه برعب و ذهول .... قبل أن تهمس بصوتٍ لا يكاد يسمع
( أستطيع إعطائك التفاصيل ............. )
صرخ عاليا و هو ينتفض واقفا
( اخرسي يا ملك ............... )
لكنها قفزت هي الأخرى صارخة و هي تنشج بشدة
( لن اخرس ...... و لن يحدث ذلك ....... لن يحدث ........ اقسم انه لن ...... )
استدار اليها بقوةٍ ليضع يده على فمها ..... و يده الأخرى فوق شعرها ...تثبت ظهرها وتضمها اليه رغما عنه ..... كان يتنفس لاهثا بصعوبة .... بينما كانت هي ترتعش بعنف ..... و دموعها تنساب من عينيها المذهولتين حتى تبلل كفه على فمها ..... فهمس اخيرا بخشونة متحشرجة
( لا تقسمي ........ لأنني أعرف مصلحتك أكثر منكِ ...... )
رفع يده عن وجهها بتردد .... و بصدره نفس يتردد بقربها منه ..... لكنها همست و هي تنظر الى عينيه
( سأقتل نفسي قبل أن يلمسني مجددا ...........)
ظل ينظر الى عينيها ليقول بعد فترة طويلة بصوتٍ خافت قوي .... اخترق أذنها بعنف
( و انا سأقتله قبل أن يفعل ..............)
هتفت بجنون
( كيف ستفعل و أنت تنوي أن تسلمني له مجددا ؟!!! ....... )
هدر رائف بقوة ...
( سأكون معك و لن أتركك للحظة ......... )
هتفت بهذيان ضاحكة من بين دموعها بوقاحة
( هل ستكون بيننا في ليلة الزفاف كذلك ؟!!! ...... )
حينها هدر رائف بقوةٍ سمرتها مكانها ....
( ملك !!!!!!!!! ............ )
ارتعبت من صرخته ... فارتجفت شفتيها بشدة .... قبل ان تخفض رأسها و تنفجر في بكاءٍ مرير .....
و هي تدفن وجهها بين كفيها على صدره ...... حينها تنهد بقوةٍ و ربت على شعرها برفق طويلا ... قبل ان يقول بخفوت
( هل تثقين بي ؟؟ ... )
هتفت بنشيجٍ مختنق على صدره
( لم اعد أعلم بماذا أثق ........... )
عقد حاجبيه بشدة ...... و أعاد بنبرة أقوى
( هل تثقين بي يا ملك ؟!!! .......... أسمعيني اياها حالا ....)
ظلت تبكي طويلا ..... لكنه لم يتركها .... بل اعاد بقوة اكبر
( هل تثقين بي يا ملك ؟؟؟؟ ..........)
هتفت باختناق من على صدره بنشيج حر
( لا تسلمني له مجددا ...... أرجوووووك ......)
قال رائف بصرامة
( لن نعاود الكلام قبل أن أسمعها منكِ .......)
ظلت تبكي قليلا ...... قبل أن تقول باختناق
( أثق بك ....... فقط أخبرني سببا منطقيا واحدا ....)
أبعدها عنه لينظر الي عينيها المتورمتين .... و ذبح منظر نشيجها كالأطفال و صوت بكائها المتوسل ....
ثم قال بخفوت و هو يبتلع غصة في حلقه
( ماذا لو أحببت شابا من عمرك يوما ما ؟!! .... كيف يمكنك الزواج يوما بهذا الوضع ؟!!..... أريد أن أعيد لكِ كرامتك .... )
ظلت تنظر اليه بذهول .... و قد جفت دموعها فجأة .... فمدت يدها تمسح المتبقية منها على وجنتيها .... قبل أن تقول بعدم تصديق واهي
( هل هذا هو السبب ؟!! ..... لو أردت الزواج يوما ؟!! ..... هل تتخيل أنني من الممكن ان ... )
رفع يده ليضعها على شفتيها برفق .... فنظرت الى ملامح وجهه القاتمة .... و أقسمت أن الألم يظللها .....
ثم قال بخفوت
( لا تحكمي الآن ....... لن يمكنك التنبؤ بالقدر )
همست بشدة بعينين صارمتين تدمعان بقسوة
( أنا أقدر الناس للحكم على نفسي ......... صدقني فقط , آن الأوان لتثق أنت بي ...... )
ابتسم ابتسامة ملتوية .... قبل أن يقول بخفوت رقيق
( ليس بعد ...... لكن أعدك أن أحررك ما أن اخلصكِ من هذا الماضي و يصبح ذكرى ..... اتركي لي مصلحتك مؤقتا .... هل اطلب الكثير ؟!! ...... )
عقدت حاجبيها و هي تهمس بقسوة حزينة
( هل تعلم ما تطلبه مني ؟!! .......... )
ابتسم برفق وهو يقول بصوتٍ أجش ... جرح اذنيها من هول نبرته الغريبة .....
( المأساة أنني أعرف ......... و اطلبه بنفسي ......... )

صمت قليلا وهو يرى بكائها الصامت الناعم .... قبل أن يصلب نفسه و يقول بخشونة
( ارتاحي الآن اليوم يا ملك ..... و لا تفكري بشيء ....... لكن غدا سأمر عليكِ كي آخذك الى أختك .... لكنني لن أبتعد ......... )

خرج رائف من البيت , وهو يحاول التقاط انفاسه بصعوبة ..... استند الى سيارته قليلا .... محاولا السيطرة على نفسه ... لكنه فجأة ركل الإطار بقوةٍ وهو يهدر في الفراغ من حوله
( تبا ......... تبا ........... )
بينما كان سيد يرمقه من بعيد بأسى .... يعلم انه يجب ان يتركه في مصيبته في تلك اللحظة دون محاولة الإقتراب منه ..... لكنه اخذ يدعو له من قلبه بتيسير كل عسير ..... فرائف رجل من اطيب و اشرف من عرفهم و تعامل معهم و لقد تحمل العديد من المصائب بحياته .... أولها فقد زوجته الطيبة الصامتة دائما و التي كان يحضرها معه قبل هذه العروس .........
رائف ناداه رائف فجأة بقوة ...... فاندفع اليه مسرعا يقول
( تحت امرك يا سيد رائف ............ )
اخذ رائف نفسا قويا ...... قبل ان يقول بصوت خافت لكن آمر
( راقب المكان جيدا ....... لو حاولت السيدة الخروج .... أخرها قدر استطاعتك و اتصل بي ...... )
قال سيد بسرعة ....
( حاضر يا سيد رائف .......... تحت امرك )
انطلق رائف بسيارته بكل سرعة .... وصوت بكائها كما تركها يمزق صدره بعنف ..... بينما بقى سيد مكانه يقول
( لا حول ولا قوة الا بالله .......... )
.................................................. .................................................. .....................
دخلت ميساء خلف أكرم ما أن دخل البيت صباحا ...... كانت تنتظره بعد أن شربت نصف زجاجة خمر كاملة .... سارت بتمهل خلفه و هي تراه يتوجه الى مكتبه .... ليجمع العديد من اوراقه .....
كان مرهقا .... متعبا ..... لكنه لا يزال يحمل بعضا من الوسامة الفاسدة القديمة ....
مدت يدها تلامس عنقها بارتجاف ...... قبل أن تدخل الى المكتب تختال بفستانها القصير المكشوف ...
رفع أكرم نظره اليها بإهمال ... ثم أعاد نظره لأوراقه وهو يقول ببرود
( لو تنوين افساد يومي فرجاءا ابتعدي ...... أنا مرهق بما فيه الكفاية ...... و لا يزال لدي المزيد من الأعمال ....... )
الا أنها تابعت تقدمها اليه و هي تراقبه بعينين زائغتين ..... قبل أن تقول بخفوت
( هل تنوي الزواج حقا ؟!!! .......... )
زفر بعنف وهو يفك ربطة عنقه ليرميها بعيدا ...... ثم قال بتهديد
( ابتعدي عني يا ميساء ........... )
الا أنها اقتربت منه بميوعة .... لتجلس فوق سطح المكتب و فوق أوراقه ... تراقبها بلا اهتمام ....
بينما زفر منتظرا لأن تقوم .... لكنها كانت تؤرجح ساقا فوق الأخرى .... ثم قالت بصوتٍ منغم
( ليس قبل ان تخبرني ......... )
تأفف بقوة .... ثم لم يلبث أن قال بقوة وهو يرفع رأسه اليها ... لينظر في عينيها قائلا
( نعم يا ميساء ..... سأتزوج ابنة رجل سياسة تعرفينه حق المعرفة ... لدي مصالح معه ...... )
ظلت تؤرجح ساقها ..... دون أن يظهر تأثير على ملامح وجهها ..... ثم قالت بخفوت
( و ماذا عني ؟!! ............ )
نظر اليها طويلا ..... قبل أن يقول بهدوء
( منتهى الكرم مني أن ابقى على وجودك هنا بعد الحال الذي وصلتِ اليه ..... و اكراما للحب الذي كان يوما .... )
أومأت برأسها و هي تقول بخفوت شارد
( منتهى الكرم منك ........ صحيح ...... بعد أن ضيعت شبابي ... و ابني .... و .... )
هدر أكرم و هو يضرب سطح الطاولة بقبضته قائلا بعنف
( لم يكن ابنك وحدك ...... كان ابني أنا أيضا ....... )
رفعت اليه عينين باردتين كالجليد و هي تقول
( لكنك استبدلته ............ بمنتهى السرعة و جمود القلب ..... )
نظر اليها قائلا بقسوة
( و كان عليكِ أن تكوني ممتنة ........لقد أصبح الشاب محط أنظار و أمنية الجميع .... ذكي طموح .... يعرف ما يريد ..... كان يمكنني الزواج و انجاب غيره ببساطة ..... لكنني ..... )
قاطعته تقول ببرود مشتد بقهر
( لكنك اكتفيت به ...... أعجبك ..... لائم كل توقعاتك .... لم تحتاج الى المزيد ..... )
قال بشدة وهو يميل تجاهها
( لو كنت اريد استبدال ابني كما تدعين لأنجبت غيره ..... لكن كريم كان مختلفا .... ملأ بيتنا وهجا و حيوية ... بعد أن سكنه السواد طويلا لدرجة جعلتني أنفر من انجاب المزيد من الأطفال ... و غرقتِ أنتِ في يأسك حتى انزلقت لهذا المستوى البائس .... انظري لنفسك ... لقد اصبحت جسدا جاف ... فاقد الأنوثة و الدماء ...... أنا و كريم نحيا و ننطلق لأعلى .... بينما أنتِ تنحدرين للقاع .... حتى أصبح الجميع يشمئز منكِ .... )
أمسك بطرف أوراقه ليجذبها من تحتها بالقوة .... و اخذ يرتبها ... وهو يقول بصلابة
( لا هدف من الكلام في الماضي ..... أنا سأتزوج .... و هذا قرار لا رجعة به ...... )
ابتعد عنها وهو يخرج من المكتب ...... لكنه تسمر مكانه وهو يرى كريم واقفا أمامه ... مشعث الملابس ...
ممزق القميص ... و الكدمات تملأ جانبيه .و الغبار يغطيه من قدميه و حتى شعره و رموشه ...
يقف مترنحا .... قبل أن يقول بصوت بائس مختنق ...
( أنت السبب ........ لقد أخذها مني ..... أجبرني على طلاقها ....... جعلته ينال مني و لديه الدليل .... لو كنت واقفت من البداية لما حدث كل ذلك ...... )
لم يستطع أن يتابع .... قبل أن يسقط أرضا وهو يتأوه بعنف .... تأوها بدا كالنشيج المكتوم .... المقهور ....
.................................................. .................................................. ......................
سار أكرم كأسد مهتاج أمام كريم المستلقي على سريره عاري الصدر .... مغطى بكدماته الأرجوانية ....
فصرخ عاليا
( كيف تمكن من الحصول على مثل هذا الدليل .... و بمثل تلك البساطة !!! ..... كيف ؟!!!! .... الآن سيذلنا كيفما يريد ........ )
كانت ميساء تجلس على حافة السرير .... تراقب كريم بعينين صامتتين على الكثير ......
ظل يتنفس بسرعة و هياج .... وهو يضرب كل ما يطاله يده .... بينما احمرت عيناه بشر .......
صرخ كريم بألم
( أنا لن اخضع ....... لقد أخذني على حين غفلة ..... لكنني لن أتخلى عنها .... انها زوجتي .... تصرف .... لقد وعدتني ....... لقد نفذت كلامك و ضيعتها من يدي ..... احضرها لي ..... )
همس أكرم من بين أسنانه وهو يندفع اليه ليقبض على كتفيه بقوةٍ جعلته يتأوه بشدة ......
( اخرس ...... اخرس .... كل هذا بسببك أنت ..... ايها الغبي الحقير ... بسبب موجة حنين غبية لأيام القذارة و اللقطاء أمثالك ...... تكاد الآن أن تنسف كل ما بنيته في حياتي ...... )
فتح كريم عينيه بقوة مفاجئة ... ليقول بعنف غريب على الرغم من خفوت صوته ... لكن احمرار عينيه جعلا منه ندا لاكرم .... يكاد أن يكون ابنه بحق ..... يشبهه في جنونه و في شره .....
( ما بنيته منذ أن أتيت انا الى بيتك أنا شريك به ...... ليس كرما منك ... لقد بعت نفسي و كان عليك أن تدفع ..... لذا أنا شريك في كل ما حققناه سويا ..... قبل أن يكون بمجهودي خلال السنوات الأخيرة ... فباسمي مجهول النسب الذي تحتقره الآن .... أنا بعت ... و أنت اشتريت ووضعت الإسم المناسب ..... )
لم يستطع أكرم السيطرة على غضبه أكثر فصفعه بقوة ..... جعلت شفته تتمزق و تدمي ..... فشهقت ميساء خائفة رغما عنها ......
بصق كريم بعض الدم على صدره .... قبل أن يعاود النظر اليه ليقول فجأة بصوت كالأفعى
( إن لم تعيدها الي ....... فانتظر أي شيء من لقيط ... مصيره و زوجته في يد رجلٍ يرغبها ..... فأي شيء آخر يمكن أن أخسره أكثر ..... استخدم نفوذك يا ....... أكرم .... )
ظل أكرم ينظر اليه بعينين تضيقان ... اكثر ... و اكثر ....... قبل ان يستقيم .... و يغادر دون كلمة واحدة ....
نظرت ميساء الى كريم بملامح غريبة .... و قابل نظراتها باخرى أغرب منها قبل ان تنهض.... و تسرع لتخرج مترنحة من الغرفة .....
الا أنها شعرت فجأة بقبضة تمسك ذراعها لتديرها اليه ... قبل أن يغلق الباب .... و يسندها اليه مشرفا عليها بطوله الذي تجاوز طولها كثيرا في السنوات الأخيرة ... و صدره العاري المليء بالكدمات الملونة ....
رفعت ميساء عينيها اليه لتصدمها نظراته قبل أن تقول بارتجاف بارد
( ماذا تريد ؟!! ........ )
ظل ينظر اليها قليلا .... قبل أن يهمس بصوتٍ ناعم .... ناعم جدا ....
( أنا و أنتِ يجب أن تعاون ....... رائف يهدنني أنا و أنت ..... و أكرم بات لا يهتم سوى بزيجته الجديدة ...... أنا لا أريد سوى الحفاظ على اسمي .. و ملك ..... و ليعود كل شيء كما كان ..... فقط ان تعاوننا أنا و انتِ ....... )
صمت قليلا قبل أن يقول بهمس أجش خافت
( أكرم يحقر منك كل يومٍ أكثر من اليوم الذي يسبقه ....... و انتِ لا تستحقين ذلك ...... أنتِ امرأة جميلة ..... جميلة جدا يا ميساء ...... )
انزلقت عيناه على عنقها .... و ما ظهر من فتحة عنق فستانها العميقة ..... فشعرت بجسدها يتلون و يحترق ... فأبعدت وجهها عنه و هي ترتعش بقوة .... بينما تابع بخفوت أكثر
( أنت جميلة جدا ...... تزدادين جمالا كل يوم ....... )
شهقت ميساء بنفس مرتجف ..... لم تعد عمياء ... باتت تعرف ما يقصد فعله جيدا ..... لم تعد عمياء ....
لكن بداخلها كانت ينتشر تلذذ غريب و تشفي في أكرم ..... و هي تسمح لكريم بأن ينظر اليها بتلك الطريقة ... و يلامسها هكذا .....
تشعر بالسعادة و هي تنال من أكرم ..... صمتت قليلا و هي تستعيد كرامتها التي أهدرها أكرم بحقارته ... و تسترد بعضا من أنوثتها الجافة على حد قوله ..... بينما نظرات كريم و لمساته تروي جسدها الجاف و تعيد اليه بعض الخضار ....
مد كريم يده ليلتقط كفها .... ثم وضعها على كدمة زرقاء بجانب صدره ..... ثم همس بارتجاف بجوار عنقها
( انظري ماذا فعل بي أخاك !! ....... لقد سلبني زوجتي .... انتزعها من بين أضلعي .... فتركت مكانها تلك الكدمة ........ )
صمت قليلا و الشر يتطاير من عينيه وهو يمسك بين يديه أخت رائف .... قبل أن تكون أمه التي رفضت وجوده منذ اليوم الأول في هذا البيت ......
اقترب بوجهه منها ببطىء وهو يهمس بصوتٍ شرير أجش
( ميساااااء .......... )
نظرت اليه ..... تراقب انخفاض وجهه .... شبابه و قوته ..... جسده الرجولي الرياضي الفتي على الرغم مما فعله به رائف .... لا يزال ينضح شبابا .....
راقبت شفتيه الشهوانيتين و هما تقتربان منها ...... فابتلعت ريقها و التشفي بأكرم يتراجع ... ليحل محله ... الخوف من عينيه المخيفتين ......
و ما أن كادت شفتاه تلمسان شفتيها حتى انتفضت و داست بيدها على كدمته بقوة أكثر و أكثر ....
فشهق ألما بقوة ........ و انتفض مبتعدا عنها .....حينها تراجعت و هي تمد يدها خلفها لتمسك بمقبض الباب و تفتحه .... ثم تخرج جريا ..... الى غرفتها كي تحتمي بها ......... من سحر شباب الشيطان ....
و من خلفها كانت تسمع صوت تكسير عالي في غرفته حيث تركته ..... و كأنه الجنون قد انتابه .....
.................................................. .................................................. ......................
مكثت وعد مكانها في شقتها الجديدة ..... تلك التي لم تجد الوقت الكافي كي تهنأ فيها مع ملك ......
نظرت بعينين متورمتين من شدة البكاء الى أنحائها .....
كنت تجلس على أريكتها وحيدة .... منذ أن دخلتها و انفجرت بالبكاء ...... و هي لم تتوقف حتى الآن ....
رفعت ركبتيها الى صدرها .... و اسندت كفها الى جبهتها ......
رفعت رأسها فجأة و هي تنتفض على صوت رنين جرس الباب ..... فهتفت بقوة
( ملك ......... )
نهضت من مكانها جريا الى الباب ... ففتحته تهتف مجددا
( ملك ............ )
لكنه كان "علي "......... كان يقف مكانه مطرق الرأس .... و ما أن سمع هتافها حتى رفع وجهه ينظر اليها بابتسامة محبة ..... بوجهه الحبيب الذي لم تره منذ فترة ..... يكاد يذكرها بأنه صديقها اللطيف .... الذي ساعدها ذات يوم في العثور على ملك ........
فهمست من بين بكائها الخافت
( علي .............. )
لتندفع اليه تتعلق بعنقه و تعانقه بقوة ...... أغمض "علي "عينيه متأوها دون صوت .......
يريد أن يضمها اليه في المقابل .... لكنه لم يكن ليستغل الوضع ... فوعد لم تكن في حالٍ سوي أبدا .....
ظل مكانه ثابتا قليلا ..... و حين ظلت ترتجف بكاءا على صدره ... همسة عاشقة أفلتت منه
( آآآه ...........)
رفعت وجهها المبلل اليه و هي تمسح دموعها مبتسمة ... تقول باختناق
( ماذا بك ؟!! ....... هل كانت تلك قدمك التي وقفت عليها ؟!! ........ )
أخفض رأسه ينظر الى قدمها الحافية الصغيرة .... مقارنة بحذائه الضخم كمركب الصيد .....
نعم .... وعد في حالٍ غير سوي تماما ..... لكنه اتخذها حجة وهو يقول موافقا
( نعم ...... لقد دهست أصابعي منكِ لله ...... )
ابتسمت معتذرة و هي تختنق بدموعها ..... ثم قالت
( أنا آسفة ...... هجمت عليك كدب بري .....لكن شعرت فجأة بأنني مشتاقة اليك ...... )
همس بداخله متأوها
" و أنا والله مشتاق اليك أكثر ....... و أنت تزدادين جمالا أكثر و أكثر ... "
قالت وعد تقاطع افكاره و هي تدخل بتثاقل الى البيت
( ادخل يا علي تعال ...... )
الا أنه ظل مكانه ليقول بهدوء
( بل تعالي أنتِ معي ....... العمل ينتظرك ....... )
استدارت اليه ببطىء ..... كانت مكسورة ...كان هذ ما استطاع أن يلاحظه فور أن رآها ....
كانت مكسورة ........ مهدمة ........
و بالفعل قالت بتعب
( العمل آخر ما يشغل بالي حاليا يا علي ...... اعذرني .... لا أستطيع ..... )
قال علي بهدوء
( و ماذا عنا ؟!!! ............ )
عقدت وعد حاجبيها قليلا و هي تقول بحيرة
( أنتم ؟؟ ....... تقصد من ؟!! ...... )
ضحك علىو هو يهز رأسه قليلا غضبا ....... ثم قال بخفوت ساخر
( نعم صحيح ..... من نحن ؟!! ....... )
رفع وجهه اليها يواجهها ليقول بشدة
( نحن مجموعة تم تجميعها بانتقاء مميز ..... و لا اقصد نفسي ..... لكن لديك فريق كان يعمل ليل نهار ... في وجودك و غيابك ..... بينما أنت تحاولين اصلاح زواجك ...... و ليلة أمس خرجت دون حتى كلمة شكر لست اقصد تلك العابرة في مكبر الصوت ..... لكن بعدها .. تشكرين مجهود كل منا .... و الآن لا تريدين العمل !! .... هل كانت مجرد نزوة لكِ يا وعد ؟! ...... )
تأوهت وعد بصمت و هي تحك جبهتها هامسة
( ليس الآن ....... ليس الآن يا علي أرجوك ..... ليست لي القدرة على احتمال المزيد ممن يصبون لعناتهم فوق رأسي ..... )
رفعت وعد وجهها لتقول بهدوء
( علي انظر قليلا الى عيني المتورمتين ...... لقد خسرت زواجي الذي تتحدث عنه .... و ربما أكون خسرت أختي ..... و صحتي ليست على ما يرام ....... )
وضع علي يديه في خصره قائلا
( و ماذا عن كوثر ؟!! ...... خياطة قديرة ... تم العثور عليها بمعجزة ... ترعى طفلا معاقا ذهنيا ... و بالرغم من ذلك كانت تعمل معنا ليل نهار بجدية ...... و ابتسام .... هل تعرفين ابتسام ؟!! ... الفتاة التي تقوم بالتطريز ...... هل تعرفين عنها شيئا ؟!! ..... انها مريضة كلى .... و العمل هو كل أملها في الحياة لتتحمل نفقات علاجها ...... و ماذا عن راوية ؟!! ..... )
عبس قليلا وهو يصمت ... ثم لم يلبث أن تابع مكشرا
( حسنا .... تلك لا تعاني من مشاكل .... انه مشكلة في حد ذاتها .... و نفكر في التخلص منها ..... المهم اننا جميعا نعاني اكثر قد يكون اكثر مما تعانين ...... لكن العمل كان له الاولوية لنا ....... لقد اختفيت لفترة طويلة .... ثم عدت ليلة أمس .... و قد تم طلب تفصيل اثني عشر فستانا من العرض ...... و اليوم صباحا نأتي كي لا نجد احدا ..... لا انت و لا ملك ... و لا حتى السيد الأجنبي الهائم بك ..... )
عبست وعد و هي تقول بصرامة
( عيب يا علي ....... لا تتكلم بهذا الشكل على االسيد يوسف ...... )
مط علي شفتيه ..... وهي لا تعلم أن السيد يوسف يكاد يتنفسها مع الهواء المحيط به ..... بينما هي تأتي ليلة أمس لتهيم حبا بزوجها على العلن ....... ضاربة قلوب المحبين لها ......
همس بخشونة وهو يطرق برأسه
( تبا ............... )
رفعت وعد حاجبيها و هي تقول
( ماذا الآن ؟!!! ..... أشعر و كأنك تريد ضربي بصفعتين يا علي !! ...... )
قال بكل صدق
( بصراحة ....... نعم يا وعد ...... )
اتسعت عيناها بشدة و هتفت
( علي !!! ............. )
لكنه قال بقوة
( كوني على قدر المسؤولية يا وعد ...... انه حلمك .... و لو كان يخصك وحدك لكنت تركتك تفعلين ما تشائين ...... لكن هناك أناس ارتبطت حياتهم بحلمك .... فليس من حقك أن تخذليهم ..... )
سقطت وعد جالسة على الأريكة و هي تدفن رأسها بين كفيها بيأس هاتفة
( ياللهي !! ............ )
شعر بالشفقة عليها قليلا .... لكنه عاد وقوى نفسه قائلا بهدوء
( ليس مطلوبا منك مجهودا عسيرا ..... فقط تعالي ..... اشعريهم بوجودك .... ابتسمي لهم و افتحي الباب بنفسك ..... راقبي سير العمل ..... زمن الخياطة المضنية لكِ قد انتهى يا وعد ..... انت مصممة الآن و صاحبة عمل ...... فقط اشعري بمن يعملون لديك ..... لقد ذقت الشقاء مثلهم من قبل .... فلا تتعالي عليهم الآن ...... )
رفعت وجهها لتهتف بظلم
( أنا أتعالي ؟!! ..... انا ؟!!!! ...... أنت لا تعرف كم أنا بعيدة عن التعالي !!! ...... )
قال علي دون أن يهتز لمظهرها المسكين ... و الذي هز قلبه .....
( اذهبي و قفي تحت الماء البارد بالقوة يا وعد .... و ارتدي ملابسك و تعالي معي ..... نحن ننتظرك .... )
ظلت وعد تنظر اليه بتعب ... و حزن عميق ... جدا .....
ثم نهضت بالقوة و هي تقول بتعب .....
( انتظرني للحظات ........... )
.................................................. .................................................. ......................
نزلت وعد الى ورشتها .......فهالها أن تجد العاملات جميعهن تجلسن أمام الباب ...... تبدو عليهن معالم التوتر و القلق ....
فهتفت بقوة
( ماذا يحدث هنا ؟!!! ....... الا يحمل أي منكم المفتاح !!! ........ )
نهض الجميع ووقف علي خلفها ليقول بهدوء
( نسخ المفتاح مع السيد يوسف .... و السيدة كرمة .... و ملك ...... )
زمت وعد شفتيها و زفرت بقوة ..... قبل أن تفتح الباب لتقول بصرامة .....
( ستكون هناك نسختين اضافيتين يا علي .... معك و مع كوثر ..... و أنت ستتابع فتح المكان كل يوم .... حتى في غير وجودي ...... )
دخلت و فتحت النوافذ قبل أن تقول بقوة
( اريد قائمة بكل التصميمات التي تم طلبها ليلة أمس ..... و لنبدأ على الفور ..... )
استدارت عن النافذة ...... لتنظر اليهم بدقة .... قبل ان تبتسم و تقول بخفوت
( شكرا لليلة أمس يا سيدات ........ اكتشفت انني ربحت كنزا لا يقدر بثمن حين رأيت التصميمات منفذة أمامي ...... فعلا تم انتقاء كل منكن كانتقاء حجر الماس .... ايديكن لا يليق بها الا ان تلف بالحرير ..... )
ابتسمت كل منهن و هي تتطلع الى الأخرى بحرج ...... قبل أن تطلق كوثر زغرودة عالية احتفالا بالمكان ....
بينما كانت وعد تنظر اليهن مبتسمة .... لكن الحزن بداخلها ينزف بقوة .... و هي تضطر للإبتسام ....
تماما كالسيدة كوثر التي تزغرد لها على الرغم من وجود ابن معاق لها ..... ينتظرها بآلامه كل يوم ....
.................................................. .................................................. ......................
في اليوم التالي ....
و أثناء العمل ...... وقفت ملك بباب الورشة ..... تنظر بصمت الى وعد التي كانت تدور بين العاملات ....
تضع نظارتها .... الا أنها لم تتمكن من اخفاء احمرار و تورم عينيها .... بدا وجهها أكثر شحوبا ..... و كأنها ازدادت هزالا في ليلتين .....
استدارت ملك الى رائف خلفها ..... لكنه جمد وجهه و قال بصرامة خافتة
( هيا يا ملك ...... لقد وعدتك الا أتركك ..... )
همست بصوت يكاد لا يتجاوز حركة شفتيها
( أريد البقاء معك ............... )
أظلمت عيناه .... و ذابت ملامحه قليلا ... فهمس لها
( تعلمين أنني أريد ذلك أكثر منكِ .......... )
فغرت شفتيها قليلا ..... فارتبك وهو يبعد عينيه عنها .... ليقول بصوت خشن
( كي تكونين تحت عيني و أتمكن من حمايتك .......... لكنني سأبقى في الجوار منك لحظة بلحظة ... )
همست ملك بقهر
( هل انت مصمم ؟؟...... على كلا القرارين ؟؟ ............. )
اسبل جفنيه ..... و شعرت للحظة انه بدا اكبر من سنه بكثير .... بدا كوالدٍ متعب .... يحمل الهم .....
لكنه رفع اليها عينيه ليقول بخفوت
( أتعدينني بألا تهربي ؟؟؟ .......... و ألا ترتكبي حماقة ....... )
ظلت تنظر اليه بنظراتِ عتابٍ صامتة ..... لكن قبل أن تمنحه الوعد كي تطمئن قلبه .... سمعت صوت وعد يهتف من خلفها
( ملك !!! ........)
استدارت ملك اليها ببطىء ...... تنظر الى وجهها الملهوف بصمت ..... قبل أن تندفع اليها وعد لتجذبها اليها بشدة ...... تضمها الى صدرها بقوة و هي تهتف بشدة
( اياك و الهرب مجددا ....... اياك ....... كل مشكلة و لها حل ..... لكن لا تتركيني مطلقا ) .......
ظل رائف ينظر اليهما قليلا ... قبل أن ينسحب دون صوت .... كي لا تراه ملك و تعاود الإمساك بيده كطفلة صغيرة ترفض رحيله ..... و تشبثها به كان أكبر من احتماله .......
ابتعدت ملك عن وعد قليلا و استدارت خلفها بسرعة ..... لكنه كان قد رحل ...... فخرجت الهمسة الى شفتيها بخوف
( لقد رحل ............ )
عقدت وعد حاجبيها و هي تنظر خلف ملك لتقول بقلق
( من هو ؟!!! ............ )
عادت ملك لتنظر اليها دون كلام ...... فأخذت وعد نفسا قويا و هي تحاول أن تهدىء من انفعالها .... و قالت بحزم
( يجب أن نتكلم ........ أنا مستعدة لسماعك حتى الصباح .... )
استدارت و نادت بقوة
( أنا مضطرة للصعود الى بيتي يا سيدات ...... علي سيتابع العمل اليوم , لدي أمر طارىء )
.................................................. .................................................. ....................
جلست و عد بجوار ملك على السرير .... بعد ان ساعدتها على التحمم و تمشيط شعرها ......
كل منهما تضم ركبتيها الى صدرها كطفلتين تائهتين ..... و كأن الزمن لم يجري بهما أبدا ......
كانت ملامح ملك جامدة .... باهتة .... كتمثال شمعي .......
بينما وعد كانت فاغرة شفتيها بصدمة ..... بل هلع ...... لا تصدق القصة التي حكتها ملك بصوت ميت لا حياة به ..... و كأنها تقص حكاية لا تعنيها .... شاردة في البعيد .....
رفعت وعد يدها لى صدرها لتقول
( صديقك من الدار ؟!!!!! ........ و يفعل بكِ كل ذلك ؟!!!! ..... و يدعي عليك الجنون ....)
نظرت الى ملك بعنف لتهتف بقسوة
( إن كان هذا هو الحب ..... فماذا يكون الإنتقام ؟!!!!! ....... ياللهي ..... أشعر أنني في كابوس )
لم ترد ملك ..... بل ظلت تنظر أمامها بصمت .....
فقالت وعد بخفوت ..... و صدمة
( اذن ماذا سنفعل الآن ؟!!! ....... كيف سنثبت زواجك به ..... أقسم أن أخرب بيته .... و أمزق من لحمه )
لم تخبرها ملك شيئا عن ليلة أمس و يمين الطلاق ..... فهو لن يسعد وعد مطلقا .....
فوعد كرائف يريدان العلن ..... بينما هي لا تريد سوى التمسك بيمين طلاقها و التخفي بقصتها المذلة ......
قالت ملك بخفوت ......
( وعد ...... اريد أن أضع رأسي على حجرك ..... أريد أن أنام ...... )

تأوهت وعد بصمت .... لكنها همست برقة
( تعالي ....... نامي قدر ما تريدين ......... )
وضعت ملك رأسها على ركبتي وعد ..... التي ظلت تمشط لها شعرها بأصابعها ..... الى ان قالت ملك بخفوت
( كنت قاسية معكِ جدا يا وعد ........ لقد اختزنت كل ما حدث لي ..... و فرغته بك ..... )
قالت وعد بألم و هي تمشط لها شعرها
( كنتِ محقة ...........لم أنساكِ أبدا يا ملك ..... لكنني كنت أبحث في طريقٍ آخر .... و نسيت الطريق الأهم ..... )
صمتت قليلا تبتلع غصة في حلقها ...... ثم همست بعزم
( لكن اقسم ان احلها لكِ ........... لو كان هذا آخر ما ساقوم به بحياتي ........ )
حين طال الصمت ..... نظرت وعد الى ملك التي راحت في سباتٍ عميق ..... فبقت مكانها قليلا حتى تاكدت من نومها ...... ثم رفعت رأسها بإحتراس ... لتضع الوسادة تحتها ....
ثم نهضت و هي تشعر بالحاجة للتنفس بشدة و الا ستموت .....
ذهبت وعد الى الشرفة .... تتمسك بحاجزها بقوة .... و هي ترفع وجهها لتأخذ عدة انفاس .....
و كم تمنت لو كان هواء البحر هو ما تتنفسه حاليا ..... يبدو انها قد اعتادت بيتها الصغير عند البحر .....
فلقد كانت مخفية عن العالم و مشاكله ..... لا تنعم سوى بحب سيف .....
حتى في غمرة شجارهما العنيف ... كان العشق يحاوطهما ....... و يعزلهما عن الكون .....
همست وعد مغمضة عينيها
( سيف ........... مر دهر منذ رحيلك ..... لا مجرد ساعات ...... )
فتحت عينيها بعد فترة طويلة ..... شيئا ما طرأ بالها من جهة البحر ...... شيء قد يفيد ملك .......
عقدت وعد حاجبيها بشدة و هي تركز تفكيرها ..... ثم همست بأمل كبير
( نعم ...... لما لا ؟!!! ..... ربما كان الحل لديها ....... )
اخرجت وعد هاتفها من جيب بنطالها و هي تتنفس بسرعة و تحشرج .... تدعو الله الا يخيب مسعاها ...
ثم وضعت الهاتف على اذنها تعض شفتها انتظارا ..... و تهز ساقها بعصبية ....
و سرعان ما اعتدلت و هتفت بقوة
( مرحبا ....... كيف حالك , هل تتذكرينني ؟!! ..... نعم انا بخير ...... و كيف حال الصغيرة ؟؟ ..... )
صمتت قليلا بعد سيل السلام ..... ثم همست بحرج
( انا في حاجة الى مساعدتك جدا ........ اختى واقعة في مصيبة ...... لقد اخبرتني مرة ان زوجة ابن عمك خاضت حروبا من قبل مع كبار البلد .... و لها خبرة كمحامية ...... هل يمكنني استشارتها في شيء على ان يظل الأمر سريا ؟؟ ....... )
سمعت وعد قليلا ... قبل ترفع رأسها متنهدة بأمل .....
( شكرا لكِ ....... شكرا لكِ من كل قلبي ....... لا أصدق أنكِ استجبت لرجائي بهذه السرعة .... لو كنتِ أمامي لكنت اغرقتك قبلا و عناقا ...... متى يمكننا ان نراها ؟؟ ..... )
صمتت لحظة ثم هتفت برضا لا مثيل له
( غدا ؟!!! ...... بهذه السرعة ؟!!!!! .........قبل حتى ان تسأليها ؟؟!! ياللهي .... انت بعشرة رجال يا حنين .... اشكرك .... انا مدينة لك العمر كله ....... نعم .... سأنتظرك العاشرة صباحا لنذهب معا ..... ممتاز ........ )
صمتت قليلا .... ثم قالت قبل ان تغلق
( حنين ..... انتِ بعشرة رجال ..... حقا ........ )
سمعت صوت ضحكة رقيقة قبل ان يتعالى الصوت الانثوي ليقول
( زوجي دائما يقول نفس العبارة ..... حتى انني اخشى ان استيقظ يوما و اقوم بحلاقة ذقني بالإيحاء ..... )
.................................................. .................................................. ..................
جلست وعد تشبك يديها بقوة .... مرتبكة بشدة بعد ان قصت حكاية ملك ....... بما تعرفه ....
حنين تجلس امامها و علامات الصدمة تعلو وجهها ..... بينما خلف المكتب كانت تجلس شابة غاية في الجمال .....
تحيط عنقها بوشاح .... بينما ترتدي عباءة شرقية مطرزة ......
اليوم يوم عطلة .... و لقد حلت على سكان البيت الكبير بكل وقاحة دون موعد مسبق ......
ضربت الشابة فجأة على المكتب بقبضتها و هي تهدر قائلة مما جعل وعد تنتفض برعب من شرودها
( هذه قذارة ....... قذارة الحيتان ... و تجارة الأطفال .... لينتهي الحال بنماذج مشوهة .... لا تحمل انتماءا لأي قيم ..... تعيث فسادا في الأرض ...... )
كانت وعد تومىء برأسها عاقدة حاجبيها محاولة أن تفهم و تستوعب تلك المذكرة التحليلية المنطلقة في وجهها كمدفع رشاش ..... لكنها لم تفهم معظم الكلام .... فقالت حنين و هي تنظر لملامح وعد ...
( الترجمة من فضلك يا صبا ....... أنتِ تقولين كلام يصعب على أمثالنا فهمه ..... )
تنهت صبا بقوة و هي تحاول التقاط أنفاسها ...... ثم قالت و هي ترتجف غضب
( اعذراني ....... لقد أخذني الإحساس بظلم المقهورين قليلا ...... لا أتمالك نفسي حين أسمع هكذا انتهاكا على يد أحد الأباطرة ... مما يظن أنه ملك الأقل شئنا و الأدنى مستوى ..... )
مطت وعد شفتيها بحرج .... على أساس أنها و ملك ممن هم أقل شأنا و ادنى مستوى .......
نظرت اليها حنين و ربتت على صدرها تراضيها في الخفاء ... غامزة لها بالصبر ....
ثم قالت بقوة
( هل معنى كلامك أن نيأس يا صبا ؟!!! ......... )
رفعت صبا عينيها الخضراوين العسليتين كعيني قطة ثائرة مستعدة لنبش من يستفزها
( من ذكر كلمة اليأس ؟!!!!! ...... أقسم أن أخرب بيته و أجعله يدور حول نفسه ألف مرة قبل ن يفكر في الزواج مجددا ........ )
مالت وعد الى المكتب برجاء و هي تقول متوسلة
( اذن ما الحل ؟!!! ......... )
مالت اليها صبا لتقول ببساطة
( الإبتزاز هو الحل .............. )
عقدت وعد حاجبيها لتقول بحيرة
( ماذا نمتلك لنبتزه به .................... )
ابتسمت صبا و هي تتراجع الى ظهر كرسيها قائلة بهدوء
( خصلة شعر ......... أي محامي لديه خبرة في تلك القضايا سيقترح نفس الحل ....و ما أن نمتلك الورق الذي يثبت انعدام نسبه لهذه العائلة .... نقوم بابتزازهم .... . )
قالت وعد بصوتٍ باهت فاقد الأمل ....
( و كيف سيمنحنا خصلة من شعره بطيب خاطر ؟!!! ......... )
ابتسمت صبا برقة و هي تقول
( لا مشكلة اطلاقا ....... لدى زوجي من يقوم بمثل هذه الأمور ......... )
نظرت وعد الى حنين ..... التي ابتسمت لها لتقول بثقة
( اطمئني يا وعد ....... ما دمنا اتينا الى صبا ... فثقي ان الامر محلول ان شاء الله .... فهي اشد رجولة مني ... و تحلق عند نفس الحلاق ..... )
اهتزت ابتسامة وعد و هي تقول بأمل
( يا رب ........ أشعر و كأنني سأموت قبل أن أراها متزوجة منه رسميا ...... )
اظلمت عينا صبا و هي تقول بغلظة
( هل تتمنين زواجها حقا من ذلك القذر ؟!!! .......... )
هتفت وعد بقوة
( كل ما يهمني هو سترها علنا ........ و كل شيء يهون بعد ذلك ...... )
زمت صبا شفتيها و هي تقول
( مجتمع يخدع نفسه بالشكل فقط .... دون النظر الي الى السوس الذي ينخر في عظامه , الجبابرة نحن من صنعناهم .... بالرغبة في التستر على كل مشكلة نقع بها .... )
فغرت وعد شفتيها و هي تقول
( ها ؟!!! ........... )
قالت حنين متدخلة ...
( لا عليك يا وعد .... الترجمة ستنزل في الزيارة المقبلة ...... هيا لنعود قبل موعد عودة جاسر ..... فسيجن جنونه لو علم ........ )
قاطعها صوت رجولي فخم من عند الباب
( لو علم انكِ في زيارة بيت عمك ؟!!!!! ......... اذن ما رأيك أنكِ ستتناولين الغذاء معنا اليوم و لو تجرأ ابن رشيد على المعارضة فليواجهني ...... )
نهضت وعد من مكانها و هي تستدير لتنظر الى رجلٍ وسيم وسامة جميلة .... ذكرتها بسيف .... فرق قلبها للحنين ....
كانت لحيته منمقة و مهذبة .... و في يده سبحة زرقاء فيروزية ....
وقف مكانه وهو يقول بتهذيب متراجعا ...
( عذرا ..... لم أكن أعرف بأن لدينا ضيوف ........ )
ارتبكت وعد و هي تقول بحرج
( أنا موكلة لقضية ...... أنا آسفة جدا ..... سأغادر حالا ..... )
قال عاصم مبتسما دون أن ينظر اليها ..... مكلما صبا من خلف كتفه ....
( هل فتحت فرعا من المحكمة على غرفة الجلوس يا بنت السلطان ؟!!! ........... أخشى أن أبدأ في تفتيش كل من يدخل بيتنا منذ اليوم .... خاصة و أنت تجلسين بأريحية و شعرك مكشوف !!! .... )
ارتبكت وعد أكثر و هي تشعر بأنها تسببت في كارثة ... لكن صبا قالت عاتبة
( توقف يا عاصم ..... لقد أفزعت الفتاة المسكينة ..... انها ليست موكلة .... انها من طرف حنين ... اذن فهي من أصحاب البيت ...... )
قال عاصم مبتسما و هو ينظر أرضا .....
( اعذريني ..... اردت افزاع زوجتي ...... لكنها كالعادة ... لا تخاف سوى من مستوى الكليسترول في طعامي ..... حتى لو وضعت هيكلا عظميا تحت سريرها .... فلن يشغلها سوى التحقيق في هوية مرتكب الجريمة )
مطت صبا شفتيها و الغيرة تتآكلها بشدة دون أن تسمح لها بالظهور و لو لذرة .... بينما ضحكت وعد قليلا بحرج و هي تقول
( فليحفظها الله لك ..... أنا يجب أن أغادر الآن ..... )
قال عاصم بأدب
( لا يصح ...... يجب أن تبقي معنا للغذاء .. و الا ستغضب روعة .... )
قالت وعد بسرعة
( لا ....... لا أستطيع صدقني ...... لقد تركت أختي بمفردها و يجب أن أعود سريعا ..... )
خرجت وعد مسرعة .... تتبعها حنين .... لكن وعد أصرت عليها أن تبقى .... و انصرفت هي على اتفاق بموعد آخر ....
بينما وقفت صبا أمام عاصم في غرفة المكتب .... تتطلع اليه بصمت مكتفة ذراعيها ...
فنظر اليها بخبث و قد طارت من وجهه هالة البراءة .... و حلت مكانها نظراتٍ تأكلها أكلا وهو يقول
( خير يا بنت السلطان ؟!! ....... تريدين قذف سهم طائش من فمك الشهي ..... تكلمي علكِ تفسدين شهيتي و لا اتناول وعاء المحشو بالسمن البلدي من يد امي ..... )
الا ان صبا لم تضحك .... بل ظلت صامتة تنظر اليه بنظرة غريبة ... ثم قالت اخيرا
( جذاب جدا منظرك و انت تغض البصر ببراءة رجولية تأسر القلب .... بينما تمزح و تضحك مع الفتيات من خلف كتفك ...... )
عبس عاصم وهو يقول
( اي فتيات ؟!!! ........ تقصدين صديقة حنين ؟!!! ...... لقد صنفتها كحنين طالما هي صديقتها .. اي لا تتمي لخانة الفتيات ....لكن لو كانت جميلة ........ انتظري لأتحقق منها من النافذة ..... )
و بالفعل اتجه الى النافذة الا ان صبا هتفت بغضب و هي تضرب الارض بقدمها
( توقف يا عاصم ...... هذا ليس مضحكا ........ )
لكنه كان قد اقترب منهامدققا وهو يقول بحذر
( هل أشم رائحة غيرة !!!! ...... ياللهي !!!! ..... هل انقلب العالم و باتت بنت المستشار تشعر بالغيرة كالزوجات الطبيعيات ؟!! ....... )
قالت صبا بوجه مخبر شرطة مخضرم
( هذا ليس مضحكا ...... تماما كما لم تكن مضحكا و أنت تمزح مع الفتيات ..... )
قال عاصم مندهشا وهو يلوح بيديه
( فتيات !!! ...... هل جعلت منها فتيات مرة واحدة ؟!!! ...... المسكينة تكاد تذوي من شدة الهزال , ربما لو مكثت معنا و تناولت اصبعين من محشو أمي لكان وزنها قد زاد قليلا .... )
اتسعت عينا صبا بصدمة و هي تقول بصوتٍ واهي
( هل تحققت من جسدها ؟!!! ............. )
عقد عاصم حاجبيه وهو يقول مبتسما
( حقا ؟!!! ....... هل هي هزيلة بالفعل ؟!!! ....... لقد تطورت مهارتي مع العمر ..... )
فكت صبا ذراعيها و هي تتجاوزه مندفعة .... لكنه قال بهدوء مناديا
( يا بنت السلطان ......... )
توقفت صبا مكانها ... ثم استدارت اليه بوجه ٍ مصدوم الخاطر .....
فقال عاصم مبتسما
( حضري لي الحمام ...... من فضلك ......... )
ظلت تنظر اليه بقسوة .... قبل ان تندفع صاعدة السلم و هي ترفع طرف عبائتها ... فانكشفت له ساقها البيضاء القشدية .... فرفع حاجبه وهو يقول بخفوت
( آه يا بنت السلطان ..... نسبة القشدة تزداد بكِ يوما بعد آخر .... حتى أصبحتِ كاملة الدسم و الحلاوة ... )
.................................................. .................................................. ...................
خرجت صبا من الحمام بعد أن حضرته ... و هي لا تزال غاضبة و متألمة .....
لكنها تسمرت مكانها و فغرت شفتيها بألم مضني ..... و هي ترى عاصم يجلس على حافة السرير عاري الصدر بعد أن تخلى عن قميصه ..... و ضحكاته تملا وجهه فتزيده وسامة .... وهو يحمل نوارة بين ذراعيه بعد ان سرقها من امها ليلاعبها بحماقة .... بينما هي تقهقه بعنف حتى كادت ان تسعل .....
تراجعت صبا مذبوحة القلب الى ان اصطدمت بالحائط و هي تراقب المشهد الأجمل في الحياة .... و الأكثر عذابا على الإطلاق .....
نظر عاصم خلفه قليلا ليراها واقفة ملتصقة بالحائط ... دون أن يتحقق من ملامحها ..... فقال بسعادة
( اتعرفين أن تلك الصغيرة تزداد شبها بك كل يوم أكثر من أمها !!! ..... لقد أخذت خضار عينيك العسليتين و شعرك الذهبي الداكن ...... أتذكر أن أحنين كانت تتوحم عليك .... كانت تجلس أمامك و تحدق بكِ تركيز لفترة طويلة كما طلبت منها أمي ...... و بالفعل جاءت الصغيرة لتشبهك تماما ...... و لنفس السبب كانت تتجنب النظر الى حور ........ )
حين ظلت صبا صامتة .... التفت اليها عاصم .... ليصطدم برؤية وجهها الشاحب المطعون بملامح الألم ....
شعر عاصم بألمها يتسرب عبر عروقه ..... فالتو فكه قليلا .... و أنزل نوارة لتحبو على الأرض .... قبل أن يقول دون أن ينظر الى صبا
( تعالي يا صبا و دلكي لي ظهري رجاءا ..... عضلاتي باتت تؤلمني بشدة )
تركت صبا المنشفة من يدها .... و اقتربت ببطىء من السرير حتى تسلقته و جلست خلفه على ركبتيها و أخذت تدلك له عضلات كتفيه و ظهره ..... بينما أغمض عينيه متأوها براحة ... ليقول
( ماذا أفعل بدون يديك يا بنت السلطان ؟!!! ..............)
قالت صبا من بين شفتيها المتكورتين
( تمزح مع الفتيات الأخريات .......... )
ابتسم دون أن يفتح عينيه ليقول ببساطة
( و ما حاجة الرجل الى الحليب منزوع الدسم وهو يمتلك القشدة بالكيلو ......)
توقفت صبا قليلا و هي تقول بامتعاض
( هل من المفترض أن أشعر بالزهو لغزلك هذا ؟!!!! ..........)
لم يرد عاصم ...... لكنه مد ذراعيه خلف ظهره فجأة ...ليجذبها من خصرها حتى لفها حوله و أسقطها على حجره ..... بينما قال لعينيها الجميلتين
( سأعلمك الزهو بغزلي يا بنت السلطان ......... و لو طالت بنا السنوات .....)
هتفت صبا بقلب يرتجف
( نوارة يا عاصم ....... عيب .......)
الا أن عاصم كان ينهل من شفتيها الشهيتين بقوةٍ مريعة وهو يقول بخشونة
( لقد اعتادت على ذلك من والديها ......... تبا لذلك لا اتدعيني أخطىء القول .... أمها ابنة عمي و لا يصح ما أقوله ......... )
همست صبا بحنان و هي تحيط عنقه مستسلمة لقبلاته
( لقد دخلت تحت السرير في كل الأحوال ........... )
ابتسم من بين قبلاته المجنونة ..... وهو يهمس بخشونة
( جيد ...........)
قالت صبا بصعوبة و هي تحارب جنونه
( لا تكن مجنونا يا عاصم .... قد يسقط السرير فوقها لا سمح الله ......)
همس عاصم بخشونة
( أمي ستعلن حالة الإستعداد القصوى للغذاء خلال نصف ساعة يا بنت السلطان ...... هلا تركت السرير و اهتممت بالمضمون ..... ألم تتعلمي شيئا منطقيا في دراستك يا بنت المستشار ؟!!! ......)
تخللت شعره بأصابعها و هي تهمس بجنون عشقها
( تعلمت أن الحب قانون .... يسري فوق الجميع ..... يا سلطاني .... و عشقي الوحيد ... )
.................................................. .................................................. ......................
نظرت وعد الى هاتفها بصمت في الظلام ..... قلبها يهفو اليه .... و الجوع اليه بداخلها ينشب مخالبه بكل قسوة
الا أنها نذرت نفسها لحل مشكلة ملك .....
أرجعت رأسها للخلف و هي تغمض عينيها ..... لقد كان بينهما خطوة .... خطوة واحدة كانت لتخطوها و تعدو اليه .......لكن بعد أن عرفت بما حدث لملك ..... بات الطريق بينهما طويل .... و هي تشعر بأن كل منهما يحمل جزءا من الذنب
رفعت وعد الهاتف الى أذنها .... و طال الرنين بينهما ..... و قلبها يقصف معه منتظرا سماع صوته
الى أن رد أخيرا بصوته العميق
( وعد ............)
ابتسمت بألم .... مجرد اسمها يعد قصيدة غزل من بين شفتيه
قالت أخيرا بخفوت
( كيف حالك يا سيف ؟؟ ..........)
ساد صمت قليل قبل أن يقول بخفوت
( أنا بخير ....... كيف حال ملك ؟؟؟ ......)
أبتلعت غصة في حلقها .... لم يفتها أنها سألت عن حاله ... بينما سألها عن حال ملك ..... لكنها قالت بخفوت هامس
( إنها بخير ....... انها معي الآن .... )
قال سيف بخفوت
( جيد ..............)
ساد الصمت مجددا قبل ان تلتقط انفاسها لتهمس باختناق
( سيف ...... لقد تنازلت عن دعوى الخلع و انا آسفة جددا على كل ما ارتكبته من حقارة تجاهك ..... لكن الآن بات مستحيلا أن أشعر بالسعادة حتى ....... )
قاطعها سيف قائلا بخفوت
( لا داعي لكل ذلك يا وعد ....... لم يعد له اهمية ...... )
عبست قليلا و هي تهمس بصوتٍ يائس
( حقا ؟!!! ......... كنت أظن أن ......... )
الا أنه عاد ليقاطعها بخفوت اخترق الموجات بينهما كسهم ناري نفذ الى أذنها و أحرق قلبها
( لقد طلقتك اليوم صباحا يا وعد ........... )
( لقد طلقتك اليوم صباحا يا وعد ........... )
للحظات لم تشعر بأطرافها .... و كأنها انفصلت عن جسدها و طفت بعيدة , تراقب نفسها ...... و هي تقف جامدة .... تحاول التقاط اشارة ما تعيدها للحياة .....
ساد صمت غريب بينهما , فقال سيف بخفوت قلق
( وعد ........ هل ...... أنتِ بخير ؟ )
رمشت بعينيها عدة مرات ... و فغرت شفتيها تتنفس ما يضمن لها بعض الحياة مؤقتا ... ثم قالت بصوت غريب على أذنها
( نعم ...... نعم ....... بخير ....... )
كان حوارا مهذبا .... مضحكا بمأساوية ........ فقال سيف بعد عدة لحظات بصوتٍ أكثر خفوتا ,
( هذا ما أردته .......... اليس كذلك ؟.... )
ابتلعت ريقها و هي ترفع رأسها قليلا ... تحاول التنفس بطبيعية ... ثم أسرعت تقول بفتور
( نعم ....... نعم ...... شكرا ...... )
ساد صمت طويل هذه المرة .... بينما هي تتشبث بهاتفها تنظر حولها قليلا و كأنها تبحث عن نفسها .....
ثم قال سيف بصوت جامد خافت
( ربما تأخرت كثيرا ....... و ضيعت من وقتك الكثير بأنانية )
ارتجفت لا تعي شيئا مما يقوله ..... لكن تمكن لسانها من النطق منفصلا عنها
( لا ...... لا ....... أبدا ...... لقد كان بيننا العديد من الايام الجميلة )
صدمتها ضحكته الخافتة الخشنة .... و التي بدت كحشرجةٍ حيوانٍ ضاري يحتضر
( لكن على ما اظن أن الأيام المؤلمة كانت اكثر عددا ....... )
نطقت بخفوت و هي تشعر بتجمد أطرافها
( نعم .... ربما ....... لم أعد واثقة ....... )
قال سيف بخفوت بائس
( لا ....... لا تدعي الشك ينتابك الآن , فأمامك طريق طويل و أنت في بدايته ....... )
ابتلعت ريقها بذهول و هي ترمش بعينيها متسائلة ... هل تهذي ام تعيش كابوسا ؟!! ....
هل فعلا انتهى الامر بهذه البساطة و السرعة ؟!!!...... نعم سرعة ...... و كأنهما تزوجا بالأمس فقط .... و كأن الأشهر لم تمر بينهما طويلة .....
قال سيف يقاطع تفكيرها المهووس بخفوت غريب
( تستحقين فراقا اكثر احتراما ..... لكنني تعبت المواجهة ....... لذا فضلت أن ...... )
انتهى صوته .... انتهت خشونته التي خفتت الى أن انتهى صوته دون أن يتابع ... فساد صمت قليل قبل أن يقول بصوتٍ أكثر خفوتا
( وعد ....... هل تعديني بشيء ؟ ...... )
فغرت شفتيها تلتقط نفسا ... لكنها لم تجده , فقالت بخفوت لا تزال الصدمة بادية عليه
( نعم ...... طبعا ........ اي شيء ....... )
صمت قليلا ..... ثم قال بصوته العميق و الذي بدا كهمس خافت أجش
( عديني أن تكوني بخير دائما ......... )
ظلت صامتة قليلا .... تنظر بعينين متسعتين أمامها بينما صدرها يعلو و يهبط بسرعة مؤلمة حتى رفعت يدها تلمسه بصعوبة علها تهدىء من خفقاته المؤلمة .... ثم تدبرت ضحكة صغيرة جوفاء و قالت بخفوت
( أما قلنا من قبل ... لا وعود ............ )
قال سيف بصوت أجش بدا مختنقا قليلا
( قلتِ للتو بأنكِ ستعدينني بأي شيء ........الا أستحق منكِ ذلك الوعد في النهاية ؟! ... . )
زفرت نفسا مرتجفا كان محتبسا في صدرها الهائج ثم قالت باختناق
( سأبذل قصارى جهدي ............أعدك بذلك )
عاد الصمت ليسود بينهما طويلا ... و كأنهما غريبين لا يجدان وصفا مناسبا يصف ما يحدث .... الى أن قال سيف بصوتٍ له صدى و كأنه تأوه .....
( وعد ............ )
بدأت شفتيها بالإرتعاش ..... و رفعت وجهها لأعلى ترمش بعينيها و هي تحاول التنفس بأعجوبة
الا أنه عاد ليقول بنفس النبرة المترددة عبر الأمواج بينهما
( وعد ........... )
فردت بصوتٍ يرتعش
( نعم ............... )
سمعته يأخذ نفسا أجشا قبل أن يقول بصوت خافت
( سأظل دائما ابن عمتك ..... هذا واقع لن يغيره شيء في العالم , تعلمين ذلك ..... )
امتدت شفتيها المرتعشتين في ابتسامةٍ ملتوية ... الا أنها فشلت فاختفت قبل أن تظهر ...
ثم قالت بصوتٍ مختنق
( نعم ........... تلك هي علاقة ...... لن تنفصم ..... ابدا ..... اطمئن )
ثم اختنق صوتها هي هذه المرة فشهقت شهقة بكاء معتصرة صدرها ... فتأوه سيف وهو يقول بصوت معذب خافت
( وعد ............. )
الا أنها قالت بسرعة و هي تكتم فمها بيدها بينما الدموع تنساب من عينيها بغزارة
( يجب ان اذهب ........... )
و اغلقت الخط مع آخر احرف بكائها و نطقه اليائس باسمها ......
لكنها رمت الهاتف على السرير و نهضت من مكانها تتلمس الاثاث ..... تدور بين انحاء الغرفة و كأنها تبحث عن شيء وهمي ... ثم همست من بين نشيج مذهول
( ماذا بكِ ؟! ........ ماذا بكِ ؟! ...... لقد حضرتِ نفسك لهذا الألم طويلا ..... ماذا بك الآن ؟!! .... )
وقفت مكانها و هي تغمض عينيها محاولة السيطرة على نفسها و ملامحها .... تحاول تقوية نفسها ...
لكن حين شعرت ان ساقيها غير قادرتين على حملها طويلا .... ارتمت على السرير و هي تدفن وجهها بين اغطيته لتفجر كل انهار دموعها بعدد كل حجرٍ بنته في الحائط بينهما على مدى الاشهر الماضية .....
سمعت صوت رنين هاتفها يتواصل ملحا ..... و كانت تعلم علم اليقين انه هو .... لكنها لم تستطع ان تسمع صوته و هي تعلم انه لم يعد لها ..... تلك النبرة العميقة لم تعد لها ..... لم تعد تخص أذنيها
حتى الآن لا تزال غير مصدقة .....
( وعد .......... لماذا تبكين ؟!! ...... )
أغمضت وعد عينيها على صوت ملك الخافت الخائف عند الباب .... لابد أنها أتت على صوت شهقاتها المختنقة ....
صمتت وعد و ابتلعت دموعها بصعوبة خانقة دون أن ترفع وجهها .... فاقتربت ملك لتشعل الضوء ....
و دخلت اليها مترددة .... ثم قالت بخفوت
( وعد ...... ماذا حدث ؟!! ........ )
ظلت وعد صامتة تحاول السيطرة على نفسها ثم قالت اخيرا بصوت مخفي بين الأغطية و الوسائد
( لم يحدث شيء يا ملك ...... فقط اتركيني قليلا ...)
ظلت ملك واقفة مكانها قليلا ..... ثم تحركت في اتجاهها الى أن جلست على حافة السرير بجوار رأس وعد ....
فقالت بصوت يائس
( ملك رجاءا ..... اذهبي الآن ....)
الا أن ملك ظلت جالسة بجوارها .... تنظر اليها بصمت ثم قالت بخفوت
( لا لن أذهب ...... حتى إن لم تستطيعي الكلام )
نظرت ملك الى هاتف وعد الذي ظل يرن بإلحاح ... فمالت تلتقطه لتنظر الى الإسم ... ثم رفعت وجهها الى وعد تقول بخفوت
( إنه سيف ...... الن تردي عليه )
قالت وعد باختناق دون أن ترفع وجهها
( اتركي الهاتف يا ملك .......)
اخفضت ملك الهاتف الى ركبتيها و هي تنظر الى وعد بقنوط .... ثم مدت يدها تتلاعب بشعرها كما كانت تفعل وعد معها ... حينها لم تستطع وعد منع نفسها أكثر بعد ان طال جلوس ملك
فاهتزت كتفيها بنحيبٍ خافت .... دون أن ترفع وجهها ......
تركتها ملك قليلا قبل أن تقول بخفوت
( ماذا فعلتِ به مجددا ثم ندمتِ بعدها ؟؟ .......... )
ابتسمت وعد ساخرة بمرارة من بين دموعها ..... ثم همست بعد فترة طويلة
( لم أفعل أنا شيئا هذه المرة ........ و لن أفعل فيما بعد ......لقد طلقني سيف )
فغرت ملك شفتيها ببطىء ... حتى اتسعت بالكامل ... بينما التمعت عيناها بلون الهلع و هي تهمس دون وعي
( بسبب ما اقترفته أنا ؟!!! ......... )
ظلت وعد مكانها قليلا .... قبل أن تستقيم لتجلس ببطىء متهالك بجوار ملك ... مطرقة برأسها ... شعرها متهدل من حولها كروحها المتهدلة بلا حياة .... أخذت نفسا مرتجفا , قبل أن ترفع يدها لتسمح الدموع عن وجهها بتعب ... ثم نظرت الى ملك بعينين حمراوين .... تتأملها طويلا
رفعت وعد يدها التي لا تزال مبللة بدموعها تتلمس بها وجه ملك الشاحب المصدوم ... ثم همست وعد أخيرا بصوتٍ لا يكاد يسمع
( بل بسبب ما اقترفته أنا ........ أنتِ لا دخل لكِ ...... )
الا أن ملك قالت بارتياع خافت
( لقد أصبح وجودي خزي لأي عائلة كبيرة ..... هل هذا هو السبب ؟؟ ...... )
هزت وعد رأسها نفيا و هي تمد كلا يديها لتمسك بكتفي ملك لتقول بصلابة على الرغم من وجهها المتورم بالدموع ..
( لا تنعتي نفسك بتلك الأوصاف مجددا ..... لن أسمح لكِ ........ )
أرتجفت شفتيها قليلا و هي تتنفس بقوة كي تجلي صدرها المتألم ... ثم قالت بخفوت
( ما بيننا أنا و سيف كان أكثر تعقيدا مما يمكنك استيعابه ...... أنا فقط .....أنا فقط ...... )
مدت ملك كلتا يديها لتحيط بهما وجه وعد و هي تقول بقوة
( تحبيه ....... أنتِ تحبيه ..و تموتين الآن بداخلك . فلماذا تفعلين به و بنفسك ذلك ؟!!.......... )
صمتت قليلا تنظر الي عيني وعد الرماديتين الحمراوين .... فقالت وعد بفتور ميت
( الازلت تؤمنين بما يسمى حبا يا ملك ؟!! ........ )
شعرت ملك و كأن وعد ضربتها بقوة ...... حتى أن ملامحها أجفلت للحظة , ثم انتشر الوجع بداخلها كلونٍ أسود وقع و تشعب في صدرها ملوثا روحها النقية .....
زفرت ملك نفسا نازفا ... لكنها لم تستسلم و هي تقول بصوتٍ متحدي رغم نبرة الألم به
( و أنتِ ؟!! ........ انظري الى عيني و أخبريني أنكِ لا تحبين سيف ....... )
مالت عينا وعد بعيدا عن عيني ملك .... لم تستطع ..... لم تستطع حتى مجرد النظر اليها , لا نطقها !! ....
قالت وعد أخيرا بخفوت مرتجف
( لا داعي لكل هذا الآن ...... لقد افترقت بنا الطرق و انتهى الأمر ..... )
شددت ملك على وجهها بين كفيها و هي تجلس أمامها على ركبتيها لتقول بقوة
( اذهبي اليه يا وعد ..... ليس هناك ما يقيدك .... اذهبي اليه غدا و لو اقتضى الأمر توسلي اليه كي يعيدك .... لكن لا تبقي مكانك هكذا تنزفين حتى الموت ....... )
رفعت وعد عينيها الى عيني ملك .... تنظر بصمت الى قوتها الرقيقة الغريبة على الرغم من كل ما تمر به .....
توقف رنين الهاتف ..... لتصل رسالة صوتها شق السكون القاتم بينهما .....
نظرت وعد الى الهاتف بصمت و ألم .... لكن ملك هي من تناولت الهاتف و فتحت الرسالة لتقرأها بصوت خافت لكن مسموع لدرجة اخترقت كيان وعد
( هل أنتِ بخير ؟؟ ........ أجيبيني )
رفعت ملك وجهها الى وعد و مدت اليها الهاتف تقول بقوة
( ردي عليه ..... طمئنيه ....... اطلبي منه العفو ........ )
ظلت وعد تنظر الى الهاتف طويلا بيأس قبل أن تلتقطه و ترد برسالة أخرى.... فالكتابة أكثر سهولة من أن تنطق أمامه حاليا......
فكتبت سريعا ترد
( أنا بخير ....... لا تقلق )
وصلها الرد بأسرع مما تتخيل
( أريد سماع صوتك ........... )
أرتجفت بشدة .... و التاع قلبها أكثر ... فابتلعت غصة في حلقها باختناق و هي تكتب ترد بأصابعها المرتجفة
( لا أستطيع الآن ....... لا تقلق , هل كنت أستطيع الكتابة لو كان قلبي العليل قد انهار ؟!! ....)
ارسلت الرسالة .... فساد الصمت لفترة طويلة .... و تأخر الرد .... و كانت تعرف أنها تضغط على نقطة ضعفه ..... مرضها ..... لطالما كان هو الآخر ضعيفا تجاهها ....
رمشت بعينيها عدة مرات ..... منتظرة بقلب خافق ... و هي تهمس بداخلها
" أعلم أنني فعلت الكثير ......و آخر مواجهة بيننا كنت شديدة الدناءة ......لكن لا تتركني الآن ....أرجوك "
حين هاتفته منذ قليل .... كانت تخبره بانها تنازلت عن دعوى الخلع ... ناوية ان تطلب منه ان ينتظرها قليلا الى ان تحل مشكلة ملك .....
لم تكن تتخيل انه تعب هكذا و استسلم سريعا ...... ....
لقد جرحته و اهانت رجولته اكثر من مرة ... علنا ... و فيما بينهما ..... لكن .... لكن ....
لكنه يحبها .... الا يغفر ... و يتفهم ؟؟ .........
وصلتها الرسالة فانتفض قلبها و رفعت الهاتف بكلتا يديها الى وجهها تنظر اليه بلهفة و قرأت الرسالة
( أتمنى لكِ كل الخير يا وعد ....... فقط تذكري أن ابن عمتك موجود .... و بيت عمتك مفتوح لكِ و لملك دائما .......)
فغرت وعد شفتيها و هي تقرأ تلك الأحرف المتناثرة أمامها ... و قد بدأت تتباعد و تتمواج بين أمواج غلالة دموع عينيها ...... حتى سلاحها الضعيف لم يعد يؤثر ليأتي به جريا اليها .......
سقطت يدها بالهاتف على حجرها بصدمة ...... لقد انتهى ما بينهما ...... أخيرا ........ و للأبد ......
لكن بعد أن ربطها بعشق ٍ أقسمت الا يضعفها يوما ...... و ها هي نكثت بقسمها .......
رفعت عينين متوسلتين الى ملك تسألها العون .... فجذبتها ملك الى صدرها و هي تلمس شعرها .... تاركة لها الفرصة كي تبكي بألم ... بينما ملك تهمس لها بخفوت
( لدي يقين أنها ليست النهاية ......... اذهبي اليه يا وعد .........)
أغمضت وعد عينيها و هي تضم خصر ملك اليها ..... تشعر بأن الدائرة تتسع من حولها لترميها بين أمواجٍ أكثر علوا من تلك التي كانت تظنها عالية قبل دخول سيف الى حياتها .......
.................................................. .................................................. ....................
ترك سيف هاتفه بجواره و هو ينظر أمامه بوجه قاتم .... فاقد الرغبة في الحياة ......
لقد خرجت وعد من حياته بعد صولات و جولات .......
نظر حوله الى غرفتها ... و هو يجلس على حافة سريرها ........
فنهض من مكانه وهو يشعر بالإختناق .... حتى أنه فك أزرار قميصه الأولى ... و تحرك مجهدا بصعوبة الى الأن استند بكفيه الى طاولة زينتها الصغيرة ... مخفضا رأسه وهو يحاول جاهدا التنفس دون الم
كان طلاقها يبدو و كأنه انتزاع اللحم من جسده .... و امتصاص الدم من وريده
رفع رأسه عاليا لينظر الى المرآة القديمة أمامه قبل أن يصرخ فجأة بوحشية
( تبا ..........)
ثم ضرب المرآة بقبضته فتهشمت بشكل سرطاني ... جعل من وجهه مشوها
بينما تركت قبضته خيطا دمويا بين تعرجات الزجاج المحطم ....
ظل ينظر الى وجهه المحطم المجزء بعينين قاتمتين ..... لا يصدق أنه سيف الدين فؤاد رضوان ذلك الذي تملكه امرأة بتلك الصورة المخزية .....
لم يصدق أن تسرقه لتلك الدرجة .... درجة أن يقبل منها الجرح و النفور و الرغبة في الإبتعاد و التحرر و كأنه لم يساوى لديها أكثر من تذكرة مرور لعالم أرقى و أفضل ....
استدار على عقبيه وهو يراقب غرفتها ربما للمرة الأخيرة ......
فرقت عيناه المظلمتان وهو يتذكرها تخرج من تلك الغرفة الى الرواق .... مرتدية منامتها الوردية الباهتة .... و شعرها المشعث حول وجهها ....
تراقبه بنظراتٍ حذرة كارهة .......
يومها علم ان تلك الفتاة دخلت قلبه دون اذن .... ودون حتى رغبة منه ........
تحرك ببطىء .... غير آبه لكفه المجروحة ...... وهو يتفقد باقي المكان ....
ذلك البيت الذي كان بالنسبة له دائما جحر الكره و الرغبة في الاذى .....
بات الآن محراب يأتي اليه ليتذكرها .... ليبثها حبه .... و يتذكر لحظات عشقهما الذي كان قبل ان تنطقه الألسنة ......
لقد انكسر آخر ما بينهما ليلة المعرض ..... ووضعت كلمة النهاية .....
لذا كان عليه الرحيل بآخر ما يمتلكه من كبرياء ......
لم يتخيل أبدا أن يستطيع فعلها ..... أن يطلقها و دون حتى أن يمتلك الجرأة على النظر الى عينيها .....
لكن وعد علمته الإنسحاب حين لا يكون له مكان بعد الآن ......
ليعود الى مكانه الذي تركه بكل انانية ...... الى بيته ..... شقيقتيه ووالدته .....
و الذي كان يوما ما سندا لهن ..... لدرجةٍ جعلته ينبذ الماضي بكل آلامه كي يركز على حمله الثقيل في الحياة بعد وفاة والده ...... فأصبح لهن الأب قبل الأخ و الإبن
لكن وعد دخلت حياته فأعادته بكل قوة للماضي .... مضيفة حبها الى المزيج البائس .....
حتى غاب عن تلك الحياة الطويلة التي بناها بأصابعه و أظافره ....

ليلة المعرض و بعد أن نال منها الضربة الأخيرة لكرامته و الطاعنة لحبه .......
عاد لبيته مهزوما .... محنى الكتفين و ممزق القلب .......
شعر فجأة حين اندفعت اليه كل من والدته وورد بأنه لم يراهما منذ سنواتٍ طويلة ..... طويلة جدا .....
بينما هو في الواقع لم يتركهما سوى لأيامٍ قلائل .... لكن منذ دخول وعد الى حياته وهو يبتعد و يبتعد ... و ينغمس في دائرة لا فرار منها .....
كان واقفا يضم أمه اليه ...... وهو ينظر الى ورد بصمت شارد .... ينظر الى ملامحها الجامدة .... و عينيها اللتي تشبه عيون النمور و التي كانت متعبة .... و .... يائسة ......
كان شكلها أكبر من سنها .... أول مرة يراوده هذا الشعور وهو ينظر اليها صامتا ....
و تسائل بنفسه ..... كم عمرها كي يزيده بالتأجيل فيما يخص أمر خطبتها يوما بعد يوم ؟!!!!!
هل كان أنانيا الى تلك الدرجة ؟!!!!
أغمض عينيه حينها لحظات ....قبل أن يتسائل بخفوت بداخله
" أين كنت يا سيف ؟!!! ....... أين ابتعدت طويلا عن الحياة الطويلة التي شقيت بها الى أن بنيت ما بنيته !! "
أفاق سيف من أفكاره وهو ينظر مرة أخيرة الى بيت وعد ...... قبل أن تتصلب ملامحه و ينتفخ صدره ... ليوصد الباب خلفه ..... و يوصد قلبه بقوةٍ على هذا الماضي .... ماضيه مع وعد .....
.................................................. .................................................. ...................
طرق سيف الباب .... قبل أن يسمع صوت ورد يأتيه بجمود .....
ففتح الباب و دخل ..... توقف لحظة , ينظر اليها و هي تجلس على سريرها ... متربعة تقرأ بكتاب بينما شعرها مجموع خلف وجهها تشده بكل قوة ... مما زاد وجهها حدة .....
رفعت وجهها اليه و هي تراه واقفا ينظر اليها بشرود .... فقالت بحيرة
( لماذا تقف هكذا ؟!! ......... )
ابتسم قليلا دون مرح وهو يقول بخفوت
( أنظر اليك ....... ممنوع ؟!! ..... )
قالت ورد بفتور و هي ترفع حاجبا غير مرتاح .....
( منذ متى تحب النظر الي ؟!! ......... )
ابتسم أكثر قليلا وهو يقترب منها ببطىء الى أن جلس بجوارها على حافة السرير .... مائلا الى الأمام
يستند بمرفقيه الى ركبتيه .... يشبك أصابعه و ينظر اليهم ........
ظلت ورد تنظر اليه بصمت طويلا .... قبل أن تترك الكتاب بجوارها و تستقيم قليلا قائلة
( خير اللهم اجعله خير ...... فاجئني ..... )
لم ينظر اليها سيف .... بل ظل ينظر الى أصابعه المشبكة طويلا .... ثم قال أخيرا بصوتٍ ميت
( لقد طلقت وعد اليوم ............ )
قفزت متوهجة الوجه فجأة .... عيناها تبرقان و هي لا تصدق ما سمعته للتو ..... لكن النظر الى وجهه كان أكبر تأكيدا على ما اخترق أذنها .... و دون وعي منها اطلقت أكبر زغرودة في حياتها .... بل الوحيدة على الإطلاق ......
انتفض سيف وهو ينظر اليها مذهولا .... غير مصدقا لما يسمعه ..... لا يكاد يصدق أنها أخته ورد التي تزغرد و كأنها عروس سعيدة .....
ضاقت عيناه بمشاعر منتفضة .... قاتمة .... بينما انقبض قلبه بشدة .....
و ما أن استطاع الكلام حتى صرخ هادرا
( ورد !!!! ...... توقفي ....... )
أخذت نفسا قويا و هي تحاول جاهدة السيطرة على فرحتها القوية .... ثم نظرت اليه تواجه عينيه بعينيها المتوهجتين .... فصرخت بسعادة لم تستطع أن تخفيها
( ماذا ؟!! .......... لقد استأصلت الشر من بيتنا أخيرا ......هل تلومني ؟؟!!!. )
ضاقت عيناه اكثر .... و انعقد حاجبيه اكثر و اكثر .....
ثم هدر بقوة و غضب
( الا تملكين بعضا من الشعور يا ورد ؟!! ........)
برقت عيناها بشر قليلا .... و هي تطالع عينيه , قبل ان تقول بهدوء
( الا أمتلك بعض من الشعور ؟!! ....... نعم أمتلك يا سيف ..... أمتلك كرها قديما لذلك الرجل الذي تسبب في مرض والدي و موته ... و سرقتنا .... و في النهاية اجبار أمنا على أن يمتلكها رجل آخر .... )
صمتت قليلا و هي تلهث من شدة الحقد ...... ثم رفعت يدها الى أذنها و هي تقول بصوت مشدود متألم
( أما عن اصابتي فأتنازل عن ذكرها ..... فهي لا تقارن بباقي الضرر الذي تسبب به .... )
نظر أمامه وهو يحاول أن يلغي ذكرى مريرة من عقله ..... ثم قال بصوتٍ ميت
( و ما ذنبها وعد ؟!! ....... لماذا تكرهينها حتى تتشفين بطلاقها لهذه الدرجة ؟!! .......)
صمتت قليلا و هي تراه غريب الشكل .... قاتم العينين .... ولوهلة شعرت بأن الخطوط قد ازدادت حول زاويتي فمه ..... أنه يتألم .... و بشدة .....
تسائلت ورد عن ذلك الحب ..... و تسائلت بجنون لماذا تشعر بشعور غريب ... يختلف عن الكره و الحقد المرير .... شعور يشبه الغيرة .....
تغار بشدة من تلك العلاقة الغريبة بين سيف ووعد ..... التي تكاد تكون سحرا ... رمته وعد من حوله و أسرته بها ......
لقد ضاعت أجمل سنوات عمرها .... و لم تجد مثل تلك العلاقة ......
الا أنها هزت رأسها قليلا من تلك الأفكار المجنونة .... و قالت بخفوت
( لماذا طلقتها اذن ؟!! ..............)
رفع وجهه ينظر اليها بصمت دون جواب ..... فقالت بفتور واثق
( لأنها آذتك ..... ليست مرة ... و لا مرتين ....... و قد حذرناك كلنا من قبل ..... لكنك لم تستمع الينا ...)
قال سيف بصوت خافت
(سعيدة لما أصابني يا ورد ؟!! ........)
اتسعت عيناها فجأة و فغرت شفتيها .... توقفت كل مشاعرها في لحظة واحدة و هي تنظر الى مبلغ ألمه ....
فقالت بصوت باهت
( أنا يا سيف ؟!!! ....... )
أطرقت بوجهها قليلا و هي تتنهد بألم .... قبل أن تعاود النظر اليه بصمت ثم قالت
( ما فائدة الكلام الآن ؟!! ..... ألم تطلقها عن اقتناع ؟!! ..... لماذا تعاود الى القاء اللوم على الجميع اذن ؟!!)
زفر سيف بقوة و هو يرفع يده الى جبهته .... ثم أغمض عينيه وهو يقول بصوتٍ أجوف متألم
( أنا أحبها يا ورد ...........و حبها يؤلمني .... بشدة ... )
سكنت ورد مكانها تماما .... و هبط كتفاها و هي تنظر اليه بصدمة ... فاغرة شفتيها قليلا ... قبل أن تقول بخفوت و رهبة
( ياللهي !!! ........... )
اقتربت منه على ركبتيها الى أن صارت ملاصقة له ... فضمت كتفيه اليها قبل أن تريح رأسه الى كتفها و تمشط شعره قليلا قائلة بصوتٍ جاف
( من تكون تلك التي تخذلك لتلك الدرجة ؟!! ........ )
قال سيف بصوتٍ أجوف غريب
( و أنا أيضا خذلتها من قبل ...... كثيرا ..... )
تنهدت ورد و هي تريح جبهتها الى رأسه قائلة بهدوء
( على الأقل كانت لديك الرغبة لتقييدها بك مهما بلغت كارثية العلاقة بينكما .... لو أحبتك يوما , لتمسكت بك على الرغم مما نالها منك .... مثلما فعلت أنت أكثر من مرة ..... )
رفع رأسه ينظر اليها بعينين مطعونتين ... قبل أن يقول بصوتٍ باهت
( اعترفتِ أخيرا بحبي لها ......... )
ابتسمت ورد ابتسامة شاحبة قليلا .... قبل أن تقول بخفوت
( يكفي أن أنظر الي عينيك الآن يا سيف ..... أنت تتألم لدرجة لم أرك عليها منذ وفاة والدي ..... )
التوى فمه قليلا .... محاولا الابتسام , الا أنه خسر أمام وجعه .... فقال بصوتٍ أجش
( ورد ...... وعدتها أن بيت عمتها سيبقى بيت عائلتها دائما , فهلا قبلتِ بذلك رجاءا ...... لقد انتهى زواجنا ... و لم يعد هناك خوفا من أي شيء ..... )
أظلمت عيناها و هي تزم شفتيها بيأس ...ثم هتفت بقوة
( هذا ما تظنه أنت ........ لا تترك لعلاقتكما أذيالا يا سيف .... كن حادا في بتر الطرف الذي يضعفك ... )
نهض سيف من مكانه بغضب وهو يقول بقوة
( إنها ابنة خالي مهما حدث يا ورد ..... و لن أكون من الرجولة لو أغلقت باب بيتي في وجهها بعد وفاته ... إنها لا تمتلك أحدا ... بخلاف ملك ..... )
نهضت ورد من مكانها و هي تهتف بغضب
( حين طلبت مني رعاية ملك فعلت ذلك مرغمة ...... لأن لا حد لها ... خاصة بعد تفضل السيدة وعد بتركها و السفر بعيدا حتى حدث لها ما حدث .... لكن أن نهتم بوعد مجددا فهذا مستحيل .... انها لم تترك فردا في هذا البيت الا و تسببت في أذيته .... )
صرخ سيف وهو يلوح بذراعيه عاليا بغضب
( ونحن فعلنا المثل يا ورد ..... على الأقل نحن أسرة ... قوتنا أكبر .... لكنها كانت تحاربنا وحيدة ... ضعيفة ...... )
صرخت ورد في المقابل بغضب
( و لماذا كل تلك الحروب طالما أنك منحتها حبك ؟!!! ..... لكنها رفضته ..... رمته و داست عليه ..... )
صرخ سيف بوحشية مجنونة وهو يدور على عقبيه
( ليس صحيحا ....... إنها لم تحب رجلا غيري ........ إنها ...... )
صمت قليلا يلهث بقوة ... وهو ينظر الى ورد بيأس و غضب و عذاب ... ثم تابع بصوت ميت باهت
( إنها لا تريد ما يضعفها مجددا ...... و أنا لم أعد احتمل ما يريق كرامتي أكثر ..... )
تنهد بتعب وهو يقول بصوتٍ خافت
( و ليس هناك ما يوجع الرجل أكثر من زوجة رافضة ..... تكره حبها له في كل لحظة ..... نقطة نهاية السطر ..... )
صمت ينظر الى الأرض بوجهٍ شاحب ثم تابع بخفوت
( انتهى الأمر ....... كان حبا ضعيفا فانتهى .... سريعا ..... )
ضحكت بسخرية مريرة دون صوت و هي تنظر اليه .....
من يحاول أن يقنع المسكين الأحمق ؟!!! ...... الا يرى نفسه ؟!!! ..... يسمع صوته ؟!!! .......
لكنها لم تتكلم .... عله ينهي هذا الموضوع فيرتاح قليلا .... لكن هيهات
رفع سيف رأسه ينظر اليها طويلا ..... ثم قال بخفوت
( ورد ............ )
رفعت حاجبها عاليا ثم قالت بتشكك
( خير ؟!!!!!!!! .......... )
تنهد سيف بتعب قبل أن يقول بصوتٍ خشن مختنق
( لقد أخبرت وعد بخبر طلاقنا منذ قليل ....... لقد .... بدت متعبة جدا ..... و أنتِ تعلمين أن صحتها ليست على ما يرام ...... )
رفعت ورد حاجبيها أكثر و هي تقول بحذر
( و ؟!!!!!!! ............. )
تنهد سيف مرة أخرى حتى أوشكت أزرار قميصه على أن تتطاير دون شك ... لكنه قال بصوتٍ لا رجعة به
( أريدك أن تذهبي اليها صباحا ...... بأي حجة ..... أريد أن أعرف حالها و اطمئن عليها ..... أنا لن استطيع فعل ذلك بنفسي حاليا على الأقل ..... فلو رأيتها ل .........)
فغرت ورد شفتيها و هي تكمل العبارة عنه
( لتراجعت ......... اليس كذلك ؟!!! ...... ياللهي ماذا بها تلك الهزيلة نحيلة الكاحلين ... منحوتة الوجه جاحظة العينين .... ابنة عبد الحميد .... خريجة دور ال ....... )
كانت تلهث بغضب و هي تعدد عيوب وعد الا ان سيف هدر قائلا وهو يرفع سبابته محذرا
( اياك ان تكمليها يا ورد ....... اياك ...... تعرفين علم اليقين على من يقع الذنب .... وليس عبد الحميد وحده .......)
صمتت ورد تضغط على أسنانها بقوة .... بينما كان سيف ينظر اليها بغضب ... و بينهما حرب صامتة
أنهاها بأن قال مشددا على كل حرف
( و تعلمين أيضا ..... أنها جميلة ......... فلا تهيني جمالها أمام رجلٍ أحبها ......)
مطت شفتيها جانبا و هي تضع يدا فوق الأخرى لتقول بلهجةٍ ممطوطة
( يا حبيبي !!! .............)
قال مجددا بقسوة مختنقة رغم فظاظة نبرته
( ورد ..........)
لكنه صمت عن تهديده وهو يعلم انه يحتاج لها في خدمة جليلة .... فقال بصوتٍ متعب
( هلا ذهبتِ اليها يا ورد بأي حجة ....... هذا رجاء خاص مني .... أريد فقط التأكد بأنها بخير ..... )
زفرت ورد بشدة و هي تنظر اليه قائلة بغضب
( أنت تطلب المستحيل يا سيف ........... انظر اليك ... أخى الوحيد و تتعذب بسببها ... فكيف أستطيع الذهاب اليها للإطئنان على جنابها ؟!!! ...... أنا أكرهها .... صدقني ..... )
نظر اليها سيف بصمت طويلا ..... قبل أن يقول بصوتٍ خافت قوي
( أنا سأذهب اليها اذن ..... و لن اضطر للإنتظار حتى الصباح .... سأذهب اليها الآن ..... )
استدار ليخرج من الغرفة ... الا أن ورد هجمت عليه لتتشبث بذراعه و هي تهتف بغضب و قسوة
( انت تتحجج يا سيف ..... تريد فقط أن تراها .... أن تخر تحت سحرها مجددا .... تذكر رغبتها في الإنفصال عنك .... تذكر فضيحة قضية الخلع ..... الا تتحلى ببعض الكرامة ؟!! .... )
وقف سيف مكانه و نظر اليها بصمت .... فقالت بخفوت غريب عليها
( هل آلمتك بكلامي ؟؟............ )
قال سيف بصوت خشن صعب النبرات
( كلكمة في المعدة ......... )
قالت بقوة
( جيد ....... اذن تذكر كذلك سفرها دون اذن منك ....... )
اطرق سيف برأسه وهو يضع يديه في خصره .... يتنفس بصعوبة ... و كأن كل نفسٍ من انفاسه كان يشق صدره مخلفا جرحا غائرا .....
قال بخفوت اجش دون ان ينظر اليها
( هل ستذهبين ؟!!! ............... )
زفرت ورد بقوة و هي تنظر اليه ..... ثم قالت بغضب من بين اسنانها
( سأبحث عن حجةٍ مقيتة مثل صف أسنانها المعوج .......... )
رفع سيف وجهه ينظر اليها بغضب فقاطعته وهي تهتف
( و أقسم بالله لو أخبرتني أن أسنانها كصفي اللؤلؤ فلن أذهب ولو احتضرت مريحة العالم من وجودها ....)
لم ينطق سيف .... بل استدار معطيا ظهره الى ورد .... يغمض عينيه لبرهة ... وهو يهمس بداخله بألم
" ليتني قبلها .......فقط لا تنطقي كلمة الإحتضار تلك مقترنة باسمها .... . "
ظل مغمضا عينيه ... يديه بخصره .... يتنفس بقوة .... ثم قال أخيرا ما أن وجد صوته الخشن المجهد
( جيد ......... اجلسي اذن و اخبريني عما تعرفينه عن ملك و ما حدث لها ........ )
.................................................. .................................................. .....................
( علياء حامل .............)
شعرت كرمة فجأة و كأن الأصوات قد اختفت من حولهما ... فوقفت تنظر اليه بعدم فهم ...
تحاول استيعاب ما نطق به للتو بصوته الأجش البائس كمظهره ... فقالت بعدم فهم و هي ترمش بعينيها
( علياء ....... من ؟!!! ......)
هتف محمد وهو يلوح بذراعيه
( علياء يا كرمة ........زوجتي ......)
ظلت تنظر الى عينيه طويلا و كأنها لا تزال تحاول الفهم ... و كأنها تحولت الى غبية فجأة .... أو كأنها فقدت كل مقومات استيعابها ... فهمست
( ك ..... لماذا ..... أعني ... كيف ؟!! .......)
أسقط ذراعيه حتى ضربتا جزعه القوي بيأس وهو يهز رأسه بحركةٍ غير مفهومة ... بينما كانت ملامحه غريبة عنها تماما
و كأنه شخص غريب لم تعرفه قبلا .... هل هو حقا زوجها ... هل كان زوجها ؟!!!
هل غيرته ذقنه الغير حليقة حتى طالت ؟!! .... أم عيناه الحمراوان هما السبب
شعرت فجأة و كأن أفكارها تهذي في دوائر كي تبعدها عن المعلومة الأساسية
" علياء ..... علياء زوجته .... حامل بعد عشرة سنوات !!! .... "
فغرت فمها الجميل و المنحني بعدم فهم حزين .... تحاول النطق الا أنها لم تجد ما هو مناسب كي تنطق به ...
مالت شفتيها بسخرية مريرة ... قبل أن تهمس بخفوت
( مبارك يا محمد !!!!! .......... مبارك .... )
هتف بقوةٍ و يأس ... هتاف رجل يحتضر كوحش جريح
( كرمة !!!! ............ )
انتفضت و هي تسمع صرخة أنينه .... فرفعت وجهها اليه لتقول بعد اتزان
( ماذا ؟!!!! ........ ماذا تريد مني الآن يا محمد ؟!!! .... هل جئت هي تشفي غليلك بنقل الخبر لي ؟!! ... هل هذا سبب الحاحك في الإتصال بي ؟!!! ..... جيد ... لقد وصلت الرسالة ..... )
شعرت فجأة بأن الهواء يسحب من صدرها ببطىء فشعرت بحاجةٍ الى الجلوس و الا ستسقط بفعل هبوط في دورتها الدموية .....
ترنحت خطوة ... فسارع محمد الى امساك ذراعها ... الا أن ذلك كان كافيا كي تنتفض بقوة و تبعد كفه بقوة و هي تهتف غضبا
( اياك أن تلمسني يا محمد ......... ابتعد عن طريقي و عد الى زوجتك ..... و ابنك ... )
لم تدرك ان الكلمة الأخيرة خرجت من بين شفتيها متكسرةٍ باختناق ... فأسرعت لتطرق بوجهها الشاحب كالأموات و هي تسرع الخطا كي تتجاوزه ... الا أنه كان أسرع منها وهو يقف أمامها .. فرفعت رأسها تقول باختناق
( ابتعد عن طريقي يا محمد ..... أنت تتسبب لي في مشكلة قوية باحتجازك لي بهذا الشكل علنيا ... )
نظر اليها بعينين منحنيتين ووجهٍ مائل .... شاحب .....
ثم قال اخيرا بخفوت
( لم أكن أتخيل أن يأتي اليوم الذي لا يحق لي فيه أن أكلمك .... انظر اليك ..... أمسك يدك ..... لماذا يا كرمة ؟!! ..... لماذا ؟! ..... لماذا فعلتِ بنا هذا ؟!! .... )
اتسعت عيناها و ظهر الشر بهما و هي تصرخ بقوة
( أنا ؟!!! ....... أنا من فعلت بنا ذلك ؟!!! ...... أنا ....... )
صمتت تخنق باقي كلماتها و هي تشعر بالعالم يزداد قتامة أمام عينيها .... ثم رفعت ذقنها لتنظر اليه بقوةٍ على الرغم من اختناق صدرها و هي تقول حازمة
( ابتعد يا محمد بالله عليك ....... ابتعد عن طريقي ...... )
تحركت خطوة تبتعد عنه ... الا أنه استدار اليها يخاطب ظهرها فقال بقوة
( لن ترينني مجددا يا كرمة ..... لقد جئت كي أودعك ..... )
تسمرت مكانها و عقدت حاجبيها و هي تستشعر شيئا غريبا بنبرته ... فاستدارت اليه و هي تميل بوجهها ... ناظرة اليه بدقة .... تحاول فهم انطباعه للمرة الأولى ...
كان مثال البؤس .... صحيح كما رأته في اول لحظة ... لكن الآن بدأ قلبها يخبرها ان هناك امرٍ خاطىء ...
فقالت بفتور على الرغم من الألم الجارح في صدرها
( تودعني ! ........ تتكلم و كأنك .... راحل الى مكان بعيد ...... )
صمتت قليلا و هي تنظر اليه من بعيد على الرغم من قرب المسافة بينهما .... ثم قالت بصوتٍ أجوف
( هل ستأخذ معك ..... زوجتك ...... و تسافر ؟!! ..... )
جزء منها شعر بالخسارة ... و كأنها صداقة قديمة ستنفصم للأبد.... أقوى الصداقات على الإطلاق ....
تلك التي لم تحمل يوما أي نوع من التفاهم .... لكن حملت حبا حقيقيا ذات يوم ... جعل كلا منهما يضحي و يتنازل الى أن بدأ الحب في التصدع تحت ثقل الحمل المتزايد ......
تنهد محمد بتعب وهو ينظر اليها بعينين رجولتين تبكيان دون دموع ... ثم قال
( بل سأتركها و أرحل ........... )
رمشت كرمة بعينيها مرة ... قبل أن تقول بصوت غريب
( تتركها ؟!! ............ هل ستطلق زوجتك ؟!! ...... لماذا ؟!! ..... ألم تخبرني للتو أن حلم السنين قد تحقق و أنها تحمل بأحشائها طفل منك ؟! .... )
كانت تلك العبارة لتي نطقتها للتو مؤلمة بما يكفي .... شعرت و كأنها تقطع أحشائها هي ......
العجيب في الأمر أنها لم تشعر بالنشوى من احتمال تركه لزوجته ..... فشعور أن تلك الزوجة تحمل طفلا طغى على أي شعور آخر .... مرارة بدأت تتجرعها وصولا الى حلقها ببطىء .....
رمشت بعينيها مجددا و هي تهز رأسها لترفع وجهها الى محمد تنظر اليه طويلا .....
قبل أن تقول بخفوت جامد
( أنا لم أعد أفهم منك شيئا ........... )
أظلمت عينا محمد القاتمتين بحبٍ قديم تدركه بوضوح ..... نظرة عشق تسللت الى نظراته المطعونة ...
فنظرت بعيدا عن تلك العينين .... حينها قال محمد بصوتٍ مجهد
( أيمكنني أن أتكلم معك قليلا قبل ذهابي ....... )
نظرت اليه بقوة و هي تهتف
( مستحيل ......... ابتعد ارجوك يا محمد و عد الى زوجتك ... و حاول أن تسعد مع زوجتك بهذا الخبر ..... الرائع .... )
ابتلعت غصة في حلقها ... و حاولت تجاوزه كي تهرب الى بيتها علها تجد الخصوصية الكافية كي تنفجر بكاءا ....
الا أنه سد طريقها مجددا وهو يقول بقوة
( أرجوك يا كرمة ........... أحتاجك لدقائق .... فقط دقائق ضئيلة .... ربما كانت الأخيرة بيننا .... الا يستحق العمر الطويل بيننا تلك الدقائق ؟!! ....... )
ظلت كرمة تنظر اليه طويلا .... لم يكن يخادع .... بل كان منظره مخيفا .... كرجلٍ يحتضر .....
هل تمشي بببساطة و تغادره للأبد ؟!!..... هل تعطيه ظهرها و تبتعد ؟!! .....
لا تعلم لماذا تذكرت في تلك اللحظة .... يوم أن كانت جالسة على المقعد العام ... تبكي ... و معها حقيبة ملابسها المهترئة .....
يومها خرج أمامها من تحت الأرض كفارس ذو درعٍ حامي ..... و لم يتركها بعدها لمدة عشر سنوات ......
أفلا تمنحه بضع دقتائق ؟!! .....
زمت شفتيها بقوة ..... ثم نظرت في اتجاه المصرف على الجانب المقابل .... لو حدث أن رآها حاتم فستكون كارثة .... بل أن كلمة كارثة ستكون قليلة على ما سيحدث .....
أعادت نظرها الى محمدو هي تفكر
" قرري يا كرمة ...... هل تبتعدي .... ام تمنحيه بضع دقائق ؟!! ..... "
أعادت عينيها الى عيني محمد ..... ثم رفعت ذقنها لتقول بلهجة جامدة
( تعال معي ............. )
رقت عيناه بألم .... وللحظة ظنت ان عيناه قد ابتسمتا ابتسامة غارقةٍ بين امواج حزنٍ قاتم .....
لكنها تجاهلت كل اشاراته و سارت امامه .... الى ان عبرا الطريق الرئيسي .... بعد ان وقف جانبها للحظة و تلقائيا مد يده و كأنه ينوي ان يمسك يدها ليعبر بها الطريق كما كان يفعل من قبل ....
الا انها نظرت لكفه بصمت ... قبل ان ترفع عينيها اليه ... فانزل يده ببطىء وهو يدرك انها المرة الاولى التي يعبر معها الطريق دون ان يكون له الحق في الامساك بيدها ....
فاسرعت كرمة تعبر الطريق قبله جريا .... فتبعها محمد مجهد القلب و القوى ... حتى ان اكثر من سيارة اوشكت على ان تضربه وهو غير مباليا بالموت ....
وصلت كرمة الى سور البحر .... فوقفت تنظر الى أواجه المتلاطمة .... و الهواء يطير شعرها المتمواج ...
بينما وقف محمد خلفها .... ينظر اليها و كأنه يرسم لها صورة أخيرة
لتلك الطفلة التي كبرت على يديه هو .... قبل أن يتسبب في افلاتها فطارت منه للأبد ....
و كأنه كان حارسا يحرسها الى أن تذهب لمكانها الذي يليق بها ..... فأي عدل هذا ؟!! ....
تكلمت كرمة أخيرا ... بصوتٍ قوي النبرات ...
( دقائقك تنفذ يا محمد ........ )
قال محمد بصوتٍ مختنق
( الا تنظرين الي ........ ارجوكِ ...... )
استدارت كرمة اليه ببطء و هي تكتف ذراعيها ناظرة اليهِ بوجهٍ جامد الملامح ....
تنظر اليه و كأنما تراه للمرة الاولى .... و كم اختلف شعورها الان عن تلك التي هتفت الى وعد باسى بانها تريد ان تطمئن عليه و تواظب على السؤال عنه ....
شيء ما بداخلها وقع بشدة ما ان سمعت خبر حمل زوجته ......
لكنها نفضت افكارها و هي تقول بلهجة فاترة ...
( لماذا ستترك زوجتك و هي ....... حامل ؟!! ...... )
اطرق محمد بوجهه ينظر ارضا و انحنت كتفيه ..... قبل ن يقول بصوت اجوف غريب
( لست قادرا على التعامل مع الشك الذي نبع بداخلي ........ )
عقدت كرمة حاجبيها بحيرة .... و هي تقول بعدم فهم
( شك ؟!!! .......... )
سرعان ما بدأ انعقاد حاجبيها يزداد تدريجيا ... ثم ارتفعا بدهشة و الأدراك يحالفها سريعا .... فهتفت بذهول
( الشك ؟!!!!! .......... هل تشك أن زوجتك ت ....... )
صمتت فجأة و هي تنظر حولها ... ثم أعادت نظرها اليها و هي تتابع بذهول من بين أسنانها
( تخونك ؟!!! ............. )
رفع محمد عينيه اللذين يملأهما الخزي و قال بصوت متكسر وهو يرفع ذراعيه قليلا قائلا بصوت باهت
( عشر سنوات يا كرمة !! ...... عشر سنوات فقدت فيهم الأمل ..... و ما أن تزوجتها بأشهر حملت طفلا في أحشائها ..... )
فغرت شفتيها تنظر اليه و كأنها تنظر الى مختل عقليا .... ثم سرعان ما هتفت بقوة و هي تلوح بكفيها
( تبا لك ....... ياللهي ....... )
دارت حول نفسها بغضب ثم هتفت مجددا
( لا اصدق ما اسمعه منك ......... انت لن تتغير ابدا )
هتف محمد من خلفها بعذاب
( ماذا تتوقعين من الرجل غير ذلك ؟!! ........ )
عادت لتستدير اليه بقوة و هي تقول من بين اسنانها
( ان يكون رجلا يا محمد ........... )
أرجع رأسه قليلا و كأنها ضربته للتو .... لكنه كان أضعف من أن يجادل ...
فشراسة رجل يشعر بالخيانة تجعل منه ضعيفا ... متخاذلا .....
صمت قليلا ثم دار بعيدا عنها بظهر محني وهو يقول بعذاب
( لم أعرفها الا من أشهر قليلة يا كرمة . كيف لي أن أصدقها ؟!! .... بعد عشر سنوات من فقد الأمل .... )
ظلت تنظر اليه عدة لحظات عاقدة حاجبيها , بينما كان صدرها يغلي بغضبٍ بدا كبركانٍ ثائر ....
ثم قالت بقسوة و شدة
( و أنا لم اعرفها سوى للحظات ..... و لم تنتابني ولو ذرة شك ...... )
هتف محمد ينظر اليها
( لأنكِ لستِ رجلا يا كرمة ....... لا تعرفين كيف ينتابه الرعب في مثل تلك اللحظة .... )
كانت تنظر اليه صامتة تتأمله ثم قالت اخيرا بصوتٍ باهت
( ينتابه الرعب قبل الفرح .... قبل ان يخر ساجدا شكرا لله بعد كل تلك السنوات ... اي رجولةٍ تلك ؟!! ..... هوس الخيانة لديكم بات مقرفا ...... )
ادارت ظهرها له و هي غير قادرة على النظر اليه .... ثم قالت بجمود قاسي
( لقد دمرت عشرة عشر سنوات طويلة بيننا ..... لا لشيء سوى لاثبات تفوقك .... و انك قادر على تحطيمي ..... لم يكن لديك اي سبب مقنع لتدخل امرأة اخرى لحياتنا .... و الان بعد ان افسدت حياتي معك ... تتجرأ على المجىء الى هنا .. كي تودعني و تخبرني بكل بساطة انك ستتخلى عن ذلك الطفل الذي ضحيت من اجله بحياتنا معا حتى قبل ان تعرف عن احتمالية ذلك ....... )
ظل ينظر اليها طويلا .... لطالما كانت كرمة هي قبلته التى يستريح عندها مهما ابتعد عنها و آذاها ....
يطوف حائرا ... ثم يعود لأحضانها ...
الوحيدة التي لم يكن يخجل من أن يعري روحه و كرامته أمامها .....
و هي الوحيدة التي جاء اليها بسره المخزي ......
قال أخيرا بصوت كئيب
( لن أتخلى عن طفلي أبدا ..... لكن ليس قبل أن أتأكد .... و أنا لا يمكنني التأكد الآن .... )
لفت حول نفسها بجنون كي تواجهه و عيناها شرستان .. هائجتان ....
ثم هتفت بذهول عاقدة حاجبيها
( سترحل الى ان يحين وقت التأكد و اثبات انه طفلك ؟!!! .... ستتخلى عنها و هي في امس الحاجة اليك ثم تعود اليها بعد ان تضع طفلها ؟!! ..... و هل ستقبل بك حينها ؟! .... والله لو كنت مكانها لقذفتك بماءٍ كاوي قبل ان تتجرأ على لمس طفلي ...... )
صمتت تلهث من شدة الغضب ... بينما كان محمد مطرق الرأس ... يلهث هو الآخر دون ان يكون قادرا على المواجهة في حالته تلك ..... فقال بصوتٍ رجولي بائس
( ضعي نفسك مكاني يا كرمة ...... أنا اموت كل لحظة منذ ان سمعت الخبر منها .... اخشى أن أجني عليها و أصيبها بسوء في لحظة تهور ...... )
هزت رأسها بعدم تصديق و هي تنظر اليه بغضب ... ثم قالت بذهول خافت
( لهذه الدرجة أنت ضعيف ؟!! ....... لم أعهدك بهذا الضعف من قبل يا محمد !! .... )
قال دون أن ينظر الى عينيها المصدومتين فيه
( أي رجل مكاني كان ليكون بنفس الضعف يا كرمة ....... )
ظلت تتنفس بسرعة و هي تنظر اليه بغضب .... تريد ضربه بشدة حتى تؤلمه ألما يجعله يفيق من الغيبوبة البائسة التي يعيش بها ....
لكنها تمكنت من تهدئة نفسها قليلا .... قبل أن تقول بفتور
( هل سألت طبيبا عن الأمر ؟!! ..... هل أعدت التحاليل القديمة ؟!! ...... هل حاولت أي شيء على الإطلاق قبل تقرر الرحيل ؟!........... )
نظر اليها بعينين مثقلتين قبل ان يقول بصوتٍ واهي
( لم استطع .......اخشى الذهاب .. و اخشى اراقة المزيد من كرامتي امام الطبيب .... اخشى الاجابة .... و لن تكون تأكيدا قويا مهما قال الطبيب ان الامر بات محتملا ..... )
ضيقت كرمة عينيها و هي تهمس بغضب
( ياللهي !! ...... لو تعرف ما أشعر به الآن !! ...... لو تعلم كم ألومك على كل عشرتنا معا التي ضيعتها في سبيل لحظة كرامة زائفة من تلك التي تتكلم عنها الآن ........ )
صمتت قليلا و هي ترى بوضوح أنها قد آلمته بشدة و كأنها قد نثرت الملح على الجرح ....فأجبرت نفسها على الصمت ... لم تكن بمثل هذه السادية مهما بلغ غبائه و انانيته .....
لذا قالت بفتور و هي تعدل من حقيبتها
( اذهب للطبيب يا محمد ..... ربما يمنحك أملا يجعلك تصمد معها الى ان تتأكد حين يأتي الطفل .... )
قال محمد بعينين تنضحان الما
( و ماذا لو أكد لي الطبيب العكس ؟!!! ...... سأقتلها ...... لن يكون أمامي سوى الذهاب اليها و قتلها ... )
فغرت كرمة شفتيها بذهول و هي تهتف بعدم تصديق
( تقتلها ؟!! ..... هل هي دجاجة ؟!! ..... ماذا حدث لك ؟!! ... هل اصبت بالجنون تماما ؟!! .... )
هتف محمد بيأس و غضب
( لو تأكد لي انها خائنة .... لن استطيع الحياة بكرامة الا بعد ان اشعر بدمها على يدي .... )
هتفت كرمة بغضب ....
( نعم ..... انعم حينها بالحياة بكرامة خلف القضبان .....تبا لكل هذا الغباء و الجنون .... )
زفرت و هي تنظر الى البحر طويلا .... قبل ان تقول اخيرا بنبرةٍ جامدة
( لا تذهب يا محمد ........ لا تذهب للطبيب .... فقط ارحل ... فوجودك معها لم يعد السند و الأمان على أية حال .... )
قال محمد بصوتٍ كئيب
( صدقتِ شكي اذن ...... و خشيت ان اسمع نفس الجواب .... أرئيت يا كرمة أن معي الحق في رحيلي ...)
قالت كرمة بصوتٍ بارد كالجليد
( نعم يا محمد ...... معك الحق في الرحيل ........ اذهب )
اغمض عينيه طويلا على صورتها تعطيه ظهرها .... و شعرها يتطاير نحوه .....
ثم قال اخيرا بصوتٍ يصفر كرياحٍ باردة في مكانٍ مهجور
( قد لا أراكِ بعد الآن يا كرمة ........ لذا ...... أريد أن أخبرك ...... أن ... أنني لن أحب امرأة غيرك أبدا ... و أنا آسف .... لكل لحظة ألم عشتها بسببي .... و ها هو القدر يعيد اليكِ حقك و أتجرع أنا أضعافها الآن ...... )
أغمضت كرمة عينيها على ألمٍ حارق ... رفض دموعا غاضبة ... و اعادها لتنساب على قلبها .....
بينما تابع محمد بخفوت ... لمرةٍ واحدةٍ أخيرة
( وداعا ....... حبيبتي )
سمعت كرمة صوت خطواته تبتعد بسرعةٍ قبل أن يتراجع .....
ففتحت عينيها و هي تشهق آخذة نفسها قويا من هواء البحر .... حتى امتلأ به صدرها ...... لكنه لم يكن كافيا لمداواة الألم ...... لم يكن كافيا ابدا .....
.................................................. .................................................. ......................
تنهدت كرمة بتعب .... لقد اسرفت كثيرا اليوم فيما تفعله .... فلقد ذهبت للجامعة و انتهت من محاضراتها .... ثم خرجت منها الى فريدة ....
فاتفقتا على الخروج ... و ذهبت فريدة لتستعد و تبدل ملابسها ..... بينما بقت كرمة مع الصغيرة تلاعبها بصمت ... دون ان تجد القدرة على الضحك و الغناء ككل مرة .....
فأخذت تلاعب شعرها حتى نامت الصغيرة
فظلت كرمة تنظر اليها طويلا ....مستمرة في ملاعبة شعرها ...الى أن شعرت بفريدة خلفها فالتفتت اليها و هي تقف بقمة أناقتها استعدادا للخروج ....ثم همست بخفوت مبتسمة
( دعيها الآن يا كرمة ...... جليسة الأطفال ستتولى رعايتها أثناء نومها , هيا لنخرج ...... )
عادت كرمة لتنظر الى الصغيرة النائمة مجددا ... ثم أخذت تلامس وجنتها الناعمة بظاهر اصبعها ... قبل أن تقول بخفوت
( ملمسها يشبه ملمس ثمرة الدراق ......... )
ضحكت فريدة بصوت خافت و هي تقول
( احيانا أشعر أنني أريد أكلها بالفعل ....... )
نظرت كرمة الى فريدة و قالت بخفوت قلق
( فريدة ..... أنا دائما أسمي الله بداخلي و أنا ألاعبها ..... )
عقدت فريدة حاجبيها و هي تجلس بجوار كرمة على حافة السرير ثم قالت بخفوت
( ما فائدة اخباري بتلك الملحوظة الآن ؟!! ......... )
نظرت كرمة الى الصغيرة مجددا و قالت بخفوت حزين
( اخشى ان تخافين أن أحسدها .......... )
ارتفع حاجبي فريدة .... ثم قالت بصوت خافت لكن مندهش
( هل أنت حمقاء الى تلك الدرجة ؟!!! ..... حقا ؟!! ..... هل فعلت من قبل ما يجعلك تشكين في احتمال خوفي ولو للحظةٍ منكِ ؟!! ..... )
ظلت كرمة صامتة قليلا ... قبل ان تقول بخفوت
( انه قلب الأم .... و هذا أمر طبيعي ..... أنا فقط أخشى الا يكون لي الحق ذات يوم في حملها بين ذراعي ... )
عبست فريدة بشدة ... ثم قالت
(خذيها حبيبتي و أريحيني قليلا .... إنها أحيانا تكون كبوق سيارة الإسعاف لدرجة أنني أتمنى وضعها مع القطط خارج البت و تركها هناك الى أن تنتهي من وصلتها النغمية المعتادة ....... ماذا بك اليوم يا كرمة ؟!! ....... لماذا هذا الكلام الغريب ؟!! ..... )
قالت كرمة بفتور
( شقيقات زوجي السابق كن يخفن مني ...... يهمسن من خلفي .. يفردن كفوفهن في خمسةِ اصابع خلف ظهري كلما حملت احد اطفالهن ...... )
زمت فريدة شفتيها و هي تقول بغيظ
( و هل الكف المفرودة في خمس أصابع هي من ستحمي الأطفال ؟!! ..... جهل و تخلف ... لماذا تذكرين هذا الماضي الآن يا كرمة ؟!! ..... انسيه و اهتمي بحياتك مع حاتم ..... )
تنهدت كرمة و هي تقول بخفوت
( ماذا لو لم أستطع الإنجاب ؟! ...... أخشى أن يتركني يا فريدة ...... اموت رعبا من أن يتركني حاتم ..... أنا مؤخرا أشعر بأنني أحيا فوق لهيب ذلك الخطر ..... )
عقدت فريدة حاجبيها و هي تقول بقوة
( أولا حاتم عنده ابن ...... أي أنه لن يفتقد الأبوة بتلك الدرجة التي تخيفك , ثانيا و هو الأهم .... أنه يهيم عشقا بكِ .... و لن يتركك أبدا .... )
رفعت كرمة وجهها الى فريدة و هي تقول بأمل
( حقا يا فريدة ؟!! ....... أتظنين ذلك ؟!! ...... )
زمت فريدة شفتيها مجددا و هي تقول
( أنتِ غريبة جدا اليوم !!......... )
همست كرمة و هي تضغط عينيها
( ربما أنا فقط متعبة ...... و الأمور مختلطة لدي .... )
ابتسمت فريدة و هي تقول
( حسنا ..... هيا لنخرج و انا ساقوم بتعديل حالتك الغريبة تلك ...... )
ترددت كرمة قليلا ... ثم همست برجاء
( فريدة ..... أشعر أنني لست بخير تماما .. هل يمكنني الراحة بجوار نغم قليلا ...... )
ربتت فريدة على ركبتها بلطف ... ثم قالت بخفوت مبتسمة
( حسنا لقد أفسدتِ خروجنا .... لكن خذي راحتك ... سأغلق لك الباب .... )
مالت كرمة تستلقي بجوار الصغيرة نغم ... حتى اصبح وجهيهما متواجهين ... فوضعت اصبعها في كفها الصغير المفرود ... حينها أطبقت الصغيرة كفها على اصبع كرمة تلقائيا .....
رفعت كرمة اصبع يدها الأخرى , و ثنته حتى لامست شفتي الصغيرة بمفصل اصبعها ... ففغرت شفتيها و أخذت تمصه بحركة روتينية ...
فغرت كرمة شفتيها هي الأخرى بذهول و هي تشعر بشعور غريب جدا ... دافىء جدا .... محبب لدرجة تأسر قلب .... فاذا كان هذا شعورها لمجرد أن وضعت اصبعها في فمها ... فكيف تكون الرضاعة ... حين تمنح الأم من روحها حبا لطفل صغير ... رقيق ... يعتمد عليها في غذاءه ....
مالت عينيها بحب و رقة رغم الحزن بهما ..... و طال بها النظر الى الصغيرة و هي تتخيل نفسها تحمل فتاة جميلة ... تشبه حاتم ... و محمد ....
ابتسمت كرمة و هي تتخيل محمد اخ اكبر شديد الوسامة ... بينما تتبعه اخته الجميلة في كل مكان ...
شعرت كرمة بنعاس فأغلقت عينيها على ذلك الحلم حتى راحت في سباتٍ عميق .... و الصغيرة لا تزال ترضع بإصبعها ......
.................................................. .................................................. ..................
زفر حاتم بقوة وهو يلجأ الى هاتف فريدة مجددا .... بعد أن يئس من أن ترد كرمة على اتصالاته بها ....
و ما أن ردت عليه و أخبرته أنها تنام في الغرفة مع نغم ....
شعر بغضب شديد ....
الآن تنام في بيت غريب !! ..... انها تتفن في استثارة غضبه بكل الأشكال الممكنة ...
انها تخرج من المصرف كي تذهب للجامعة ... ثم تخرج مع فريدة بشكل يومي .. و إن لم تفعل فتذهب الى وعد بالمعرض ....
ثم تعود اليه في وقت متأخر ..... وهو يحاول جاهدا تفهم حاجتها لتلك الإستقلالية ... يعرف أن الحياة التي تعيشها الآن هي النقيض من حياتها الأولى ... لذا يحاول جاهدا منحها المتع التي كانت محرومة منها من قبل ...
لكنها تزيد في اثارة غضبه بدلالها المتضاعف كل يوم ... و ها هي اليوم تتأخر لا لشيء سوى لتنام في بيت غريب بدلا من أن تأتي الى بيتها و تنام به ....
ألقى الهاتف بقوة وهو يزفر بغضب ....
ونهض من مكانه لينظر من النافذة الى المساء الذي بدأ في اسدال ظلامه .....
ابتسم قليلا باستياء ... حسنا أنه يتحول الى مجنون قليلا .. ربما بسبب اعترافها المفاجىء له بالحب !! ...
لا ... ليس في الواقع ...
قبل هذا بكثير .... اعترافها فقط زاده جنونا .....
لو ترك له حرية الإختيار لأغلق عليها الابواب ... و لازمها ليل نهار حتى يتمكن من التسرب اليها ... و معرفة ما بداخل رأسها المغلق بألف مفتاح ....
زفر بقوة و هو يستدير بغضب ... لا يملك الآن سوى انتظار السيدة حتى تأتي .... فلو ذهب اليها الآن فسيحرجها علنا أمام فريدة ... فهو غاضب و بشدة .... و لن يتمكن من السيطرة على نفسه ...
عاد ليتأفف مجددا ... لا يصدق أنه ينتظرها هنا في البيت الى أن تستيقظ من نومها في بيتٍ آخر
حتى حين طلب من فريدة أن توقظها ... و تأمرها أن تعود للبيت حالا رفضت بصرامة و أمرته هو أن يأتي لو يحب .... فكرمة ستظل نائمة معززة مكرمة ....
مر الوقت بطيئا ... وهو يجلس بخفوت يراقب ساعة الحائط ....
الى أن سمع صوت المفتاح في باب الشقة ....
فأمال وجهه قليلا ... ينتظر دخولها حتى يصب عليها طوفان غضبه الذي تحمله حتى الآن لساعاتٍ طويلة ...
دخلت كرمة البيت مساءا .... منهكة القوى ...
تجر حقيبتها التي كادت أن تلامس الأرض دون اهتمام بغلو ثمنها .....
الآن عرفت سبب تعبها .... دون ذكر ما حدث مع محمد .. و كأنها كارثة من زمن سحيق ....
لكن اضافة الى ذلك ... شعرت بآلامها الشهرية المعتادة ...
لقد انتابتها مرتين هذا الشهر !!! ... من شدة الضغط و التوتر ...
رفعت وجهها لتنظر الى المرآة المعلقة بجوار الباب ... فهالها شحوبه الشديد و زرقة شفتيها ...
لكنها ابتسمت بسخرية حزينة و هي تخاطب نفسها قائلة
( مرتين ؟!! ..... لا احتاج لتأكيد أكبر من ذلك على عدم وجود حمل .....و صلتني الرسالة .. )
جرت نفسها بألم و تعب الى الداخل .... لكنها توقفت على منظر حاتم الجالس في انتظارها ... مكتفا ذراعيه ... مادا ساقيه و مسترخي ظاهريا .... بينما استطاعت من النظر الى عينيه إدراك أنه ليس مسترخيا أبدا ...
لذا زفرت بقوة و بادرت قائلة بصوت مجهد
( حاتم رجاءا ..... اعفني من تحقيقك اليومي ...... )
نهض من مكانه فجأة و كأنما كانت عبارتها الشرارة لتفجير بركان غضبه .... فهدر بها و هي تستدير لتذهب الى غرفتها
( ابقي مكانك ........ )
وقفت كرمة مكانها دون أن تستدير اليه ... و أغمضت عينيها بتعب ... لكنها قالت بفتور
( حسنا ...... المزيد من الصراخ و الصوت العالي ... )
كانت تشعل غضبه أكثر و أكثر .... فهدر مجددا
( انظري الي حين اخاطبك ......... )
زمت شفتيها بغضب , الا انها استدارت اليه ببطىء ... تنظر له بصمت و بلادة تعبير مما اثار حفيظته .. فأخذ نفسا مرتجفا محاولا الكلام بهدوء ثم قال بصوت بارد .... آلمها اكثر من صراخه
( حين خرجت من المصرف .... كانت وجهتك للجامعة .... هذا ما اتفقنا عليه و لم تخبريني انكِ ستخرجين مع فريدة اليوم .... مجددا .... و الأدهى أنكِ لم تخرجي حتى ... بل ذهبتِ للنوم عندها و كأنك تحتاجين مكانٍ لهذا !!!! ..... )
رفعت عينيها لأعلى بصبر ... ثم نظرت اليه تتنهد بتعب و قالت بصوتٍ مجهد
( لم ادرك انني يجب ان اسجل لك حرفيا وجهتي .. حتى لو حدث اي تغيير طفيف في برنامجي اليومي .... )
هدر حاتم صارخا
( و هل نومك في بيوت الناس يعد تغييرا طفيفا ؟!! ..... الم يخطر ببالك ولو للحظة احتمال أن يكونا متضايقين لكن احرجا من اظهار ذلك لكِ ؟!! ....... )
ارتبكت كرمة قليلا ... و توتر لون بشرتها ... لكنها قالت بحرج
( زوجها لم يكن في البيت اصلا ......... )
قال حاتم بعنف
( و ما ادراكِ الا يكون سبب تأخر عودته هو وجودك في البيت كي لا يحرجك ؟!! ..... )
ارتبكت كرمة اكثر .... فأخفضت وجهها و هي بالفعل تدرك انها لم تفكر في هذا الاحتمال .... لقد تصرفت بعفوية ...
رق قلبه قليلا حين لاحظ اربتباكها ... و علم انه احرجها بشدة ...
لكنه عاد و قسى قلبه قليلا ... فلقد تمادت كثيرا , فتابع بصوتٍ أكثر صرامة
( من اليوم يا كرمة لن يكون هناك خروج كل يوم ..... هذا الوضع لا يناسبني و لا يلائم طبعي ... )
رفعت وجهها اليه بصدمة .... و هي تراه متحكما متسلطا للمرة الأولى و ليس ذلك المتملك العاطفي , فقالت بلهجة جامدة
( هل هذا أمر ؟!! ..... و أنا أيضا لا أقبل بهذا التحكم يا حاتم .... لا يلائم سني و لا مركزي )
لم تتغير ملامحه كثيرا ... لكنها تجمدت بوضوح .. و تصلبت نظراته وهو ينظر اليها ...
و فجأة قال بصوت أكثر جمودا
( سنك و مركزك !! ....... مركزك الوحيد الذي اعترف به يا كرمة هو زوجتي ... و أظن أنه عليك البدىء في الاعتراف به بشكل أكثر احتراما ..... )
استدارت عنه و هي تقول بملل
( ها قد عدنا لنفس النبرة ...... يؤسفني أن أخبرك يا حاتم أن لا قوة لدي حاليا كي أجادلك ... لكن خلاصة القول أنني لم أعتد تقديم تقرير بكل تحركاتي ..... )
سارت عدة خطوات تنوي فض هذا الخلاف بالقوة .... الا أن صوته اندفع من خلفها يقول بنبرةٍ صادمة
( لم تعتادي تقديم تقرير !! ....... ليس هذا حقيقيا يا كرمة .... كنتِ تقدمين أكثر من تقرير و اثبات ... )
تسمرت مكانها و اتسعت عيناها قليلا ...
و فغرت شفتيها للحظة .... قبل أن تقول بصوتٍ ميت
( لم أتخيل أن تذكر ذلك يوما يا حاتم .......... )
ثم تركته لتسرع لغرفتها و هي غير قادرة على المزيد من التناطح بتلك الصورة المخزية ....
بينما وقف حاتم مكانه غاضبا منها ... و من نفسه قبلها ....
و مع ذلك لم يشعر بالندم كثيرا .... فمدللته باتت تزيد في دلالها بدرجةٍ غير مقبولة ... تستهلك من طاقته و تركيزه ... و الى متى سيظل يدللها ؟!!
نظر بصمت في اتجاه غرفتهما .... ثم همس بصوتٍ أجش غاضب
( الى أن أن ينقضي آخر نفس بصدري ..... لكن لا ضرر من وضع بعض القوانين منذ اليوم ... )
.................................................. .................................................. ......................
خرجت كرمة من الحمام ... ملتفة بمنشفة كبيرة و هي مطرقة الرأس ....
لكنها توقفت مكانها و هي تراه مستلقيا على السرير ...
واضعا ذراعيه تحت رأسه ينتظرها ... فقالت بقسوة
( لو هذه اشارة الى أنك ستنام هنا .... فأنا اذن من سأنام في غرفة محمد .... )
قال حاتم بصلابة باردة ...
( لن يحدث هذا ..... فلا تحاولي حتى ..... )
قالت كرمة بغضب و استياء
( حسنا .... فليكن السرير لك ...... تمتع به ... )
تحركت في اتجاه الباب و حاولت فتحه ... الا أنها فوجئت به موصدا .. فالتفتت اليه مصدومة و هي تقول بصوت مذهول
( هل أغلقت الباب بالمفتاح ؟!! ....... حالة الهوس لديك تتزايد ... هل تدرك أنك تحتاج لعلاج ؟!! ... )
لم تهتز عضلة في وجه حاتم وهو يقول ببرود
( لو ظننتِ أن اللجوء للإهانة سيساعدك ففكري في طريقة أخرى ...... )
الا أن كرمة هتفت بغضب
( يبدو أنه اسلوبك أنت ........ أم نسيت ما اشجيت به مسامعي منذ لحظات ؟!! ... )
كان حاتم لا يزال مستلقيا .... واضعا ذراعيه تحت رأسه وهو يراقبها ... همجية ... ثائرة ... غاضبة ... و عيناها تبرقان بشررٍ حانق على الرغم من اجهادها الواضح
لا يصدق انه منذ لحظات ... تمكن من التلميح للماضي كي يوقفها عن التمادي في تصرفاتها
لكن عجبه الأساسي ... لم يكن بقدرته هو على النطق بما نطقه في هدوء تام .... بل العجب أنه يراها غاضبة ثائرة .... لكن ليست منكسرة !!!!!
بل على العكس لقد أثارت عبارته حفيظتها فأشعلت بها بعض الحياة لتبدد بها الإرهاق القوي الذي كان مرتسما على وجهها لحظة دخولها البيت
شيء بداخله كان يتوهج كبرعم يتفتح .... بدا غير نادما على التلميح للماضي وهو يراها غاضبة ... لا مهزومة ....
حتى ان شعورا لذيذا بدأ في الرفرفة بالقرب من معدته ....
لكن كل هذا لم يظهر على ملامحه الجامدة وهو ينظر اليها باشتهاءٍ أخفاه جيدا ... الى ان قاطعت أفكاره بقلة تهذيب و فظاظة
( افتح الباب ......... )
ظل صامتا عدة لحظات ... ثم قال ببرود
( تعالي الى هنا ........ )
برقت عيناها بغضب اكثر ... و اشتعل وجهها بدماءٍ حرة فأنعشه هذا و أثار شهيته أكثر و أكثر و هي تصرخ بحنق
( أنت تحلم .........افتح الباب .. )
الا أنه قال ببرود جليدي
( لا بأس من الأحلام ...... تعالي ... )
الا أنها هتفت و هي تضرب الأرض بقدمها
( افتح الباب يا حالا حاتم ....... )
ضحك بصوتٍ أجش ..... فزمت شفتيها بغضب أكبر
" لماذا تخطىء الكلام دائما أثناء غضبها !! .... هذا يجعلها خرقاء و يفقدها موقفها .. "
الا أنها زمت شفتيها كي تمنع نفسها عن ابتسامة حمقاء و هي تقول بصوتٍ متعب فعلا
( افتح الباب حالا يا حاتم ...... أنا أريد النوم بشدة ... )
الا انه رفع حاجبه ليقول ببرود
( هل ستنامين الساعة التاسعة ؟!! .... بعد نومك ثلاث ساعات متصلة في بيوت الناس !!... )
قالت كرمة بحنق و جنون الغيظ
( لا اصدق انك حسبت عدد الساعات !! ..... فهمنا يا سيدي انني ضايقت الناس معي و تصرفت بغباء .... هل انت راضٍ الآن ؟!! ..... افتح الباب ... انا متعبة ... )
قال حاتم بهدوء وهو لا يشعر بالرضا بعد
( يمكنك المجيء و النوم في سريرك من باب التغيير ....... أنا أنتظرك ... )
تأففت بقوة وهي تلوح بذراعيها لتقول بحدة
( حان دوري لأسألك ... بالله عليك هل ستنام أنت الساعة التاسعة ؟!! .... )
قال حاتم ببساطة
( طالما ستنامين ... فأنا سأنام ....... ليس لدي شيء أفضل لأفعله ..... )
تابعت من بين أسنانها بغضب
( أفضل من مراقبتي على ما اعتقد ...... )
صمتت قليلا و هي تنظر الى أعلى بيأس و تعب ... ثم قالت بفتور
( امنحني بعض الوقت لنفسي يا حاتم .... أرجووووووك ... لقد تعبت منك حقا .. )
آلمته عبارتها الأخيرة بشدة .... على الرغم من بساطتها .... لكنه لم يسمح لألمه بالظهور على ملامحه ... بل ظل ينظر اليها طويلا ببرود الى أن قال أخيرا بصوتٍ جامد
( كم من الوقت رأيتك اليوم ؟!!! ..... لو قمنا بتجميع ساعة الإفطار مع بعض الدقائق المتفرقة خلال العمل ... لن يكمل ذلك ثلاث ساعات خلال يومٍ بأكمله !!! .... هل وجودي بغيض لكِ الى هذه الدرجة ؟!! ... )
شعرت بألم في قلبها .... ألم حاد ... لا تشعر به الا حين تؤلمه بدون قصد .....
ربما فعلا لم يكادا يريا بعضهما سوى وقتٍ محدود اليوم ..... لكن ما مرت به مع محمد جعلها منهكة القوى ...
غاضبة ... ثائرة ..... لذلك كانت تحتاج لوقتٍ مع نفسها لتفكر في تقييم شعورها الجديد .... و الذي بدا مختلفا عن كل مشاعرها السابقة ....
كانت مطرقة الوجه ... تشعر بتأنيب الضمير ... جميلة و هي تتشبث بمنشفتها بتعب و قد بدأت تتساقط مظهرة أكثر مما يحتمل رؤيته ... بعد أن تعبت ذراعها من التشبث ....
مالت شفتيها في ابتسامة صغيرة ... متراجعة ... لا تريد الخروج كي تعاقبه على ما تفوه به منذ لحظات بغباء ...
فعقدت حاجبيها بقسوة زائفة ... لكنها قالت بخبث
( بالنسبة لدقائق العمل ..... ألم تكن كافية لك و أنت توشك على فقدان السيطرة على نفسك أكثر من مرة ؟!! .... )
ابتسم رغم عنه وهو يتذكر تلك اللحظات التي مال بها على سطح المكتب حتى استلقت عليه و كاد أن يسحبها معه الى عالم من التهور لم يعرفه قبلها ....
لولا أن استطاعت الفرار منه و تعديل طاقمها الكلاسيكي ... بتهور و ارتباك ... هاتفة أنها لن تدخل الى مكتبه مرة أخرى الى أن يتعلم الإنضباط ...
فقال ببساطة
( أنا عريس .... في شهر العسل ..... و هذا أمر متوقع ....)
زمت كرمة شفتيها و هي تقول بغضب
( شهر العسل انقضى منذ دهور ...... هل ستظل عريسا طوال العمر ؟!! )
قال بهدوء وهو يتمطى بأريحية
( هذا ما أنتويه .... هل لديك مانع ؟!! ..... )
زمت شفتيها و هي تنظر جانبا بنفاذ صبر .... و أوشكت على الصراخ به كي يفتح الباب .. الا أن الألم كان أقوى من قدرتها على المزيد من الهتاف ... فوضعت يدها على بطنها و هي تنحني قليلا .. و ملامحها تتأوه قليلا بصمت ....
عقد حاتم حاجبيه بشدة وهو يرى أنها لا تتلاعب به كالمعتاد ... بل وجهها الشاحب و شفتيها البيضاء كانا الدليل على أن هناك ما يؤلمها ...
فقفز من السرير وهو يتجه اليها الى أن أمسك بذراعها وهو يقول بقلق
( ماذا بكِ يا كرمة ؟!! ..... هل يؤلمك شيئ ما بجسدك ؟! .... )
زفرت كرمة بتعب و هي تهمس متألمة
( هل يمكنني البقاء وحدي قليلا يا حاتم ؟!! ...... الليلة ستكون حالتي غاية في السوء و لا أحبك أن تراني في هذا الوضع ..... )
أدرك ما بها ... فمنذ اسبوعين جائتها نفس الأعراض و عملت على التهرب منه و الإغلاق على نفسها كي لايراها ...و قد سمح لها نظرا لأنها المرة الأولى ... أما الليلة فلن يسمح لها ... فهي زوجته و عليها أن تدرك ذلك ...
و دون كلمة انحنى ليرفعها بين ذراعيه .... و كأنها لا تزن شيئا , فهتفت بغضب على الرغم من تأوهها ألما
( حاتم أرجوك .... اتركني قليلا ..... )
الا أنه لم يستمع اليها ... وهو يتجه بها الى السرير .... و ما أن رفع طرف الغطاء و مددها أسفله حتى رفعت وجهها اليه تقول بغضب
( لن يحدث شيء الليلة .... فلا تتأمل كثيرا ... )
ابتسم لوجهها بحنان ... فارتجفت شفتيها قليلا و أدركت أنها لا تزال تتعلق بعنقه على الرغم من انه وضعها على السرير ....
أخفض وجهه قليلا .. فتتبعت نظراته لتفاجىء بأن منشفتها قد انزاحت بجرأة .... مما جعل وجهها يزداد احمرارا بقوة .... فتركت عنقه بسرعة و اخذت ترفعها و تربطها مجددا و هي تشتمه دون كلمات مفهومة ..
لكنه ضحكت بخفوت ليجلس بجوارها على حافة السرير و أخذ يداعب شعرها وهو يتأملها مليا ....
ثم انحنى الى وجهها ليتبع قسماته بقبلاتٍ بدت كلمسات أوراق الورد ...
ارتعش قلبها بشدة خاصة حين وصل بشفتيه الى شفتيها ... فلامسهما مرة بعد مرة بحنان أرسل الدموع الى عينيها ... ثم همس فوقهما بصوتٍ أجش
( لا تخجلي من ذكر ما ينتابك يا كرمة ..... لا يعد هناك أي مجال للخجل بيننا .... أنتِ أصبحتِ جزء مني ... أحد أضلاعي ..... أتخجل أضلاعي مني ؟!! ..... كم مرة علي افهامك ذلك !!..... )
رفعت عينيها الدامعتين اليه .... ثم رفعت اصابع يدها الحرة لتتلمس شعره برقة .... بينما الأخرى لا تزال متشبثة بالمنشفة اللعينة .....
همست كرمة برقة تذيب الحجر ...
( لست خجلة ...... لكنني أختلف قليلا ... سأكون بأسوأ حالٍ قد تراه .... ظهري و ساقي ينبضان بألم رهيب و أعاني بما يشبه النزيف .... و معدتي تصرخ ألما ... فلا أتوقف عن التأوه طوال الليل .... بخلاف نوباتٍ رائعة خلابة من البكاء الهيستيري ...... هذا ما أخجل منه ..... )
داعب شعرها برفق .... وهو يعود و يخفض وجهه اليها يقبله و كأنه صائم منذ دهرٍ ... حتى أخذت شفتيها ترتعشان بقوة أكبر ... فانسابت دموعها و هي تغمض جفنيها مستسلمة لهذا السيل من الحنان ....
فهمست ترتجف بين ذراعيه ... و قد تركت المنشفة المختنقة أخيرا
( أخشى أن تشعر بالإحباط ....... )
همس من بين قبلاته المجنونة ....
( أنا بالفعل في غاية الإحباط ...... الا تراضيني قليلا كأم طيبة )
ابتسمت تضحك بتأوه على الرغم من دموعها .... و رفعت وجهها اليه , لكن قبل أن تقبله فعليا كانت نوبة ألم قد هاجمتها مجددا فتأوهت و هي تتركه لتنقلب على جانبها ... متكورة جنين متألم ....
عقد حاجبيه بشدة و هو ينظر اليها ... فقال بخفوت
( ابقي هنا ....... سأعود اليك سريعا .... إياك و محاولة الهروب ... )
هتفت بغضب من بين تأوهاتها و من بين أغطية الوسادة
( تبا يا حاتم ...... هل تراني قادرة على حك رأسي حتى .... كي أستطيع الهرب ..... تبا لهوسك ... )
ظل يلامس شعرها قليلا قبل أن يقول
( لن أعاقبك الآن .......... )
هتفت بجنون متألم
( جيد ............. )
تركها و خرج .... لكن ليس قبل أن ينظر اليها وهو يراها تتلوى قليلا ... فعقد حاجبيه من شدة تألمها ...
لكنه خرج ... بينما بقت كرمة مكانها تعتصر معدتها بتأوه .... لا تعلم إن كان جسديا أو أن أكثره نفسيا على الرغم من أنها معتادة هذا الألم منذ سنوات طويلة ....
عاد حاتم بعد فترة ... لكنها لم تنظر اليه ... فاستلقى بجوارها .. يحيط كتفيها بذراعه وهو يقول ...
( هل يمكنك الجلوس قليلا ؟؟ ........ )
قاومت كرمة و بدأت تستقيم بصعوبة و هي تستند الى ذراعه القوية ... فوجدته يحمل كوبا من مشروب ساخن تتصاعد أبخرته الناعمة ... فقال لها بخفوت
( اشربي هذا ..... سريحك ... لكن قبلا ابتلعي هذا القرص .... )
أخذته كرمة و ابتلعته بصمت و عيناها متعلقتين بوجهه .... ثم أخذت الكوب منه , الا أنه لم يتركه .. بل ظل ممسكا به تحت يديها كي لا تريقه على نفسها ...
و ما أن شربت نصفه .... حتى استدار ليضع الكوب .. ثم أخذ شيئا ما ... ليضعه تحت شقي المنشفة عند بطنها ... اتسعت عينا كرمة و هي تشعر بزجاجٍ ساخن على بطنها و هي تنام على جانبها .. بينما حاتم خلفها يحيطها بذراعه... و يضمها الى صدره بقوة ....
فنظرت لأسفل لتجده قد ملأ زجاجةٍ بماء ساخن ووضعها على معدتها المتشنجة ... و كم أراحها ذلك ..
بقت ساكنة قليلا و هي تشعر بشفتيه تلامسان أعلى شعرها برقةٍ كي تنام ....
وقد ساد بينهما صمتٍ دافيء .... لم تشأن أن تبدد راحته و جماله بعد تعب اليوم ..... لكنها قالت بخفوت بعد وقتٍ طويل و هي تستند بظهرها الى صدره براحة ...
( أين كنت منذ خمسة عشر عاما ؟!! ....... كنت أحتاجك و بشدة ..... )
ضحك بخفوت مثير ... الا أن شعورا عمقا انتشر في صدره ... مزيج من السعادة بسؤالها العفوي و حنان و شفقة .... فقال بهدوء مازح
( حسنا بما أني أكبرك بثماني سنوات .. فعلى الأرجح أنني كنت وقتها في بداية دراستي الجامعية .... و لم أكن أعلم أن هناك مراهقة صغيرة تتألم وحدها و في حاجة الى أحضاني و رعايتي ..... لو كنت أعلم لكن بحثت عنكِ حتى وجدتك ......الا يكن هناك من تساعدك لإجتياز هذا الألم ؟!! ... )
ابتسمت كرمة برقة و عيناها تلمعان بحنانٍ دافق ... ثم قالت
( لم يكن هناك من يتسع وقته وقته ليساعدنا حتىولو من باب المعرفة ..... كنا نستنتج وحدنا وفقا لما تمر به من هي أكبر منا ..... )
مد يده يربت على شعرها المتموج الطويل .... ليمر على كتفها المرمري الأبيض الناعم ....
فانحنى بشفتيه حتى قبل ذلك الكتف الغض وهو يهمس فوقه بصوتٍ أجش
( ليتني كنت معك وقتها .......... )
ضحكت و هي تهمس بخفوت
( كنت في الثانية عشر يا حاتم ..... أي أن مساعدتك تلك كانت تصنف وقتها كتصرف دنيء النوايا .... )
ضحك هو الآخر ثم همس بجدية بصوته الأجش الخشن
( كيف يمكنني ان انسيك الماضي ؟!! ..... بالله عليك اخبريني ...... )
ابتسمت كرمة و هي تقول بخفوت
( انت تبلي حسنا الآن ........... )
ضمها اليه اكثر .... فاغمضت عينيها بتعب ... وقالت بشدة و تحفظ
( حين لا تكون شديد التضييق علي ....... )
لم يحررها من بين ذراعيه ... لكنه قال بهدوء جدي
( و مع ذلك .... لن اتراجع عن امري بالنسبة لمسألة الخروج يوميا ..... هذا يكفي .... )
امتعضت بشدة دون ان تدير وجهها اليه ... بينما همست بخفوت
( آآآه بطني ......... )
شدد عليها قليلا ... مما جعلها تبتسم بإنتصار ... الا أنه قال بعد لحظة بنفس الهدوء المستفز
( تأوهي من الآن و حتى الصباح ...... انتهت المناقشة ... و دلالك سيدتي لست غافلا عنه .... )
رمشت كرمة بعينيها و هي تهمس بنعاس و براءة متثائبة
( الن تدللني مجددا سيدي ؟!! ....... و هل هانت عليك جاريتك المحبة !! ... )
عبس قليلا وهو يقول بجدية
( لا تنعتي نفسك بذلك .......... )
ابتسمت و هي تتثائب مجددا ... تتحرك و تندس بصدره أكثر حتى وجدت وضعا أكثر راحة ... فهمست و هي بين عالم اليقظة و النوم
( أحببت قولها الآن ...... أنا حرة ...... )
ابتسم قليلا وهو ينظر الى عينيها اللتين تنغلقان و هي تجاهد و تفتحهما بصعوبة .... من المؤكد أن الدواء قد أظهر نتيجته أخيرا بعد أن تلوت أمعائه تشاركها ألمها ... حتى أن جبينه نضحت ببعض قطرات العرق البارد ...
ثم قالت بخفوت
( مللت الخروج يا حاتم لدرجة النوم ...... من تلك التي تريد الخروج و لديها في البيت أجمل رجل في التاريخ .....)
اتسعت عيناه بصدمة وهو يسمع عبارتها العفوية في وصفه ... و كأنها تتكلم عن شيء منطقي بمنتهى الهدوء !!
هل حقا تراه كأجمل رجل ؟!! ..... لكن لماذا ليست سعيدة ؟!! ....
همس همسا أجشا ثائر العواطف و هو يلامس عنقها بأنفه .. يستنشق عطرها الأخاذ
( كرمة .......... )
الا أنه لم يسمع ردا لها .. فرفع رأسه ليجدها قد نامت أخيرا .... فزفر بإحباط وهو يبعد الزجاجة بعد أن بردت قليلا .. و دثرها جيدا كيلا تبرد ... ثم ظل ينظر اليها طويلا ... الى أن قال بهمسٍ يخجل العشق من عشقه
( التاريخ نقش حروف اسمك مرادف للجمال يا كرمة ..... فمن أكون أنا سوى خادم لجمالك وظيفته دلالك ....)نهضت كرمة في منتصف الليل بعد أن نالت كفايتها من النوم و شبعت ....
رمشت بعينيها و تمطت قليلا و هي تستشعر بشكر زوال الألم العنيف ..... أمالت وجهها تنظر الى حاتم النائم بجوارها ... و قد تراخت ذراعه من حولها ...
ظلت تتأمله طويلا ... ثم نهضت من تحت ذراعه ببطىء و هي تريد الإختلاء بنفسها قليلا بعد أن اطئنت الى نومه العميق ....
تنهدت براحة و سارعت لتنهض بإجهاد كي ترتدي بنطال قصير من الجينز لا يكاد يتجاوز فخذيها .. الا أنه كان يناسب ما ستقوم به .... و كنزة خفيفة صيفية وردية فضفاضة ...و رفعت شعرها بإهمال في كتلة فوضوية متناثرة ....
ثم سارت بخفة على أطراف اصابعها حتى وصلت الى الغرفة الخالية و التي لا تزال تحتوي على دلو الطلاء الوردي ....
مدت يدها تشعل الضوء ببطىء ... ثم وقفت مكانها تنظر في أرجاء الغرفة .....دون تعبير معين ...
ثم تقدمت في اتجاه الدلو ..... و جثت بجواره و فتحته ... ثم تناولت سكين التقليب الموضوعة بجواره على ورقة جرائد قديمة مع باقي الأدوات ....
فأخذت تقلب الطلاء ببطىء و هي تنظر الى موجاته الكثيفة بشرود ....
و خلال دقائق كانت تطلي أحد الجدران بصورة روتينية أخذت تتسارع قليلا و كأنها فنانة بوهيمية ....
سرعتها تزيد و تزيد .... و ذراعها يرتفع و يرتفع .... بينما صدرها يلهث قليلا ....
ثم همست بكبت من بين أسنانها دون تركيز و هي تعمل بهذه السرعة
( زوجته حامل !!! ...... بعد عشرة سنوات !!! ..... بعد أن باع عشرتنا ببساطة .... و هو صاحب العيب لا أنا ..... أنا من تحملت .... و اخفيت الأمر حتى عن نفسي ..... لأفاجأ الآن أن زوجته حامل بمعجزةٍ ما ....
أين عقابه ؟!! ...... اين عقابه ؟!! ..... سرعان ما سيتأكد أنها لم تخنه ... ثم يعيش سعيدا للأبد وهو يحمل الطفل الذي طالما تمناه ..... فأين عقابه ؟!!! .... اين عقابه ؟!!!!!!! .... )
كانت لهجتها تشتد ... و تخرج و كأنها لهيب ساخن ... لافح .....
لم تدرك حتى اليوم أنها كانت تنتظر عقابه و ندمه الى تلك الدرجة !! .... مع كل تمنياتها له بان تطمئن عليه دائما ... الا أنها اكتشفت اليوم فقط أنها كانت تتمنى عقابه و ندمه ..... لقد كسر كبريائها و حطم أنوثتها باختيار امرأة أخرى دون أن يكون له أي سبب مقنع !! ..... لقد أراق كبريائها كامرأة .... و دهسه بحذائه .....
صحيح انه يتألم لفراقها ....لكن ما أن يحمل طفله بين ذراعيه حتى ينتفي أي اعتبار آخر ...... و سيسعد للأبد .... بينما هي من ستعاقب و لن تحمل طفلا ربما ...
أخذت تتسارع حركاتها و هي ترفع ذراعها بالطلاء و هي تهمس بجنون و غضب و عدم فهم
( لماذا أنا لست حامل ؟!!! ...... لماذا أنا لست حامل ؟!!! ..... أنا لا أفهم ..... لماذا أنا لست حامل ؟!!! ......)
رمشت بعينيها و هي تلهث بجنون قائلة
( هل كنت أتخيل ؟!! ..... أكان العيب مني أنا وهو من كان يتحمل و يخفي الأمر عني ؟!!! .... لكن الطبيبة أكدت لي انني بخير !! ..... )
صمتت قليلا وهي تلهث بقوةٍ أكبر و تعمل كالمجنونة ....
كل كلامها الطيب مع وعد عن رغبتها في التواصل معه ... الإطمئنان عليه برقي و تحضر ... كان يخفي خلفه رغبة خفية في رؤية عقابه على اهداره لكرامتها كامرأة .....
أخذ صوتها يعلو قليلا بغيرة عمياء و غريزة ظمئانة ...... و هي تلهث و تعمل كالمجنونة.....
( لماذا أنا لست حامل ؟!!! ..... لماذا ؟!!! ...... أين العدل في ذلك ؟!! ..... )
صرخت فجأة و هي ترمي فرشاة الدهان على أقصى ارتفاع ذراعها الى آخر الغرفة
( لماذا أنا لست حااااامل حتى الآآآآآن ؟!!! ...... )
سقطت تجلس أرضا و هي ترفع ركبتيها الى صدرها ..... ثم ظللت جبهتها بكفيها و جلست تلهث بتعب ...
.................................................. .................................................. .................
انتفض حاتم على صوت صرخة بعيدة ....
ففتح عينيه و استقام جالسا يرهف السمع .... بنظرةٍ واحدة أدرك أن كرمة ليست بجواره ...
بدأ صدره ينبض بقلق وهو ينهض بسرعةٍ بحثا عنها ...
إنه متأكد أنه سمعها تصرخ .... خرج مسرعا من الغرفة و تلقائيا اتجه الى المطبخ ... ملاذها الوحيد في منتصف الليل ...
لكن هاله أن يجد الضوء مطفأ .....
فتحول قلقه رعبا ... و دار في خلده العديد من السيناريوهات .. بدئا من عودة ألمها ... و حتى تسلل أحد المجرمين الى داخل البيت !!
اندفع برعب وهو يقسم أن يقتلها بنفسه لو كانت لا تزال حية ....
و حين لمح الضوء من شق الباب الخاص بالغرفة الخالية ... أسرع اليه ليفتحه على مصرعيه ..
ثم توقف مكانه رافعا يده اللي صدره اللاهث .... و يده الأخرى تستند الى إطار الباب ... وهو يراقبها بجنون حانق ... تجلس أرضا ..... رافعة ركبتيها الى صدرها ... تظلل جبهتها بكفيها .... و .... تبكي بصوتٍ خافت رقيق !!! ...
زفر حاتم بحنقٍ شديد وهو يوشك على الإصابة بنوبةٍ قلبية ..
" تبا ..... لقد تصورها في لحظةٍ سوداء ملقاة أرضا و مذبوحة أو ....... "
أغمض عينيه وهو يهز رأسه قليلا مفكرا
" ماذا بك يا حاتم ؟! .... اهدأ .... على ما يبدو أنها قد أصابتك بعدوى الجنون و صدقت أمينة "
أغمض عينيه وهو يطرق بوجهه قليلا .. محاولا التهدئة من فزعه الذي أيقظه من النوم على صرختها ....
ثم رفع وجهه وفتح عينيه ينظر اليها بفتور ... قبل أن يقول بصوتٍ جامد
( ماذا بكِ يا مجنونة ؟!!! .... قسم بالله لقد اتضح لي أنه لا يفهم الا أمينة .... و قد صدقت نظرتها لك )
انتفضت كرمة مكانها و هي ترفع وجهها المحمر المتورم من البكاء ... لتنظر اليه و قد صدمها وجوده
فلجم لسانها و اتسعت عينيها بذعر ... محاولة تذكر بماذا صرخت ؟!!! .... و هل نطقت اسم محمد ؟!!
لا ينقصها الآن غضب حاتم لكي يصبه عليها ......
لكن بنظرةٍ واحدةٍ من عينيها المنتفختين اليه .... أدركت أنه كان هادىء الملامح ... تعلوها بعض الصرامة ... لكن بالتأكيد ليس العنف ....
لم تستطع كرمة الكلام لعدة لحظات .... بينما تولى حاتم الكلام وهو يستقيم ليدخل الى الغرفة ببطىء و عينيه لا تتحزحان عنها ....
( لماذا تبكين في هذه الساعة ؟!!! ......... وفري على نفسك هذا الدلال الزائف .... لن تأكلي الآن مهما بكيتِ .... )
ظلت كرمة مكانها أرضا .... تنظر اليه بعينيها المتسعتين الحمراوين و هي غير قادرة على الكلام ....
فقال حاتم مجددا بصوتٍ أكثر عاطفة و حنانا ... بينما ظللت شفتيه ابتسامة حنونة حزينة وهو يقف بجوارها يعلوها كالمارد
( لماذا تبكين يا مدللة حاتم ؟!!......... )
ابتلعت غصة في حلقها و هي تحاول النطق .... ثم همست أخيرا و هي تلوح بكفها بإشارة من كفها الرقيق تجاه الحائط المطلى حتى ثلاث أربعه .....
( آآآآآ ... لم تطال يدي نهاية الجدار ...... و أنت لم تحضر ..... سلما ...... ماذا من المفترض بي أن أفعل أنا الآن ؟!!! ..... ها ؟!!! ..... )
ارتفع حاجبي حاتم وهو يقف بجوارها صامتا .. مكتفا ذراعيه فوق صدره القوى العضلات و قد بدا منظره مهددا لها في تلك اللحظة .....
و بقى هكذا طويلا .... قبل أن يقول بصوت هادىء
( كرمة ...... لا اعتقد أنني قد شتمت امرأة في حياتي كلها ..... و بما أن لكِ السبق في هذا المضمار ... اسمحي لي بأن أخبرك أنكِ ...... معتوهة ..... )
مالت عينيها بحزن حقيقي و هي تخفض يدها و ووجهها بألم ..... و بدت كطفلة مسكينة صغيرة ....
فابتسم قبل أن تراه .... لكنه سارع بإخفاء ابتسامته وهو يقول بصرامة
( غدا أحضر لك سلما .... و لم يكن هناك داعيا لكي بوق سيارة الإسعاف الذي أطلقته منذ لحظات ....)
رفعت وجهها اليه وهي تهتف بغضب و قد تبللت عيناها بالدموع مجددا
(لو انتظرنا للغد سيجف النصف الذي طليته .... و سيبدو الحائط مبقعا ..... الا تمتلك عقلا مفكرا ولو للحظة ؟!!! ....)
رفع حاتم وجهه ينظر الى العمل الفني المرتسم على الجدار ... و الذي أقل ما يقال عنه هو انه مبشاعة مشوهة .... فقد طلت بالفرشاة في كل الإتجاهات ....
والله لو كانت تنوي رسم شمس كبيرة لما تمكنت من جعل أشعتها أكثر مهارة من تلك العشوائية التي طلت بها الجدار ....
استعاض حاتم الله في الجدار و الغرفة كلها و عقد العزم على استئجار عمال لطلائها من جديد .... و سيعمل على أن تدفع كرمة ثمن دلو طلاء جديد من راتبها ......
لكنه قال كاذبا كي يراضيها
( معك حق ...... و نحن لا نريد أفساد روعة ما انجزته حتى الآن .....)
صمت قليلا ينظر اليها بحب ... قبل أن يمد يده اليها قائلا بلهجة آمرة
( هاتي يدك .......)
نظرت الى يده المفرودة و الممتدة اليها .... قبل أن ترفع يدها لتضعها بكفه بتردد ... فجذبها بقوةٍ حتى أوقفها على قدميها أمامه دون أن يتخلى عن كفها ... الا أن عينيه نزلتا لتلامسان ساقيها المكتنزتين و المديدتين أمامه
فبرقت نظراته و هو يرى بقع الطلاء الوردية التي تناثرت فوقهما لتزيد من ورديتهما المحببة ....
رفع احدى حاجبيه ليقول بصرامة ...
( من أذن لك أن تلوثي هاتين الساقين ؟!!! ........ )
أطرقت كرمة بوجهها تنظر الي ساقيها ... ثم نظرت اليه مجددا و هي تقول بغضب طفولي
( اليستا ساقي أنا و انا حرة بهما ؟!! .........)
عقد حاجبيه وهو يقول بجدية
( بل ساقي أنا ............)
دار حولها وهو ينظر الي ساقيها باستياء .... الى أن وقف خلفها ... مرت لحظة شعرت بها بالتوجس ...
قبل أن تجده ينحني بسرعة ليدخل رأسه بين ساقيها .... ووجدت نفسها مرفوعة على كتفيه ... و ساقيها ترتاحان على صدره بينما هي تشهق هلعا .. هاتفة
( حاااااتم ..... أنزلني ..... أنزلني ..... سأصاب بالدوار )
الا انه ضحك بخفوت وهو يشعر بمتعة خالصة في حملها ... ثم قال وهو يسير بها الى الجدار المشوه
( لن تنزلي قبل أن تكملي عملك حبيبتي .......... اعتبريني سلمك )
نظرت كرمة الى الجدار و هي تشعر بنفسها ترتجف اثارة و سعادة .... ثم همست مبتسمة على الرغم من تورم عينيها و وجهها
( الفرشاة ملقاة على الأرض ...... أنزلني كي احضرها .... )
اتجه بها الى الفرشاة ... فظنت أنه سينزلها .... الا أنه انحنى القرفصاء وهو يحملها حتى أصبحت في متناول يدها .... و غمستها في الطلاء ... ثم عاد ليرتفع بها بسهولة .....
اتسعت عينا كرمة بذهول من قوته البدنية ... و هي تراه يقوم بهذه الحركة عدة مرات ... و كلما ارتفع بها أسرعت لتطلي الجدار ... بينما قلبها يخفق بقوة ....
و في احدى المرات ... و أثناء طلائها للجدار ... قالت بصوتٍ مبهور
( أنت قوي جدا !!! ........ تختلف عن مديري المكاتب عظيمي البطون ....)
ابتسم حاتم وهو يستمع الى مدحها المبهور ... بينما هو يشعر في نفس الوقت أنها اجمل مخلوقة على وجه الأرض ..... و من حسن حظه أنه يحملها فوق كتفيه ....
قالت كرمة متابعة بنفس الصوت المبهور الشارد و هي تتابع تلوين الحائط
( قوي و جميل ..... و شعرك جميل .....خانق قليلا ... لكن جمالك يعوض عن ذلك .... )
شعر بصدره يتضخم بقوة ... فقال بصوت أجش خشن
( كرمة ..... هل يمكنني أنزالك للحظة ؟؟ .....)
اتسعت عيناها برعب و هي تقول
( هل أنا ثقيلة عليك ؟!! ...... هل تعبت ؟!! .....)
قال حاتم بلهجة دافئة .... بل تحترق في الواقع
( أنت في وزن الريشة حبيبتي ....... سامحني يا الله على الكذبة ....)
عقدت كرمة حاجبيها و هي تضرب كتفيه قائلة بغيظ
(إياك و التعليق على وزني مجددا .........)
ضحك حاتم بقوةٍ ثم قال بعدها
( أريد أن أقبلك فقط سيدتي ........... )
أنزلها دون أن تسمح له و قبل أن تستطيع الكلام كان قد جذبها اليه وهو يرتوي من شوقه الذي لا ينضب لها أبدا .... و هو يهمس من بين شوقه المجنون .... من بين قبلةٍ مجنونةٍ و أخرى ....
( أحبك ....... أحبك ...... أحبك يا كرمة ..... أعشقك بكل جنونك .... و كآبتك .... و دلالك .... و جمالك )
كانت كرمة تائهة بين أمواج عشقه .... تحيا حبه .... تتنفس عشقه المجنون .... الى أن همست بإختناق بين شفتيه
( أريد أن ..... اتنفس ..... حبيبي .... أرجوك .... )
كادت كلمة حبيبي التي خرجت من بين شفتيه أن تذهب عقله ... فتحول الى مجنون يهذي و هي تختنق بين ذراعيه .. الى أن تراجع بها حتى التصقت بالجدار المطلي حديثا .... لكن أيا منهما لم يلحظ ذلك ... أو لم يهتما بالجدار .....
فقد تحولا الى زوج من العاشقين يجمعها الظمأ الى بعضهما ....
أصابعها تعبث بشعره بجنون ... و شفتيها تهمسان بقبلاته المجنونة و تتشكل معها بتناغم متكامل .....
و ما ان حرر شفتيها المنتفختين قليلا حتى يستطيع التنفس بصعوبةٍ و بلهاث ....
حتى كانت تسقط على صدره بتعب و هي تشاركه صعوبة التنفس ....
ابعدها حاتم عن الجدار ليتخلل شعرها باصابعه بقوةٍ حتى فك عقدته المرتخية ... و اخذ يمشطه بأصابعه وهو ينظر الي عينيها المأسورتين به ... عاقد الحاجبين من شدة ما يشعر به في تلك اللحظة ....
عاد ليضمها اليه بقوةٍ ... حتى دار بها ... فتعلقت به و هي تنظر من خلف كتفه الى آثار جسدها الذي انطبع على الطلاء الوردي اللين ....
شردت بتفكيرها اثناء انشغاله بعاطفته بها كطفلٍ متعلق بثوب امه .... بينما كانت هي تفكر في سلاطة لسانها قبل ان يستيقظ مباشرة .... لقد تجرأت على ما رزق به الله غيرها ....
اعمتها غيرتها السوداء .... فنسيت كل ما منحه لها هذا المخلوق الرائع ..... و الذي تحبه .... بقوة ...
رفعت يدها لتمشط شعره برقة و حنان ... حتى امالت وجهه الذي دفنه بتجويف عنقها .... و همست مغمضة عينيها
( احبك يا حاتم ..... و اتمنى ان احمل طفلا منك ..... اتمناه اكثر من اي شيء آخر ليبدد كل حزن الماضي ... و يروي صحراء جسدي المتعطش للأمومة ..... لكن لو لن يكون طفلك .... فلا أريده ... فقد حدث و أحببتك .... أحب ابنك .... لأنه يشبهك ...... أنا آسفة .... أنا آسفة .... سامحني حبيبي .... )
لم تكن تدري ان همسها الخافت قد تخلل أمواج عاطفته الجامحة ... فجعلته يسكن و يهدأ ... ليسمع كل حرف تنطق به ... و الذي هطل كماء المطر على أرضٍ جافة ... فأنبتت بها خضارا زاهيا ... براقا ....
رفع وجهه عنها ... ليتطلع الى عينيها الدامعتين .... لكن دموعها بدت هذه المرة و كأنها تبرق ببريقٍ غريبٍ عليها ....
عقد حاجبيه متأوها وهو يهمس مختنقا
( و تعتذرين ؟!! ...... ألم أقل أنك .... معتوهة ..... حبيبتي المعتوهة .... )
همست كرمة و هي تتعلق به بشدة و كأنه وسيلة نجاتها الوحيدة
( لو ظللت العمر كله اطلب منك السماح .... فلن يكفي ذلك لتبديد كل نكراني لما بين يدي من جمالٍ و حب ... احبك يا حاتم ..... )
تأوه حاتم بصوتٍ عالي وهو يضمها اليه بشدة الى ان رفعها عن الأرض و دار بها .... ثم همس بصوتٍ اجش
( بالله عليك يا كرمة .... هل من الضروري متابعة الطلاء الآن ؟!! ..... احتاجك ... أحتاجك بدرجةٍ موجعة مهلكة ..... )
ابتسمت كرمة و هي تلهث من شدة مشاعرها .... ثم همست برقة و عبث
( البقاء هنا أكثر أمانا يا حاتم ....... احملني أرجوك ... أحب ذلك ..... جدا ......... )
.................................................. .................................................. .....................
للمرة الثانية بذهول !!
صعدت ورد درجات السلم للطابق الأول حيث المعرض و هي لا تزال تشتم و تشتم و تشتم ...
إنها المرة الثانية التي يجبرها سيف على القدوم الى هنا كغنمة منقادة ...
و الأمر الذي لا يصدق أنها في المرتين تأتي بأمرٍ يخص التعيسة وعد ابنة عبد الحميد ....
كانت تحمل معها الصندوق الموسيقي السخيف الذي تركته ملك لديهم في البيت ... و الذي كان لا يفارقها ليل نهار
حتى في ساعات الليل المظلمة ... كانت ملك تفتح غطائه في الظلام و تستمع الى موسيقاه ... بينما ورد تغلي و تزبد تحت الوسادة الى أن انتفضت مرة صارخة بها
" اغلقي هذا الشيء .... لا أستطيع النوم "
كانت ملك نائمة على جانبها و الصندوق مفتوح أمام وجهها على الوسادة ... بينما دمعة صامتة منحدرة على وجنتها ... استطاعت ورد الشعور بها رغم الظلام ...
الا أن ملك حينها همست بكلمة " آسفة " بخفوت و هي تغلق الصندوق و تستدير الى جانبها الآخر
تأففت ورد و هي تشعر بنفس الغضب من نفسها تلك الليلة ...
لكن تعلق ملك بالصندوق كان تعلقا مرضيا ... و كان هذا يثير غضبها بشدة , فقد كانت تكره هذا الدلال الفارغ بكل صوره ....
لكنها وجدته حجة مواتية كي تأتيها به .... كي تطمئن على السيدة ... تبا لذلك ...
صعدت الدرجة قبل الأخيرة ., و كادت أن تدوس الأخيرة , الا أنها داست على الفراغ في غمرة غضبها , مما جعلها تتعثر و تسقط على ركبتها ....
أمسكت ورد حاجز السلم في اللحظة الاخيرة .... لكن هذا لم يمنع من سقوط الصندوق على السلالم أمامها متدحرجا .... بينما تأذت ركبتها قليلا ...
تأوهت بشدة ... الا أن تأوهها صمت و اتسعت عيناها و هي ترى الصندوق الملقى آخر السلم رأسا على عقب ....
فرفعت يدها الى وجنتها و هي تهمس بصدمة
( هل كان هذا صوت شيء كسر ؟!!! ..... أم أنني أتوهم ؟! .... )
سمعت صوتا رخيما يقول من خلفها متسليا
( لو لم يكن ذلك صوت احدى عظامك ..... فأعتقد آسفا أنكِ كسرتِ ما بداخل هذا الصندوق المسكين .... )
ارتفع حاجبيها بشدة مع سماعها لذلك الصوت ... ثم أغمضت عينيها و هي تهمس لنفسها بشيطانية
( لا يمكن أن تكون أنت .....إنه مجرد وهم لتكتمل قتامة هذا الموقف .... )
صدر الصوت الرخيم من خلفها مجددا بنبرةٍ أكثر تسلية
( يؤسفني اخبارك أنني بالفعل كنت الشاهد على سقطتك الأنيقة .....و لي عظيم الشرف .. . )
فتحت ورد عينيها ببطىء دون أن تستدير اليه .... و الا لكانت قتلته بنظرات عينيها الطائشة في تلك اللحظة ,
فقال يوسف مبتسما بعد عدة لحظات
( هل ستظلين جالسة عندك ؟! ....... )
قالت ورد من بين أسنانها التي كادت أن تتحطم من شدة ضغطها عليها
( أنتظر اختفاء وجودك البغيض ........ )
و كادت تجن و هي تسمعه يضحك بكل وقاحة و انعدام ذوق .... ثم قال ببساطة
( يؤسفني اذن أنك ستضطرين للإنتظار طويلا ..... فأنا أستنشق بعض الهواء هنا , و لا نية لدي للذهاب )
استدارت اليه بجنون و هي لا تزال جالسة على درجة السلم مكانها و صرخت
( أنت أكثر الأشخاص لزوجة و سماجة و انعداما للذوق ...... ياللهي انت غاية في ال .... )
صمتت فجأة و هي تعي منظره الذي انتقل في اشارة بطيئة متأخرة الى عقلها الغاضب ....
كان يقف عند اول درجة ... منحنيا يستند بذراعه الى سور السلم وهو يتأملها مبتسما ....
كان قميصه الأبيض مفتوحا حتى منتصف صدره ... مظهرا الكثير من جسده الرياضي البغيض ...
تبا , الا يمتلك جراما واحدا من الشحوم الزائدة !
بينما كان شعره يلمع بشدة ... و كأنه ريش غرابٍ اسود .... نعم إنه يشبه الغراب الأسود بالفعل ...
كانت قد نست نفسها و هي تتأمله بطريقة لم تعهدها بنفسها من قبل .... فلم تكن ممن يستهويهن تأمل الرجال ... مهما بلغت وسامتهم ! ....
رفع يوسف حاجبه وهو يقول ببساطة دون أن يفقد ابتسامته
(و أنتِ قليلة الأدب ........ )
حينها عادت نظراتها لتشتعل و هي تصرخ
( إنها ثالث مرة تشتمني بها ...... احترم نفسك .... )
قال لها ببساطة وهو يستقيم واقفا لينزل تلك الدرجة التي تجلس عليها ... ثم جلس بجوارها أمام عينيها المذهولتين ....
( هل الشتائم تعتبر حكرا لكِ فقط ؟!! .......... )
نظرت الى ساقيه العضليتين القريبتين من ساقيها ... فأبعدتهما الى آخر الجدار بقلق ..و هي تشعر بشمشاعر غريبة عليها... ومستفزة ....
فرفعت وجهها اليه تقول ببرودٍ حانق فظ
( من المفترض أن تكون سيدا مهذبا .......... )
رد عليها ببساطة وهدوء
( لا عزيزتي .... أنا اؤمن بالمساواة بين الرجل و المرأة بكل شيء ..... و مع ذلك , فأنا لم أساويكِ في سلاطة لسانك بعد .... لذا عليكِ أن تكوني ممتنة ..... )
كانت تنظر اليه و هي تتنفس بسرعةٍِ قليلا .... وجوده كان قريبا منها للغاية دون تهذيب أو مراعاة للوضع ... و مع ذلك كانت قوة تدفعها للبقاء دون القفز وقوفا و الابتعادا عنه ...
الا أنها هزت رأسها بقوةٍ و هي تقول بغضب
( لا تذكر لفظ عزيزتي ذلك مجددا ......... لست عزيزتك .... )
قال يوسف باستفزاز ...
( عزيزتي أنا حر بذكر لفظ عزيزتي كلما أردت و أينما أردت .... و أنتِ إن لم يعجبك لفظ عزيزتي يا عزيزتي فلتغادري كي لا تسمعيها .... عزيزتي .... )
زفرت ورد بضيق و هي تهتف بنفاذ صبر
( من ظلمك و خدعك ... و أوهمك بأنك خفيف الظل , طريف القفشات !! ..... )
رفع حاجبه وهو يقول بهدوء و رقي
( الحقيقة أنني نلت هذه الشهادة من عدد لا بأس به من الجنس الآخر .... الحقيقة أيضا أن معظم بنات جنسك يجدنني جذابا خفيف الظل ..... )
رفعت احدى حاجبيها و هي ترمقه بطرف عينيها ... ثم تمتمت بضيق شديد
( أنت اذن من ذلك النوع الساذج الذي يصدق كل كلمة تقال له .... كمعظم ابناء جنسك ... )
ابتسم مجددا وهو يقول
( آآه و ما هو نوع خطيبك اذن ؟! ..... هل يصدق كل كلمة لطيفة تخدعينه بها بفعل معجزةٍ ما , تحسن من شفرة لسانك ؟!! ...... )
انتفضت فجأة و هي تعبس بشدة .... محاولة التذكر علاقته بخطيبها ..... من هو خطيبها اصلا ؟!! ....
بينما تابع يوسف قائلا بهدوء وهو يرمق أصابع كفها
( بالمناسبة .... مبارك الخطبة ولو أنها أتت متأخرة .... كيف كان الفستان البرتقالي الذي يشبه برتقالة ماسخة لم تنضج بعد ..... هل نال اعجاب خطيبك ؟! .... لا عجب في ذلك فإن كان خطيبك من اختيارك , كما كان الفستان الماسخ من اختيارك كذلك فسيعجبه بالتأكيد....... )
كانت تنظر اليه بشبه ذهول و هي عاقدة حاجبيها ... بينما كان هو في غاية الهدوء , يتسامر معها كأنهما صديقين ... ثم قال متظاهرا بالدهشة البريئة
( لكن لماذا لا أرى خاتما باصبعك ؟!! ........ الايستحق الفستان البرتقالي خاتما يليق ببرتقاليته ؟! ... )
كانت البلادة مرتسمة على ملامح وجهها و هي تسمعه بصمت الى أن انتهى تماما ... ثم قالت أخيرا ببرود
( تم تأجيل الخطبة ...... فهلا كففت بعضا من ظرفك لأنني بدأت أصاب بالحساسية ! ..... )
تظاهر بالدهشة مجددا ... ثم قال ببساطة
( خسارة !........ لماذا تم التأجيل ؟! ..... ألم يكن سعيد الحظ متعجلا بما يكفي ؟! .... )
قالت بشدة ضاغطة على الأحرف
( تم التأجيل لأن أخي لم يكن موجودا ...... و أنت تعرف ذلك .... لكن لماذا أرد على أسئلتك من الأساس ؟! .... هل مجيئك بتلك اللحظة كان صدفة ؟! .... أنا لا أصدق كل تلك الصدف .... )
رد يوسف وهو يراقب انفعالها بتأمل
( الحقيقة ليست صدفة .... أنتِ للمرة الثانية تتواجدين عند باب المكان الذي أتواجد به بشكلٍ شبه يومي ... مما يجعلني أسألك نفس السؤال .... هل هذه صدفة ؟! .... أم تتعمدين لقائي ؟! ..... )
عقدت حاجبيها بشدة و هي تتحفز جسديا هاتفة بقوة و غضب
( ماذا ؟! .... من يتعمد لقاء من ؟!!! .... أنت آخر شخص أتمنى رؤيته ... بل مجرد أن ألمحه من بعيد ..... أنت .... أنت .... )
رفع يوسف يده وهو يقول بهدوء مستفز
( اهدئي ..... اهدئي .... حاولي أن تتخلصي من شخصية أخيك المسيطرة على طباعك و التقطي أنفاسك .... ربما لو اخذت بعضا من طبائع والدتك , لتعدل حالك في الحياة قليلا .... )
كانت بالفعل تتنفس بسرعة و غضب بدا و كأنه يخرج كلهيبٍ من عينيها النمرتين .... و ما ان استطاعت النطق اخيرا حتى صرخت بغضب
( كيف تجرؤ ؟!! ....... )
الا أن يوسف تجرأ بالفعل و سألها مباشرة وهو يتأمل ملامح وجهها الحادة ليعود الى عيني النمور الهائجة مجددا وهو يسألها باهتمام
( كم عمرك ؟........... )
اتسعت عيناها و ارتفع حاجباها ... و هي ترمقه بعدم تصديق ... ثم هتفت مجددا
( أنت عديم الذوق فعلا ....... محدود العقل .... )
رفع حاجبيه وهو يقول ببساطة
( أتعانين من رهاب العمر ككل أنثى قابلتها هنا ؟! ......)
تأففت ورد بقوة وهي تعيد خصلة من شعرها خلف أذنها ... الا أنها تذكرت السماعة خلفها , فارتجفت أصابعها و هي تترك تلك الخصلة لتنساب على وجهها و أذنها مجددا ... بينما كان هو يراقبها صامتا ...
ثم قال أخيرا بجدية
( لماذا أتيت اليوم ؟! ..........)
نظرت اليه بسرعة و هي تقول بمنتهى الوضوح
( و ما دخلك ؟! ........ من أنت أصلا كي تستجوبني ؟! .....)
الا ان يوسف قال بجدية أكبر
( حسنا .... لماذا لا تزال وعد هنا ؟! ...... كنت أظن أنها ستذهب مع سيف الى بيتهما بعد ليلة العرض ...)
ارتبكت ورد أمام سؤاله الجاد و نظراته المراقبة باهتمام ..... و تذكرت تصريحه الوقح في المرة السابقة بأنه يريد الزواج من وعد !! .....
فرفعت ذقنها و هي تقول ببرود
( لما لا تسألها ؟! ......... )
الا أنه لم يشعر بالإهانة أو حتى الحرج من الفضول ... بل قال بصوتٍ قاطع
( وعد ليست بحالةٍ تسمح لها بالكلام مؤخرا ..... و هذا ظاهر للجميع , و ها أنا أسألك أنت ... )
في حالٍ آخر كانت لتهاجم صلفه ... و تتجاهل بروده ... ثم تنهض و تتركه , الا أنها في لحظةٍ مجنونة شعرت بالفضول كي ترى ردة فعله على طلاق وعد .... فقالت ببرود و هي تنظر الى عينيه
( لقد طلق سيف وعد ........ )
لم تخدعها عيناها و هي تراقب عيني يوسف تتألقان فجأة و كأنهما زادتا بريقا ... بينما شعرت بجسده بجوارها يتصلب و يتأهب ... ففغر شفتيه قليلا بابتسامة غير مصدقة .. لم تلبث أن تحولت الى ضحكة خافتة .. مذهولة و حيوية ...
ثم قال بصوتٍ خافت مزدهر متوهج
( حقا ؟! ..........كنت قد فقدت الأمل !! )
شعرت بداخلها بنوعٍ من انقباض الصدر و هي تراقب ذلك الإهتمام و البريق الذي لا يمكن اغفاله ...
انقباض يشبه الغيرة .... الغيرة من وعد التي تنال كل هذا الإعجاب من حولها لسببٍ غير منطقي او معلوم ...
قال يوسف أخيرا و قد استعاد اتزانه سريعا ...
( و مادام سيف قد طلق وعد .... لماذا أنتِ هنا اليوم ؟! ..... )
ضاقت عيناها و هي تراقبه ... و مع ذلك لم تصرخ و لم تحتد ... بل قالت ببرود جليدي علها تجمد قلبه
( الا ترى أنك بالفعل تتجاوز حدودك ؟! .... )
استقام جالسا وهو يميل اليها قائلا بجدية
( اسمعي ... لقد حصل ما كنتِ تتمنينه ... و طلق أخاك وعد , فلما لا تجيبين ببساطة ؟! .... )
نظرت اليه بطرف عينيها ... ثم زمت شفتيها و هي تقول مرغمة
( يريد الإطمئنان عليها ..... و لا يريد المجيء بنفسه ..... )
كان يوسف يومىء برأسه وهو يقلب كلامها في عقله ... ثم قال بهدوء
( اذن سيظل يدور بمدارها ... كل يومٍ بحجة ..... )
صمت قليلا وهو ينظر أمامه ... بينما هي تتأمله خلسة .... بداخلها نفور غريب , .... نفور من رغبته بوعد الى تلك الدرجة ....
فقالت أخيرا بفتور و هي تقاوم خروج العبارة المرة كالعلقم و كأنها تبتلع فأرا ميتا
( ستظل ابنة ......خالنا ....... )
نظر اليها يوسف مندهشا ... ثم لم يلبث أن ضحك عاليا وهو يقول
( هل هذه الحجة التي سيتبعها اذن ؟! .. أخاك سيؤذي نفسه أكثر بتلك الطريقة , و أنت تساعدينه في ذلك ..... )
مطت شفتيها و هي تقول بامتعاض
( هل تريد أن تخبرني بأنك تشفق على سيف الآن ؟! ...... )
نظر الى عينيها و قال ببساطة
( و لا لذرة ...... أنا فقط اريد استغلال خوفك على أخيك ..... )
رفعت حاجبيها و هي تقول بفتور
( ما تلك الصراحة ؟!! .......... )
هز كتفيه وهو يقول
( الصراحة هي اقصر الطرق في نيل الإنسان لما يريده ...... أنت تريدين مصلحة أخيك ... و مصلحته تعتمد على ابتعاده عن دائرة وعد .... و ابتعاده سيكون نهائيا دون رجعة بزواجها ... )
صمت قليلا وهو ينظر اليها متابعا بابتسامة
( مني أنا ............. )
بهت وجه ورد ... و ذهبت الوانه .... و هي تتابع ذلك التألق الظاهر بعينيه ... ثم قالت بنفس الفتور
( سيف لن يسمح بذلك ...... لأنه يحبها .... أنت لا تعلم كيف يتصرف حيال ممتلكاته ... حتى لو قرر تحريرها ..... لكنه لن يتركها لغيره .... أبدا ... )
رفع يوسف حاجبه وهو يقول
( حيال ممتلكاته !!! ..... حتى بعد أن طلقها سيعتبرها احدى ممتلكاته المهملة ... يفضل أن يعلوها الغبار على أن تلمسها يد غير يده !!! ...... كم هذا رائع ....)
مال اليها فتراجعت قليلا و هي تشعر بالتوتر لكنه قال غير منتبها لتوترها و ارتباكها
( لكن الأمر سيظل قائما . اليوم ستأتين ... و غدا سيأتي هو ..... لذا لما لا نحاول مساعدة الجميع للأصلح )
نظرت اليه ورد و هي تقول ببرود
( و الأصلح للجميع هو أن تتزوجها ...... اليس كذلك ؟! .....)
ابتسم يوسف وهو يقول بثقة
( من المؤكد سيكون الأصلح لوعد ..... و لي .... و أنت تعلمين بقرار نفسك أنه الأصلح لأخيك )
شعرت ورد بطعم صدىء بحلقها ... لكنها كانت تنظر اليه بصمت , ثم قالت أخيرا ببرود
(؛ و ما هو دوري تحديدا ؟! .......)
فرد كفيه وهو يقول مبتسما
( لا شيء أكثر من نقل سعادة كل منهما للآخر ..... أخبريه أنها سعيدة مرتاحة .... راضية , تغزو العالم بعملها الناجح و لا وقت لديها للتفكير ..... و العكس .... أخبريها أنه بخير أخيرا ....)
ظلت تنظر اليه طويلا قبل أن تقول أخيرا بصوت لا حياة به
( أنت منعدم الضمير حقا !! ........)
ارتفع حاجبيه بدهشة وهو يقول بلهجة ذات مغزى
( متأكد أنك فعلت أفظع من ذلك سابقا في سبيل إبعادها عن حياتكم ......)
رفع ذقنه وهو يراقب توتر ملامحها و كره عينيها ... ثم قال متابعا مباشرة
( أخاك سيكون أول المستفيدين يا ورد .... و أنت ستضمنين أنها لن تعود اليكم مجددا ... هذا بالإضافة الى أنه ليس مطلوبا منكِ شيئا فعليا ..... )
ظلت ورد تنظر اليه بصمت .. بينما كانت ملامحها متبلدة ... و عيناها .... عيناها مرهقتان ببعض الظلال و الخطوط تحتهما ....
تلك الخطوط كانت الشيء الوحيد الذي يخفف من حدة شكل عينيها ... و يجعل منها أكثر هشاشة و انوثة ...
و شعر بداخله بما يشبه الذنب لأنه يقسو عليها بكلِ مرةٍ يراها بها .... لكن ماذا يفعل ؟!! ... هي التي تجبره على ذلك .... فلسانها سليط و روحها قاسية مؤذية ....
لذا حاول حاليا الإبتعاد عن هذا الموضوع و قرر تركه لعقلها كي تتناقش به مع نفسها على مهل ...
فقال مبتسما بلطف وهو يشير بذقنه الى نهاية السلم
( اذن ..... من كان الضحية التي استخدمتها كخدعة في القدوم الى هنا ؟! ....)
نظرت ورد الى الصندوق الملقى على رأسه في نهاية السلم بوجوم ... ثم قالت مكورة شفتيها
( إنه صندوق الموسيقى الخاص بملك .... كانت قد نسيته عندنا ....و هو ذو مكانة خاصة لديها .. )
ارتفع حاجباه بصدمة وهو يقول ببراءة مفتعلة
( ألم تجدي سوى ملك الصغيرة كي تنتقمي منها ؟! ...... )
انتفضت تنظر اليه بسرعة و غضب لتقول
( كان رغما عني .... لقد سقطت على السلم ... و التوى كاحلي ....)
عقد حاجبيه قليلا وهو ينظر الى كاحلها الذي بدأ يتورم بالفعل .... فقال باستياء
( لماذا لم تذكري هذا من قبل ؟! ...... هل يمكنك القيام بمفردك ؟! .... تعالي لأربطه لكِ ... )
لم يبد على ملامحها و كأنها سمعته من الأساس و هي تنظر اليه بازدراء ... ثم قالت ببرود
( نعم ..... لما لا تحملني كذلك ؟! ......... )
قال ببساطة ووضوح
( آسف .... أعتقد أنكِ أثقل من احتمال ظهري ... أنا أقارب الأربعين من العمر و لم أعد في كامل لياقتي .... ربما لو ظهرتِ منذ عشر سنوات لكنت قد حملتك ممتنا ..... )
مطت شفتيها و هي تقول من بين أسنانها
( خفة ظلك نادرة الوجود ....... اتمنى من الله أن يلتوي ظهرك بنفس التواء كاحلي و لا تستطيع حمل نفسك حتى ...... )
عقد حاجبيه وهو يقول بعجب
( ياللهي !! ....... انتِ فعلا شريرة ..... لا أعلم ممن ورثتِ أنتِ و أخيك مثل هذا الشر ؟! .... فأمك تبدو ملائكية الطبع ...... )
مطت شفتيها بسخرية و هي تقول
( لم يحالفك الحظ لرؤية خالي ......... )
حينها أرجع راسه للخلف يضحك بقوةٍ وهو يقول باختناق من شدة ضحكه
( لقد رأيته بالفعل رحمه الله ..... و أنا الذي كنت أتسائل أين رأيتك من قبل !! .... كيف نسيت وجه الشبه بينكما ..... )
عبست بشدة من تلك الإهانة .... لكنها صمتت تراقب ضحكاته العالية و هي تبتلع انجذاب انثوي غبي ينمو بداخلها .... لم يحدث لها من قبل حتى في أولى سنوات مراهقتها ....
في تلك اللحظة كانت وعد تهبط السلم من الطابق الذي يعلوهما مباشرة حيث تقع شقتها مع ملك ...
لكنها توقفت فجأة بمنتصف السلم و هي ترى ورد تجلس بجوار يوسف على أولى الدرجات بينما يوسف يضحك عاليا بمرح ....
التفتت ورد تنظر اليها بارتباك ... بينما توقف يوسف عن الضحك وهو يقول باهتمام و بعينين مشعتين
( صباح الخير يا وعد ..... لقد تأخرتِ اليوم ..... )
عقدت ورد حاجبيها و هي تنظر الى وعد مليا ....
حيث كانت عيناها منتفختان ... حمراوان ... و تحتهما انتفاخاتٍ زرقاء دلت بوضوح على بكاء ليلة طويلة ...
كانت تستند الى حاجز السلم بارهاق ... و شعرها يبدو وكأن مشطا لم يلمسه هذا الصباح ....
عيناها كانتا لا تحيدان عن عيني ورد التي لم تجد الجرأة على النهوض حتى ... لكن وعد قالت بخفوت و لمحة أمل ... تكاد تكون توسل
( هل أرسلك سيف الى هنا ؟! ........ )
رمشت ورد بعينيها عدة مرات و هي تشعر بانقباض بقلبها ... كان منظر وعد هزيلا مرهقا و شفتيها زرقاوين للغاية ... عيناها الرماديتان تتوسلان و تنبضان بالألم ....
لا لم تكن ورد شريرة الى تلك الدرجة التي ذكرها يوسف ... و الا لما كانت لتشعر بهذا الإنقباض الذي تشعر به حاليا ....
لكن ماذا بيدها ؟! ..... حتى لو كانت تكره وعد ... الا أنها لم تكن السبب بطلاقها .... و سيف يريد الإطمئنان عليها من بعيد ....
لذا أخفضت وجهها و هي تقول بفتور خافت
( لا .... لقد جئت .... كي اعطي ملك صندوقا يخصها .... نسيته لدينا ..... )
صمتت قليلا و هي تشعر بدناءة غير مبررة .... ثم قالت متابعة بخفوت اكبر كي تعطي حجتها اهمية اكبر
( و امي تريد الإطمئنان عليها كذلك ..... لقد رحلت ..... فجأة .... )
ساد صمت طويل قاتم .... فرفعت ورد وجهها بتردد ... و هالها رؤية ملامح وعد .... فقد ظهر الم اكبر ... يكاد يكون شعورا بالضطهاد ... حتى انها فغرت شفتيها قليلا تتنفس من بينهما ....
ثم اخفضت وجهها و هي تقول بخفوت
( ملك بالشقة فوق ..... تفضلي ...... و اخبري عمتى ..... أن بإمكانها المجيء و رؤية ملك بأي وقت ...)
ثم قالت بعد لحظة اختفى بها صوتها
( اعذراني .... يجب أن أذهب للمعرض ...... )
مرت بهما و تجاوزتهما ببطىء .... و هي منحنية الكتفين ... متهدلة الشعر و الروح .... تجر ساقيها بصعوبةٍ
و ما أن اختفت عن ناظريهما ... حتى انتفضت ورد تقول بغضب و جنون
( تبا لكما معا انت و سيف .... و أنا قبلكما ..... )
انتفض يوسف في مكانه و الذي كان يراقب اثر وعد بعد اختفائها .... فنظر الي ورد طويلا مقطب الجبين عاقدا حاجبيه بشعور قاتم منقبض .... ثم قال اخيرا بعد فترةٍ طويلة بخشونةٍ خافتة
( تعالي لأساعدك في النهوض ........ )
نهضت وحدها و هي تقول بشراسة
( لا أحتاجك ..... فقط ابتعد عني ..... )
الا أنها ما أن داست على كاحلها المتورم .... حتى أغمضت عينيها بشدةٍ و تأوهت ألما و هي تميل استنادا الى حاجز السلم ....
حينها هتف بجفاء و خشونة
( يالكِ من حجرٍ ناتىء مدبب الزوايا ..... هات يدك لأساعدك ... أو أتركك هنا و اغلق باب المعرض خلفي... )
زفرت بشدة و هي تطبق جفنيها ... متشبثة بكلتا يديها بالحاجز .... ثم قالت اخيرا دون أن تستدير اليه بلهجةٍ فظة و صلف
( أنزل أولا لتحضر الصندوق ......... )
ارتفع حاجبيه وهو ينظر اليها بدهشة ... قبل أن يهز رأسه بيأس ... لكنه امتنع عن الكلام وهو ينزل السلالم كل درجتين معا ... ليحضر الصندوق ... و ما ان وصل اليها مجددا ... حتى مد يده اليها قائلا بجفاء
( هلا تمسكت بذراعي الآن ....... )
رفعت وجهها و فتحت عينيها تنظر الى ذراعه الممتدة .... فشعر بنفس الشعور بالشفقة تجاهها , حينها رق قلبه لها قليلا فابتسم قائلا بلطف أكبر
( من فضلك ...... لن آكلك .... )
نظرت اليه قائلة بجمود و لمحة الألم لا تزال تعلو وجهها
( أنا مدببة الزوايا أيها الجلف الأخنف ! ..... )
اتسعت عيناه قليلا بذهول قبل أن ينفجر ضاحكا مجددا وهو يقول
( هل شفيت أذنك الآن و صار سمعك حادا عند هذا اللقب تحديدا ؟!!! .....)
رغم وقاحته .. الا أنها لم تشعر بالنفور من تلميحه لإصابة أذنها ... فمرحه كان أكبر من وقاحته ...
لكنها أخفضت وجهها تخفي رغبة سخيفة في الضحك و هي ترفع يدها للتتشبث بذراعه دون اذن ...
حينها توقف عن الضحك تدريجيا وهو ينظر الى جفنيها المسبلين .... ثم قال اخيرا بخفوت لطيف وهو يساعدها للصعود درجة درجة
( أحسنتِ ...............)
ظلا يصعدان السلم جنبا الى جنب وهو يتلقى استنادها اليه بلطف .... ممازحا اياها بين الحين و الآخر ليقول
( لو كنتِ رأيتني أيام الشباب .. كنت أستطيع حمل رجلا يفوقك وزنا بحوالي ثلاثة كيلوجرامات اضافية ... )
و كانت ترفع وجهها اليه بامتعاض ... تمط شفتيها , الا أنها كانت تريد الضحك للحظة ... فقط ضحكة واحدة محتجزة خلف شفتيها .... لكنها قالت ببرود خافت
( هل ترى أن هذه هي المشكلة الوحيدة في حملي ؟! .... أن ظهرك لا يتحمل وزني ؟! .... )
رفع حاجبه وهو يقول متظاهرا بالحيرة و البراءة
( لا تخبريني أنكِ تخجلين كباقي النساء ؟! .... ستكون تلك طفرة ... )
مطت شفتيها أكثر و هي تعرج صاعدة ... ثم قالت بوجوم
( ربما الأصلح هو أن تعود من حيث أتيت .... فعقلك غير معرف على قاعدة البيانات الخاصة بنا هنا ... و قد تتسبب لنفسك في الأذى ... من زوجٍ غيور ... أو أخ مجنون ..... )
ضحك بخشونة وهو يقول ببساطة
( لماذا ينتابني شعور بأن الزوج الغيور و الأخ المجنون هما في الواقع نفس الشخص ؟!! ...... )
احمر وجهها بشدة ... لدرجة أنها تعثرت بآخر درجة .... فتأوهت بشدة ... حينها امتدت ذراعه غما عنه تحيط بخصرها ... لكنه سارع لانتزاعها في اللحظة التالية وهو يشعر بالحرج و الإرتباك ....
و ما أن انتظمت أنفاسها قليلا ... حتى قال بخفوت
( أنا آسف ..... لم أقصد ارباكك .... و ايلامك ... )
ارتبكت الآن أكثر فتنفست بسرعةٍ اكبر .... حينها قال بعبوس وهو يخطىء فهم طبيعة اهتزازها
( هل تتألمين لتلك الدرجة ؟!! ..... ربما يجب أن أصطحبك الى المشفى ... قد تعانين من كسر لو كنتِ مصابة بهشاشةٍ في العظام .... حينها اي حركةٍ خاطئة قد تسبب لكِ كسرا )
أغمضت عينيها و هي تمط شفتيها بامتعاض .... لدرجة أن كرهت استنادها اليه ... انه يشعرها بعمرها في كل كلمةٍ ينطق بها ....
همست من بين أسنانها بغيظ
" هشاشة عظام ..... معطوب الظهر ... معدوم حرف العين ... "
عقد يوسف حاجبيه وهو يحني رأسه ليسألها باهتمام
( ماذا قلتِ ؟! ...... )
ابعدت وجهها عنه قليلا و هي تقول بتوتر
( قلت أنا بخير ..... ابتعد قليلا فقط .... )
ابتعد عنها و قد وصلا الى باب شقة ملك ووعد ... لكن و قبل أن يضغط الجرس سارعت تقول فجأة بقوة
( كيف تدعي حبها و أنت لا تبدو حتى متأثرا بمنظرها منذ لحظات .... أنا نفسي شعرت بالإختناق رغم كرهي لها .... )
ظل ينظر الي عينيها الحادتين بهدوء ... قبل أن يقول باتزان دون أن يدعي عدم الفهم
( أولا أنا لم أدعي حبها أمامك على الأقل . لا يزال الوقت مبكرا كي أصل الى تلك الدرجة من الحب التي تجعلني أهتز لدموعها على رجلٍ آخر ... لكنني بكل تأكيد أكثر من راضٍ لأنها ستكون الدموع الأخيرة .... )
رمشت عيني ورد و هي تراقبه بتأمل .... قبل أن تقول بخفوت على الرغم من الإنقباض بصدرها
( منذ رآها سيف للمرة الأولى و قد اختل توازنه و عزم على أن تكون ملكه .... حبه لها كان همجيا ضاربا لكل المنطق ..... )
رفع حاجبيه وهو يقول بلهجةٍ ذات مغزى
( و انظري الى أين آل هذا الحب الهمجي الآن !! ........ إنها مجرد فورة مشاعر شرقية و ما أن تبدد رحيق توهجها الحاد ... حتى بدأت الخلافات و العناد في الطفو الى السطح ... فلماذا التمسك بتلك العلاقة الغير صحية ؟! ....... )
كانت تنظر اليه بملامح جامدة صامتة ... من المفترض أن تشعر بكل الرضا لكلامه ... الا أنها على العكس
كانت تشعر بضيق شديد ... منذ أن رأت منظر وعد البائس ... و أمس حين كان صوت سيف الخشن الخافت يقطر ألما .... و آخر شيء غير مفهوم لها , هو ضيقها من فكرة ارتباط وعد بيوسف هذا ....
و ماذا يهمها ؟! .... منذ متى كانت تشعر بالغيرة لأن أي فتاة حولها ارتبطت برجل وسيم ؟! ..
هل بدأت تختل عقليا في هذا السن بعد أن نضجت كما تعتقد ؟! .......
و كي ينهي جدالهما .. مد يوسف يده و ضغط الجرس ....

بعد عدة دقائق .. كان ثلاثتهم يجلسون على الأريكة ... يوسف و ورد و ملك .... و أمامهم الصندوق مفتوح بينما العروس الصغيرة واقعة بجواره ....
و كانت ورد تنظر بطرف عينيها الى ملك الصامتة المصدومة .. فقالت محاولة تخفيف الأمر و هي تحتضن حقيبتها بين ذراعيها
( إنه يبدو أجمل بدون العروس ...... كانت تافهة جدا .... يمكنك الآن وضع المزيد من الخواتم به ... )
رفع يوسف عينيه للسماء .. ثم قال بخفوت
( أنتِ لا تساعدين بلسانك هذا ...... اكبحيه قليلا .... )
ثم قال لملك التي ظلت صامتة ... بلا أي تعبير حي على وجهها الساكن المتأمل للصندوق
( انظري .... لو وضعنا العروس هنا .... و ثبتناها بشريط لاصق .... هكذا .... )
كان يعمل بإهتمام بعد أن أخرج من جيب قميصه نظارة أنيقة ... بنصف اطار رفيع أسود ....
و ما أن انتهى .. حتى رفع رأسه قائلا بفخر
( آآآه .... انظري الى جمالها ..... )
بدأت العروس تدور مصدرة صوت حشرجة الورق اللاقص للحظتين فقط .. قبل أن تقع مجددا و هي ممسوكة من قدمها بالشريط اللاصق ...
عبس يوسف وهو ينظر اليها تدور نصف دورة .. و تطرق رأسها بجدار الصندوق مرة بعد مرة ...
بينما ضحكت ورد و هي تقول بسماجة
( لماذا تلطم المسكينة ؟! ....... على الأقل أصبح لها دور فلكلوري أكثر ... فرقص الباليه لم يكن واقعيا تماما ... )
رمقها يوسف بطرفِ عينيه غاضبا ... ثم قال بخشونة
( لما لا ترينا بعضا من موهبتك الفذة .. بدلا من لسانك المحتاج لقصه , ففي النهاية أنتِ من رميتِ الصندوق بأقصى ارتفاع ذراعك ...... )
رفعت ملك وجهها المصدوم و هي تنظر الى ورد متحققة مما نطق به يوسف للتو ... فهتفت ورد بقوة وغضب
( أقسم بالله لم أرمه قصدا ...... لقد وقعت على السلم و آذيت كاحلي كما ترين ...... )
نظرت الى يوسف شزرا و هي تقول من بين أسنانها
( كم أنت طفل ساذج !! ........ طبعا , السعادة تتألق بداخلك منذ أن عرفت بطلاق الأميرة ... )
عقد يوسف حاجبيه وهو يقول بخشونة هامسا مشيرا الى ملك بعينيه
( شششش .... ما بالك ؟! .... الا ترين أن أخت الأميرة تجلس بجوارك ؟! .... )
زمت ورد شفتيها و هي تنظر اليه بغضب ... بينما نهضت ملك من مكانها ببطىء و هي تحمل الصندوق بين ذراعيها تحتضنه كطفل صغير ... ثم ابتعدت الى غرفتها دون كلمةٍ إضافية ...
بينما نظر اليها كل من يوسف وورد باحساس بالذنب .... الى أن اختفت فالتفتت ورد الى يوسف تقول بغضب
( هل أنت راضٍ الآن ؟! ....... أوووف , شخص لا يحتمل .... احترم سنوات عمرك قليلا ... )
نظر اليها بجفاء وهو يقول
( يكفي احترامك أنتِ لسنوات عمرك لدرجة تجعلك أقرب للواء شرطة .... متقاعد .... )
زمت شفتيها بغضب و هي تنظر اليه تكاد أن تقتلع عينيه من محجريهما ... لكنه نهض من مكانه ليقول بنبرةٍ آمرة
( هيا لأقلك الى بيتك ......... )
عقدت حاجبيها و هي تهتف
( مستحيل ......... سأعود وحدي ... يكفيني وجودك الى هذا الحد )
نظر اليها من علو رافعا حاجبيه بصمت .... بينما قالت بعد فترة طويلة مندفعة
( مستحيل ...... انسى ..... )
أوقف يوسف سيارته أمام بيتها وهو ينظر اليها مبتسما ليقول ببساطة
( كانت فرصة سعيدة .... مجددا ..... أتمنى المرة القادمة أن أرى خاتم الخطبة باصبعك قبل أن يهرب العريس ...... )
كانت تتنفس بسرعة و هي تنظر اليه ... فقال قبل أن تنفجر
( احذرك قبل أن تندفعي بقذائفك طويلة المدى ..... قد يكون أخاك قريبا من المكان و لو رآكِ بسيارتي فسوف تكون ليلتك منقوشة بلون قميصك .... )
أخفضت ورد عينيها تلقائيا الى قميصها الرمادي و المنقوش بمكعباتٍ سوداء حريرية .... و بالفعل تخيلت منظر وجه سيف لو رآها في سيارة يوسف ...
فأسرعت تمسك بمقبض الباب و هي ترتجف بهلع ... حينها قال يوسف بهدوء مبتسما من خلفها
( جبانة .......... )
التفتت اليه بعينيها النمرتين ... و اندفع ذيل حصانها على كتفها و هي تلتفت اليه تلك الالتفاتة الشرسة ...
حينها ابتسم متسليا وهو يجدها بمعجزةٍ ما .. جذابة جاذبيةٍ خاصة ...
ابتسم أكثر وهو يفكر أن التسلية بها ظريفة ....
لكنه شعر بالخسارة وهو يجدها تتنازل عن الرد قليل التهذيب و هي تندفع خارجة تعرج قليلا ثم تصفق الباب خلفها ....
ابتسم قليلا وهو يشعر بأنه سيفتقد تلك المرأة المسلية ... الى أن يراها مجددا !
.................................................. .................................................. ....................
دخل سيف غرفة ورد دون أن يطرق الباب .... فالتفتت اليه بدهشة و هي تنظر الى هيئته المشعثة ... و ذقنه الغير حليقة ... عيناه المتعطشتان ...
فقالت بخفوت
( إنها المرة الأولى بحياتك و التي تنسى أن تطرق بها الباب قبل أن تدخل !! ...... )
عقد سيف حاجبيه وهو يخفض وجهه لينظر الى كفه الممسكة بمقبض باب غرفتها المفتوح ,
فرفع عينيه اليها يقول بخفوت مماثل مرتبك ... بشكلٍ لم ترى به سيف من قبل
( أنا آسف .... لم ألحظ , رأيتك تدخلين البيت و أنتِ تعرجين .... ف ..... )
تنهدت ورد و هي تخلع ساعة معصمها ... لتستدير عنه و تلقي بها على طاولة الزينة بإهمال قائلة بفتور
( آخر ما يهمك الآن هي قدمي يا سيف ...... أنت تريد السؤال عنها .... )
عبس سيف أكثر وهو يقول منكرا
( بالطبع لا ...... ماذا حدث لقدمك ؟....... )
ضحكت ورد باستهزاء ضعيف ... قبل أن تقول ببرود
( وقعت على السلم ..... لكنه مجرد التواء ....... )
ساد صمت متوتر ... لم تقطعه بكل قساوة قلب , و مرت اللحظات بطيئة و هي تسمع صوت مقبض الباب يصدر صريرا متوترا بين قبضته .... فتنهدت مجددا حين اشفقت عليه فقالت متنازلة قليلا
( أسال يا سيف ...... لن ألومك .... )
ابتلع غصة بحلقه .... و ازداد عبوسه , فقال بخفوت رغما عنه
( كيف هي يا ورد ؟........... )
وقفت مكانها قليلا دون أن تستدير اليه ... تنظر الى وجهها في المرآة بصمت ...
و طال بها الوقت و طال به الحريق .... الى أن قالت أخيرا بفتور
( مثل القرد ......... )
عقد حاجبيه قليلا وهو يقول بشك مكررا
( هل هي ب ..... بخير ؟؟! ...... )
هزت كتفيها و هي تقول ببساطة و صدق دون أن تستدير اليه
( كانت متجهة الى عملها حين رأيتها ... قبل أن أصعد لملك .... )
أخفض سيف وجهه وهو يقبض على مقبض الباب أكثر .... بينما كانت ورد تراقب ملامحه في المرآة ... الى أن قالت أخيرا بخفوت
( تبدو كمن كان يتمنى أن تكون مريضة .... عليلة ...... )
انتفض يرفع وجهه وهو يقابل عينيها في المرآة .... حينها عقد حاجبيه بشدةٍ اكثر قبل أن يهمس بصوتٍ أجش
( لست مختلا كي اتمنى مرضها ........ )
ابتسمت قليلا بحزن ... قبل أن تهمس هي الأخرى
( لكنك تتمنى الشعور بذرةٍ من ولعها بك ..... مرضها بسبب فراقك .... )
ظل سيف ينظر اليها طويلا .... الى أن قال بصوتٍ أجش خافت
( لا أريد سوى أن تكون بخير ..........)
و دون كلمة اخرى كان قد خرج مطرق الرأس ... مغلقا الباب خلفه بهدوء ميت
تاركا ورد واقفة تنظر الى مرآتها بصمت ... و هي تشعر بأنها ما نطقت الا الحقيقة الكاذبة ........
و كم احتقرت نفسها !!.....

.................................................. .................................................. .....................
بقت في الماء الساخن طويلا .... علها تريح من جسدها المتعب ....
أرجعت رأسها للخلف و ارتاحت قليلا ..... و تراجعت الى أن استلقت تحت الماء .....
دائما ما كانت تحب هذه الحركة كلما رغبت في الهرب ....
تنام تحت سطح الماء و تتخيل أنها أصبحت في عالم آخر .... الى أن تختنق تماما ... و ما أن تفعل حتى ....
قفزت شيراز من تحت سطح الماء و هي تشهق بقوة بعد أن نفذ الهواء من رئتيها فانطبقتا بشدة ...
أخذت تلهث قليلا و هي تمسح الماء عن وجهها .... قبل أن تستلقي مجددا و تنظر الى سقف الحمام ...
ثم همست بجمود
( و ماذا بعد ؟!! ........ هل ستهربين أم ستبقين ؟!! ..... بأي من الخيارين نجاتك و بأي منهما عذابك ؟!! .... بت لا أعرف ......)
انها تشعر هذا الصباح أن الحب بداخلها تجاهه تراجع كثيرا .... حتى أنها بدأت تشك في أن ما كانت تشعر به هو حب حقيقي من الأساس !!
إنها تعاني خللا ما .... بعقلها ... و قلبها .... و قرارتها .... و حتى بجسدها ...
باتت لا تستطيع استغلال أي منهم ........
أول مرة تشعر بالخوف .... كل مرة من مرات زواجها التي سبقت كان لديها شبه تأكيد أنه...انها ستنال الأفضل منه
لكن الآن .... ينتابها القلق ... بل الرعب
لم تعد صالحة لأحد .... لقد كبرت و بدأ الوهن ينتابها و لم تعد مغرية لأحد .... تبا له هو السبب ...
منذ أن دخل حياتها و قد عمل على الإخلال بكل موازينها في الحياة ....
انتفضت شيراز حين سمعت صوت جرس الباب ....
فتمسكت بحوض الإستحمام بكلتا يديها و هي تدير رأسها .....
هل عاد سريعا ؟!!! ..... لكن من المؤكد أنه لن يستخدم جرس الباب ...
نهضت ببطىء من حوض الإستحمام ... فلفت نفسها بمنشفة كبيرة و هي تخرج من الحمام بقلق ...
هل باب البيت محكم الغلق ؟!! ...... اكتشفت للتو أنها تجهل كل شيء عن هذا المكان الجديد عليها ...
وصلت الى الباب ... فوضعت يدها عليه و هي تقول بتوتر
( من ؟!! .........)
سمعت صوت رقيق يقول
( أنا لجين ...... اخت وليد .... افتحي يا بشرى ...)
أغمضت شيراز عينيها للحظة و هي لا ترغب في رؤيتها .....
لكنها فتحت الباب ببطىء ... تنظر اليها .... بكل جمالها و رقيها ..... و صوتها الإذاعي الجميل ...
كان وشاحهها ملتف بعشوائية فوق شعرها المتهدل على جانبي وجهها ....
بينما كانت ترتدي بنطالا من الجينز الضيق .الغالي الثمن .. و قميص قطني قصير بلون الليمون الأخضر ... لم يخفي جمال جسدها .....
كانت تبتسم باشراق و هي تحمل صينية طعام كبيرة .... الا أنها ارتبكت قليلا و ارتعشت ابتسامتها حين رأت شيراز لا ترتدي شيئا سوى ....... منشفة !! ....
أخفضت وجهها الأحمر و هي تقول
( يبدو أنني جئت في وقت غير مناسب ..... هل خرجت من الحمام لتوك ؟!! ....)
نظرت شيراز الى نفسها .... لكنها لم تخجل .... فرفعت وجهها الى لجين تقول بفتور
( يبدو هذا ........)
رفعت لجين وجهها الى وجه شيراز .... الا أنها شهقت و هي تقترب منها هاتفة
( ياللهي !! ...... ماهذا ؟!!! ......)
كانت شيراز قد نست تماما وجهها الملون بصفعات وليد ..... لكنها عادت و تذكرتها
فرفعت يدها الى أعلى وجنتها تخفي فقط احداها ..... حينها زمت لجين شفتيها بغضب و هي تقول بصرامة
( افتحي الباب و أدخليني ............)
.................................................. .................................................. ......................
لا يعلم ما الذي أعاده هكذا مبكرا !! ...
كان ينوى البقاء خارج البيت حتى وقت متأخر .... كان يريد أن يمنحها الفرصة كي تمارس جشعها و تهرب بما غنمته ....
لكن لم تكد تمر بضعة ساعات حتى وجد نفسه يعود و بأسرع ما يمكنه ....
أوقف سيارته أمام بيته وهو ينظر اليه بعينين ناريتين .... ووجهٍ قاتم .... عديم الرحمة ... لكنه يخفي خلف تلك الواجهة الصلبة القشرة ... توترا لم يحسب حسابه ....
شيئ ما بداخله كان يرفض أن يتركها تهرب بمثل هذه السهولة ... دون أن يمتص منها آخر ذرة حياة توازي ما سيدفعه لها .....
و ليلة أمس لم تكن سوى مثال ..... كان يريدها ... و بشدة .... على الرغم من أنها لم تكن أجمل النساء .. و اغرائها الذي تتوهمه كان مجرد وهم ...
لكنها كانت تتخلل كيانه وهو يضمها بين ذراعيه ... و كأنها روح شريرة سوداء... تستشري داخل صدره ... تذيقه متعة محرمة ... حرمها هو على نفسه ثم أخل بما حرمه على نفسه .. و تمتع بارتشافه قطرة قطرة ....
دموعها كانت تمنحه راحة غريبة .....
أهي سادية منه ام انه راغب في الانصياع لتمثيلها المتقن .. و ندمها الزائف ؟!! .......
خرج من السيارة ببطىء ... ثم صفق الباب بعنف وهو يرفع رأسه ناظرا الى البيت .... قبل أن يدخل متثاقلا وهو يعلم أنه لن يجدها ...
صعد الطابق الأول عيناه متصلبتان لأعلى ... و يده تقبض على حاجز السلم ....
مر على شقة خالته و سمية .... فخف وقع أقدامه و تمنى الا تفتح لجين الباب ... فهو لا يريد مواجهة أي منهما الآن ....
إن كان غير قادرا على مواجهة نفسه في المرآة .... فهل يستطيع النظر بعيني أخته !! ...
ما ان تجازو شقتهما حتى اسرع الخطا الى شقته .... و عيناه تزدادان قسوة و ظلاما وهو يخرج مفتاحه مندفعا ....
و ما أن دخل .... كان أول ما صدمه هو الصمت الواضح الذي يغمر المكان ...
توقف مكانه عدة لحظات ... و هو يبدو كتمثالٍ هائل الحجم .... رخامي القسمات .... يدرك أن ما توقعه قد حدث ....
اخفض يده التي سقطت الى جانبه وهي تحمل المفتاح ...
ثم اتجه الى المطبخ ... و منه الى الحمام .. فأزاح باب ببطىئ شديد دون أن تهتز ملامحه القاتمة ...
ذهب بعدها الى غرفة النوم ... و أزاح بابها المفتوح جزئيا بنفس البطىء ... بل أشد بطئا .....
و من أول نظرة وجدها خالية .....
دخل بصمت و عيناه مثببتتان على السرير الذي بدا و كأنه كان حلبة مصارعةٍ شرسة .....
التوت عضلة في فكه .... وصور ليلة أمس تتدافع أمامه ....
كانت الغرفة الأخيرة .... و هي ليست بها ..... لقد هربت بالفعل ....
تحرك وليد ببطىء الى أن جلس على حافة السرير .... و مال بذراعيه يستند بهما الى ركبتيه .... مطرقا برأسه ...
شيراز .... كانت أكبر خدعة و لطمة لكبريائه ..... فاغتنما كمجرد نزوة ... دفع لها الكثير كي يسترد جزءا من كرامته .... ثم رحلت .....
رفع رأسه ينظر أمامه بصمت .... يراقب الشمس المتسللة من النافذة التي كانت تجلس أرضا أسفلها ليلة أمس
....
ترى أين ذهبت الآن ؟!! ...... هل ستعود لبيتها ؟!! .... أم ستذهب مرة أخرى الى علوان تترجاه كي يقبل بها ... أوربما تذهب الى زوجها الثاني.... ذلك الذي اعترفت أنها أحبته ... و وقفت أمامه باكية تترجاه بكل خنوع و ذل ..... و مع ذلك رماها هو الآخر ....
شعر بالقرف يملأ نفسه .... منها و من نفسه ....
كيف استطاع أن يرمي نفسه بمثل هذا المستنقع القذر !! ... و لماذا ؟!! ...
و الأهم .... لماذا يجلس الآن شاعرا بأنه خسر شيئا ما ..... شيء يكرهه ... لكنه خسره .....
نظر الى سلسلة مفاتيحه التي تدلت من يده .... و رآى بها مفتاح شقتها ... كان لا يزال معه منذ أن أخذه منها ...
لكنها تستطيع دخولها بكل سهولة .... هذا لو قررت البقاء وحدها .....
كيف ستطلب الطلاق الآن ؟!! .... و من سيقف بجوارها الى أن تناله ..... علوان ... أم زوجها الثاني ... أو الأول الذي لا يعرف عنه شيئا بعد .....
أطرق وجهه بصمت وهو يؤرجح سلسلة مفاتيحه بايقاع روتيني ..... و ابتسم بقسوة دون مرح .. ثم همس بصوت أجش
( ربحتها لتدفع ثمنها غاليا ثم خسرتها أسرع ما تخيلت ....... )
بعد فترة قصيرة حانت منه التفاتة .... فرمشت عيناه لتجد ورقة بيضاء مطوية موضوعة على طاولة الزينة ... لم يرها مباشرة عند دخوله ...
نهض من مكانه ببطىء و عيناه مثبتتان على الورقة .... فأخذها ليفتحها قبل أن يرفع حاجبيه فوق عينيه الناريتين و هو يقرأ رسالة في منتهى البساطة منها
" لقد خرجت للقاء ملك .... الصغيرة ذات الضفيرة ..... لن أتأخر ..... هذا في حال لو عدت قبلي و بصراحة أشك في ذلك .... لو رجعت أنا قبلك سأمزق الورقة كأن شيئا لم يكن .... الى اللقاء "
ظل وليد يقرأ الكلمات العفوية غير مصدقا !! ....
هل هي مجنونة ؟!!... أم غبية لتلك الدرجة التي تجعلها تتعامل بمثل تلك العفوية ؟!! ...
رفع رأسه وهو يهدر بنفسٍ غاضب .... غضب فاق الشعور الميت الذي كان يعيشه منذ لحظات ...
هز رأسه وهو يقبض على سلسلة مفاتيحه بقبضة ... و بالقبضة الأخرى يسحق الورقة بين اصابعه بشدةٍ حتى اهترئت ثم رماها ارضا عند قدمه و داسها بحذائها وهو يندفع خارجا مجددا .....
نزل السلم مجددا ... لكن هذه المرة وجد لجين تفتح الباب ... و تخرج ناظرة اليه و كأنها ضبطته متلبسا أخيرا ...
زفر وليد بغضب على الرغم من أنها لم تنطق بعد ... ثم قال صارما
( ماذا تريدين يا لجين ؟!! ...... أرجوك أنا لست في أفضل حالاتي الآن ..... )
ظلت لجين تنظر اليه قليلا قبل أن تقول بصوت هادىء
( هذا ما أراه بوضوح ..... الى أين أنت ذاهب ؟؟!! ..... لم تكد تدخل بيتك لتخرج !! .....)
نظ الى السلم خلفه للحظة ... ثم قال بصوتٍ متوتر
( هل صعدتِ الى شيراز اليوم ؟!! ..... )
رفعت احدى حاجبيها و هي تقول بلهجةٍ ذات مغزى
( تقصد بشرى ........ نعم تسللت دون علم خالتي و أحضرت بعض الطعام لها .... )
اشتعلت عيناه و برقتا بغضبٍ و كأنه ينتظر لما يغضب له ممتنا ... فقال بعنف
( لقد امرتك بألا تفعلي ...... أتتحدينني من باب الإستفزاز لا لشيء سوى اثارة غضبي !! .... )
كتفت لجين ذراعيها و هي تقول بتحدي رافعة ذقنها
( إنها عروس .... ومن حقها أن أحمل لها الطعام .... طالما أنها بنفس البيت معنا ....ام انك كنت تحضر لخطة تجويعها ؟!! .... )
عبس وليد بشدة وهو يقول حانقا
( البيت مليء بالطعام الذي يمكنها تجهيزه ......... تجويعها لن يفيدني في شيء )
قالت لجين بصوتٍ فاتر ...
( اذن ربما نفيها هو الأكثر فاعلية ....... لماذا جلبتها اذن الى بيتنا طالما انك تريد عزلها عنا ؟!.... )
زفر وليد وهو ينظر الى مدخل البيت ... يريد الاندفاع سريعا و اللحاق بها قبل أن تهرب الى مكانٍ مجهول ...
ثم قال بتوتر و غيظ
( تبا لذلك لجين .... .... لنكمل كلامنا فيما بعد ..... يجب أن أخرج الآن ..... )
حاول التحرك الا أنها تشبثت بذراعه و هي تقول بقوة و شجاعة
( انتظر ......... أريد ان اسألك سؤالا هاما , قبل أن تخرج مجددا .... )
زفر بقوةٍ وهو يتطلع اليها بغضب قائلا
( ماذا بعد يا لجين ؟!! ....... يجب أن أخرج حالا ...... )
قالت لجين بلهجة باردة ... جامدة
( ماذا فعلت كي تستحق كل هذا الضرب ؟! ........ )
تراجع رأس وليد للخلف و أجفلت ملامحه و كأنها ضربته على حين غفلة ..... الا أنه نظر بعيدا وهو يقول بصوتٍ متلجلج قليلا
( لا تتدخلي فيما لا يخصك .......... )
نزع ذراعه من يدها و هو يندفع خارجا , الا أنها تحركت خطوة مستديرة و هي تصرخ من خلفه
( أنت تضر نفسك يا وليد ...... لو تلك هي البداية ... فأنت تقتل نفسك ببطىء .... اتركها لحالها و سيكون هذا أكثر رحمة لكما معا .... )
توقف وليد مكانه لحظة ... دون أن يستدير اليها ... ثم اكمل طريقه مندفعا دون ان يرد عليها ...
.................................................. .................................................. ...................
توقفت شيراز للحظة امام مكان سكن و عمل ملك الجديد ... فرفعت عينيها تنظر اليه ...
ثم دخلت بتردد .... و ازداد ترددها اكثر و هي تقف امام باب المعرض الواسع ...
له واجهة زجاجية تطل على الطريق .... تحمل عدة فساتين راقية ....
أطلت بعينيها من باب المعرض .... فوجدت أقمشة ملونة متوهجة في كل مكان ... و تبدو عدة فتيات ظاهرات من إحدى الغرف و هن تعملن على ماكينات خياطة ...
شعرت شيراز بالتوتر و هي لا تعرف هل تدخل هذا المعرض حيث تعمل ملك ... أم تصعد الي شقتها ؟!! ...
ظلت واقفة مكانها ... تطرق برأسها و هي تشعر بالرهبة ...
من كان يظن أن يأتي اليوم الذي تكون فيه مترددة و متوترة من لقاء ملك !! ...
ملك التي كانت تقلم لها اظافرها و تأتيها بالطعام !! ......
تشعر الآن انها في مقامٍ اكثر دونية ... حتى انها تريد لو استدارت و هربت الآن ....
لكن قبل ان تتخذ القرار و تهرب بالفعل ... كاد ان يصطدم بها شاب صغير وسيم .... يبدو في السابعة عشر لا اكثر ....لكن يفوقها طولا بالكثير
ابتسم معتذرا وهو يقول بحرج .. بينما ارتبكت هي بشدةٍ لتحيط صدرها بذراعيها و هي تتراجع خطوتين
( انا آسف جدا ....... لكنك قصيرة للغاية لدرجة جعلتني أكاد ألا أراكِ ....)
عقدت شيراز حاجبيها و هي تقول متناسية القليل من توترها المعتاد في مثل تلك المواقف
( لست قصيرة الي ذلك الحد الذي يماثل قصر نظرك !!! ..... ثم أنك أنت الطويل كحائط سد لا فائدة منه سوى ارتطام الناس به ! ..... )
تعمد النظر اليها ... حتى أنه اقترب منها خطوة فتشنجت أكثر الا أنه لم يمسها وهو يحاول قياس طول كتفها و الذي وصل تقريبا الى أعلى مرفقه ....
ثم قال ببساطة
( فعلا أنتِ لستِ قصيرة ........ العتب على النظر اذن ..... لقد كدت أتعثر بكِ و أقع على وجههي ... نصيحة مني ... لا تقفين مجددا هكذا أمام أي باب كدرجة سلم غير ملحوظة خاصة مع طولك هذا .... )
عقدت شيراز حاجبيها و هي تقول بغضب
( تبا لذلك .... لن أبقى هناك لأنال المزيد من الإهانات ..... أنا ذاهبة .... )
و اندفعت تغادر بغضب .... الا أنه أسرع ليقف أمامها ... يعرقل سيرها وهو يقول ببشاشة يراضيها
( انتظري ...... انتظري يا آنسة ..... لا تغضبي ...... أنت لستِ قصيرة ... أنتِ طولك مناسب تماما ... )
رفعت وجهها اليه عاقدة حاجبيها بحنق و تردد .... كانت تريد أن تهرب ... لا تعلم لماذا ...
و بنفس الوقت كان "علي" ينظر اليها بتعاطف وهو يرى وجهها الذي تلون بعدة كدمات و كأنها خرجت للتو من أحدى حروب الشوارع التي يعرفها جيدا ....
صحيح أنها تبدو راقية الملبس الا أن عينيها و ملامحها عن قرب تخبره أنها ليست من بيئة رفيعة المستوى تماما ..... و لهذا تعاطف معها ....
حتى أنها ذكرته بالتعيسة ذات الأربعين لسان راوية .... فهي خضراء العينين مثلها , الا ان البائسة راوية أكثر اسمرارا منها ....
قال علي مبتسما برقة
( هل جئت لتفصيل شيئ ما ؟!! ....... )
ظلت تنظر اليه بطرف عينيها ... و هي زامة شفتيها المتكورتين كالأطفال ... لكنها قالت بجمود
( لا ...... لقد جئت لرؤية .... ملك ..... هل تعرفها ؟!! ...... )
رفع رأسه عاليا وهو يبتسم ببشاشةٍ أكبر و كأنه أحضر الذئب من ذيله ..واضعا يده على صدره بفخر ثم قال
( أعرفها ؟!!!! ....الجميلة ذات الضفيرة الساحرة ؟!! ها ها .... ليكن بعلمك آنستي أن الشخص الذي يقف أمامك هذا هو من وجدها من بين ملايين البشر ..... لكنني لا أحب أن أتكلم عن إنجازاتي كثيرا .... )
زمت شفتيها أكثر و هي تنظر اليه بحنق ... ثم قالت و هي تحتد تدريجيا حتى أوشكت أن تفقد القدرة على السيطرة على لسانها
( أنت ثرثار .... ثرثاااار ... ثرثاااااااااار أووووووووف ...... هل هي هنا أم أعد من حيث أتيت ؟!! .... أجب بنعم أم بلا فقط ...... )
اتسعت عيناه بتوجس أمام هجومها الضاري ... في حين أنه لو تظاهر بالإتكاء عليها فقط ..بحجمها هذا لسحقها و جعلها رسما على الحائط .... من أين أكتسبت هذا الجبروت و هي لا تتعدى حجم عقلة الإصبع ؟!! .... الا مراعاة لفارق الأحجام بينهما ؟!! .....
عقد حاجبيه باستياء ... ثم قال معدلا قميصه بنزق
( نعم ..... إنها هنا ... لكن ليس قبل أن ..... )
رفعت إصبعها فوق شفتيها و هي تهمس بعيني قطةٍ شرسة
( هششششششششش ..... اذهب و نادها ..... )
ارتفع حاجبيه بعدم تصديق !! ......ما تلك الهنجهية ؟!! ..... و من أين أتت بها و هي تبدو مضروبة كضرب لص تم ضبطه من الجموع الغفيرة !! ....
الا أنه قال وهو يمط شفتيه
( تحت امرك سيدتي .... هل تأمرين بشيءٍ آخر ؟!! ...... )
لوحت له بكفها بأن يذهب ... فارتفع حاجبه أكثر ... فابتعد خطوة وهو يهز رأسه بتعجب .. ثم لم يلبث أن نظر اليها مجددا بتعجب اكثر .... ليتأكد من أنها شخص حقيقي ... لا مجرد عفريت ...
ثم دخل الى المعرض ... بينما وقفت شيراز مكانها يتوتر .... تفرك كفيها بقوةٍ و توتر ....
عيناها مرهقتان تماما و هي تنظر أمامها .... شفتاها المكتنزتان مائلتان بحزنٍ متموج ... يماثله تماوج شعرها المتهدل بفوضوية حول وجهها ... مما يزيد الإعتقاد بصغر سنها ...
الا من ينظر الى عينيها الخضراوين عن قرب ... ليرى تلك الخطوط الدقيقة التي تزيدها هشاشة و ألما .....
سمعت صوتا أنثويا من خلفها يقول بتهذيب
( عفوا ....... هل تسألين عن ملك ؟!! ..... )
استدارت شيراز لتنظر الى من تكلمها .... فوجدت شابة تقاربها عمرا ...
جميلة ... بعينين رماديتين واسعتين .... شعرها أسود ناعم و طويل ..... أطول مما كان منذ سنواتٍ... تلك السنوات التي تماثل شعرها طولا ....و كان هذا هو الإختلاف الوحيد في مظهرها ...
ففغرت شيراز شفتيها وهي تتأملها بينما كانت عيناها تحملان الكثير ... و هي تهمس بصوتٍ أجوف ذو صدى بعيد
( وعد !! ............ )
عقدت وعد حاجبيها و هي تتأملها بارتياب
( هل تقابلنا من قبل ؟!! ...... )
رمشت شيراز بعينيها و هي تشعر بانفعال قوي ... تكاد تلتهم وعد بعينيها ....
نعم هي ..... هي وعد .... و كأن السنوات لم تمر ...... هي وعد التي كانت تساعدها دائما في أسود و أبشع ما مرت به قديما ...
اهتزت حدقتا شيراز .... و شعرت برغبةٍ عنيفة في البكاء ... و على الرغم من ذلك لم تجد دموعٍ لتبكي بها ...
كانت تبتلع كل غصة و أخرى و هي غير قادرة على النطق .... أو حتى اشاحة عينيها عن وعد ..
عقدت وعد حاجبيها و هي تقترب منها لتقول
( هل أنتِ بخير ؟!!! ....... هل تحتاجين لمساعدة ؟!! ....... )
و ما أن لمحت كدمات وجهها حتى ازداد انعقاد حاجبيها و هي تقول بخفوت
( هل ضربك أحد ؟!! ........ هل تعدي عليكِ أحدهم ؟!! ...... )
أطرقت شيراز بوجهها و هي تضع يدها فوق صدرها محاولة التنفس ... كي تتمكن من النطق ...
ثم لم تلبث أن سعلت قليلا و هي ترفع رأسها .... تبتسم ابتسامة مهتزة للغاية .... ثم تمكنت من القول أخيرا بصوت جامد لا يحمل أي تعبير
( لا .... أنا بخير ..... هل ..... يمكنني رؤية ملك ؟...... )
عقدت وعد حاجبيها و هي تراقبها بارتياب عن كثب .... ثم قالت ببعض القسوة
( إنها متعبة قليلا ...... هل أنتِ صديقتها ؟!! ...... )
ابتلعت شيراز ريقها و هي تشعر بالدونية تتزايد بداخلها بقوة .... على الرغم من أنها قد تمتلك من المال و الملابس ما يكفيها .... الا أن احساسا بالدونية يخنقها أمام وعد ...نفس الإحساس الذي شعرت به أمام لجين أخت وليد .....
فقالت بارتباك و توتر
( نوعا ما ............... )
عبست وعد بشدة و قد زاد شكها خاصة أن تلك المرأة لا تماثل ملك سنا ... و من عينيها تبدو ذات خبرة و اقتدار على الرغم من كدمات وجهها .. حتى ملابسها الجريئة في وضح النهار كانت أكثر ريبة ... فقالت بصرامة
( نوعا ما ؟!!! ..... عذرا لكنني يجب أن أعرف صلتك بملك قبل أن أسمح لكِ بمقابلتها ..... )
ارتبكت شيراز بقوة .... و رمشت بعينيها ... فقالت بفتور
( لا بأس ....... سأغادر ....... )
استدارت لتبتعد قبل أن ينطلق لسانها بما لا يحمد عقباه .... و هي لا تريد لوعد أن ينالها من شر لسانها ...
الا أن وعد قالت بصوتٍ قاتم
( انتظري لحظة من فضلك ....... لن تغادري من هنا قبل أن أعرف من أنتِ ..... )
استدارت اليها شيراز بغضب و هي تقول بعدوانية
( هل ستحتجزينني لمجرد أن سألت عن أختك ؟!! ..... هل أنتِ مجنونة ؟! .... )
قالت وعد بحدة
( احترمي نفسك ...... أعتقد أنني أصبحت أملك فكرة واضحة عمن أرسلوكِ الى هنا ..... فلتذهبي اليهم و تخبريهم بأنن المحاكم هي وسيلة التواصل الوحيدة بيننا .... و فضيحتكم ستملأ الجرائد .... وأقسم بالله لو حاول اي منكم الإقتراب منها مجددا ... فأنهش لحمه .. و أفقأ مقلتيه بأظافري ..... )
عبست شيراز بشدة و هي تواجه هذا الهجوم الضاري .... لكنها لم تهجم عليها بالمقابل .. و هي قادرة تماما على ذلك ....
شيئا آخر شغل بالها .... فعقدت حاجبيها بشدة و هي تقول بقلق
( هل تأزم أمر زواجها الى تلك الدرجة ؟!! ............ )
حينها هتفت وعد بتوتر و غضب و هي تقف أمامها كي لا تهرب
( من أنتِ ؟!! ............ و ماذا تعرفين عن زواجها ؟!! ..... والله لن ترحلي من هنا قبل أن أعرف )
تنهدت شيراز بقنوط و هي تقول
( لا داعي لمثل تلك الدراما الرخيصة ....... أنا جارتها .... كنت أقطن في نفس الxxxx الذي به غرفتها القديمة .... قبل أن تأتي معكِ الى هنا ...... و أنا أعرف عن زواجها قبل حتى أن تعرفي أنتِ .....)
ارتبكت وعد ..... و شعرت و كأنها صفعتها بأدب و دون قصد ..... فظلت تنظر اليها قليلا ... قبل أن تقول بصوتٍ بارد ... متوتر ....
( تعالي معي ............. )
صعدت معها شيراز الى الشقة العلوية و هي تراقبها ....
و رغما عنها ابتسمت بشرود ذاهل ... مصدوم ..... و نفس الشعور بالدونية البغيضة ...
لطالما كانت وعد قاسية متهورة ..... حادة كحواف الزجاج المكسور .....
لم يهذبها العمر أبدا ...... لكن من هذب اذن ؟!! ......
هل فعلا تلك هي وعد التي تسير أمامها ؟!! .... إنها أنيقة ... و أناقاتها راقية .... تختلف عن أناقتها هي ... الفجة ... و التي لا تعرف غيرها .....
وصلا الى باب الشقة ... فأخرجت وعد المفتاح من جيبها و فتحت الباب .... فدخلت خطوة , ثم استدارت الى شيراز و قالت بلهجة آمرة
( انتظري هنا لحظة .........)
ثم أغلقت الباب في وجه شيراز الواقفة في الخارج ....
اجفلت شيراز بشدة .... و امتقع وجهها .... و هي ترى نفسها تقف امام باب اغلق للتو في وجهها .....
فأطرقت برأسها و هي تشعر بمدى غبائها في القدوم الى هنا بنفسها ....
فملك لم تعد هي نفسها ملك التي كانت تخدمها من قبل .... بل عادت لأسرتها .... أخت ناجحة متألقة ... متزوجة من رجل له وزنه في المجتمع .... و الأهم أنه نظيف الإسم و السمعة ... اسمه يشرف من تقترن به ....
لذا من حقها طبعا أن تغلق الباب في وجهها و تتركها خارجا كي لا تدنس البيت ....
استدارت شيراز قليلا فلاحت أمامها مرآة مذهبة معلقة على جدار الطابق الأنيق أمام المصعد ...
فهالها منظرها ... بدت كمشردة وضيعة .... قذرة ....
ملابسها الجريئة مشعثة قليلا و كأنها ارتدتها دون اهتمام .... شعرها مشعث فوضوي و متهدل حول وجهها المكدوم .... و الذي لم تهتم بخطه بخط واحد من الزينة ...
كانت تبدو أصغر سنا .... لكن أكثر وضاعة ....
و كأن السنوات لم تمر ...
و كأن السنوات لم تمر ....
رفعت يدها الى جبهتها و هي تستدير عن المرآة ....
أكان عليها أن تقابل وعد اليوم تحديدا ؟!! ......
بعد المطحنة الروحية و الجسدية التي مرت بها ليلة أمس !! .......
لم تكد تمر عدة لحظات ... حتى فتح الباب بقوة .... و خرجت ملك مشعثة الشعر و قد بدا طوفانا غير مرتب على غير عادتها ...
فوقفت تنظر اليها بلهفة ... ثم هتفت
( لم أصدق حين أخبرتني وعد أنكِ هنا ....... تعالي ... تفضلي ... )
لكنها عبست حين لاحظت كدمات وجهها ... فهتفت برعب و هي تقترب منها بسرعة
( ماهذا ؟!! ...... من فعل بكِ هذا ؟!! .... )
أطرقت شيراز بوجهها و هي تشعر بالغضب ....هل هناك أحد في البلد كلها لم يلحظ كدمات وجهها ؟!!
و هذا يرجعها لنفس نقطة الغباء ..... أكان عليها أن تخرج اليوم بعد ليلة أمس الكارثية بكل المقاييس ....
حين دققت ملك النظر الى عيني شيراز المرتبكتين .... تراجعت عن سؤالها و قالت بحزم و هي تشدها من يدها
( تعالي معي .......... لندخل )
ترددت شيراز وطالت بعينيها من خلف كتفي ملك تنظر الى وعد بقلق و حرج .... فقد كانت واقفة مكتفة ذراعيها بتحفز و هي مستعدة للهجوم عليها لو بدر عنها اي حركةٍ مثيرةٍ للشك ....
حينها استدارت ملك تنظر الى وعد و قالت بسرعة و لهفة بها طفولة
( لا تقلقي يا وعد .....الا تعلمين من هي ؟!! .... إنها بش ..... )
قاطعتها شيراز تقول بسرعة
( شيراز ..... جارتها قبل أن تنتقل الى هنا ...... )
نظرت ملك الى عيني بشرى المتخاذلتين ... المتعبتين ..... و شعرت بأنها تود لو تخفي نفسها عن العالم كله ...
فظلت صامتة قليلا ... قبل أن تقول بصوتٍ هادىء و هي تنظر الى وجه شيراز المطرق
( نعم انها جارتي ..... هي من أوجدت لي الغرفة التي كنت أقطنها ... و العمل في محل الورد .... لقد ساعدتني كثيرا من قبل .... سأظل ممتنة لها دائما .... )
رفعت شيراز عينيها الى عيني ملك ... و هي تفكر
" كما كنت ممتنة أنا لأختك .... ممتنة لحماية طفولية .... لم تأتي بالكثير من النفع ... الا أنها بقت في نفسي طويلا ...... "
جذبتها ملك لتدخل معها ..... الا أن وعد تمكنت من الإختلاء بها لعدة لحظات و هي تقول بارتياب ناظرة الى شيراز التي جلست على احدى المقاعد البعيدة ... تفرك أصابعها و قد بان عليها التعب ...
( هل أنتِ واثقة منها ؟!! ....... إنها لا تماثلك عمرا ... و مظهرها الجريء غريب علينا !! ..... أنا لا أشعر بالراحة لها .... )
قالت ملك بخفوت تطمئنها
( أعرفها منذ سنوات يا وعد ...... لا تحكمي عليها من مظهرها , لقد تعرضت للكثير من قبل فباتت لا تستطيع تمييز الكثير من الأمور ..... هي فقط تحتاج لمعاملة طيبة .... أنا الوحيدة التي كنت أمنحها تلك المعاملة ..... لا تكوني قاسية لهذه الدرجة ... )
تركتها ملك بينما وقفت وعد تنظر اليهما .... بضيق .... تشعر بأن أسرار ملك لا تنتهي ...
لكن من تلوم غير نفسها .....
نظرت ملك الي شيراز بعد أن جلست بجوارها و قالت بقوة
( من فعل بكِ هذا ؟!! .......أين ذهب الوسيم الذي كان يعد لك الطعام ؟ ... . )
أظلمت عينا شيراز و هي تنظر بعيدا بينما انقبض صدرها بشدة ... ثم تنهدت قائلة بخفوت
( دعكِ مني ..... لقد أتيت كي أعرف ما حدث بزواجك أنتِ .... )
لكن قبل أن ترد ملك ... عادت شيراز لتنظر حيث اختفت وعد ... فتابعت بصوتٍ شارد و بعدم تركيز و شبه ابتسامة واهية
( وعد لم تتغير إطلاقا ....... و كأن السنوات لم تمر ...... )
ابتسمت ملك قليلا بحزن و هي تقول
( لماذا لم تخبريها عن نفسك ؟!! ...... كانت لتسعد برؤيتك .... )
رفعت شيراز يدها بشرود تتلمس وجهها .. و قالت بصوت أجوف خافت خجل
( لقد تغيرت كثيرا ........ لم تعرفني .... )
قالت ملك بخفوت و حزن
( لقد تغيرتِ للأجمل ........... )
أنزلت شيراز يدها و هي تنظر اليها بابتسامة حزينة ... باهتة .... لا حياة بها ...
ثم همست بخفوت
( أنت كاذبة فاشلة يا ملك ...... جدا .....)
رفعت وجهها و هي تحاول مسح تلك الحالة عن وجهها ... فهي تشعر و كأنها تغيب و تنفصل عن واقعها ...
ثم قالت بخفوت متقطع ... غير متزن
( ماذا حدث معكِ أنتِ ؟؟ ..... ........ أردت المجىء اليك .... السؤال عنكِ .... أنا .... أنا أحتاجك جدا يا ملك ....)
ارتعشت شفتيها ... و أغروقت عينيها بغلالة من دموع ساخنة ... فتشوشت الرؤية أمامها ....
لقد أقسمت أن تعود لطبيعتها ... و لذلك خرجت .... لكن رؤية ملك جعلت الدموع تنفر من عينيها ....
و سرعان ما شهقت و هي تخفض وجهها ..... لتبكي باختناق ... محاولة ايقاف شهقاتها دون جدوى ...
انتقلت ملك الى جوارها بسرعة و ضمتها الى صدرها .....
ربما كانت تمر بظروف أصعب من أن تحتمل غيرها .... لكنها أقوى من شيراز ....
شيراز هشة .... مضطربة .... غير قادرة على الإتزان .....
أخذت ملك تربت على كتفيها و هي تقول برفق
( ماذا حدث الآن ؟!! ....... هل عدنا للبكاء مجددا ؟!! .... ظننت أن زمن البكاء قد ولى مع دخول الوسيم الضخم الى حياتك ......)
صمتت قليلا و هي تضم شيراز التي كان ارتعاشها يتزايد .... ثم قالت بخفوت تهمس لها
( أعرف ما قد يرفه عنكِ ...... لم يقلم أحد أظافرك منذ غيابي .... اليس كذلك ؟؟ .... ربما أحضر لك الوسيم ذو العضلات الإفطار .... لكنه لن يتمكن من تقليم أظافرك كما كنت أفعل أنا ...... )
ضحكت شيراز بجنون و هي تشهق باكية .... بينما كانت تضغط عينيها بقبضتها المضمومة كالأطفال ...
لو تعلم ملك أنه كان الأمهر من الجميع في تقليم أظافرها ...... بل اقتلعهم واحدا تلو الآخر .....
أخذت ترتجف و تشهق .... لكنها رفعت رأسها من صدر ملك .... تنظر اليها بوجهٍ أحمر بائس ...
ثم قالت باختناق
( لقد تزوجته ليلة أمس ........ )
ارتفع حاجبي ملك بذهول ... و هتفت غير مصدقة
( تزوجتِ كتلة العضلات ليلة أمس ؟!! ...... بهذه السهولة ؟!! ..... و ماذا حدث اذن ؟!! ... لماذا أنتِ هنا و تبكين ؟!! .....الا تحبينه ؟!!. )
مسحت شيراز وجنتها بظاهر يدها ... و هي تقول باختناق دون ان تتوقف عن البكاء .... تشهق بعنف بين كل كلمةٍ و اخرى ....
( لا أعرف ..... لا أعرف ..... بت لا أعرف شيئا ....... )
اخذت ملك كفها بين يديها و اخذت تفركهما .... بينما صمتت شيراز قليلا ... ثم قالت بصوتٍ ضائع القوى
( ماذا افعل ؟!! ......... ماذا أفعل ؟!! ....... )
رفعت ملك يدها تربت على وجنة شيراز برفق و هي تقول بخفوت
( تنفسي ببطىء ...... انتِ تعانين من صدمةٍ ما ....... خذي نفس ..... )
تعالى رنين الباب فجأة ..... فخرجت وعد من المطبخ لتفتح الباب .....
عقدت حاجبيها و هي ترى أمامها رجلا وسيما لكن شديد الضخامة ..... قوي العضلات ....
ملامحه غاضبة بشكلٍ لا يمكن إغفاله ....
فقالت وعد بعدائية
( نعم !! ...... من أنت؟!! ....... )
ازدادت شراسة وجهه وهو يواجه تلك العدوانية .... فقال بصلف من بين أسنانه ..
( أريد زوجتي ..... أخبروني في الطابق الأسفل أنها هنا ...... )
رفعت وعد ذقنها لتقول ببأس شديد
( عذرا ..... أنت لم تقل بعد من أنت كي أعرف من هي زوجتك .... )
اشتعلت عيناه أكثر .... بينما كان التوتر يتلاعب تحت بشرته المشدودة كالأوتار ....
فقال بهدوء خطير بينما قبضتاه تنقبضان الى جانبيه
( شيراز .... زوجتي هنا .... نادها من فضلك ....)
ظلت وعد واقفة مكانها ترفع ذقنها كي تتمكن من النظر اليه ... بينما قالت بنفس لهجته الخطيرة و عينيها في عينيه
( أنت لم تذكر بعد من أنت ...... و اذا لم تحترم البيت الذي طرقت بابه للتو .... فسيغلق هذا الباب بوجهك ....)
اتسعت عيناه بذهول .... و ازداد انقباض قبضته أكثر حتى ابيضت مفاصل أصابعه ... فلاحظتها وعد و توترت قليلا .... الا أنها لم تسمح لهذا التوتر أن يظهر عليها .....
لكنها لم تنتظر طويلا .... فقد جاء صوت هش من خلفها يقول
( لا داعي لهذا يا وليد ..... ها أنا ذا ..... كنت في زيارة لملك .... أنت تعرفها ....)
أجفلت ملامح وليد قليلا حين سمع صوتها الهش ... ثم رآها تطل من خلف وعد ...
التقت أعينهما في لحظة خاطفة .... فسرى ارتعاش بجسده الضخم المتوتر ....
وهو يراها في وضح النهار ... بوجهها الذي ضربه ليلة امس دون تمييز ... عيناها الخضراوان يمتزج خضارهما باحمرار البكاء .... لكن وجهها كان جافا ... فهل هو أثر بكاء ليلة أمس .... أم أنها بكت مجددا ؟؟....
شعر بحلقه يلتوى وهو يدرك أنها كانت على وشك السقوط بأي لحظة ..... كانت هزيلة شاحبة ... و كأنها فقدت نصف وزنها ليلة أمس ...
أخذ نفسا خشنا قبل أن يقول بلهجة الأمر
( تعالي الى هنا ...........)
تحركت شيراز بخنوع مطرقة الرأس كي تتجاوز وعد ... الا أن وعد قبضت على ذراعها بشراسةٍ فجأة لتبقيها خلفها و هي تقول بغلظة
( انتظري .... برؤية هذا الجلف ,أستطيع استنتاج أنه هو من ضربك بهذا الشكل الهمجي .... و أنا اكثر من قادرة على حمايتك طالما أنكِ ببيتي .....)
ابتسمت شيراز فجأة على الرغم من شحوب وجهها ... و تشقق شفتيها ....
نعم هي وعد .... حتى أنها تشبثت بكفها كطفل صغير و هي تنظر الى كفيهما معا ....
لم يهتم وليد بوقاحة وعد ... بل ضاقت عيناه و هما تراقبان ابتسامة شيراز الحزينة .... و كأنها سافرت الى زمنٍ آخر ....
تكلمت شيراز بخفوت .... و هي تترك كف وعد على مضض
( لا تقلقي ..... انا بخير ...... )
صمتت قليلا ... ثم رفعت عينيها الى عيني وليد .... لتتابع بصوتٍ أجوف له صدى
( انه زوجي .........و يجب أن أذهب معه ..... )
تحركت تتجاوزها ببطىء و برأسٍ منخفضة ...... فقالت وعد بحدة قبل ان تخرج
( نستطيع أن نحميكِ ......... زوجي لن يسمح له بالإقتراب من هنا ... )
اظلمت عينا وليد بشدة .... و قدرته على السيطرة على نفسه تتضائل ... و تهدد بأن يبطش بتلك الوقحة .. لولا ان عيناه لم تبارحا وجه شيراز .... كانت غريبة ... مهتزة .... و غير متوازنة على الرغم من هدوئها الظاهر .....
قالت شيراز بخفوت تكلم وعد
( فليحفظه الله لكِ ...... أنا سعيدة من أجلك ..... أنت تستحقي كل خير .... )
عقدت وعد حاجبيها قليلا .... و هي تشعر بشيء ما غريب ... و كأنها تعرف تلك المرأة .... ملامحها ليست غريبة عليها ... و خاضة عينيها الخضراوين المذعورتين ....
لكن ما شتت انتباهها هو دعائها الخافت ..... تلك الدعوة التي ذكرتها بأن سيف لم يعد لها .... لم يعد من حقها أن تطلبه لتطلب نجدته ......
اظلمت عينا وليد وهو يقول آمرا
( هيا بنا ..... لقد احرجتني و أحرجتِ نفسك بما فيه الكفاية ..... )
خرجت شيراز اليه مطرقة الرأس ... لكن قبل ان يستدير رآى ملك التي كانت تتمسك بالباب بأسى ...
و ما أن تعرف عليها حتى ابتسم قليلا دون مرح ....
حينها رفعت ملك كفها تلقائيا و كأنها تلوح له محيية متجهمة بصمت .... تخبره أنها تتذكره
شعر بداخله بشعور هائل من الاختناق و تلك الصغيرة ترى ما فعله بشيراز ...
و مع هذا تلوح له بائسة دون حتى ان تبتسم .... و كأنها لا تعرف ما هو الحل ........
مد يده ليمسك كف شيراز بتملك .... يجرها خلفه بتملك .... بينما شيعتهما وعد بكلمةٍ اخترقت أسماعه كالقذيفة
( همجي ........ )
أخذ يجرها خلفه الى أن وصلا الى السيارة .... فدفعها بقوةٍ تجاه المقعد الأمامي كي تفتح الباب ...
ثم اندفع يدور حول مقدمة السيارة .... ليجلس و يصفق الباب بعنف ..
جلست شيراز بمقعدها بجواره وهو ينطلق بالسيارة .... مطرقة الرأس ... صامتة تماما ....
بينما كان هو يغلي بغضب .... خاصة وهو ينظر بين حينٍ و آخر الى ساقيها الظاهرتين من الفستان القصير الذي ترتديه ....
فقال بخفوت و شر و كأنه يكلم نفسه دون أن ينظر اليها
( لنا حساب في البيت ........ لا بأس .... )
نظرت اليه فجأة .... و كانت أول مرة ترفع رأسها منذ أن استقلت السيارة بجواره ....
كانت ملامحها متبلدة .... شاحبة ....
لكنها قالت بخفوت فاتر
( أستطيع أستنتاج ذلك .......... )
أدار رأسه اليها بوحشية .... قبل أن يقول من بين أسنانه
( برودك لن يفيدك اليوم يا شيراز ....... و ما فعلته لن أمرره على خير .... )
ارتفع حاجبيها قليلا ... ثم قالت بنفس الفتور
( هل يمكنني السؤال ... عما فعلته بالضبط ليكون بمثل هذه الكارثة ؟!! ..... )
ضرب بقبضته على المقود بقوة وهو يهدر قائلا ..
( خرجتِ دون اذن مني ..... و أنت ترتدين ملابس رخيصة مثلك ...... دون اي اعتبار أن هناك ما تغير في حياتك .... وهو شيء بسيط جدا .... مجرد اسم رجل اصبحت تنتمين له .....)
ظلت تنظر اليه قليلا قبل أن تقول بفتور
( لقد اخذت هذا الفستان من الملابس التي أحضرتها لي .......... )
التمعت عيناه بوحشية وهو يقول بصوتٍ خافت أشد خطورة من علوه
( لا تتلاعبين معي انا بالذات يا شيراز ....... تعلمين جيدا أن تلك الملابس أحضرتها من أجل عيني أنا فقط ........ و يمكنك أخذها بعد انتهاء صفقتنا .... لكن حتى هذا الحين ..... لن تراكي عين سوى عيني ... لكنك تعرفين ذلك جيدا ..... و قررتِ أن تتحديني ..... )
تنهدت شيراز بتعب ..... ثم قالت و هي تنظر من نافذتها ...
( كل ما أعلمه أنني أخذت أول ما وقعت عليه يدي حين أردت النزول ..... لم أفكر في تحديك أبدا ...... و هذا يجعلني أطلب منك المرور على شقتي كي أحضر بعض من ملابسي ...... )
ضحك ضجكة خطيرة ..... أثارت رجفة في أوصالها و هي تنظر اليه بصمت .... ثم قال أخيرا باحتقار
( و كأنك كنتِ مثال الفضيلة قبل أن نتزوج ........ )
صمتت شيراز و لم تجد فائدة من الرد .... فعادت لتنظر من نافذتها بملامح ميتة ....
لكن وليد لم يرحمها وهو يقول من بين أسنانه
( ..... تظنين أنكِ ستحين نفس حياتك المنحلة و أنا العب دور المشاهد... أتمتع بما أناله منكِ ليلا على أن أصمت خلال باقي اليوم .... كباقي أزواجك .... )
زمت شفتيها قليلا ..... و هي تنظر الى وجهه الجانبي المجنون .... ثم قالت بخفوت
( حياتي المنحلة ؟!! ........... )
كان في سؤالها الكفاية .... فالتوى حلقه أكثر ... الا أنه تمكن من الإبتسام بسخريةٍ خشنة دون مرح وهو يقول
( ذكريني أين ربحتك تحديدا .......... )
ظلت تنظر اليه طويلا ... ثم قالت ببرود خافت
( حيث كنت أنت هناك ...............)
نظر اليها بطرف عينيه نظرة جعلتها ترتجف ..... قبل أن يعيد عينيه الى الطريق ...
ثم قال لنفسه بنفس الخفوت
( لا بأس .......... في البيت سنتابع حديثنا ..... )
تنهدت شيراز بصمت و هي تنظر أمامها ..... كانت عيناها واسعتان ... تنظران بلا حياة الى الطريق الطويل أمامهما ....
ثم قالت بخفوت
( افعل ما يحلو لك ........... لقد دفعت لتفعل ذلك )
ضاقت عيناه أكثر على الطريق .... بينما ابيضت مفاصل أصابعه على المقود ..... ثم قال بعد فترة صمت مشحونة طويلة ....
( من الأفضل أن تصمتي الى أن نصل ........ )
صمتت شيراز بالفعل و اسندت رأسها الى زجاج النافذة ..... مغمضة عينيها منتظرة انتهاء عقابه كي تتمكن من النوم ....
فتحت عينيها على صوته الآمر وهو يقول بصلابة
( انزلي ............... )
ذكرها هذا بليلة أمس .... حين نطق بنفس الأمر و هي تلبس فستان زفافها ... طائرة على سحاب الأحلام ...
على الرغم مما أمطرها به من الفاظه البشعة .... لكن بداخل قلبها كانت تحمل أملا .... سرعان ما دهسه بحذائه القديم .....
نزلت بصمت ... فترنحت قليلا .... الا أنها تمكنت من أن تخطو بخفةٍ و هي تسبقه الى البيت دون أن تستدير ....
فتح الباب بصمت فسبقته للداخل دون أن تتكلم .... و اتجهت الى غرفة النوم و هي تنتظر مصيرها من التقريع و ربما أسوأ ......
دخل خلفها ببطىء .... الى ان سمعت صوت باب غرفة النوم يغلق ... فاستدارت اليه ببطى ....
تراه يقف عند الباب ... ينظر االيها بنظراتٍ عديمة الرحمة ....
فرفعت وجهها تنظر اليه منتظرة ..... على الرغم من تعبها الشديد ...
ظل ينظر اليها قليلا بصمت ... قبل ان يقترب منها ببطىء دون ان يرفع عينيه عن عينيها ....
ثم قال اخيرا بخفوت
( خروج من هنا ..... لن اسمح لكِ به بعد اليوم ...... )
قالت شيراز بعد لحظة
( لقد اعطيتني حرية الخروج صباحا ..... فهل هذا فخ لتلحق بي المزيد من الإهانة ؟!! ..... )
كان قد وصل اليها .... فرفعت رأسها عاليا كي تتمكن من النظر اليه ...
رفع وليد اصبعه محذرا للحظة وهو يتأملها عن قرب ..... ثم قال أخيرا يتهجأ كل حرف
( الآن اسمعيني جيدا لأنني لن أكرر كلامي ..... منحتك حرية الخروج للأبد ... أي فصم العقد بيننا ... لكن بما أنكِ هنا الآن ..... مما يعني أنكِ قد قررتِ البقاء .... فهذا يعني أنكِ ستبقين هنا بشروطي أنا .... هل ما أقوله واضحا ؟!!! ....... )
قالت شيراز بصوتٍ فاتر
( هل سيكون سجنا ؟!! ....... ما الداعي منه ؟!! ... )
أومأ برأسه وهو يقول
( يمكنك اعتباره سجنا لو أردتِ ..... و الداعي هو أنني لا أثق بكِ ..... و لن أفعل ابدا .... )
ظلت شيراز تنظر اليه قليلا .... قبل أن تقول بخفوت
( لقد كنت مخلصة لكل زوج من أزواجي السابقين ....... )
أدركت أنها نطقت بشيء خاطىء .... من نظرة عينيه ... و التواء زاوية شفتيه .... على الرغم من ان ملامحه لم تتغير أبدا ... بل ازدادت صلابة .....
ابتعد عنها قليلا ... وهو ينظر اليها بصمت ... ثم قال بصوتٍ متجمد
( فكرتنا عن الثقة تختلف يا شيراز ...... اخلعي فستانك ... )
ارتفع حاجبيها و اتسعت عينيها بشدة و هي تفكر
" مجددا !!!! ...... "
فقالت بخفوت مضطرب
( أنا متعبة ....... هل يمكنني النوم قليلا ؟!! ......... )
التوت شفتيه أكثر .... الا أنه قال بصوتٍ جامد
( اخلعي فستانك يا شيراز ....... الآن ..... )
ارتجفت شفتيها قليلا ...... و نظرت الي عينيه تغوص بهما طويلا ...لكنها اصرت على ان تستجمع كل قواها و الا تدعه يهزمها مجددا كليلة امس .... فلتفعل ما تجيده اذن ... فهذا اكثر كرامة ...
انحنت و هي ترفع حافتي الفستان الى ان خلعته من فوق رأسها .... ثم وقفت تنظر اليه بسكون ....
طافت نظراته بها و طالت .... ببطىء كاد ان يهلكها .... فاحمر وجهها مجددا !! ... حينها لم تستطع متابعة التحدي اكثر ... فاطرقت برأسها و كتفت ذراعيها ببطىء ..
شعرت انها تموت امام عينيه ...... لكنه قال فجأة بصوتٍ صارم
( هاتي الفستان ........... )
رفعت وجهها اليه للحظة بعدم فهم .... لكنها عادت و اخفضته مجددا امام نظراته ... فانحنت لتلتقط الفستان قبل ان تستقيم و ترميه له ,..... دون ان تنظر اليه ....
سرعان ما سمعت صوت تمزقٍ عالي ..... فرفعت وجهها تنظر اليه بذهول و هي تراه ينتقم من الفستان ليمزقه من اعلاه الى اسفله ...
فغرت شيراز شفتيها و هي تراقبه ..... متأكدة انه اصابه مس من الجنون !! ...
رمى وليد الفستان المشقوق بعيدا ثم اعاد عينيه اليها ليقول بصوته القاسي ....
( من هذه اللحظة لن تدعي احدا يرى ذرة منكِ ....... تلك الملابس للبيت فقط .... )
اشتدت ذراعيها من حولها و هي ترتجف قليلا .... ثم قالت بخفوت باهت ....
( ألن أخرج اطلاقا ؟!! ...... حتى .... معك ؟!! ....... )
لم يرد عليها .... بل ظل ينظر اليها .... يدقق النظر بها ...... لكنه لم يرد عليها ..... بل اتجه الى أحد الأدراج .... ليخرج منه شيئا .... ثم عاد اليها ....
رأته بعينين مهتزتين وهو يمسك بشريط من الأقراص .... ليخرج منه قرصا ...
مده اليها وهو يقول
( ابتلعي هذا ............ )
التقطتت القرص منه وهي تنظر اليه ... ثم همست بخنوع
( ماهذا ؟!! ............ )
استدار بعيدا عنها وهو يوليها ظهره ..... ليقول بصوتٍ لا تعبير به ...
( ماذا تظنين ؟! ....... أقراص منع حمل ..... )
شيء ما أصابها في الصميم ..... شيء جعلها تنظر الى القرص المستكين في راحة يدها بصمت .....
كان وليد ينظر اليها في المرآة دون أن يستدير اليها .... و شعر بمخالب شرسة تنهش صدره ....
فعقد حاجبيه بغضب و استياء ....
لماذا من الممكن أن يخالجه شعورا يشبه الشفقة تجاهها .... من المؤكد أنها مرت بهذه الخطوة مرارا من قبل ...
رفعت شيراز وجهها الشاحب اليه .... فالتقت اعينهما في المرآة بصمت ...
حينها قالت بخفوت
( أنا لن أحمل ..... لا تخشى شيئا ...... )
انعقد حاجباه بشدة وهو يستدير اليها و ملامحه يعلوها شيئا ما ...... هل كان بعض القلق أم أنها تتوهم ؟!!
ابتلعت ريقها تبعد عنها تلك الأوهام ..... فقالت و هي تطرق بوجهها
( لقد استخدمت وسيلة أخرى .... في زواجي الثاني .. و جدتتها في الثالث ... لقد كان هذا طلب كل منهما ....... ثم نسيتها ..... )
انتفخ صدره بقوةٍ و انتشر لون قاتم ... بينما هجم عليها فجأة يقبض على ذراعيها يهزها بعنف حتى تطاير القرص من يدها بعيدا ... وهو يهدر عاليا
( توقفي عن الكلام عن رجال آخرين ..... توقفي عن أتكوني بمثل هذا الرخص .... )
أغمضت عينيها بشدةٍ و هي تشعر بالدوار و التهالك ... لكنها تمكنت من الصراخ عاليا و هي مطبقة جفنيها
( لم اكن يوما رخيصة .... كنت متزوجة ...... كنت متزوجة ..... كنت متزو....... )
لم تستطع إكمال عبارتها .... و هي تشعر بالعالم يغيب من حولها و يتداخل بصورةٍ عنيفة ....
فهمست و هي تلهث ...
( وليد ........ أشعر ...... )
الا أنها سقطت بين ذراعيه .... وآخر ما سمعته كان صوته وهو يهتف بقلق ... يلتقطها قبل أن تسقط أرضا
( بشرى ............ )
فتحت شيراز عينيها على صوت رجولي قوي يحثها مناديا باسمها ... و كف قوية تضرب الكدمات على وجنتها فتزيدها ألما .... لكنها كانت في عالم داكن قاتم ....
كانت في زاوية مظلمة من أركان الدار .... و ثور هائج يهاجمها فيدفعها لتلتصق باجدار المقشر المؤلم أكثر ...
يداه تندفعان تحت ثوبها القطني الرخيص .... و هي تحاول جاهدة كي تصرخ و تستنجد بأحدهم ... لكن لا فائدة ....
حنجرتها كانت مصمتة تماما ... و كأنها تحمل صخورا و حصوات أسفل بعضها ... و آخر قابع في صدرها مما يثقلها و يجعلها غير قادرة حتى على الحركة ....
يداه كانتا تعتصرانها بقوةٍ من تحت فستانها .... و أنفاسه تقتلها ببشاعتها .....
و هي تحاول ابعاد وجهها عنه يمينا و يسارا .... بينما يده الأخرى تضرب وجهها ...
صفعاتٍ رتيبة ... تتناقض مع عنف يده الأخرى تحت فستانها
و صوته يهتف بقلق
( بشرى ...... بشرى ..... أفيقي .... )
لكنها لم تكن تريد أن تفيق .... بل الموت أفضل لها من أن تفتح عينيها على رؤية وجهه البشع و أسنانه السوداء ...
هتفت أخيرا بكل قواها
( ابعد يديك القذرتين عني ....... أيها القذر .... ايها القذر .... )
و دون أن تدري رفعت يدها و تمكنت من صفعه بكل قوتها ..... و هي تصرخ باسمه ....
توقفت اليد الي كانت تربت على وجنتها ... و تشنجت العضلات التي تضمها الى صدره ....
و بدأت فجأة تجد قوتها .... و كم شعرت بحالة غريبة من النشوى و هي تجد نفسها قادرة على مصارعته للمرة الأولى ...
لكن قوته كانت أكبر من قوتها .... فقيد معصميها فوق رأسها و أخذ يصرخ بها كي تصمت ...
فلسانها لم يكن يهدأ من نعته بكل ما تخيلته يوما .... و لم تكن قادرة على ذلك حينها .....
صرخة هادرة بها .... و قبضتين تشدان على معصميها بصوةٍ نشرت الألم بشدة عبر ذراعيها
جعلتها تنتفض شاهقة و هي ترمش بعينيها عدة مرات .....
كانت مقيدة ... ذراعيها أعلى رأسها و احدهم يعلوها ... مما جعلها تنتفض اكثر و هي تطلقة صرخة قصيرة ..
الا ان صيحته هدرت بها مجددا
( توقفي يا بشرى ...... إنه أنا .... وليد .... زوجك )
صمتت قليلا و هي ترمش بعينيها عدة مرات ... تلهث بعنف , لدرجةٍ آلمت صدرها , و قد اغرقها العرق البارد ... و بلل قميص نومٍ قطني فضفاض ترتديه ....
نظرت الى ملامحه المتجهمة تعلو وجهها ... لا تبعد عنه سوى سانتيمترات قليلة ....
ابتلعت ريقها و هي تستوعب مكانها أخيرا .... ثم همست بضعف من بين شفتيها البيضاء المتشققة
( لقد استيقظت ..... استيقظت .... لا داعي لتقيدي هكذا .... لن أهرب لأي مكان ....)
خفف قبضتيه على معصميها تدريجيا ... ثم تركهما ببطىء .. فأخذت تدلكهما و هي تغمض عينيها بتعب , بينما قال هو بغضب
( تقصدين أفقت ...... لا استيقظتِ ..... لقد اصبت بالإغماء ........)
لم تتغير ملامحها الباهتة ... و لم تفتح عينيها لتواجهه .... بل قالت بخفوت
( استيقظت ..... أفقت .... لا فرق ... المهم أنني هنا الآن ......)
شعرت به يجس النبض بباطن معصمها .... قبل أن يقول بخشونة
( على ما يبدو أن ضغطك قد انخفض جدا ..........)
لم ترد شيراز .... كانت ملامحها باهتة .... غير مبالية بشيء .....
لكن شيء ما انتفض بداخلها و هي تشعر بيده على وجهها ... تمسح عنه العرق الذي اغرقه .....
ارتعشت قليلا من تلك المعاملة .... الا أنها عادت و نهرت نفسها على الغباء المكرر ....
لن تقع في هذا الفخ مجددا .......
قال وليد بصوتٍ أجش
( الطعام الذي أحضرته لكِ لجين لم تمسي منه شيئا.... متى كانت آخر مرة تناولت فيها طعاما ؟!! .... )
عبست قليلا تحاول التذكر ..... لكنها لم تستطع , و هناك شيء آخر شغل بالها ...
هل راقب الطعام .... و اهتم بملاحظة أنها لم تأكل شيئا ؟! ....
طيف دافىء تخللها فجأة عند تلك النقطة ........
لكنه سرعان ما اختفى حين قال وليد بخشونة
( عما تحدثتما أنتِ و لجين ؟؟ .......... )
فتحت عينيها ببطىء تنظر اليه .... تستحق ما تشعر به حاليا .... لكنها قالت بخفوت دون أن تنزل عينيها عن عينيه ..
( لما لا تسألها هي ؟؟ ......... )
عقد حاجبيه وهو يقول بخشونة
( تحدثتما اذن .............. )
ردت شيراز بخفوت و هي تبعد وجهها جانبا
( يمكنك سؤالها عن ذلك أيضا .......... )
قال وليد بقوة
( لا أريدها أن تختلط بكِ ........... )
أغمضت عينيها للحظة قبل أن تقول بخفوت
( لماذا ؟! ....... هل سأدنسها ؟!! ........ )
قال وليد بصوتٍ أجش متوتر
( اسمعي ما أقوله فقط ..... و لا تجادلي ..... )
قالت بصوتٍ مجهد ... باهت .....
( ايضا عليكِ أن تأمرها هي ...... هي من صعدت الى هنا , أنا لم أدعها ..... )
زفر بقوةٍ ... فازداد انطباق جفنيها .... و أخذت تدلك ذراعها بيدها المرتجفة بشرود ....
فأخذ يتأملها مليا .... قبل أن يقول بصوتٍ أجش مهتز قليلا
( عليكِ ابدال هذا القميص ..... انه مبلل بالعرق جدا و قد تمرضين ..... )
تحسست يداها القماش المبلل .... فتذكرت أنها لم تكن ترتديه منذ دقائق ..... هل ألبسه لها بنفسه ؟؟!!
نظرت اليه , فكأنما سألته السؤال بعينيها .... فالتقت أعينهما للحظةٍ قبل أن ينهض ليقول بصوتٍ آمر
( بدلي ملابسك ثم تعالي لتأكلي ........... )
ثم استدار مبتعدا بسرعة ينوي الخروج .... لكن و قبل أن يخرج التفت اليها قائلا بصوتٍ قاسي
( بشرى .......... من هو فتحي ؟؟ ......)
انتفضت شيراز بقوةٍ و هي تنظر اليه متسعة العينين بذهول .... قبل أن تقول بصوت مهتز قليلا
( من ؟!!! ......... )
ازداد انعقاد حاجبيه وهو يقول بهدوء
( فتحي ..... صرختِ باسمه كثيرا ...... )
فغرت شفتيها قليلا ... قبل أن تقول بصوت خافت قلق
( ماذا قلت ؟!! ............. )
ظل ينظر اليها قليلا قبل أن يقول بخشونة مقلدا اسلوبها
( ربما عليك سؤال نفسك ........... )
ارتبكت بشدة ... و تاهت عيناها تحاول جاهدة تذكر ما نطقت به ..... لكنها فشلت تماما ....
رمشت بعينيها عدة مرات ... فتحي مشرف الدار ... أي أنه ليس أحد أزواجها ... لم تكن تحل له ... بل كانت مجرد طفلة .....
دائما تتبجح بأنها لم تفعل شيئا في الحرام ... كله في الحلال ....
ماعدا فتحي ..... كان حراما بحرام .....
رفعت عينيها الخائفتين تنظر اليه بصمت .... كانت عيناه قاسيتين ... صلبتين ... غير متفهمتين
استجمعت كل قواها و هي تتلمس شعرها قبل أن تقول بخفوت دون أن تواجه عينيه
( لا أعرف أحدا بهذا الاسم .......... )
شفتاها المتكورتان و عيناها المنخفضتان ....و أصابعها المتلاعبة بأصابعها ... خير دليل على كذبها ....
لكنه لم يتكلم .... بل خرج مباشرة ....
بينما تنهدت شيراز بتعب و هي تنزلق في الفراش قليلا ..... مغمضة عينيها .....
هذه الزيجة أصعب من كل سابقاتها ..... انها تمتص كل ذرة حياة متبقية بها .....
فتحت عينيها و هي تستقيم قليلا ....لا تريد أسيرة تلك الحالة طويلا ... الحياة يجب أن تستمر ....
و هي يجب أن تقاوم حتى آخر نفس بها ....
منذ سنوات قررت أنها لن تسمح لشيء في هذه الحياة بأن يهزمها مجددا ... ستتحدى انعدام هويتها ... و ستتحدى عدم امتلاكها اي مؤهلات و ستكون أفضل من اي ممن يحملن تلك المؤهلات العلمية ... و حتى ممن لديهن أسر و عائلات .....
اتجهت الى المرآة .... تنظر لهيئتها البائسة .... و عينيها الضائعتين .....
تتذكر ذلك القسم الذي اقسمته لنفسها .....
همست بخفوت فاتر
( هي مجرد كبوة أمر بها ...... مجرد حالة ركود ...... و سأكون بخير ..... سأكون كما قررت أن أكون )
اتجهت الى الحمام كي تزيل آثار العرق و التوتر عنها .....
ثم خرجت لتفتح الدولاب ..... و تنتقي منه ما ترتديه .... فاختارت قميصا قطنيا يبدو طفوليا ... يصل الى ركبتيها .... و مشطت شعرها المبلل ..... فبدت بحالٍ أفضل قليلا ....
فقط كدمات وجهها هي السيئة الوحيدة بشكلها .... تجاهلت تلك الكدمات فسرعان ما ستزول ....
دخلت الى المطبخ بقدمين حافيتين .... مترددة و هي تنظر الى ظهر وليد و قد خلع قميصه و كأنه لا يجلس في البيت الا عاري الصدر ....
الحقيقة أن رجولته توترها ...... وسامته تربكها ....
حين وقعت في حبه , لم يكن ذلك بسبب شبابه أو وسامته أو عضلاته الضخمة .... بل على العكس هذه الأشياء هي ما كان يجعلها غير مرتاحة ...حيث أنه اقرب الى الكمال .... بينما هي في القاع ....
و حتى الآن لا يزال شبابه و ضخامته يربكانها .... لا يسحران عينيها ....
كان لا يزال يوليها ظهره وهو يضع الطعام الذي احضرته أخته في الفرن الكهربائي ....
تنحنحت قليلا ... فالتفت اليها ينظر اليها من خلف كتفه ... نظرة لا تحمل أي لطف....
ثم أعاد نظره الى ما يفعله ليقول بنفس اللهجة الآمرة
( هل تنتظرين دعوة ؟! ........ إجلسي ..... )
ارتبكت قليلا لكنها داست على الأرض الباردة ..... فصعدت على احد الكراسي العالية .... حتى أن قدميها لم تصلا للأرض ....
التفت اليها وهو يضع أمامها طبقا .... تقريبا رماه على سطح المائدة ... فأصدر صوتا عليا و أوشك على أن يتحطم ....
ثم جلس امامها .... ناظرا اليها و هي تبدو صغيرة ... شعرها المبلل متناثر حول وجهها المنخفض ...
رفعته قليلا تنظر اليه بتوتر .. و ما ان التقت أعينهما حتى عادت لتخفضهما و هي تبعد شعرها خلف أذنها بارتباك واضح ....
قال وليد بصوتٍ قاسي خشن
( كلي .............. )
أمسكت بالمعلقة و هي تنظر الى سطح المائدة الخالي أمامه ... قبل أن تقول بخفوت
( ألن تأكل ؟! ........... )
قال لها بلهجته الخشنة
( اهتمي بنفسك .......... )
تنهدت شيراز بيأس و هي تتلاعب معلقتها في الطبق دون أن تأكل ....ثم بعد لحظات طويلة رفعت وجهها و هي تضع المعلقة جانبا ...
ثم قالت بخفوت
( حسنا ...... أعلم جيدا أنك تكرهني .... تحتقرني ..... و تكره نفسك لأنك أدخلتني الى حياتك ..... لا تصدق أن تمنح اسمك لمن هي بمثل وضاعتي .... و بنفس الوقت لم تكن لتجعلني أفلت بخداعي لك .... )
أرجع ظهره للخلف ينظر اليها بملامح جامدة .... لا تحمل أي شعور ....
فتنهدت شيراز مجددا بتوتر .... ثم تابعت قائلة
( لكن و بما أنك دفعت الكثير ..... الا يمكننا الوصول الى نوع من الحياة المرضية لكلينا ..... على الأقل كي لا يضيع مالك هباءا ..... لو منحتني الفرصة أستطيع أن ....... )
قاطعها قائلا بكل هدوء .... على الرغم من ان نبرته كانت من القوة بحيث ان تشنجت منها
( أولا ......... أولا آخر همي أن تنالي حياة مرضية .... ثانيا لما تخيلتِ أن هذه الحياة ليست مرضية لي ؟!! .... جعلك تعانين هو أكثر ارضاءا لي من كل مواهب اغرائك التي لم أرى أيا منها حتى الآن ..... )
ظلت تنظر اليه طويلا .... جانبا منها كان يحثها على أن تنفجر باكية و تهرب جريا من أمام عينيه القاسيتين
لكن حالة البلادة جعلتها تمكث مكانها .... تنظر اليه بصمت , قبل أن تقول بصوتٍ فاتر
( السادية ليست طبعك ......لن تتمتع بها ... )
ابتسم بتقزز وهو يقول مشمئزا
( تتكلمين عن خبرة !! .......... )
ظلت تنظر اليه دون ان تحيد بعينيها عن عينيه ... ثم قالت بهدوء
( استطيع ان اخبرك بها افضل من اي كتاب قد تقرأه عنها ....... متعة ..... شهوة ..... لكن ليس كل الرجال قادرين على التفنن بها ..... تحتاج الى مختل نفسيا .... )
كان ينظر اليها بنفس الملامح الجامدة ....
كانا هادئين ... يتحدثان بنبرةٍ مهذبة .... تتناقض تماما مع فحوى حديثهما ....
قال اخيرا بصوت بارد جليدي
( اهانك ؟!! ................ )
قالت بخفوت ترد عليه
( كحيوان ............ )
امال وجهه قليلا و استطاعت سماع صوت نفس حاد ..... قبل ان يقول بنفس البرود
( اهكذا كنت تنظرين اليه ؟!! ......... )
التوت شفتيها للحظة خاطفة .... قبل ان تقول بهدوء
( كنت اتحدث عن نفسي ............ )
اظلمت عيناه قليلا ... و تشنجت قبضته ... و ظل ينظر اليها طويلا , قبل ان يقول بنبرة خافتة مشتدة
( أكان يعتمد على الذل أم الألم ؟؟ ......... )
ظلت صامتة قليلا تنظر اليه ..... قبل ان ترفع اصبعيها امامه قائلة ببساطة خافتة
( الاثنين ............ )
تشنج فكه بشدة .... حتى بدا و كأنه غير قادرا على السيطرة على فكه .... و عضلاته .....
حينها اخفضت نظراتها .... و نظرت الى الطبق امامها .... قبل ان يقول وليد بتقزز
( هل تنتظرين ان اشفق عليكِ ؟!! ....... )
رفعت عينين متسعتين اليه .... و على الرغم من صدمتها المؤلمة بتقززه , الا انها قالت بسرعة
( اطلاقا ....... اكثر ما اكرهه بحياتي هو أن أكون مثيرة للشفقة ..... )
ضحك دون أي احساس بالمرح .... و دون أن يبعد عينيه عن عينيها ... ثم قال بصوت محتقر
( الا تعتقدين أنكِ مثيرة للشفقة ؟!!! ........)
تجمدت عيناها .... و تبلدت ملامحها ببرود ثم قالت بصوتٍ غريب به لمحة من القسوة
( لا .... لست مثيرة للشفقة يا وليد .... و لو عاد بي الزمن لقبلت بنفس خياراتي في الحياة ..... مرة واحدة ندمت على تلك الخيارات و ها أنا الآن أعاني من ذلك الندم ...... كان يمكن أن يكون وضعي أكثر خزيا لو لم اقبل بتلك الخيارات ..... )
مال اليها بعنف فوق المائدة وهو يقول بلهجة كره
( هذه حجة كل ما يبيع نفسه برخص تراب الأرض ...... )
مالت اليه هي الأخرى فوق المائدة .... بهدوء ... و هي تسند ذقنها الى كفها ... تنظر اليه ووجهه لا يبتعد الكثير عن وجهها .....
ثم قالت بنفس الهدوء
( هناك بيع دون ثمن أصلا....... لذا أنا أعتبر رابحة بأفضل ما كان متاحا لي ..... )
ارتجفت ملامحه بغضب شديد وعيناه تطوفان بوجهها القريب من وجهه ....
لكنها همست بخفوت
( أنا آسفة لأنني خدعتك ....... لم أخدع أي ممن عرفتهم قبلا , كانو يعرفون حقيقتي و يقبلون بها.... لكن معك , لم استطع ..... بنيت حياة كاملة و انا أعتقد أنني لن اراك مجددا .... لكن الوقت كان قد فات .... و أحببت..... أقصد و تخيلت أنني أحببتك .... لذا لم أستطع التراجع عن كذبي ...... )
ارتجفت شفتيها قليلا .... بينما عيناه تتأملانها بشراسة .... و اصبعها يرسم دوائر وهمية فوق سطح المائدة .... و جانب شعرها الذي بدأ يجف متساقط على وجهها يخفي معظم ملامحها عن عينيه ....
ثم قالت بفتور خافت دون أن تنظر اليه ...
( الا يمكننا فقط أن ........ نركز على أرباحنا سويا دون التطرق لما مضى ..... لقد عاقبتني بما فيه الكفاية حتى الآن ..... )
سمعت صوت ضحكة خافتة خشنة قبل ان يقول بصوتٍ هازيء
( عاقبتك بما فيه الكفاية لليلة واحدة ؟!! ......... يبدو ان زوجك السادي لم يدربكِ جيدا , فأنتِ لا تجيدين التحمل ...... )
كان وجهها مطرقا .... و لم ترد عليه ... و لم ترفع وجنتها عن يدها التى تستند بها الى الطاولة ....
نظر وليد بعينين تشعان نارا الى اصبعها الذي كان لا يزال يرسم الدوائر ... ....
ليجد فجأة قطرة ماء سقطت فوق سطح المائدة ......
عقد حاجبيه وهو يرفع عينيه الى ما ظهر من وجهها ..... فوجد مسار تلك القطرة مرسوما في مجرى رفيع من عينها ......
تراجع بظهره للخلف وهو يشعر بشيء ينهش أحشاءه .....
ثم زفر بقوة وهو يقول بغضب
( كلي و توقفي عن كلامك الرخيص يا شيراز ....... حذرتك من التحدث عن قذاراتك السابقة و انتِ لا تتعلمين ابدا ..... )
لم ترد عليه ..... و لم ترفع وجهها .... فهدر قائلا
( كلي يا شيراز ........... )
ردت بخفوت ميت دون ان تنظر اليه
( لا اريد ............... )
اندفع تجاهها فجأة ليمسك بذقنها بين أصابعه القوية حتى ضغط شفتيها وهو يهدر غاضبا بجنون يفوق آلاف المرات غضبه من عدم أكلها ...
كان يصرخ بها بصوتٍ هادر
( لقد مللت من برودك ..... تعلمي طاعتي خلال الفترة التي سنقضيها هنا سويا ..... )
أخذت تقاوم محاولة أن تنزع يده عن فكه دون جدوى و هي تصرخ
( كفى ...... كفى .......وجههي لا يزال يؤلمني مما فعلته ليلة امس ..... )
كان غضبه من الحديث الذي تناولاه بمنتهى الهدوء منذ لحظات قد وصل به الى حافة البركان ... وهو يتخيل الصور التي رمتها لها ببرودها الذي تتبعه كاسلوب في معاملته ....
مد اصبعه بين شفتيها يفتحهما بالقوة وهو يدس بيده الأخرى بينهما بعض الطعام رغم عنها ....
كان يبدو كمن يسكتها .... لا من يطعمها !! ....
لا تزال عبارة نطقت بها من قبل تطوف بذهنه
" القذرهو من يطلب السماع بعنجهية .... ثم يظهر ضعفه المثير للشفقة بعدها ....."
أخذت شيراز تتلوى و هي تحاول القفز من على الكرسي .. بينما هو يمسك بمؤخرة رأسها و بيده الأخرى يتابع اطعامها بالقوة ...
تساقطت دموعها على وجنتيها و هي تهتف باختناق من بين الطعام المندس بين شفتيها
( كفى ..... كفى ........)
تمكنت من الإفلات منه أخيرا فقفزت على الأرض تجري حتى حوض المطبخ فاستندت اليه بكفيها و هي تبكي بخفوت و غضب مكبوت ....
بينما رمى هو الطعام الذي بيده في الطبق وهو يزفر بجنون ....
صرخت شيراز فجأة
( هذا لن يفلح ..... لن يفلح ..... انت لا تجيد اللعبة .... لعبة تكرهها و بنفس الوقت لا تريد الخروج منها ...)
صدرت عنها شهقة بكاء غاضبة .... الا أنها كبتتها بعنف وهي ترتجف و تغلي ...
و ككل مرة تدرك قبلها أنها ستقوم بتصرف متهور .... كانت قد القطت فجأة كوب زجاجي و رمته بها بكل قوتها صارخة
( هذا لن يفلح ........ )
لم تدرك أنه كان شاردا ... ينظر بتعبير كئيب الى سطح الطاولة ..
فارتطم الكوب بوجهه بشدة و عنف ....ثم سقط في شظايا على الأرض
تأوه وليد بقوة و خشونة وهو يرفع يده الى رأسه التي اصابها الدوار .... فشهقت شيراز وهي ترفع يديها الى فمها بينما اتسعت عيناها بذهول ....
نهض من مكانه وهو ينظر اليها بوحشية .... بينما تراجعت برعب لكن حوض المطبخ منع تراجعها أكثر .. و ما أن وصل اليها حتى داست على كرامتها و هتفت
( أنا آسفة ..... لم أقصد ...... لم أقصد ...... )
لكنه لم يرد .... كانت تظهر عليه علامات الجنون بوضوح .... فعلمت أنه لا هرب من فعلتها ....
مد يده يمسك بشعرها بقوة ... فصرخت بألم و هي تبكي
( آنا آسفة ........ )
و أغمضت عينيها منتظرة المزيد من الضرب ... الا أنه جذبها من شعرها ... وهو يقول بخشونة
( انزلي على ركبتيك ....... انزلي ..... )
فتحت عينيها الباكيتين و هي ترتجف بشدة ... الا أنها نزلت على ركبتيها و كفيها عند قدميه .... ترفع عينيها اليه و هي تشهق بقوة و بصورةٍ بائسة ...
الا أنه هدر بها بقوة
( ماذا تنتظرين ؟!!! ............. )
انتفضت مكانها و هي ترتجف شاهقة ببكاء مثير للشفقة ,. الا أنها هتفت باكية بعدم فهم
( ماذا ..... ماذا أفعل ؟!! ......... هل أقبل قدمك ؟!! .... )
للحظة أجفلت ملامحه وهو ينظر اليها بصدمة.... الا أنه سرعان ما مسح هذا التعبير عن وجهه و هدر بنفسٍ قوي لافح وهو يهتف بها
( اجمعي الزجاج المكسور ....... هيا ..... )
رمشت بعينيها عدة لحظات قبل أن تومىء برأسها بسرعة ... فمالت بجسمها و أخذت تجمع قطع الزجاج من كل مكان .. و من تحت الطاولة .... و لم تأبه لجروح يديها و ركبتيها ....
و ما ان انتهت ... و جمعتهم في حجر قميص نومها القطني .... ثم نظرت اليه بوجهها الأحمر بعد أن كانت قد توقفت عن البكاء ... فقالت بصوتٍ مختنق
( هل أنهض ؟............. )
نظر اليها للحظة .... قبل أن يقول آمرا
( انهضي و ارميهم ........... )
نهضت من مكانها بتعثر ... الا أنها جمعت حواف ثوبها الذي يحمل الزجاج المكسور ... ثم اتجهت به الى سلة المهملات ... و تركت الزجاج يسقط بها ....
استدارت اليه ... كانت أصابعها مجروحة بعدة مناطق ... و كذلك ركبتيها ... بينما كان هناك جرحا واضحا في جبهته ....
كان من الممكن أن تفقأ عينه !!!! ..... كان شعورها بالرعب ليس فقط منه .... بل أيضا مما فعلته !! ...
قالت بصوتٍ متحشرج
( هناك جرح في جبهتك .......... )
الا أنه لم يرد عليها على الفور .... بل اقترب منها ... الى أن وصل اليها فقبض بيده على ذقنها يرفعه اليه بقوة وهو ينظر الى عينيها المتورمتين من البكاء ...
ثم قال بهدوء يتناقض مع صدره المتسارع في أنفاسه ....
( سأعمل جاهدا على تنظيف ألفاظك و أفعالك يا شيراز ..... و سأستمتع بذلك .... ثقي بذلك )
أغمضت عينيها بقوةٍ و هي تهتف باختناق
( هذه أنا .....هذه أنا يا وليد .... لن تستطيع ..... لن تستطيع تغيري الا بكسري ....... )
ظل ينظر اليها قليلا ... قبل أن يدفع ذقنها بعيدا وهو يقول بجمود وهو يلهث قليلا
( سنرى ............ )
صمت قليلا قبل أن يقول ببرود
( الزمي غرفتك منذ الآن و حتى آتي اليكِ ....... لن تخرجي منها اليوم ..... )
هتفت بقوة و هي تضرب الأرض بقدمها و قد بدأت تنهار بأسرع مما توقعت
( أحسن ........... سيكون هذا فضلا منك أن تحرمني من طلتك البهية الى أن ..... )
مد يده ببقوةٍ يقبض على فكها مجددا حتى أغلق شفتيها بين أصابعه وهو يقول بصوتٍ خطير
( ماذا ؟!! ........ هل تقولين شيئا ؟!ّ! ...... )
ظلت عيناها المرهقتان ببعض الشراسة المتبقية بهما ... تنظران اليه .... تتحديان عينيه و بنفس الوقت تهابه و تهاب غضبه الذي باتت تملك عنه فكرة جيدة ....
فقالت أخيرا بخفوت و خنوع
( لا ....... لم أقل شيئا ........ )
كانت عيناه كعيني صقر .... ينتظر أي هفوة من فريسته , فقال أخيرا وهو يترك ذقنها
( اذهبي .......... )
اندست تحت الغطاء لفترة طويلة .... حتى نامت بعمق , كان نوما متعبا ... مليئا بالأشخاص الذين تود لو تقتلعهم من صفحة ذاكرتها ....
كانت تتأوه بين الحين و الآخر .... ثم تشهق مستيقظة .... لكنها كانت تجد الغرفة خالية , فتعود للنوم بتعب ..
لا تعلم كم من الوقت نامت .... لكن آخر مرة استيقظت بها .... كان الظلام قد حل على الغرفة ....
فقط شعاع ضئيل كان منسلا من النافذة جعلها ترى ظلا ضخما يقف في الغرفة .... فشهقت عاليا برعب ...
الا ان صوتا رجوليا قال بخفوت من بعيد ...
( نامي ...... لا تخافي ...... )
أغمضت عينيها و قد هدأ رعبها قليلا ... و ذهب عنها الوعي لعدة لحظات ... لكنها عادت و استيقظت ...
فتحت عينيها و هي تستقيم جالسة ... تنظر بحثا عن الظل الذي خاطبها منذ قليل , لكن الغرفة كانت خالية مجددا ...
نهضت من مكانها ببطىء و هي تشعر بنفسها أفضل حالا بعد أن نامت لوقتٍ غير منتهى ....
فأشعلت الضوء و نظرت الى الساعة و هالها أن تكتشف بأنها قد نامت لمدة اثنتي عشرة ساعة !!....
ألم يدخل وليد الى الغرفة كل هذا الوقت ؟!! .... ..... هل خرج و تركها مجددا ؟! ....
تنهدت بقنوط و هي تجلس على حافة السرير .... ناظرة الى حجزها الإنفرادي بصمت ......
لقد أعطاها حريتها صباحا ..... و هي تخلت عن تلك الحرية بترددها ..... فضاعت الفرصة .....
سمعت صوتا خارج الغرفة جعلها تتشنج قليلا .....
" انه هنا !! ...... "
ظلت تستمع قليلا ..... ثم نهضت بسرعة , فمن المؤكد أنه شعر باستيقاظها و أشعالها للضوء ...
فأسرعت للدولاب تفتحه ..لتتفقد الملابس التي أحضرها لمتعته ....
ابتسمت قليلا بسخرية و هي ترى وفرة من الملابس الداخلية الحريرية ... تفوق الفساتين عددا ....
ارتفع حاجبيها قليلا بدهشة و هي تلاحظ شيئا غريبا ...
لقد اختفت كل الفساتين القصيرة التي كانت موجودة صباحا !! ....
لم يعد هناك سوى ملابس البيت و الملابس الداخلية ! ....
عدد الفساتين كان لا يتعدى الأصابع ... لذا يمكنها ملاحظة اختفائهم بسهولة ....
عقدت حاجبيها و هي تفكر بتلك الطريقة المبتكرة في سجنها .... إنه يبقيها هنا مع الملابس الداخلية و ملابس البيت فقط !!! ...
زفرت بعنف و استياء ...و هي تقول من بين اسنانها
( إنه يبدو كطفل أحمق غبي ..... و يظن أنه ينافس من عرفتهم قبله بحركاته الطفولية تلك !! )
مدت يدها بعنف لتتناول أول قميص نوم وقعت يدها عليه ....
و ما أن انسدل على جسدها ... حتى استدارت تنظز الى نفسها في المرآة ....
عقدت حاجبيها بعدم راحة .... شيء ما خاطىء بشكلها .....
ليست هي شيراز التي اعتادت الإغراء و فنونه ..... بل كانت تبدو كطفلة تلعب دور الكبار و الذي لا يليق بها ...
كانت ترتدي قميص حريري أسود .... قصير للغاية .... لا يترك الكثير للمخيلة ....
شعرها متهدل حول وجهها بعفوية بخصلاته الخفيفة ... وجهها لا يزال مزينا بعدة ألوان لم تبارحه بعد ....
و هناك جروح ظاهرة على ركبتيها .... كطفلة وقعت على السلالم و هي تلعب ! ...
مدت يدها الى حقيبتها التي جائت بها أمس ... فتناولت منها أحمر الشفاه القرمزي .... و مالت لتلون شفتيها علها تحصل على منظر أكثر إرضاءا ....
تشنجت يدها و هي تشعر بالباب يفتح خلفها .... و دون أن تستدير ... وجدت وليد يدخل الى الغرفة , لتتقابل أعينهما في المرآة ....
ابتلعت شيراز ريقها و هي تستقيم .... تنظر اليه طويلا محاولة استنتاج مزاجه .....
قبل أن تستدير اليه ببطىء .... منتظرة أن يتكلم بأي شيء
كانت عيناه غريبتان و هما تتأملانها .... لم تستطع تبين انطباعه أبدا ...
هل هو رفض ؟! ..... نفور ؟!! ...... أم هل هما يبرقان بخطر !! ...
لا تعرف تحديدا .... كل ما تعرفه هو أن قلبها كان يخفق بعنف ....
فأخذت نفسا مهتزا و هي ترفع عينيها الى الجرح في رأسه .... و فجأة قالت بخفوت
( إجتماعنا معا شديد الخطورة .......... )
كانت تشير الى جروحهما المشتركة ..... و ما الغريب ؟!! ... فقد كان أول علاقتهما صفعتين متبادلتين ...
لم تعد تتوهم الآن البريق الذي رأته في عينيه ... قبل أن يقترب منها فوق بساط الغرفة ...
ثم قال بصوتٍ أجش
( الا تمثيل الليلة ؟!! ..... لا هيستيريا أو جنون ؟!! .... )
كانت تريد أن تصرخ به انها لم تكن تمثل ..... لكنها وفرت على نفسها عناء المحاولة ... فقالت بفتور و هي تنظر الى عينيه قبل أن تضع أحمر الشفاه من يدها على طاولة الزينة
( لا تمثيل الليلة ....... )
ظل مكانه صامتا .... ينظر اليها بوجهٍ جامد , و مع ذلك بدا مترددا ... ثم قال أخيرا ببرود
( جيد ........ )
و رأته يخلع قميص قطني كان يرتديه و لم يخفي عضلاته , من فوق رأسه ... ليرميه بعيدا ....
ثم واجهها بهيئته الضخمة و التي تجعلها تجفل دائما .... الفرق في الحجم بينهما كان رهيبا ... يذكرها ب الفرق الذي كان بين حجمها و بين ... فتحي ... مشرف الدار .... حين كانت اقصر و اصغر ...
بينما مع باقي أزواجها فقد كانو أطول منها بالقليل ... لم يتميز أي منهم بالطول الفارع ... لذا كانت تشعر بالتفوق الجسدي .... كانت كالند المساوي لكل منهم ....
قال وليد فجأة يشدها من أفكارها بصوتٍ متكاسل .. كثيف النبرات
( ماذا ؟!! ....... هل تفكرين في الهرب بطريقة ما ؟!! ...... فات الأوان يا شيراز )
و قبل أن تشهق حتى ....كانت قد أصبحت بين ذراعيه , اتسعت عيناها قليلا بذهول و هي تشعر بقدميها ترتفعان عن سطح الأرض ... لكن كان من المستحيل أن تستطيع النطق , ....
فدوامة ساحقة أحاطت بها ..... وهو يقبلها بقوةٍ ...... و كأنه فقد السيطرة على بروده ...
يبدو أنها لم تفقد كل قدراتها تماما ..... و جذبته على الرغم من هيئتها البائسة .....
استطاعت الهمس بخوف من بين هجومه الضاري وهو يدور بها قليلا دون أن يشعر .... فهمست و هي تبعد وجهها بصعوبةٍ فلا يسلم عنقها وفكها من هول رغبته الرجولية الشابة ...
( انتظر ...... انتظر لحظة ..... التقط أنفاسك فقط ...... )
الا انه همس بوحشية ... وهو يحملها الى السرير
( اخرسي ........ )
رماها على السرير بقوة ثم انضم اليها أمام عينيها المتسعتين , و قبل أن يطالها قالت بقلق و هي تريد ان تؤخره قليلا ...
( الا تريد أن آخذ قرص منع الحمل الى أن تتأكد !! ...... )
الا أنه مال عليها يصمت كل محاولاتها القلقة وهو يقول من بين رغبته الهائجة
( اخرسي يا بشرى ........لن آؤذيك الآن مهما حاولتِ ... .. )
أغمضت عينيها بقلق ... لكن جسدها كان متصلبا .. و كأنها تخشى عضلاته الضخمة و قوته الفجة ....
شعرت به يتباطأ قليلا ... ليمس النبض المجنون بعنقها ليقول هامسا في اذنها و كأنه يخاطب فرسا متوترة
( اهدئي ......... انتِ ترهقين نفسك )
وجدت نفسها تهمس بدون و عي و هي تدير رأسها يمينا و يسارا قليلا
( أنت قوي جدا ......... )
ساد الصمت بينهما قليلا .... لا يقطعه سوى نفسه اللاهث ... و نفسها المرتجف , ثم همس وهو يعلوها .... ليميل اليها و يقبل عنقها برفق ...
( لا بأس ...أنت لست خائفة ؟!! ..... )
لم تعلم ان كان هذا سؤالا أم مجرد تقرير واقع ... لكنها اعتبرته سؤالا فهمست بصوتٍ يرتجف قليلا
( لا ... لست خائفة ......... أنا بخير )
عقد حاجبيه من فتورها الخارجي .... و توترها الداخلي ....
لكنه أجل التفكير ... و ابعده في زاوية دفينة ... فسيطرته على نفسه انتهت و كان يريدها ... بشدة ..
هبط بوجهه اليها ... يرتوي من طفولتها الشهية ... مزمجرا برضا أعمى .....
بينما أغمضت شيراز عينيها و هي تهدأ قليلا بعد أن اطمأنت أنه تخلى عن شراسته ...
فاستسلمت ..... محاولة تذكر أنها أحبته يوما ..... عل الحب ينفعها كي تتقبل العلاقة الحميمية التي لم تثر اهتمامها يوما ..... بل نفورها في معظم الأوقات .... إن لم يكن كلها ...
.................................................. .................................................. ..................
وضعت كفها الناعم على الملف بيدها .... و هي تنظر اليه ما بين الرهبة .. و بريق الإنتصار و في نفس الوقت شعور بالتقزز ....
منذ أن حصلت على مرادها و أحضرته معها الى البيت كي لا يضيع تحت أي ظروف ....
نظر عاصم اليها في المرآة مبتسما وهو يغلق قميصه ... حيث كانت لا تزال مستلقية في السرير .. ترفع ركبتيها الى صدرها ... و عليهما استند الملف الذي لا تزال تنظر اليه بنفس النظرة منذ أن حصلت اليه ...
كان لا يستطيع ابعاد نظره عنها ....
ثلاث سنوات مرت على زواجهما و هو لايزال غير قادرا على ابعاد عينيه عنها ... خاصة حين تكون شاردة بهذا البريق في عينيها ...
بريق يشبه شخص استطاع القبض على باعوضة في كفه بعد أن أهلكته تقريصا ...و مصا في دماءه ...
و شكل صبا الآن كم يفكر كيف ستسحق الباعوضة ... هل تسحقها بين قبضتها ؟... أم تحرق أجنحتها ؟! ...
ابتسم مجددا بوله وهو يراقب صورتها في المرآة .... برقتها و شعرها العسلي الطويل المنسدل بنعومة على كتف واحدة .....
وسادته الحريرية التي يستيقظ عليها ... منذ أن منعها من جمعه أثناء نومها ...
يعشق أن يستيقظ على رائحته ... كمن يستيقظ على نسيم الزهور الآتية من نافذة مفتوحة على الحياة ....
قال عاصم أخيرا بنبرة تسلية وهو يضع عطره .. ناظرا اليها في المرآة
(هل اصبح السرير مكان لملفات قضاياك يا أستاذة ..... احذري .... قد أحيطه بسلك شائك لو لزم الأمر )
رفعت رأسها تنظر اليه في المرآة .....
فابتسمت قليلا و هي تراه مثال الهيبة و الوقار ..... يملأ العين و القلب .....
شردت بعينيها عليه .... فالتقط نظرتها بحب ... ثم قال بخفوت
( احذري من نظراتك يا أستاذة ..... فهي تفضحك بغدر ....)
افترت شفتيها عن ابتسامة عذبة أظهرت صفي اللؤلؤ كما يلقب أسنانها .... ثم قالت بدلالٍ ناعم
( توقفت عن الحذر معك يا حبيب الأستاذة .......)
زفر بقوة وهو يتجه الى السرير ... ثم جلس على حافته يوليها ظهره وهو يقول
( تجيدين حقا اختيار الكلمات المناسبة في الأوقات الخاطئة ..... أنا مضطر للخروج الآن )
ابتسمت بجمالٍ أكبر ... و قالت بحب
( في أمان الله حبيبي .........)
توقف عن ارتداء حذاءه وهو يزفر مجددا ... ناظرا الى الحذاء ... ثم أدار وجهه اليها وهو يقول كطفل متذمر
( أفكر في الإتصال بهم و تأجيل عمل اليوم للبقاء معك ......)
أغمضت عينيها و هي تهز رأسها قليلا قبل أن تقول بحزم
( نفس الحوار ....كل يوم عطلة لي ..... اذهب لعملك يا عاصم فأنا لست متفرغة لك ... سأقضي اليوم في المطبخ مع عمتي لعمل المحشو .....)
عقد حاجبيه وهو يقول بشك
( ستحشين المحشو خلال اليوم بأكمله ؟!!! ....... لما لا تيأسين و تتخلين عن المحاولة كما سأتخلى أنا عن عملي اليوم ....)
ضمت الملف الى صدرها وهي تقول بحزم
( لقد بدأت في الغضب حقا من عنادك .. و أفكر في الغاء يوم العطلة الإضافي طالما أنه يجلب لي المشاكل )
عبس عاصم حاجبيه وهو يقول بغضب
( أنتِ السبب بكلماتك السخيفة الرقيقة ..... لقد أثرت عاطفتي .... بما أنك تحسنين الكلام في العطلات و الأعياد فقط .....)
ارتفع حاجبي صبا و هي تقول بدهشة
( أنا يا عاصم ؟!! ...... أنا أحسن الكلام في العطلات فقط ؟!! ......)
قال ببساطة وهو يرتدي حذاءه
( مادمت تمنعين أي كلمة غزل أمام الناس ...... و بما أننا دائما بين الناس لذا فأنا لا اسمعها منك الا في المناسبات ... )
ابتسمت بمرح وهي تراقبه الحبيب الغالي .... رجل بمعنى الكلمة .... طفل بداخله ....
ثم قالت بنعومة و أنوثة
( أخاف أن يحسدنا أحد يا حبيب الأستاذة ....... )
ضحك قليلا باستياء وهو يقول من بين أسنانه ....
( أنت حقا تتلاعبين بالنار .........)
ابتسمت بحب و هي تملأ عينيها من رؤياه ... بينها و بين نفسها ... و تحت تلك القشرة الحازمة , تحمل قلبها يخاف عليه من أن يخرج و يتركها .....
يخاف عليه من كل أنثى سيراها ..... تخاف عليه من كل ما هو مؤنث .....
لكن القوة التي اكتسبتها من والدها تمنعها من اظهار مثل هذا الضعف الغير منطقي ....
لو تركت نفسها لهواها لسجنته داخل سجن وردي .... مفتاحه معها هي فقط ... و لمنعت عنه عيون عشرات النساء ممن يرمين عليه شباكهن ....
تاهت ابتسامتها قليلا .... و هي تمس الملف بيدها .... تتأمله بصمت ....
استدار اليها عاصم يراقب نظرتها الحزينة الشاردة .... فاعتصر شيء ما قلبه .... لكنه ابتلع تلك الغصة وهو يقول متظاهرا بالسخرية
( لقد بدأت أغير فعلا من ذلك الملف بيدك ...... يبدو أنني أخطأت من البداية في مساعدتك , لقد أصبح رجالي يعملون لديكِ أكثر من عملهم لدي .... بالأمس طلبت من حسين أن يذهب لقضاء مصلحة , الا أنه قال لي ببساطة .... أنه سيفعل فور أن ينتهي من قضاء بعض طلبات الأستاذة !!..... )
رفعت وجهها اليه و هي تبتسم باشراق اضاء حياته كما اراد تماما ... و لو استطلع لمنحها من حياة قلبه كي تظل مشرقة بهذا الشكل .....
قالت صبا بسعادة
( رجالك يقومون بما أطلبه على أكمل وجه ...... إنهم يجعلون من المحاماة مهنة أسهل .... و لا أصدق ذلك العراك الذي افتعلاه مع كريم القاضي !! .... بصراحة لقد قاومهما بجسده الرياضي قليلا , الا أنه لم يصمد طويلا أمامها و هما يبدوان كبابين .... )
ضحك عاصم بشدة وهو يقول هازا رأسه بيأس
( أتخيل منظرهما حين طلبتِ منهما افتعال شجار معه .... فانتفخت أوداجهما فخرا قبل أن تتسع أعينهما ذهولا و أنتِ تتابعين طلبك خصلة شعر من المذكور ..... من المؤكد أنهما يظناكِ مجنونة !! )
ضحكت صبا قليلا و هي تقول برقة
( لكنهما أديا المهمة بنجاح منقطع النظير .... و اهم شيء هو نظافة العملية , فقد بدا شجار عادي جدا و انصرفا بعدها بعد ان فض الناس بينهم ......... هذه التفاصيل هي ما تعجبني ... )
قال عاصم بفخر
( طبعا .... إنهم رجال عاصم رشوان , ....... لكن أخبريني يا استاذة ... هل ما تفعلينه يعد قانونيا ؟!! )
نظرت اليه وهي تقول ببساطة
( بالطبع لا .......... لكن كان يجب أن يكون هذا الملف بيدي و أنا اطلب من القاضي اثبات أن كريم القاضي ليس هو في الواقع من عائلة القاضي ...... )
صمتت قليلا تتنهد و هي تنظر الى الملف للمرة العاشرة و هي تقول بتعجب
( من كان يظن هذا ؟!! ....... لآخر لحظة كان لدي شك في الأمر ...... كريم القاضي ..... ابن اكرم القاضي !! ... ليس في الواقع ابنه , و تم شراءه منذ أن كان صبي في مقتبل عمره !! ...... )
شردت ملامحها و هي تقول بخفوت متابعة
( لقد استبدل به ابنه الذي توفي وهو بنفس العمر ......... )
قال عاصم وهو ينظر اليها
( ماذا يا أستاذة ؟!! ....... هل قلبك الحنون يشعر بالشفقة عليه ؟!! ..... )
رفعت وجهها تنظر اليه و قالت بخفوت
( لا انكر ان شيء ما يعتصر قلبي كلما سمعت عن موت طفل .... و اظل افكر بحال والديه .... لكن اكرم القاضي ؟!! .... لا , انه لا يستحق اي شفقة ..... كان هذا الولد بالنسبة له عبارة عن ضمان لعدة صفقات غير مشروعة .... أنت لا تعرف ما فعلاه بالفتاة المسكينة .... )
رفع رأسه اليها يقول بحنق
( اعرف حبيبتي ...... لكن مالا اعرفه هو ما الداعي لكل هذا اللف الطويل ؟!! ...... لدينا في الحي لو تجرأ أحد الشباب على فعل هذا بفتاة , يمسك به رجال الحي و يقومون بضربه و التعليم عليه بجروحٍ تترك اثرا دائما ... و حلاقة شعر رأسه , ثم يجر الى المأذون هو ووالده الى أن يعقد قرانه عليها ....... )
نظرت اليه بلا تعبير ... أقرب الى اليأس , ثم قالت بهدوء
( و يتم تسليم الفتاة له كي يغتصبها كل ليلة !! ....... أنتم تكافئونه بهذا الشكل ..... )
رفع احدى حاجبيه وهو يقول
( لو ترين بعض مما يحدث له حين يقع بين أيدي الرجال ,,, فلن تقولي مكافأة أبدا .... )
قالت صبا بغضب و هي تستقيم جالسة
( و ماذا عن الفتاة ؟!! ..... الا يفكر بها أحد ؟!! ..... أن تعاقب بخدمته العمر كله بعد ما فعله ... )
قال عاصم بصلابة و خشونة
( هذا نتيجة تصرفها ....... و عليها تحمل نتيجة اختيارها ..... في زمنٍ قديم كان والدها يقتلها ... لذا عليها أن تكون شاكرة أن الجميع تكاتف للحفاظ على سمعتها .... )
هتفت صبا من بين أسنانها
( لمجرد خطأ ارتكبته في مقتبل حياتها .... تظل تتعذب المتبقي من حياتها ؟!! .... )
قال عاصم بصرامة
( بعض الأخطاء لا اصلاح لها الا بالعذاب أو الدم ....... الشرف لا خيار ثالث له ... )
زمت صبا شفتيها و هي تهتف بحدة
( أنتم تتبعون نفس العقاب مع الفتاة المغتصبة ...... هل يمكنك اخباري ما ذنبها هي الأخرى ؟!! ... )
عقد عاصم حاجبيه بشدة وهو يقول
( نحن نحافظ عليها من الفضيحة و ضياع مستقبلها ..... من سيقبل بها فيما بعد ؟! .... )
هتفت صبا بغضب و هي تضرب سطح الملف بيدها قائلة بجنون
( هذا ليس عدلا ......... أنتم تجنون عليهن ..... )
قال عاصم بحنق وهو ينهض من مكانه
( صبا دعينا لا نتجادل .... فنحن دائما لا نتفق .....)
قالت صبا باستياء بالغ
( هذا ما يبدو .............. )
اتجه عاصم الى طاولة الزينة يأخذ ساعة معصمه وهو يقول
( أريد فقط انذارك أن أسرة هذه الفتاة ملك .. لن تطلب سوى زواج كريم القاضي بها رسميا ..... فلا تتوهمي أنهم يريدون معاقبته .... أو أنهم سيهتمون بالقانون في حالتهم الصعبة تلك ..... )
قالت صبا بقسوة
( مكتبي مكتب محاماة ..... و ليس مكتب مأذون .... أنا لن أسلمها له بهذه الطريقة ..... )
استدار عاصم اليها ليقول بهدوء متصلب
( أنت لم تقابلي الفتاة بعد ........ و عليك الإلتزام بما يريدونه .... )
اتجه الى الباب ينوي الخروج .. لكن قبل أن يخرج , استدار اليها .... ينظر اليها و هي تجلس في السرير و ملامحها تعلوها القنوط و الرفض ....
( صبا ....... الفضيحة القانونية التي تخبئينها لأكرم القاضي ستكون كارثة ..... و أنا لن أسمح بأن يمسك مكروه ..... هلا توقفتِ رجاءا عن اللعب مع الكبار ؟!! ...... )
رفعت ذقنها اليه وهي تقول بكبرياء رافض و عينين تشتعلان
( من قال أن أمثاله من الكبار ؟!! ........ الكبار من وجهة نظرك , هم القاع من وجهة نظري أنا ..... لذا الذي سيحسم اختلاف وجهات النظر بيني و بينك .... هو القانون .... )
التوى فكه بشدة ..... قبل أن يقول بجمود
( انتِ تنتهجين بعض الوسائل الغير قانونية خلال سعيك لتطبيق القانون يا استاذة ..... لذا لو فكرتِ قليلا ستجدين أنكِ تنحرفين الى المنطقة الرمادية رغما عنك ....... و بناء عليه , عليك منح البشر نفس الحق في تلك المنطقة .... )
فتحت صبا فمها تنوي الدفاع بغضب الا أنه رفع يده ليقول بصرامة
( صبا ....... اياكِ و التدخل بما قد يضرك , تعلمين أنني سأتدخل أيضا ...... لذا أنبهك من البداية ... )
صمت قليلا وهو ينظر اليها بنفس الصرامة ... قبل أن يرق صوته قليلا وهو يقول
( فكري قبل أي تهور ..... أن هناك من ينتظرك كل ليلة .... و قد يموت لو اصابك مكروه .... )
أسر عينيها الحزينتين بعينيه ..... و للحظات تشاركا نفس التفكير , ... ربما لو كان لديهما طفل لما كانت لتجازف بنفسها هكذا .....
فكر عاصم في هذا التفكير وهو يشعر بأن وجود الطفل كان ليحميها من جنونها و تهورها
و فكرت صبا في هذا التفكير و هي تشعر بأن وجود الطفل كان ليسعد قلبه .... و يضيء حياته بدلا من سعيه خلفها أثناء كل قضية خوفا عليها ....
تكلم أخيرا قائلا بصوتٍ أجش
( استعدي و الحقيني ..... تعرفين أن أمي لا تحب الفطور بدونك ..... )
ابتسم قليلا ... ثم قال بخفوت
( و ابنها لا تهنأ له لقمة الا أن تسبقها واحدة بين شفتي بنت السلطان ...... )
خرج عاصم من الغرفة , مغلقا الباب خلفه .... بينما بقت صبا مكانها تنظر الى الباب المغلق بصمت
لطالما تناقشا في قضاياها .... اعتادت ... بل أدمنت ..أن تقص له كل قضية و هي مستلقية على ذراعه و كأنها تقص له قصة .... تسمع رأيه و تهتم به .... لكن نادرا ما توافقا برأي واحد
حتى الآن لا تزال نفسها ... كيف يمكن لإثنين أن يكونا على هذا القدر من الإختلاف ... و بنفس الوقت استطاعا أن يفهما بعضهما من نظرة .... من ابتسامة ....
الجميع بات يعلق على تفاهمها مازحا .... و كأن بينهما سلكا غير مرئي ... يصل بينهما دون الحاجة للكلام ...
فقط لو تستطيع أن تمنحه جزءا و لو يسيرا من الرضا الذي يمنحه لها .... لو فقط تستطيع أن تحمل طفله ...
نظرت الى الملف بيدها و هي تهمس باختناق
( بأي حق من يريد طفلا .... يقوم بشراءه بتلك البساطة و يتوقع الفرار بفعلته ؟!! ..... )
.................................................. .................................................. ......................
نزلت صبا جريا على السلالم جريا كي لا تتأخر على طعام الفطور ... و هي تشعر بتأنيب الضمير لأنها لم تحضره مع روعة ....
كانت روعة و عاصم يولياها ظهرهما و هما يجلسان الى المائدة ... فلم يلحظا قدومها و روعة تقول بخفوت
( عاصم ..... لم تخبرني برأيك فيما تكلمنا به ليلة أمس ....يريدون الخطبة أن تكون خلال اسبوعين ... )
توقفت صبا مكانها قليلا ... و شعرت بصدرها ينبض بقلق ... و ما أن لمحتها روعة حتى قبضت على معصم عاصم المرتاح امامها على سطح المائدة و هي تقول بخفوت
( سنتحدث فيما بعد ..........)
حينها شعرت صبا بأنها غير قادرة على الحركة ... فقالت روعة و هي تنظر اليها مبتسمة ببشاشة
( تعالي يا حبيبة عمتك ....... لماذا تقفين هناك ..... )
استدار عاصم ينظر الى وجه صبا الشاحب ... فقال بقلق
( ماذا بكِ يا صبا ؟!! ......)
ظلت صامتة قليلا تنظر اليهما بهلع صامت ..... حينها أزاح عاصم الكرسي بقوة و هو ينهض ليسرع اليها فأسندها ليقول بقلق متضاعف
( ماذا بكِ ؟!! ....... هل هناك ما يؤلمك ؟!! ...... )
رفعت وجهها اليه و ابتسمت باهتزاز قليلا ثم قالت بصوتٍ خافت
( أنا بخير ...... بخير ...... أنا بخير )
عقد عاصم حاجبيه بشدة و هو يقول
( لقد ذكرتها ثلاث مرات .... مما ضاعف من قلقي ...... )
أمسكت بمعصمه و هي تبتسم أكثر قائلة بخفوت
( أنا بخير ....... )
ثم تركته و اتجهت لتجلس الى الطاولة .... بينما عقد هو حاجبيه أكثر و هو يلاحظ أنها نطقتها للمرة الرابعة ... و صبا ليس من طبعها أن تعيد الكلمة مرتين !! ....
كانت وعد تتكلم في هاتفها بلهفة ... و هي تروح و تجيء بعصبية .... تتلاعب بشعرها و ترجعه الى خلف رأسها بتوتر ... بينما بعض الأمل ظاهر على وجهها ..
ثم توقفت مكانها و هي تقول بجنون
( لا ... لا .... لااااا ... أنا لا أريد سوى أن يتم عقد القران رسميا .... أرجوكِ لا تقومي بأي إجراء )
وقفت ملك في الرواق الطويل واضعة يدها على الجدار و هي تستمع الى وعد تتكلم ... بينما كانت ملامحها جامدة ... متبلدة ... و عيناها منطفئتا الحياة ....
رأت وعد و هي تعقد حاجبيها و هي تهتف
( رأيها من رأيي بالطبع ..... لقد كان اختيارها منذ البداية .... )
انعقد حاجبي ملك قليلا بينما أظلمت عيناها ألما .... خاصة ووعد تتابع هاتفة بقوة
( طبعا يمكنك سماع ذلك منها ......أرجوك ....أنا لا أريد أفساد هذا الزواج ....لن يكون لها مستقبل لو دخلنا في قضايا من هذا النوع ... انا فقط اريد ان نهددهم الى ان يستسلموا .... )
ظلت تسمع .. قليلا و هي في غاية التوتر .... تقضم اظافرها ... مطرقة برأسها ..... و ساقها تهتز بعصبية ..
على عكس ملك التي كانت تراقبها من بعيد ... ببرود وبلا حياة .... فقط لمحة ألم ظللت عينيها ....
انتهت وعد حوارها قائلة
( نعم ..... نعم ..... لن أفعل ...... حاضر .... شكرا لكِ .... شكرا ...... )
تركت وعد الهاتف من يدها لتلقيه على الأريكة .... ثم رفعت شعرها بكفيها و هي رجع رأسها للخلف ... مغمضة عينيها .. تتنهد بتعب ....
اقتربت ملك منها دون أن ترفع عينيها عن وعد .... ثم قالت أخيرا بصوتٍ خافت فاتر
( مع من كنتِ تتحدثين يا وعد ؟! ........ )
انتفضت وعد و هي تخفض رأسها تنظر الي ملك الواقفة خلفها بوجه شاحب .... فارتبكت قليلا , ثم قالت أخيرا بوجوم
( إنها المحامية التي أستشيرها بخصوص موضوعك ...... )
ظلت ملك تنظر اليها قليلا بصمت ... قبل أن تقول بصوتٍ خافت
( ها قد قلتها ..... موضوعي .... الا ترين أن من حقي المشاركة فيما تتجادلانِ به ؟! .... )
تجمدت وعد مكانها تنظر الى ملك ... و قد ضاقت عيناها قليلا , ثم قالت بهدوء
( أظن أنه لا جدال من الأصل يا ملك ...... نحن نحاول تهديدهم كي يتم عقد القران رسميا ... فهل لكِ رأي مخالف ؟!! ...... )
أطرقت ملك برأسها لعدة لحظات .... فظنت وعد أن الأمر منتهي , لكنها رفعت وجهها فجأة و قالت بهدوء
( اذن من واجبي اخبارك ..... أنني لن اتزوجه مطلقا ..... مطلقا يا وعد .... فأريحي نفسك من عناء المحاولة .... )
اتسعت عيني وعد بذهول و هي تصرخ
( ماذا ؟!......... )
الا أن ملك استدارت وابتعدت عنها و هي تقول
( ما سمعته يا وعد ...... أنا لن أسلم نفسي له من جديد .... و لن أقبل أن تجبروني على ذلك ... )
اندفعت وعد خلفها صارخة
( انتظري هنا ..... أنا أكلمك ..... )
وقفت ملك مكانها مكتفة ذراعيها بصلابة دون أن تستدير اليها .... فتقدمتها وعد لتواجهها ثم هتفت بغضب
( من تعاندين ؟!! .... و لماذا ؟!! ..... ألم يكن هذا هو خيارك ؟!! ..... اليس هذا هو الشخص الذي تحبينه ؟!! )
قالت ملك بقوة قاذفة بالكلمات
( كنت أحبه .... كنت ...... الآن بتت لا أقدر على الإقتراب منه ... أنت لا تعرفين بعد ذرة مما فعله بي ... )
صرخت وعد بجنون
( أعرف ..... أعرف أنه قذر ... حقير .... و كل البشاعة به .... لكنه كان خيارك يا ملك و أنتِ الآن في مصيبة كبيرة بسبب خيارك هذا ...... لذا عليك أن تتحمليه بكل بشاعته ..... لأن لا غيره سيقبل بكِ )
صرخت ملك بجنون هي الأخرى و هي تلوح بذراعيها
( و هل تظنين أنني قد أفكر بالزواج أبدا ؟!!! ...... ثم اهتمي بنفسك رجاءا .... اهتمي بزواجك انتِ ... انتِ حتى الآن لم تذهبي الى سيف ..... تريدين مني طاعتك في الزواج من شخص ببشاعة شادي ... بينما أنتِ تتركين كبريائك الغبية تتحكم بكِ كي تخسرين شخصا مثل سيف !!! .... )
أجفلت وعد قليلا و هي تقول بتوتر
( و هل هذا جزائي يا ملك ؟!! ..... لقد نسيت طلاقي الذي مر عليه أكثر من اسبوع و نسيت نفسي و حياتي كلها ... كي أحاول ايجاد حل لكِ تعويضا عما فعلته معك من قبل ..... فلماذا تعاندين معي ؟!! ... )
صرخت ملك بغضب
( أنا لا أعاندك .... هل تظنين أنني بمثل هذه السطحية ؟!! .... لقد وقعت في اختيار خاطىء , لكن ليس من المنطق أن أكمل حياتي المتبقية كلها .. هذا إن تبقى بها شيء في تحمل عواقب هذا الخيار ..... )
صمتت قليلا ... ثم هتفت متابعة بأنين
( أرجوك اذهبي الى سيف قبل أن تذهب الفرصة منكِ للأبد ........ و اتركيني أنا لمصيري )
اقتربت وعد منها تمسك بذراعيها بقوة و هي تقول بألم
( أعرف أنه اختيار خاطىء ..... لكن أنتِ لا تعرفين عواقب أن تظلين بمثل هذا الوضع .... أسوأ ألف مرة ... سيحاكمك الجميع ... و تصبحين درجة دنيا من المجتمع .... صديقيني أنا أريد مصلحتك ... و لو لم تستطيعي تحمله فيما بعد ... فلتطلبي منه الطلاق .... هذا ان لم يطلقك هو من نفسه .... )
أظلمت عينا ملك و هي تهمس بألم
( أترين أي مقامٍ رخيص تريدن مني القبول به !! ......... )
اسقطت وعد كفيها عن ذراعي ملك بيأس و هي تهمس بإختناق
( كان خيارك يا ملك ...... كان خيارك حبيبتي .... )
همست ملك بصعوبة و اختناق
( أنا اريد البقاء وحدي يا وعد ..... رجاءا .... انزلي الى عملك ..... )
استدارت تجري الى غرفتها ثم صفقت الباب بكل قوتها .... بينما بقت وعد تنظر الى الباب المغلق بيأس و رغم عنها سقطت دمعة من عينيها لم تستطع كبحها .....
.................................................. .................................................. ...................
أغلقت ملك الباب ثم ارتمت على سريرها تبكي بقوةٍ .... شاعرة بظلم أكبر مما تستطيع تحمله
لكنها بنفس الوقت لا تستطيع لوم الا نفسها .....
لم تشعر يوما أنها كانت عالة أو عبىء ثقيل على أحد مثلما تشعر في تلك اللحظة .....
سمعت صوت هاتفها يرن فجأة .... فتصلبت و شهقت شهقة بكاء مختنقة .... ثم نظرت الى شاشة هاتفها فاستطاعت التعرف الى رقمه ....
لقد ظل يهاتفها منذ أن أحضرها الى وعد ..... و هي لا ترد عليه .....
صحيح أنه لا يلح الا باتصال واحد .... ثم يغلق بعدها .... الا أنه كان يواظب على المحاولة كل يوم ...
لم ييأس يوما .... و لم يتوقف عن الإهتمام ....
كان صدرها يؤلمها بمثل هذا الإهتمام المهذب الهادىء .... تريد الصراخ به ان يتوقف
و على الرغم من ذلك كان اتصاله اليومي هو لحظة الرفق بها و التي تنتظر سماعها كل يوم .....
ظلت تنظر الى الهاتف بعينين حمراوين كبيرتين ... و شفتين تبتسمان خلسة .... بحزن
و ما أن انتهى الإتصال حتى أغمضتهما بألم .... و هي تشعر بأن الساعات ستطول قبل أن تسمع رنينه مجددا
الا إنها انتفتضت و فتحت عينيها على أقصى اتساعهما حين سمعت الرنين مرة أخرى !!
كانت المرة الأولى التي يتصل بها مرتين !! ....
و كانت المرة الأولى التي ترد بها عليه ... وضعت الهاتف على اذنها تسمع بصمت فقال بصوته الهادىء الذي افتقدته كثيرا
( هل كان واجبا علي أن أتصل مرتين كي تردي علي ؟!! ........ )
كان نفس صوته ... الا أنه كان يحمل نبرة غريبة .... و كأن بها .... لهفة ... افتقاد يماثل افتقادها ... شوق ...
ارتجفت قليلا من الكلمة الأخيرة ... فأخذت نفسا مرتجفا قبل أن تقول بخفوت
( كان بإمكانك المجيء الى هنا ........)
سمعت صوت تنفس خافت ... لكن طويل .. و حار .... ثم قال بعد فترةٍ بصوت أجش هادىء
( لا صغيرتي ...... لم يكن ذلك بإمكاني .......)
همست ملك بشجاعة و دون مقدمات
( لماذا ؟؟ ...................)
ساد صمت طويل متوتر بينهما .... قبل أن يقول بهدوء
( لأن ...... لأن هذا لن يفلح , بوضعك الحالي ..... خاصة و بعد رجوعك لأختك ......)
ابتلعت ملك ريقها و قالت بخفوت قاسي قليلا
( اذن هل تتصل بي لتطمئن على تلك الحمقاء التي زجت بك يوما بكل هذه المشاكل ..... بعد أن كانت حياتك هادئة .....)
قال رائف بخشونة
( لا تتكلمين بهذا الشكل عن نفسك ......... )
قالت ملك بقوة
( بل سأتكلم بهذا الشكل يا رائف ..... انهم يسعون لتزويجي به مجددا ..... ألن تساعدني ؟!! ...)
ساد الصمت مجددا , الا أنها استطاعت سماع حشرجة أنفاسه بوضوح .... فهتفت بقوة
( الن تساعدني يا رائف ؟!! .............)
قال بصوتٍ خافت
( أنا فعلا أساعدك ...... فقد حافظي على ثقتك بي , لو كنت تملكين بعضا منها )
ردت ملك بصوتٍ مترجي على الرغم من نبرة الصرامة فيه
( اذن متى سأراك ؟! ...........)
انتظرت اجابته و صدرها يخفق بعنف ..... و حين رد أخيرا قال بصوتٍ قوي , خشن ... يبدو كزمجرة أسد غاضب
( يوم الزفاف ..........)
فغرت شفتيها قليلا و اتسعت عيناها و هي تهمس باهتزاز
( أي زفاف ؟! .......)
لم يحتج الى وقتٍ طويل قبل أن يقول بصوت جامد ... كالرخام البارد
( زفافك من كريم ......لن يكون أقل من زفاف كبير ... سيراه العالم كله .... و يعرف الجميع بأنكِ تزوجتِ .... .)
كانت تتنفس بصوتٍ عالي .... و كأنها تركض بسبق طويل لا ينتهي .... و كان هو على الجانب المقابل يستطيع سماع صوت تنفسها مغمضا عينيه .... و كأنه يعمل على تعذيب نفسه كما تتعذب هي ...
الا أنها ما أن تمكنت من النطق حتى قالت بهدوء لاهث
( اذن سأهرب ....... سأهرب منكم جميعا ..... )
فتح عينيه و انتفض هادرا
( اياك يا ملك ...... اياك .......)
الا أنها هتفت بقوة
( أخبرتك مرارا أنني لن أستطيع ......لن أستطيع .... أنتم لا تعلمون .... لا تشعرون بما سيصيبني ...)
هدر قائلا
( أنا أعرف .... و أشعر بك اكثر من نفسك , لذا سأحميك منه و من نفسك لو تطلب الأمر .....)
رمشت بعينيها قليلا .... قبل أن تقول بخفوت
( سأهرب يا رائف ...... اعذرني إن كنت أضعف مما ظننتني ...سامحني لو خذلتك ... )
و دون أن تجد القدرة على سماع صوته أكثر أغلقت الهاتف ... الا أنها سمعت صوته يهتف باسمها غاضبا في النهاية ....
تركت هاتفها و هي تأخذ نفسا مختنقا ... جاهدة كي تتحمل ألم سماع صوته في هذا الوقت تحديدا ...
.................................................. .................................................. ....................
( هل أنت كريم القاضي ؟؟ ...... )
كان يسأل السؤال بصرامة .... على الرغم من معرفته الجواب جيدا ...
زفر كريم بقوةٍ وهو يستدير الى من يخاطبه قبل أن يدخل سيارته ... الكثير من الباشر باتو يحتكون به بطريقة توشك على أن تفقده أعصابه ....
استدار بخيلاء وهو ينظر من يحداثه بصلف .... فرأى رجلا ضخما , طويلا ...صلب الملامح و عيناه تختفيان خلف نظارة سوداء ... يقف أمامه واضعا كفيه بجيبي بنطاله ....
رفع كريم ذقنه وهو يقول بغرور
( من يريده ؟! .......... )
لم تتغير ملامح الرجل .... بل ظل ينظر اليه بنفس الجمود و الصلابة التي تبدو كاحتقار نوعا ما .... الا أنه قال أخيرا بهدوء
( غريب الا تتعرف الى صهرك ......إنها ليست بداية جيدة ..... )
عقد كريم حاجبيه بشدة وهو ينظر الى ملامحه .... نعم يعتقد أنه رآه من قبل , هل هو زوج أخت ملك بالفعل ؟!!
لقد رآه من بعيد في عدة مناسبات في الظلام .... كما كان مختفيا دائما ينتظرها
قاد سيف دفة الكلام و هو يقول بصرامة
( لقد وصلت دعواك الي بيتي ذات يوم .... تلك التي تتهم فيها ملك بأنها مجنونة كاذبة ... و تترصدك ... )
ارتبكت ملامح كريم قليلا ... قبل أن يرفع ذقنه مجددا قائلا باهتزاز
( لا أعلم ما تتحدث عنه ........ )
لم يهتز سيف , بل قال بهدوء
( ما هو الذي لا تعلمه ؟!! .... الدعوى التي ارسلتها أنت ووالدك .... أم ملك زوجتك ؟!! ... حدد من فضلك لأن الخيارين متناقضين ...... )
توتر كريم قليلا وهو يستدير ينوى فتح سيارته و الإبتعاد قائلا
( لا أستطيع البقاء ..... اعذرني )
الا ان سيف كان أسرع منه فقبض على ذراعه بشدةٍ وهو يديره اليه قبل أن يرميه الى سيارته فارتطم ظهره بابها ....
ثم قال بصرامة
( عرفت أنك جبان قبل أن آتي ......... لكن على الأقل كلمني رجلا لرجل ... لا تهرب بهذا الشكل المخزي , راكضا الى أبيك تسأله المشورة قبل أن تنطق بكلمة .... )
سكن كريم ينظر اليه دون أن يحاول تحرير ذراعه من كف سيف ....
هدرسيف بصرامة جعلته ينتفض مكانه
( أنا لست أحمل معي أي وسائل تسجيل .... ان كان هذا ما يرعبك , فهل تريد تفتيشي ؟! ...)
ظل كريم يتنفس بضيق قليلا ... قبل أن يقول بخفوت متردد
( ماذا تريد ؟ .............)
هدر سيف بنفسٍ قوى و هو يدفع ذراع كريم بتقزز ... ثم عدل قميصه قبل أن يقول بصرامة
( لن يمكننا الكلام هنا ..... لنجلس بأي مكان ... )
ظل كريم واقفا مكانه مترددا ... ينظر يمينه و يساره دون وعي ... فقال سيف ساخرا
( لن أخطفك أيضا لو هذا ما تخشاه ......... )
رفع كريم وجهه و قد احمر غضبا و هو يقول من بين أسنانه
( أنا لا أخشى شيئا ...... أنا كريم القاضي ..... )
ابتسم سيف هازئا وهو ينظر اليه بتقزز قبل أن يقول ببرود
( اذن يا كريم القاضي ... فلتترك سيارتك هنا و تأتي معي بسيارتي , و سنتحدث معا رجلا لرجل )
ثم تركه و استدار عنه متجها لسيارته .... مراهنا أن يتبعه , و بالفعل تبعه كريم بتردد و بملامح متشنجة و هو يعدل من قميصه ....
قبل أن يجلس بجوار سيف في السيارة .... متسائلا إن كان يفعل الصواب أم أنه يخاطر بكل شيء ...

بعد بضعة دقائق ... كان سيف يجلس بأحد المقاهي , متراجعا في كرسيه باسترخاء ... يقلب الشاي الخاص به وهو يراقب كريم بهدوء ....
كانت عيناه ثاقبتان وهو ينظر الى اصابعه التي تنقر سطح الطاولة بتوتر .... و الأخرى تتلاعب بأحد أكياس السكر الى أن مزقه فانساب السكر على السطح ....
ساقه تتحرك بعصبية من تحت الطاولة ..... ... عيناه تدوران باهتزاز و عدم اتزان ...
ضاقت عينا سيف وهو يراقبه ... من الواضح أنه يعاني من جنون العظمة و بنفس الوقت بداخله عدم اتزان يجعله مهتزا بهذا الشكل .....
و حين أوشكت أعصاب كريم على أن تنهار .... تكلم سيف أخيرا قائلا
( أنا لا أريد أن آخذ من وقتك الكثير .... لذا دعنا نتغاضى عن اللف و الدوران ... و كل المقدمات الغير نافعة لأي منا ....... أنت تعرف ملك جيدا و افضل ..... هي زوجتك .... صحيح أم لا ؟!! ...... )
فغر كريم شفتيه وهو ينوى الكذب ... الا ان سيف قال بصرامة لدرجة ان عدة رؤوس التفتت اليه
( و نصيحة قبل أن تجيب .... عليك ان تعلم انني لا اضيع لحظة من وقتي سدى , لذا مع اول كذبة منك ... لن افعل سوى القيام من هنا بكل بساطة و تزويج ملك من رجلٍ ذو شأن ...... و بالتأكيد سنكون نحن الرابحين بخسارة فتى غر مثلك .....)
برقت عينا كريم قليلا .... و استطاع سيف أن يلمح بهما شعرة من الجنون .... هذا الولد غير طبيعي أبدا ...
قال كريم أخيرا بخفوت
( من هو ذلك الرجل ذي الشأن ؟!! ...... خالي ؟!! ........ هل ستجمع ملك بين رجل و خاله ؟! ...)
لم تتحرك عضلة بوجه سيف ... بل قال بمنتهى الهدوء
( اترك خالك خارج الموضوع حاليا ..... ملك تعتبر بمكانة أختي ... و أخت سيف الدين فؤاد رضوان .. عشرات يتمنون نسبه .... هذا دون ذكر أن جمالها سيشفع لها زلتها عند الكثيرين .... اي أنها مال و جمال و و عائلة .... و أخطأت خطأ بالغ حين ظننت أن بإمكانك التلاعب بها دون أن يقف لك أحد ....)
كانت ملامح كريم تتشنج ... و حدقتاه تهتزان ... بينما التوتر يكاد يزهق روحه لدرجة أن شعر سيف ببعض الشفقة عليه ...
من المعلومات التي جمعها سيف عنه ... علم أنه شريك والده بمعظم صفقاته و على الرغم من حداثة سنه الا أنه أثبت ذكاءا و مجازفة راجحة دائما ....
لكن من الواضح أن ملك هي نقطة ضعفه .... يكاد يتحول الى طفل ذليل كلما ذكر اسمها .....
لذا استغل سيف الأمر و ضرب كلامه بقسوة .... ثم تركه يستوعبه قليلا ...قبل أن يقول بهدوء شديد
( اهدأ يا بني ...... لا داعي لكل هذه التوتر .... لقد وترتني ساقك أسفل الطاولة ...... )
رفع كريم عينيه الى عيني سيف بصمت , و تابع سيف قائلا
( بما أننا اتفقنا أن ملك ليست كاذبة أو مترصدة .... أو حتى مجنونة ..... لذا لدي لك سؤال آخر .... )
صمت قليلا قبل أن يميل اليه قائلا بوضوح و صرامة مخيفة
( هل تريدها ؟!! ...... أم ننفصل بالمعروف .... أو بغير المعروف لو اقتضى الأمر ... فهو راجع اليك )
التمعت عينا كريم بجنون .... فقال بهمس بدا كالفحيح وهو يضع يده على صدره و كأنه ثعبان بائس يتوسل
( لن أتركها أبدا ...... أنت لا تعرف من هي ملك بالنسبة لي .....إنها حياتي ....انها تخصني ... ما بيننا اكبر من اي انسان في هذه الدنيا .... إنها خلاصي ...أرجوك ساعدني ... .)
تنهد سيف بداخله براحة .... بينما تراجع للخلف مجددا .. يتأمله بصمت , يراقب سلطان ملك عليه بهوس حتى في عدم وجودها ...
ثم أخذ يطرق على الطاولة متظاهرا بالتفكير ... الى أن قال أخيرا متنازلا
( لكن ما فعلته حتى الآن .... لا أميل في قرارة نفسي لأن أمرره على خير ..... كي أكون صادقا معك ...)
قال كريم بصوت خافت متوتر
( الأمر أكبر مني ..... هناك أشياء أنت لا تعرفها ......)
ابتسم سيف ابتسامة باردة .... جليدية .... ثم قال أخيرا
( كموضوع نسبك مثلا ؟!! .......... هذا أمر اضافي يجعل منك غير لائقا بملك ... )
شحب وجه كريم و توترت ملامحه بشدة .... لدرجة أن الذعر رسم نظراته .... فقال سيف متابعا
( هناك قضية محكمة الخيوط يتم اعدادها لإثبات العكس ....... و حينها ستتمنى لو أنك لم تعرف فتاة اسمها ملك بحياتك كلها .......)
اتسعت عينا كريم أكثر ... و ازداد اهتزاز ساقه حتى اهتزت معها الطاولة .... ثم قال أخيرا بصوتٍ بائس
( ما هي طلباتك ؟ .... بما يضمن لي عدم ضياع ملك مني .....)
ضحك سيف بخشونة و هو يهز رأسه قليلا .... غير مصدقا ... قائلا
( و تملي شروطك أيضا ؟!!! ......... )
ثم لم يلبث أن هجم على كريم عبر الطاولة وهو يقبض على مقدمة قميصه يجذبه اليه موقعا الكوبين بينما تعالت شهقات الناسمن حولهما و ازداد ذعر كريم من فضيحة سيفتعها سيف الذي بدا كمخلوق همجي .... مرعب ....
همس كريم وهو يصارع قبضة سيف التي كادت أن تخنقه
( لا تفتعل فضيحة هنا ...... أرجوك ...... )
الا ان سيف كاد يبدو في تلك اللحظة مثال التوحش وهو يقول بصوت خافت أمام وجه كريم .... بينما عيناه تهدران بصراخٍ مرعب
( ستعقد قرانك عليها رسميا .... و هذا ما ستساندنا به حين نتفضل على والدك بزيارة قريبة ... فإما تكون بصفنا ... أو ضدنا .... و حينها أضمن لك خسارة ملك و هويتك و حياتك كلها ..... )
كان سيف يشعر بارتجاف حلق كريم تحت قبضته .... لكنه ظل منتظرا و اللحظات تمر ... و النادل يقترب منهما بقلق .....
الى أن قال كريم في اللحظة الاخيرة صاغرا
( سأكون معكما ..... لكن اضمن لي بقاء ملك معي ....... )
ظل سيف ينظر اليه بوحشية ... قبل أن يصل النادل اليهما قائلا بقلق
( سيدي ...... رجاءا , نحن لا نفضل افتعال المشاكل هنا .... )
ترك سيف قميص كريم بقوةٍ وهو يقول بهدوء أثناء نهوضه
( لا مشاكل ...... السيد سيغادر حالا ... )
ثم اخرج من حافظته ورقة مالية .. تكفي ثمن ما لم يشرباه و ثمن الأكواب التي تكسرت ... رماها على الطاولة وهو يقول ببرود
( خذ حاسب على ما شربته و عد الى بيتك يا فتى ...... و انتظر زيارة منا )
ابتعد سيف خارجا تحت أنظار الجالسين المذهولة ... بينما كان كريم يدلك عنقه وهو يشعر بأن الحياة أصبحت تضيق من حوله شيئا فشيء كفخ يطبق عليه ..... و كأن ملك تنظر اليه بحزن من خارج هذا الفخ ... و هي تبتعد ... و تبتعد ....
.................................................. .................................................. ...................
كانت ملك جالسة في المقعد الخلفي بسيارة أجرة .... تستند برأسها الى زجاج النافذة ...
تنظر الى الطرق التي تجري أمامها بصمت ... عيناها شاردتان .... ضائعتان ...
بينما تضم الى صدرها لفة تحوي صندوقها الموسيقي .....
نظرت الى اللفة و هي تتحسسها قليلا ... قبل أن تزيح الغلاف بيدها و تفتح الصندوق ....
ثم عادت لتستند برأسها الى النافذة مجددا و هي تستمع الى الموسيقى الهادئة ...
لكن بدون عروس .......
القاعدة المستديرة تدور وحدها .... و العروس ليست موجودة ......
ارتجفت شفتيها قليلا و همست
( كم هي محظوظة !! ............. )
سمعت فجأة سائق سيارة الأجرة يهتف بغضب
( ما اللذي يفعله هذا المجنون ؟!! ...... إنه يعيطيني اشاراتٍ منذ فترة و لا يتجاوزني ...... )
رفعت ملك رأسها بعدم فهم و هي تغلق صندوقها .... لتستدير ناظرة من النافذة خلفها.... فاتسعت عيناها بذهول و هي ترى رائف في السيارة خلفهما ... و يشير لهما بضوء السيارة ....
و استطاعت رغم النافذتين و المسافة ... رؤية ملامحه الغاضبة ...
التفتت ملك أمامها بسرعة و هي تقول
( توقف هنا من فضلك ........ )
عقد السائق حاجبيه وهو يقول
( هل تعرفينه ؟! ......... )
قالت ملك بحرج
( نعم ..... أنا آسفة جدا .... من فضلك توقف هنا........ )
توقفت السيارة على جانب الطريق ... فنزلت ملك و هي تحتضن لفتها بين ذراعيها ..وحقيبة صغيرة نوعا تحتوي بعضا من ملابسها ... .
وقفت على الرصيف و الهواء يطير خصلات شعرها حول وجهها ... و يحرك ضفيرتها على كتفها ...
توقف رائف بسيارته أمامها وهو يشعر بغضبٍ قادر على تحطيم أي شيء في متناول يده ... صدره لا يزال ينبض بعنف وهو يتخيل هروبها الى مكانٍ لا يعلمه الا الله .... لولا أن لحقها و هي تستقل سيارة الأجرة من امام بيتها في آخر لحظة ......
لكنه أخذ يتسائل وهو ينظر اليها إن كان هذا الغضب له القليل من العلاقة بمبلغ جمالها في تلك اللحظة بالذات و هي تبدو ذهبية تحت أشعة الشمس ... و تتلاعب معها نسائم الرياح ....
زفر بغضب وهو ينزل من السيارة صافقا بابها بقوة ليتجه اليها ... بينما بادرته هي بغضب هاتفة
( هل أنت مجنون ؟! .........)
تسمر رائف مكانه و ارتفع حاجبه ..... بينما شعرت ملك بالندم فور أن خرج هذا الهتاف الغبي من بين شفتيها
ففارق السن بينهما ... و مكانته لا يسمحان لها بأن تخاطبه بتلك اللهجة ....
تراجعت للخلف خطوة و هي تقول
( لم أقصد ...... أنا آسفة .......)
قال رائف بصرامة
( يجدر بكِ أن تكوني آسفة ..........)
اشتعل وجهها احمرارا ... و شعرت بالحرج من التأنيب و صرامة صوته ... و كأنه ضربها تماما ...
فأطرقت بوجهها ... بينما شعر هو بالندم لأنه أحرجها بهذا الشكل ..
فقال بصوتٍ ألين قليلا ... بينما لم تغادره الصرامة تماما
( و بالحديث عن الجنون فأنتِ آخر من تتحدثين عنه بهذه الوقاحة ....... أتعلمين لو كنتِ نجحت في الهرب .. والله لكنت .......)
لم يستطع اتمام جملته الغاضبة وهو يزفر بشدة ...خاصة بعد أن رآى حقيبة ملابسها الصغيرة الموضوعة أرضا تؤكد ظنونه ... فاستدار عنها قليلا , و كانت هي تنظر اليه بصمت
هالها أن تكتشف فجأة بأنها قد اشتاقت اليه !!! ...... و اشتاقت اليه بشدة ......
و كان هذا الشعور غريبا عليها بين كل ما تعانيه حاليا ..... ستظل رؤيته دائما تبعث بها الراحة و الأمان ... حتى لو أخذها بنفسه الى الموت .....
قالت ملك أخيرا بخفوت
( أرجوك ابتعد عني يا رائف ...... انها المرة الأولى التي أطلبها منك .... لكنني بعد فترة طويلة من التفكير , فهمت أن كريم اقرب اليك مني .... انه الفتى الذي تربى ببيتكم و أنت تحبه رغم كل شيء .... أعرف أنك تحبه رغم كل اشمئزازك مما فعله ..... و أنت تحاول جاهدا تصحيح الأمر ... لكنني لن أستطيع .... لن أستطيع صدقني ... )
كان ينظر اليها وهو يحاول استيعاب ما تقوله .... بينما بدت ملامحه مخيفة فجأة ....
فاندفع اليها خطوة جعلتها تتراجع للخلف الى أن ارتطمت بسور الطريق ... فتوقفت و هي تحتضن الصندوق بين ذراعيها عله يحميها
و ما أن أصبح على بعد خطوة منها حتى قال بصوتٍ خافت ... خطير
( أتظنين أنني انوي الإصلاح بينكما ؟!!! .... أهذا ما ترين أنني أحاول فعله ؟!! ...... )
هتفت ملك بيأس و هي تتشبث أكثر بالصندوق
( اذن ما الذي تحاول فعله ؟!! ...... اخبرني ....... تكلم و لا تبقى صامتا ... صارما بهذا الشكل ... أنت تدين لي بتفسير , فأنت لست أبي كي تقرر وحدك ..... )
كانت تشعر بنفسه يزداد سخونة و يلفح وجهها ..... بينما كانت تنظر اليه بعينين واسعتين و هي تشعر بالخوف ... أو شيء يماثله يزيد من نبضاتها لكن لا تستطيع تحديده تماما ...
بينما أظلمت عينا رائف وهو يقول بصوتٍ أجش خافت
( ليتني كنت والدك .............. )
رقت عيناها .. و ظلا ينظران الى بعضهما , تنتظر منه أن يشرح لها ... يريحها .... يخبرها أنها محقة و أنه سيغير رأيه و سيساندها كما يفعل دائما ....
لكن بينما تنظر اليه لم تخبره بكل ذلك ... و لم تسمع منه اي شيء مما انتظرته .... بل سمعت منه شيئا آخر ....
فقال بصوتٍ خافت وهو يتأملها
( اشتقت اليكِ يا ملك ...... ياللهي لم أدرك أن ....... )
فغرت ملك شفتيها أكثر ... و اتسعت عيناها بذهول , بينما رأت يده ترتفع الى جانب وجهها و كأنه سيبعد خصلات شعرها عنه .... لكن كفه كانت ترتجف قليلا دون أن تلامس بشرتها ....
و عيناه ..... آه من عيناه ....
في لحظة جنون دوى لحن أغنية تعشقها في أذنيها ... و اندفع صوت " اصالة " بداخلها و هي تهمس
" آه من عيناه ..... "
أنزل رائف يده دون ان يلمسها وهو يزفر بقوةٍ يخرجها من اللحن الغريب مجهول المصدر ....
ثم قال بخشونةٍ وهو يستدير
( هيا لأعيدك يا ملك ....... و توقفي عن تلك التصرفات الصبيانية , إنها لا تشبهك ... أنتِ قوية و أنا أعرف أنك )
قاطعته ملك تقول
( و أنا أيضا اشتقت لك ......... )
استدار اليها عاقدا حاجبيه ... ملامح وجهه غير مقروءة ... بينما عيناه كانتا .... و كأن بهما ذهولٍ لا يناسب وقاره و رقة قلبه ....
فتابعت تتشجع أكثر و هي تتشبث بالصندوق
( كنت أنتظر رنين هاتفي كل يوم .... كان يطمئنني و يخبرني أنك لا تزال موجودا معي ... لكن كنت أخاف من الرد ... و أنا أعرف قرارك جيدا .....)
حاجباه ينعقدان أكثر .. و الذهول بحدقتيه يزيد .... بينما الشجاعة ملأتها و هي تتكرر بوضوح
( اشتقت اليك جدا يا رائف ........ جدا )
رأته يزفر مجددا .... لكنه لم يكن يزفر في الواقع , بل هو نفس خشن أفلت منه رغم عنه ... ووجهه يزداد قتامة .....
كانت ملامحها هادئة ... و عيناها ساكنتان ... تراقبان كل انفعال يبدر منه ... بينما بدا هو يصارع ....
قال رائف أخيرا بخشونة ٍ و صرامة
( هيا بنا يا ملك ..... ستقلق عليك أختك , و صحتها لن تتحمل ..... )
قالت ملك باصرار
( رائف هل سمعت ما قلته للتو ؟؟ ......... هل يهمك بشيء ؟! .... أي شيء !! ....)
كانت نظرات رائف لها تشتعل بقوة .. ثم تعود و تتهرب منها ... الى أن قال أخيرا بنفس الصلابة و كأنه لم يسمع شيئا ...
( ملك ترفقي بأختك و هيا لنعود ........)
اتسعت عينا ملك قليلا و هي تقول بخفوت واهي
( أختي !!! ...........)
ثم لم تلبث أن هتفت بقوة و هي تتشبث بصندوقها كقوةٍ تحميها
( رااااائف ...... هل سمعتني ؟! ,........)
حينها انهارت سيطرته على نفسه وهو يهتف قائلا بغضب
( تبا يا ملك ..... ماذا تنتظرين مني ان اقول ؟!! ...... )
شعرت بصدمة قوية ... و كأنها تلقت لكمة بمعدتها .. لا تعلم إن كانت صدمة منه ... أم صدمة من نفسها .... فماذا كانت تنتظر ؟!! ..... الى ماذا كانت تحثه , هي نفسها غير متأكدة !!
تراجعت ملك أكثر أمام غضبه .. لكنها عادت و أكتشفت أن السور يمنع تراجعها باصرار ....
ارتجفت شفتيها قليلا لكنها زمتهما بقوة كي لا تبكي أمامه ... و رفعت ذقنها قائلة بهدوء
( لا شيء ..... أنا آسفة .... اذهب من فضلك و اتركني ...... أنا أكثر من قادرة على العودة وحدي ... )
كان ينظر اليها بتعبٍ .... يتأملها كزهرةٍ بيضاء تقف في مواجهة الرياح الرقيقة و التي لم تستطع حتى منافسة رقتها .... تشبه الياسمينات البيضاء ذات القلب الأصفر ...
و طال بهما الصمت , فقال بخفوت
( لم أكن أعلم كم أنتِ صغيرة مدللة !! ....... )
ارتفع حاجبيها ... الا أن الألم لم يغادر ملامحها و هي تقول
( أنا ..... مدللة ؟!! .........الا تظن نفسك متجنيا قليلا ؟! ..)
ارتسمت على شفتيه شبه ابتسامة حزينة ...ثم قال
( ترفضين فتهربين .......تطلبين فتغضبين ....... )
أسبلت جفنيها قليلا أمام الحنان الدافق و الذي يحمل نبرة يأس .... ثم قالت و ابتسامة تشبه ابتسامته تريد التسلل بعدوى الى شفتيها المتألمتين
( و كأنك تجعل مني طفلة ........ فتهون كل مشاكلي ...... )
ساد صمت طويل .... لكنها هذه المرة لم ترفع رأسها اليه ... بل ظلت مطرقة الوجه , تنظر الى اللفة بيدها بصمت .... الى أن سمعته يقول بصوتٍ أجش
( ردا على سؤالك ... سمعتك يا ملك ...... سمعتك ..... فلا تجبريني على جوابٍ أنت غير مؤهلة لسماعه ... )
انتابها خوف شديد مما قاله ... و شعرت بأن قلبها قد توقف .....
فاتسعت عيناها و هي مطرقة الوجه ..... و تشنجت أصابعها فوق صندوقه .....
و من بين الخوف كان هناك شعور لذيذ غريب يدغدغها ..... فابتلعت ريقها بصعوبة ...... و ذعر!! .
عقد رائف حاجبيه بشدة ...و شتم نفسه الف مرة على ما تفوه به .... فوقف بجوارها يوليها ظهره ... محاولا السيطرة على المتبقي من اتزانه ...
بينما كانت ملك تقف مكانها ... بداخلها شعور يحثها بالا تفسد تلك اللحظة باي محاولة توضيح ...
بعض العبارت تبدأ عندها حياة ... و بآخرها نقطة , فلا يستقيم بعدها الكلام ....
و لذلك حين همست ملك باسمه بعد فترة طويلة
( رائف ..........)
أجابها بصوتٍ جامد .... قوي يكاد يكون صارما ...
( لا تتكلمي الآن يا ملك ........... )
فشعرت بالخوف بداخلها يتزايد .. و بصدرها يتضخم , بينما هي تراقبه , يضع يديه بخصره .. ينظر للبعيد وهو يتنفس برتابةٍ .... أو على الأقل يحاول جاهدا ....
نظرت الى الصندوق بيدها .... فتسلقت السور خلفها لتجلس عليه ... بينما أزاحت اللفة من عليها و تفتح غطائه .... الى أن ينتهي رائف من حل مشاكله مع نفسه و يلتفت لها ....
فقد أرادت بتلك اللحظة أن تسمع صوت موسيقاه و كأنها نبتة عطشة تحتاج لقطرات المطر ....
و ما أن انبعث صوت الموسيقى الحالمة حتى استدار اليها رائف بسرعة ... ينظر اليها بذهول بينما عيناه منعقدان بشدة ...
كانت جالسة على سور الطريق ... فستانها الصيفي الرقيق يتطاير من حول ساقيها ال .........
زم شفتيه يبعد تفكيره بعيدا عن تلك النقطة ....
وهو يرى شعرها الذي يثير جنونه ....يتطاير من حول وجهها المنخفض و هي تستمع الى الموسيقى المنبعثة من صندوقه ....
كانت تحتضن الصندوق بين ذراعيها و تراقبه بصمت ..... و هي تؤرجه ساقيها بنعومةٍ مع أنغامه ...
و كأنها هي راقصة الباليه ..... ليتها كانت ليستطيع اغلاقه عليها و حمله معه أينما ذهب .....
كانت غير حقيقية ..... و كأنها خيالٍ حالم .... تجلس على سور الطريق لتستمع الى موسيقى الصندوق الذي ظل مهملا لسنواتٍ طويلة ... يعلوه الغبار ... دون أملٍ أن يحيه أحد من جديد ....
رآها فجأة ترفع يدها تمسح دمعة تساقطت على وجنتها دون صوت .... حينها شعر بشيء يلوي أحشائه , فاقترب منها خطوة وهو يقول بخشونة
( أتبكين يا ملك ؟!! ........... )
رفعت وجهها اليه بصمت ... تنظراليه بعينين لم يرى بجمالهما من قبل ...
فقالت بخفوت
( لقد كُسِرت العروس ............ )
عقد حاجبيه قليلا و هو يظنها تتكلم عن نفسها , لكنه سألها برهبة
( ماذا ؟!! ............ )
اطرقت بوجهها تقول بحزن
( لقد وقع الصندوق ...... و كُسِرت العروس ....... )
تنفس الصعداء قليلا وهو يطمئن لأن عروسه هو لم تُكسر ...... فاقترب منها , يضع يده على الصندوق بحجرها , ثم قال بهدوء
( هل هي معكِ ؟.......... )
أومأت برأسها و مدت يدها تخرجها من جانب اللفة ... ثم رفعتها اليه و هي تقول بخفوت
( ها هي ............... )
ابتسم رائف وهو ينظر اليها ... عروس تمسك عروس ...... لكن ابتسامته بهتت ثم ضاعت و قال بصوتٍ فاتر
( هل أصلحها لكِ ثم أعيدك للبيت ؟ ............ )
رفعت عيناها الى عينيه بصمت .... فقال بخشونة
( لا تنظري الي بهذه الطريقة ...... أنا أحاول أن أكون ........ )
صمت وهو يأخذ نفسا مرتجفا ... ثم أخذ الصندوق منها ليحمله تحت ذراعه .. و بنفس اليد انحنى ليحمل حقيبتها الصغيرة ...
بينما مد اليها يده الأخرى وهو يقول بصوتٍ قوي ... صارم ... به حنان العالم ... فهل يجتمع كل هذا بصوت رجل ؟!! ....
( هيا ملك .......... كوني الفتاة القوية التي عرفتها ...... )
مدت يدها اليه فقبض عليها بقوة و أعينهما لا تجد كل منهما القدرة على الفك من أسرها .....
صدرت عنه تنهيدة أجاد اخفائها .. فلم تسمعها وهو ينعم بذلك الكف المحرم للحظة .. قبل أن تقفز الى الأرض أمامه ... يتلقى وزنها خفيف على ذلك الكف الذي انطبع دافئا على يده ... فترك أثرا لن يزول أبدا ....
جذبها خلفه الا أنها مانعت قليلا ... فاستدار ينظر اليها ... بعينيها رفض لكنه رأى الرجاء خفيا
فنظر امامه يجرها خلفه بقوةٍ حتى اضطرت للجري تلاحق خطوتين الي السيارة ...
ففتح الباب الأمامي .... و هنا ودع كفها الرقيق متحسرا , قبل ان يقول بخشونة آمرة
( ادخلي يا ملك ...... و إياكِ و ان تعيديها مجددا ....... )
رفعت ملك وجهها و هي تقول
( و ما أدراك أنني سأنفذ كلامك ؟! ........... )
نظر اليها بقسوةٍ لم تخدعها .... فقسوته حنان .. و بأسه رفق ... و قال بصرامة
( لأنك ستجديني بطريقك دائما .... و لن أكون متساهلا معكِ المرة القادمة ... )
تركها و استدار حول السيارة .... بينما وقفت مكانها تنظر اليه .... تريد سؤاله كيف لن يكون متساهلا معها و ما هي وسائله
بل أرادت أن تطلق ساقيها للريح .... و تهرب ... تهرب ... تهرب ... و هي تعلم أنه خلفها بالمرصاد ...
كانت عيناها شاردتان في البعيد ... تعيش حلما مراهقا ......
الى أن أفاقت على صوته الهادر
( لن أعيدها يا ملك .............. )
دخلت ملك الى السيارة بصمت ....
فجلس بجوارها ... ينظر أمامه بصمت ..... لم يتحرك بالسيارة ... و لم ينظر اليها ... بل قال بصلابة
( أعرف رأيك بي حاليا ......... )
نظرت اليه بصمت , ثم قالت بخفوت
( أتعلم حقا ؟! ........... )
زفر بقوةٍ وهو يقول بخشونة
( أنتِ ترينني وحشا لا قلب له ..... و ربما كنت خائنا ..... )
قالت ملك بصوتٍ لا تعبير له
( لا ...... لا أراك بهذا الشكل ........ و في النهاية أنا أستطيع الرفض , لا يمكن لأحد أن يمنعني ... )
نظر اليها و عيناه تفضحان الكثير ...... من الطلاسم ...
فقالت ملك بثقة
( و بكل الأحوال ستكون بجانبي ..... حتى لو كنت غير راضيا عني .... هذا هو ما أثق به ..... )
كانت شجاعة بطريقة غريبة .... عيناها بعينيه ...
تحمل حمل الجبال و تعرضت لظلمٍ بين ... و بالرغم من ذلك شجاعتها تفوقها حجما و عمرا ....
لكن كلامها القوي أنعش بصدره ابتسامة .... و كأنها تتحداه أن ينطق العكس !!
باتت تعرف مكانتها لديه و من يلومها !! ........
اخفض وجهه الى الصندوق .... و العروس بيده ...
و دون كلام انحنى تجاهها ينفتح الرف الأمامي للسيارة , مخرجا منه انبوب لصق .... و لفة سلك رفيعة يحتفظ بها ...
ثم بدأ بالعمل وهو يتجاهل وجودها ..... بينما الابتسامة تحارب بخجل كي تظهر على شفتي كل منهما ...
و كأنهما صغيرين يلهوان بعد أن تصالحا ....
تراه يلف السلك الرفيع حول القاعدة المتديرة برفق و دقة .... و يثبت العروس مقيدا قدميها
فقالت ملك برقة و هي تبتسم بحسرة
( أنت تقيد قدميها !.......... )
قال برفق دون أن ينظر اليها
( المهم أن تكون بخير وهي ليست غاضبة مني ...... فلا تتدخلي أنتِ .... )
ضحكت ملك برقة ... فرفع وجهه اليها صامتا , حينها أدارت وجهها الى النافذة بجوارها ... و ساد التوتر بينهما مجددا ...
و بعد عدة لحظات سمعته يقول
( هاك ...... لقد أصبح كالجديد .... و إياكِ أن تبكي مجددا ..... )
وضع الصندوق بحضنها .... فنظرت الى العروس التي عادت تدور رافعة ذراعيها للسماء .... بعد أن داوى كسرها ...
فرفعت عينين مترقرقتين بالدموع الى عينيه و همست شاكرة باختناق
( شكرا لك يا رائف ...... على كل شيء .... )
ابتسم دون مرح أو سعادة .... بينما ضاقت عيناه وهو ينظر أمامه قائلا بهدوء
( يوما ما ستشكريني و ستعنين الشكر حقا ..... حين تدركين أنني كنت أعمل لصالحك ... )
و دون أن ينطق بكلمةٍ أخرى ... كان قد حرك السيارة و انطلق بها عائدا ... الى الواقع المرير ... بعد أن عاشا حلما منتزعا من الزمن .... بدأ بخطة هرب فاشلة ....
.................................................. .................................................. ....................
وقفت وعد بمنتصف البيت تصرخ ....و هي ترفع يديها الى شعرها
( أين يمكن أن تكون ؟!!! ........ لم أغب عنها سوى بضعة ساعات في العمل ثم عدت لأجد أنها ليست موجودة .... )
قالت صبا و هي تربت على ذراعها
( اهدئي قليلا يا وعد .... ربما خرجت كي تريح من أعصابها قليلا ....)
هزت وعد رأسها نفيا و هي تقول باصرار
( لم تفعلها من قبل و تخرج هكذا دون هدف !! ..... ثم لماذا تركت هاتفها هنا ؟! ..... خاصة و قد أخبرتها أنكِ ستأتين لمقابلتها ..... )
صمتت و هي تدور بتوتر حول نفسها ثم قالت
( إما أنها هربت .... و إما أن يكون والد كريم قد تدبر خطفها ....... )
قالت صبا بهدوء و هي تهز رأسها نفيا
( هذا خيال واسع جدا يا وعد .... لماذا يخطفها ؟! ..... بل على العكس هو يريد تجنب أي صلة بها ... )
نظرت صبا اليها بتدقيق , ثم تابعت قائلة
( ثم لماذا تهرب ؟! ...... ما الذي ترفضه تحديدا ؟! .... )
وقفت وعد مكانها تتنفس بسرعة .... و هي تنظر الى صبا بصمت , تشعر أنها أفسدت الأمور مجددا حين ضغطت على ملك بالقوة ... ربما لو حاولت اقناعها بطريقة اكثر لينا .....
قالت وعد بخفوت
( أنا لن أستطيع البقاء هنا .... و أنا لا أعلم أين هي ؟! ....... )
و فجأة برقت عيناها ثم هتفت بقوة
( ربما كانت قد ذهبت لعمتي .......تلجأ لها ....... ليس لها مكان آخر تذهب اليه ... )
أمسكت هاتفها بسرعة و هي تطلب رقم ورد مرغمة على مضض لكن لا وسيلة غيرها ....
و ما أن سمعت صوتها حتى قالت بفتور
( آآآ ورد ........ إنه أنا .... وعد ...... )
ساد صمت قصير قبل أن ترد ورد ببرود أقل حدة منه سابقا
( و أنا أقول لماذا يتراقص الهاتف فرحا ! ........ أهلا ... )
عضت وعد على شفتها السفلى بقوةٍ علها تسيطر على نفسها كي لا تشتمها و تخرج بها القديم و الجديد ...
قالت وعد بأكبر قدر تستطيعه من التهذيب
( هل ملك عندكم من فضلك ؟ .......... )
قالت ورد بنفس البرود
( و إن كانت ..... هل هناك مشكلة في ذلك ؟!! ..... )
قالت وعد بلهفة
( أتعنين أنها لديكم ؟! ..... أرجوك أخبريني فأنا لا اعرف طريقها منذ الصباح و هاتفها ليس معها .. )
ساد صمت قليل قبل أن تقول ورد بخفوت
( لا نحن لم نرها منذ أن أتيت اليكما .... أنا كنت أضايقك ليس الا ..... )
بهتت ملامح وعد و هي تجلس على الكرسي خلفها و هي تقول مصدوم
( ليست عندكم ؟!! ....... )
قالت ورد بقلق طفيف
( ربما خرجت قليلا .... أو أي شيء آخر ....... )
سمعت وعد عدة أصوات في الجانب المقابل , ثم لم تلبث أن سمعت صوتا رجوليا يخاطبها سلب أنفاسها و أوجع قلبها ... بعد أن بعث به النبض بعنف
( ماذا حدث يا وعد ؟! ...... )
حاولت الكلام و هي تفغر شفتيها ... بينما كل كيانها أصابه الحماقة و باتت كمراهقة تكلم صبيا للمرة الأولى بحياتها
فقالت أخيرا بغباء عاطفي ميؤوس منه .. و حمدت الله أنه لا يراها في تلك اللحظة
( آآه ... مرحبا سيف .... أنا آسفة لم أقصد أثارة القلق , ..... فقط أن ملك خرجت منذ عدة ساعات و تركت هاتفها هنا ... ربما كنت أبالغ في القلق ... )
كانت تثرثر بغباء لم تعتاده .. فقاطعها سيف بلهجةٍ لا تقبل الجدل
( دقائق و أكون عندك .......... )
ثم سمعت صوت اغلاق الخط بكل قلة أدب و فظاظة ... و مع ذلك كان كيانها كله يهذي
" سيف سيأتي ؟!! ..... الآن !! ..... هل حقا ستراه ؟! .... "
انتفضت وعد على صوت صبا و هي تقول بهدوء
( هل زوجك قادم ؟! ..... ربما علي المغادرة الآن ..... )
نظرت وعد اليها بعدم فهم ... ثم قالت بصوت باهت
( طليقي ........ )
اندهشت صبا و هي تنظر اليها لتجلس على الكرسي المقابل لها ... تدقق النظر بها و قد طار ثوب المحاماة بعيدا .. و حل محله غيرة زوجة مسكينة العقل و هي تفكر
" من الجيد أن أتيت أنا الى بيتها اذن .... و ليس العكس ... .... "
كانت وعد جالسة في نفس المقعد و هي تهز ساقها بجنون ...و تعض على طرف اصبعها
الى أن انتفضت حين سمعت صوت رنين جرس الباب بعد خمسة عشر دقيقة تماما ...
نظرت الى الباب بذهول و هي تتسائل إن كان قد جاء فعلا بمثل هذه السرعة !! .....
و داعبها أمل يخبرها بأنه قد أتى على جناح السرعة متحججا بملك كي يراها .......
رمشت بعينيها و هي تقفز واقفة .... ثم هرعت الى الباب , و قبل أن تفتح حانت منها نظرة الى نفسها في المرآة , فهالها مظهرها الفوضوي المشعث ..... فخصلات شعرها متناثرة بكل مكان حول وجهها
زمت شفتيها بغضب و هي تعرف بأنه فات أوان التعديل ... ففتحت الباب ببطىء ....
كان مطرق الرأس ..... بهيئته الضخمة الجميلة ....
نعم كان هو و لم يكن ينقصها سوى أن ترى وجهه ... و تنظر الى عينيه ..... أخذت نفسا مرتجفا و أصابع قدميها تتشنج و تتكور تحتها ... بينما ارتسمت فراشتين ملونتين على وجنتيها .... ثم قالت بصوت مبحوح اكثر مما تمنت
( سيف ........ )
كان يعلم أنها هي التي فتحت الباب قبل أن تهمس باسمه بتلك النبرة المتخاذلة ... و دون حتى أن يرفع عينيه إليها
قلبه أخبره أنها هي ....نبضاته تزايدت حد الوجع ....
نفس الوجع الذي يوقظه كل ليلة هامسا باسمها و جسده يلتمع عرقا ....
رفع وجهه اليها .... و أخيرا رآى عينيها الرماديتين .... بهما طريقه و كم هو طويل ....
شفتها المكتنزة العريضة كانت تعض عليها بتوتر ... ربما كان بسبب ملك ... و ربما كانت تشعر بالخزي أنها لجأت اليه ....
شعرها ازدادت كثافته ... و بات رائعا و يزيدها بريقا .... كانت تتنفس ... تحيا ... و كأنها ازدادت صحة ببعدها عنه ....كما أخبرته ورد
و أشعره ذلك بمزيج من السعادة من أجلها ... و بنفس الوقت خيبة طائشة ضربت قلبه العاصي .....
قال أخيرا بهدوءه العميق كبحرٍ في آخر سواد الليل
( كيف حالك يا وعد ؟ ........... )
ابتسمت ... و كانت ابتسامة اعتصرتها عصرا .... قبل أن تقول بخفوت مختنق
( بخير ........... و أنت ؟! ...... )
ابتسم هو الآخر ابتسامة قاسية قليلا ... متألمة ... هل تجتمع القسوة مع الألم ؟!! ... أم أن الألم من وحي خيالها المريض بحبه !! ...
قال سيف بصوتٍ مهذب بدا غريبا على أذنيها
( هل يمكنني الدخول ؟! ...... أعرف أن هذا أصبح غير مقبولا الآن نظرا للظروف .... لكن يمكنك ترك الباب مفتوحا ...... )
اتسعت عيناها بصدمة .... و فغرت شفتيها ...
" غير مقبولا !!! .... الباب مفتوحا !!! ... "
كلمات غريبة بدت مضحكة حد الهيستيريا ..... بدت كملحٍ ينثره على جرح طلاقهما المتقرح ... فنزف ألما ....
ابتلعت ريقها بصعوبة , ثم رفعت ذقنها تقول ببساطة
( منذ متى أوقفك الباب يا سيف ؟! ...... ادخل يا ابن عمتي , محاميتي بالداخل .... لا تقلق .. )
نظر اليها نظرة صامتة .... جعلتها تبتسم بداخلها ابتسامة حزينة ..
فتلك النظرة تعرفها جيدا ... كانت نظرة غضب , تليها عادة ضربة على ذراعها أو قبضة تمسك بفكها ... و أحيانا حين يشتد غضبه كان يفرغه كله بشوقٍ عبر شفتيها ...
للحظةٍ بدا و كأنهما تشاركا نفس الذكرى ... فاحمر وجهها بشدة و أطرقته و كأنها لا تزال فتاة ساذجة ...
قال سيف بصرامة
( ربما لو ابتعدتِ قليلا لتمكنت من الدخول ...... يا ابنة خالي ... )
انتفضت و هي ترفع وجهها المحمر اليه ... ثم ابتعدت قليلا كي يمر ... و حين مر يتجاوزها , لامس ذراعه صدرها ... فشعرت و كأنها على وشك السقوط انهيارا ....
بينما تلكأت خطوته لجزءٍ من الثانية ... و ظنته سيستدير اليها , الا أنه تابع طريقه ..و هي تشيعه بنظراتها
أغمضت عينيها للحظة ... تستجمع قواها ... ثم أغلقت الباب بهدوء و استدارت تدخل مطرقة الرأس
و ما ان رفعت وجهها حتى و جدته ينظر اليها بعينين كالصقر .... متربصتين ... مشتعلتين ... و غاضبتين ...
لقد أثارت كل غضبه تجاهها لفترة طويلة .... و تستحق جفاءه ..... تستحقه بجدارة .... فقد كان لها دور البطولة في قتل حبه لها .....
كان صدرها يؤلمها بشدة ... لم تظن أن رؤيته لأول مرة بعد الطلاق ستكون مؤلمة لهذا الحد ! ....
رفعت يدها الى صدرها و هي تطرق بوجهها الشارد .... لكنها انتفضت حين وجدت قبضة سمراء قوية تطبق على رسغها فارتفع وجهها بذهول و هي تراه بقربها ... يخفض يدها ... يجس نبضها بأصابعه ... وهو ينظر الى عينيها دون تعبير معين ... و مع هذا بدا و كأنه يتخلل كيانها بنظرته الحادة ...
ثم قال بخشونةٍ خافتة
( نضبك متسارع يا وعد ...... تعالي أجلسي و أهدئي .... لا تقلقي نفسك الى تلك الدرجة ... )
جذبها الى ان أجلسها لأقرب كرسي ... بينما كانت هي منساقة معه بذهول
تريد الصراخ به بجنون
" نبضي متسارع لأنك تمسك بي أيها الأحمق ....."
الا أنها كانت أكثر ضعفا من أن تنطق بكلمة و ما أن جلست حتى انحنى اليها يقبض على ذراعي كرسيها و أصبح وجهه قريبا من وجهها المرفوع اليه .... ثم قال بقوة
( ملك ستكون بخير ...... مفهوم ؟؟ .....)
ظلت تنظر لعينيه عدة لحظات قبل أن تومىء برأسها .... ثم همست بخفوت
( أتمنى هذا يا سيف ........ )
أومأ برأسه قليلا وهو ينظر الى عينيها ... ثم استقام واقفا ليبتعد عنها ... فشعرت ببردٍ شديد في حر الصيف ...
فضمت ذراعيها الى صدرها تشعر بالخسارة ....
نظرت اليه وهو يتحرك قليلا .. و يخاطب صبا ... يسألها عن بضعة أشياء تخص القضية ...
يتحرك بثقة ... رجولته تضنيها ... لطالما كان يخطف شيئا من انفاسها ..
أطرقت برأسها و هي تسند رأسها الى يدها ... و هي تسأل نفسها بخزي
" كيف يمكنها أن تفكر بزوجها السابق .. بينما أختها الوحيدة لا تعلم لها مكان ؟! ... "
قال سيف فجأة بخشونة
( وعد ...... وعد ........ ارفعي رأسك ... أين هو دوائك ؟! ... )
تنهدت بألم , لكنها لم ترفع رأسها .... بل قالت بخفوت
( لا أحتاج اليه .......... )
قال سيف بصلابة ..
( بلى تحتاجين اليه ...... اذهبي و أحضريه ..... )
قالت بعناد من بين أسنانها دون أن ترفع وجهها
( لا أحتاج يا سيف أرجوك ..... .... أصمت .... )
زم شفتيه بغضب وهو ينظر اليها .... بينما القلق بداخله لا يبارحه ليل نهار ....
يتخيل أنفاسها تضيق كل ليلة .... بينما هو بعيد عنها , غير قادر على مساعدتها .....
زفر بقوةٍ وهو يراقبها ..... ثم قال أخيرا ,
( أنا سأذهب للبحث عنها ........... )
رفعت وعد وجهها اليه و هي تقول بقلق
( الى أين ستذهب ؟! ..... هل ستجوب الطرقات بحثا عنها ؟! .... هذا غير منطقي .... )
قالت صبا بخفوت
( ربما نحن نبالغ فقط بقلقنا .....إنها مجرد بضعة ساعات ...... و هي على ما يبدو كانت في حاجةٍ لأن تختلي بنفسها قليلا ....... )
كانت ملامح سيف غير مرتاحة .... فمنذ أن رأى ذلك الحقير زوجها وهو غير مطمئن .....
فقال بهدوء
(و مع ذلك لن أبقى هنا منتظرا .... سأذهب لعملها لقديم ... غرفتها .... )
و لو اقتضى الأمر سيهجم على كريم القاضي و يقتلع حلقه إن كان قد مسها بسوء ...
اتجه الى الباب .. بينما جرت وعد خلفه و هي تقول بلهفة
( سآتي معك اذن .......... )
توقف مكانه لحظة ....ثم استدار ينظر اليها قائلا بهدوء
( بل ابقي هنا ........ )
كانت لهجته واضحة بما لا يقبل الشك أو الجدل .... أنه يجد وجودها معه في السيارة الضيقة أمرا بغيضا على نفسه ....
ثم قال بصوتٍ عميق وهو ينظر الى عينيها
( سأتصل بكِ لو علمت شيئا ....... )
ارتجفت شفتيها قليلا ... الا أنه كان قد استدار مبتعدا عنها و أسرع ليفتح الباب ...
لكنه وقف مكانه وهو يرى ملك واقفة أمام الباب مستعدة لأن تضغط الجرس ..
فقال بغضب
( أين كنتِ بالله عليك !! .... كادت أختك أن تموت قليلا عليكِ ..... )
اندفعت وعد من خلفه و هي تهتف بقوة و غضب
( ملك .... أين كنتِ ؟ ..... أقسم بالله أنني سوف .... )
حاولت تجاوز سيف بعنف ... الا أن ملك تراجعت خطوة الى رائف خلفها ... بينما اعتقل سيف خصرها وهو يقول
( اهدئي ...... و كفي عن تعنيفك هذا , لن يفلح بشيء .... )
نزع يديه عن خصرها فجأة ... و كأن كهرباء سرت بجسده .... فالتقت أعينهما للحظة , ... لكن وعد ابتلعت ريقها و هي تنظر الى ملك ... و رائف من خلفها يحمل حقيبة ملابسها .. ففهمت ما حدث بذهول و هتفت
( هل كنتِ توين الهرب حقا ؟!! ..... حقا ؟!!!! .... )
رفعت يديها الى شعرها تشعثه أكثر و هي تصرخ
(بالله عليكِ !! ..... كم تظنين عمرك ؟! .... نحن نقتل أنفسنا بحثا عن حل لكِ و أنت تهربين تاركة المصائب لنا ؟! ؟......... )
قال سيف يتأفف بغضب ...
( كفى يا وعد .......... انهما لا يزالان عند الباب .... )
ثم استدار يقول لملك برفق
( ادخلي أنتِ يا ملك و لا تخشين شيئا ......... )
نظرت ملك الى وعد بتردد .... بينما كانت وعد تقف بجنون و هي تلهث قليلا مكتفة ذراعيها ..... فدخلت بحذر و هي تتوقع ضربة مفاجئة من وعد بأية لحظة ....
نظر سيف الى رائف الذي كان واقفا ينظر الى ملك بصمت ...
فخرج من الشقة و أغلق الباب خلفه و استند اليه مكتفا ذراعيه يقول بصوتٍ حاسم
( الآن سنحظى ببضعة دقائق وحدنا أنا و أنت ..... دون مقدمات رجاءا... هلا أخبرتني ماذا تريد من ملك تحديدا ؟! .... و لماذا أراك حولها دائما في الآونة الأخيرة ؟! ..... )
نظر رائف اليه بصمت ... بينما تابع سيف قائلا بهدوء
( و كونك خال التعيس الذي تزوجته فهذا يجعل منك شخصا خطرا بالنسبة لنا .... لكن بما أنني انسان طيب حسن النية ... فأنا مستعد لسماع وجهة نظرك ..... )
ثم قال بصوتٍ قاطع قوي
( ماذا تريد من ملك ؟! ...... هذا إن كنت تريد منها شيئا ...... )
رفع رائف وجهه الى سيف بصمت ثم أخذ نفسا قويا ملأ صدره ... قبل أن يقول بنفس الحزم
( نعم أريد ........ )
بعد فترة طويلة .... فتحت وعد الباب لسيف ورائف و هي تنظر اليهما بشك .. ثم قالت بفظاظة
( بماذا كنتما تتكلمان ؟! ........ )
رفع سيف عينيه للسماء ثم قال بغيظ
( وعد هلا دخلنا من فضلك ؟! .......... )
ظلت تنظر اليهما قليلا بعدم رضا ... فظن سيف أنها ستغلق الباب , لكنها ابتعدت أخيرا سامحة لهما بالدخول ...
فدخلا ليجدا ملك جالسة على حافة الأريكة ... مطرقة برأسها و مشبكة اصابعها كتلميذة مذنبة ...
بينما صبا تقف أمامها تقول بهدوء
( أنا عن نفسي لا أميل ... بل لا اقبل بترك ظلم أو عمل غير مشروع يمر من تحت يدي دون أن أفضحه .... و هذا الولد ارتكب أكثر من جريمة .... و الجريمة الأكبر بدأت من والده .. أو ما يسمى والده.... لذا أبسط حقوقك ان تفضحينهما ... و تنالين حقك في طلاق رسمي بالقانون علنا ...... )
رفعت ملك عينيها الى رائف الذي كان ينظر اليها بصمت وهو يضع كفيه بجيبي بنطاله مستسلما .... لكنها كانت تعلم ما يشعر به في تلك اللحظة من الخوف و القلق على سمعة أخته ..... و ضررها ....
بينما قال صبا متابعة تتنهد
( الا ان الأمر في النهاية يخصك انتِ ..... لذا يمكنني الإمتثال لما تريدينه .... فلو أردتِ الحل الودي كي لا تتشوه سمعتك ... فيمكننا الضغط عليهم بما نملكه حتى يتم الزواج رسميا ...... )
صمتت قليلا ... ثم همست بصوت بائس رافض
( و تسلمين نفسك اليه من جديد ........... )
كانت عينا ملك تتعلقان بعيني رائف .... و مع الإقتراح الأخير ظنت أنها سترى الراحة بعينيه ... الا أنها على العكس ... رأت ألما ... صراعا .... و عذابا ...
احدى قبضتيه خرجت من جيبه و انقبضت الى جانبه بشدة الى أن ابيضت مفاصل أصابعه ....
انتفضت حين قالت صبا بخفوت شديد
( انتظر سماع قرارك يا ملك ......... )
نظرت ملك الى وعد التي كانت تبادلها النظر بخوف و قلق .... تخشى أن تضيع مستقبلها للأبد ....
أخفضت نظرها الى حجرها فانتبهت الى أن أصابعها كانت ترتجف بشدة ..... و شفتيها كذلك .....
فأغمضت عينيها و شهقة بكاء تفلت منها بذعر ... فهمست بإختناق
( ياللهي ! ............ )
حينها لم يستطع رائف البقاء صامتا أكثر ... فاقترب منها خطوة وهو يقول بصوت خافت
( ملك ...........)
الا أن سيف امسك بذراعه يمنعه , قبل ان يقول بصوت هادىء الى صبا
( هلا تكلمت معها قليلا قبل أن تتخذ قرارها ؟؟ ......)
أومأت صبا برأسها و هي تقول
( طبعا ......... )
قال سيف بهدوء و رقة وهو يجذب يدها لتقف
( تعالي معي يا ملك .......)
تبعته ملك و هي تبكي بخفوت .... فتبعتهما وعد الا أنه استدار اليها ليقول بجفاء
( وحدنا من فضلك .........)
توقفت وعد و هي تنظر اليه و هي لا تصدق أنه يكلمها بمثل هذا الجفاء .... فوقفت مكانها تنظر اليهما بصمت وهو يدخل مع ملك أقرب غرفة قبل أ يغلق الباب بهدوء
التفت سيف الى ملك قائلا بهدوء
( هل يمكنك التوقف عن البكاء الآن رجاءا ....... )
لكن ملك كانت تضغط عينيها بشدة و هي تهمس باختناق
( لقد افسدت حياة الكثيرين بفعلتي ..... و بكل خيار من الإثنين سيكون هناك المزيد من الضحايا ... )
ارتفع حاجبي سيف وهو يقول ضاحكا قليلا بشفقة
( ضحايا مرة واحدة !!! ..... انتِ مجرمة دولية اذن .... )
ضحكت ملك و هي تبكي ... و قد كانت تلك هي عادتها دائما , تميل للضحك على أي مزحة أثناء بكائها
فقال سيف مبتسما ( حسنا بما أنك ضحكت , فهناك فرصة للكلام بهدوء .... هلا جلستِ قليلا )
جلست ملك على مقعد قريب .... فاقترب منها سيف ليجلس على ذراع المقعد المقابل وهو يراقبها بدقة , قبل أن يقول بهدوء
( أيمكنك محادثتي بصراحة ؟! .... أم أنكِ تجدينني غريبا عنكِ ؟ .... )
رفعت ملك وجهها الأحمر و عينيها الدامعتين قبل أن تقول بخفوت
( طبعا لا أعتبرك كذلك ......... )
قال سيف بهدوء مرتاحا
( جيد ..... اذن عندي لكِ سؤال هام , ... ألازلتِ تحبين كريم القاضي ؟! ..... )
انعقد حاجباها ... و لم يفت سيف تشنج جسدها التلقائي ... قبل أن تقول بصوتٍ مشتد ... حاد النبرة
( حبه كان كسرطان يسري بجسدي ....... و شفيت منه بمعجزة ....معجزة حققها بكل فعلةٍ ارتكبها اكثر دناءة من سابقتها .... هو المريض لا أنا ....أنا فقط أحمل له الشفقة .... )
أومأ سيف برأسه وهو يقول
( وهو يستحقها ...... هو فعلا مختل .... و أنا لن أتركك له ..... )
سكنت دموعها قليلا و هي تقول بأمل
( حقا يا سيف ؟! ........ )
أومأ برأسه قائلا بهدوء
( حقا يا ملك ..... و لو كان الرجل الأخير على سطح هذا الكوكب ..... )
ثم قال بهدوء أكثر
( لكن مصلحتك تجبرني أن اسألك .... ماذا لو أردتِ الزواج فيم بعد !! .... ماذا لو احببت شابا آخر ... في يومٍ ما ..... الا يستحق الامر أن تتحملي زواجك من كريم رسميا كي تحصلي على طلاق مناسب ؟! .... )
هزت ملك رأسها بيأس و هي تهتف
( هذا نفس كلام رائف..... أنا لن أتزوج أبدا .... لقد رأيت من الفظائع ما جعلني أنفر من الزواج لآخر العمر ... )
ابتسم سيف وهو يقول مدققا بغموض
( نعم هذا كلام رائف ......... )
ظل ينظر اليها طويلا ....
لقد طلبها رائف للزواج للتو .......
و لم يدهشه ذلك كثيرا
و لو كان سيف قد لمح في كلامها الرغبة في الإرتباط برائف نفسه , لانتهت المشكلة ...
الا أن رائف كان من الشهامة بحيث كان يريد أن تكون جاهزة في حال لم ترضى به .....
فتكون فتاة لا يعيبها شيء ...... و يفخر بها كل من سيطلب زواجها ....
لقد أخبره رائف بنفسه ... أنه يرفض أن يكون خيارها الوحيد لأنها لا تملك غيره ....
و ترجاه الا يخبرها بطلبه الآن .... فهي ستقبل .... وهو متأكد أنها ستقبل , فمشاعرها مرتبكة و غير ثابتة .. خاصة و هي تراه المنقذ الوحيد .....
قال سيف أخيرا بهدوء
( و بما أنه نفس كلام رائف .... فأنا أريد أن أخبرك .. لا أنا و لا رائف سنسمح أن يمسك هذا الحيوان مجددا .... منذ اللحظة الأولى التي رأيته بها عرفت أنه غير طبيعي ..... )
قالت ملك بدهشة
( هل قابلته ؟! ........... )
أومأ سيف برأسه وهو يقول غاضبا
( و منعت نفسي من ضربه بمعجزة ......... )
قالت ملك بخفوت
( لكنه لمس قلبك .... و عطفك ... اليس كذلك ؟! ..... )
عقد سيف حاجبيه وهو يميل تجاهها .. مستندا الى ظهر مقعدها , ثم قال باهتمام
( هل تشعرين بالشفقة عليه ؟! ..... بعد كل ما فعله معكِ ؟! ..... ألا تتمنين أذيته ؟! ... )
شردت عينا ملك قليلا و هي تكتف ذراعيها حول جسدها المرتجف ... ثم قالت خفوت
( بعد أن شارك باجهاض طفلي .... ظننت أنني أتمنى له الموت .... لكن بمرور الوقت .... أصبحت مشاعري تجاهه متبلدة ... تحمل جزءا من العطف القديم الذي كنت أسانده به دائما ..... لكن وهم الحب انتهى ... )
ابتسم سيف وهو يقول بهدوء
( جيد .... انتِ اذن تخرجين من الصدمة بسرعة ..... و هذا رائع , مما يعني أنكِ ترفضين اقتراح رفع القضية و تقديم الاوراق التي ستزج به في السجن ..... )
عادت ملك لتنظر اليه بصدمة ....
نعم .... هي بالفعل لن تقبل بايذاء أخت رائف .... و لا تريد أن تؤذي كريم رغم كل ما فعله .....
هذا معناه أن لا حل أمامها سوى القبول بالزواج .....
فقالت بصوت ٍ متداعي غير ثابت
( الا يمكننا فقط ترك الأمور كما هي ؟ ......... )
هز سيف رأسه بحزم وهو يقول بصرامة
( هذا حل غير قابل للطرح .......... فلا تحاولي ..... )
شردت عينا ملك و هي تنظر الى الباب المغلق .... تتمنى لو تنادي رائف ليكون بجوارها في تلك اللحظة ... كما هو دائما .....
.................................................. .................................................. ......................
كانت وعد تدور جيئة و ذهابا .... بينما تنظر الى رائف من حينٍ لآخر بشك و ريبة و غضب .....
وهو كان يتنهد في موقفٍ لا يحسد عليه ....
ثم قالت فجأة بصوت صلب
( أنا غير مرتاحة لك ........... )
أجفل رائف من لهجتها الشديدة .... وهو ينظر اليها بصدمة ... ثم أخفض رأسه , يناقش نفسه في الرحيل من هنا ..
الا أن صوت الباب وهو يفتح جعله يرفع رأسه لينظر الى ملك التى خرجت مطرقة الوجه و خلفها سيف ...
فنهض من مكانه ببطىء شديد وهو يشعر بشيء يقبض صدره ...
قبل أن تقول ملك دون أن ترفع وجهها اليه كي يرى عينيها
( لقد اتخذت قراري ..... سأقبل الزواج من كريم علنا ..لو استطعتم اجبارهم على ذلك ....)
أخفضت صبا رأسها و هي تتنهد بيأس ....
بينما أظلمت عينا رائف بشدة و قد تحول الإنقباض بصدره الى وحشٍ يفترسه ...... فتأوه بداخله بشدة .. دون أن يسمح لتأوهه أن يخرج للحياة ....
.................................................. .................................................. .....................
جلس أكرم القاضي بخيلاء متراجعا في مقعده خلف مكتبه ... ينظر للجمع أمامه بسخرية واضحة .. لم تمنح بعض شحوب التوتر من شد خطوط وجهه
ثم قال باستهزاء
( أتظنون أن ببعض من الخيالات .... تستطيعون إجبار ابني على الزواج من ابنتكم الساقطة ؟! .... )
توتر جسد سيف وهو يتقدم غير قادرا على السيطرة على أعصابه .. الا أن رائف أمسك بذراعه بشدة و هو يمنعه من التهور ... قبل أن يتولى هو دفة الحوار قائلا
( الساقط هو الذي يرتكب جريمة تلي أخرى .... ثم يختبيء خلف والده ... و الذي هو بدوره يختبىء خلف كذبة ألفها و صدقها .... )
تحولت ملامح أكرم القاضي الى صفحة رمادية .... بينما عيناه الحمراوان كانتا تحملان من الشر ما يجعله يبدو كشيطانٍ أعمى ....
قال سيف بصوتٍ خطير خافت
( أكبر خطأ ترتكبه .... هو أن تعبث مع أحد أفراد أسرة سيف الدين فؤاد رضوان ..... أخطأت و أخطأ ابنك ..... و الآن ستخرون صاغرين لتصحيح فعلتكم ..... )
ابتسم أكرم بسخريته القميئة ..... ثم قال بهدوء جليدي
( و كيف يمكنكم اجباري على الرضوخ .... أود لو تمتعوني بمسرحيتكم ..... )
تطوع المحامي المبعوث من مكتب صبا .... وهو يخرج من حافظته ملفا رفيعا ... وضعه على سطح المكتب امام أكرم القاضي ثم قال بهدوء
( دون مقدمات ...... سنضطر لإثبات كذب ادعائكم بخصوص قوى موكلتنا العقلية .... و هذا التحليل سيكون البداية للتصديق على ادعائاتها ..... تحليل يثبت أن كريم القاضي ليس ابنك .... بل في الواقع هي جينات تناسب صبي آخر يسمى شادي عبد الله ... تم شرائه منذ سنوات .... )
تجمدت عينا أكرم حتى أصبحتا كحجري رخام ... يرقد تحت سطحهما جذوة مشتعلة ....
بينما قال بعد فترة بثبات يثير الإعجاب ......
( إنها مجرد خزعبلات ..... و أي محكمة سترفض تلك الورقة الساذجة ..... )
ابتسم المحامي وهو يقول بثقة
( بالطبع ستطعن بصحة هذا الإثبات ...... لذا سنطالب نحن المحكمة بارغامك على نفس الإجراء , فالقضية ليست هينة و تعتبر جريمة كبرى ...... )
هنا بدأت أصابع أكرم تربت بإيقاع منتظم على ذراع مقعده ..... وهو يراقب ملامحهم بصمت , بينما كان رائف ينظر اليه بوحشية صامتة ....
كانت حربا صامتة بين عيني أكرم ... و عيني رائف
فقال أكرم أخيرا
( و أنت تقف بصف زمرة من المجانين المنتفعين ... لأن فتاة في عمر أبنائك سلبت عقلك و جعلتك تلهث خلفها ..... لذا أخبرني ما الذي يمنعني من رمي أختك في الشارع في تلك اللحظة بالذات ؟! ....)
ضاقت عينا رائف بشدة وهو يتنفس بهياجٍ ... محاولا السيطرة على الغضب الذي يقصد أكرم تفجيره علنا أمام الأغراب ....
لكن حركة بجانبه جعلته ينتبه الى ملف آخر وضع بجوار الملف الأول على سطح المكتب ...
حينها رفع عينيه بذهول ليجد ميساء تقف بجواره بعد أن دخلت المكتب بصمت ....
ثم قالت بهدوء
( هذا ما سيمنعك .... أو لن يمنعك ..... لم أعد أهتم في الواقع ..... حملته معي منذ عامين كاملين ... و أنا متأكدة أنني سأحتاجه يوما .... لقد سبقت الجميع يا أكرم في القيام بهذا التحليل ... و سأسبق الجميع في تقديمه ... و حينها ستكون القضية منتهية .....)
عندها ظهرت شبه ابتسامة على شفتي رائف وهو ينظر اليها ... ثم اخذت تتسع و تتسع الى أن شملت وجهه ...
ثم وضع الملف الثالث .,.... وهو يقول ببساطة
( و هذا مني .... )
كان يشعر بلذة الإنتصار وهو يرى أكرم ينال مما سقاه لأخته على مدى سنوات طويلة .... لذا لم يقاوم نشوى وضع ملفه الضريبي ..... لمجرد الشعور باللحظة ليس الا ....
ضرب أكرم بقبضته على سطح المكتب بعنف و جنون و هو ينهض من مكانه صارخا
( اذن هي مكيدة ...... مكيدة رخيصة حقيرة ..... أصغر محامي لدي يستطيع أن .... )
رفع سيف يده وهو يهدر قائلا ....
( لا نية عندي لتضييع المزيد من وقتي معك لسماع تهديداتك القذرة .... لك حرية الإختيار الآن , و كل ما نريده كي نغلق هذه القصة الحقيرة , هو زواج علني ... لا أكثر .... و بعدها يتم الطلاق بهدوء ....ردك الأخير سيكون تحديد موعد الزفاف .... )
خرج سيف و المحامي من المكتب بينما صرخ أكرم بميساء
( أنتِ أيتها الحقيرة التي تحملت سكرك و عتهك و عقمك لسنواتٍ طويلة .. بينما أنتِ تخونينني أنا في النهاية ... ! ... )
كان رائف قد استدار ليغادر وهو ممسكا بكف ميساء ... الا أن عبارة أكرم الأخيرة جعلته يستدير على عقبيه ليلكمه بكل قوته لكمة اشتاق اليها منذ وقتٍ طويل ... لكمة أودعها كل غضبه و احتقاره ...
لكمة جعلته يسقط جالسا على كرسيه بعنف وهو ينظر مذهولا اليهما ... بينما كانت ميساء تنظر اليه بنظراتٍ متبلدة .... جامدة .... ثم قالت أخيرا بفتور
( تتحدث عن الخيانة .... و الخيانة تجري بدمك و دم الولد الذي لم اعتبره ابنا لي أبدا ... وهو لم يعتبرني أما قط .... و لك أن تفهم من هذا ما تشاء .... عله يحرق كبدك لو كنت تمتلك ذرة رجولة ... )
ضاقت عينا اكرم وهو يحاول فهم ما تشير اليه ... الا ان رائف اندفع خارجا وهو يجر ميساء خلفه ... شاعرا بأنه ربح شيئا غاليا ... و يكاد يخسر آخر بنفس الغلو ....
.................................................. .................................................. ......................
بعد أسبوعين .....
قبل ليلة الزفاف كانت وعد مستلقية بسريرها في الظلام تشعر بضيق في تنفسها ...
غدا حفل زفاف ملك ....
كانت تعيد العبارة منذ الصباح بعدم تصديق للسرعة التي جرت بها الأمور
و كان من المفترض أن تكون مرتاحة الآن .... الا أن العكس هو الصحيح , فملك بدت خلال الاسبوعين الماضيين كشبحٍ يتضائل حجمه كل يومٍ عن اليوم الذي يسبقه ....
لم تبكي مجددا ... و لم تجادل مطلقا ... بل كانت تبدو كمن استسلمت لمصيرها بصمت ....
روحها هائمة من حولها .... تبتسم كلما التقت أعينهما .... لكنها ابتسامة بلا حياة ... بلا فرحة عروس
همست وعد لنفسها بغضب
" أي فرحة ... و أي عروس يا وعد !! .... هل تتخيلين لمجرد أن تشعرين بالسعادة لها , حتى و لو بالكذب "
ارجعت رأسها للخلف و هي تقبض على جبهتها مغمضة العينين .....
لكنها انتفضت حين سمعت صوت رنين هاتفها .... فاتسعت عينيها في الظلام و هي تهجم عليه للتأكد من الآسم
نعم انه هو ..... انه سيف ... فقد خصصته بلحنٍ يميزه وحده .....
وضعت يدها على قلبها المشتاق قبل أن ترد عليه بصوتٍ مجهد
( سيف ............ )
أظلمت عيناه قليلا وهو يتسائل بألم ... متى ستتوقف عن مناداة اسمه بتلك الطريقة الهامسة التي لم يسمعها من غيرها .... حتى في أشد قسوتها ... كان اسمه يخرج من شفتيها همسا متنهدا ...
رد سيف بصوتٍ أجش
( هل أيقظتك ؟! ............ )
رمشت بعينيها و هي تقول بخفوت و تردد
( لا ..... لم يغمض لي جفن ....كيف أستطيع ؟! .... )
سكت قليلا .. ثم قال بصوتٍ أجش خافت
( هل هناك ما يؤلمك ؟! ..........)
هتفت بداخلها بجنون .. " نعم .... فراقك "
الا أنها هتفت بصوتٍ خافت حاد
( هلا توقفت عن اشعاري بالمرض أرجوك !! ...... لا أحب هذا السؤال ...إنه .... يخيفني ...)
سمعت صوت نفسه الخشن .... قبل أن يقول بصوتٍ أجش
( موعد كشفك الدوري بعد يومين ....... هل تذكرينه ؟؟ ......)
أغمضت عينيها و هي تهز رأسها بيأس قبل أن تقول بصوتٍ جاف
( لن أذهب ........ أنا بخير ........)
قال سيف بخشونة
( اذن سأقلك بنفسي ..... و لو رغم عنكِ .....)
فتحت وعد عينيها و هي تنظر الى السقف القاتم بعينين مظلمتين قبل أن تقول بخفوت باهت
( بأي صفة ؟!! ......... آآآه نسيت , ابن عمتي .......)
ساد صمت قليل متوتر ... قبل أن يقول بصوتٍ غريب
( هل تلومينني على الطلاق يا وعد ؟!! ..........)
فغرت شفتيها بنفسٍ مرتجف و هي تسمع سؤاله القاطع .....
فرفعت عينيها لأعلى ترمش بهما قليلا كي تمنع دموعها ... ثم قالت مبتسمة باختناق
( كيف ألومك على ما طلبته أنا ؟! .......)
ضحك ضحكة قصيرة ... أقسمت أنها ضحكة استياء خشنة قبل أن يقول بخفوت
( هذا ما ظننته ..... الا أنك تعطيني بعض الإشارات أشعر بعدم القدرة على قرائتها...)
شعرت بالألم في صدرها يتزايد .... فقالت بعد فترة طويلة
( و ماذا عنك ؟! ....... هل أنت نادم على تسرعك في اتخاذ القرار ؟! ...... )
قال سيف دون أي فترة صمت
( تسرع ؟! ...... لقد نفذت لدي كل الطرق يا وعد ... و كان آخرها أن خطفتك حبيبتي ... )
اتسعت عيناها بذهول و فغرت شفتيها بصدمة ....
هل نطق بكلمة حبيبتي فعلا !! .... يبدو أنه أيضا أدرك هفوته , فصمت بعدها تماما ... حينها لم تستطع أن تمنع ابتسامة تسللت الى شفتيها و هي تغمض عينيها ...
قال سيف بصوت خافت خشن بعد فترة
( وعد ......... سأكون غدا متواجدا بالزفاف ... ربما يضايقك هذا , لكن كان هذا ضروريا ..... )
بهتت ابتسامتها الحالمة و تجمدت ملامحها و هي تقول بخفوت
( لماذا يضايقني يا سيف ؟! ...... أنت كل عائلتنا الآن ... و أنا لم أشكرك بعد لما فعلته , فلولا اسم .... )
صمتت لحظة تتنهد و هي تهمس
( لولا اسم " سيف الدين فؤاد رضوان " ... لما كان الأمر بدا بهذه القوة في مواجهتهم ... لقد ظنوا أن لا عائلة لها ..... )
ابتسم بخشونة ... ها هي تصمت لتتنهد هامسة باسمه ... و كأنها تلميذة مراهقة
دائما كان يخدعه همسها باسمه ... ثم تقذفه بعدها حجرا و قوارير زجاجية طائشة من لسانها السليط ....
قالت وعد أخيرا برقة
( سيف ..... هل تتصل بي في هذا الوقت , لمجرد طلب الإذن في حضور حفل الزفاف ؟! ...... )
عقد حاجبيه وهو يستلقي في سريره ... و ساد صمت بينهما , قبل أن يقول بفتور خافت وهو يضع ذراعه تحت رأسه
( لقد وصلت البيت للتو ...... لذا أعتذر عن الإتصال المتأخر ..... )
عقدت وعد حاجبيها هي الاخرى و هي تستلقي على جانبها لتقول بخفوت
( وصلت الآن ؟! ........ لماذا ؟.... أين كنت حتى هذا الوقت ؟! ..... )
ابتسم سيف ابتسامة باهتة وهو يقول
( هل هذا تحقيق ؟! ........ )
عبست وعد بشدة و انتبهت الى أصابعها التي تلوي طرف الوسادة بعصبية ... فقالت بتوتر
( و لماذا أحقق معك ..... أنت أصبحت حرا بحياتك .... فلتفعل ما تشاء , لكن لا تحاول اقناعي بأنك كنت في العمل حتى هذا الوقت .....)
قال سيف بهدوء
( لن أحاول اقناعك بذلك ..... لأنني لم أكن في العمل ........ كنت أتمتع ببعض مزايا كوني أصبحت رجلا عازبا من جديد .....)
كانت عيناها الرماديتان واسعتان في الظلام ..... كعيني قطة سوداء بعينين فاتحتين .... بينما ملامحها لا تحمل أي تعبير و هي تهمس
( حقا ! ............. )
ابتلعت ريقها بصعوبة و اختناق .... لكنها رفعت وجهها و هي تقول بصلابة خافتة
( سعيدة لأجلك ....... هنيئا لك الإنحراف المتأخر ..... لكن لا شيء يجبرني أن اتلقى اتصالك في مثل هذا الوقت لمجرد أنك كنت تعبث خارج البيت .... أراك غدا .... تصبح على خير ... )
ثم أغلقت الخط و ألقت هاتفها بعيدا .... بينما ابتسم سيف في الظلام وهو يرسل اليها رسالة ..
و ما أن صدح رنينها .... أوشكت وعد أن تتجاهلها .... لكنها لم تستطع المقاومة فأمسكت الهاتف تقرأها
" سأمر عليكما غدا في السادسة كي أقلكما الى القاعة ....... و أنتِ من أهل الخير "
زفرت وعد بقوةٍ و هي ترمي الهاتف بعيدا .. لتدس رأسها تحت الوسادة علها تنال بعض النوم .لكن عبثا !!...
.................................................. .................................................. ......................
بالغرفة المخصصة للعروس ....
كانت ملك تقف أمام مرآة كبيرة... ترتدي فستان زفاف ضخم ... مرصع بالماسات و الخيوط الفضية .....
شعرها الطويل مجموعا بضفيرة التفت على رأسها كتاجٍ ذهبي .... تحت خمار غطى وجهها ...
و كانت ممتنة لهذا الخمار أن غطى عينيها , فلم تكن قادرة على مواجهة أي أحد بدون الخمار ....
لقد تم عقد قرانها منذ ساعة .... و هي جالسة هنا في هذه الغرفة بعد أن رفضت الخروج لمشاهدة ذلك العقد المؤلم ... و الذي يسبق زفاف غاب عنه كل من يمكنها دعوتهم كما طلبت
فهذا لم يكن زفافها .... و لن يكون .....
على الرغم من الحفل الضخم بفظاعة .... الا أن وعد و سيف فقط هما من حضرا معها ....
و على الرغم من ذلك شعرت و كأن الجميع خارج هذه الغرفة يعلم قصتها ... ينتظر أن يحاكمها ....
وقفت وعد خلفها تقول بخفوت و هي ترتب خمارها خلف رأسها
( هيا يا ملك ..... سنتأخر .... )
رفعت ملك وجهها و هي تأخذ نفسا مرتجفا ... قبل أن تومىء برأسها دون كلام ...
فقالت وعد بحزن
( ملك ..... هل أنتِ ناقمة علي ؟!! ........ )
استدارت ملك الى وعد ببطىء ... و صوت حفيف فستانها يدور معها .. ثم همست بخفوت
( و لماذا أكون ناقمة عليك يا وعد ؟! ........ )
قالت و عد بصوتٍ يائس
(لأنني أجبرتك على زواجٍ ترفضينه ...... )
ابتسمت ملك بحزن و هي تقول
( لم تجبريني ....... لقد كان قراري , حفاظا على أناسٍ لهم مكانة لدي .... )
عقدت وعد حاجبيها قليلا ... و هي تقول بخفوت
( حقا يا ملك ؟!! ........)
ابتسمت ملك من تحت خمارها تقول بصوتٍ هادىء
( حقا يا وعد ............. )
سمعا صوت طرقة على الباب ... قبل أن يسمعا صوت منسق الحفل وهو ينبههما الى ضرورة نزول العروس
تشنجت ملك قليلا ... و نظرت الى وعد بخوف , فابتسمت وعد لها و هي تقول
( أتتذكرين ليلة زفافي ..... حين أوشكت على الهرب لكن منعتمانتي أنتِ و كرمة ببراعة ..... )
ابتسمت ملك بارتجاف و هي تقول بأسى
( لكن كان هذا سيف ........ شتان بينهما ..... )
انحنت ابتسامة وعد و هي تهمس
( نعم ..... كان هذا سيف , شتان بينهما ........ )
تنهدت بقوة و هي تقول
( كوني قوية يا ملك كي يمر هذا الزفاف .... و بعدها سنخلصك منه ..... أعدك بذلك .. وسيف وعدك بهذا .... لن نجبرك على اي شيء مجددا ..... )
أومأت ملك برأسها و هي ترتجف رغما عنها .... فقط كل اهتمامها ان تمر تلك الليلة .....
فهي تعرف شادي جيدا .... و باتت تعرف أنه يصبح كالمجنون حين تتحكم به أهوائه .....
كل ما تعرفه أن سيف وعدها بأنها الليلة ستيبت آمنة بعيدا عنه .... لكنها تشك في أن يسمح شادي بذلك ...
تحركت ببطىء في اتجاه الباب الذي فتحته لها وعد .....
و ما أن خرجت حتى تسمرت مكانها و هي ترى رائف واقفا في مواجهتها !! ......
يقف مطرق الرأس .... احدى يديه في جيب بنطال حلة سوداء بالغة الأناقة ....
رفعت ملك وجهها تنظر اليه بانبهار على الرغم من أنها تراجعت للخلف خطوة .. تتمنى لو هربت من عينيه و اغلقت الباب... ما أن رفع وجهه اليها ....
كان شديد الوسامة لدرجة خطفت أنفاسها ....و بعضا من شعراته البيضاء الفضية تتألق تحت الثريا فوقهما ...
لم تره يوما بمثل هذه الوسامة و الجاذبية !!.... و كأنه تأنق خصيصا من أجلها هي ...
بينما كان هو الآخر ينظر اليها مسحورا بجمالها , الا أنه كان سحرا قاتما .... يائسا .... متألما ..
فهمس متأوها باسمها رغم عنه بصوتٍ أجش
( ملك ........ ملك يا جميلة ....... )
ارتجفت شفتيها غير قادرة على النطق ....و اتسعت عيناها تتأمله غير قادرة على ابعاد عينيها عنه ...
بينما قال منسق الحفل
( ستتأبطين ذراع وليّك نزولا على السلم الى أن يوصلك الى عريسك ..... )
رفعت ملك عينيها المذهولتين منتفضة الى رائف و هي تهز رأسها نفيا قليلا بطريقة غير ملحوظة ... الا أنه قال بخفوت وهو ينظر الى عينيها
( طلبت من سيف أن أحل محله ..... لن أتركك للحظة .....)
كانت ملك تنظر اليه فاغرة شفتيها الحمراوين .... تود لو تغمض عينيها و تفتحهما لتجد أن تلك الليلة ما هي الا كابوس ....
فهمست اختناق
( الا أنت ...... الا أنت ........ )
رغم انخفاض صوتها الا أنه سمعها بوضوح .... و كأن العالم ليس به سواهما , فاقترب منها خطوة وهو يقول بصوتٍ رجولي قاطع رغم خفوته ... وهو يحدق بعينيها من تحت خمارها
( لا أحد غيري ....... )
ثم مد ذراعه لها منتظرا .... فظلت تنظر اليه طويلا , قبل أن ترفع يدا مرتجفة .. مست بها ذراعه القوي تتعلق به كطوق نجاة ....
فشعر و كأنه يحمل حمامة بيضاء على ساعده ... و ليس صقرا .... حمامة تتشبث بذراعه بمخالب رقيقة .. على الرغم من رقتها الا أن تأثيرها انساب عبر طبقات حلته و قميصه و أرسلة رجفة عبر أوصاله ...
فجذبها معه وصولا الى أعلى السلم ...... حينها تسطلت عليهما الأضواء و بعض الشهقات من مدى جمالهما معا .... فتنهد رائف وهو يشعر بارتجافها الذي يزيد من الوحش الناهش في أعماقه ... بأصعب لحظة ممكن أن يمر بها ...
و صدحت الموسيقى عالية ... بينما اصطدمت عيناها بعيني كريم الذي ينتظرها أسفل السلم ...
كانت عيناه كعيني ظافر منتصر ... و ليس شخص أرغم على الزواج ...
عينان مفترستان ... تأكلانها حية .... ذرة ذرة ... و بريق مشتعل يضيئهما لدرجة تثير الذعر ...
لم تره و سيما أبدا .... على الرغم من أنها واثقة أنه اثار اعجاب كل أنثى في المكان .. بعينيه الملونتين الجائعتين و بريقهما اللاهث ... و شعره الفاتح اللامع و الذي طال قليلا .. فبات يشبه نفس الصبي الذي أحبته في الدار ... الا أنها فقدت هذا الحب .. و بدأت تفقد الشفقة , الا بعضا قليلا منها .....
همست ملك و هي تتشبث بذراع رائف
( رائف ......... أنا خائفة ....)
كان يحارب كي لا يظهر جانبا بداخله يأمره أن ينزل ليفترس ذلك الواقف بأسفل ينتظرها ... ثم يخطفها و يهرب بها ....
تلك الفتاة التي تتمسك بذراعه تخصه ... و لن يسمح لغيره أن ينالها الا ...... الا بطلبها هي ....
و الآن كان في لحظة ما بين الحكمة و القتل .... خاصة وهو يرى بوضوح نظرات كريم المفترسة لها ....
ضيق عينيه وهو يرفع يده الاخرى ليربت بها على يدها الممسكة بذراعه
( أعرف ........ لن أتركه يمس شعرة منكِ ...... أعدك .... )
كانا ينزلان كل درجةٍ ثم يتوقفان للحظة كي يتم تصويرهما بينما الاضواء أوشكت ان تعمي عينيها ...
فقالت بهمس متشنج
( لست واثقة ............. )
قال رائف بصرامة خافتة جعلتها ترتجف قليلا
( الا تثقين بي ؟!!............ )
رفعت ملك وجهها تنظر اليه من تحت خمارها ... فاخفض وجهه اليها ... و ابتسم ...
حينها تم التقاط عشرات الصور لهما .... بينما كان كريم يقبض أصابعه بشدة .... ينظر اليهما و الجنون بداخله يزداد و يتوهج ....
كان الانتصار لذته تكمن في اللحظة التي سيأخذها من ذراع رائف ... ليتركه متحسرا ...
الا أن تلك النظرة بينهما كادت أن تقتله هلعا !! .....
لكن الليلة .... الليلة سينسيها كل رجلٍ آخر على وجه الأرض ... سيعمل على ذلك حتى تهتف باسمه كالرجل الوحيد المهيمن على حياتها
كم اشتاق لملمس جسدها الناعم و الذي يعرفه حق معرفةٍ ... يكاد يستنشق عبيره , و أصابعه تتصارع ليلامس تلك النعومة المختبئة أسفل كل هذه الكومة البيضاء ...
وصلت ملك مع رائف الى آخر درجتين و هي تراقب الشعاعين بعيني كريم ...
فرفعت وجهها الى عيني رائف لتهمس قائلة بقوة
( لا أريده أن يرفع خماري ..... لا أستطيع تحمل تلك المسرحية ... )
توقف رائف مكانه للحظة قبل آخر درجتين .... فاستدار اليها وهو يقول بخفوت أجش
( طلباتك أوامر يا وردتي البيضاء .... )
و قبل أن تفهم قصده ... كان قد ترك يدها , ليمسك بحافة خمارها ... فرفعها عن وجهها الى أعلى رأسها ... أمام الجميع .... و عادت الصور برنين مميز من كل مكان رغم اندهاش المدعويين قليلا ...
بينما كان رائف ينظر الى وجه ملك دون أن يبتسم .... طويلا , لدرجة جعلتها تشك بأنه قد نسي الحفل ...
فهمس أخيرا بصوتٍ أجش
( ما أجملك حورية !! ........... )
همست هي الأخرى باسمه مذهولة و قلبها يخفق بعنف رهيب
( رائف ...... لا تتركني ......... )
ضيق رائف عينيه وهو يهبط بوجهه اليها .... ففغرت شفتيها بذهول دون أن تعي لأنها كانت ترفع وجهها اليه ...
و بدلا من أن تمس شفتيه جبهتها ... همس أمام بشرتها بخفوت
( سأكون كظلك ..... و لن تكوني له الا على جثتي ...... )
ثم ابتعد عنها تحت أنظارها المتعلقة به ... و شعر و كأنه ينتزع طفلته الباكية المتعلقة بعنقه بالقوة ....
سمعت صوت كريم يقول هازئا من خلف رائف
( ما الأمر يا .. خالي .... هل تنوي سرقة عروسي ؟! ....)
تشنجت ملك بشدة ... بينما أظلمت ملامح رائف و بدت مخيفة أمام عينيها , ... و تعالت بعض ضحكات المتواجدين من حولهم ...
بينما ابتعد رائف عن ملك و هو يستدير الى كريم الذي كان يبتسم بشراسةٍ غريبة ... جعلت منه مسخا مشوها بعيني رائف .....
و ما أن اقترب منها و أمسك ذراعها ... حتى انحنى اليها ليطبع شفتيه على وجنتها بقوةٍ ... و لعدة ثوانٍ جعلتها تغمض عينيها و تشعر فجأة بالغثيان و صور هجومه أكثر من مرة تندفع الى ذاكرتها ....
حاولت ابعاد وجهها عنه .... الا أنه منع هروبها بأن لف ذراعه حول خصرها بالقوة ... فشعرت أنها تكاد تختنق ...
نفس ذراعه ... نفس قوته التي قيدتها حين أجهض طفلها ......
بينما همس في أذنها متأوها وهو يلامسها بشفتيه غير آبها لوجود الجمع من حولهما ....
( أخيرا ......آآآآه أخيرا يا مليكة ...... ما أجملك يا دائي الوحيد !! ...)
أغمضت عينيها بشدة و هي توشك على أن تسقط أمام كل هذا العدد من البشر ... الا أنها حاولت استجماع قوتها بأقصى قدرة تستطيعها ....
و بدأت موسيقى عالية في الضرب من حولها ... و الألوان و الأضواء تتداخل أمام عينيها ...
بينما قوة ذراع كريم تجذبها اليه ليتقدم بها في اتجاه القاعة ... بينما هي تلتفت برأسها هاتفة دون أن تستطيع منع نفسها
( رائف ..... راااااائف .... )
لكن أحدا لم يسمعها .... فالصوت من حولها كان عاليا و كأنه صراخ شرس همجي ... ابعد ما يكون عن موسيقى زفاف ....
بينما كان رائف يبتعد بظهره و عيناه عليها ... الناس يتدافعون أمامه فيحجبونها عنه ...
و رغم الصوت العالي الصارخ ... الا أنه يكاد يكون متأكدا أنه سمعها تنادي باسمه ... فأغمض عينيه وهو يطرق برأسه متنهدا بعنفٍ بينما صدره يغلي بعدم قدرة على تحمل ابتعادها مع .... زوجها ... امام عينيه ...
نار حارقة كانت تشتعل بصدره ... بعنفٍ لم يعرفه تجاه مشاعره منذ سنواتٍ طويلة ....
شعور الغيرة ... شعور لم يظن أنه قد يقابله بمثل هذا العنف ... لكنها لم تكن مجرد غيرة عادية منطقية ...
بل هي غيرة مؤلمة بدرجة تجعله يود الصراخ عاليا و تحطيم هذا المكان ......
تبا لكل المنطق في هذا العالم .... كان عليه استغلال الموقف و عرض الزواج عليها ....
كان عليه خطفها لو تطلب الأمر ..... لقد طلقها الحقير أمامه .... سمع قسم الطلاق بنفسه .. و لا يهمه أن يسمعه أحد غيره .....
استلزمه كل قوته كي يسلمها له ..... بيده .... و يقف هنا منتظرا تلك الليلة أن تنتهى لينتزعها من هذا المكان ... و الأهم أن ينتزعها من بين ذراعي كريم .....
استدار مبتعدا وهو يقف عند نهاية القاعة ..... يتأوه بصمت حين اختفت عن عينيه تماما .....
.................................................. .................................................. .....................
وقف سيف خارج قاعة الزفاف في الظلام وحده .... يدخن سيجارة وهو ينعم ببعض الهدوء
ينظر الى الليل الداكن البعيد أمامه .... يضيق عينيه وهو يراقب آخر هذا الأفق عله يصل الى نهايتة ...
( أنت فعلا تحولت الى مدخن شره ........)
صوتها تخلل نسيم الليل الصيفي ... و عطرها سبقها الى رئتيه .....
فابتسم قليلا دون مرح ... و قال بهدوء
( هذا الدور لا يليق بكِ يا وعد ......... )
سمع صوت خطواتها تقترب منه على الأرض الرخامية برشاقة ... كعبي حذائها يصدران نغما كلاسيكيا يناسب مظهرها .... مظهرها الذي أهلكه منذ رآها خارجة مع ملك ....
كاد أن يصاب بنوبة جنون حانق وهو يراها بثوبٍ أسود كلاسيكي ضيق بالكاد يلامس ركبتيها ...
كميه القصيرين اللذين يتعديان استدارة كتفيها .... و شعرها الأسود الطويل التف بموجاتٍ طويلة انسابت على كتفيها بنعومة تنافس نعومة بشرتها ....
كاد أن يصرخ بها أن تعود و تبدل ملابسها و ترتدي ما يستر ساقيها و ذراعيها .....
الا أنه تذكر انها لم تعد تخصه ....أنه طلقها .....
فالتزم الصمت في نوبة عناد ... وها هو يدفع ثمنها الآن من أعصابه و كيانه المنقلب رأسا على عقب ..
و هو يلاحظ أن عيني كل رجلٍ في القاعة انحدرتا على قوامها النحيف الشبيه بقوام عارضات الازياء ...
وقفت وعد بجواره و هي تضع يديها على السور الرخامي أمامهما .... تنظر الى جانب وجهه الصلب .. وهو ينفث دخان سيجارته عاليا .... دون أن يتعطف عليها بكلمة ....
على الرغم من مأساوية هذا الحفل بالنسبة لها و لملك ... الا أن الجانب الأنثوي منها جعلها تهتم بأناقتها بشكل مبالغ فيه ... و هي تنتظر منه كلمة اعجاب .... كلمة تحيي أنوثتها من جديد و تسقي صحراء جسدها الجاف و المتشوق للمساته
لكنه نظر اليها نظرة صامتة ثم استدار دون أن يتكلم .....
لقد كسر نفسها المتألمة التي كانت تحتاج منه لكلمة اعجاب واحدة كي تصمد برقتها أمام تلك اليلة الصعبة عليهم جميعا ....
حين استمر الصمت بينهما طويلا ... و لم يتنازل حتى بالنظر اليها , فانتابها غيظ شديد منه
و قالت بتحدي راقي
( هلا أعطيتني سيجارة لو سمحت ....... أعصابي متوترة للغاية ... )
حينها و كأن عاصفة اندفعت خلاله فاستدار اليها بعنف وهو يهدر قائلا
( أعطيكِ ماذا يا روح والدتك الغالية ؟!!! .......... )
تظاهرت بالإندهاش و هي تقول ببساطة رافعة حاجبيها و هي تبعد شعرها عن كتفها بأناقة
( سيجارة يا سيف ..... ماذا بك ؟! ...... لم أحضر علبتي معي .... )
حينها هجم عليها يمسك بذراعها يجذبها اليه بقوةٍ فتأوهت بشدة ... بينما هتف بعنف
( هل تدخنين ؟! ..... منذ متى ؟! ...... )
قالت و هي تحاول أن تحرر ذراعها من يده التي بدت كالمخالب
( منذ فترة بسبب ضغط العمل ........ ما المشكلة ؟! ..... )
اتسعت عيناه بذهول بينما أوشك الغضب على أن يفتك به و بها ... وهدر مجددا وهو يجذبها اليه
( لقد جننتِ .... من المؤكد أنكِ جننتِ ....... )
عقدت حاجبيها و هي تهتف
( بل أنت الذي لا تزال رجعيا .... شره التدخين بينما ينتابك الجنون حين تعلم أنني أدخن مثلك .... )
هزها بقوة وهو يهدر غاضبا
( أيتها المعتوهة ..... حالة قلبك لا تتحمل التدخين ..... هل جننتِ ..... بالله عليكِ مما أنتِ مصنوعة ؟! ... )
سكنت ملامحها تماما .... و أفترت شفتيها عن تعبير رقيق و هي تسمع عبارته الهادرة ....
كانت تحاول الإبتسام ... الا أنها لم تستطع .....
ظلت تنظر الى عينيه الغاضبتين ... القلقتين ... و هي تنعم بتلك اللحظات قبل أن تقول بخفوت و رقة
( كنت أخدعك .... أنا لم أدخن بحياتي .... لا تقلق ... )
ظل قليلا غير مستوعبا بينما هو عاقدا حاجبيه يتحقق الصدق من الكذب بعينيها .... الى أن قالت برقة و هي تشير بعينيها الى السيجارة في يده
( لكنني أدخن معك الآن تدخينا سلبيا ........ )
رمش بعينيه وهو ينظر الى سيجارته المشتعلة .. قبل أن يرميها أرضا و يدهسها بحذائه وهو يتمتم غاضبا
( تبا ......... )
كانت تنظر اليه مبتسمة و هي تقول
( قد يخرج احد الى هنا و يرانا في هذا الوضع ....... هلا تركتني رجاءا .... لن أهرب أعدك ... )
رفع عينيه الغاضبتين الى عينيها الرماديتين الواسعتين المكحلتين بجمالٍ زاد من جمالهما ....
فترك ذراعها و كأنها احرقت كفه بنعومتها التي لم يلحظها قبلا في غمار قلقه عليها ....
لكنه عبس بشدة وهو يراها تدلك ذراعها من تأثير قبضته الساحقة التي ستترك علاماتٍ على بشرتها البيضاء
فقال معتذرا عابسا وهو يستدير عنها
( آسف .......... لكنك غبية ... )
قالت ساخرة
( منذ متى ؟! ........ )
رد عليها بخشونة دون أن ينظر اليها
( طوال عمرك غبية ........ )
ضحكت قليلا و هي تقول
( لم أقصد ذلك ..... بل قصدت منذ متى الأدب و الإعتذار ... ليست عادتك .... )
تأفف عاليا وهو يخرج علبة سيجارته ينوى اخراج واحدة .... الا انه تذكر وقوفها فقال مجددا بغضب
( أووووووف ..... هلا ابتعدتِ من هنا .... )
لكنها لم تبتعد ... بل استندت الى السور بظهرها بينما هو واقفا معاكسا لها .... فرأت وجهه بوضوح , و هي تقول ضاحكة قليلا
( يا اللهي أنت فعلا أصبحت مدخنا شرها ........ )
قال سيف من بين أنفاسه الغاضبة
( لا دخل لكِ يا وعد .........)
الا انها قالت بخفوت و بساطة
( الا يحق لي القلق عليك كما تقلق علي ؟!! ..... فأنت رغم كل شيء لا تزال ابن عمتي )
لم يرد عليها .... بل كان حتى يتجنب النظر اليها ... لكنها استطاعت سماع أنفاسه الخشنة ..
فاستدارت مثله وهي تنحني كي تستند الى السور بمرفقيها بميوعةٍ ...
حينها لمحت عينيه تنظران اليها رغم عنها ... تراقبان انحنائها الرشيق ...
فابتسمت و هي تعلم انه لا يزال يحبها .... على الرغم من أن هذا يبدو في منتهى القسوة و الظلم
الا أنها كانت سعيدة سادية و هي تعلم بأنه يحبها ... و لن يحب غيرها رغم الطلاق ....
ليلة أمس بعد مكالمته لها ... كانت كالمجنونة و هي تتخيل آلاف الصور له مع نساء غيرها ....
على الرغم من أنها تكاد أن تقسم بأن سيف لا ينجرف الى حياة العبث أبدا .... ليس هو ... و ليس طبعه ...
لكن رغم ذلك فنارها لم تهدأ للحظة واحدة ....
حتى الآن هي تراقبه ... تكاد تفحصه .. و تتخلل كيانه بعينيها لترى ان كان ارتاح مع غيرها !! ...
لكن عصبيته الشديدة تخبرها بأنه لم يفعل .... ليتها فقط تجزم بذلك ....
قال سيف أخيرا بخشونة يحاول تجنب تأثيرها عليه
( هل ملك بخير ؟! ........... )
تنهدت وعد و هي تعود لأرض الواقع بقسوة .....
واقع أن ملك ستغادر عريسها الليلة و ستتطلق قريبا ...
وواقع أن سيف طليقها و ليس زوجها .....
فقالت أخيرا تتنهد بخفوت
( من منا بخير ؟! ........ هذا الزفاف ما هو الا مسرحية رخيصة و ستصبح ملك مطلقة خلال أيام ..... بعد أن كنت أتخيلها عروسا لرجلٍ ذي شأن عظيم .... فها هو الزفاف لكن دون الشأن العظيم ... )
نظر اليها سيف بصمت ... بينما تابعت و هي تقول بخفوت ناظرة الى السماء السوداء أمامها
( منذ أن عثرت عليها .... و رأيتها شابة , سحرني جمالها ... و قبله جمال شخصيتها ... لذا كنت متأكدة أنها تستحق أن تكون عروسا لرجل عالي المستوى .... يليق بجمالها .... فهي تبدو كفتاة من فتياتِ الحكايات ... لذا اخذت ألهث كي احقق لها بعض المستوى تجهيزا لهذا الرجل المنتظر ..... كي لا يجدها مجرد بائعة زهور و اختها ما بين تقديم مشروبات و بين الخياطة ... من همٍ الى هم يا قلبي لا تحزن .... )
مطت شفتيها ضاحكة و هي تتابع قائلة
( كنت أنوى البحث لها عن عريس بنفسي ..... رغم أن الزواج لم يكن أبدا هو مطلق حلمي .... لكن حين يخص الأمر ملك , لم أكن أفكر سوى بمن ستتزوج و كأنني أم قديمة الطراز ......)
صمتت قليلا غير واعية لعيني سيف المدققتين بها و حاجبيه المنعقدين بشدة ... ثم همست تقول أخيرا
( و ها هي تزوجت ... و بحفل زفاف أسطوري .... بينما قلبها ينزف ألما .... )
هزت رأسها نفيا و كأنها غير مقتنعة .... ثم أخفضت رأسها , فانسدل شعرها حول وجهها ...
ظل يراقبها طويلا و هي تكاد تدفن وجهها بين ذراعيها المستندتين الى السور الرخامي ... و حين لاحظ اهتزاز كتفيها قليلا ... همس بصوتٍ اجش
( وعد ...... هل تبكين ؟! ....... )
لم ترد عليه ... و لم ترفع رأسها , فاقترب منها خطوة ... و رفع يده الى ظهرها ... فظلت معلقة في الهواء للحظة ... ثم انزلها أخيرا الى ظهرها يلامسها برفق وهو يقول بخفوت
( ارفعي وجهك ....... )
الا أنها ظلت مكانها .... غير قادرة على مواجهته ... فلم يجد بدا من أن يمسك بخصرها بكفيه و يرفعها لتقف أمامه ... و هاله أن يرى خطوطا سوداء مرتسمة على وجهها ... و مع ذلك لم يقلل هذا من جمالها ...
بينما همست بإختناق و هي تمسح وجنتيها بقبضتيها
( ياللهي .... لقد افسدت زينتي و من المؤكد أبدو مريعة الآن .......)
كان سيف ينظر اليها بصمت ... بينما صدحت من الداخل أنغام هادئة .... حالمة .....
فقال بخفوت وهو يمسك بقبضتها يخفضها عن وجهها
( ارقصي معي ........)
اتسعت عينيها بذهول ... بينما عقد هو حاجبيه بشدة وهو هو يلامس خصرها بيده ليجذبها اليه وهو يقول بخشونة ٍ خافتة
( أنتِ لا زلت زوجتي ..... فأشهر العدة لم تنتهي بعد .....)
أغمضت وعد عينيها و هي تهمس بينما تميل برأسها الى كتفه
( هشششش ........)
فضمها اليه بقوةٍ وهو يتمايل معها ....يتنهد بعطرها ... يضمها الى صدره الجائع المشتاق .... تاركا الغد لمصيره ....
.................................................. .................................................. ..................
كانت ملك تصارع كي تبعد ذراعيه عنها و هو يراقصها .... بينما كان هو يضمها اليه بقوةٍ ... و جرأة علنية فجة ... يقتنص وجنتيها و شفتيها بقبلاتٍ مسروقةٍ أمام أعين الجميع من الهاتفين و المصفقين بصفاقة ...
فهمست بجنون من بين شفتيها المحترقتين باشمئزاز
( ابتعد عني ........)
الا أنه كان بعالمٍ آخر من الهوس بها .... يتلمسها ... يتذوقها ... يشعرها بأنه مدمن و هي ادمانه ... لدرجةٍ أشعرتها بالقذارة التي تناقض بياض هذا الفستان الذي ترتديه و لا تليق به ....
همس في أذنها
( جميلة أنتِ جميلة .....أخيرا و بعد كل هذه السنوات أنت بين ذراعي أمام العالم كله ... من شدة نشوتي أشعر بالرغبة في طرحك أرضا و التهامك بنهمٍ أمامهم بعد أن كنتِ الخفاء .... أصبحتِ العلن بكل بهائه و سطوع ضوئه .....)
كان الغثيان يتزايد بداخلها بشدة و هي تدعو الله أن ينتهي هذا الحفل سريعا و تجد نفسها بسيارة سيف كي يعيدها للبيت .... و رائف سيكون معهما .... رائف !!
فتحت عينيها تبحث عنه في كل مكان .... الى أن أبصرته ....
كان يقف في آخر القاعة ... ينظر اليها بين ذراعي كريم و الصدمة تبدو واضحة على ملامحه ....
كان يقف كماردٍ ضخم ... أطول من كل الحاضرين رغم بعده ... و قبضتاه منقبضان الى جانبيه ....
بينما كان وجهه ..... و عيناه ......
كانت تنظر اليه باعتذار فطري ... لا تعرف له سببا .... و توسل بالغريزة .....
لكن عيناه كانتا مخيفتان وهو ينظر اليها .. ثم الى الجمع من حوله قليلا و كأنه يحاول السيطرة على نفسه كي لا يفتعل فضيحة ...
ثم يعود بعينيه الى عينيها لاهثا .... غاضبا ....
فجأة شعرت بقبضة كريم تمسك بذقنها تدير وجهها اليه ., و شفتيه تطبقان على شفتيها في قبلةٍ سرقت اليها أضواء الكاميرات كلها و تصفيق الجميع و كأنها حلبة مصارعة ....
صرخت فجأة بين شفتيه و هي تضرب صدره بقبضتيها
( ابتعد عني .......... )
ضاقت عيناه بشر , الا أنها لم تهتم .. بل طارت عيناها بحثا عن رائف , لكنها لم تجده ... بل وجدت مكانه خاليا .... مظلما ....
فأطرقت وجهها بخزي و ألم .... حينها ضمها كريم اليه يهمس بشرٍ مختبىء داخل نبرةٍ ناعمة كالعسل
( مليكة ....... )
انتفضت تنظر اليه وهي تقول
( قدمي أوجعتني ..... أريد الجلوس ..... )
و دون أن تسمع رأيه ابتعدت عنه كي تذهب الى أريكة العروسين و ارتمت جالسة عليها ... تبحث بعينيها عن رائف .... لكنها أيضا لم تجده .... و أثناء بحثها , التقت عيناها بعيني كريم الذي كان لا يزال واقفا مكانه حيث تركته .... ينظر اليها بنظرةٍ مخيفة ... الا أنها لم تهتم بها ...
كان كل همها يدور حول سؤال واحد ..... هل يمكن لرائف أن ينسى تلك القبلة التي رآها بعينيه !! ....
.................................................. .................................................. ..................
أخذ الوقت يمر ببطىء ... و هي جالسة مكانها مطرقة الرأس ....
كان كريم يرقص مع اصدقائه و يتعالى صراخه بجنون صاخب و كأنه فاز بأكبر جائزة يناصيب ...
بينما كانت شبه متأكدة بأسى أن رائف رحل و تركها ..... فهي لم تره مجددا ....
اخذت تفرك اصابعها محاولة حساب كم تبقى من الوقت كي تنتهي تلك المهزلة .....
ستنتهي برحيل آخر مدعو .... و حينها ستغادر مع سيف .... بعد أن رحل رائف .....
رفعت وجهها بأسى .... فشهقت و هي تراه مجددا ... يقف بنفس مكانه هناك , فابتسمت رغما عنها ...
و كانت تلك هي أول ابتسامة لها في هذا الزفاف البائس ....
صحيح أنه لم يستطع أن يرد لها الابتسامة بمثلها .... الا أن عينيه رقتا لها قليلا ... و كان ذلك في حد ذاته كفيلا كي لا تفقد ابتسامتها ...
لكنها انتفضت فجأة على صوت كريم وهو يقول في مكبر الصوت الخاص بمنسق الأغاني ....
( أصدقائي و حضرات المدعوين الكرام ..... كانت ليلة رائعة و لا تزال .... لكنني مضطر للخروج مع زوجتي و الصعود الى غرفتنا الآن .... فأنا غير قادر على الإنتظار أكثر .... سنوات طويلة من الحب ستكلل الليلة .....و غدا ستنقلنا الطائرة لشهر عسل هو مفاجتي المذهلة لعروسي الجميلة ... لذا استمتعوا بكل دقيقة و كأننا معكم تماما ... تحياتي للجميع .. )
تعالت الشهقات و الضحك الصاخب من صراحته الفظيعة ... لكن ملك لم تعي بنفسها الا و هي تشهق رعبا ..
أي ليلة ؟!! .... أي غرفة ؟! .... شهر عسل من ؟!!!
فنظرت بذعر الى رائف الذي كان يبدو غاضبا .. هائجا بصمت ....
ثم دون لحظة تأخير واحدة ... و جدته يندفع خارجا من القاعة ....
فرفعت يدها الى صدرها و هي تبحث عن سيف ...
لو تطلب الأمر فستصرخ و تجري من القاعة و ليحدث ما يحدث ..... و لتكن الفضيحة , لكن المهم أنها لن تدع كريم يقترب منها أو يلمسها ...
تدافع المهنئين الى كريم ... يحجبونه عنها قليلا .. لكن عيناه الشرستان كانتا مصوبتان عليها باصرار .. كي لا تهرب ...
و مرت عدة دقائق .... فانقشع الجمع من حوله ... و بقي هو واقفا ينظر اليها و في عينيه نظرة قناص حاد النظر ... يقترب منها على مهل...
الى أن وصل اليها , فأمسك بيدها يجذبها اليه بالقوة حتى نهضت من مكانها و ارتمت عليه فتلقفها بين ذراعيه .. الا انها انتفضت تدفعه في صدره بغضب....
و ما أن استقامت حتى وجدت رائف يندفع داخلا الى القاعة مجددا ...
فرمشت بعينيها و هي تتنفس براحة , على الرغم من لا تصور لها عن كيفية انقاذه لها .......
قال رائف بصوتٍ جليدي صلب من خلف كريم
( هل يمكنني تهنئة العروس يا عريس ؟! ............ )
ابتعد كريم ببطىء عن ملك .... و استدار ينظر الى رائف للحظات قبل ان يقول مبتسما بتشفي
( تفضل يا خالي ..... أعرف أنها "كابنتك" التي لم تنجبها تماما , لكن أسرع فنحن نريد الهرب من هنا لبدء شهر العسل ..... أنت تدرك طبعا مدى لهفتنا لذلك ... و لهفتي أنا تحديدا ... )
تجمدت عينا رائف .... و انقبضت كفه اكثر ... الا انه ابتسم ببرود ... ليقول بلطفٍ زائد
( أعرف لهفتك يا حبيب خالك .... خاصة بآخر لقاء لنا ... حين كنت مقيدا ... مرميا أرضا ... تتوسل حبها و بقائها... )
برقت عينا كريم بكرهٍ بشع .. شوه شكله الوسيم ... لكنه ضحك عاليا بعد لحظات ثم قال بصوتٍ عالٍ
( كان مجرد حلما يا خالي العزيز ..... بل كابوس احلم به دائما بأنها تتسرب من بين أصابعي ... لكن كلما استيقظت أجدها لا تزال ملكي ... فأتنفس الصعداء ..... )
ظل رائف ينظر اليه بصمت .... نظرة مخيفة في برودها و الجحيم القابع تحت سطح هذا البرود ...
ثم تجاهله وهو يستدير الى ملك ملتقطا يدها كي يصافحها مهنئا ...
أخفضت ملك وجهها و هي تشعر بأن شيئين صغيرين انتقلا من كفه الى كفها فأخفضت وجهها ..
الا انه كان أسرع منها وهو ينحنى اليها مقبلا وجنتها !!.... مما جعلها ترفع وجهها اليه شاهقة بذهول
فهمس بالقرب من فكها
( لا تخفضي وجهك .... هذه الأقراص ضعيها له بأي شراب و سأكون عندك خلال دقائق بكل الأحوال .... حتى ولو لم تتمكن من فعلها .... )
أبعد وجهه عنها ينظر اليها بصمت ...الى وجهها المشع احمرارا بشدة و هي لا تزال فاغرة شفتيها من قبلته التي حطت على وجنتها للتو !!... و خشي الا تكون سمعت ما قال ...
فأعاد برقة مؤكدا عليها
( هل سمعتني يا عروس ؟! ....... مبارك حبيبتي ... )
فغرت شفتيها أكثر ... و اتسعت عيناها بذهول أشد .... لكنها أومأت بغباء و هي تقبض كفها على الأقراص
فأومأ هو الآخر برأسه و عيناه بعينيها ... ثم ابتعد عنها على مضض ...
حينها اندفع كريم وهو يقبض على كفها الآخر ليقول بقوة و كرامةٍ مهتزة
( هيا مليكة ....... لنغادر قبل أن ينتهز خالي الفرصة ليقبلك مجددا ....)
تسمر رائف مكانه و انقبض صدره بشدة وهو يرى كريم يجر ملك خلفه ليندفع خارجا....
بينما كانت هي تنظر للخلف ... اليه ... عيناها متعلقتان به ... تقتله .......
.................................................. .................................................. ......................
فتح كريم باب الغرفة بنفسه بعد أن صرف العامل .... و دون كلمة استدار الى ملك المذعورة وانحنى ليحملها بسرعةٍ بينما شهقت هي عاليا و أخذت تصرخ بغضب و هياج ....
( أنزلني ....... أنزلني ...... )
ضحك كريم وهو يسرع بالدخول وهو يحملها هامسا
( ششششش ستثيرين الذعر بجنونك هذا ....... )
و ما أن أنزلها أرضا على قدميها و استدار ليغلق الباب ... حتى جرت سريعا و هي تحمل حافتي فستانها الى آخر الجناح الفخم ...
التفت كريم اليها مجددا يبحث عنها ... و حين رآها تقف في ركنٍ بعيد ... ترتعش و تنظر اليه بغضب يخالطه خوف تحاول جاهدة اخفائه ...
فقال باسما وهو يخلع سترته ببطىء ليلقيها بعيدا باهمال
( تبدين عروسا عذراء بحق ...... ربما لم تكن ليلتنا الأولى مرضية لكِ , لكنها كانت كالنعيم بالنسبة لي و ستظل تحفر ذكراها بقلبي دائما ... لكن هذا لن يمنع أنني سأحاول تعويضك عنها بأقصى استطاعتي ... )
نزع الصديري الخاص بالحلة ليلقيه هو الآخر على الأرض , بينما وقفت ملك تنظر اليه باشمئزاز و هي تتذكر تلك الليلة التي يحكي عنها بكل تفاصيلها المأساوية ... متغاضيا عن ذكر اعتقادها أنها كانت متزوجة رسميا منه بينما هو في الواقع لم يكتب سوى ورقة بيضاء ... تساويها رخصا .....
تجمدت عيناها عليه و هي تتمنى لو تنهش عينيه .... و صدره العاري الذي يتباهى به الآن بعد أن نزع قميصه عنه ....
وهو يقترب منها ببطء و بعينيه نظرة افتراس جلية , و ما أن لاحظ نفورها الواضح حتى قال برقته القديمة الناعمة كالعسل
( مليكة .... الا يمكنك تجاوز ما مضى ... انظري كيف جمعنا القدر رغم الجميع .... دون خسائر تذكر ..... آنا آسف و سأظل عمري كله أعتذر لكِ و أحاول أن أعوضك .... هلا منحتني الفرصة ..... )
كان قد وصل اليها , فوضع يديه على خصرها وهو ينحني اليها ليداعب عنقها بأنفه ....
بينما كانت هي متشنجة كتمثال من رخام .... و أوشكت على الصراخ , الا أنها تماسكت كي تنفذ خطة رائف أولا .... فقالت بجهد جبار و هي تتحمل لمساته البغيضة
( آسف على أي شيء ؟! ... على النصب أم الإغتصاب أم القتل ؟! ..... حدد رجاءا كي أحاول أن أسامحك )
رفع وجهه عنها بغضب وهو يقول بصوتٍ خافت خطير
( الا ترين أنكِ تبالغين بدرامية سخيفة ......... )
نظرت الى عينيه و هي تهمس بشراسة و قد نست خوفها
( لقد أوهمتني بأنه زواجا رسميا .... ثم فرضت رغبتك علي دون ارادة مني .... قيدتني بين ذراعيك و قتلت ابننا .... ثم ادعيت أنني مجنونة معتوهة ... مستغلا ظروفا ممرت بها و أنا صغيرة .... أي حقير .. دنيء ... قذرٍ أنت .... )
كانت تصرخ بكلماتها الأخيرة بجنون ....
فاشتعل الغضب بعينيه وهو يصرخ هو الآخر
( كفى ........ كفى ..... أنا أحاول جاهدا السيطرة على جموحي معك لكنك لا تمنحيني الفرصة ... بينما كان عليك أن تكوني شاكرة لأنني لم أعاقبك على ما فعلته مع رائف المرة السابقة ..... فقد اعتبرت أنك نلت حقك و انتهينا .... لا أريد كلمة أخرى عن الماضي ..... لقد نلتِ حقك كاملا .... و أنا راضيا و عليكِ أن تكوني راضية كذلك .... )
فغرت شفتيها بذهول و هي تنظر اليه .... بينما همست بصوتٍ واهي
( نلت حقي ؟! ..... لمجرد أنه ضربك ؟! ...... هل هذا هو حقي ؟! ...... )
تنهد بجنون وهو يصرخ فجأة بهياج مما جعلها تصرخ هي الأخرى بذعر لتتراجع ملتصقة بالجدار خلفها مغطية أذنيها بكفيها
زفر كريم بغضب وهو يشتم بصوتٍ منخفض .... ثم نظر لذعرها فتنهد بعد فترةٍ ليقول بعدها بعذاب
( لماذا تجبريني على هذا ؟!! ..... ماذا ستجنين من كل هذا ؟! .... لطالما كنتِ تفهمين طباعي و تحتوينني بكل رقتك و حنانك .... ما الذي غيرك ؟! ..... )
كانت تلهث بذعر .... و هي تراه مجنونا مختلا ... , لكنها سيطرت على نفسها بالقوة و هي تخفض كفيها لتقول باختناق لم تحتاج الى تمثيله
( أريد أن أشرب ....... أشعر بعطش شديد .... )
نظر اليها بلهفة وهو يبتسم قليلا , ثم هتف هامسا
( طبعا ...... طبعا مليكة .... فقط ارتاحي ... أو دعيني أنا أريحك ... فقط اهدئي .... )
ابتعد عنها ليتجه الى مسطح رخامي .... يحتوي على زجاجة خمر كهدية للعروسين بناءا على طلبه , ففتحها بقوةٍ و سائلها الذهبي الأبيض ينساب على يده ....
صب لها كأسا .... و لنفسه , بينما كانت تراقبه بصمت , قبل أن تقول بفتور
( متى تعلمت شرب الخمر ؟! ...... لم أكن أعلم ذلك ...... )
نظر اليها بطرف عينيه ... ثم ضحك قليلا وهو يقول
( قليلا فقط ... في بعض المناسبات ....لا يقارن شربي بشرب أمي .... فهي نهمة للخمر مهووسة و تقوم بحركاتٍ مجنونة بعد أن تسكر ...... لكنها تصبح مغرية لا تقاوم )
عقدت ملك حاجبيها بشدة و نفور .... ها هو يتكلم عن أمه مجددا بطريقة ..........
تثير الغثيان بغرابة ..... بينما كان هو يقول بخفوت ناظرا للسطح الذهبي الشفاف ...
( جميلة هي منذ أن رفضتني ......... هشة كأجمل النساء الضعيفات اللاتي يثرن الرغبة في حمايتهن , لكنها لا تصلح لأن تكون أما ..... )
رفع وجهه الى ملك التي كانت تنظر اليه بقتامة فقال مبتسما ببساطة
( لذا لم أعاملها كأم ......... )
هز رأسه قليلا وهو يعود لنفس الموضوع
(المهم ..... ترفقي بي مليكة , فالليلة ليلة زفافنا و أنا أنوي أن أجعلك راضية بكل ما أملك من أسلحتي ..... فقط لا تقاوميني ..... )
اتجه اليها ببطىء وهو ينظر الى عينيها مبتسما .... و ما ان مد لها بكأسٍ من الكأسين حتى تناولته و هي تقاوم رغبتها في القائه بعيدا .... بينما نظرت بقلق الى كأسه ثم همست بخفوت
( فقط عدني بشيء ......... )
نظر اليها بذهولٍ من صوتها الرقيق المذعن فهتف بلهفة
( أي شيء ...... اي شيء يا مليكة....... )
أطرقت برأسها و هي تهمس
( لا تقترب مني الى أن أهدأ تماما ...... ليس قبل ذلك , أريد أن أكون أنا من تناديك ..... أرجوك )
أغمض عينيه وهو يتنهد بقوةٍ تعبا و فرحا .... ثم همس بصوتٍ معذب سعيد
( على عكس ما تعتقدينه ...... أنا قادر على تحمل أي شيء ... اي شيء في سبيل ارضائك ... مهما كان صعبا مضنيا ... لذا .... فطلباتك أوامر مليكة .... )
اقتربت منه رغما عنها ... بكل النفور في جسدها و ارتفعت على أطراف أصابعها و هي تحيط عنقه باحدى ذراعيها .... حتى أصبح كأسها خلف رأسه و هي تقبل وجنته بشغف رائع التمثيل و هي تهمس
( شكرا .... لك ...... )
كان مذهولا ... يبدو كمتسول عاجز ... وهو يشعر بها ترتجف بين ذراعيه برضاها .... فهمس باختناق مذهول
( الا تمنحيني قبلة فقط ..... واحدة فقط أستطيع بها الصمود .... )
ابتلعت ريقها بصعوبة .... ثم أومأت برأسها بصمت .... فازداد ذهوله وهو يقترب منها ببطىء
و ما أن لامس شفتيها بشفتيه حتى أسقطت يدها بالكأس على ظهره ... فانتفض صارخا
( ما اللذي ؟! .......... )
تظاهرت بالذعر و هي تهتف
( أنا آسفة ....... أنا آسفة ...... لم أقصد لقد ارتعشت يدي و أنت تقبلني ..... )
رمش بعينيه وهو ينظر اليها متدلها برقتها و استسلامها .... فقال بخفوت
( حقا يا مليكة ؟! ........ )
أومأت برأسها بصمت ... ثم همست بخفوت
( هلا أحضرت لي واحدا آخرا ..... أنا أرتجف بشدة ....... )
هز رأسه قليلا بعدم تصديق وهو يهمس
( من عيوني مليكة ...... من عيوني .... خذي كأسي اشربي منه و سأحضر واحدا آخر .... )
فالتقطته منه مبتسمة و ما أن استدار عنها رغم عنه .... حتى اسقطت القرصين في الكأس و أخذت تديره بسرعة قبل أن يعود اليها ......
ثم سكبت رشفة منه بعيدا ... و ما أن عاد اليها بواحدٍ آخر .... حتى أخذته منه و ناولته كاسه وهي تهمس
( خذ هذا ...... لقد رشفت منه رشفة ..... )
ثم بللت شفتيها بلسانها بقصد .... حينها بدا كالأبله فعلا وهو ينظر الى لسانها مذهولا .... ثم شرب كأسه في جرعةٍ واحدة و عيناه لا تزال على عينيها ......
بينما كانت هي ترتجف بقوةٍ و هي تخشى أن يضيع كل شيء بسرعة .... و بالفعل همس كريم بجنون
( لا أستطيع الإنتظار ...... أنا آسف مليكة ..... لا أستطيع .... )
تجمدت عيناها بذعر و غضب ... لكنها همست بجمود
( لكنك وعدتني .......... )
همس بخفوت وهو يلهث قليلا
( لم يكن عليكِ اذن أن تثيريني ........ )
قفزت ملك من أمامه و هي تجري رامية الكأس بعيدا .... لكنه لحقها بسرعة صارخا
( لا تثيري جنوني كالمرة السابقة يا ملك , و تبكين بعدها ....... )
الا أنها مدت يدها في صدر فستانها و أخرجت منه مدية صغيرة أشهرتها في وجهه و هي تقف متحفزة بعينين شرستين و هي تهمس من بين أسنانها
( أقسم بالله لو اقتربت مني فسأفتلك ....... )
تسمر مكانه وهو ينظر اليها بذهول , قائلا
( تحملين مدية معك ؟!!! ...... أتهددينني بالقتل ؟! ...... )
هتفت بقوةٍ صارخة
( لم أكن لأترك شيئا للإحتمالات يا كريم القاضي ..... خاصة حين يتعلق الأمر بك تحتلني من جديد و تمارس علي أمراضك ....... )
وقف مكانه مصدوما .... غاضبا .... شرسا .....
لذا لم تمر لحظتين .... حتى هجم عليها صارخا
( اذن أريني أفضل ما لديكِ ....... )
حينها لم تتوانى عن شق فكه بجرحٍ سطحي ... فصرخ متألما وهو يتراجع عنها واضعا يده على الجرح النازف بذهول .... ينظر اليها غير مصدقا ....
.................................................. .................................................. ...............
نظر الى ساعة معصمه و هو يقارب الجنون .... لم تنتهي النصف ساعة ... بل تبقى منها خمس دقائق ...
الا أن هذه الدقائق بدت كالدهر .... فاندفع بكل قوته الى جناح العروسين ... حتى أنه كان تقريبا يركض في الممر الطويل ... و قلبه يصرخ بخوفٍ لم يعرفه منذ فترةٍ طويلة
نبضاته كلها تصرخ باسمها هلعا .... ملك ... ملك ... ملك ... كيف طاوعه قلبه و تركها ؟!!! ...
وصل الى الجناح ... فطرق بابه بعنف و حين لم يسمع صوتا أخذ يطرقه مجددا و بعنفٍ أكبر ..... الى أن سمع صوتها المرتجف يهمس من خلف الباب
( من ؟!!!! .......... )
حينها هدر نفسه بالصعداء وهو يستريح بكفيه و جبهته على سطح الباب ... لاهثا بتعب وهو يقول بخفوت
( إنه أنا يا صغيرة ...... افتحي الباب .... )
فتحت الباب ببطىء .... الى أن رآها واقفة أمامه بكامل فستانها الضخم ... تنظر اليه بخوف , الا أنها كانت سليمة تماما ...
حينها همس بقوةٍ
( ملك ...... ياللهي .. الحمد لله ... كدت أن ..... )
لم يكمل كلامه حين ارتمت على صدره ترتجف بشدة تحيط خصره بذراعيها .... فاتسعت عيناه قليلا و تشنج جسده كله ... و نظر الى جانبي الرواق .. قبل أن يغمض عينيه للحظة متحملا ذلك العذاب ... الحلو بطريقةٍ سافرة بحتة ...
ثم تحرك بها الى الداخل و أغلق الباب خلفه ليستند عليه ..مرجعا رأسه للخلف مغمضا عينيه بصعوبة ....
بينما هي لا تزال مرمية على صدره تتشبث به و ترتجف بشدة ....
فتح رائف عينيه و أمسك بكتفيها يبعدها عنه بالقوة و هي تمانع بشدة ... وليست في وعيها الكامل ....
فضحك قليلا بغضب و استياء
( ابتعدي يا صغيرة ..... كي لا أنسى الجزء القليل المتبقي من ضميري ..... )
كان يعلم أنها لا تسمعه ... فقد كانت في صدمة واضحة ... فرفع وجهها الشاحب اليه و أخذ يربت عليه بقوةٍ كي يعيد الدم اليه وهو يقول بحزم
( ملك .... ملك ..... أنتِ بخير ..... أنتِ بخير و لم يصبكِ مكروها .... )
أخذت تنظر حولها قليلا ... و هي ترمش بعينيها ... الى أن رفعتهما الى عينيه تقول بصدمة متأخرة و هي تتلمس نفسها
( أنا بخير ..... أنا بخير .... نعم أنا بخير ..... )
كل حركاتها تثير كيانه و تشعل به نارا تأبى أن تنطفىء .... الا أنه لاحظ بجنون أحمر شفتيها ملوثا ... مدنسا حول فمها ...
فابتعد عن الباب بجنون مندفعا للداخل ... يريد ضربه و سحق فمه الشهواني البغيض ...
الا أنه وجد كريم مرتميا على السرير ... فاردا ذراعيه ... رتيب التنفس ....
فاقترب رائف منه بعينين داكنتي الشر .... و رفع قبضته المضمومة عاليا ... الا أن ملك تعلقت بمعصمه في اللحظة الأخيرة و هي تهتف بذعر
( لا يا رائف .... لا .... إنه غائب عن الوعي ..... اتركه أرجوك , لقد جرحته بالفعل .... )
لم يهدأ غضب رائف ... و لم تلين ملامحه وهو ينظر الى الجرح في فك كريم ببرود .... ثم قال أخيرا بفتور قاسي
( بماذا جرحته ؟!! ......... )
أخرجت المدية من صدر فستانها تحت أنظاره المصدومة .... ثم قالت
( كان يجب أن آخذ احطياطاتي ....... )
ظل ينظر اليها بوجوم قليلا .... قبل أن يضحك بخفوت وهو يقول
( يبدو أنكِ لستِ في حاجةٍ لي يا صغيرة ........ )
نظرت الى وجهه بصمت .... قبل أن تقول بخفوت
( لكل منا وجهة نظر في ذلك ...........)
ضاقت عيناه بشدة .... و نبض قلبه بعنف , فعبس وهو يستدير عنها ليتأمل ذلك المرتمي على السرير ...
كان رائف يدور حول السرير ببطىء دون أن ينزع عينيه عن كريم ... ثم قال بخفوت
( لأول مرة بحياتي أشعر أنني لا أستطيع التمييز بين الصح من الخطأ ..... )
قالت ملك بخفوت
( هل تظن أن ما نفعله خطأ ؟!........ )
رفع وجهه اليها يقول بنبرةٍ ذات مغزى .... و ببطىء شديد بينما عيناه بعينيها
( أنتِ زوجته .... و أنا سآخذكِ معي الآن ..... )
كانت تنظر اليه بصمت طويل دون أن تحيد بعينيها عن عينيه ... ثم قالت أخيرا بهدوء
( ليس لوقتٍ طويل ....... لن أظل زوجته لوقتٍ طويل , هذا لو تحركنا حالا كي نبدأ في الإجراءات ... )
ارتفع حاجبيه و هو ينظر اليها يود لو يقبل قوتها تلك بكل شغفه المضني ... ثم انتشرت الإبتسامة على وجهه تدريجيا قبل أن يقول بنفس الهدوء
( اذن ...... هيا بنا ..... )
نظر حوله وهو يقول منعقد الحاجبين
( أين ال .......... )
ثم لم يلبث أن هتف وهو يضرب جبهته
( لقد نسيت الحقيبة في الخارج ........ )
اندفع الى الباب و هي تقول بحيرة
( أي حقيبة ؟!!! .......... )
رأته يفتح الباب ليتناول حقيبة ساقطة أرضا ثم يعود اليها قائلا
( لقد أقنعتهم في البهو أنني خال العريس و أنني أحمل له بعض الملابس التي يحتاجها ..... )
مد الحقيبة اليها وهو يقول بحزم
( ادخلي الحمام و بدلي ملابسك بسرعة ..... فليس من السهل أن نهربك و أنتِ ترتدين تلك الكومة الخيمية .... )
أخذت ملك الحقيبة و جرت الى الحمام بينما قال رائف بنفس الغباء السابق .... حين كانت ببيته
( هل تحتاجين مساعدة في خلعه ؟! ....... )
أغمض عينيه يلعن غبائه للمرة الثانية ..... يقسم أنه بريء النية , رغم انه الآن بدأ يشعر بالنية تتلوث قليلا ...
لكنه فتح عينيه حين شعر بها تقف مكانها و تستدير اليه ... لم تكن مصدومة مثل المرة السابقة , بل قالت بهدوء مبتسمة
( ليس معنى أنك لا تستطيع حاليا التمييز بين الصح و الخطأ .... أن تتمادى .... )
اتسعت ابتسامتها قليلا .. ثم دخلت الحمام و احكمت غلق الباب خلفها ... بينما كان هو يقف مكانه مذهولا
فالصغيرة تمازحه ... ببساطة ... ووقاحة .... و كأنه ......
رفع عينيه الى باب الحمام و صدره يتضخم أكثر و أكثر ... متسائلا عن عن صحة ما يحدث الآن ...
لكن أفكاره كلها توقفت حين فتحت الباب و خرجت ترتدي بنطالا من الجينز الضيق و سترة رياضية ذات خطاء للرأس خلف عنقها .... بينما أنسدلت ضفيرتها الطويلة على كتفها ......
كانت تبدو كصبي صغير .... و لم تكن يوما أكثر جمالا !!!!
ظل رائف مكانه صامتا .... واجما .... وهو يتأملها من ضفيرتها و حتى حذائها الرياضي ...
قبل أن يقول بخشونةٍ خافتة
( تعالي الى هنا ........ )
اقتربت منه ببطىء الى أن وقفت أمامه بأدب ... فمد يديه و رفع غطاء الرأس فوق شعرها و جذبه على جانبي وجهها بقوةٍ وهو يقول بابتسامةٍ كبيرة حنونة
( أخفي وجهك هذا ...... نريد أن تكلل العملية بنجاح .... )
اتسعت ابتسامتها .... و هي تنظر اليه برقة , بينما أخفض يده ليمسك بكفها يسحبها معه ....
و كانت مستعدة لأن تتبعه لأي مكان ... فقد سلمته ثقتها منذ زمن ....
لكن حانت منها التفاتة أخيرة الى كريم الملقى على السرير ... لكن رائف جذبها بقوةٍ وهو يقول بصوتٍ قاطع
( لا تنظري للخلف مجددا ..... لقد انتهى الامر ... )
نهض من مكانه متأوها بخفوت وهو يرمش بعينيه ... شاعرا بصداعٍ يمزق عقله الغير واعي بعد ...
متأملا المكان الغريب الذي يستلق على سرير وثيرٍ به ...
احتاج الى عدة لحظات وهو ينظر الى السقف الأنيق قبل أن تمتد ذراعه فجأة بعنف .. قابضا على الأغطية الخالية بجواره .... و أغلق قبضته عليها حتى ابيضت مفاصل أصابعه ...مدركا أنها ليست بجواره دون حتى أن يستدير برأسه بحثا عنها ....
و دون حتى أن يستطيع منع نفسه ... كانت عيناه تبرقان بوحشية و صوته يهدر صارخا بجنون و هيستيريا
( ملك ........................ )
و خلال لحظات كان يندفع من جناح العرائس الذي دخله معها ليلة أمس قبل أن يسقط فاقد الوعي ..
و أمام أعين النزلاء و العاملين الذاهلة ...
كان عريس الأمس يخرج من الفندق صباحا مندفعا بعنف وهو لا يزال بحلة الزفاف على الرغم من تشعثها .... كتشعث شعره الناعم الهمجي ... بعد أن قلب المكان مهددا صراخا كالمجنون بأنه سيخرب هذا المكان و يزهق روح كل العاملين هنا ...
استقل سيارته التي كانت تنتظره في مرآب الفندق و انطلق بها ...... و عيناه تدلنان على ان هذا الصبي مجنون ....
و ما ان وصل الى مقر سكن وعد و ملك .. حتى اوقف سيارته بشكلٍ عنيف عشوائي مصدرا صريرا عاليا
ثم انطلق جاريا على السلالم الى شقتهما واخذ يضرب على الباب و الجرس معا صارخا
( ملك ... ملك ..... افتحي الباب ...... )
كانت وعد في ذلك الوقت تعد كوبا من القهوة و هي تدلك شعرها الطويل محاولة السيطرة على الصداع الرهيب الذي لم يفارقها منذ ليلة أمس ....
لكنها انتفضت على صوت ضرب الباب المفاجىء و بهذا الشكل المجنون
رفعت عينيها الى ساعة الحائط ... و هالها أن تكون الساعة لم تتجازو الثامنة صباحا بعد.... و تسائلت عن ذلك الذي يضرب الباب بمثل هذا العنف و في مثل هذا الوقت ...
لكنها ما أن سمعت الصوت الصارخ باسم ملك ... حتى زمت شفتيها بإدراك و رفعت رأسها بقوة و هي تحاول استجماع شجاعتها ...
فتركت فنجان القهوة و تقدمت ببطىء من باب الشقة الذي كاد أن يتحطم الى شظايا تحت قبضة ذلك المجنون ..
و للحظات اوشكت على تركه حتى يضرب رأسه بأقرب جدار ... لكنها نظرت حولها قليلا بتوتر و هي تخشى من تلك الفضائح في بداية الصباح و سمعة ملك التي لا تزال على المحك ...
نظرت الى نفسها و هي لا تزال ترتدي منامتها الفضفاضة ذات المربعات .... و قررت الدخول كي تبدل ملابسها ...
الا ان اهتزاز الباب اثر ضربة اخرى مجنونة جعلها تعدل عن الفكرة حين تيقنت ان الباب لن يحتمل ضربة اخرى تحت قبضته ...
لذا زفرت بعنف و هي تتجه الى الباب .. و ما ان وصلت حتى اخذت نفسا عميقا ثم رمت شعرها الى الخلف و فتحت الباب ...
و كأنما فتحته لعاصفة ... بل إعصار , داهم الشقة و دفعها بعيدا وهو يدخل كالمجنون صارخا
( أين هي ؟! ....... ملك ..... ملك ..... )
ارتطمت وعد بالجدار بعد ان دفعها بالباب .. فتأوهت بصدمة ... و هي تنظر اليه عاقدة حاجبيها , و ما ان استعادت توازنها حتى وقفت و هي تصرخ
( أنت ...... الى أين تظن نفسك ذاهبا ؟! ........ )
الا أن كريم لم يكن في حالةٍ عقلية متزنة تسمح له بالرد ..و هو يندفع من غرفةٍ الى أخرى صارخا باسم ملك ...
جرت وعد خلفه و هي تهتف بغضب
( ليس من حقك اقتحام بيتي بتلك الصورة الهمجية ..... اخرج من هنا قبل أن أطلب لك الشرطة ... )
كانت الغرف قد انتهت أمامه و لم يجد مليكته بعد ... فاستدار الى وعد بقوة ...
حينها صمتت وعد .. و تراجعت خطوة بصدمة و هي تنظر الى عينيه المخيفتين ... حمراوين بلون الدم .. و بهما بريق مسعور ....
رمشت وعد بعينيها و هي تدرك أن الهجوم ليس أفضل وسيلة للتعامله مع هذا الولد ...
اقترب منها كريم ببطىء و عيناه تلمعان بالشرر .. ثم همس بخطورة
( أين ملك ؟ .......... )
تراجعت وعد خطوة أخرى و هي تحاول الحفاظ على هدوئها ... ثم قالت بثبات يستحق الإعجاب
( سؤال عجيب ..... المفترض أن أسألك أنا هذا السؤال ..... أين ذهبت أختى في صباح زفافها ؟!! .... ماذا فعلت بها كي تهرب منك ؟ ...... )
كان كريم يقترب منها ببطىء و عيناه مثبتتان على عينيها ... ثم لم يلبث أن ضرب الجدار بقبضته بكل عنف وهو يصرخ بجنون
( توقفي عن الهراء ..... أين ملك ؟؟ .....)
انتفضت وعد بقوة , و عدت بداخلها .. واحد ... اثنان ... ثلاثة ...
ثم دون كلمة استدارت عنه و هي تنطلق جارية , تنوي الخروج من باب الشقة ... الا أنها وجدت نفسها و قبل أن تصله .. مقيدة بقوةٍ عنيفة , جعلتها تشهق ألما .. وهو يديره اليها بعد أن قبض عليها , ثم أخذ يهزها بعنف
وهو يصرخ بوجهها
( ألى أين تظنين بإمكانك الهرب ؟ّ! ..... هل تتخيلان أنكما ستتمكنان من خداعي ؟! .... أين هي ملك ؟! ... )
كان العالم ينتنفض أمام عيني وعد مع كل هزةٍ عنيفة منه ... و هي تنظر اليه بعينين متسعتين ...
و كل ذهنها يعمل في سبيل ايجاد وسيلة للهرب من ذلك المختل .... ...
رفعت ذقنها أخيرا قائلة و هي تحاول كسب بعض الوقت
( لو أصاب أختي أي مكروه فسأحملك المسؤولية كاملة ...... )
حينها اظلمت الدنيا أمام ناظريه الشيطانين و هاجت نيرانه ... و فقد السيطرة على مكابح غضبه , فرفع يده عاليا و هبط على وجهها بصفعةٍ تركت بصمتها اصبعا اصبع على وجنتها ....
لدرجة أن التوى وجهها جانبا ....
اتسعت عينا وعد أكثر و أكثر .... حتى أنها فقدت القدرة حتى على الصراخ ....
بينما شقت شفتها السفلى و انحدر منها خيط رفيع من الدم الأحمر الدافىء ...
نظر كريم بوجهٍ باهت الى الخيط الأحمر و عينيها المصدومتين المتسعتين ... بينما وقف هو مكانه يلهث بجهد .... و كأنها لحظة انتظار قبل أن يهجم أيا منهما على الآخر ...
ابتلع كريم ريقه بصعوبة وهو يقول بصوت خافت مهتز
( أين ملك ؟! .........)
كانت وعد تنظر اليه بذهول و هي تتنفس بصعوبةٍ ..... لا تصدق أنه يسألها عن مكان ملك متجاهلا الصفعة التي أنزلها على وجهها للتو و مزقت شفتها .....
طرفت بعينها اليمنى مرة .... ثم قالت بعد فترة طويلةٍ بصوتٍ ثابت ... جامد
( لقد بحثت في المكان بأكمله ........... )
رفع يده ليقبض على فكها بقوةٍ جعلتها تغمض عينيها بشدة من الألم وهو يهتف من بين أسنانه
( انطقي أين هي ملك ......... أنطقي ......فأنا لن أتمكن من السيطرة على نفسي أكثر من ذلك )
أولم يفقد السيطرة عليها بعد ؟!!! .... الا يدرك أنه يعاني من اختلال ؟!!! ..
يالله .... كيف لكِ أن تسقطي فريسة فخ هذا المجنون يا ملك ؟! ...... كيف ؟!!! ..
الا أن وعد لم تجازف بنطق افكارها ... بل قالت بهدوء زائف
( الأجدر بك هو البحث عن زوجتك و أرجاعها سليمة .... عوضا عن المكوث هنا لفترة أطول و ضرب أختها ...... فملك لن تكون سعيدة بما تفعله الآن .....)
اشتعلت عيناه أكثر ... و انتفض صدر وعد بخوف ... منتظرة حركة مجنونة منه , الا أنه صرخ غاضبا مجددا وهو يرميها من يديه لترتطم مجددا بالجدار ... تتأوه ثانية بصمت ,
بينما كان هو يندفع خارجا وهو يصرخ كالمجنون بهذيان
( سأجدها ..... اقسم بالله سأجدها .... و حينها لن أرحمكم جميعكم ..... جميعكم ... )
مع كل صرخة من صرخاته كان يطيح بيده اي شيء يصله .... و تعالى صوت التحطيم و التكسر بفظاعة , الى أن خرج أخيرا و أختفى صراخه ...
رفعت وعد يدها الى صدرها اللاهث و هي ترتجف بشدة .... عيناها متسعتان بذهول و قد سمحت لنفسها بالرعب أخيرا ....
و حين عجزت ساقيها عن حملها ... فسقطت جالسة على الأرض و هي تتنفس بسرعة و تعب ...
تحدق بالفراغ محاولة السيطرة على صدمتها ... و ما أن وجدت صوتها حتى همست بذهول
( ياللهي !! ....... ياللهي ....... ما اللذي حدث للتو ؟!! ....... )
صرخ سيف هادرا وهو يستدير عن نافذة مكتبه الضخمة
( تبا لذلك يا علا !!! ..... إنها ثالث مرة أعيد بها شرح ما أريد , لم تكوني بمثل هذا الغباء من قبل !!)
صدمت علا و بهت وجهها ... حتى أنها فغرت شفتيها بصمت و ذهول ... بينما ارتفعت يدها لتلامس بطنها المنتفخة قليلا ثم قالت بصوت مختنق ذاهل
( هذا لأنك أصبحت مختلف الأسلوب ... لم أعد أفهم طريقة عملك , لدرجة أنني بدأت أشعر أنك تتقصد ذلك كي تهينني .....)
نظر اليها بوجهٍ ذاهل مثل وجهها , الا أن ذهوله كان مختلطا بغضب عنيف بدأ يعتاده يوميا .. ثم انفعل صارخا
( أتقصد ذلك لإهانتك ؟!!! ..... )
صمت وهو يضحك بوحشية ملوحا بذراعيه
( ما أروع ذلك !! .. سيف الدين فؤاد يترك ما له و ما عليه و يتفرغ كي يثير غضب السيدة علا المبجلة !!! )
ازداد اختناقها و هي تتمسك ببطنها أكثر ... ثم قالت بصوتٍ منتحب
( سيد سيف أنا أعمل معك منذ عدة سنوات ... لم تشكو مني ولو لمرة واحدة ... كما أنك لم تهني من قبل بتلك الطريقة ..... لو كنت تريد ابعادي عن العمل فقط قلها ببساطة ..... عامة أنا يجب أن أستريح من هذا الضغط العصبي الذي أتعرض له مؤخرا ...... )
و انفجرت في البكاء العنيف فجأة بصوتٍ عالي و هي ترفع يديها لتغطي بهما وجهها ...
حينها تسمر سيف مكانه وهو ينظر اليها مصدوما هو الآخر .... شعر بشعور غريب وهو يراجع ما نطق به منذ لحظات و توقف مذهولا من قدرته على ايذاء امرأة ضعيفة أمامه خاصة بعد عملها سنواتٍ معه
ابتلع سيف ريقه وهو يفتح يديه قائلا بخفوت
( علا ... أنا ....... )
الا أنها رفعت رأسها هاتفة باختناق و نحيب حتى بدت كالأطفال
( أنا آسفة سيد سيف .... اريد العودة لمكتبي , أشعر بالتعب ... )
ثم استدارت و خرجت من مكتبه جريا و هي تبكي بصوتٍ وصله بوضوح و غرابة .... فوقف مكانه ينظر الى مكان اختبائها بوجوم ...
كان في الأيام الأخيرة قد تحول الى شخصٍ همجي , شرس الطباع ... يعلم أن الجميع ينفرون من التعامل معه ....
و كأنه مدمن يحاول انتزاع السم من أوردته ببطىء مؤلم ....
زفر بقوةٍ وهو يرفع يده الى جبهته مطرقا برأسه ... يحدق الى بساط مكتبه الأنيق ... يضع يديه بجيبي بنطاله بتعب و كأن كاهله مثقلا بآلاف الأحمال ...
رفع رأسه للأعلى مجددا وهو يأخذ نفسا عميقا , جعل صدره يتضخم حتى أوشك على أن يقتلع أزرار قميصه ...
وعد ......
وعد .......
أي غباءٍ جعله يضمها اليه ليلة أمس .... و يستشعر نبضها على صدره مجددا !! ....
أي جنونٍ ذلك الذي جعله يطبع قوامها على جزعه بقوةٍ جعلته يستشعر كل ارتعاشة من ارتعاشات جسدها !!
جنونه القديم بعينيها .... الحزن النابض بهما منذ اللحظة التي رفعتهما اليه .. باحمرارهما الآسر و جفنيها المسبلين ..
حينها وجد نفسه يهمس متأوها بداخله بهمسٍ أجش دون أن يصعد الى شفتيه
" مسار طويل يا جارة القمر ...أوله عيناكِ و آخره "
ليضمها اليه متماليا بها .... و دون أن تتأخر كانت قد أحاطت عنقه بذراعيها ...
و قد اختلط اللحن بدقات قلبيهما العنيفة اليائسة ....
كانت تهمس على قلبه باسمه دون أن تعي ذلك .... لكنه كان واعيا لاسمه بصوتها الهامس الشارد ....
واعيا لملمس شعرها على ظهرها و يده فوقه تتنعم بجماله البراق ..
واعيا لكل نبضة من نبضات جسدها الحزين كحزن عينيها ... و كأنها قد ازدادت نحافة و هشاشة ...
يكاد أن يسحق عظامها اللينة لو ضغط عليها بقوةٍ أشد قليلا ....
و طال بهما النغم الى أن أقدم على أغبى خطوة من الممكن أن يقوم بها ....
حيث رفع رأسه و نظر الى عينيها الشاخصتين اليه بذهول ... ثم قال بخشونةٍ خافتة قاطعة
( أتريدين العودة يا وعد ؟! ......... أخبريني بذلك و سأعيدك ..... )
اتسعت عيناها قليلا و فغرت شفتيها و هي تنظر اليه و كأنما صدمة كهربية اصابتها فوقفت أمامه مشدوهة .. ترتجف بوضوح .... فابتلعت ريقها قليلا و رمشت بعينيها مرة قبل أن تقول متلعثمة
( ما اللذي ..... جعلك ..... تغير رأيك .... بهذه السرعة ؟! ..... )
نظر الى عمق عينيها وهو يقول بصوتٍ حازم
( لا أريد أن أظلمك .... آخر ما أريده هو أن أظلمك مجددا ...... )
تجمدت مكانها و تحولت الى تمثالٍ من الرخام و هي تنظر اليه بفراغ ... بينما مد يديه ليمسك بذراعيها بقوةٍ جعلتها تحني رأسها للخلف قليلا تنظر اليه .... ثم قال متابعا بقوة
( لقد جرحتني العديد من المرات يا وعد ..... لكنني لم أطلقك لأعاقبك .... أبدا .... فلو أردتِ العودة فقط انطقي الكلمة .... و سأعيدك الي .... )
طرفت بعينيها المهتزتين قليلا و هي تنظر جانبا الى السماء الداكنة .... تحاول أن تجلي حنجرتها الخشنة ...
و حين طال الصمت بهما ... قال بقوةٍ و صرامة
( أجيبيني الآن يا وعد ....... الآن ....... )
ارتجفت زاويتي شفتيها بوضوح ... لا يعلم إن كانت تحاول الإبتسام بفشل , أم أنها تريد البكاء .... لكنها رفعت عينيها الى عينيه أخيرا .... ثم قالت بهدوء خافت يكاد لا يسمع
( أنت لم تظلمني .......... اطمئن .... )
تسمر مكانه وهو ينظر الى وجهها الشاحب .... عاقدا حاجبيه بشدة , بينما عيناه تلتهبان ..
حينها ابتعدت وعد عن مرمى يديه ببطىء و صعوبة ..... متراجعة بظهرها عدة خطوات و هي تنظر الى عينيه بصمت قبل أن تهمس بخفوت
( آسفة لأنني آذيتك ....... لم أقصد فعل هذا مطلقا .... و لقد آذيت نفسي أكثر ... )
رمشت بعينيها تجلي الغلالة الزجاجية التي تجمعت أمام حدقتيها .. ثم تابعت بإختناق
( آسفة يا ابن عمتي .......... )
ثم استدارت أمام ناظريه المشتعلين و طرقت بكعبي حذائيها على الأرض الرخامية بسرعة و هي تبتعد عنه ... و كأنها لم تكن سوى مجرد سرابا .... و كأن رقصتهما كانت حلما و انتهى سريعا ...
ساعات الليل المتبقية انقضت عليه .... وهو كالمجنون , لم يغمض له جفن من مدى غبائه ...
منظرها و هي تجري مبتعدة عنه لا يزال معلقا بذاكرته بكل عنف ...
رفع سيف رأسه ليزفر بكلِ قوةٍ ضاربا على سطح مكتبه بعنف مما جعل اقلامه تتناثر في كلِ اتجاه ... ثم استند بكفيه الى سطح المكتب هامسا من بين أسنانه ..
( غبي ..... غبي ........ )
أغمض عينيه قليلا محاولا تهدئة نفسه ... فهو مكشوفا للجميع بهذا العنف الذي ينتابه ,
لطالما كان يفتخر بغلاف السيطرة على الذات الذي اكتسبه على مدار السنوات .... و كان الغطاء لعنفه القديم ...
رفع رأسه متنهدا وهو ينظر الى الباب المفتوح .... حيث خرجت علا باكية بعد ان انفجر بها و أهانها ...
المسكينة قد تصاب بأذى من شدة ما تحملته في الأيام الأخيرة ...
عقد حاجبيه وهو يستقيم ناويا اللحاق بها ... و ما أن اقترب كي يخرج من الباب حتى اصطدم به جسدا أنثويا ناعما برقة حتى أن صاحبته تكاد تكون سقطت على صدره ...
ابتعد سيف مرتبكا للخلف قليلا وهو ينظر الى ميرال التي كانت على وشك دخول مكتبه المفتوح ...
بينما علا وجه سيف القليل من إحمرار الحياء الذكوري ... وهو ما يفتنها به منذ أن بدأت تتعرف اليه ... و تراقبه عن كثب ...
ابتسمت ميرال بجمال و هي تعض باطن خدها قليلا ... تراقبه بصمت خبيث ..
من يصدق أن هذا الضخم القوي العنيف ... يرتبك ما أن يصطدم بامرأة !! ..... و هذا ما يجعله غريبا نادرا ...
سؤال قوي لا يزال يداعب ذهنها بفضول عنيف ... هل كانت وعد أول امرأة بحياته ؟! ... و هل كان يرتبك هكذا من التواصل معها حين كانت تحت أنظاره هنا في العمل ؟!
غيرة غريبة لا تناسب مركزها تداهمها تجاه تلك الفتاة النكرة و التي من الظلم مقارنتها بها ... لكنها على الرغم من عدم اهميتها الا أنها استطاعت الإستيلاء على هذا الرجل الرائع المهيب الواقف أمامها ...
تراجع سيف للخلف قليلا وهو يتنحنح بخشونة قائلا بارتباك
( آسف .......... )
وقفت مكانها مستندة الى مقبض الباب بمرفقها تبتسم بإغراء و هي تراه يتجه الى مكتبه بعد أن عدل عن قرار الخروج ... فقالت بنعومة
( لما الأسف ؟! .... أنا التي دخلت دون اذن ..... لكن الباب كان مفتوحا ... )
ابتسمت بجمال ثم همست متابعة
( هل يمكنني الدخول ؟! ....... )
استقر بمقعده وهو ينظر اليها بوجوم قائلا بهدوء
( تفضلي طبعا يا ميرال .... لا تحتاجين الى اذن .... )
اتسعت ابتسامتها و هي تتحرك لتغلق الباب ثم اتجهت اليه برشاقة الى أن جلست تضع ساقا فوق أخرى أمامه ...
ثم قالت بنعومة و هي تسند ذقنها الى كفها
( اذن ..... ماذا فعلت بالمسكينة علا ؟! .... كانت تبكي و وجهها يرثى له .... )
عقد سيف حاجبيه بندم ... بينما علا العبوس وجهه دون أن يجد ردا .... لكنها رأفت بحاله و مالت اليه تشبك ذراعيها فوق سطح مكتبه قائلة برقة
( لا بأس .... علا طيبة و يمكنك مراضاتها بكلمة رقيقة .... المشكلة ليست بعلا و إنما المشكلة بمدير علا ..... الى متى يا سيف ؟! ..... )
رفع وجهه ينظر اليها بصمت ... دون أي تعبير و كأنه لم يسمعها ...
و كأنما تريد أن تمنع عليه طريق التهرب فقد قالت متابعة
( لقد سمعتني و فهمتني ..... الى متى ؟!! ......... )
زفر سيف وهو يبعد وجهه بعيدا ليقول بلهجةٍ جافة
( ميرال رجاءا .... لو الموضوع يخص حياتي الخاصة فلا تتابعي ..... )
رفعت ذقنها و هي تنظر اليه بتحدي قائلا دون رهبة
( بل سأتابع ...... فأنا لن أتخلى عن الرجل الذي أحب بهذه السهولة ....)
رفع وجهه اليها بسرعةٍ ... ذاهلا قليلا بينما ازداد ارتباكه .... لكنه لم يستطع التفوه بكلمة ... بينما كانت هي تتحداه بعينيها ثم قالت بهدوء
( ماذا ؟! ........ أتتعجب من جرأتي ؟! ... ام ستدعي بأنك لم تكن تعرف قبلا ؟! .....)
اطرق سيف برأسه وهو يربت بأصابعه على سطح المكتب ببطىء .... ثم قال أخيرا بخشونةٍ خافتة
( ميرال ...... أنا ......... )
صمت وهو ينظر بعيدا .... بينما كانت هي تتابعه بعينيها بإلحاح ... ثم قالت بعد أن خانته الكلمات للمرة الاولى
( أنت ماذا ؟! ...... أنت مطلق ..... و هذا أنسب قرار اتخذته منذ زواجك بوعد ...)
رفع رأسه اليها قائلا بقوة و جدية
( لا أحبذ نطق اسم وعد هنا .......)
مالت بوجهها و هي تقول بخفوت
( لماذا ؟! ....... لأنك تقدرها أو لأنك تنوى اقصائها من حياتك نهائيا ؟! ....)
رفع عينيه القاتمتين اليها وقال بجفاء
( و هل هذا يشكل فارقا بالنسبةِ لكِ ؟! ......... )
رفعت حاجبيها و هي تقول بجرأة أكبر
( بالطبع ... و فارقا ضخما ,,...... فأنا أفضل الإختيار الثاني بكل تأكيد...... )
زفر سيف بقوة وهو يسأل نفسه غاضبا لماذا لا يكون صارما معها و يمنعها من الخوض بحياته الخاصة بدرجة أكثر جدية ... أنه يتساهل معها مما يجعلها تتمادى في الحديث ...
لكنها وترته بجرأتها و اعترافها الصريح ... فبات غير قادرا على صدها بالقوة ....
رفع عينيه اليها ... يراقبها بصمت , و وهو يعلم أنها في الآونة الاخيرة باتت لا تتواني عن الإهتمام بمظهرها لدرجة الجرأة أحيانا دون اغفال أناقتها الشديدة ....
تراجع للخلف مقعده وهو يفكر أنه لم يكن منيعا تماما تجاهها منذ أن طلق وعد .....
شيئا ما جعله يستشعر وجودها الأنثوي الفج من حوله ..... وهو يعلم علم اليقين أن السبب في ذلك هي وعد نفسها ....
فمنذ طلاقهما وهو يشعر بشعور الرجل المحتاج لوجود امرأة بحياته ... و الحقيقة أن هذا الشعور ينتابه حتى قبل الطلاق .... فالعلاقة بينه و بين وعد رغم عنف مشاعرها .. الا أنها كانت تفتقد الى الراحة و الإستقرار ...
و ها هي خرجت من حياته ... تاركة اياه مشوشا من بعدها .... كأي زوج يتذوق جفاء الحياة بدون امرأة للمرة الأولى ...
بينما قبل أن يقابل وعد ... لم يكن يشعر بنفس هذا الإحتياج لإمرأة ....
وعد دخلت حياته و قلبت كل مشاعره الجسدية و الروحية و أثارتها بتوهج .... ثم خرجت ... أو هو أخرجها .. ليس فارق بين الإثنين ... النتيجة واحدة ...
النتيجة أنه كرجل مطلق , خرج للتو من علاقة زواج فاشلة لا تزال آثارها متوهجة و عاصفة بداخله ... يحتاج الى أمرأة .... مهما حاول الإنكار ....
جسده يتقلب ساخنا ليلا ... و مشاعره تنتفض طالبة وعد .... بينما يستعذب وجود من تمنحه ذلك الإهتمام الرقيق الذي حرم منه ..... أو الذي لم يمتلكه من الأساس ......
انتفض قليلا دون أن يظهر ذلك على عضلات جسده وهو يسمع صوتها يتخلل أفكاره بهدوء قائلا
( طالما قررت المضي بحياتك .... فلا تتردد .... و لا تسمح للحنين بأن يضعفك ....)
كان ينظر اليها بصمت طويلا وهو يراها مثال المرأة التي يحلم أي رجل بها
جميلة بوضوح ... أنيقة لدرجة مذهلة ... عريقة العائلة .... ذكية و طموحة و قد رفعت العمل على أكتافها بكفاءة خلال غيابه ...
و فوق هذا كله .... تنتظره منذ أشهرٍ طويلة ... واضعة حبها تحت يديه .... و كأنها الأنثى الضعيفة التي لا تريد سواه ...
رفعت نفسها أمامه ووقفت تمد ذراعيها المتشابكين أمامها و كأنها تتمطى ... فازداد التصاق قميصها الحريري بمنحنياتها الجذابة الممتلئة ... فابتلع غصة توتر وهو يخفض نظره بصعوبة ...
بينما كانت تراقبه مبتسمة بنفس الإرتباك الرجولي الذي يثير شهيتها و يجعله يختلف عن زملائها في عملها خارج البلاد .... و عن كل رجلٍ عرفته سابقا ...
ثم قالت أخيرا بدلال
( اذن .......... هل نخرج اليوم سويا ؟! ..... أم تتخلى عني ككل مرة ؟ ......)
رفع سيف نظره اليها صامتا وهو يستند الى ظهر مقعده بتكاسل ... يرمقها من تحت جفنيه المظللين ... يراقب محاولاتها التي لا تكل و لا تمل أبدا .....
و حين التقت أعينهما .. واجهته بتحدي و هي تبتسم بإغراء قائلة بكل وضوح
( امنحني الفرصة ..... و امنحها لنفسك ...... )
انتظر ساكنا مكانه عدة لحظات ... ثم قام من مكانه ببطىء وعيناه على عينيها ... و هي تبتسم بخبث صيادٍ يلقي شباكه بمهارة ....
بينما سيف يدور حول مكتبه الى أن وصل اليها واضعا يديه في جيبي بنطاله فوقف أمامه و عيناه لا تزالان تحاولان الغوص بعمق عينيها .... تحاولان بصعوبة شديدة .... دون جدوى ...
بينما الغوص بعيني وعد هو أسهل من شربة ماء ......
أغمض عينيه لجزء من الثانية ... ثم عاد و فتحهما وانتظر لحظة قبل أن يقول بصوتٍ أجش خافت
( أتحبين المأكولات البحرية ؟؟ ........ )
برقت عيناها كقطةٍ مدللة منتصرة .... بينما همست بوله و دلال و ابتسامةٍ حمراء قرمزية
( أعشقها ....... أريد المحار يا سيف )
ثم رفعت يديها تعدل من ياقة قميصه التي لم تكن في حاجةٍ الى التعديل من الأساس ... وهي ترتفع على أطراف قدميها .... فاقترب وجهها من وجهه ...
حينها عاد ليرتبك من جديد و تزداد القتامة على ملامحه وهو يستشعر وجودها الأنثوي ....
لم يكن يوما من المتقريبن من النساء ... الا في حالةٍ واحدة ....
وعد .....
و التي كان يتلهف الى استنشاق رائحة شعرها .... لمس ظاهر يدها بحركةٍ عابرة ...
حتى انه تجرأ ذات يوم على تقبيل وجنتها .....
ضمها الى صدره حين كانت تبكي وحدها في المشفى خلال مرض والدها ....
وعد هي الوحيدة التي جعلت منه رجلا لم يعرفه من قبل .... يتنازل بضعف و يجبرها على قبول هذا التنازل ....
ابتلع غصة مسننة مرة وهو يشعر بالمزيد من الغضب من نفسه .... حين تذكر صراخها ذات يوم
( لا تلمسني مجددا ...... لن أقبل ذلك منك بعد الآن .... فأنا لست حبيبتك السرية و لن أكون )
أغمض عينيه بينما شحب وجهه لتلك الذكرى .... فرفعت ميرال حاجبها و هي تعلم بأنه سافر الى سماء وعد مجددا ...
فوضعت يدها برفق على صدره و هي تهمس برقة
( ألازلت معي ؟! .............. )
رفع سيف يده ببطىء ليغطي بها يدها على صدره ... ثم ربت عليها قليلا برفق , قبل أن يخفضها بإصرار عن صدره ...... و ما أن فتح فمه ليرد بأنه معها .... حتى سمع صوت رنين هاتفه ...
عقد حاجبيه و انتفض قلبه بقلق في اللحظة التي رد فيها سريعا وهو يستدير عن ميرال
( وعد !! ......... )
كان الوقت لا يزال مبكرا جدا كي تتصل به لأي سببٍ كان ..
و زاده صوتها قلقا بعنف و هي تهتف بعنف
( سيف ..... ذلك المجنون كريم , يبحث عن ملك وهو في حالةٍ مريعة ..... لقد تهجم علي و ضربني و منذ أن خرج من هنا وهو ..... )
لم يسمح لها بالمتابعة و هو يقاطعها هادرا بصوتٍ خطير و عينان متسعتان بذهولٍ ... مخيفتان بجنونهما
( ضربك ؟!!!!!!!!!!!! ....... )
انتفضت ميرال برعب من صرخة سيف الشرسة التي زلزلت أرجاء المكان ...
بينما صرخ متابعا و قدا بدا عليه الذهول وهوعلى وشكِ قتل أحدهم
( كيف ضربك ؟! ..... هل أنتِ بخير ؟! ....... )
تأففت وعد و هي تهتف بقوة
( لست أنا المهمة الآن يا سيف ..... المهم أنه يبحث عن ملك كالمجنون .. و أنا أخشى أن .... )
الا أن سيف كان يصرخ وهو يندفع من مكتبه المفتوح هادرا أمام عيني علا المذهولتين المرتعبتين من صراخه العنيف
( كيف ضربك ؟! ....... أجيبي قبل أن أرتكب جريمة .... هل أصابك ؟! ..... )
زفرت وعد بنفاذ صبر و هي ترتجف قليلا دون أن تخرج بعد من تأثير الصدمة ... فقالت بوجوم
( مجرد صفعة .... لا تخف انه مجرد صبي مختل جبان ..... )
صفعة!!
كان سيف قد اندفع الى المصعد وهو يشعر بالجنون يتضاعف أمام عينيه الحمراوين ... متنفسا بسرعةٍ لاهثا من شدة العنف بداخله ...
بينما بقت ميرال بمكتبه و هي تزفر بنفس العمق ... ثم لم تلبث ان انحنت الى سطح المكتب تضربه بقبضتها هاتفة بغضب و نفاذ صبر
( تبا ...... تبا ...... تبا .....)

اما وعد فقد تكلمت أخيرا قائلة بقلق
( سيف ...... سيف ... هل سمعت شيئا مما نطقت به ؟! ....... )
قال سيف بصوتٍ قاتم خطير و باختصار
( سمعت أكثر مما أحتاج .......... )
و دون كلمة أخرى ... أغلق الهاتف وهو يستقل سيارته و يصفق بابها بعنف لينطلق بها ...
بينما ترك وعد تنظر الى الهاتف المغلق بوجهها بوجوم و هي تقول
( لقد أغلق الخط !! ......... ماذا اذن ؟!! ........ ما المفترض أن أفهمه من ذلك ؟! ... )
رمت الهاتف جانبا و هي ترتمي على الأريكة بتعب ... واضعة يدها على معدتها المتقلصة المتألمة ....
و أخذت تنظر الى السقف عدة لحظات لتجلي تفكيرها و تركز على المعتوه الذي هاجمها منذ دقائق ... و الذي يلاحق ملك حاليا ....
لكن لم تكد تمر عدة لحظات و هي شاخصة تنظر الى السقف ...حتى انسدل جفناها ببطىء و أغمضت عينيها .... فراحت في سباتٍ عميق .....
( وعد .......وعد ...... افتحي الباب ..... )
ابتسمت برقةٍ و دلال و هي تسمع صوته العميق يناديها .... وهما لا يزالان بشهر عسلهما , و هي في الحمام تراقب وجنتيها الحمراوين على غير عادتهما ... و شفتيها المنتفختين بأشواقه ...
بينما صوته يطرق الباب خارجا وهو ينادي بصرامةٍ عابثة
( افتحي الباب يا وعد ....... )
فضحكت برقة و هي تعلم نواياه جيدا .... تلك الأيام هي حلم مقتطع من ذاكرة حياتها , حيث غاب عنها الألم و الشقاء و تحولت الى قطة مدللة نهمة ... شعور غريب عليها و كأنها تطفو فوق سحابة وردية
(وعد ........... وعد .... افتحي الباب ...... سأحطمه )
شعرت بالإنزعاج و هي تشعر بصوته يشتد و يهدر غاضبا .... و رنين هاتفها يختلط مع صراخه , فبات الحلم مزعجا بشكلٍ لا يحتمل
فتحت وعد عينيها بصعوبةٍ و تعب ....و هي تنظر حولها حيث تبخر الحلم الوردي ووجدت نفسها مستلقية على أريكة شقتها ....
بينما صوت سيف يبدو هائجا على الباب وهو يضربه مع رنين هاتفها المستمر ...
عبست وعد بشدة و هي تهمس
( ما هذا الإزعاج من بداية الصباح ؟!! ......... )
نهضت من مكانها و تعثرت عدة مرات حتى كادت تقع على وجهها الى ان استقرت واقفة ... ثم اتجهت الى الباب و فتحته ناعسة غبية
ثم صرخت بغضب
( ماذا .... ماذا .... ماذاااااااااااااااااااااا )
وقف سيف مكانه ينظر اليها وهو بحالٍ لا يحسد عليه .. بينما نسي اصبعه على جرس الباب ...
فصرخت وعد مجددا
( كفى ..... كفى .......... )
انتفض وهو يرفع اصبعه أخيرا عن جرس الباب قبل أن يستعيد توازنه و يندفع دافعا اياها الى الداخل وهو يمسك بكتفيها هاتفا بوحشية
( هل أنتِ بخير ؟! ......... )
رفعت يدها تشبكها بموجات شعرها الشعثاء و هي تحاول تذكر ما حدث .... و حين تمكنت أخيرا من الإستيعاب و الإستيقاظ ... حتى تأوهت قليلا
( آآه نعم يا الهي .... نعم .... نعم أنا بخير ...... )
صمتت للحظة تلتقط أنفاسها قبل أن تقول بخفوت
( انتظر لحظة لأرى من كان يهاتفني بمثل هذا الإصرار ..... )
هزها سيف بخشونة وهو يهدر حانقا
( إنه أنا أيتها الغبية ...... كدت أن أحطم الباب فوق رأسك و أنا أظن أن مكروها قد أصابك ... )
ارتجفت وعد قليلا و هي تهمس بوجوم
( لقد غفوت قليلا ........... )
كان سيف ممسكا بكتفيها وهو يتفحصها بعينيه ... كل ذرة منها و كأنه يتأكد أنها بخير ...
الى أن وصلت عيناه الى شفتها السفلى المكدومة و الممزقة .... فكتم أنفاسه بقوة وهو يشتم بهمسٍ لم تتبينه ...
كانت وعد قد استفاقت تماما ووقفت بين يديه .. رافعة وجهها اليه , تنظر الى عينيه الغاضبتين
و حين سمعت همسه الغاضب المتهور ... حتى رفعت أصابعها المرتجفة تمس جرحها و هي تهمس بارتباك
( إنها بسيطة ...... مجرد جرح صغير لا تقلق .... )
رفع سيف يده ليقبض على كفها , و أبعدها عن شفتيها قائلا بخشونة
( لا تلمسيها ............... )
طافت عيناه على احمرار وجنتها اثر صفعة كريم .... و دون أن يدري كان يتلمسها .... و كأن ملامساتها هو رد فعل تلقائي لا يستطيع السيطرة عليه ....
أخفضت وعد عينيها ازاء التعبير العميق بعينيه و الذي كاد أن يغرقها ببحورٍ عميقةٍ مظلمة ...
و نظرت الى نفسها بمنامتها الفضفاضة ذات المربعات .... و هي تلعن الغباء الذي جعلها تنام قبل أن تبدل ملابسها ...
ابتلعت ريقها و هي تقول بوجوم
( إنه شخص مختل يا سيف ..... أخشى أن يتمكن من الوصول الى ملك .... )
كانت ملامح سيف قد تحولت الى حجرٍ صلب لا يلين .... ثم قال بجفاء خافت
( أعرف أنه مختل ... الخطأ خطأي لذا أنا سأتولى أمره .......... لا تخافي على ملك إنها بأمان ..... )
أخذ نفسا عميقا , قبل أن يقول بخفوت
( تعالي لنعالج شفتك المكدومة ......... )
رفعت وعد يدها تبعد شعرها عن وجهها بارتباك و هي تهمس
( لا حقا الأمر لا يستحق .......أنا .... )
الا أن سيف كان قد أمسك يدها و جرها الى المطبخ ...... دون أي اعتبار لكلامها المشوش , ثم أجلسها على كرسي و اتجه الى المبرد ليخرج مكعبات الثلج ....
كانت وعد تراقبه بكتفين منخفضي العزيمة وهو يتصرف و كأنه في بيته .....
للحظات بالفعل تخيلت البيت بيته .... تلك الشقة الأنثوية الصغيرة , تحتوي وجوده الذكوري القوي .... ليكاد أن يملأ المكان كله .....
استدار سيف اليها , فوقف مكانه للحظة وهو يراقب نظرتها الشاردة ... و شفتيها الفاغرتين قليلا كطفلٍ يحلم بليلة سعيدة ....
شعر بداخله بشيء ٍ ينهش صدره و كأنه عطف .... أو شفقة ....
لا يعلم ما هو مكان الشفقة بينهما .... الا أنها شفقة مختلفة , تجعله يريد أن يمنحها كل ما تريده و ترفض طلبه بعناد و اباء ...
اقترب منها ببطىء وهو يسحب كرسيا الى أن جلس أمامها و أخذ يمرر مكعب الثلج على شفتها السفلى ببطىء فتأوهت و انتفضت من برودتها ....
قال سيف بصوتٍ آمر أجش
( لا تتحركي ............ )
سكنت وعد مكانها و هي ترى وجهه القريب من وجهها ... فابتلعت ريقها بصعوبة , و صدمت حين انحدرت عينها على حلقها يراقب حركة عضلتها التي فضحت تأثرها ....
احمر وجهها بشدة ... بينما ابتعد سيف عنها قليلا وهو متضخم الصدر , يبادلها النظر بصمت ....
فأسبلت جفنيها و هي تقرأ السؤال بعينيه ...
" لقد عرضت عليكِ العودة ليلة أمس ...... فلماذا تكابرين ؟! ... "
أغمضت وعد عينيها للحظة و انتفضت حين شعرت به ينهض و يبتعد عنها .... فلم تجد القدرة على فتح عينيها .....
قال سيف أخيرا بصوتٍ جاف
( هل أنتِ معتادة على التعمق في النوم بهذا الشكل ؟!! ......)
رمشت بعينيها عدة مرات و هي تنظر اليه بعدم فهم و كأنه ينتزعها انتزاعا و بقسوة من عالمٍ خاص تحياه ...
فقالت بغباء
( ها ؟!!! .......... )
وضع سيف يديه على وركيه وهو يقف أمامها يهيمنة جبارة قائلا
( حين أتيت و طرقت الباب .... كنت نائمة كالأموات , هل هذه ظاهرة جديدة مؤخرا ؟! ...... الا تشعرين بما حولك حين تخافين أو تتوترين .... )
أغمضت عينيها و هي تزفر بقوةٍ هاتفة
( كفى .......... كفى يا سيف .... لا تبدأ من جديد ..... لقد كرهت تطفلك على حياتي الصحية ... )
رفعت رأسها اليه بعنفوان و هي تنفض شعرها هاتفة بقوة
( أنا بخير ...... بخير .... بخير ... و حتى و إن لم أكن , فلدي طبيب مختص بحالتي , لا تشغل بالك أنت )
بادلها النظر بصمت .... فشعرت بالندم من حدتها ....
لكن الا يدرك أنها آخر ما تريده أو تتمناه هو أن تظهر أمامه بمظر المريضة ..... المحتاجة الى مساعدة ....
الا يعلم كيف يجعلها ذلك تشعر بالتوجع أمامه .......
أطرقت بوجهها أمامه بشرود و الإعتذار يحاول الخروج ..... لكن و قبل أن تنطق ...
سمعت صوتا رخيما ينادي بقلق من الخارج
( وعد ......... وعد هل أنتِ هنا ؟!! .......... )
انتفضت مكانها بذعر و هي ترفع وجهها الى سيف الذي تحولت ملامحه الى ملامح تعرفها جيدا ... تلك الملامح الذي تجعله يبدو و كأنه رجلا منبعثا من زمن الكهوف ....
فتحت شفتيها و هي تهمس بخفوت
( لا بد أنه سمع ...... سيف ..... سيف انتظر لحظة ..... )
كانت وعد تهتف خلفه و هي تجده يندفع خارجا من المطبخ ...
نهضت من مكانها و هي تخرج خلفه جريا ...... لتراه واقفا في مواجهة يوسف الذي دخل من باب الشقة الذي تركاه مفتوحا ....
فابتلعت ريقها و هي تنظر اليهما متواجهان و كل منهما على وشكِ قتل الآخر ....
كان يوسف هو أول من تكلم على الرغم من صدمته الطفيفة في رؤية سيف خارجا من الداخل في هذا الوقت من الصباح ....
فقال بجفاء قليلا
( هل انتِ بخير يا وعد ؟! ..... لقد سمع الجيران صراخا و رأوا رجلا ينزل صارخا كالمجنون ... ماذا حدث ؟!..... )
فتحت وعد فمها لترد ... الا ان صوت سيف قصف كالرعد وهو يستدير اليها قليلا ناظرا الى منامتها
( ادخلي أنتِ ......... )
اتسعت عيناها بصدمة .... الا أن سيف هدر مجددا بصرامة أكبر
( الآن .......... )
عبست قليلا الا أنها تراجعت و ذهبت الى غرفتها تشتم كل أنواع المجانين اللذي اقتحموا صباحها هذا ....
استدار سيف ناظرا الى يوسف وهو يضع يديه في خصره قائلا بهدوء
( أخرج من هنا ........... )
اتسعت عينا يوسف قليلا ... لكنه أخفى عدوانيته بمهارة وهو يضحك بخفوت .... قبل أن يسأل بهدوء
( هل لي أن أعلم بأي حق تتكلم بعد أن طلقتها ؟! ....... )
رد عليه سيف بقوةٍ زلزلت أرجاء المكان
( إنها لا تزال في فترة العدة ...... و قبل أي شيء فهي ابنة خالي و أنا المسؤول عنها .. و علمت أنك دخلت شقتها مجددا بهذا الشكل ... فسيكون حسابك معي عسيرا ...... )
ظل يوسف واقفا مكانه ينظر الى سيف طويلا و عيناه تضمان مشاعر متناقضة , لكنه على عكس سيف كان اكثر قدرة على الحفاظ على هدوؤه ....فقال ببساطة
( حسنا يا ابن عمتها ...... شهرين فقط و تنتهي العدة ... و حينها سيكون لنا كلاما آخر .... )
ثم استدار خارجا من الباب المفتوح ... لكن قبل أن يخرج تماما كان قد استدار مبتسما بسخرية و هو يطرق على الباب قليلا قائلا
( سأنصح وعد فيما بعد الا تترك بابها مفتوح لأي كان ..... فالأغراب لا يمكن التنبؤ بتصرفاتهم )
خرج يوسف من الباب ... و حينها اندفعت وعد الى سيف هاتفة
( ما هذا الذي تفعله ؟! ..... من أعطاك الحق لتطرد ضيفي و شريكي في العمل بهذه الصورة ؟!! .... )
الا أن سيف استدار اليها صارخا بقوة
( اخرسي ........... )
بهتت ملامحها و هي تتراجع للخلف خطوة أمام عنفه ... بينما كانت عيناه الحادتان تعصفان بعينيها ...
ثم قال بجفاء
( سأذهب الآن ............ اغلقي بابك جيدا و لا تفتحي لأي مخلوق ....)
استدار خارجا وهو يقول بصرامة
( و لا تنسي أنني ابن عمتك ......... و سأظل كذلك ..... )
فغرت شفتيها بذهول و هي تراقب خروجه و الباب الذي صفقه خلفه ..... فسقطت جالسة بملامح شاحبة و هي تدرك بأن سيف قد طلقها بمحض ارادته ... الا أنه لن يسمح لها بأن تحاول إخراجه من حياتها ...
هذا إن حاولت !! ... و هذا هو ما تشك به .....
.................................................. .................................................. ....................
لقد حصل على الإتصال الذي يريده ....
اتصال فزع من أمه تخبره أن زوج ملك موجود عند البوابة الخارجية وهو يصرخ بجنون و هذيان مطالبا بها ...
أظلمت عينا سيف وهو يغلق الهاتف قائلا بخفوت متوحش
( كنت أنتظره .......... لقد وفر علي عملية البحث عنه ... )
ثم زاد من السرعة و عيناه تضيقان بتصميم بينما صدره يكاد أن ينفجر وهو يتخيل تلك الكف التي ضربت ما هو ملكه .... وعد ....
و خلال دقائق معدودة ... كان قد وصل و التهبت عيناه مباشرة وهو يجده لا يزال واقفا يضرب الباب بقدمه و تبدو عليه علامات الجنون ...
فأوقف السيارة بصرير عالي ... ثم نزل من السيارة وهو يبدو و كأن الشر قد سكنه و سيطر عليه فصرخ بغضب
( كلامك معي أنا ........... ابتعد عن الباب )
استدار كريم عن الباب وهو بهيئته المشعثة و قميصه الأبيض المفتوح .. بينما شعره متطاير يشاركه الجنون
ضاقت عيناه وهو ينظر الى سيف بشراسة ... يلهث بقوة ... ثم قال أخيرا بصوتٍ مهتز خطير
(أنت ....... أنت .... وثقت بك و بوعدك , حين أخبرتني ان ملك ستكون ملكي ...... )
نزع سيف سترته وهو يلقيها على حاجز صغير .... و اخذ يفك أزرار كمي القميص بكل هدوء .... ثم نزع ساعة معصمه وهو يقول متمهلا بصوتٍ هادىء .... مرعب
( أولا .... ملك ليست ملكا لأحد غير نفسها ..... ثانيا هي كانت عندك وبين يديك , فاذا لم تستطع أنت الحفاظ عليها فهذا لا يخصني .... خاصة أنها استغلت اللحظة الأولى كي تهرب منك .....ثالثا ... )
كان قد وصل اليه .... و في لحظةٍ خاطفة كان قد قبض على مقدمة قميص كريم بيده ... بينما طارت الأخرى في قبضةٍ ذات بأس تلكمه في منتصف أنفه ...
صرخ كريم متأوها وهو ينحني مغطيا أنفه بكفه التي امتلأت دما ... لكن سيف لم يتركه وهو يقبض على حفنة من شعره يرفع وجهه اليه مجددا ....
و رفع يده ليصفعه بكل قوةٍ حتى تهاوت ساقيه لولا أن سيف كان ممسكا بشعره بكل قسوة وهو يقول بوحشية
( ثالثا حين تتجرأ على صفع زوجة سيف الدين فؤاد رضوان ........ يكون فأنت حينها تندرج تحت قائمة المختلين ..... و هذا ما لن أغفره لك ..... )
رفع يده ليصفعه مجددا حتى جرحت زاوية شفتيه و زاغت عيناه ... حينها امسك سيف بمقدمة قميصه بكلتا قبضتيه وهو يقرب وجهه منه ليقول بلهجةٍ تجمد الدم في الأوردة ....
( لو علمت أنك اقتربت ..... مجرد اقتراب ... من أي شارع تمر به زوجتي , أقسم بالله أن أشوه ملامحك و أقطع من لحمك حتى تموت أمام عيني ..... )
ثم رماه أرضا بكل قوته وهو يصرخ
( و الآن اذهب من هنا ..... و ليكن بعلمك أن ملك هي أبعد لك من نجوم السماء )
نهض كريم وهو يبصق دما .... يترنح قليلا , وهو ينظر الى سيف لاهثا ... ثم هتف بجنونٍ خفتت نبرته خوفا
( ما تفعلونه قذارة ..... و أنا لن أتركها ..... لن أتركها ..... )
قال سيف بصرامة و هو يقف أمامه بثبات
( ملك لن تكون لك أبدا بارادتها و رغبتها هي لا نحن.... و خير لك أن تعترف بذلك كي لا يصيبك المزيد من الأذى منا .... و احمد الله أنني لازلت أمتلك بعض من الشفقة تجاهك و الا لكنت قتلتك بعد ما فعلته مع زوجتي ...... و الآن اذهب قبل أن أغير رأيي .... )
استدار كريم وهو يجر قدميه وهو بحالٍ يرثى له .... هاتفا بيأس لم يعترف به بعد
( لن أتركها لكم ...... لن أتركها ..... )
خرج تحت أنظار سيف الذي كان ينظر اليه بصمت ... متسائلا كيف صار حليما الى تلك الدرجة التي جعلته يسمح له بالخروج على قدميه .... فطوال الطريق وهو يفكر كيف سيخرجه من هنا كسيحا كي لا يفكر مجددا في التهجم على أي من بيوته ..... او من يخصونه .....
.................................................. .................................................. ......................
تنهدت وعد و هي تقول بتعب ممسكة بهاتفها
( هل أنتِ متأكدة من أنه لا يستطيع الوصول اليكِ ؟!! ..... الآن فقط صدقتك ... إنه مجنون تماما و أصبحت مرتعبة من فكرة أن تطالك يداه ..... )
اظلمت عينا ملك قليلا و هي تنظر الى نفسها بالمرآة .....
نعم يمكنها تخيل أن تطالها يداه ..... فقد حدثت بالفعل عدة مرات من قبل .... حين كان فاقدا لكل قوانين العقل و المنطق ...
تنهدت ملك بصمت و هي تشعر بالأسى على ذلك الماضي ...
من المفترض أن تشعر بالخوف و الرعب .... فهي فعليا تأذت أذى يرقى الى مستوى الجرائم على يديه ...
اغتصاب .. تزوير ... اجبار على الإجهاض ....
اليس من المفترض الآن أن تشعر بالرعب لبحثه خلفها ... خاصة بعد هربها منه بتلك الصورة ؟!
لكن الغريب أنها لم تشعر بالخوف ....
لأن رائف بالخارج ..... انه ينتظر خارج الكوخ الصغير منذ ليلة أمس ... أو ما تبقى منها ...
ما يقارب عدة ساعات وهو جالس في الخارج .... بعد أن أقسم لها بأنه لن يغادر .... أبدا ...
على الرغم من أن كريم لا يعرف مكان هذا الكوخ ... الا أنه أقسم لها أنه لن يغادر بابه كحارسٍ أمين ....
ابتسمت قليلا برقة على الرغم من الألم الظاهر بعينيها الجميلتين .... و اصابعها الرقيقة تلاعب خصلة من شعرها الهائم الطويل ....
ثم قالت بخفوت
( لا تخافي يا وعد ...... رائف يحرسني بحياته ... )
عقدت وعد حاجبيها و هي تدور حول نفسها تكاد القرون ان تنبت من رأسها من شدة الغيظ و هي تهتف
( رائف ..... رائف .... بالله عليك كلما استدرت وجدت رائف هذا يقف خلفك ... من هو هذا الرائف الذي ظهر لنا في الحظ حديثا ؟!! ..... بالله عليكِ لماذا تثقين به ؟!! ..... إنه خال المختل ..... كيف نثق بأنه لا يساعدهم ؟!!! ..... )
زمت ملك شفتيها و رفعت ذقنها ثم قالت بثقة
( أنا أثق به ....... لقد وضعه القدر بطريقي .... لا أعلم كيف كانت حياتي لولا مسانداته لي .... )
زمت وعد شفتيها هي الأخرى .... فبان الشبه بينهما في تلك اللحظة .. ثم قالت بثقة
( أنا لا أثق به ........... )
هزت ملك رأسها يأسا ... ثم قالت بهدوء
( الا تثقين بسيف ؟!! ........ )
عقدت وعد حاجبيها و توتر قلبها قبل أن تقول بخفوت مرتبك
( طبعا أثق بسيف ............ )
ابتسمت ملك و هي تقول
( وهو يثق برائف .... و أرسلني معه بدلا من بيته لأنه أول مكان سيبحث به كريم .... )
مطت وعد شفتيها و هي تفكر بامتعاض
نعم ... بينما غفل عن امكانية تهجم كريم عليها هي .....
تعلم أنها غير منصفة , فلا أحد تخيل أن يفقد كريم البقية الباقية من عقله و يتطاول عليها بهذا الشكل ...
قالت وعد أخيرا بجمود
( اذن متى سأراكِ ؟!! ..... الى متى ستظلين هاربة بهذا الشكل ؟!! .... )
تنهدت ملك و هي تقول بخفوت
( رائف يقول سأظل هنا الى أن يتم الحكم بقضية الخلع التي سنرفعها .... و يتأكد من محضر عدم تعرض سيتقدم به تجاه كريم ....... )
عبست وعد و هي تقول بخفوت
( ألن أراكِ لكل هذا الوقت ؟!! ...... ربما يمكنني المجيء اليكِ اذن ... )
قالت ملك بخفوت
( قد يتبعك كريم ...... أي شيء متهور متوقع منه ..... )
تنهدت وعد و هي ترتمي جالسة على حافة سريرها لتقول بيأس ضاغطة على جبهتها
( أنا أحتاجك يا ملك .... العمل يتضاعف بشكل مهول .. حتى أنني زدت العاملات اثنتين جديدتين و أيضا لا نستطيع اللحاق بكثرة الطلبات ....... )
ابتسمت ملك و هي تقول برقة
( مبارك يا وعد ...... أنا سعيدة من أجلك جدا ...... )
رفعت وعد رأسها و هي تقول بغيظ
( انه عملنا معا يا غبية .... لذا يجب ان تتواجدي معي .... تساندينني ..... كما أن بعد التصميمات لن يظهر جمالها في الصور الدعائية الا بقياسها عليك ..... أنتِ الوجه الدعائي لنا .... )
ضحكت ملك لأول مرةٍ بنفسٍ صافية منذ عدة أشهر ... ثم قالت بخفوت
( هذه فكرة يوسف و انتِ صدقته .... أنا لست وجها دعائيا أبدا .... و لا اعتقد أنني سأكون ... )
قالت وعد بجدية
( لقد سألني عنكِ عميل هام ..... يريد طلبا بالجملة و يريدك أن تكوني العارضة الأساسية لهذه الطلبات ... )
عادت ملك لتضحك و هي تقول بعدم تصديق
( ياللهي .... لقد ذاع صيتي و أصبح العملاء يطلبونني بالإسم للحصول على مجرد صورا مني !!! .....)
قالت وعد بجدية
( و ما المشكلة في ذلك .... طالما سيجعلك الوجه الأساسي لتصميماتنا بالإضافة لكونك شريكة بالعمل ... انه شيء لطيف و سيزيدك ثقة بنفسك و ينسيكِ ما مررتِ به .... )
تنهدت ملك و هي تقول
( لا أعلم يا وعد ....... أنا على مشارف قضية خلع و العديد من المشاكل .... و قد يثير ذلك حفيظة كريم و جنونه ...... )
عبست وعد بشدة و هي تقول بصرامة
( هل ستسمحين له بالتحكم في المتبقي من حياتك ؟!! ....... )
نظرت ملك مجددا الى عينيها في المرآة ... و تعجبت أن رأت اصرارا جديدا يلمع في عمقهما العسلي اللون ...
و دون تفكير قالت بثقة
( مطلقا ......... لقد أخذ ما يكفيه , و أقصى ما أستطيع تقديمه ....... لذا كفى تعني كفى .... )
أغلقت ملك الخط مع وعد و هي تنظر الى نفسها بابتسامة غريبة ... جديدة ...
الا أن تلك الإبتسامة تجمدت قليلا حين التقت عيناها بالعينين في الصورة المعلقة خلفها فوق السرير ....
استدارت ملك تنظر الى الصورة ... تلك الصورة التي تشع عيناها حيوية ...
حين دخلت الى البيت منذ عدة ساعات ....
وجدت رائف يرافقها تماما كالمرة السابقة ... لكن هذه المرة وجدته يشير الى عدة أكياس جديدة وهو يقول بخفوت دون أن ينظر الى عينيها
( لقد جلبت لك بعض الملابس لتناسب الفترة التي ستقضينها هنا )
كان من المفترض وقتها أن تشعر بالسعادة لإهتمامه ... الا أنها شعرت ببعض الجمود و هي تستشعر نفوره من فكرة ارتدائها ملابس زوجته المتوفاة و التي لا يزال يحتفظ بها حتى الآن ...
المرة السابقة حين ارتدتها لم تكن في حالتها العقلية المتزنة ... كانت تريد أن تخلع ثوب الزفاف بأي طريقة ....
الآن هي في كامل وعيها .. و من المستحيل أن تعيدها .... لكنه سبقها و أحضر لها الملابس الجديدة خوفا من أن تكرر فعلتها الحمقاء مجددا .....
ترى هل يمرغ وجهه في ملابسها كل ليلة ليتشمم عطرها الراحل ؟!!
كانت ملابس زوجته مغسولة و قد تأكدت من ذلك .... لكن الصورة لم تبارح تفكيرها ...
منظررائف وهو مستلقيا على هذا السرير الواسعلا ... يستنشق عطر ملابس زوجته المتوفية ....
خاصة و أن هذا الكوخ يبدو كمحرابٍ لحبهما .... به صورها و ملابسها و كل أغراضها الخاصة ...
مرتبة بعناية ... في مكانٍ بعيد ... لا يعرفه كريم حتى ....
أي أن رائف أخفاه عن عائلته و منح سره لإثنتين فقط ...
رؤى .... و هي .....
أطرقت ملك وجهها ببطىء و هي تهمس دون أن تدري
( لقد تطفلت على مخبئكما السري للمرة الثانية ....... و أنا آسفة لذلك ... )
صمتت قليلا ... ثم عادت لترفع عينيها اليها و هي تهمس بصوتٍ باهت
( هل كان يحبك الى تلك الدرجة ؟!! .......... )
هزت رأسها قليلا و هي تضحك بسخرية قائلة
( سؤال غريب ...... فرجلٍ مثل رائف من الظلم أن يوصف حبه بالحب .... رجل مثله لا يستطيع الا أن يكون أكبر العاشقين ..... رجل يمكنه أن يخبىء امرأته بداخل قلبه و يغلقه عليها بمفتاحٍ مدموغٍ على راحة يده ..... )
صمتت قليلا و هي تبتلع ريقها بعدم تركيز .. ثم عادت لتهمس و هي تنظر الى الصورة
( لقد نعمتِ بعشقه .... لكنك رحلتِ سريعا .... سريعا جدا , ... و على ما يبدو أنه لم يسمح برحيلك بعد )
جلس رائف منحنيا للأمام ... مستندا بذراعيه الى ركبتيه ... ممسكا بفرعِ شجرةٍ رفيع , يخط به على بعض الرمال المتناثرة أمامه .....
منذ عدة ساعات وهو يجلس أمام باب كوخه الصغير ... على الأريكة الخشبية العريضة بجوار سيد الذي رآهما يدخلان الى الكوخ ... و خلال عدة دقائق خرج رائف كالعادة ... لكن دون أن يغادر هذه المرة ..
بل جلس الى جواره دون كلام ..... فتنهد سيد وهو يهز رأسه صامتا ... و أخذت أكواب الشاي تتوالى عليهما و هما جالسين يتجاذبان أطراف الحديث ... الى أن شرد رائف منذ بعض الوقت
جذب سيد الأرجيلة و أخذ يشعل حجرها وهو يلوح أمامه ... ثم مدها الى رائف قائلا
( تفضل يا سيد رائف ....... )
رفع رائف رأسه متفاجئا وهو ينظر الى الأرجيلة المشتعلة ذات الرائحة القوية .... فرفع حاجبيه يقول بقوة
( لا يا سيد شكرا ..... لقد توقفت عنها منذ أيام الدراسة ..... )
عقد سيد حاجبيه وهو يقول بلهجته الصعيدية
( خذ يا رجل ..... و أشعل بها ما يضايقك ..... )
ظل رائف ينظر اليها بطرفِ عينيه .... قبل أن يأخذ انبوبها الطويل مستسلما وهو ينفث دخانها القوى في السماء رافعا رأسه بشرود ...
و كان سيد قد حضر له واحدة أخرى يحتفظ بها للطوارىء .... فنفس دخانها في الهواء هو الآخر .. ثم قال بجدية وهو يكتم أنفاسه
( كل مشكلة و لها حل يا سيد رائف ...... )
نظر رائف الى سيد بطرفِ عينيه وهو يسحب نفسا من الأرجيلة ... ثم قال بلا تعبير
( حقا !!! ............ )
أومأ سيد برأسه قائلا بأهمية و تأكيد
( طبعا ...... خذها كلمة مني .... لقد مر وقت طويل بعد زوجتك الأولى رحمها الله )
ضيق رائف حاجبيه وهو ينفث دخان الأرجيلة ... ناظرا الى سيد بتوجس و ارتياب .. ثم قال بهدوء
( و ما المشكلة في ذلك ؟!! ......... )
سحب سيد نفسا من أرجيلته ومائها يصدر فقاقيع كثيرة .. ثم نفث دخانها في الهواء وهو يقول
( كل المشكلة ...... على ما يبدو أنك نسيت الإهتمام بنفسك و أنت تشغل بالك بكل من حولك ... و نسيت أنك رجل له متطلبات ...... )
عقد رائف حاجبيه أكثر وهو يسحب نفسا عميقا ...... مستمعا لسيد بصمت ....
لكنهما انتفضا فجأة حين فتح باب الكوخ و خرجت ملك منه بهدوء ... متلحفة بشال خفيف , تضم به جسدها ... و شعرها الطويل ينسدل من تحته واصلا الى فخذيها ...
كانت كأجمل ما قد يبدأ به الصباح .... لوحة نادرة الوجود تكاد تكون شفافة لتنبض الحياة منها ...
اتسعت عينا ملك و هي تنظر اليهما قائلة بصدمة
( ماذا تفعل يا رائف ؟!!! ...... هل أنت معتاد على تدخين الأرجيلة ؟!! ......منذ متى ؟!! .... )
أسرع الى مناولة سيد أمبوب الأرجيلة بيده وهو يقول بخفوت
( لا .... كان مجدر نفسا فقط ............ لقد توقفت عنها منذ أيام الدراسة .... )
رفعت ملك ذقنها و هي تقول ببرود
( مجرد نفس !! ....... واضح ........ رائف من فضلك أريدك قليلا ........)
ارتفع حاجبيه قليلا وهو يرى تلك الصغيرة تخاطبه بلهجةٍ حازمة و كأنه يصغرها سنا .... لكن على الرغم من ذلك كان وقع لهجتها عليه لذيذا ... منعشا .... به رنة تجعله ينزل الى عمرها ....
فنهض مسرعا بينما أخذ سيد يلوح ليطير الدخان بعيدا وهو يقول بسرعة
( اذهب يا سيد رائف ..... الصلح خير ......... )
استدارت ملك تنظر اليه برقة من فوق كتفها ثم نظرت الى رائف مبتسمة و هي تقول برقة عاقدة حاجبيها قليلا
( اي صلح هذا الذي هو خير ؟!! .......... )
عقد رائف حاجبيه وهو يقول بخفوت
( مرري الكلمة ..... و معظم كلام سيد منذ هذه اللحظة ..... )
ضحكت قليلا ... ثم ابتسمت و هي تراه يقف أمام الباب ليمد يده يدعوها للدخول قبله مبتسما
مما جعل زاويتي عينيه تتغضنان بتلك الحركة التي تحبها و تجعلها تشعر أن كل شيء على ما يرام ....
بل رائعا ...
نظرت الى عينيه للحظة ... فابتعد بعينيه عن عينيها ..... فدخلت و هي تبتسم أكثر و برقةٍ أكبر
دخلت و هي ترتجف قليلا دون سبب ... ثم سمعت صوت الباب ورائف يغلقه بهدوء خلفه ...
ثم قال بخفوت
( هل كل شيء على ما يرام ؟!! ...... هل تحتاجين لأي شيء ؟! .... )
استدارت اليه مكتفة ذراعيها و هي تدعي رسم الصرامة على وجهها قائلة بهدوء
( أرجيلة يا رائف ؟! ....... و في مثل هذا العمر؟! ....... )
ارتفع حاجبيه ... و ارتبكت أحشائه و تعقدت ... بينما كانت شبه ابتسامةٍ تحارب للظهور على شفتيه وهو يقترب منها ببطىء ... ناظرا اليها دون أن تحيد عينيه عن عينيها ....
ارتبكت ملك قليلا ... بل كثيرا في الواقع و هي تراه يقترب منها ... و عيناه جريئتان في النظر الى عينيها بخلاف عادته في الهرب بهما عن عينيها ...
لكنه توقف على بعد عدة خطوات منها كانت كفيلة لتزيد ارتباكها ... فزادت من ضم جسدها بذراعيها الى أن أطرقت بوجهها المحمر .. غير قادرة على متابعة تحدي عينيه ... فقال بهدوء و ثقة
( أولا ..... لقد كانت مجرد عدة أنفاس .... لتمضية الوقت الذي أقضيه على باب القصر و أنا أحرس الأميرة بداخله ..... )
شهقت ملك بصمت و هي ترفع وجهها اليه مذهولة ... فاغرة شفتيها قليلا و هي تسمع كلامه الغريب ...
و ما أن نال ما يريده من ذهولها و عودتها الى عمرها بعد ان كانت تمثل دور ناظرة المدرسة ... حتى ابتسم أكثر و تغضنت زاويتي عينيه أكثر وهو يضيف بجفاء مصطنع
( ثانيا ..... لا تلمحي لرجلٍ بأنه قد تقدم في العمر ...... أبدا ...... )
على الرغم من انفعالها و ارتباكها الذي كادا أن يفتكا باتزانها الداخلي ... الا أنها كانت هادئة ظاهريا .. متسعة عينين ... متوردة الوجنتين ... فقالت بخفوت محاولة السيطرة على نفسها
( أنت لست متقدما بالعمر ....... )
رفع رائف احدى حاجبيه وهو يقول هامسا مبتسما ليقترب منها خطوة أخرى
( لا ؟!! ......... )
لم تستطع الرد وقربه منها يربكها ... فاكتفت بأن هزت رأسها نفيا ببطىء و عيناها بعينيه ...
فازدادت ابتسامته قوة وهو يقف ليقول بخفوت
( جيد .......... )
أسبلت جفنيها قليلا و هي تزداد احمرارا ... فقال رائف بجدية
( هل كنت عند كلمتي يا ملك ؟! ...... هل تثقين بي الآن ؟! .... أخبرتك ألا تخافي ...أخبرتك ألا أجعل رجلا آخر يمسك الا على جثتي ..... )
هل كان يعي ما نطق به للتو ؟!!! .... أم أنه كان مغيبا وهو ينظر اليها بتلك الطريقة ؟!! ...
إن كان سيمنع أي رجلٍ (آخر) من مسها .... فمن هو الرجل الأول ؟!! .... هل يقصد كريم ؟!! ...
لا .. لا ... لا تظن أن هذا هو ما قصده .....
فكرت ملك بذلك مصدومة ثم رفعت وجهها اليه وهي تقول بكل قوة
( لطالما وثقت بك يا رائف .......... )
و هنا اتسعت ابتسامته .... لتظهر أسنانه كلها ... و كانت تلك طفرة من نوعها .... ثم قال أخيرا بلهجةٍ ذات مغزى
( اذن احتفظي بتأكيدك هذا ...... فسأطالبك بعد فترةٍ ليست بطويلة .... )
ظلا ينظرانِ الى بعضهما طويلا دون الحاجة للكلام ... و كأن حوار أعينهما كان أعمق من أن يفهماه ...
أو أن يستوعبه كلاهما ...
ابتلع رائف ريقه بخشونةٍ ثم تنحنح قائلا بجدية و صرامة لطيفة
( اذن يا أميرة ..... ماذا كنتِ تريدين مني ؟!! .... )
رمشت بعينيها وهو يفيقها من حلمٍ لم تراه بعد ... و همست بعدم فهم
( ماذا ؟!! ......... )
ابتسم رائف قليلا ليقول بصوتٍ رجولي به لمحة من العبث
( لقد حططتِ علينا أنا وسيد كالصقر في ساعةٍ مبكرةٍ من الصباح لأنك تريدينني بشيء ما .... فما هو ؟! ... هل نسيتي ؟!! ..... )
تلجمت قليلا و هي تحاول عبثا تذكر فيما كانت تريده ... بينما هو ينظر اليها مبتسما ... سعيدا سعادة طفولية لم يعرفها منذ وقتٍ طويل ...
الى أن رفعت ملك وجهها و هي تقول متذكرة
( آآه ...... كريم ......... )
أظلمت عيناه و تعقدت ملامح وجهه ... ما أن نطقت الإسم على شفتيها .....
و ذكرى قبلته السافرة ليلة أمس تمزق أحشائه .... لكنه تمالك نفسه و قال بخشونةٍ و جفاء
( ماذا به ؟! .............. )
ارتجفت قليلا من مظهر وجهه القاسي ... وهو مظهر باتت معتادة على تلك الملامح حين تقسو فيما قد يمسها بسوء .... و على الرغم من شعورها بالأمان الا أنها لم تتمنى أن تثير غضبه و ....... ألمه ...
فأطرقت بوجهها و هي تقول
( لقد هاجم وعد هذا الصباح ...... و كان كالمجنون .... )
انعقد حاجبي رائف أكثر و أظلمت عيناه أكثر و أكثر ... لكنه قال بقلق
( هل مسها بسوء ؟!! ........... )
تنهدت ملك و قالت بخفوت
( إنها بخير ....... لكنني أخشى عليها مما قد يفعله مجددا ..... أنا أعرف كريم يا رائف .... أعرف ما يستطيع فعله ..... يمكنه في لحظةٍ أن يتحول لشيطان لا يخضع لضميرٍ أو اي شعور انساني ...... )
رأت عضلة في حلقه تتشنج بشدة .... فعلمت أنه فهم قصدها ... و آخر ما كانت تريده هو أن تشير الى اغتصابها من جديد ... لكنه قرأ التلميح رغما عنه و عنها ....
فاقترب منها الى أن وقف أمامها .... لكنها كانت قد أخفضت وجهها دون أن تجرؤ على النظر اليه ...
و حين يئس من أن تنظر اليه .... مد يده ليقبض على وجنتها يرفع وجهها اليه وهو يقول بخفوت و بنبرةٍ آمرةٍ صلبة
( انظري الي .......... )
ابتلعت ريقها تحت يده الممسكة بذقنها .... و لم تجرؤ على تنفيذ أمره , فأعاد بلهجةٍ أكثر أمرا .... و أكبر حنوا
( انظري الي يا أميرة ....... )
تجرأت بعد مجهود على رفع حدقتيها الحزينتين الى عينيه ... المتغضنتين لكن دون ابتسامةٍ هذه المرة ...
فقال رائف بنبرةٍ بها انفعالٍ قوي وهو ينظر لعينيها دون أن يحررهما
( ماذا أفعل لأنسيكِ ما مررتِ به ؟! ........ فقد قولي و أنا حاضر .... )
ابتسمت بارتجاف .. الا أن ابتسامتها لم تصمد فانهارت بسرعة ازاء الإنفعال المرتسم بعينيه ... لتقول باختناق
( هذا هو فقط ........ فقط كن حاضرا ....... لا أحتاج أكثر من ذلك ..... )
صمت للحظاتٍ وهو ينازع شيء ما بضراوة ...... و عيناه تسألان السؤال دون أن تجرؤ شفتيه على النطق به ... الى أن قال أخيرا بقوةٍ دون أن يدرك بأن القوة قد انتقلت الى قبضته و هي تشد على ذقنها
( ملك أتتز ............... )
صمت في اللحظة الأخيرة ..... بينما ملك تنظر اليه بعينيها المتلهفتين لسماع ما يريده .... و حين ظل صامتا منعقد الحاجبين و كأنه يتألم ... قالت بنفس قوته
( ماذا يا رائف ؟!! ...... كنت ستسألني سؤالا .... لماذا صمتت ؟!! .... )
كان هو من ابتلع ريقه هذه المرة .... و أصابعه تربت دون وعي على بشرة وجنتها .... متأملا كلِ ذرةٍ من ملامحها البيضاء الناعمة البريئة ....
فقالت ملك تترجاه .. بل تتوسله بنفاذ صبر يائس
( ماذا يا رائف ؟!! ........ كنت تسألني شيئا ..... )
أغمض عينيه لعدة لحظات ... قبل أن يتنهد مسقطا يده عن ذقنها قائلا بصبر
( كنت أسألك ...... أتجدين الملابس التي أحضرتها لكِ مناسبة ؟!! ..... )
تبلدت ملامحها ... و زمت شفتيها و هي تنظر اليه بيأس ..... و ظلت صامتة تحاولة التغلب على خيبة الامل التي ضربتها .... الى أن قالت في النهاية بفتور
( إنها جيدة ......... شكرا لك ..... )
عبس رائف وهو يقول باهتمام لطيف
( لكن ملامح وجهك تنطق بالعكس ...... ألم تعجبك ؟! .... لقد مضى على آخر مرة اشتريت بها ملابس نسائية زمنا طويلا .....لكنها على الأقل تفي بالغرض في الظروف الهامة ... . )
كلامه العفوي كان يصفعها بشدة ..... هل كان يبتاع ملابس زوجته بنفسه ؟!! ....
تنهدت و هي تحاول التغلب على خيبتها المضاعفة ... فقالت تفتعل الإبتسام
( إنها رائعة يا رائف ............. بل أكثر من رائعة في الواقع ... )
رفعت عينين مداعبتين اليه و هي تقول مبتسمة برقة بشفتيها المتكورتين المازحتين رغم خيبتهما
( وهل فستان السهرة الذي وجدته ..... يفي بالغرض للظروف الهامة ؟!! .... )
رفع رائف يده يحك مؤخرة شعره وهو يقول بحرج و قد سحرتها ملامحه الرجولية المجفلة
( آآه هذا الفستان !! ..... هل وجدته؟! .. كان من المفترض أن يكون لمناسبةٍ مهمة و قد نسيت أن أخفيه ... )
الحقيقة أنها ذهلت حين رأت صباحا فستانا معلقا في الدولاب ... بهرها بجماله و بساطته ...
فستانا من الشيفون الأبيض .... بل رقته تكاد أن تكون قاصفة .... و الأزهار الصفراء تغطي صدره و أكمامه ...و حوافه السفلية .... لينزل منسدلا على قوام من سترتديه بأناقة و رقي ....
شكت للحظة أنه يخص زوجته على الرغم من أنها لم تراه المرة السابقة .... لكن فضولا جعلها تفتش الفستان الى أن رأت بطاقته لا تزال معلقة بعنقه .....
و كم انتظرت من وقتٍ كي تسأله عن السبب الذي جعله يشتري هذا الفستان لها
لكنها تماسكت و هي تقول بحياء و فضول
( اي مناسبة تلك ؟! ........... )
نظر اليها رائف و عيناه تنطقان بالكثير ... ثم قال أخيرا بهدوء
( الإحتفال بحصولك على الطلاق ..... نهائيا و الى الأبد ..... )
برقت عيناها للحظات و هي تميل بوجهها ... تتخيل موعدا ضرب بينهما تكون به حرة و تجلس الى جواره ....
تنهدت برقة و هي تهمس بتعب
( اذن فهو موعد بيننا .... متى يحين ؟ ...... متى يحين ؟؟ ... )
برقت عيناه هو الآخر .... ثم قال بخفوت
( قريبا ...... قريبا جدا يا ملك .... ...... )
ابتسمت له .... فاهتزت نبضاته و فقد احداها فاختل توازنه ....
أطرق رأسه وهو يحاول تجلية حلقه ... ثم قال بصوتٍ أجش قليلا
( لم تخبريني ..... هل تحتاجين لأي شي ؟! ....... هل البيت نظيف كما يجب ؟؟ ..... )
أومأت برأسها ببطىء و هي تبتسم له برقة .... تتأمله قبل كل كلمةٍ تنطقها .. ثم همست
( إنه نظيف جدا ......... كنت أنوي تنظيفه ما أن استيقظت , لكنني لم أجد ما أفعله ......... من ينظفه ؟؟ زوجة سيد ؟؟ )
ابتسم رائف وهو يقول بهدوء دون حرج
( بل أنا من أنظفه بنفسي باستمرار ...... لكنني بذلت جهدا أكبر لقدومك .... )
ذهلت ملك و فغرت شفتيها ... ثم همست بعدم استيعاب
( المكان تم كنسه ... و مسحه ..... هل فعلت ذلك بنفسك ؟! ...... )
عقد حاجبيه بفخر وهو يمسح على قميصه النظيف الغالي
( شيء بسيط سيدتي ........ أنا رجل متعدد المواهب )
نظرت اليه تتأمله .... وسيما ... وقورا ... يحتل الشعر الفضي رأسه مما يزيد من جاذبيته .....
ملابسه الأنيقة و عطره الأخاذ يسحرها .... لكن كل ذلك يغلف رجلا غريبا من نوعه ... يهب من فوره لنجدة فتاة في مأساة ... حنون وهو يعتني بخاله ... والد زوجته المتوفاة حتى يومه هذا ....
بسيط لدرجة أن ينظف البيت بنفسه .!!....
همست ملك بانبهار
( لماذا لا تستعين بمن يتولى المهمة ؟!!....... )
صمت رائف قليلا وهو يتهرب من عينيها ... شاردا بعينيه للحظةٍ خاطفة في المكان من خلفها , قبل أن يقول بهدوء خافت
( لا أحب أن يدخل أحد الى هذا المكان ..... أفضل الإعتناء به بنفسي ... )
و مع ذلك أدخلها هي ؟!! ......
فكرت ملك في ذلك بوجع و كأنه لكمة في منتصف صدرها .... و مما زاد الوجع أنه ابتعد عنها خلال لحظة ... فقال بنفس الهدوء لكن دون انطباع يريحها
( بما أنني هنا ...... هل يمكنني الدخول الى غرفة النوم لعدة لحظات , إن كان لا يضايقك هذا .... )
شعرت بنفسها تنتفض من صوته الذي تغير اثر مطلبه الموجع .... مما جعلها تفغر شفتيها بصدمة ...
و كأنه غاب عنها فجأة ..... و كأنه رحل الى عالمٍ آخر ....
فأوجعها وجعه .... و آلمها أكثر مما ينبغي ويسمح به وضعها ..
لكنها قالت باختناق جامد
( انه بيتك ........ كيف تطلب الإذن كي تدخل احدى غرفه ؟! ..... )
استدارت عنه و هي تحارب ظهور دموعٍ حارقة بعينيها .... دموع أنانية .... قاسية ....
ثم قالت بقنوط
( تفضل ........... )
وقف مكانه للحظة , ينظر الى ظهرها المتصلب ... و شعرها المنهال عليه بحياةٍ ذهبية وهاجة ....
فاستدار عن نهر الذهب لينظر الى باب غرفة النوم بصمت ... قبل ان يتقدم اليه بخطى متثاقلة ...
و قف بإطاره عدة لحظات ... قبل أن يأخذ نفسا و يدخل ببطىء الى الغرفة .... مغلقا الباب خلفه بهدوء !!!
الا أن ذلك الهدوء بدا كصفقة عنيفة مدوية ... جعلت ملك تنتفض مكانها و هي تستدير . تنظر الى الباب المغلق ... بصدمة !!
استند رائف الى الباب المغلق وهو ينظر بصمت الى الصورة المعلقة فوق السرير ....
تلك العينان اللتان تربيتا على يديه .... حتى اصبحتا تنظرانِ الى ما يشير اليه ... و تمتنعان عما ينهي عنه .... حتى جاء اليوم الذي تمردت بهما عليه .....
استقام من استناده و سار الى الصورة حتى جلس على حافة السرير ينظر الى الصورة بصمت , قبل أن يقول بخفوت رقيق بقوةِ الجبال
( اشتقت اليكِ يا رؤى ....... )
كانت ملك في تلك اللحظة قد فعلت أكثر التصرفات دناءة ... وهو ما لم تقم به من قبل ...
حيث لم تستطع مقاومة فضولٍ شرس بداخلها كان ينهشها ... حيث سارت الى الباب المغلق .. و استندت اليه بكفيها ... و هي تقرب وجهها من سطحه لترهف السمع عدة لحظات دون ان تسمع صوتا ... الى أن سمعت صوت رائف في النهاية يقول بنبرةٍ لن تنساها أبدا
( اشتقت اليكِ يا رؤى ...... )
فغرت ملك شفتيها ... و تجمعت الدموع مجددا أمام حدقتيها و هي تبتعد عن الباب بسرعة ... شاعرة بضربةٍ لم تتوقعها ابدا ....
بينما كان رائف ينظر الى عيني زوجته يتابع بنبرةٍ حزينةٍ رغم ابتسامته
( صدقيني كنت أتمنى وجودك هنا أكثر من اي شيء آخر في هذه الحياة ...... أنتِ طفلتي التي تربت أمامي يوما بيوم ... و ستظلين دوما طفلتي .... )
أطرق برأسه قليلا وهو يتنهد بثقل و جهد .... ثم همس يقول
( لم أراكِ بأحلامي منذ فترة ....... )
ثم عاد ليرفع وجهه اليها متابعا بخفوت
( لماذا امتنعتِ عني بأحلامي حبيبتي ؟! ........ أتعاقبيني ؟! ...غاضبة مني ؟! ... . )
عاد ليتنهد مجددا وهو ينظر جانبا ليقول بصوتٍ فاقد الحياة قليلا
( يوم رحلتِ عني أقسمت الا أحيا ....الا و أنتِ معي و بداخلي ...... فرضت على نفسي عقابا ... سبق و فرضناه عليكِ دون رحمة أو شفقة .... فضيعنا أجمل سنوات عمرك و آخرها ..... )
صمت يبتلع غصة مؤلمةٍ بحلقه .. ثم تابع باختناق
( كنت راضيا بتلك الوحدة التي ضربتها لنفسي ..... هادئة ... بسيطة ... و يكفيني بها حزن فراقك ..... )
رفع عينين متخاذلتين الى الصورة مجددا ثم قال بخفوت
( لم أخطط أبدا لأن أحيا من جديد .... أتنفس عبيرٍ آخر غير عبيرك .... و تحتلني فتاة صغيرة دون اذن أو انذار .... و كأنها عاصفة قلبت مياه حياتي الراكدة ..... )
صمت يلتقط نفسه قبل أن يقول متابعا بهدوء
( آسف يا رؤى لأن غيرك عرفت طريق هذا البيت و رحلتِ أنتِ ...... آسف صغيرتي .... )
أطرق برأسه ينظر الى خاتم الزواج يلفه حول إصبعه .... وهو يهمس
( ليتني عرفت من قبل أن النهاية سريعة بهذا الشكل ........ لكنت أوصلتك الى من اختاره قلبك بنفسي ... و جعلتك تتشبثين بذراعي و أنت ترتدين فستان الزفاف له ..... كي تسعدي بالمتبقي من عمرك القصير ..... )
همس متابعا بألم
( ليتني كنت أعلم ...... ليتني أستطيع ارجاع xxxxب الساعة للخلف ..... )
ظل صامتا قليلا وهو يبتلع تلك الغصة المسننة بحلقه ..... يقرأ الفاتحة و يدعو لها مسبلا جفنيه على عينين حمراوين .... تحاربان الدموع التي ظلت حبيسة قلبه بكرامةٍ رجولية ...
ثم نهض من مكانه متجها الى الصورة الحبيبة ... ليرفعها باحتراس عن الحائط .... و فعل المثل مع ملابس رؤى و أغراضها الخاصة ... حيث جمعها بحقيبةٍ صغيرة كانت فوق الدولاب .....

انتفضت ملك مديرة رأسها بسرعةٍ و هي تراه خارجا من غرفة رؤى .... و اتسعت عيناها الباكيتان و هي تراه يحمل صورتها تحت ذراعه .... و باليد الأخرى يحمل حقيبة لم تحتاج الكثير من الذكاء لتستنتج ما بداخلها ....
بينما رفع هو وجهه اليها مبتسما بحنان .... لكن الإبتسامة لم تلبث أن تبددت عن وجهه وهو يرى الدموع على وجهها بغزارة .... فعقد حاجبيه وهو يقول بقلق
( أتبكين يا ملك ؟! ........ لماذا ؟؟ .... ماذا حدث ؟!!! ..... )
صدمت و هي ترفع يدها الى وجنتها لتجدها مبللة دون أن تدري .... و همست لنفسها بهلع
" نعم أنا أبكي !! ..... لماذا أبكي ؟!! ..... لماذا ؟!! ... "
ضمت الشال الى جسدها بقوةٍ وهي تنظر اليه بصمت متجاهلة إجابة سؤالٍ لا تعرفه ... لكنها قالت بخفوت يكاد لا يسمع
( أنا بخير ........ أنت ..... لماذا أخذت أغراض زوجتك و صورتها ؟! ..... )
ارتفع حاجبيه غير مستعدا لهذا السؤال الصريح ..... لكنها سارعت لتقول بلا تعبير ... و بصوتٍ واهي خافت
( لم أكن لأعبث بها ....... المرة السابقة لم أكن في أفضل حالات اتزاني .... و أردت التخلص من فستان الزفاف بأي طريقة ........ )
عقد حاجبيه بشدةٍ وهو ينظر اليها كمن ينظر الى شخصٍ يهذي .... ثم ترك الصورة على أقرب كرسي ... و أنزل الحقيبة أرضا .... ليقترب منها بسرعة لكنها استدارت تخفي بكائها الصامت عنه و هي تشعر بالذعر ...
الا أنه أمسك بكتفيها ليديرها اليه بسرعةٍ و قوة .... فأخفضت وجهها أمامه ... حينها قال رائف بصرامة
( ملك ...... ملك ..... توقفي عن البكاء حالا ..... اسمعيني جيدا ..... ملابس رؤى غالية عندي جدا ... لكنني لست ممن يقدسون الأشياء الفانية ..... أنا أحرص على غسلها كل فترة بنفسي .... و لم أمانع أن أرى شيئا منها عليكِ حين احتجتِ ذلك ...لو كانت رؤى معنا الآن لطلبت ذلك منكِ بنفسها ..... )
أغمضت ملك عينيها بشدةٍ و هي تشهق باكيةٍ بصوتٍ عالٍ دون ارادةٍ منها ....
فعقد رائف حاجبيه أكثر وهو يهزها بقوةٍ هاتفا بصرامة
( ملك ..... توقفي عن تلك التصرفات .... لا أحبها و لو استمريتِ بها فلن أعود الى هنا مجددا .... )
أخذت تشهق دون صوت و هي تعتصر عينيها كي لا تبكي ..... محاولة التوقف ... الى أن سعلت و هي تختنق بغصتها المريرة .... لكنها كانت قد هدأت قليلا .. فقال رائف بصرامة
( هل توقفتِ الآن ؟! .......... )
أومأت برأسها بصمت و هي ترفع يدها لتمسح وجنتها المبللة المنتفخة بظاهر كفها .... فقال بجديةٍ و جفاء
( أنا لم أرى من هي أقوى منك يا ملك ..... لكنك تصرين على التصرف بطفوليةٍ بين حينٍ و آخر ..... و هذا ما لا يليق بكِ ..... )
كانت تتنفس بسرعةٍ و هي مطرقة الوجه .... تتلقى تأنيبه بشفتين منتفختين متكورتين ....
فعبس بشدةٍ و هو غير قادر على محاربة ابتسامةٍ تشق طريقها الى شفتيه الصارمتين .... ثم همس بجفاء حنون
( ربما أنتِ مجرد طفلة بالفعل .......... )
رفعت اليه عينين عابستين غاضبتين ... حمراوين و هي تمتم بحنق
( لست طفلة ............... )
فابتسم وهو يقول رافعا أحدى حاجبيه ....
( بتبرم شفتيك هاتين ؟!!! ...... أشك بذلك ..... )
مطت شفتيها أكثر بامتعاض ... لكن بداخلها كانت تشعر بحرج رهيب من حالة الهيستيرية الغير مفسرة التي انتابتها للتو .... و التي كانت تحمل شيئا ما مختلفا عن الإحساس بالذنب ... شيئ آخر ....
قال رائف بصرامةٍ محببة
( لو تصرفتِ بهذا الشكل مجددا ... فاعتبري موعدنا لاغيا .... )
رفعت نظرها اليه ... ترنو بعينين جميلتين , ممازحتين في احلك اوقاتهما .. ثم قالت
( لن يلغي موعدنا شيء , .......... و تأكد من ذلك ..... )
صمتت للحظة , ثم ابتسمت هامسة برقةٍ اكبر و بصوتٍ كنغماتٍ صيفية , بليلة سمر
( لن أفوت فرصة ارتداء فستاني الجديد ...... مطلقا ........ خاصة و أنني سأكون حرة ..... كهذا الفستان )
ابتسم رائف وهو ينظر الى عينيها ... ثم قال بثقةٍ تخللت كيانها
( قريبا يا ملك ...... قريبا جدا ان شاء الله ....... )
ابتسمت بحزن و هي تستمد من ثقته ... علها تستطيع الصمود بها للأشهر القادمة ....
تنحنح رائف قائلا بخفوت
( يجب أن أخرج الآن ......... )
لكنه ظل واقفا مكانه ..... مترددا و كأنه لا يريد الخروج .... و هي كانت تشعر بالخسارة .... تريده يبقى معها ...... ولو لعدة لحظات .... لكنها تعرف أن تلك اللحظات غير منتهية بالنسبة لها ..... و كأنها ترتوي من وجوده .....
لذا همست بتردد و أمل
( الا تجلس معي قليلا لتفطر معي ....... يمكنني تحضير الإفطار خلال لحظات ..... )
تحركت عضلة بحلقه وهو يقاوم تلك الهالة أمامه من البراءة و الجمال .... فقال بخفوت أكثر
( يجب أن أخرج الآن يا ملك ........ )
و دون أن ينتظر كان يتجه الى الصورة و الحقيبة التي تركها ... فقالت ملك بسرعة رغم اهتزاز صوتها الخافت
( لماذا اذن تأخذ هذه الأشياء معك ؟؟!! .......لم أكن لأعبث بها .... )
توقف مكانه للحظة مطرقا برأسه .... ملامحه الوقورة بعيدة عنها ... ثم قال أخيرا بهدوء و رفق
( أعلم يا صغيرة ...... أنا فقط سأنقلها لمكانٍ أقرب لي ....... )
عقدت حاجبيها بينما انحنت عيناها دون صوت .... ببساطةٍ لم تستطع الكلام .... كما لم يستطع هو إضافة المزيد

( والدك يكاد أن يخنقني يا محمد ...... إنه يدقق في الشراء لدرجة تثير الجنون ... لقد نسيت نفسي و صرخت به في المحل ..... )
تنهد محمد وهو يستمع اليها عبر هاتفه .... ثم قال بهدوء
( نعم هو نفسه ...... والدي و أعرفه ...... لكنني ظننت أنه قد يتغير ما أن تدخل امرأة لحياته فتعدل ما فسد بعقله ........ )
عقدت كرمة حاجبيها و هي تتصفح الأوراق أمامها بمكتبها بالمصرف ... واضعة سماعة هاتفها المحمول بأذنها ..... فقالت بصرامة
( عيييب يا ولد ....... لا تتكلم عن والدك بهذا الشكل .... )
صمتت تتأفف قليلا ثم قالت بغيظ
( يوم الشقاء حين يصمم على مرافقتي لشراء طلبات البيت بعد العمل ..... لقد ظل أمس بالمحل ممسكا بعلبتين من الحليب يفاضل بينهما حتى كدت أن أصاب بشلل في المخ من شدة ما ارتفع ضغطي و ضغط على اذني ..... علبتين من الحليب !!.... كل الفارق بينهما هو مجرد خداع ايهامي من الدعاية المصدرة الينا و المتمثلة في تصميم العلبة ليس الا .... بينما مصدر الحليب واحد !! )
تأففت مرةٍ اخرى بحنق بينما قال محمد بيأس
( و هل فقدت أمينة عقلها من قليل !! ...... لقد ظل يدقق بكل ما تبتاعه , الى ان منعها تماما من الشراء و اصبح هو من يشتري كل شيء .... وهو يظن نفسه جهبذ في الشراء .... )
رفعت كرمة وجهها و هي تبتسم هاتفة بسعادة
( بسم الله ماشاء الله !! ... متى تعلمت معنى كلمة جهبذ!!! ...... لقد تحسنت بفضل دروسي في اللغة العربية ... بالإضافة الى الرياضيات ..... كرمي يغرقك من رأسك و حتى أصابع قدميك ...... المهم .... نسيت أن أقص عليك ردة فعل والدك أمس حين تجرأت و أخبرته بأنني معتادة على شراء الحليب الطازج ثم أقوم بغليه ........ )
سمعت محمد يقول بشك
( هل تجاوز بألفاظٍ نابية !! ....... )
رفعت كرمة يدها لتظلل بها جبهتها و هي لا تتمالك نفسها من منع ضحكها بعنف و هي تقول
( لقد كاد المسكين أن يصاب بنوبةٍ قلبية ..... وهو ينظر الي بذهولٍ عاقدا حاجبيه و أنا أخبره أنه يأتي من البقرة مباشرة .... و نستخرج منه القشدة أيضا بدلا من شرائها هي الأخرى معلبة و غير طازجة .... )
صمتت قليلا و هي تضحك بشرٍ مغمضةٍ عينيها ... ثم قالت ضاحكة
( لقد حاول أن يتكلم عدة مرات الا أن الكلام خانه .... فوضع يده على صدره وهو يقول في النهاية " قلبي !! ... ستتسببين في موتي ذات يوم ..." ... )
قال محمد باستسلام ضاحكا
( هذا هو المتوقع من رجلٍ لا يزال يبتاع ملابسي الداخلية حتى الآن ...... )
رفعت كرمة عينيها للسماء و هي تقول بقنوط
( آآآه لا تبدأ بهذا الأمر !! ...... من بين الأشياء التي كان يفاضل بينها أمس هو خف للحمام خاص بي .... وهو يقول بجدية عاقدا حاجبيه " راحة الظهر في البيت تبدأ من خف حمام رياضي صحي ... خاصة مع قدمك المسطحة !! " )
عقدت حاجبيها و هي تقول بغيظ
( أنا قدمي مسطحة يا محمد ؟!! ..... حسنا أعلم أنني أعاني من القدم المسطحة لكن ليست الى درجةٍ مرضية ... اليس كذلك ؟!! .... محمد ؟!! ... يا محمد ؟!! .... لماذا لا تجيبني ؟!! ... )
قال محمد بلطف
( حسنا لو تجاهلنا الصوت الذي تصدره قدميكِ ليلا حين تدخلين المطبخ حافية القدمين .. فتبدو كممصاتٍ شافطة .. بوييك ... بويييك ... بويييك ....حينها من الممكن ان نخدع أنفسنا و نقول أنكِ لا تعانين من القدم المسطحة .. )
عقدت حاجبيها بشدة و هي تقول
( قدمي لا تصدر هذا الصوت ..... ليست الى تلك الدرجة !! .... )
قال محمد ببساطة
( لقد كنا على المائدة ذات يوم و سمعنا صوت قدميكِ ... فقال حاتم مبتسما بصوتٍ خافت " زوجة ابيك من الممكن أن تمشي على الجدران بقدميها الملتصقة بالأسطح هذه " )
ازداد عبوس كرمة بشدة و هي تقول بلهجةٍ شريرة
( هل قال والدك هذا ؟!!!........ أتعلم أن بطنه قد بدأت في البروز و هو يخفي ذلك علينا ؟!! ... لقد اشترى طقم من البناطيل اكبر مقاسا و هو يظن أنني لم ألاحظ ..... )
قال محمد اعترافا بالحق
( اي شخص يسكن معك سيظهر له بروزا في البطن يا كمرة ....... )
عقدت حاجبيها و هي تقول بقنوط
( ابن والدك صحيح .......... المهم .... هل تأكل جيدا أم أن والدتك لا تزال مستمرة اتباعك لتلك الحمية الدنيئة ؟! ......)
قال محمد ببؤس
( أنا جائع جدا يا كمرة ..... أمي تمنع عني كل النشويات و السكريات ... على الرغم أنني زدت عندك كيلو جراما واحدا فقط ....... )
هتفت كرمة و هي تضرب صدرها بيدها بلوعة
( يا حبيب أمك !!! ..... آه يا ابني المسكين !! ..... أنت جائع و أنا هنا عاجزة عن إمدادك بالطعام !! )
زمت شفتيها و هي تشعر بالرغبة في ضرب تلك الأم التي تترك طفلها ينام جائعا لمجرد كيلو جرام واحدا !!! .... انه تعنت ..... ربما لو زاد ستة أو سبع كيلوجرامات لمنحتها بعض العذر ...
حاولت أن تتجنب ذلك التفكير العتيق .... ثم قالت مغيرة الموضوع و هي تتنهد
( المشكلة في والدك يا محمد أنه انسان معقم أكثر من اللازم ..... هناك فرق في الحضارات بيننا .. أحيانا أظن أن الإنسان الطبيعي يحتاج الى بعض التلوث بحياته كي تتقوى أمعائه و يكتسب مناعة ....... )
قال محمد وهو يمط شفتيه
( نعم ..... تعرفين انه يجعلني أستحم في اليوم ثلاث مرات الى أن قاربت على الإختفاء ..... )
ابتسمت كرمة بخجل و لسان حالها يقول بعبث
" وهو يجعلني أفعل أكثر منذ ذلك أحيانا !! ........ "
لكنها عضت على شفتها بخبث و هي تحاول ابعاد تلك الصورة عن رأسها .... فقالت باتزان
( اذن ..... كيف تقضي أوقاتك بدوني ؟! ....... )
قال محمد بحماس
( زوج امي رجل مجنون في الواقع ... لا يترك لي مجالا للملل ... أنا أركب خلفه على الدراجة البخارية مؤخرا .... و لن تصدقي ماذا فعلنا في عطلة نهاية الأسبوع !! .... لقد قفزنا من طائرة بالبراشوت رغم أن سني أقل من السن المسموح به ..... لكن صديقه مكن لنا الأمر .... و كان رااااااائعا ..... )
عبست كرمة و هي ترفع وجهها قائلة برعب خفي
( و هل يعلم والدك عن تلك الأنشطة ؟!! ....... )
قال محمد بقوة
( لا تخبريه يا كمرة .....إياكِ و أن تشي بي .... اياك و الا فلن أحكي لكِ شيئا مجددا ..... )
عبست كرمة بشدة و هي تشعر بالرعب على محمد ... و الغضب على أمه .... و الجنون من زوجها المتهور ... لكنها لا تستطيع المجازفة بفقد ثقة محمد بأن تشي لحاتم ..... فهي تريد المعرفة بكل تفاصيل حياته منه هو شخصيا طالما يثق بها ......
فقالت كرمة بصرامة
( لن أخبر والدك شرط أن تقسم لي حالا بانك لن تعيد تجربة الطائرة تلك ...... )
هتف بتوسل
( كمرة !! ...... )
الا أن كرمة قالت بصرامةٍ قاصفة
( و أنا أعني ما أقول يا محمد ........... )
زفر بحنق و استياء لكنه قال في النهاية
( أقسم على ذلك ......... أنتِ مزعجة كبثرة شباب ظهرت في الوجه صباح يومِ حفل التخرج المدرسي .... )
قالت كرمة بنفس الصرامة
( و أنت تحمل رأسا ضخمة تشبه كرة السلة بينما لا تحوي سوى مخ في حجم حبة البازلاء ..... )
سمعت فجأة طرقا على باب مكتبها ... فسمحت له بالدخول دون أن ترفع نظرها و هي تعمل على حاسبها باهتمام ...
دخل احد حراس الأمن للمصرف وهو يقول بتهذيب
( سيدة كرمة ..... هناك سيدة تصر على مقابلتك فوجدت أن أرافقها الى مكتبك لأتأكد من موافقتك ... )
رفعت كرمة وجهها و هي تعقد حاجبيها .... ثم قالت محدثة محمد في سماعة هاتفها
( يجب أن أغلق الخط الآن يا محمد ...... سأهاتفك لاحقا ...... اعتني بنفسك من أجلي ... )
و ما أن وضعت الهاتف حتى قالت بهدوء و هي تتسائل عن هوية من تريد مقابلتها هنا في مكان عملها
( دعها تتفضل ....... )
انزاح الرجل جانبا وهو يمد يده لإمرأة تقف خلفه .... و التي ما أن ظهرت مطرقة الرأس بخنوع أمامها حتى اتسعت عينا كرمةٍ بهلع و جنون ... لكنها لم تسمح لأي من ذلك بالظهور على ملامحها الهادئة ....
فابتلعت ريقها ثم قالت بهدوء زائف
( آه نعم أعرفها ..... تفضل أنت .... شكرا ... )
أومأ الرجل برأسه و انصرف .... فنهضت كرمة من مكانها منتفضة و هي تندفع للباب تغلقه بهدوء بينما الدماء تغلي بعروقها بجنون ... و ما أن أحكمت غلق الباب حتى استدارت الى علياء بعينين شرستين و هي تقول من بين أسنانه بخفوت كي لا يسمعها أحد
( أنتِ ..... كيف تجرؤين على المجيء الى هنا ؟! ..... كيف تجرؤين ؟!! ..... بعد آخر ظهور لكِ ببيتي .. الآن تجرؤين على المجيء الى محل عملي .... الا تعلمين أن زوجي يعمل هنا معي ... وهو على بعد عدة خطوات من مكتبي !! .... و لو رآك لأصبحت كارثة فوق رأسي ..... )
كانت علياء تستمع الى كرمة مطرقة الرأس و كأنها اعتادت الخنوع و المذلة .... لكن كرمة لم تكن في حالةٍ تسمح لها بالتعاطف معها ... فقالت بصوتٍ حاد تمنع صراخه بصعوبةٍ و عيناها تلمعان بالنفور
( ماذا تريدان مني ؟!!! .... لقد تركت لكما بيتي و حياتي و رحلت .... فلماذا تقتحمان حياتي الجديدة و تصران على إفسادها ؟!! ....... )
رفعت علياء وجهها الباهت الناعم الى كرمة و هي تقول بخفوت و استعطاف
( هل افهم من ذلك أنكِ قابلتِ محمد يا سيدة كرمة ؟!! .... )
اتسعت عينا كرمة بذهول و كأنها تنظر الى مجنونة فاقدة الأهلية .... ثم رفعت ذراعيها تلوح بهما بعدم تصديق لتنزلهما على وركيها بجنون ... و مالت الى علياء تهمس بشراسة
( هل أنتِ مجنونة ؟!! ....... اسمعيني جيدا .... ستغادرين هذا المكان حالا و دون أن تكلمي أي مخلوق أثناء خروجك من هنا ..... و من فضلك للمرة الأخيرة ابتعدي عن حياتي للأبد .... )
اهتزت حدقتي علياء و رمشت بعينيها أمام هجوم كرمة الشرس على الرغم من إنخفاض صوتها الذي يكاد يكون همسا ... خوفا من أن تفضحها ...
فابتلعت ريقها و هي تشعر بالخزي ... لترجع خصلة من شعرها الأسود الفاحم الناعم خلف أذنها ... ثم عدلت من وشاحها الأسود حول وجهها ...
لكنها تشجعت و هي تقول بصوتٍ مختنق
( أعلم أنني اثقلت عليكِ كثيرا .........)
رفعت كرمة حاجبها و هي تقول بسخرية
( أثقلتِ علي ؟! ....... سرقة زوج من زوجته لا تعد اثقالا .... بل يمكنك القول أنني خربتِ بيتي ... )
صمتت كرمة تتنهد بقنوط و هي تغمض عينيها .... ثم لم تلبث أن فتحتهما لتقول ببرود
( لا داعي لفتح صندوق الماضي من جديد ....... غادري هذا المكان و حياتي كلها حالا .... )
رفعت علياء احدى يديها متسولة و هي تهتف برجاء
( سأذهب ... أقسم لكِ سأخرج من حياتك للأبد ..... لكن أرجوكِ ... ارجوكِ ... أتوسل اليكِ .. أخبريني عن مكان محمد .... لقد ترك البيت و هجرني ..... )
امتقع وجه كرمة ... و أجفلت ... بينما استقرت عيناها على يد علياء التي وضعتها على بطنها تلقائيا ...
فلم تتمالك كرمة من الهمس بشرود عاقدة حاجبيها
( فعلها ؟!! .......... )
لكن علياء سمعت همسة كرمة الخافتة ... فقالت برجاء
( لقد رأيتهِ........ اليس كذلك سيدة كرمة ؟؟ .... و أخبرك أنه سيتركني ؟؟ ..... أرجوكِ أخبريني )
تنهدت كرمة بغضب من محمد و هي تكتف ذراعيها ...ثم قالت بفتور
( رأيته مرة ..... كان مشوشا .... و يريد الإبتعاد لفترة ....... )
أطرقت علياء بوجهها الشاحب كشحوب الأموات ... ثم همست بخفوت و خزي و هي تضغط على بطنها أكثر
( هل أخبرك ........ هل أخبرك ....... لماذا تركني ؟؟ ..... )
تأففت كرمة و هي تخفض وجهها جانبا بنفاذ صبر .... و عضت على شفتها محاولة التماسك و الصبر ... لكنها قالت في النهاية بصوتٍ لا تعبير له
( مبارك على الحمل ........... )
رفعت علياء وجهها الميت الى كرمة و همست بعذاب و بنبرةٍ لا تكاد تسمع
( هل ..... هل أخبرك أنه ....... يشك في ابوته لهذا الجنين ؟؟ ..... )
رفعت كرمة وجهها لأعلى بنفاذ صبر و هي تستدير عن علياء واضعة يديها في خصرها ... ثم قالت بفتور
( اعذريه ...... عشر سنوات ليست بفترة هينة من اليأس ..... )
تقدمت علياء من كرمة رافعة يديها و هي تهمس بأسى
( أعذره .... اقسم بالله أعذره من كل قلبي .... أنا نفسي أصبت بالذهول حين عرفت بحملي .... لكن فقط أريده معي ... أنا أحتاجه .... فليفعل بي ما يشاء لكن وهو معي و بجواري ...... )
أغمضت كرمة عينيها بنفاذ صبر ... بينما تابعت علياء بعد فترة صمت
( هل تصدقينه سيدة كرمة ؟؟ ........ )
ارتفع حاجبي كرمة بذهول و هي تستدير الى علياء الشاحبة بدرجة مخيفة ....ثم قالت بعدم تصديق
( هل أنتِ طبيعية يا فتاة ؟!! ...... هل جئتِ الى هنا خصيصا كي تسأليني رأيي عن شرفك ؟؟؟ .... )
أغمضت علياء عينيها بألم و هي تخفض وجهها .... ثم قالت بخنوع
( بل جئت أتراجكِ كي تخبريني بمكان محمد ...... و أنتِ لن تخبريني بمكانه لو كنتِ تصدقين شكه ... )
زمت كرمة شفتيها بغضب ... و أخذت تطرق الأرض بكعب حذائها العالي دون وعي من فرط حنقها ...
و ظلت عيني علياء مثبتتين على كعب حذاء كرمة الغالي الثمن و الأنيق .....
الا أن كرمة قالت ببرود
( أنا لا أعلم مكان محمد ..... صدقي أو لا ...... و الآن اذهبي من فضلك ..... )
ارتجفت شفتي علياء و كأنها توشك على البكاء ... ثم قالت بإختناق و تردد خائف من ردة فعل كرمة
( كنتِ تكلمينه حين دخلت و تطلبين منه أن يعتني بنفسه ...... )
رفعت كرمة حاجبيها بذهول و هي تقول بعدم تصديق
( هل تتهمينني بالكذب ؟!! ..... حقا ؟!! .... وواتتكِ الجرأة ؟!! ..... )
ابتلعت علياء ريقها و هي تهمس باختتناق
( لا عاش و لا كان ....... لم أقصد ....... )
صمتت و هي تبكي فجأة دون أي صوت ..... فقط ارتجاف شفتيها و دمعتين متساقطتين على وجنتيها جعل منظرها مؤذيا بدرجةٍ مفزعة ...
تنهد كرمة بيأس .... و هي تلعن الشفقة التي تتسلل اليها الآن ... ليس من المفترض أن تشعر بالشفقة على المرأة التي ساهمت في خراب بيتها من قبل .... حتى و لو كانت قد تجاوزت الماضي ....
ظلت كرمة تنظر الى شكلها البائس عدة لحظات ... ثم قالت أخيرا بفتور خافت
( كان ذلك محمد ابن زوجي حاتم .... صبي في الثانية عشر من عمره .... )
رفعت علياء وجهها الى كرمة مغرقا بالدموع .... فرفعت طرف وشاحها لتمسح به الدموع عن وجهها ثم همست باختناق
( حقا يا سيدة كرمة ؟!! ........ )
رفعت كرمة يديها ملوحة بهما و هي تهتف محدثة نفسها بغضب
( ها هي تتهمني بالكذب من جديد !!.......... )
أخفضت علياء عينيها اليائستين و هي تقول بأملٍ مغدور
( ماذا أفعل الآن ؟!! .... الى من أذهب بعدك يا رب ؟!! ..... )
زفرت كرمة بغضب و هي تهمس لنفسها
" تبا لك يا محمد !! ...... أنت لن تتغير و لو مرت عليك العصور "
قالت كرمة بصوت خافت صلب
( أفضل ما تفعليه الآن هو الرجوع الى أهلك و انتظار عودة محمد .... فقط امنحيه بعض الوقت كي يكتشف خطأه ..... )
رفعت علياء عينيها المتورمتين الى كرمة و هي تقول بخوف
( أنا في مصيبة كبيرة يا سيدة كرمة ..... ليس لي سوى جدتي .... و أنا لا أستطيع أن أعلن حملي و زوجي يشك بخيانتي ...... لذلك لم أخبر أمه و شقيقاته حتى الآن ...... لو علمن بشك محمد ستمزقنني حية دون حتى سؤال ..... )
زمت كرمة شفتيها و هي تقول بامتعاض
( هل تخبريني عنهن !! ..... إنها عشرة طويلة ..... )
ظلت كرمة تنظر طويلا الى الفتاة المرتعبة و كأنها تقف ضائعة في مهب الرياح .... و دموعها تجري بصمت على وجنتيها و كأنها تخشى حتى البكاء بصوت مسموع ....
لكن شفتيها كانتا تهمسان
( يا رب أنت تعلم أنني مظلومة .... يا رب ...... )
اظلمت عينا كرمة بعطفٍ رغمٍ عنها ..... ثم تحركت اخيرا الى مكتبها فتناولت حقيبتها و اخرجت من حافظتها كل الأوراق المالية التي تحملها ....
فاستدارت الى علياء تمسك بيدها و تضع بها الأوراق المالية قائلة بحزم
( خذي هذه النقود و عودي لبيتك و لا تغادريه .... و أنا سأرسل لكِ من يحمل لكِ مثلهم كل شهر الى ان يعود محمد ..... )
نظرت علياء الى النقود بيدها بذعر و ذهول .... ثم رفعت وجهها المرتعب الى كرمة ... بعينين متسعتين ... بينما أحمر وجهها بعنف , ليفقد ألوانه في اللحظة التالية .... و يتناوب عليها الشحوب و الإحمرار ...
و حين استطاعت الكلام أخيرا.... زمت شفتيها و هي تنظر الى الأوراق المالية بيدها ....
ثم لم تلبث أن اقتربت خطوتين من مكتب كرمة ... لتضع النقود على سطحه بكل تهذيب
و رفعت رأسها هامسة بإباء
( زادك الله من خيره سيدة كرمة ...... أنا لم آتي الى هنا طلبا للمال .. لقد ترك لي محمد ما يكفيني ... و بيته سيظل مفتوحا من ماله لحين عودته ..... )
أطرقت بوجهها الشاحب لتخفي علامات الكرامة المهدورة بقوة ... ثم قالت بجمود
( سأغادر الآن .... و لن أزعجك مجددا ..... )
شعرت كرمة بالخزي مما فعلته بتلك المسكينة الحقيرة التي سرقت زوجها ذات يوم .... لكنها مسكينة على الرغم من ذلك ... و لقد أوقعها غبائها و حظها العثر في الزواج من محمد .....
فالزواج من محمد يحتاج الى الجلد و الصبر .... و نكران الذات الى آخر درجة ...... و مع ذلك هو رجل يسهل حبه .... تماما كما أحبته تلك المسكينة المستكينة الصغيرة ....
راقبتها كرمة و هي تتجه للباب مطرقة الرأس ... لكنها فجأة توقفت و هي تترنح في مكانها لدرجة أن استندت الى الجدار كي تمنع سقوطها ...
حينها سارعت كرمة اليها تمسك بمرفقها و هي تقول بقلق
( هل أنتِ بخير ؟؟ ...... )
أومأت علياء برأسها بإعياء لكن كرمة عقدت حاجبيها بشدة و هي تلحظ للمرة الأولى هزالها و ضعف صحتها ..
فقالت تخاطبها بخفوت و تردد
( ماذا ستستقلين الى بيتك ؟؟ ......سأرسل معكِ سيارة بسائق يوصلك الى باب البيت )
ردت علياء بصوتٍ ذاهب الأنفاس
( لا تشغلي بالك .... سأستقل الحافلة الصغيرة )
الا أنها أغمضت عينيها و هي تشعر بالدوار .... و موجةٍ من الغثيان تضربها بعنف .... و كان من الفترض بكرمة أن تترك مرفقها كي ترسلها الى بيتها بغير رجعة ... الا أنها ظلت مشبثة بها , ناظرة اليها بقلق ..
ثم قالت أخيرا
( مع أي طبيبة تتابعين ؟!! ...... )
همست علياء بعد تردد
( طبيبة...... و لماذا الطبيبة ؟!! .... أنا بخير ..... )
قالت كرمة عاقدة حاجبيها
( يجب عليكِ المتابعة مع طبيبة نسائية منذ الشهر الأول .... كي تطمئني أن الأمور كلها بخير ... )
ابتسمت علياء بجهد ... فبان عليها الهزال أكثر و همست بصعوبة
( لم نعتاد تلك الرفاهية في المنطقة التي نسكنها ..... كل النساء تحمل و تلد دون متابعة و غيرها ... )
مطت كرمة شفتيها و هي تتأمل علياء ... و لم تستطع منع لسانها من القول بلهجةٍ شريرة رغم هدوئها
( يبدو أنكِ نسيتِ أنني كنت أسكن نفس المنطقة ..... و تحديدا في بيتك نفسه ... الذي كان بيتي يوما ما ... )
بهت وجه علياء أكثر ... حتى أصبح كالملاءة البيضاء .,..... يتناقض مع شعرها الأسود الحالك ..
و اتسعت عيناها بصدمة .... و كأن كرمة صفعتها على غفلة ... و بالفعل أطرقت برأسها متألمة بفعل تلك الصفعة المعنوية ....
حينها شعرت كرمة بالندم مجددا .... فتنهدت بنفاذ صبر و هي تقول بصرامة
( تعالي ...... سأقلك للبيت بنفسي ...... و لا تخرجي مجددا بحثا عن محمد .... هو سيعود بنفسه ... )

استمر الطريق طويلا ... صامتا و مملا ... بل مشحونا بالتوتر و هي تجلس بجوار علياء في المقعد الخلفي ترمقها بطرف عينيها بين الحين و الآخر .... حيث كانت علياء تبدو مهزومة ... منكسرة ....
تستند برأسها الى زجاج النافذة و تنظر الى الطرقات بعينين خاويتين .....
تنهدت كرمة بانقباض ... من المفترض أن تشعر بقليل من التشفي أو الفرح .... طبيعة النفس البشرية و ضعفها يأمرانها بذلك ... الا أنها لم تستطع في الواقع الا أن تعطف عليها ....
ما تعرضت له أخيرا من شكٍ بخيانتها و هي تحمل أول طفل لها .. كفيل بأن يكسرها باقي العمر ...
عقدت كرمة حاجبيها و هي تلاحظ يد علياء تنقبض على بطنها ... و ملامحها تتشنج من الألم ..
فقالت بقلق
( ماذا بكِ ؟!! ..... أنتِ لستِ بخير مطلقا !! ..... )
لهثت علياء قليلا و هي تهمس بألم
( انا بخير ...... أنا فقط أتمنى الإستلقاء بسريري ..... )
صمتت فجأة و هي تجفل .... ثم رمشت بعينيها و هي تتجنب النظر الى كرمة ....
ثم قالت بارتباك
( لم اقصد أن أثير غيظك ...... إنه سريرك ..... )
نظرت كرمة الى السائق ... ثم أعادت نظرها الى علياء التي كادت أن تختفي تحت مقعد السيارة من شدة غبائها و إحراجها ....
الا أن كرمة قالت بهدوء
( هل تعلمين المثل القائل ... جئت لتكحلينها فأصبتِها بالعمى !! ..... )
عضت علياء على شفتها و هي تهمس باختناق
( ياللهي !! .... لم أقصد .... أنا غبية ..... اعذريني أرجوكِ ... )
مطت كرمة شفتيها بامتعاض و هي تقول
( عامة سريري الآن أكثر روعة و راحة ............. )
ابتسمت علياء بإجهاد و هي تقول بخفوت
( ليجعله الله لكِ راحة و هناء ............. )
شعرت كرمة بالحزن اللعين عليها مجددا ... فظلت تنظر اليها بصمت قبل أن تقول بعد لحظات حازمة
( سنذهب الى طبيبتي أولا يا حسين من فضلك ..... )

جلست كرمة أمام طبيبتها المبتسمة دائما و أبدا ... لكنها هذه المرة كانت تبدو غير راضية و هي تقول بعد عمل الفحوص اللازمة لعلياء
( بصراحة صحتها ضعيفة جدا .. و ضغطها عالي .... و كل هذا يجعل من حملها غير ثابتا , بخلاف النزيف الذي يداهمها من حين لآخر ... كل هذه علامات غير مبشرة ..... إنها توشك على إجهاضه في أي لحظة ... )
اتسعت عينا كرمة بهلع و هي تسمع تلك الكلمة البشعة .....
إجهاض !! ... بعد عشرة سنوات من الحرمان ؟! ..... لا محمد لا يستحق هذا الألم مهما كان ما فعله و آذى به غيره ....
تخيلت أن يضيع منه الطفل بعد أن تحققت له معجزة السنوات الطويلة من الصبر و فقدان الأمل ...
فقالت كرمة بقوة
( أرجوكِ أخبرينا بما تأمرين به .. و سننفذ التعليمات كلها .. زوجها يتمنى هذا الطفل منذ سنواتٍ طويلة ... )
قالت الطبيبة تتنهد
( سنفعل ما بوسعنا .... لكن خلال هذه الفترة هي تحتاج الى راحةٍ تامة و استلقاء على ظهرها خلال الثلاث اشهر القادمة .... هي أهم و أضعف أشهر في مرحلة ثبات الجنين ... و مبدئيا ستتابع معي أسبوعيا ... لكن لتأتي مستلقية في سيارة .... و لا تستقل أي وسيلة مواصلات و تتعرض لمطبات الطريق .... أتفه و ابسط شيء حاليا قد يسبب إجهاضها ... حتى و لو أصيبت بالسعال ..... )
كانت أثناء ذلك تكتب عدة ابر للتثبيت و أدوية و فايتامينات عديدة ..و أقراص حديد ....
و كرمة تراقب القلم يخط بسرعة ... بينما ملامحها كانت حزينة ..... مشتاقة ...
رفعت الطبيبة وجهها و نظرت الى كرمة و ابتسمت قائلة
( و ماذا عنكِ أنتِ ؟؟ ...... لماذا لم أركِ منذ فترة ؟؟ ...... لدينا برنامج نريد البدء به ... )
ابتسمت كرمة بمرارة و هي تنظر الى تلك الورقة التي تحوي بعض ابر التثبيت و أقراص الحديد ... و التي بدت لها اجمل من كل الرسائل الغرامية في الكون في تلك اللحظة
و كم تمنت لو تحمل اسمها هي ..... كم تمنت ان تستلقي هي على ظهرها بدلالٍ خوفا على ولي العهد المنتظر باشتياق ....
همست اخيرا بسخرية حزينة
( أنا ؟! ...... أنا موجودة ..... أين سأكون ؟! ...... دعينا نهتم بها أولا ثم نبدأ طريق الأمل من جديد ... ربما تمكنت من اللحاق بقطار الأمومة قبل أن اصل لسن اليأس من الإنجاب ..... )
عقدت الطبيبة حاجبيها و هي تقول بإمتعاض
( أنا راضية بذمتك و ضميرك ..... هل هذا كلام انسانة مثقفة ؟!! ..... )
ابتسمت كرمة و هي تقول بخفوت
( اخبرتك من قبل ..... حين يصل الأمر الى الأمومة ... تتحول المرأة الى كائن أقل ثقافة ... يقتنع بكل ما هو متوارث من عاهات و خزعبلات .... و يأسٍ قبل حتى الوصول الى ما هو مسمى بسن اليأس ..... )
نهضت من مكانها و هي تجد علياء تخرج من غرفة الكشف .. تتسند على يدِ ممرضةٍ غير قادرة حتى على تقوية ساقيها .... لكن نظرتها الحزينة الى كرمة اخبرتها انها سمعت الجزء من حديثها اليائس ....
نعم ... هذا ما كان ينقصها ..... ان تشفق عليها الفتاة الصغيرة غضة القوام و التي تحمل بأحشائها طفلا ....
رفعت كرمة ذقنها و هي تعدل من حقيبتها قائلة بحزم
( هيا لنغادر ..... لقد تأخرت على بيتي , و اريد التأكد من اخذك للأدوية و الإبر قبل أن أتركك ... )
.................................................. .................................................. ....................
بعد اسبوع ....
كانت كرمة واقفة في المطبخ الضيق و الذي تحفظه جزءا ... جزءا .... و تعرف كل تفصيلة به ...
تحضر الحساء و هي تلف خصرها بمريول المطبخ المهترىء القديم ....
زمت شفتيها بعد أن زفرت بحنق
منذ اسبوع و هي تكاد أن تنهار تعبا ..... تخرج من العمل مبكرا قليلا لتتجه الى الجامعة و تنجز ما يخص دراستها بسرعةٍ قياسية ... قبل أن تذهب الى علياء ... و تعمل على تحضير الطعام لها و رعايتها
و الحق أن علياء كانت صحتها تتدهور سريعا .... يكاد العثيان أن يفتك بها حتى هزلت و اصبحت كالشبح ..
كلما نهضت من مكانها سقطت أرضا مغشيا عليها
الى أن نهرتها كرمة بعنف الا تتحرك أو تنهض من فراشها قبل أن تأتيها مساء كل يوم ....
لقد دخلت ذات يوم بالمفتاح الذي تملكه ... و اصابها الهلع حين رأت علياء ممددة أرضا أمامها و شكلها و كأنها قد فارقت الحياة ...
و على الرغم من أنها تضع لها بعض الأكياس الخاصة كي تتقيأ بها .... الا أن الأمر أفلت منها في الكثير من الأوقات و تقيأت في الأرض .... و بالطبع لا يوجد سوى كرمة لتنظف ما تتركه ....
لمدة أسبوع و هي تبحث لها عن سيدة أمينة كي تخدمها لكن دون جدوى .....
لو كانت تثق أن أمينة لن تشي بها عند حاتم , لكانت استعانت بها .... لكن طبعا أمينة ستستغل تلك الفرصة كي تمزقها اربا لدى حاتم ...
مالت كرمة برأسها و هي تستشعر حركةٍ في الخارج ... فوجدت علياء تسير بتعب متسندة الى الحائط و يدها على بطنها .....
فزفرت كرمة بغضب و هي ترمي السكين من يدها لتخرج االيها مندفعة و هي تهتف بحنق
( لماذا نهضت من سريرك ؟!! ....... ألم آمرك بالا تتحركي !! ... )
استندت علياء الى الجدار قليلا و هي تلهث
( أشعر أنني أحترق خزيا بتركك تخدمينني بهذا الشكل يا سيدة كرمة ....... أرجوكِ أنا لا أتحمل ذلك ... )
زمت كرمة شفتيها و قالت بإمتعاض تساندها كي تعيدها الى سريرها
( لو كنا وجدنا مساعدة .... لكنت تركتك صدقيني ... و الآن هيا الى سريرك ... )
ساعدتها الى أن جعلتها تستلقي على سريرها نصف جالسة ... ثم همست بخفوت
( كل النساء تحملن .... لا داعي لتلك الرفاهية .... )
أرادت كرمة أن تقول
" لا .... ليست كل النساء تحملن .... "
لكنها امتنعت عن ذكر ذلك خوفا من أن تخشى علياء من حسدها .... كما كانت شقيقات محمد يفعلن ذلك أمامها و من خلفها ...
جلست كرمة على حافة سرير علياء ... الذي كان سريرها ذات يوم ...
تنظر الي وجهها البريء و شعرها الحريري الناعم المنسدل على كتفيها كستارٍ حريري دون حياةٍ به .. يثير الأعجاب بنعومة ملمسه .. و أحيانا الملل من فقدانه للحركة و الحياة ..
لكنها كانت تحمل جاذبية مستكينة تبعث على الراحة مهما أنكرت كرمة ... خاصة بعد أن ألبستها قميص نومٍ فضفاض قطني ... اظهر نحافتها و بياض بشرتها المتناقض مع شعرها الأسود مما جعلها تبدو كبياض الثلج بطلة قصة الأطفال
انها مستكينة لدرجة تثير النفور في البداية ... لكن يوما بعد يوم تبدو استكانتها من النوع الطريف .... و كأنها بطة تائهة ... تعبر الطريق ....
قالت كرمة أخيرا بهدوء
( اسمعيني جيدا ...... حملك ضعيف جدا .... و ضغطك لم ينخفض حتى الآن .... و النزيف مستمر ... و ذلك يشعرني بالرعب .... أتعلمين لماذا ؟! .... لأن زوجك يحلم بهذا الطفل منذ عشر سنواتٍ كاملة و أكثر ... و قد فقد الأمل منذ سنين عديدة .... و فقد معها جزء من رجولته المتمثلة في منح زوجته طفلا .....
أتتخيلين الآن مدى أهمية ذلك الطفل الذي تحملينه ؟! ....... حاولي التشبث به بأقصى درجة .....
لأن والده يستحق .... والده هو من أمسك بيدي... لولاه لما كنت ما أنا عليه الآن ....
لذا إن كان قد أصابه غباء مؤقت ..... فأنا لم يصبني ... لذا سأحاول أن أساعدك الى أن يعود ..... )
صمتت قليلا و هي تخفض وجهها ثم قالت بخفوت
( إنها مسؤولية مرعبة ....... أشعر أنني أحفظ ذلك الجنين بحياتي .... )
رفعت كرمة وجهها الى وجه علياء الشاحب و عينيها المنحنيتين عذابا .... ثم قالت بهدوء خافت و بعينين قويتين عكس عيني علياء
( لذا ساعديني ..... أرجوكِ ....... )
ابتسمت لها علياء بضعف ....و بشفتين ترتجفان همست
( أنا .......... أنا ......... )
و سرعان ما مالت في جلستها للأمام و كأنها ستصاب بالإغماء .... لكنها تشبثت بذراعي كرمة
قبل أن تتقيأ في حجرها !!!
فغرت كرمة شفتيها ...تبلد وجهها و اتسعت عينيها و هي تحاول استيعاب أن زوجة محمد قد تقيأت للتو عليها !!!
و لم تستطع الإيتان باي ردة فعل ... سوى حاجبا واحدا شريرا ... ارتفع ببطىء شديد ...
حينها ذعرت علياء و انفجرت في البكاء شاهقة
( ياللهي .... أنا آسفة ..... أنا آسفة جدا ..... أرجوكِ سامحيني .... ياللهي لقد أفسدت ملابسك الجميلة الغالية !!.... )
لم تستطع كرمة الرد لعدة لحظات .. و مع ذلك كانت لا تزال ممسكة بذراعي علياء تدعمها ... و المسكينة المستكينة كانت تنتفض بشدة لدرجة أن جسدها كان يرسل ذبذبات بائسة الى جسد كرمة عبر يديها ...
فاستجمعت كرمة كل قوتها و هي تقول ببلادة
( لا بأس ..... لا بأس ..... خير ... خير .... يمكننا اعتباره خيرا كسكب القهوة ... أو كطائرٍ قضى حاجته فوق رأسي .... قالوا قديما أنه خيرا و سأكسو ....... )
شهقت علياء باكية و هي تطبق جفنيها بشدة .... فتنهدت كرمة حسرة على الملابس التي ضاعت و تسائلت بجنون هل كان من الضروري ان ترتدي هذا الطقم اليوم بالذات !!....
لكنها ساعدت علياء كي تستلقي للخلف ... و قالت بوجوم
( سأحضر ما أنظف به وجهك ....... و توقفي عن البكاء رجاءا ..... )
و بعد أن انتهت من تنظيف وجهها ... و تنظيف المكان .....
أخذت منشفة مبللة و ظلت تمسح بها ملابسها الى أن التصقت بجسدها و هي تشتم سرا بحنق ...
لو تجد فقط امرأة تساعد علياء .... لو تمكنت من العثور على واحدة .... تتنقل بين علياء و جدتها المريضة ... لكن هيهات ... أين تجد مثل تلك القديسة ....
سمعت فجأة طرقا على الباب ... فتسمرت مكانها و هي ترفع وجهها .....
ثم همست بقلق
( ستكون مأساة لو كانت أم محمد ... او إحدى شقيقاته ... لا أرغب في رؤية أي منهن الآن ..... )
اسبوع كامل مضى و لم تقم احداهن بزيارة المسكينة التي تركها ابنهم وحدها .....
فقد حملوها ذنب اختفائه .. و أقسمت أمه إن لم يعود قريبا فلن تبقى هنا في هذا البيت ...
و طبعا علياء أخفت خبر حملها الذي يشك محمد بنسبه ...... فلو عرفن بهذا الأمر سينصبون لها محكمة علنية و تكون فضيحتها فضيحة تتحدث عنها المنطقة بأسرها .....
اقتربت كرمة من الباب و هي تقسم أنها لو رأت أي منهن فست .........
فتحت الباب بعنف ... لكنها تسمرت فجأة مكانها .... و شعرت و كأن دلوا من الماء البارد .... بل من الجليد القاسي ... قد هطل فوق رأسها ....
فابتلعت ريقها ... و رفعت ذقنها و هي تقول بوجوم
( حاتم !! ............. )
كان واقفا أمام الباب ..... بكل بهائه و نظافته التي تكاد تجعل ما حوله جميلا ....
يضع على عينيه نظارته السوداء الداكنة .... تخفي نظرته عنها ....
لكن ملامحه كانت أكثر من كافية كي تشعر بانطباعه .... ملامحه الوسيمة كانت جامدة وكأنها نحتت من صخرٍ يعلو قمة جبلٍ شامخ ....
لم يتكلم اي منهما وهما ينظران الى بعضهما بصمت .... و على الرغم من انها لا ترى عينيه الا انها شعرت بهما تنحدران عليها ببطىء
بدئا من شعرها الذي خرجت به من المصرف مصففا بعناية اليوم ... مجموعا في اللفة الأنيقة التي يعشقها
بينما هو الآن مرفوعا فوق رأسها بإهمال و تتناثر منه خصلا متموجة مما يدل على أنه تدلى اليوم عشرات المرات و قامت بجمعه عشوائيا فوق رأسها ....
و قميصها الأبيض الناصع كان مبللا ... و ملوثا بعدة بقع ... أزراره العلوية مفتوحة و أكمامه مرفوعة فوق مرفقيها .....
التوى انفه قليلا ... فلمت كرمة ان رائحتها الساحرة قد وصلت الى أنفاسه ....
لكنها لم تشعر حتى بالتقزز من نفسها ... كل ما شعرت به هو الجمود ... و البلادة ....
كانت من المفترض ان تصاب بالذعر .... أو أن تستعطفه ليسمع .... لكنها وقفت أمامه جامدة ... رافعة ذقنها بإباء ...
ثم قالت اخيرا بهدوء .. تبدد ظلام الصمت بينهما
( ادخل على الأقل لنتفاهم ......... )
لكن عضلة به لم تتحرك ... ملامحه لم تتشرب لمحة انسانية ... بل ظلت صخرية و أكثر ....
فغرت كرمة شفتيها تتنهد بصمت و قالت بفتور خافت
( حاتم ........ )
لكنه فجأة .... و دون كلمةٍ واحدة ... استدار ليبتعد !! .....
دون كلمة !!! .....
شاهدت ظهره وهو يبتعد .... فابتلعت ريقها و هي تكرر بنفس الفتور و بتعب واضح
( حاتم !!! ........ )
لكنه لم يرد ... و لم يلتفت لها ... الى أن اختفى ....
ظلت كرمة تنظر في اثره بصمت ... و هي تنظر الى نفسها .. تعرف أنها لن تستطيع الخروج خلفه جريا الآن ...
فأغلقت الباب و استندت اليه ... مرجعة رأسها للخلف ... تنظر الى السقف القديم المتقشر ... ثم لم تلبث أن قالت بخفوت فاتر متبلد
( ياللمصيبة !!! .......... )
.................................................. .................................................. ......................
فتحت كرمة باب بيتها بعد مرور ساعتين ....
و دخلت بحذر و عيناها تنتظران تلقي وعدهما متمثلا في كارثة محققة بأي لحظة ....
لم تسمع صوتا .... و لم تراه ... فأخذت تهمس بخفوت
( يا رب اجعله نائما ..... يا رب يسقط في سباتٍ عميق لا يستيقظ منه قبل ثلاث أيام .. مصابا بفقدان ذاكرة جزيئا لآخر حدث مر به ..... )
سارت بحذر ... محاولة الا تصدر صوتا ....
ثم مدت يدها تشعل الضوء الداخلي بحرص ... الا أنها شهقت عاليا و رفعت يدها الى صدرها ... و هي تراه يجلس الى مائدة الطعام .... مشبكا كفيه ... ناظرا اليها بعينين كالصقر ... و نفس الملامح الصخرية ...
اخذت كرمة نفسا مرتجفا .... ثم استسلمت لمصيرها و اقتربت منه ببطىء ... و دون كلمة واحدة , سحبت كرسيا مجاورا و جلست أمامه صامتة تنظر اليه .... تسند ذقنها الى كفها بصمت ... و تتلاعب باليد الأخرى بسلسلة مفاتيحها ....
و بعد مرور عدة لحظات .... قالت كرمة بفتور
( من المؤكد و البديهي .... أنني لا أواجه هنا شكا في سلوكي أو اتهاما بخيانة !! .... )
التمعت عينا حاتم بشر و هو ينظر اليها نظرة مرعبة ... فارتجفت داخليا ... الا انها تماسكت و لم تظهر شيئا من خوفها و هي تقول بشجاعة و قوة
( محمد لم يكن في البيت ........ )
انتفض حاتم واقفا لدرجة ان سقط الكرسي الذي يجلس عليه ارضا مصدرا صوتا مرعبا ... تماما كملامحه المرعبة في تلك اللحظة
مما جعل كرمة تنتفض هي الأخرى واقفة بخوف و هي تتراجع بسرعة عنه .... ناظرة اليه ...
لكنها أعادت بشجاعة مشددة على كل حرف على الرغم من ارتجافها الداخلي
( محمد لم يكن في البيت منذ فترة طويلة في الواقع ... لقد رحل و زوجته لا تعلم مكانه ... )
كان يقترب منها كنمرٍ يستعد للهجوم على فريسته الى أن وقف أمامها تماما ... ينظر اليها بملامح تعرفها في حالات غضبه ... غيرته ... شعوره بالغدر ....
و قبل أن تضيف كلمة أخرى كان قد مد يده يمسك خصلة شعر مبللة من شعرها ... فقال بابتسامةٍ ساخرة .. مخيفة ...
( شعرك مغسول يا كرمة ...... هل أخذت حماما ببيته ؟!!!! ..... )
ارتجفت أكثر و أكثر و هي ترفع ذقنها علها تضاهي طوله .... ثم قالت بصوتٍ باهت
( لقد تقيأت علياء علي ........... )
بدت كلماتها كهذيان غبي حتى لأذنيها هي ...... لكنها انتفضت فجأة حين انخفضت يده لتقبض على ذقنها بقوةٍ جعلتها تتأوه وهو يصرخ بصوتٍ كزئير الأسد جعلها تغمض عينيها امام صراخه
( تتحممين ببيته ؟!!!!!! ...... تتحممين ببيته !!!!!!!!! .... هل هناك حميمية اكثر من تلك ؟!! .... )
صرخت كرمة بغضب
( احترم نفسك .... انا لن أسمح لك بقول المزيد ............. )
رفع كفه فجأة ... فشهقت و هي تظنه ينوى ضربها .... الا أن قبضته ضربت الحائط بجوار وجهها
لم تكن المرة الأولى التي يفعلها .... لقد نال الحائط بجوار وجهها العديد من اللكمات و السبب الوحيد كان محمد ... دائما ....
أخذت نفسا عميقا و صرخت بقوة
( اضربني يا حاتم إن كان ذلك سيريحك .... لقد اعتدت الضرب منذ سنواتٍ طويلة ..... و لن أغضب منك حتى .... لكن على الأقل اسمعني ..... )
الا انه اخفض كفيه مطبقا بهما على كتفيها يهزها بقوةٍ كدمية قماشية وهو يصرخ
( اسمع ماذا يا كرمة ؟!!! ...... أنكِ تكذبين علي لمدة أسبوع ... اسبوع كامل و أنت تكذبين متجهة لبيته كل يوم ...... كل يومٍ يا كرمة ....... )
ابتلعت ريقها و هي تنظر اليه ثم همست بوجوم
( متى عرفت ؟! ........... )
ضحك قليلا بوحشيةٍ دون مرح
( منذ اليوم الأول في الاسبوع ..... حين خرجتِ دون أن تخبريني ..... و حين عدت للبيت , حكتِ كذبةٍ طويلة عريضة .... بينما علمت أنا من حارس الأمن أنكِ غادرتِ مع امرأة بسيطة الهيئة .... أوصلها اليكِ بنفسه .... )
صمت وهو يلهث بغضب .... بينما قالت كرمة بفتور تكمل كلامه
( لذا قررت أن تراقبني !! ...... )
ابتسم ابتسامة قاسية .... بينما عيناه كانتا تنظران اليها بيأسٍ آلمها .... فقال أخيرا بصوتٍ جامد لا حياة به
( لم أراقبك عمري ..... الا اليوم ...... بعد سبعة أيامٍ و أنا انتظر أن تخبريني بما تخفيه عني ..... لكن كالعادة .... تبنين جدارا مصمتا حولك .... لا تسمحين لي بالدخول منه , ... بينما انتِ ترجين الي كلما كانت سمائك صافية و غير ملبدة .... )
ابتلعت كرمة غصة في حلقها لتقول باختناق و خفوت
( ما أخفيت عليك الا خوفا على مشاعرك ......... )
ضحك بصوتٍ عالٍ جعلها ترتجف ... و هي تلاحظ القسوة و الألم في ضحكته و عينيه
ثم قال بلهجةٍ خافتة قاسية
( خوفا على شعوري ؟!! ....... لو كنتِ تعلمين معنى تلك العبارة لما أهنتِ رجولتي بهذا الشكل كل مرة يا كرمة .... )
أغمضت كرمة عينيها و هي تهمس بتعب و اختناق و الم
( ياللهي .... ارجوك لا تبالغ يا حاتم ......... )
فتحت عينيها و هي ترى الوقع السيء لكلماتها على ملامحه ... الا أنها قالت متابعة بشجاعة رغم ألمها
( زوجته مريضة ..... بينما هو رحل و تركها .... لم أره يا حاتم ..... )
ضحك بسخرية مريرة وهو يقول بلهجةٍ مخيفة
( هل تريدين اقناعي أنكِ تعطفين على المرأة التي سرقت زوجك منكِ ؟! .... أم أنكِ ببساطة تمثلين دور المرأة الأصيلة الطيبة .... ليأتي و يجدد حبه لكِ وهو يراكِ تعتنين ببيته ..... )
اتسعت عينا كرمة بذهول و هي تسمعه ... ثم لم تلبث أن صرخت بغضب
( غبي ............ )
تراجع حاتم بها الى أن ارتطمت بظهرها الى الجدار .... فأغمضت عينيها متاوهة بينما لكم الجدار مجددا ... و هذا التصرف أثار حنقها أكثر و اكثر .... ففتحت عينيها و هي تصرخ بصرامة
( اضربني يا حاتم ..... اضربني و لا تكبت نفسك بهذا الشكل ..... صدقني لن أدينك و لن تنتقص قيمتك في عيني .... أعلم أنك غاضب بجنون و معك كل الحق .... لذا اضربني ثم أجلس بجوارى لأتكلم معك .. )
صمتت قليلا تلهث بسرعة و عنف ... ثم تابعت صارخة بقوة و شجاعة
( أجلس بجواري لأهدم الحاجز الذي بنيته حول نفسي أمامك ..... اليس هذا ما تريده ؟!! ... و أنا أيضا أريده ..... أريد أن أشرح لك ..... أريد أن أنطق اسم محمد دون خوف ..... )
اتسعت عينا حاتم بغيرةٍ مجنونة ... ووحشيةٍ لم تخفها ... بل ضربت الأرض بقدمها و هي تصرخ بجنون
( محمد .... محمد ... محمد .... محمد .....لست خائفة من نطقها لألف مرة .... . )
صمتت لتلتقط أنفاسها ... ثم تابعت هاتفة
( أتعلم لماذا ؟! ....... لأنني لم أعد أحمل ما يدينني أمامك ..... لم أعد أشعر بتأنيب الضمير أمامك ..... )
صمتت تلهث مرة أخرى ... ثم هتفت
( لأنك زوجي .... أنت زوجي و حبيبي ..... انا أحبك أنت , الا يشكل ذلك لك فارقا ؟!!!!! ..... )
صرخ حاتم بجنون وهو يلكم الجدار بجوارها
( و هل شكل لكِ أنتِ فارقا ؟!!!!!! ..... و انت تكذبين علي أثناء نومك بجواري كل ليلة ..... تذهبين لبيته دون اذن مني رغم انني منعتك من مجرد ذكر اسمه ..... تتحممين ببيته !!!!!!!! ... تتحمممين ببيته !!!!! .... هل تبقى لكِ أي من الحياء لم تفقديه بعد ؟!!!! .... )
صرخت كرمة بجنون
( أخبرتك أنه رحل .... والله وحده أعلم بمكانه أو بإمكانية عودته ... و أن زوجته البائسة تقيأت علي ...... و هي مريضة ..... إنها حامل ...... حامل ..... هل تصدق تلك المعجزة بعد عشرة سنوات !!! ..... )
اتسعت عينا حاتم بذهول .... لم يكن ذهولا بسبب المعجزة .... بل ذهولا تمثل في سؤاله المصدوم
( تحافظين على ابنه ؟!!! ...... خاطرتِ بحياتنا معا ... لتحافظين على ابنه ؟!!! .... حتى لو لم يكن منكِ ؟!!! .... )
ظلت كرمة تنظر اليه بصمت و هي تلهث تعبا .... و قد تناثر شعرها أمامها , ثم قالت أخيرا بخفوت
( نعم يا حاتم .... أحافظ على ابنه و لو لم يكن مني ....)
أظلمت عيناه بشدة وهو ينظر اليها نظرة غدر .... ثم استدار عنها بعنف و كأنه يحميها من غضبه وذهوله ... و يحمي نفسه من ألم ما سمع ... فقال بخشونةٍ قاسية متألمة
( ابتعدي عني ..... لا أريد رؤيتك ....... )
لكنها اندفعت خلفه هاتفة بقوة هادرة
( بل ستراني و تسمعني رغما عنك ....
أتعلم لماذا أحافظ على ابنه ؟! .... لأنني مدينة لهذا الرجل ..... لولاه لما كنت وصلت لما أنا به الآن ...... هذا الرجل هو اليد الأولى التي امتدت لي قبل ان أضيع مثل الكثيرات ..... أنا مدينة له يا حاتم .....
فقد اعطاني اسمه و بيته ... و لم أكن أنا شيئا ..... و بدأت لأكون شيئا فشيئا على يديه ..... لولاه لما أكملت تعليمي و بقيت كما أنا الآن ......
لقد حققت حلمي بفضله على الرغم من الظروف الصعبة التي فرقت بيننا .... لكني لن انكر أنني حققت حلمي بفضله بعد الله ...
و الآن حين علمت أن حلمه قد تحقق بمعجزة لكنه يوشك على فقده ..... أقسمت على أن أعمل ما بوسعي كي أرد بعضا من ديني تجاهه ....
و أنا لست أشعر بالندم أو الخزي ..... لكنني آسفة لأنني آلمتك ....... )
كان حاتم واقفا مكانه .... ظهره اليها .... مطرق الرأس و الكتفين .... مما جلعها تشعر برغبةٍ عنيفة في الجري اليه و احتضان ظهره .... و تدليك كتفيه الى أن تريح تعبه ... وتزيح الثقل عنهما ....
لكنه قال أخيرا بصوتٍ غريب لم تعرفه
( لقد وضعته بيننا كثيرا يا كرمة ...... كثيرا جدا .... حتى باتت حياتنا متوقفة على مكان وجوده ... و حالة حياته ....... و أنا ليست لي القدرة على التعامل مع هذا الوضع أكثر ...... كفى يا كرمة ... كفى ... )
استدار اليها ينظر الى وجهها المصدوم الخائف من كلامه .... وجهها الجميل الذي لم يعشق بحياته أكثر من عشقه لهذا الوجه و تلك الملامح ....
ثم قال أخيرا بصوتٍ ميت
( أنتِ تحبينه يا كرمة ........ و هذه هي أكبر خيانة ترتكبينها بحقي , أنا لا أستحقها ..... لكن الخطأ كان خطأي منذ البداية .... )
أطرق برأسه عدة لحظات ... قبل أن يرفع وجه الذي تحولت ملامحه الى لونٍ رمادي فاقد الحياة
( اخرجي من حياتي يا كرمة ....... اخرجي ..... )
فغرت شفتيها بذهول و اتسعت عيناها .... ثم همست بصدمةٍ قاتلة
( ماذا ؟!! ............. )
عاد ليستدير عنها .... و كأنه غير قادرا على رؤية ملامحها و صدمتها .... ثم قال بخفوت
( اخرجي من هنا ............ )
اتسعت فتحة فمها ... و ازداد اتساع عينيها ... و للحظة هزلية تخيلت مشهدا كوميديا ... حين يقوم أحدهم بطرد مالك المكان من ملكه ؟!!
لكنها قالت بعدم استيعاب
( هل تطردني ؟!! .......... هل تطردني يا حاتم ؟! ...... لمن أذهب ... ليس لي سواك !!! .... )
رفع اليها عينين قاسيتين .... ميتتين .... و بهما ألما صارخا ينزف وجعا .... بينما كتفت كرمة ذراعيها و رفعت ذقنها و هي تقول بقوة
( هذا بيتي ...... و أنا لن أرحل لأي مكان ..... فلترحل أنت لو أردت .... )
ظل تحدي الأعين بينهما طويلا .... عيناها قاسيتان قويتان ... متحديتان ... بينما عينيه .... عينيه تشعرانها بال ..... بالغدر ... و كم آلمها ذلك !!
الى أن قال حاتم أخيرا بصوتٍ جليدي
( اذن ابقي هنا ..... أنا من سيرحل ....... )
فغرت شفتيها مجددا و سقط قلبها بين قدميها و هي تراقبه بغباء ... يخرج من البيت , صافقا الباب خلفه
فهمست بذهول
( ياللمصيبة !! ..... هل خُرب بيتي للتو أم أنني أتوهم !! ...ألم يكن من الأفضل لو لجأت للإغراء بدلا من التهديد ؟!! ... . )
كانت تجلس على الأريكة ... تضم ركبتيها الى صدرها , تحدق في الفراغ أمامها ...
لن تبكي لأنه سيعود الآن ..... انه حتى لا يستطيع النوم دونها ...
نظرت كرمة الى ساعة الحائط و التي تشير الى الثانية عشر ليلا .... ثم عادت لتنظر أمامها بعينين متجمدتين
سيعود ... لأنه يجب أن يعود ....
ليس من حقه أن يربح قلبها بعد صراعٍ طويل عنيف .... ثم يرحل هكذا ببساطة !!
لقد انتزع حبها له رغما عنها .... لم تكن تنوي أن تحبه , لكنه كان من الصبر و الدهاء بحيث جعلها تستيقظ ذات يوم و تكتشف بأنها مدلهة في حبه ....
و الآن يريد الرحيل ؟!! ..... لا والله أبدا ... لن تسمح له ... فدخول الحمام ليس كخروجه
لم تدري انها كانت قد بدأت تهتز قليلا الى الأمام و الخلف بعصبية ...
الى أن سمعت صوت جرس الباب فجأة .... فانتفضت من مكانها تجري بكل قوتها اليه و هي متأكدة بأنه حاتم
على الرغم من أنه لم يكن ليستخدم جرس الباب ... لكن قلبها كان معميا .. متلهفا لرؤياه بأي طريقة
فتحت الباب بقوةٍ و هي تهتف بلهفة
( حاتم ............ )
لكنها توقفت و هي تلمح داليا زوجته السابقة و معها محمد الذي رفع اصبعيه علامة النصر قائلا
( لقد جئت ...... لكن يمكنني العودة لو كان هذا هو رأيك الرتسم على وجهك .... )
هتفت كرمة تتنهد بقوة
( محمد ......... .....أخيرا عدت .. )
و هي تضمه الي صدرها لدرجةٍ جعلته يختنق فقال محمد بتذمر
( شعري ..... ... شعري .....
تبرعت داليا للكلام بتعالي رافعة احدى حاجبيها بعد فترة
( من الواضح أن حاتم ليس موجودا !! ...... كما أن هاتفه مغلق .... )
أرجعت كرمة شعرها المشعث الفوضوي خلف أذنيها و هي تشعر بالتذمر لأنها ترتدي أحقر ما لديها من واقع اليأس الذي تحياه .... الم تجد أحقر من ذلك القميص القطني الذي يصل الى ركبتيها و يبدو كخرقة التنظيف !!
بينما داليا التي أتت على حين غفلةٍ في منتصف الليل كعادتها الفجة ...و هي تبدو في قمة جمالها و أناقتها لدرجةٍ مذهلة ... تجعل منها الأم المثالية في الحفاظ على شكلها !! ..
و حمدت كرمة الله ... أن حاتم ليس هنا كي يقارن بينهما !!! ....
قالت كرمة بتردد
( آه نعم ..... لديه عملا مهم في منطقةٍ ليس به ارسال ......)
ظلت داليا تراقبها برضا ... ثم قالت أخيرا
( آها ....... و أنتِ كيف حالك ؟ .... تبدين رائعة .... )
مطت كرمة شفتيها و هي تزفر بداخلها دون أن تظهر ذلك على وجهها و هي تقول بابتسامة رسمية
( شكرا لكِ ..... و أنتِ أيضا ..........)
مالت داليا على إحدى ساقيها بأناقة ... ثم قالت بابتسامة جميل لكن كرمة رأتها بغيضة
( الن نسمع خبرا مفرحا قريبا يا كرمة ؟!! ....... كم مر على زواجكما حتى الآن ؟! .....)
رفعت كرمة عينيها للسماء .... و هي تفكر بقرف
" ما تلك الحركات الشعبية ذات النصف كم كما يقولون ؟!! ... لقد هربت من تلك التلميحات , و الآن تعود لتسمع نفس السؤال الفضولي الغبي و الذي لا يسأله الا من يعاني عاهة فكرية
فرفعت رأسها و هي تقول ببرود
( هذا السؤال انتهى طبع نسخته منذ التسعينات يا داليا ؟!! ...... )
و حين وجدت أنها زادت من وقاحتها تماما .... خاصة أن داليا رفعت حاجبيها بذهول من الإجابة ...
فافتعلت كرمة ضحكة سخيفة مفتعلة لتبين انها تمزح ..... و ظلت داليا ممتعضة قليلا .. قبل ان تشاركها السخافة بنفسها في حكةٍ سمجة ....
بينما كان محمد يراقبهما بصمت مكتفا ذراعيه ... يستند بكتفه الى اطار الباب و قد بدا يشبه حاتم تماما في وقفته تلك .... ثم قال بهدء
( هالة الملائكة بدأت تنير فوق رأسيكما .... هلا توقفتما عن التمثيل .... أريد الدخول ... )
رمقته كرمة بنظرة تأنيب لوقاحته ... بينما قالت داليا بلهجةٍ ممطوطة
( انتظر يا محمد .... فوالدك ليس هنا ..... )
رفعت كرمة ذقنها و هي تقول
( هذا بيت محمد .... يدخله وقت يشاء .. في وجود والده أو غيابه ..... ثم أن حاتم أوشك على الوصول )
قالت داليا بلهجةٍ أنثوية مغيظة
( كان يجب أن يأخذه حاتم بعد يومين ..... لكن ظهرت لدينا سفرة مفاجئة .... )
أومأت كرمة برأسها و هي تهمس بداخلها
" كالعادة .... و ما الجديد؟! .... الظريف في الأمر أن داليا تظن بأنها تضايقها بتلك التصرفات .. لا تعلم أنها تسديها معروفا جليلا .. حين تعيرها ابنها .... ابنها الذي يشعرها بأنها .... صديقة .. و أخت .. و ..... أم ..."
قطعتها كرمة بقوة و هي تمسك بمعصم محمد و كأنها قبضت عليه ...
( لا تهتمي لذلك أبدا ........ أنا سأعتني به و احضر أمينة بنفسي غدا صباحا كي تطمئني ..... )
رفع محمد حاجبه وهو يقول
( على أساس أن تحممني و تغير لي حفاضي ؟!!! .......... )
كانت حربا صامتة بين كرمة و داليا .... و كرمة متشبثة بكتفي محمد تضمه اليها بنظراتٍ متحدية ...
مستعدة لأن تخطفه و تصفق الباب لو حاولت داليا استعادته ....
قالت داليا أخيرا على مضض
( لا بأس اذن ........ سأهاتف حاتم ما أن ....... يعود من تلك المنطقة عديمة الإرسال ... )
ثم غادرت بأناقة أمام نظرات كرمة الغاضبة ..... فركلت حصوة بقوة و لحظها العاثر أصابت حذاء داليا العالي ... مما جعلها تجفل و تتعثر ..
و ما أن استدارت ... حتى أصاب كرمة الرعب , فدخلت و أغلقت الباب بسرعة ... و هي تستند اليه بظهرها بعينين متسعتين .... ثم لم تلبث أن انفجرت ضاحكة و هي تغمض عينيها ...
حينها قال محمد رافعا حاجبه
( هذه أمي التي ركلتها بحصوةٍ للتو !!! ...... و تضحكين أمامي ؟!!! .... )
حاولت كرمة تغطية فمها بيدها لكنها فشلت في إخفاء ضحكها ..... ثم لم تلبث ان قالت بعينين براقتين و هي تسعل
( نعم ... تلك هي امك التي ركلتها بحصوة ..... و ذاك هو والدك الذي سيعود رغما عنه كي يرعى ابنه.... )
هجمت عليه تشبعه عناقا و هي تشعث رأسه هاتفة
( لقد جئت في وقتك تماما ...... )
جحظت عينا محمد من شدة العناق و هتف باختناق
( و يا ليتني لم آتي ........ )
.................................................. .................................................. ......................
ظل ينظر اليها طويلا في نومها .....
كان يكذب حين ظن ان الحب اللعين قد انتهى ما أن عرف حقيقتها الغير مشرفة
هذا ما اكتشفه كلما ارتجفت بين ذراعيه ....
نفس الشعور القديم بالحماية يتسلل بخيانةٍ الى صدره فيزيد من ضمها ....
زم وليد شفتيه وهو يتراجع ليستلقي على ظهره محدقا في السقف ... مكتفا ذراعيه تحت رأسه ....
و همس بصوتٍ ميت
( الى متى ؟! ......... و ما هي النهاية ؟! ....... كان خطأ كبيرا أن استسلمت لنزوة غضبك ... و ها أنت تحاول ابعاد النهاية دون حتى التفكير بها ...... )
سمع أنينها بجواره .... فالتفت برأسه ينظر اليها بصمت ووجوم ....
لقد اعتاد ذلك الأنين و نومها الغريب .....
مضت ليالٍ عديدة .... شاركها بها الفراش بكل معنى حميمي و متهور .. عله يكتفي منها ... الا أن ذلك لم يحدث ...
بل كانت بداخله رغبة تزداد ضراوة كل ليلة ....
رغبة تختلف عن الرغبة الجسدية العادية .......
رغبة في منحها الرضا الجسدي ..... فقد كانت تعاني من فتور غريب , على الرغم من تمثيلها العكس ....
لكنها لم تستطع خداعه .... و كم كان يشعره ذلك بالإهانة ...
لم يكن يميز نفسه كثيرا .... لكنه متأكدا أنه على الأقل أكثر تناسبا معها عن باقي أزواجها .....
لكنها كانت فاترة ..... جامدة ... رغم عينيها اللتين تتلاعبان اغراءا مزيفا .....
و تسائل بسخرية و ازدراء .... كيف أمكنها خداع أزواجها بمثل ذلك الإغراء المزيف !! ....
انها لا تشعر بأي قيمةٍ للعلاقة الزوجية ... و لا تهتم لها أصلا ...
أرجع رأسه مجددا للخلف ..... يعلم أن أولى أيام زواجهما كان يتفنن بحيوانيةٍ في التحقير من شأنها
و من المؤكد أن لهذا دورا في الأمر ..... لكن بعد ذلك تأكد بأن برودا مزمنا يسكنها .....
كل يوم يكتشف أنها تعاني اهتزازا و احتراسا يسكن حدقتي عينيها الخضراوين الشبيهتين بعيني القطط الحذرة ..
شعر بها تركل بجواره و تنتفض و هي تئن .... فتنهد بصمت معتادا على ما ينتابها أثناء النوم كل ليلة ...
استدار اليها و قد بدأت حركاتها تزداد عنفا و هي تنقلب على بطنها ثم ظهرها ... بينما ساقيها وجدتا الطريق الى ساقيه كي تتعارك معه و هي تختنق و تئن ....
استلقى على جانبه وهو يقيدها ليحد من حركتها العنيفة قائلا بفتور من اعتاد الأمر
( بشرى ...... بشرى ..... إنه مجرد كابوس ...... )
لكن حركاتها ازدادت قوة و هي تضربه و تتصارع معه ... و بدأت تصرخ , فاعتلاها بصدره القوي العضلات وهو يهتف بقوة
( استيقظي ....... استيقظي ...... )
شهقت شيراز مرتين .... ثم فتحت عينيها و هي تشهق المرة الثالثة ...
ظلت تنظر الى وليد الذي يعلوها بعينين متسعتين ... و جسدها لا يزال يصارعه , الى أن هتف وليد بقوة
( كفى ..... لقد استيقظتِ ..... )
أخذت تنظر حولها قليلا ...قبل أن تهدأ تدريجيا و ترتمي مستلقية بجواره .... و هي تنظر الى السقف بعينين مجهدتين ....
ثم لم تلبث أن أدارت وجهها اليه بحذر ... تراقبه بتوترو صمت .... بعينيها الكبيرتين قبل أن تقول بخفوت
( هل أنت مستيقظا دائما ؟!! ..... الا تنام ؟! ... كلما فتحت عيني وجدتك تنظر لي في الظلام....ما هذا الرعب ؟!! ..)
نظر اليها بإشمئزاز قبل أن يمط شفتيه قائلا
( و هل من يستلقي بجوارك يغمض له جفن ؟! ...... أنتِ تصارعين كالثور في السرير ....ليتك تصارعين بتلك الكفاءة في صحوك عوضا عن نومك ....)
احمر وجهها بشدة من وقاحته ...وعقدت حاجبيها قليلا .... ثم قالت بخفوت
( لم ألحظ من قبل أنك لست راضيا ؟! ..............)
ظل ينظر الى السقف قبل أن يقول ببرود
( و من يكون راضيا مع دمية من القش ؟! ......... )
شعرت و كأن صفعة نزلت على وجهها للتو !! .... دمية من القش ؟! ....إنها المرة الأولى التي ينعتها أحد أزواجها بوصفٍ كهذا ....
و كم كان لفظا مؤذيا ..... اراحت وجنتها على الوسادة تنظر اليه بصمت ... ثم قالت أخيرا بفتور
( تعلم جيدا أنني لست كذلك ............ )
نظر اليها بطرف عينيه ... ثم قال ببروده الجليدي
( لا يسعني سوى الإشفاق على من ظنوا بأنهم دفعوا لقاء ما يستحق ......... )
رمشت بعينيها و هي تتلقى الصفعة الثانية .... ثم قالت بخفوت و أصابعها تلف زاوية وسادتها
( لا تشفق عليهم ..... كانوا أكثر من راضيين ...... )
لم تستطع التقاط أنفاسها قبل أن تجد ثورا هائجا و قد التف حولها حتى هيمن عليها تماما ... بينما واجهتها عينين غاضبتين ..... غضبا باتت تعرفه و تتأقلم معه مع مرور الأيام ....
فأغمضت عينيها منتظرة صفعة حقيقية هذه المرة ....
استمر بهما الصمت طويلا .... هي ترتجف قليلا ... بينما كان جسده يشع بحرارة الغضب و الوحشية ....
فابتلعت ريقها بضعف .... فتبعت عيناه حركة حلقها و قبضته تغلق بشدة وهو يحاول منع نفسه من ضربها
و حين طال به الصمت ... تجرأت على فتح عينيها ... و هالها أن ترى ذلك التعبير الغريب بعينيه ...
تعبير لم تستطع تفسيره ... الا أنه كان عنيفا ... جعلها ترغب في البكاء ... فابتلعت غصة حادة بحلقها قبل أن تهمس بإختناق
( لماذا تؤلم نفسك ؟! ......... )
كان همسها مترجيا .... غريبا على اذنيه , فتابعت بخفوت أكبر و كأنها تنشج دون دموع
( أنا لا أريد ايلامك أكثر ..... لكنني مضطرة للدفاع عن نفسي ..... لطالما كنت شرسة في الدفاع عن نفسي و هذا ما فرضته علي الحياة ...... )
ظل ينظر الى عينيها و قبضته تنقبض اكثر و اكثر .... و صدره يرتفع و يهبط ...قبل أن يدفعها عنها بإزدراء وهو يعاود الإستلقاء بعنف رج السرير قائلا بإزدراء
( ستظل أنفاسك عابقة بالقذارة للأبد ........ لكن لا رغبة لي في تلويث يدي بضربك مجددا... )
أسبلت جفنيها قليلا بألم .... ثم همست متنهدة بفتور
( أنت لا تعاقبني لكذبي عليك .... او حتى اخفائي لحقيقة حياتي ...... )
صمتت قليلا ثم تابعت بفتور أكبر
( أنت تعابقني لأنني كنت ملكا لثلاث رجالٍ قبلك ......... )
ازدادت سرعة حركة صدره ... و بدت ملامحه متشنجة لدرجة التلبد بعواصفٍ من الغضب القاتم ....
فقالت بخفوت مختنق
( لا يمكنك أن تحاسبني على الماضي ...... لا يمكنك معاقبتي على شيءٍ فعلته قبل أن أعرف بوجودك ... هذا ليس عدلا ....... )
لوت زاوية الوسادة أكثر حول إصبعها .... ثم تجرأتٍ على الهمس بصوتٍ لا يكاد أن يسمع
( وليد ..... الا زلت ....... تحبني ؟! ....... )
انتفضت رأسه تستدير اليها وهو ينظر اليها بوحشية .... فقالت تهمس
( لا أصدق أن يضيع ذلك الحب الذي كنت تتحدث عنه في لحظةٍ واحدة ..... و الا فأنت على الأرجح كنت تتلاعب بي ....... )
ظل ينظر اليها طويلا و قد تجمدت ملامحه ... ثم قال أخيرا ببرود
( و هل كنت أعرض عليكِ الزواج لو كنت أتلاعب بكِ ؟! .... أي سببٍ آخر يجعلني أتنازل و اتزوجك رغم الفوارق بيننا ؟! ....... لكن ردا على سؤالك , فنعم .... الحب يمكن أن يموت في لحظةٍ واحدة ليولد مكانه الإزدراء ..... فالحب و الإزدراء لا يقترنان .. )
ارتجفت شفتيها قليلا .... و هي تبعد عينيها عنه .... وحين صمتت قال وليد ببرود يصدمها بعد فترة
( و أنتِ ؟! ......... هل كنتِ تتلاعبين بي حين أخبرتِني بحبك ؟!! ..... )
رفعت عينين دامعتين اليه ... ثم همست بإختناق
( و لماذا أتلاعب بك ؟! ...... لم تكن الصيد الأمثل ..... شابا قويا ثريا مثلك , يختلف عن نوعية من يقبلون بي ......كان مجرد حلما و لم أسعى في أكثر أحلامي جنونا بأن أحاول الإيقاع بك ..... لكنك أنت من حاصرتني بمشاعرك .... )
شعرت بإختناق أكبر فصمتت
مد يده ليحيط بوجنتها فجأة ..... فغطاها كلها , مما جعلها تفتح عينيها على أقصى إتساعٍ لهما و هي تحدق به ...
لا تصدق أنه يقوم بتلك الحركة الرقيقة .... منذ زواجهما و الذي بدا و كأن سنواتٍ قد مرت عليه ....
ظلت تنظر اليه .... تتنعم بتلك الكف القوية و دفئها ... قبل أن يقول بخفوت و صوته الرجولي الجاف ناظرا لعينيها
( اذن .... ألازلتِ تحبينني ؟؟ ......... )
فغرت شفتيها الرقيقتين و هي تنظر اليه بذهول .... لم تسأل نفسها هذا السؤال منذ أول يوم بزواجهما ... و كأنها قد فقدت الأمل و عادت الى دورها الحقيقي في الحياة ...
لكن مجرد صوته الخافت وهو يسألها هذا السؤال بحنان ... جعلها تتذكر كل الايام الجميلة بينهما أثناء عطلتها
أوقات الغروب على ذلك الشاطىء .....
حنانه الذي لم تعرف مثله من قبل ...
دفاعه عنها في كل موقف و هو يظهر لها من تحت الأرض .......
أغمضت عينيها لعدة لحظات و تخيلت أنها عادت الى هناك ....مستلقية على الرمال الدافئة ... تضمها ذراعاه فأخذت تمرغ وجنتها بكفه و ابتسامة حزينة تظلل شفتيها ....
و بكل غباء .. و دون أن تتعلم همست تتنهد
( أحبك ..... أحبك ....... والله أحبك ........ )
مرت لحظة قبل أن يقول بصوتٍ بارد كالجليد
( جيد ..... اذن آمل أن يجعلك ذلك تعانين بنفس القدر الذي اشعرتيني فيه بالغباء.... )
فتحت عينيها بذهول و قد سقطت عليها عبارته كشظايا حادة .... أصابت منها ما أصابت ....
فاستدارت عنه على جانبها الآخر تدفن وجهها في وسادتها ..... تحارب موجهة الدموع التي داهمتها ....
و ما أن استطاعت الكلام أخيرا حتى قالت بإختناق
( أنا أريد النوم وحدي منذ اليوم ............. )
كان يعلم أنها تبكي ... لكنها كانت تحاول جاهدة اخفاء ذلك ... و كان ذلك يشعره بالغرابة ...
من أن تكون فتاة لها مثل حياتها لا تزال تملك بعض الحس المرهف كي تبكي من أي كلمة!!
لكنه رد ببرود
( الأمور هنا لا تسير وفق رغباتك ........ )
هتفت باختناق دون أن تستدير اليه
( أنا لا أستطيع النوم بجوار أحد .......... أشعر بالخوف حين يكون هناك من يراقبني ... )
قال بنفس البرود وهو ينظر الى السقف
( اذن سيكون هذا تدريب جيد لكِ كي تتخلصي من مخاوفك .......... )
هتفت بجنون و هي تضرب الوسادة بقبضتها
( أنا أريد النوم وحدي ...... لا أريدك بجواري ...... )
شعرت بقبضته على ذراعها تديرها اليه حتى استلقت على ظهرها وهو يشرف عليها من علو ...
الا أن وجهه أجفل قليلا وهو يفاجىء بسيلٍ من الدموع أغرق وجهها دون صوت ...فتحرك فكه قليلا وهو يتأمل عينيها الباكيتين بصمت .....
لا يمكنها تمثيل هذا القدر من الدموع ....
حينها قال بجفاء
( توقفي عن البكاء ليل نهار ......... )
صمت قليلا و هو يتأملها .... شفتيها المكتنزتين المنتفختين شهيتين بدرجة محببة ... و عيناها الباكيتان تملكانه بوقاحتهما المختلط بالحذر الساكن بهما ..... انه يشتهيها بدرجةٍ لا تنضب و لا تقل .....
ربما الحب و الازدراء لا يقترنان
لكن من المؤكد أن الرغبة و الإزدراء لهما رأيا آخر
و دون أن يدري كان يخفض وجهه اليها ليمس فكها بشفتيه ... الا إنها انتفضت فجأة هاتفة بصرامة على الرغم من دموعها
( لا أريد ............ )
تسمرت شفتاه على وجنتها ... فرفع وجهه قليلا بملامح قاتمة ... ثم همس بجفاء في اذنها
( أخبرتك أن الأمور لا تسير هنا وفقا لرغباتك ....... )
و عاد ليقترب منها و قد خدرته طفولتها عديمة التربية و الأخلاق ..... لكنها تشنجت بين ذراعيه و هي تهتف بعنف
( لا أريد ...... لا أريد ..... كفى ....كفى . )
لم يعر رفضها اهتماما وهو يظنه مجرد تمثيلا رخيصا من أدوارها العديدة .... لكنها زادت من تشنجها عن قصد و هي تتلوى بين ذراعيه بعنف ... مما اثار حنقه عليها أكثر فقيد معصميها فوق رأسها بقوةٍ ترعبها ....
هذا الفطحل لا يمكن حتى مجرد التفكير في مقاومته ....
فشعرت بالجنون و هي تجد نفسها مقيدة بالكامل بينما هو ينهال عليها بأشواق رجلٍ حديث الزواج مهما بلغ حقارة ما يتقاذفانه من اتهامات
اخذت تتنفس بسرعة .... و هي تطبق شفتيها بعنف ... و تغمض عينيها بشدة .... محاولة السيطرة على الجنون المتنامي بداخلها قبل أن تنفجر بفعل متهور ....
لكنها لم تستطع التحمل لأكثر من عدة لحظات .... فعادت للتلوي بعنف و جنون و هي تصرخ
( ابتعد عني ...... لا أريدك الآن ........ )
و أثناء تلويها أصابته ركبتها اصابة حساسة .... مما جعله يتأوه و يبتعد عنها صارخا وهو يلهث
وقد بدت ملامح مخيفة من شدة الغضب المسيطر عليه
( تبا لكِ .... هل عدتِ لحالاتك الهيستيرية من جديد ؟!!! ........ )
انتهزت شيراز الفرصة و قفزت واقفة ......... ثم صرخت بغضب ... وهي تبصق الكلمات بوجهه
( بل عدت للقرف منك ... و لم أعد أتحمل اقترابك القذر مني مجددا ....... )
اتسعت عيناه بشدة ... بينما أوشكت ملامحه على الانفجار من شدة اللون القاتم المنتشر عليها ... و ما أن رأته يندفع الى ازاحة الغطاء من عليه ....
حتى جرت بعنفٍ و الجنون و الذعر يتلبسانها و هي لا ترى أمامها سوى الحمام .... الغرفة الوحيدة التي يمكن احكام غلقها في هذا البيت ....
كان قلبها يدق بعنف و هي تسمع خطواته الهمجية خلفها ... بينما هرمونات خوفها تدفعها بجنون للإختفاء
الى أن وصلت للحمام وفي اللحظة الأخيرة قبل أن تغلق الباب كانت ملامحه المخيفة قد ارعبتها و هو على بعد خطوةٍ خلفها .. فصفقت الباب بعنف في وجهه ...
رأت مقبض الباب يتحرك بعنف ... ثم ضربة جعلت الباب يرتجع و جعلتها تنتفض متراجعة للخلف أكثر ...
و صوته يصرخ
( افتحي الباب يا بشرى ........ هل أنتِ مجنونة ؟..... لماذا تتصرفين على هذا النحو ؟! ... )
ابتلعت ريقها و هي تتراجع للخلف خطوة أخرى ... و صوته يكاد يثير الرجفة في نفسها بعنف ...
و اثناء تراجعها لمحت صورتها في المرآة .... فنظرت الى نفسها و هي تستند الى الحوض بيدين ترجفان
عيناها واسعتان بشدة .... و صدرها يلهث بسرعةٍ مجنونة ....
أسبلت جفنيها بحزن و هي ترفع يديها المرتجفتين لتغلق قميص نومها ببطىءٍ شديد تخفي وشمه الرجولي عليها و هي محنية الرأس و الكتفين .... بينما شعرها الزغبي متهدلا حول وجهها ... معبقا بأنفاسه اللاهثة الساخنة
ارتجفت شفتيها بقوة و هي تنتفض اثر ضربة أخرى منه ... فنظرت الى الباب بصمت ....
بينما كان هو يضرب الباب بقوةٍ هاتفا بغضب
( بشرى ..... افتحي الباب ..... هل أنتِ بخير ؟! ..... لماذا صمتِ ؟! .... بشرى ..... بشرى .... )
لم ترد و هي تتنفس برهبة ....
لا تدري كيف تتصرف .... و لماذا تفعل ذلك من الأساس؟! .....
ما فعله بها رابح كان مريعا ... و مع ذلك تحملته لحظة بلحظة .... و تفننت في ارضائه كي تحصل منه على ما تريد .... فلماذا تفعل ذلك بوليد ؟! ....
لماذا تنفر منه و تزدريه الى تلك الدرجة ؟! .....
فعلى الرغم من السم الذي يحقنها به في كلماته ... الا أن ما يفعله لا يقارن بذرةٍ مما فعله رابح .....و زوجها الأول ... و القذر مشرف الدار .....
أما وليد .... فهي تريد ارضاءه ..... أقسمت أنها تريد ارضاءه ... خاصة و أنها على ما يبدو لا تزال تحبه بكل غباء ....
لكنها ببساطةٍ لا تستطيع .... كلما اقترب منها شعرت بالنفور .... تريد قربه من بعيد لبعيد ....
تتمنى رعايته ..... حنانه .... لكنها تبغض العلاقة الزوجية منه .....
ربما لأنها تشعرها بالحقارة .....
لم تشعر أبدا من قبل بالرغبة في تلك العلاقة مع أي من ازواجها ... و لا مع أي رجل ..... تعرف جيدا أنها تعاني برودا طويل الأمد ....
لكنها كانت تجيد التمثيل عليهم ببراعة ..... الى أن أحبت وليد .... و تزوجته ..... ففقدت القدرة على التمثيل !!
و كأنه أصابها بلعنةٍ ما .....
انتفضت فجأة صارخة و هي ترى الباب يفتح بضربةٍ عنيفة لم يتحملها رتاجه الضعيف ....
دخل وليد وهو عاري الصدر ذو العضلات ..مما يشعرها دائما بالخوف نظرا للفارق بين حجميهما ...
كانت ملامحه غاضبة بشدة و هو ينظر اليها ليرى ان كانت بخير ... و ما أن تأكد بأن مكروها لم يصبها ... حتى هدر و هو يضرب الباب بقبضته بعنف
( تبا لذلك الجنون !! ..... هل تظنين أن بإدعائك هذا الدور من الجنون سيخولك بأن تتصرفي كما شئت ؟!! .... )
كانت تنظر اليه بعينين متسعتين .... وهي تراقب اقترابه منها ...
و بحركةٍ واحدة انتزعت شفرات الحلاقة الخاصة به ... لتتناثر حولها في كل مكان كألعابٍ نارية ... باستثناء واحد فقط ظل بيدها ... رفعته أمام وجهها و عيناها تبرقان بشر ... ثم همست مشددة من بين أسنانها
( لم يكن عليك استخدام شفرات تقليدية ........... فهي ليست المرة الأولى التي أستخدمها ..... )
تسمر وليد مكانه و اتسعت عيناه .... بينما بقت شيراز مكانها و هي ممسكة بالشفرة امام وجهها بكل تصميم ... متابعة بصلابة ...
( حين أقرر أنني اكتفيت و لا أريد ...... فأنا لا أريد ...... من خالفني من قبل , ندم على ذلك ,.... و عليك البدء في تعلم هذا الدرس ......... )
فهي لم تنصح ملك بأن تحتفظ بسلاحٍ صغير في صدر فستان زفافها من فراغ ........
اقترب وليد من شيراز ببطىء دون أن يجفل و عيناه على عينيها .... بينما هي تزداد ضراوة في الإمساك بالشفرة ... لدرجة أن انسدل خيط مم الدم على إصبعها دون أن تعي ذلك .... لكن وليد كان واعيا لكل حركاتها .... وهو يقترب منها بحرص .... قائلا بخفوت
( هل تريدين جرحي يا بشرى ؟! ..... الم تكتفي بعد ؟! .....اكتفيتِ مني لكنك لم تكتفي من جرحي بعد .... )
لم تتحرك و لم تتغير ملامحها .... لكن اهتزازا طفيفا بحدقتي عينيها أخبره أنها تأثرت للحظة ....
فقال بصوتٍ خافت ... قريبا لصوته القديم عند البحر ... و الذي افتقدته بشدة ....
( أين هو اذن الحب الذي نطقتِ به منذ دقائق ؟! ........... )
ارتجفت شفتيها مصاحبة لحدقتيها .... و انحنى حاجبيها كطفلٍ يريد البكاء لكنه خائف .....
أخفضت وجهها قليلا ... فاقترب منها أكثر وهو يقول بهدوء
( اتركي تلك الشفرة من يدك يا بشرى كي لا تزيدي من جرح نفسك .......... )
ابتلعت ريقها و هي ترفع وجهها اليه بصمت .... ثم قالت بفتور
( سأتركها ما ان تخرج من هنا ........ أنا سأنام في الحمام .... )
رفع ذقنه و أظلمت عيناه وهو يشعر بالإهانة تفور بدمه ..... تلك الحقيرة تهدد بقتله ... تفضل النوم في الحمام ..... كل ذلك لمجرد ألا يلمسها ....
هتف بخشونة وهو يندفع اليها
( و تملين شروطك ؟! ............. )
حركته المفاجئة جعلتها ترتعب على حين غرة و قبل أن يصل اليها كانت قد رفعت معصمها الى الحوض و هي تصرخ
( ابتعد و الا قتلت نفسي ....... )
لكنها لم تكن بحالةٍ سوية فقد شطرت باطن معصمها بالشفرة قبل حتى أن تتم تهديدها ....
تسمر وليد مكانه وهو ينظر بذهول الى الدم الذي يقطر من باطن معصمها .... فتمالك نفسه بسرعة على الرغم من شحوب وجهه ...
فأمسك بيدها بسرعةٍ و فتح الماء على جرحها وهو يصرخ بجنون
( مجنونة ...... يا مجنونة ........ تبا لجنونك ...... )
أخذ يجس جرحها بإحتراس بينما صدره ينبض بعنف ..... ثم تنهد قليلا بارتجاف وهو يدرك أنه جرح سطحي تهديدي لم يصل الى أوردتها ....
التقط المعقم و الرباط اللاصق فأخذ ينظف لها جرحها الى أن غطاه و ربطه في النهاية دون أن ينظر اليها
و ما أن انتهى حتى رفع عينيه اليها .... عينين مخيفتين ..... مرعبتين .... بينما هي واقفة أمامه ساكنة ... و معصمها بيده ... بمنتهى البراءة !....
ثم هدر فجأة بقوةٍ وهو ينحني ليحملها فوق كتفه .... متجها بها الى غرفة النوم ... فأخذت تصرخ و تصرخ و هي تضرب كتفيه و ظهره ... الى أن ألقاها على السرير و قبل أن تتمكن من الهرب من الناحية الأخرى للسرير .... كان قد أمسك بخصرها يعيدها مجددا بينما هي تصرخ دون توقف
( لا أريد ........ لا أريد الليلة مجددا .......)
الا أنه صرخ بها هائجا من شدة الغضب
( تبا لكِ اخرسي ...... أهو تطعيم ؟!!!! !!!!!........ )
ابتعد عنها للحظة وهو يتجه الى دولابه .... ثم عاد اليها بخطواتٍ تضرب بوزنه فوق الأرض ... مرسلةٍ الذبذبات الغاضبة عبر الأرض و منها الى السرير ...
اتسعت عينيها و هي مرمية على السرير نصف جالسة و شعرها فوق وجهها بتشعث ....
تراه ممسكا بربطتي عنق ...... ففكرت بهذيان و ذهول
" هل سيخنقني ؟!! ..... هل سيخنقني ؟!! ........ "
فمنظره وهو يقترب منها ببطىء .... و عيناه متوحشتان ... بينما الربطتين تتدليان من قبضتيه القويتين , فبدا مرعبا و على وشكِ ارتكاب جريمة ....
و ما أن وصل اليها حتى حاولت الهرب مجددا بعد أن افاقت من صدمتها ... لكنه كان أسرع منها فهجم عليها وهو يقيد معصميها معا بربطة عنق ....أحكم وثاقها جيدا .... ثم وصلها بالاخرى ليربطها بمعصمه !!!
ثم هتف بازدراء
( ماذا كانوا يرون بكِ ؟! ....... قصيرة متوحشة , أبعد ما تكون عن الإغراء !! .... )
و ما أن انتهى حتى سقط مرتميا على ظهره أمام عينيها المذهولتين ... وهو يرفع ذراعه الأخرى فوق عينيه ...
فغرت شفتيها بغباء ... ثم لم تلبث أن أخذت تشد يديها بقوةٍ و هي تصرخ بجنون
( لا أحب التقييد ..... لا أحب التقييد ... )
لكنها كانت كمن تجذب جدارا منيعا .... وما ن شعرت بالتعب .. حتى استلقت بيأس و هي تبكي مختنقة بنفس الكلمة و صوتها يذوي من الجهد الذي بذلته
( لا أحب التقييد ..... )
حين شعر أخيرا بأن حالة الهيستيريا التي أصابتها بدأت في الذبول ... قال ببرود مزدري
( اطمئني ...... لو كانت بداخلي ذرة رغبة بكِ فقد بددتِها بكفاءة ......و لن ألمسك ولو كانت حياتي تعتمد على ذلك ... )
أغمضت عينيها و اخذت تبكي بصوتٍ خافت علها ترقق من قلبه عليها ... لكن دون جدوى ...
ذراعه ظلت تحجب عينيه عنها ... الى أن تعبت في النهاية و توقفت عن البكاء .. مكتفية بتنهيداتٍ صغيرة ...
الى أن راحت في سباتٍ عميق ... مصدرة شخيرا ضعيفا من شدة المجهود الذي بذلته
حينها رفع وليد ذراعه عن عينيها ينظر اليها بصمت .....
يتعجب تلك الفتاة التي جعلها زوجته .....
محمرة الجفنين ... منتفخة الشفتين .... مضمدة المعصم ... مقيدة اليدين بمعصمه !!!!
اي كارثة تلك !!! ..
نعم كان يعلم أنها ليست على تمام التوازن .. لكنه لم يظن أن حالتها بمثل هذه الكارثية ...
وهو متأكد أنها لا تزال تخفي أكثر مما عرفه .... لكنه خائف من معرفة المزيد عنها ...
يقنع نفسه أنها مرحلة مؤقتة ثم سيدعها تذهب الى حالها .... لكن يوما بعد يوم , يزداد التخيل صعوبة .....
مد يده ببطىء وهو يفك قيدها .... فتأوهت قليلا , مما جعله يشعر بوعكةٍ مؤلمةٍ بصدره ..... لكن عندما سكنت دون أن تستيقظ , تمكن من حل الرباط بهدوء .... و من فورها استلقت على جانبها تعطيه ظهرها و كأنها شعرت بأنها حرة أخيرا ....
في تلك اللحظة .... تذكرها و هي تخرج من تحت سطح الماء , فاتحة ذراعيها للسماء و هي تهتف بطفولية
" أنا حرة ........ "
ظن يومها أنها لن ينسى هذا المنظر أبدا .... لكنه نسيه و الآن فقط تذكره ....
ظل مستندا الى مرفقه ... يراقبها بصمت و احباط .....
أتدرك مدى الإهانة التي يشعر بها حاليا !!! .....
كيف تعترف أنها تحبه , و في اللحظة التالية تنفر منه و كأنه كائن جرب !! ......
استلقى على ظهره وهو يشعر بالتقزز من الوضع كله .... لقد جعل من نفسه أحمقا يستحق كل ما يناله .....
ظل ينظر الى السقف بصمت ... بينما بدأت هي رحلة أنينها اليومية و هي تتصارع مع الأغطية ....
بينما كان لسانها يتمتم و كأنها تخاطب أحدهم
( ليأخذك الله و يريح العالم من أمثالك ........ )
ظل وليد مستلقيا بملامح جامدة .... و لم يندهش كثيرا حين أتبعت كلامها بأن بصقت على صاحب الحظ السيء ....
إنها تبصق حتى و هي نائمة !!! ...... أي مستنقع لفظها الى حياته !! .....
.................................................. .................................................. ..................
( هل ستخرج ؟!! ........ )
نفس السؤال كل يوم بصوتٍ حزين باهت .... و كأن الإجابة ستتغير , .... لكن شيئا ما بنفسه هو ما تغير ..
فشعر بنوعٍ من لوعةٍ تقرصه وهو يسمع الصوت المنكسر من خلفه ....
لكنه قال بجفاء
( الا تملين السؤال ؟! ...... أم تظنين أنني عاطل !! ..... )
تلاعبت شيراز بأصابعها و هي تقف خلفه .... يوليها ظهره ....
لقد استيقظت اليوم ووجدت نفسها وحيدة في السرير .... و عادت اليها كل ذكريات ليلة أمس دفعة واحدة ففغرت شفتيها ذهولا مما اقترفته من مصائب دفعة واحدة ... لدرجة أنها رفعت معصمها تتأكد من أنها قد جرحت نفسها بالفعل ... و حين شاهدت الرباط اللاصق , أغمضت عينيها متأوهة بغضب من نفسها ...
نظرت الى ظهره بصمت و هو يحضر بعض الأوراق بصمت... مرتديا كامل ملابسه ...
فظلت صامتة قليلا , ثم أخذت نفسا عميقا و قالت بخفوت
( ظننت أن عملك في الفندق فقط ... و أنك هنا في عطلة ! .... )
استدار وهو يقول ببرود دون أن ينظر اليها
( انا مجرد مساهم في الفندق ... و اذهب الى هناك للإستجمام فقط ...... )
ابتسمت باهتزاز و هي تحاول تهدئة الأجواء بينهما ... ثم قالت
( هذا ينبهني بأنني لا أعرف الكثير عنك ........... )
أجفلت بشدة وهو يضحك عاليا ضحكة خشنة .... قبل أن يقول بلهجةٍ مقيتة ..
( احمدي ربك أنكِ لم تنالي نفس صدماتي تجاهك ....... )
ابتلعت ريقها و التوى حلقها بتوتر .... و رأته وهو يبتعد عنها ناويا الخروج ... فأسرعت خلفه لتقول بصوتٍ خافت ضعيف
( وليد ............ )
توقف مكانه يزفر قليلا و ظنت أنه سيتجاهلها و يتابع طريقه ... الا أنه استدار ينظر اليها ... و كانت تلك المرة الأولى التي ينظر فيها لها منذ الصباح ....
كانت تحاول جاهدة الإبتسام في محاولاتٍ واهية فاشلة ... فتتكسر الإبتسامة على شفتيها لتنخفض زاويتهما بتعب .... ثم قالت أخيرا بخفوت
( بالنسبة لما حدث ليلة أمس ........ أنا كنت ..... )
التوت شفتيه بامتعاض مما جعلها تصمت و هي تبتلع اجفالها ... بينما لوت يديها خلف ظهرها كطفلة مذنبة ...
نظر الى شعرها الذي رفعته في لفتين طريفتين فوق رأسها .....
ووجهها الخالي من كل مساحيق التجميل .... فبدت كمراهقةٍ في الخامسة عشر من عمرها لا أكثر ...
تذكر اليوم الذي ضفره لها في ضفيرتين قصيرتين .....
ذلك اليوم الذي بكته بعنف لأن ملك تمتلك ضفيرة طويلة !!!....
ضاقت عيناه قليلا وهو يتذكر تلك العبارة .... و سرح تفكيره مع ملك !!! ..... لابد أنها تعرف الكثير .....
أكثر من مجرد فتاة تحمل لها أغراضها و تقلم أظافرها !! .....
لماذا لم يفكر في هذا الأمر من قبل ؟!! .......
و يبدو أن عينيه قد أطالتا النظر الى لفتي شعرها طويلا ...و لاحظت هي ذلك , فابتسمت بارتجاف وهي تقول بخفوت رافعة يدها تتلمس احداهما
( أتتذكر حين ضفرت لي شعري ؟! ......... كنت أبدو جميلة للغاية , هلا ضفرته لي مجددا ... )
صمتت قليلا أمام نظرات الإستهجان بعينيه ... فهمست بخفوت أكثر
( كبادرة صلح ........... )
انخفض صوتها تماماحتى صمتت في آخر حروفها .... و أخفضت وجهها و هي تشعر بالغباء ....
قال وليد أخيرا بصوتٍ جاف .. ضربها كالسوط
( لو أردت صلحا .... فآخر ما تفعليه هو تذكيري بتلك الأيام ...... )
لم تجرؤ على رفع وجهها اليه .. لكنها عضت على شفتها بقسوة .... و ما أن شعرت به يتحرك ليخرجو يتجاهلها .. رفعت عينيها و هتفت
( وليد لا تتركني مجددا ..... لقد تعبت من ذلك السجن الإنفرادي .... )
استدار ينظر اليها مبتسما بسخرية قاسية ... ثم قال باستهزاء
( الآن فقط أيقنت بأنكِ مختلة العقل !! ....... ربما كنتِ نسيتِ صراخك المجنو ليلة أمس و صراعك بأن أتركك لتنامي وحدك ! ...... )
ابتلعت ريقها بصعوبة و هي تنظر الى الغضب الكامن في أعماق عينيه ... لكنها هتفت بقوة
( انت تحتجزني هنا كمجرد أداة جسدية .... تستخدمها لتفرغ بها رغباتك ليلا ... بينما تتركني هنا وحيدة طوال اليوم .... على الأقل اسمح لي بالخروج وحدي ..... )
التمعت عيناه بالشر وهو يقول بنبرة الخطر
( و هل أسلم اسمي لكِ و أثق بكِ ؟!!! ....... ما أدراني بالمكان الذي ستتجهين له بغيابي ؟! ...... )
انعقد حاجباها و هتفت بشراسة
( أخبرتك أن الخيانة ليست من طبعي ..........و انت تدرك ذلك جيدا ... )
استدارت تبتعد عنه مندفعة بغضب و هي ترفع يديها لتفك اللفتين عن شعرها بوحشية كادت أن تقتلع شعرها معها .... لكنها لم تهتم ....
و قبل أن تختفي عن أنظاره ... استدارت اليه فجأة و صرخت بغضب
( و اسمك قد سلمته لي بالفعل ...... و أنا أستطيع خداعك لو أردت , حتى لو أغلقت علي الف باب ... انظر فقط الى بابكو انت خارج .... انت تتركه مفتوحا دون أن توصده ... الا يخبرك ذلك بأن آخر ما تفكر به هو أن أتصرف بما يسيء الى اسمك الغالي ؟!! ..... )
و دون أن تنتظر منه ردا ... كانت قد جرت الى غرفتها و صفقت الباب بكل عنف ....
استدار وليد ينوي الخروج و قد أعماه الغضب منها و من البيت بأكمله ... لكنه سمعها تصرخ بأعلى صوتها من غرفتها
( حيوااااااااان متخلف ......... )
اظلمت الدنيا أمام نظراته ... و احمر وجهه بعنف ...و أوشك على أن يقتحم الغرفة و يحطم كل قطعة اثاث فق رأسها ... الا أنه آثر الخروج قبل أن ينتهي هذا اليوم بجريمةٍ دموية ....
فصفق الباب بعنف ... جعل شيرازتنتفض في مكانها مترقبة .... ثم سرعان ما انخفض كتفاها بخيبة و هي تنظر الى نفسها ...
جالسة أرضا .... فاتحة ساقيها الممدوتين ... و بينهما تقبع العديد من قمصانه و ربطات عنقه ... و التي كانت قد بدأت في قصقصتها الى قطعٍ صغيرة بمقصٍ قصير !! ...
نظرت الى الأشلاء المرمية أمامها ... ثم همست تتسائل بوجوم
( ماذا أفعل ؟!!! .......... )
زفرت بعمق و هي ترجع رأسها للخلف مستندة بها الدولاب من خلفها و همست مجددا بصوتٍ واهي
( ماذا أفعل ؟!!! ......... )
.................................................. .................................................. ......................
تحركت وعد بحذائها ذو الإطارات و هي تبتسم بين السيدات العاملات في المعرض ....
كانت تقدم المشروبات بنفسها كمن اشتاق للأيام القديمة ..... خاصة بوجود علي , لكنه الآن أصبح شابا وسيما أنيق الملبس ... يقص بنفسه و ربما تقدم أكثر في العمل ! ....
لذا استولت على حذائه ذو الإطارات .... و هي تتحرك به لتعبث هنا و هناك ... بين السيدات العاملات ...
لقد عقدت صداقة مع كل واحدة منهن .... حتى بات المعرض هو أجمل مكان تقضي به وقتا في حياتها الصعبة الحالية ....
بينما حين تبدأ في التعامل مع الزبائن ... فإنها تتحول الى امرءة أخرى ....
امرأة تتلبسها الثقة و الأناقة بدرجةٍ ملفتة للأنظار .... ...
وضعت وعد كوب الشاي أمام كوثر .... فسمعت صوت علي ينادي من باب المكان
( وعد .......... هناك من يسأل عن ملك ..... )
رفعت وعد وجهها المجفل و هي تتحسس الكدمة المتخلفة عن ضرب الحقير زوج ملك لها ....
فابتلعت ريقها متخوفة من الضربة التالية .... لكنها تشجعت و هي تقول بخفوت
( تشجعي يا وعد ..... منذ متى ترهبك ضربة!! ...... )
تحركت بالحذاء تزيد من سرعتها و هي عاقدة حاجبيها ... الى أن وصلت للباب متجاوزة علي الذي كان ينظر بحيرة غير مستوعبا لما تفعله ... لكنه أدرك بعد فوات الأوان أنها قد فقدت السيطرة على مكابح الحذاء فاندفعت خارجة م باب المعرض و هي غير قادرة على التوقف ... فهتفت
( الحقني يا علي !! ........... )
كان وليد واقفا عند الباب منتظرا و حين رآها خارجة تتعثر في الإطارات مستغيثة .... مد يده تلقائيا يلتقطها من عنق قميصها كالأرانب ليوقفها مكانها لدرجةٍ كادت أن ترفعها أرضا من شدة قوته و عضلاته ...
ظلت وعد تجاهد الى أن اتزنت أخيرا فوق الإطارات بأعجوبة ... ثم هتفت بصرامة و هي تجذب ملابسها
( أنا بخير .... أنا بخير ..... أترك ملابسي ... )
تركها وليد وهو يدرك أنها نفس الشابة الوقحة التي كانت تدافع عن شيراز ....
و من جهتها .. فقد تعرفت عليه وعد ما أن وقعت عيناها عليه , فهتفت و قد برقت عيناها غضبا
( أنت ؟!! ...... أنت الذي تهجمت علينا ... ضارب النساء الحقير .... ماذا تريد مجددا ؟!! ... لا زوجة لك عندنا هذه المرة لتبحث عنها ....... )
ارتبك وليد و أظلمت ملامحه ... وهو ينظر حوله ثم قال بخشونة
( هلا أخفضتِ صوتك قليلا ...... الأمر له ملابساتٍ لا دخل لكِ بها ..... )
اندفعت تهتف بغضب
( الملابسات الوحيدة هي دخول قبضتك بملامح وجهها .... أي رجلٍ يضرب زوجته هو رجلٍ جبان )
هذه المرة لم ينظر حوله .... لكنه شعر و كأنها ضربته ضربة موجعة ....
و فهمت وعد نظراته خطأ فرفعت ذراعها لتحمي وجهها و ق بدأت تتوتر من اي رجلٍ تحتك معه ... فتجد ضربة تلصق وجهها بين كتفيها ....
اطرق وليد بوجهه قليلا .... فقالت وعد بهدوء حازم
( عامة .... لا دخل لي ما دامت المسكينة الغبية قد اختارت العودة معك بارادتها ..... و الآن اذهب من هنا قبل أن أطلب لك الشرطة .... )
رفع وليد وجهه ليقول بخفوت
( اريد رؤية ملك ....في موضوعٍ يخص زوجتي ... رجاءا .... )
ضاقت عينا وعد و تعجبت مجدد من تلك الصداقة الغريبة التي تجمع ملك بامرأة لا تشبهها في اي شيء و تكاد أن تثير الشبهات ....
قالت ببرود
( ملك ليست هنا .... انها مسافرة ... )
رد وليد محاولا الحفاظ على تهذيبه قدر الإمكان
( انا أريد أن أسألها فقط عدة أسئلة تخص حياة زوجتى ..... أظنها تحتاج المساعدة .... فهلا أخبرتها أنني أريد رؤيتها ؟!! .... هي ستوافق , فقط اخبريها أن زوج بشرى يريد مقابلتها .... )
رفعت وعد عينيها اليه و هي تقول بنفاذ صبر
( أخبرتك أنها ليست هنا .... أتريد تفتيش المكان ؟! ..... ثم اليست زوجتك اسمها شيراز على ما أظن ؟! .. )
زفر وهو يميل برأسه جانبا بخيبة أمل .. ثم قال بفتور
( اسمها الحقيقي بشرى ..... )
ضاقت عينا وعد و هي تشعر بأن الاسم ليس غريبا عليها .... ليس الإسم فقط , لكنه ساعد في أن يعيد اليها وجه شيراز مرة أخرى و هي تدرك بأنها قد رأتها من قبل ....
و مرت عدة لحظات من محاولة الإستيعاب .... و عيني بشرى الخضراوين الخائفتين تسيطران على ذاكرتها بذهول .... فهتفت فجأة بصدمة
( بشرى !!!!!!!!! ...... ياللهي , كيف غفلت عن الشبه ..... )
انتفض وليد مكانه وهو يقول
( هل تعرفينها ؟! ...... ظننت أن ملك هي فقط من تعرفها ..... )
ارتمت وعد لتستند بظهرها الى الجدار خلفها و هي تحدق في البعيد .... ثم قالت بشرود
( بل كانت صديقتي أنا .... فهي من عمري و ليست من عمر ملك ..... كنا جميعا أخوات في دار للرعاية ..... ياللهي لقد مر زمن طويل ... كيف لم أتبين ملامحها المرة السابقة ..... )
قال وليد باهتمام
( هل هذا يعني أنكِ تعرفين عنها ما قد يفيدني أم أن العلاقة بينكما كانت قديمة جدا .... و من الأفضل أن تساعدني ملك !! .... فهي من كانت تلبي طلباتها و تسكن بجوارها .... )
رفعت وعد عينيها اليه بصمت ... تتأمله طويلا ... ثم قالت أخيرا بخفوت
( كنت تقول أنها في حاجةٍ الى المساعدة ..... و انا أقول لك دون أن أعرف أي مما قد حدث لها فيما بعد .... أنها حتما تحتاج الى المساعدة ..... )
ضاقت عينا وليد بشدة وهو يستوعب كلامها .... من الواضح أنها قد ابتعدت عن بشرى منذ الطفولة ... فما هو المهم لديها ليساعده على فهم طبيعة شخصيتها ....
قال أخيرا بهدوء
( هلا جلسنا قليلا لنتكلم ؟ ...... رجاءا ......... )
جلس وليد على كرسي قدمته له وعد في نهاية المعرض ... و أخذ يراقبها بصمت و هي تجلس أمامه و ما أن فتح فمه يريد الكلام حتى لاحظ اقتراب احدى الفتيات تحمل صينية بها كوبين من الشاي ...
فأغلق فمه الى أن وضعتها أمامهما .... و اخذ يراقب انصرافها.... حينها قالت وعد بهدوء
( الآن لن يسمعنا أحد ..... لا تقلق ..... تفضل الشاي)
مد وليد يده ليمسك كوب الشاي ..... الا أنها مجرد أن مكثت في يده للحظتين ... سرعان ما وضعها ليميل الى الأمام .... مستندا بمرفقيه الى ركبتيه قائلا بتوتر
( أشعر ان ما سأسمعه لن يعجبني....... )
رفعت وعد عينيها الجليديتين اليه تقيمه لعدة لحظات قبل أن تقول ببساطة
(أخشى أن اعجابك أو عدمه لن يغير من واقع الأمر شيئا......... )
رفع وليد ذقنه ينظر اليها ثم قال بخفوت
(هلا توقفت أولا عن التحامل ضدي كي تستطيعين الكلام بحيادية دون اغفال أي تفصيل ؟)
زمت وعد شفتيها و هي تنظر بعيدا ..... فذلك الرجل الوسيم و الضخم العضلات و الذي يبدو ظاهره يحمل كل المميزات الرائعة ..... لكنه على الرغم من ذلك لم يعجبها منذ المرة الأولى......
فهي لا تحتمل القهر بكل أنواعه .......
لكنها تحاملت على نفسها بعد أن شعرت باهتمامه بمعرفة خلفية طفولة بشرى.....
أفاقت من شرودها على صوت وليد يقول بصوت حاسم خافت .....
( دعيني أبسط لك الأمر ..... هل تعرضت بشرى في طفولتها لتحرش ؟...... )
نظرت اليه وعد بصمت قبل أن تقول بصوت جامد
(كلمة تحرش لا تصف بشاعة الأمر ......... )
شعر وليد بشيء ما يطبق على صدره وهو يتراجع للخلف في كرسيه .... ناظرا اليها بملامح رمادية ... و طاف به السؤال اللذي يخشاه فقال مرغما بصوت مختنق يرتجف قليلا
( اغتصاب ؟!! ..........)
فقالت وعد بنفس الصوت
( ليته كان اغتصابا .... ليته كان .... فالضرر حدث في كل الأحوال و بقائها عذراء هو ما انقذه ... ليته كان اغتصابا .......)
ابتلع ريقه و كأنه يبتلع شفرات مسننة .... تشطر حلقه لكنه قال أخيرا بايجاز
(من كان ؟؟ ........)
قالت وعد بخفوت
( كان مشرفا عندنا بالدار ........)
صمتت قليلا ثم اقشعر بدنها و بان التقزز على فمها و هي تتابع
(كان أسمر البشرة .... ضخم جدا .... يكاد أن يكون عملاقا ... أسنانه سوداء و بعضا منها مكسور ... و رائحة أنفاسه بشعة .... أكاد اتذكرها حتى الآن ..... بغيض الصوت بدرجة مخيفة)
صمتت قليلا و رعشة تسري بجسدها فتزيد من قشعرته قبل أن تتابع بخفوت باهت
(لطالما كان دنيء اللمسات ....لا يتكلم سوى بيديه و كلما كبرنا عام ... تجرأت لمساته الى ما لا نعرف من أجسامنا ..... )
صمتت قليلا و هي تشعر بقرف قديم .... لم تستطع تفسيره قبلا في سنها الصغير .... لكنها ادركته حين كبرت ثم قالت بخفوت
(لم نسلم جميعنا من لمساته ... لكننا اعتبرناها امرا واقعا طالما أنه لا يضر ... الا بشرى .... هي الوحيدة التي اوقعها سوء حظها فرسية اختياره لتكون عبدة جسده ... )
شعر وليد في تلك اللحظة بغثيان مريع كاد أن يطبق على روحه لكنه اضطر للسماع وهو يحاول أن يعمق من مساحة صدره كي تتسع نفسا قويا ...
عبدة جسده!!......
العبارة كادت أن تثير كل منابع الاشمئزاز بداخله وصفا لهذا الثور قذر الرائحة .... مقترنا ببشرى
فإن كان جسدها الآن ضعيفا طفوليا ... قصيرة القامة ....فكيف كانت في طفولتها أمام هذا الجسد؟!! الضخم القذر !!.....) ابتلع غصة اخرى وهو يستمع الى وعد لكنه قال بصوت باهت (تحرش بها
قالت وعد تجيبه دون مواراة
(التحرش قد يكون عابرا .... مرة .... اثنتين أما المستمر منه يعرف بالاساءة الجسدية )
قال وليد يسألها بصوتٍ ميت وهو يتابع كلامها الميت كصوته و كأنه يمنحها العون و يمنح نفسه
( أسبوع ... شهر ؟! .... شهرين ؟! .... من المؤكد أن أحد ما قد اكتشف فعلته !!)
رفعت وعد عينيها الرماديتين اليه و هي تهمس بجواب قاطع
(سنوات ...........)
شغر عندها بثقلٍ في صدره .... يمتد الى أطرافه فأوهنها ... لكن جذوة من نار كانت تلتهب تحت رماد سكونه فقال مكررا بصوت لا حياة له
(سنوات؟!! ....... )
أومأت وعد برأسها و هي تقول
نعم سنوات ...... ثلاث أو أربع سنوات ... لا أتذكر تماما ... كنا أصغر من أن نفهم او أن نستوعب)
كنا نعلم أنها مجرد صغيرة مضطربة ...... و لم يرغب الكثير في مصادقتها نظرا لأنها ...
أولا من اللقطاء و كانت هناك تفرقة في المعاملة بيننا و بينهم و لأنها عاما بعد عام كانت تزداد شراسة تجاه اي طفل يتطاول عليها ....
الا أنا ..... فأنا كنت أعاملها بلطف و كنت .... و كنت اغطيها جيدا و اهدهدها الى أن تنام كل مرة بعد عودتها من تلك الهوة المريبة التي لم يكن أي منها يستطيع تفسيرها حينها لكنها كانت تعود ببعض اصابات طفيفية و خدوش ... تبدو و كأنها نتيجة لعبها المتهور
أنا فقط من كنت الاحظ انها تخرج بدونها و تعود بها و هي ترتعش .....)
صمتت وعد و هي تطرق بوجهها بينما كان وجه وليد مسودا .... جامدا و حلقه يتحرك بصعوبة تكاد تكون اختناقا قالت أخيرا متابعة
(الى أن كبرنا قليلا .... و ازداد ادراكنا .... و سألتها مرارا فاستجمعت شجاعتها ذات يوم و قصت علي التفاصيل و كيف أنها على الرغم من شراستها و سلاطة لسانها مع الجميع الا أنها كانت ترتعب منه و من تهديده لها كان تهديدا طويل الأمد نشأت عليه لكني لم اتحمل ... و بقيت اغذي فيها روح الانتقام و الصراخ بما يحدث الى ان اقتنعت .....)
صمتت وعد و هي تطرق برأسها بملامح واجمة ... ثم همست دون أن تنظر اليه
(و ما أن نطقنا بالأمر حتى كانت الطامة الكبرى داخل جدران هذا الدار دون أن يجرؤ احد على اخراج تلك المعلومة خارجه فلو عرفت تلك الفضيحة لتم التحقيق و منعت عنه التبرعات و الهدايا التي تذهب اليهم دون حتى أن تمر رائحتها الى انوفنا.......)
صمتت و لم تجد القدرة على المتابعة .... فقال وليد بصوت أجش جاف يكاد أن يخدش الأذن
(الم يتم فتح تحقيق ؟!!.....)
رفعت وعد عينيها اليه و ابتسمت بسخرية مريرة ثم قالت
(تم فتح تحقيق داخل الدار .... تحقيق قديم الطراز .... قدم الزمن ....)
عقد وليد حاجبيه وهو يقول متوقعا الأسوأ
( ما هو هذا التحقيق قديم الطراز ؟..........)
نظرت وعد اليه عينيه عدة لحظات ثم قالت دون خجل و كأنه امر ا باردا عاديا
(كشف عذرية .............)
ارجع وليد رأسه للخلف وهو يتنفس بقوة بينما تصلبت ملامحه و تمتم بشيء ما بدا من القسوة بحيث جعل وعد تجفل لكنها همست حين وجدته غير قادرا على الكلام
(كان شيئا مهينا ..... مدمرا للمتبقي من نفسيتها و طبعا كانت عذراء.....)
نظر اليها مقطب الجبين ..... و كأن الكلمة كانت مؤذية و تعطي معنى عكس طهرها الحرفي ...
فبدت مشوهة ...... مقبضة للصدر وقالت وعد بصوت باهت
(عكس طلقات الأفراح و زغاريد تلك الأعراس ...كانت عذريتها فرحا لهم ... و تهمة جعلت منها كاذبة وضيعة على الرغم من انهم يخادعون انفسهم وهم يعلمون ذلك لكنهم اتقنو الدور .... و لم يستمع اي منهم الى المزيد منا لكن هي ....) صمتت وعد .....
فقال وليد بصوت أجش يختنق
(هي ...... ماذا حدث لها ؟!!.....)
بدا سؤاله و كأنه يسألها متابعة قصة مؤلمة عن انسانة لا يعرفها و كأنه لايعرف مصيرها ...
و ليست تلك التي تركها ببيته منذ عدة ساعات فقالت وعد تقص عليه القصة
(هي .... نالت ضربا لم تنله في عمرها ... حيث أنها رفضت السكوت أصابتها حالة من الجنون و الصراخ المستمر بما يفعله هذا الحيوان و كان الضرب لا يتوقف كصراخها .... حتى كادت أن تزهق أنفاسها ذات مرة .... حينها توقفت و بدت من يومها غريبة النظرات و كأنها تعد لشيء ما ......)
قال وليد بصوت خافت واهي
(و ماذا يمكن لطفلة في مثل عمرها أن تفعل ؟!!.......)
رفعت وعد وجهها اليه و قالت بهدوء
(شفرتين بيدها .... ذلك هو كل ما أعرفه و رأيته قبل أن تعاود الذهاب اليه لمرة أخيرة ... كانت تلك المرة الأخيرة التي أراها بها منذ سنوات ... لكنني لن أنسى أبدا صوت الصراخ و العويل و هو يبدو غارقا بدمائه ...يتحرك كثور مذبوح و الكل يسارع لاسعافه ... لم اتبين من كثرة الدماء التي تغطيه أي منطقة مصابة به ......)
اتسعت عينا وليد وهو يتخيل تلك الفتاة منذ مراهقتها و قد ارغمت على التلاعب بالشفرات أخذا لحقها المنتهك .....
و على الرغم من بعض السعادة السادية التي انتابته وهو يسمع عن تلك الدماء القذرة و هي تسيل على ملابسه المدنسة ........، لكن أي عقاب يكفي هذا الحيوان على يد طفلة؟!!
فهذا القذر لا يكفيه سوى أن تقطع أوصاله .... و لو كان في قبضة يده الآن لكان قضى أياما في تعذيبه بتلذذ ليدخل السجن بعدها سعيدا أنه قام بشيء شريف .....
ساد صمت طويل بينهما .... كانت وعد تنظر اليه بلا تعبير على الرغم من الانقباض الذي تشعر به كلما تذكرت تلك القصة .... لكن هو .... هو كانت ملامح وجهه يرثى لها .... خليط غريب من الغضب المكبوت .... و الصدمة و الاشمئزاز .... و حزن دفين بأعماق عينيه .....
قالت وعد بخفوت بعد عدة لحظات
(اذن ..... كيف حالها و حياتها الآن ؟ ..... لم يتسنى لي الوقت لأعرف عنها سوى ما رأيته من ضربك لها على وجهها .....)
انتفض وليد بمكانه و اختلجت عضلاته الضخمة و رفع وجهه اليها بصدمة قبل أن يقول على مهل بصوت ميت
( لماذا أنت قاسية الى تلك الدرجة ؟! .... الا تشعرين بالجليد يحيط بقلبك ؟......)
رفعت وعد وجهها و قالت بهدوء
( عرفت للتو نبذة عن حياتنا في الدار ..... مما يجعل من القسوة شيئا منطقيا فيما يخصنا .... لكن ما عذرك أنت في قسوتك ؟!!......)
التوت عضلة فكه بقوة ... و اظلمت عيناه ....
لكنه قال بصوت خافت
(لقد أساءت اختيارات حياتها بفظاعة ........)
رفعت وعد حاجبيها قليلا ..... ثم قالت أخيرا ببرود
و هل هذا هو سبب عقابك لها ؟! ..... اختياراتها السيئة في الحياة ؟!!!.....))
ابتلع ريقه بصعوبة و نهض واقفا وهو يقول بصوت غريب
( شكرا لك ...... لقد عرفت ما أتيت من أجله ......)
استدار ليغادر لكنها نادته بهدوء و هي لا تزال جالسة في مكانها تضع ساقا فوق أخرى بصلف ...
و ما ان استدار اليها حتى قالت دون ان تتحرك
(من الواضح أنك أيضا أسأت الاختيار في حياتك حين اخترتها و هي لا تناسبك .... فماهو عذرك ؟! و من سيعاقبك ؟!!.....)
ظل ينظر أليها بملامح متجمدة حتى خشت أن يتشقق وجهه الى أن قال أخيرا بفتور
( نصيحة مني .... ابحثي عن دواء ليذيب جليد قلبك بدلا من تجميدك لمن حولك .....)
رفعت حاجبها و قالت بهدوء
(شكرا على النصيحة ....آمل فقط أن تمتلك بعضا من الضمير الذي يجعلك تتعذب قدر الإمكان على ما فعلته بها ..... عض على شفتيه بكرهٍ لا يعلم إن كان موجها لتلك المرأة رمادية العينين ....
أم موجها لذاته ..... استدار ليبتعد الا انه توقف بعد خطوة و بدا مترددا ...
ثم قال مطرق الرأس دون أن يستدير اليها ....
(هل يمكنني سؤالك ....ماذا فعل بها ؟....تلك التفاصيل التي حكتها لكِ)
ظلت وعد تنظر الى ظهره العريض و كتفيه المحنيتين و عدم قدرته على الاستدارة اليها لسماع جوابها و رغما عنها انتابتها بعض الشفقة عليه و فكرت الا ترد .... لكنها قالت أخيرا بخفوت
( كل شيء لك أن تعرفه كرجل .... باستثناء عذريتها .... اسفة )
نطقت كلمتها الأخيرة بصدق .... لصدق جوابها ...
بينما ظل هو مكانه ساكنا .... دون أن تبدر منه حركة ... و كأنه لم يسمع ... ثم و دون أي كلمة ... تحرك خارجا ... دون أن يستدير اليها ......
فتحت شيراز الباب ببطىء و هي تنظر من شقه الضيق .....و ما أن رأت لجين أخت وليد تقف أمامها مبتسمة
حتى قالت بلا أي مقدمات ترحيبية
( أخاك غير راضٍ عن اختلاطك بي.......)
كانت لجين تنظر اليها و قد تعجبت فظاظة ألفاظها الأنها لم تشعر بالغضب .... بل شعرت نوعا ما بالشفقة تجاهها على تلك العبارة المفاجئة .... فقالت ببساطة
( أنا في العادة أطيع أخي ...... لكنني أيضا أمتلك عقلا يمكنني من موازنة الأمور .....)
ظلت شيراز مكانها دون أن تفسح لها الطريق ... فقالت لجين رافعة حاجبيها
الن تدخليني الي بيتك؟!!.......) )
ترددت شيراز و هي تمسك الباب قائلة بتوتر
(هذا بيت وليد ....)
قالت لجين مبتسمة ....
(اذن ابتعدي لو سمحتِ......)
زمت شيراز شفتيها لا تعلم إن كان من العقل مخالفة أوامر وليد فيما يخص أخته بالذات ... فقد لاحظت أنها تمثل له منطقة خاصة لا يحب لأحد أن يعبرها ....
لكنها في النهاية ابتعدت على مضض و قالت بخفوت
( تفضلي.......)
دخلت لجين أمامها ثم استدارت لها ما أن أغلقت شيراز الباب و قالت ...
(كيف حالك اليوم ؟! .... أرى أنك أصبحت أفضل بكثير ....)
كانت شيراز واقفة أمامها تلوى اصابعها كتلميذة مرتبكة و زاد حرجها و هي تسمع تلميح لجين لضرب وليد لها ... لذا قالت بقنوط
( أنا بخير .... شكرا لكِ ......)
جلست لجين على احدى الأرائك ..... ثم ربتت على المكان بجوارها و هي تقول بمودة
( تعالي و اجلسي بجواري بقت شيراز مكانها مترددة قليلا .... ثم تحركت اليها و جلست بجوارها على حافة الأريكة مشبكة أصابعها فضحكت لجين قليلا بتعاطف و هي تراها أبعد ما يكون عن زوجة مضيفة في بداية زواجها .... بل تكاد تبدو و كأنها تريد طردها في أي لحظة تفاديا لغضب وليد
لذا قالت لجين بهدوء
( لم يتسنى لنا الكلام في المرة الماضية .... فوضعك لم يسمح بالكثير من الحديث حينها )
ابتلعت شيراز ريقها و هي تفكر
" ها هو التحقيق سيبدأ ... ففي المرة السابقة ... أخذت لجين تضمد لها كدماتها دون اسئلة بينما الغضب كان يكسو ملامحها مما جعلها شبيهة بأخيها في غضبه لكن شيراز يومها كانت في حالة من الخزي يرثى لها ...ليس بسبب الضرب او الكدمات التي رأتها لجين .... فقد اعتادت الكثير من الاهانة في حياتها لكن سببا واحدا كان يثير خزيها و رعبها وهو الظن الذي سيساور أخت وليد و خالته حين يجدان عروسه مضروبة كل هذا الضرب صباح زفافها !!.... و منعهما من الاختلاط بها و حجزها في البيت كل هذا ليس له سوى معنى واحد ..
سيتطرق الى ذهن كل من يراها .... خاصة و أنها متأكدة بأن وليد لم يخبرهما بأنه قد سبق لها الزواج قبله ....
انتفضت فجأة و هي تلتفت الى لجين قائلة بتوتر
( لا أريدك أن تسيئي بي الظن مما حدث.........)
عقدت لجين حاجبيها قليلا بحيرة ثم قالت
(و ما هو هذا الظن السيء تحديدا ؟!!........)
ارتبكت شيراز أكثر لكنها لم تتمالك نفسها من القول باضطراب
(عروس ..... و بصباح زفافها .... يكون وجهها مليئا بالكدمات و غيرها... ليس له سوى معنى واحد ....)
صمتت فظلت لجين تنظر اليها بهدوء .... و حين ازداد الصمت رفعت حاجبها و قالت تحثها على المتابعة بهدوء
( ما هو المعنى ؟....... قولي ...)
ابتلعت شيراز ريقها .... ثم قالت بخفوت متقطع
(أنا ... امرأة ... شريفة .... لا تظني أن أخاك قد اكتشف مثلا أنني ....)
صمتت للحظة ... ثم قالت متابعة باضطراب أكثر دون ان ترفع عينيها عن الأرض
( أنا لا أفعل شيئا في الحرام ...أقصد .... أنا لم أفعل شيئا في الحرام ....)
صيغة الحاضر التي استخدمتها أشعرتها بالرخص و كأنها مهنة تمتهنها لقوت يومها !!!
ساد صمت طويل غريب جعل شيراز تبدو و كأنها على حافة بركان من شدة التوتر ... و هي تلعن غبائها و لسانها المنفلت دون لجام من المؤكد أن أخت وليد تظنها الآن غريبة الأطوار ....
ما هذا اللذي نطقت به للتو ؟! !.... لعنت كل جينات الغباء التي تحملها خلاياها .....
لكن لجين قالت بعد فترة ببساطة ... لا تتناسب و جنون ما نطقت به شيراز
( أولا....الخلاف المجهول و العنيف بينك و بين وليد ... بدأ قبل زواجكما و كان هذا واضحا وضوح الشمس حين قابلتك على السلم ليلة زواجكما ..... أي قبل أن يدخل بكِ .. اعذريني في اللفظ ....
ثانيا وهو الأهم ... أنت تعانين من ارتياب فظيع بالبشر ... كيف استنتج عقلك أن هذا هو ما سأفكر به ؟)! ....
اضطربت شيراز أكثر .. و بدت مثيرة للشفقة و هي تفرك أصابعها ...ثم قالت أخيرا بتوتر خافت رافعة شعرها خلف أذنها ..و هي تنظر الى لجين بطرف عينيها....
( أنت على الأغلب تظنين بأننني غريبة الأطوار .... اليس كذلك ؟.....)
قالت لجين مبتسمة
(على الأقل لست بغرابة أطوار وليد بما فعله .... لقد صدمني به .....لكنني اعتدت الا أحكم على أحد قبل أن أفهم .... فمابالك بأخي الوحيد .....)
تجرأت نظرة شيراز أكثر و هي ترفع عينيها قليلا لتراقب لجين التي كانت تربكها بأناقتها حتى و هي بملابس البيت ...
لغتها كانت راقية جدا و تضم بضعة كلمات من لغتين على الأقل ... انهما أولاد عز و أصول ... هي و أخاها ... و هذا ظاهرا عليهما بوضوح مما يجعلها تشعر بالتضاؤل أكثر ...
قالت لجين تقاطع تأملها السري
(أذن ،،، اتحبين أن أناديك شيراز أم بشرى ؟........)
قبل أي رد كانت عيناها تراقبان لجين مرة بعد أخرى ... و يدها الشاردة تعدل من ياقة قميصها البيتي .. ثم ردت بخفوت بعد تردد
( بشرى .......)
قالت لجين مبتسمة
(و ماذا عن شيراز ؟.... كيف حصلت عليه ؟......)
انخفض صوت شيراز و هي ترد بقنوط بعد عدة لحظات
(انه مجرد اسم شهرة .....)
قالت لجين مبتسمة
(عامة أنا أفضل اسم بشرى .......)
رفعت شيراز عينيها اليها و همست
(وليد أيضا يفضله ..........)
صمتت للحظة قبل أن تتابع متداركة
(كان ..... كان يفضله .....)
قالت لجين باهتمام
( انه الاسم الذي أخبرني به أول مرة .....)
تفاجئت شيراز و رفعت وجهها اليها و قالت بارتباك
(هل أخبرك الكثير عني ؟!!.........)
اتسعت ابتسامة لجين و هي تقول
( الكثييييير ..............)
شعرت شيراز بنفسها تتجمد ...... تتعرق و تبرد في نفس الوقت ...
الا انها استطاعت القول بصوت مهتز
( ماذا أخبرك ؟!!..........)
ردت لجين ببساطة
( أتريدين الحقيقة ... دون تكلف أو تصنع ؟!!....)
ارتبكت شيراز أكثر .... و شعرت بأنها تريد أن تدفن نفسها تحت الأرض
ترى هل تعرف هي الأخرى ماضيها و كانت تخفي عنها تلك المعرفة ؟!!
ستموت .... ستموت .... لو كانت أخت وليد الراقية تعرف عن حياتها السابقة لكنها تمكت من تحريك رأسها قليلا بالايجاب المرتعب فقالت لجين و هي تتراجع في الأريكة ببساطة ..واضعة ساقا فوق (أخرى منذ فترة طويلة .... اتصل بي خصيصا و كانت مكالمة ليست ككل المكالمات ... مكالمة استغرقت الليل بأكمله صوته كان يشرق على الرغم من خفوته
اخبرني أنه وجد فتاة دخلت قلبه دون استئذان ... جنية قصيرة بعينين خضراوين براقتين كالقطط ... تكاد أن تضيء في الظلام.....)
فغرت شيراز شفتيها بذهول ... بينما اتسعت عيناها و تابعت لجين تقول مبتسمة
( كان يضحك وهو يقول أنه نفسه غير مصدق للسرعة التي تم بها الأمر لكن كل ما يعرفه أن يومه بات لا يشرق بأنواره الا كلما رآها و تسلى بإغاظتها و اثارة غضبها.......)
كان نفس شيراز يخرج كتأوه مختنق .... بينما أذنها تلتقط نغمات من زمن فائت .... ساحر
ضحكت لجين قليلا ثم قالت
( ضحكت معه كثيرا وهو يقص على انطبعات وجهك كلما أثار غضبك و كم يكون متلذذا بمراقبتك في جنونك و كأنك فتاة من نوع غريب لم يقابله قبلا حتى ظننت أنه ساديا و اغتظت منه .....)
كانت تضحك ببساطة الا أن شيراز اضطربت و ابتلعت ريقها و هي تستمع اليها بوجوم .... ثم قالت لجين بحذر
(هل أتابع بصدق ؟!!........)
رفعت شيراز وجهها و أجفلت ،، لكنها قالت برهبة و بصوت باهت خائف
( نعم أرجوك ......... تابعي)
قالت لجين ترد عليها باعجاب
(قال لي أنها فتاة بسيطة .... من أسرة بسيطة ... قد لا تحمل نفس اللغات التي تتقينها ... لكن على الرغم من ذلك كانت كلما تلجأت و اضطربت في قراءة قائمة الطعام شعرت في الرغبة في ضمها لصدري ... ووددت لو أن أخبرها بأني على استعداد للقراءة لها العمر كله .....و تعليمها كل ما ينقصها و ما فاتها .... حتى لسانها السليط ... على الرغم من رغبتي في تنظيفه بالصابون أحيانا .... لكنني في نفس الوقت أشعر بالسعادة حين توجه سهامه الى الدفاع عن نفسها ضد اي انسان يتعرض لها .....
شجاعة بدرجة تثير الاعجاب في النفس .... لكن على ما يبدو أن الإعجاب قد تطور في داخلي قبل أن ا ستطيع السيطرة عليه .....و تحول الي تمسك بها .... بتلك الجنية العفريتة .....)
صمتت لجين أخيرا و هي تنظر الى شيراز التي كانت تبادلها النظر .... فاغرة شفتيها قليلا ....
معها بجسدها .... لكن روحها في مكان آخر ....
انتظرت لجين عدة لحظات ربما احتاجت شيراز لها .... ثم قالت أخيرا بصوت خافت كي لا تجفلها (كان يتكلم بصدق ...... و كان متعجبا من ذلك الاحساس الذي يخالجه لأول مرة...... إنه اخي و أعرف جيدا متى يكون صادقا ....)
رمشت شيراز بعينيها عدة مرات و هي تعود ببطىء من سفرها البعيد .... ثم قالت أخيرا بجمود و هي تنظر الى لجين
(ربما أدرك مؤخرا أن الفوارق بيننا كانت أكبر من ذلك الشعور المفاجىء .... و الذي لا يتجاوز الاعجاب بفتاة سليطة اللسان ... تفترس كل من يقترب منها بغير حق .... ردت عليها لجين تقول بهدوء إن كان قد تسرع حقا .... فأنا لا أرى أنه يتصرف حيال الأمر فها أنت هنا ... في نفس البيت مع خالته و اخته .... تحملين اسمه .....)
أطرقت شيراز بوجهها و هي تبتسم بسخرية حزينة كم تكون المظاهر خادعة أحيانا ....
ثم قالت بخفوت متوتر و هي تتجنب النظر الى لجين .. و مع ذلك لا تتمالك نفسها من النظر اليها خلسة من طرف عينيها مرة أو مرتين....
( أنت لا تسأليني الكثير الأسئلة ؟! ..... ظننتك تريدين معرفة كل شيء عني ... عن زواجي السريع بأخيك ....عمن أكون ...و عن سبب المعاملة التي ترينها من وليد تجاههي ....)
ابتسمت لجين و هي تقول ببساطة ...
(أنت غير مستعدة للكلام بعد ...... و لو تكلمت و أنت غير مستعدة فستغيرين الحقائق رغما عنك .....)
شعرت شيراز أن هذا هو بالفعل ما حدث مع وليد .....
كانت غير مستعدة لمقابلة شخصا مثله .... و دخوله حياتها أمام ذهولها و انكسارها ... فاضطرت الى تغيير الحقائق كلها أمامه ...كي تتجنب خزيا بعد آخر
فقد بدأت الكذب قبل حتى أن تقع في حبه.....
لم تكذب كي تبهره ... بل كذبت لترسم حياة تمنتها....
لقد كذبت من أجل نفسها ... و ليس طلبا لحبه ....
قاطعتها لجين فجأة و هي تقول ببشاشة
( أتعرفين ما أنت بحاجة اليه ؟! ...... تحتاجين الخروج من هذا الحبس الانفرادي ...تحتاجين الخروج الي الشمس و الهواء ..... كم يوم مر عليك هنا و انت منقطعة عن العالم و البشر ؟!! .... و ماذا فعلتِ خلالهم ؟!!! ......)
أجفلت شيراز و هي تفكر .......
" ماذا فعلت خلالهم ؟!! ..... كنت سجينة فراش وليد ... ألبي رغباته .... و أحاول أن أثير حبه القديم .... لكن الفشل كان يلاحقني مرة بعد مرة ....."
لكنها بدلا من هذا قالت برفض تلقائي
(تلك هي أوامر وليد .... وهو لن يقبل حتى ولو رجوته )
قالت لجين رافعة احدى حاجبيها
(لذلك بالذات .... نحن لن نخبره)
فتحت شيراز فمها قليلا و اتسعت عينيها بذهول .... ثم لم تلبث أن ضحكت بعصبية و هي تهز رأسها نفيا بسرعة قائلة
( لا لا لااااا ... أخاك ليس الشخص المناسب كي تعبثين معه لم اتعافى بعد من صفعاته السابقة )
عقدت لجين حاجبيها و هي تشعر بغضب يطبق على صدرها...
الهمجية هي الكلمة المناسبة لوليد في تلك اللحظة !! ....
كانت تعرف أن وليد في حالات غضبه يكون عنيف متهور .... لكنها لم تتخيله همجيا بائسا الى تلك الدرجة
اي عصر يعيشه ؟! ... و اي بيئة نشأ منها كي يتصرف على هذا النحو ؟!!!....
نظرت الى شيراز بتدقيق و هي تفكر بغضب
"و تلك الفتاة زوجته !!... اي بساطة تلك التي تتكلم بها عن صفعاته و احتجازه و كأنها اعتادت الذل و الاهانة .... لماذا هذا الخنوع و القبول بالذل طالما أنها امرأة ذات عنفوان و شراسة في الدفاع عن نفسها ؟! ....
أهو الحب هو السبب في خنوعها ؟! ... اذن سحقا له إن كان يفعل هذا بالمرأة.....
ابتلعت لجين غضبها و حاولت الابتسام و هي تتكلم باتزان
( انفضي رعبك هذا يا بشرى ... و اخرجي من شرنقة هذا الزواج قليلا كي تتمكني من التوصل الى قرار بشأنه ......)
مالت شفتي شيراز بنفس السخرية الحزينة و هي تقول باستسلام
(أنا لا أملك القرار ........)
مالت لجين فجأة في جلستها و هي تهتف بصرامة
(لماذا لا تملكين القرار ؟!! ....هل أنت انسانة ذات شخصية و كيان أم أنك حيوان يتم ربطه ؟!!....)
ابتلعت شيراز ريقها و التوى حلقها و هي تنظر الى غضب لجين ...
أرادت أن تجيبها الصدق .... وهو أن الجواب الثاني كان اختيارها الدائم مهما تظاهرت بالعكس ....
و أحيانا لم يكن خيارها .... بل كان فرضا عليها أطرقت برأسها فانسدل شعرها الفوضوي حول وجهها و أخفاه فتابعت لجين بعنف أقل ... لكن بصرامة أشد
(أين الفتاة التي تدافع عن نفسها و التي احبها وليد ؟!!........)
لم ترفع شيراز وجهها .... بل قالت بخفوت بعد فترة
( أخبرتك أنه أساء الاختيار .... و أخطأ الفهم ....)
رجعت لجين في مقعدها و هي تنظر اليها بجفاء ... تدقق بها و بداخلها رفض يعيد اليها أمجادها الجهورية .... قبل أن تختار السكون لفترة نقاهة احتاجتها لنفسها .... متظاهرة بالاستسلام لمن حولها ... بينما هي في الواقع صامتة مستسلمة لنفسها و ليس لهم الى أن تقف من جديد بعد الكبوة التي أصابتها جراء ما حدث لها ....
• قالت لجين في النهاية بهدوء
• ( انهضي من مكانك يا بشرى .... ارتدي شيئا جميلا و اخرجي معي انسي حياتك لبضعة ساعات .... ربما اكتشفت بها شيئا جميلا .....)
• رفعت شيراز عينين ضائعتين اليها ثم قالت بفتور
• ( ردة فعل أخاك لو عرف ستكون مريعة .....)
• ابتسمت لجين قليلا و قالت بتحدي
• ( خائفة؟.....)
• ظلت شيراز صامتة قليلا ... و هي تفكر منذ متى كانت تخاف الضرب أو الصراخ ؟
• و في الواقع حاجتها للخروج تستحق المجازفة و حتى تحمل بعض الضرب
• تشعر بالجدران تضيق بها و تطبق عليها .... و هي لا تفكر سوى في استعادة قدرتها على ابهار وليد خلال علاقتهما الجسدية .....

لذا رفعت وجهها اليها و قالت بخفوت لكن أقوى قليلا
(لست خائفة .....)
ابتسمت لجين و هي تقول
(جيد ..... هيا اذن اذهبي لتبدلي ملابسك بسرعة و لن نتأخر .... أعدك بذلك)
نهضت شيراز من مكانها .... لكنها وقفت لتقول بتردد
( لا أعلم إن كنت أمتلك ملابسا مناسبة ......)
عقدت لجين حاجبيها و هي تقول
(الم يشتري لك وليد ملابسا كافية ؟!.......)
ترددت شيراز قليلا ثم قالت
(اشترى الكثير ..... لكنه مزق معظمهم قبل حتى أن ارتديهم)
ظلت لجين تستمع اليها و هي فاغرة شفتيها بذهول ثم قالت تعيد كلام بشرى غير مصدقة
(اشتراهم ثم مزقهم بنفسه ؟! .... ماذا أصاب أخي ؟.....
ماذا فعلتما ببعضكما بالله عليك حتى وصلتما الى تلك الحالة ؟!!........)
أخفضت شيراز وجهها و هي لا تجد الجواب المناسب ... فتنهدت لجين و هي تقول ترد على نفسها (أعلم أنني لن أحصل على الجواب الصادق الآن لذا لا داعي للسؤال اسمعي .... سأنزل لأحضر لك شيئا ترتديه من ملابسي ...... ثم نشتري بعض الملابس أثناء خروجنا .... سأحاول أن أخفي أمر خروجنا معا عن خالتي .... فهي لا تسلم الا بطاعة وليد بعينين مغمضتين ....)
قالت شيراز فجأة
(لدي العديد من الملابس الرائعة بشقتي الخاصة ... يمكننا أن نمر عليها ....)
لكنها لم تلبث أن عقدت حاجبيها و هي تقول مكلمة نفسها
( آه .... نسيت أن وليد قد أخذ مني المفاتيح ..... لكن لا أعتقد أنها مشكلة ...حارس الأمن يستطيع فتحها ....)
قالت لجين متباسطة في الحوار
( هل تمتلكين شقة خاصة بك ؟..........)
رفعت شيراز وجهها الى لجين .... و رغما عنها جالت عيناها عليها من جديد
رشيقة ... طويلة ... تجلس أمامها بأناقة واضعة ساقا فوق الأخرى حتى حجابها المنسدل على رقبتها كوشاح زادها أناقة و كلماتها الأجنبية الغير مفهومة لها ....تزيد من توترها ....
كانت تبدو كالخادمة بجوارها!!......
لذا جعلها سؤال لجين البسيط ترفع رأسها و هي تقول بلمحة من صوت شيراز القديمة التي كانت تتعالى على كل من حولها
(أمتلك شقة في مكان راقي .... و سيارة خاصة .... و ملابس تملأ خزانتي .... بخلاف حسابي في المصرف .... )
رفعت لجين حاجبيها و هي تستمع على الرد المبالغ فيه بالنسبة الى سؤال بسيط !!....
تلك الفتاة تعاني خللا ما ... لكنها تثير العطف و الرغبة في حمايتها ....
لذا ابتسمت و قالت برقة
( كم هذا رائع ..... القيادة تسهل لك الكثير)
عبست شيراز و هي تدرك أنها لم تبهرها تماما ... ربما لو كانت قد رأتها منذ أشهر ... حين كانت تسير بين الناس فتلتفت لها الرؤوس .... و تتسع لها الأعين الجائعة ... لكانت عرفت أنها ليست تلك المتواضعة الواقفة أمامها الآن ....
كانت شفتيها متكورتين باحباط ... لكنها ردت بقنوط
( وليد أخذ مفاتيح السيارة كذلك ......)
ادركت ما قالته بوجوم ... فرفعت وجهها و هي تقول متداركة
( لا يحب أن تقود زوجته سيارة........)
ظلت لجين صامتة بلا تعبير .... و قد أخبرتها ملامحها أنها لم تصدقها في النقطة الأخيرة ....
فالسبب في سحب مفاتيح السيارة هو نفس السبب في سحب مفاتيح الشقة .. وهو نفسه في تمزيق ملابسها .... انه يفرض عليها نوع من الحصار و كأنه ..... و كأنه لا يثق بها
تنهدت لجين بقوة ثم قالت بهدوء
( اذن دعينا لا نضيع المزيد من الوقت .... سأذهب لاحضر لك شيئا من ملابسي)
الا أن شيراز قالت
( الن نذهب الي شقتي لاحضر ملابسي ؟!.......)
وقفت لجين و استدارت اليها لتقول بشك
(هل هي من نفس النوعية التي مزقها وليد ؟!...)
صمتت شيراز و هي تطرق بوجههها مفكرة بل أسوأ في الواقع
لكن لجين عرفت الجواب دون الحاجة لأن تسمعه ..... لذا قالت مبتسمة بلين
( اذن فلن نذهب الى هناك .... فنحن لا نريد سوى الستر في يومنا هذا )
خرجت لجين أمام أنظار شيراز الساكنتين .... ثم لم تلبث أن جلست على حافة الأريكة و هي تهمس لنفسها بصوت خافت
"ما الذي أفعله ؟!!!........ أي صلة أو نقطة مشتركة تربط بيني و بينها ؟!!!
.................................................. .................................................. ...............
و قفت شيراز أمام المرآة و هي تنظر الى نفسها يمينا و يسارا تشعر بشيء خاطىء ....
كانت ترتدي فستانا طويلا بخطوط أفقية متدرجة الألوان بكل درجات الأزرق و الفيروزي و السماوي ... حتى بدت كحورية بحر ... بينما تعلوه سترة قطنية بيضاء بأكمام طويلة ....
قالت لجين برضا و هي تنظر اليها
( كنت أعرف أن هذا الفستان القصير علي سينفع يوما ما ......)
قالت شيراز بتردد
(أشعر أنه ..... لا يناسبني)
هتفت لجين بدهشة
(هل أنت مجنونة ؟! ..... تبدين مذهلة ..... الألوان تكمل لون عينيك فتبدين و كأنك قد خرجت من البحر للتو .......)
ظلت شيراز تنظر الى نفسها ..... ثم قالت بخفوت
( لا أعلم ..... لكنني أشعر أنني انظر لانسانة غريبة)
قالت لجين بعد فترة
( ليس هذا عيبا ... جربي أن تتغيري ولو قليلا .... قد يعجبك التغيير ....)
زمت شيراز شفتيها بتوتر .... ثم قالت بخفوت
(حسنا اذن .... لا بأس )
نزلتا على السلم محاولتين الا تصدرا صوتا .... لكن و ما أن مرتا أمام شقة لجين و خالتها حتى فتح الباب فجأة!!
تسمرت كل من لجين و شيراز مكانهما وهما تريان سمية تقف في الباب بملامح جامدة ... قاسية ...
و عينين كالجليد ...
فتنهد لجين دون أن تتكلم للحظة ثم قالت أخيرا
( سنخرج قليلا يا سمية .... احتاج لبعض الهواء ....)
ظلت سمية تنظر اليهما بنظرات اوشكت على أن تجمدهما ... قبل أن تقول بصوت لا تعبير له
( كل انسان يتحمل نتيجة فعله ... فلست المراقب هنا)
قالت لجين و هي تمسك بيد شيراز لتجرها خلفها بسرعة
(شكرا يا سمية ...لا نريد منك سوى هذا ... لن نتأخر)
لكن شيراز شعرت بشيء ما جعلها تستدير و تنظر الى عيني سمية الباردتين .. و كانت لا تزال تنظر اليها و كأنها كانت تنتظرها كي تلتفت ...
فشعرت شيراز بكيانها يتجمد من نظرتها التي لو كانت تقتل لكانت أسقطتها للتو صريعة ...
فأسرعت لتدير وجهها عنها و هي تشعر بالخوف !!....
لم تخف من جنون وليد و غضبه ,..... و ها هي تخاف من نظرة من خالته!!!
لم تصدق شيراز أنها من الممكن أن تقضي وقتا ممتعا كما فعلت مع لجين ....
لم تتسوق مع فتاة من قبل !!!
كانت تشتري بسفه قديما ما أن تحصل على نقود من أزواجها ..... لكنها لم تذق من قبل متعة التسوق مع فتاة
كانت لجين لا تتوقف عن المزاح و الضحك .... حتى أنها كانت تسخر من الكثير من المعروضات و الملابس ...
كانت تمسك بأحد الفساتين القصيرة للغاية و تقول رافعة حاجبها بتوجس
( ماذا نفعل بهذا ؟!! ... إنه يصلح كعصابة للعين !! ..... )
لم تشأ شيراز أن تخبرها بأنها كانت ترتدي ما هو أقصر من قبل !! .....
لكنها كانت تبتسم ... و تدريجيا بدأت تتحول الإبتسامة الى ضحكات خافتة ....
الغريب في الأمر أنها لم تدير الرؤوس خلال سيرها .... بل كانت مجرد فتاة عادية .... بشعرها الذي تحول بنيا بعدما فقد أصباغه ... ووجهها الخالي من أصباغ مشابهة ....
كانت اشبه بفتاة جامعية ..... لكنها أنيقة ... و جميلة ....
بينما كانت لجين قمة في الأناقة و الروعة ... بتنورتها الأسبانية البيضاء ذات الطبقات .. و التي كانت تدور من حولها بأنوثة دون أن تظهر منها شيئا ... و قميصها القطني الوردي و حجاب مماثل ... بينما سترة مخرمة بيضاء قصيرة .. تزين ذراعيها ....
زارتا عدة محلات لم تعرف شيراز بوجودها .... و كانت تنظر الى لجين بانبهار و هي تتكلم ما بين العربية و الإنجليزية و الفرنسية معا .. اثناء التسوق ...
مما كان يجعلها تمد رأسها و تضيق عينيها ... محاولة الفهم من الثلث العربي من الكلام ....
و بعد أن انتهيتا ... كانت لجين تضحك و هي متأبطة ذراعها ... ثم قالت و هي تمسح دموع الضحك من عينيها
( كم كنت في الحاجة للخروج ..... مضى وقت طويل منذ خرجت آخر مرة .... مثلي مثلك يا بشرى )
ابتسمت شيراز بصمت .... فقالت لجين تقول باهتمام
( أنتِ قليلة الكلام .....هل أثير مللك ؟؟ .... )
رمشت شيراز بعينيها و هي تقول بتوتر ...
( لا ..... لا طبعا ......)
كانت لجين قد توقفت أمام أحدى المقاهي الأنيقة و هي تنظر اليها بشرود .... ثم قالت بصوت غامض و كأنها وصلت أخيرا
( اسمعي ...... لقد تعبت .... و أريد مشروبا .... تعالي لنجلس قليلا ..... )
دخلتا وهما تحملان العديد من الأغراض و الملابس ..... وقفت لجين مكانها تدير عينيها قليلا في المكان ... الى أن ابتسمت و هي تخفض وجهها أرضا قبل أن تختار طاولة لتجلس عليها ... فتبعتها شيراز و جلست هي الأخرى ...
كانت لجين شاردة .... مسندة فكها الى اصبعها الطويل مقلم الإظفر بعناية ....
على الرغم من سعادتها السابقة الا أنها تحولت الى شاردة .... و ظهر بعض الحزن في عينيها لم تستطع اخفائه ....
رفعت وجهها فجأة .... و ابتسمت ... ابتسمت برقة و تهذيب و خجل ..... ثم عادت لتخفض وجهها من جديد ....
فالتفتت شيراز خلفها محاولة معرفة لمن ابتسمت لجين ....
دققت النظر في جميع الجالسين خلفها .... الى أن شاهدت رجلا يدقق النظر بهما و يبتسم برقة و حنان ...
كان وسيما ... بسيط الملابس رغم أناقتها ... يجلس الى طاولة خاصة .. ليست كطاولات الجالسين .. و كأنها طاولة حجزت له خصيصا .....
كانت عيناه سعيدتان .... و ملامحه تنطق بالإنشراح .... وهو لا يخفض عينيه عن لجين التي كانت مطرقة بوجهها بخجل ... و ابتسامة تلامس ثغرها بجمال ... و ندم ....
شعرت شيراز بأن لجين لم تكن تريد أن ترفه عنها وحدها .... بل من الواضح أنها أرادت رؤية هذا الرجل ....
جاء النادل وهو يسلمهما القائمة ... فنظرت اليها بشرود و هي تقول برقة
( ماذا تطلبين ؟؟ ..... أنا سأطلب شيئا أحبه جدا في هذا المكان ...)
و أخذت تنطق اسما طويلا جدا يبدو ايطاليا ..... ثم رفعت رأسها و هي تخيرها بينه و بين شيء آخر ... له أسم أكثر طولا .... قالت عنه أنه نوع حلوى فرنسية ....
ظلت شيراز تنظر اليها بملامح متبلدة .... و كأنها لم تسمع شيئا ... فقالت لجين و هي تعيد عينيها عن ذلك الرجل الذي تنظر اليه خلسة
( لماذا لا تختارين يا بشرى ؟!! ..... أم تريدين شيئا آخر ؟!! ..... )
أخذت بشرى نفسا طويلا ... قبل أن تقول بخفوت
( ألم تذكري أن وليد قد أخبرك ... بأنه أحب فتاة ..... لا تتقن نفس لغاتك ؟!! ..... )
عقدت لجين حاجبيها و هي غير مدركة لما تقصده شيراز ... فقالت بحيرة
( نعم ......... )
قالت شيراز بفتور
( اذن لماذا تصرين على ادخال الكثير من كلمات للغات أخرى في كلامك ؟! ...... أعرف قدري جيدا مقارنة بك .... لكن لا أحب الا أفهم ما أسمعه ..... فلماذا تصرين على ذلك ؟!! ...)
فغرت لجين شفتيها ... و شحب وجهها و هي لا تجد ما تنطق به لعدة لحظات ...
ثم قالت بصوت مضطرب
( أنا آسفة ..... آسفة جدا يا بشرى .... كنت انطق بعبارات بسيطة ... لا تتعدى الكلمتين .... ظننت الجميع يعرفها .... فقد اعتقدت أن وليد يقصد ... دراستي الصعبة و الترجمة الطويلة ... و اللغات بمفرداتها المعقدة .... لم أظنه يقصد أبسط الكلمات !! .... )
تنهدت و هي تنظر الى شيراز بصمت ... ثم تابعت تقول
( أنا أتقن تلك اللغات لأنها كانت ضمن دراستي .... و كنت أستاذة جاميعة أدرسها.... )
ارتفع حاجبي شيراز و اتسعت عيناها بذهول و هي تهمس منبهرة ... و شاعرة بالضآلة أكثر و أكثر ...
( أنتِ ...... أستاذة جامعية ؟!!! ...... )
أطرقت شيراز بوجهها بعد أن نطقت بسؤالها الباهت .... و لم تسمع لجين و هي تقول بصوت باهت
( كنت ...........)
كيف ينظر اليها وليد ؟!! ..... كيف يطيق النظر اليها و لمسها بعد كل ما عرفه عنها ... بينما أخته بمثل هذا المستوى العالي ؟!! .....
قالت لجين بتردد ...
( بشرى .... ماكنت انطق به .... مفهوما للمتعلمين .... هل يعتبر تطفلا لو سألتك ... الى أين وصلتِ في التعليم ؟!! .....)
كان السؤال الذي تخشاه شيراز .... فأغمضت عينيها للحظة .. و أرادت الكذب , لكن كيف الكذب و لسانها يفضحها .... لذا قالت بوجوم و هي تنظر بعيدا مشبكة ذراعيها
( الإعدادية .......... )
رمشت لجين بعينيها و هي تظن بأنها لم تسمعها .... فقالت بصدمة
( عفوا ؟!! .......... )
زفرت شيراز دون أن تنظر اليها ... و كررت بقنوط
( الإعدادية .......... )
ازدادت الصدمة على وجه لجين .... ثم قالت بخفوت
( و لماذا لم تكملي ؟!! ...... حتى ولو بالتعليم المجاني !! ..... )
ظلت شيراز ناظرة للبعيد ... ثم قالت
( ظروف .......... )
بللت لجين شفتيها و هي تراقبها بصمت ... الى أن ابتسمت في النهاية بعطف و هي تقول بصدمة لم تزول بعد
( لا بأس ....... أعدك أن أنتبه فيما بعد ....أرجوكِ اعذريني ....سامحيني ... )
رفعت شيراز وجهها اليها ... ثم قالت بهدوء
(أسامحك بشرط ...... أن تخبريني لماذا نحن هنا تحديدا؟؟ ... و من هو هذا الرجل خلفي الذي لم ينزل عينيه عنك منذ أن دخلنا ؟؟... و قد دخلنا لنراه فلا تحاولي خداعي .... أخبرتك أنني اكره عدم الفهم ....)
تفاجئت لجين بمدى قوة ملاحظتها ... أم أنها هي التي أصبحت ضعيفة الى حد الانكشاف ؟....
لكنها لم تتضايق .... و طالت منها نظرة خلف كتف لجين اليه و كان لا يزال ينظر اليها مبتسما .... سعيدا برؤيتها بخير ملامحه قريبة للنفس جدا .... مما يجعل منه رجلا وسيما ...دون تكلف أو بهرجة ....
ابتسمت له بخجل ... ثم أعادت عينيها الى شيراز قائلة بهدوء
(هذا الرجل هو صاحب هذا المقهى .... وكان قد تقدم لطلب يدي بعد أن رآني أجلس هنا دائما .... لفتت انتباهه فاعجب بي و تقدم لخطبتي .....)
قالت شيراز باهتمام و كأنها تسمع قصة
( و طبعا قبلت به .......)
نظرت لجين اليه .... ثم قالت بهدوء
(بل رفضت .....)
دهشت شيراز و قالت
( لماذا ؟!!!..........)
ردت عليها لجين و هي تتنهد
( لم أكن أعرف عنه شيئا سوى أنه صاحب المقهى الذي أحب الجلوس به ... و بعد أن تقدم لخطبتي وضع كل المعلومات عنه أمام وليد ...
فعرفت أنه بعد وفاة والده اضطر الى ترك دراسته الجامعية كي يرعى أمه و اخوته ... لذلك تأخر في الزواج قليلا .... ثم بدأ الحال يزدهر معه ... فأصبح لديه محلين و هذا المقهى الذي يجلس به في هذا الوقت كل يوم ليقرأ بينما تزوجت شقيقتيه و تخرج أخاه من كلية الهندسة ...
حينها شعر بأنه قد أتم رسالته و بدأ التفكير في الزواج ...
الى أن رآني و أعجب بي .....)
صمتت قليلا . ثم قالت بصوت اكثر خفوتا و هي تنظر اليه
(و على الرغم من اعجابي بقصته و شهامته و رجولته .... الا أنني شعرت بالفارق في المستوى التعليمي بيننا ...
ليس أنني أكثر منه علما ... بل في الواقع أنه كان قد التحق بالجامعة لكنه لم يتمكن من المتابعة .... كما أنه شخص مثقف ..لا يكف عن القراءة أبدا .....
لكن بصراحة أردت الزواج من أستاذ جامعي .. لذلك رفضت بلطف دون أن نجد الفرصة حتى كي نتكلم و نتعارف ....)
ارتفع حاجبي شيراز و هي تستمع اليها ....
تفكر في حال الدنيا فلو وجدت مثل هذا الرجل ببداية حياتها لربما كان وضعها أصبح مختلفا ...
لكن بمن تقارن حالها ؟!!....
فلجين بالفعل من حقها أن تختار شريك حياتها و هي تضع ساقا فوق أخرى ....
فقالت بخفوت
(و ماذا حدث بعد ذلك؟؟........)
قالت لجين بحزن
(خطبت لأستاذ بكليتي .....و كنت راضية عنه تماما بعقلي فتوقفت عن المجيء الى مكاني المفضل نظرا لحرج الموقف....)
صمتت قليلا ... و هي تبتلع غصة في حلقها ثم تابعت
(الى أن حدثت معي مشكلة ... أودت بوظيفتي و اهدرت كرامتي و انتهكت روحي .....)
عقدت شيراز حاجبيها و هي تقول
(ماذا حدث؟!! ........)
تنهدت لجين تجيبها بعد فترة
(باختصار كان لدي طالب ..... يكاد أن يكون رأس الفساد في الجامعة كلها ... حاول عدة مرات لفت انتباهي اليه على الرغم من أنه يصغرني سنا ... لدرجة أنه تقدم لخطبتي من باب التفاخر ليس الا .... و ما أن اتخذت اجراءات صارمة ضده عدة مرات ... حتى نصب لي فخا ...)
صمتت للحظة غير قادرة على المتابعة ... الا أن شيراز قالت باهتمام و هي عاقدة حاجبيها
( ما هو الفخ ؟!! .......)
قالت لجين محاولة التظاهر بالهدوء
(تمكن ذات يوم من تكميم فمي بمخدر و جري الى سيارته و الذهاب بي الى مكان ما ... و قام بالتحرش بي ومعه اثنين من عصابته و التقط عدة صور لي ... قام بنشرها في كل مكان و وصلت الى هواتف الجميع ...
ثم تركوني ملقاة بهذا المكان و فروا هاربين......)
شهقت شيراز دون صوت و هي تشعر بغثيان قديم يخنقها ... يطبق على صدرها ...
الى أن تابعت لجين و هي تحاول التنفس بهدوء دون تفاصيل أكثر ...
( حاولت الصمود بعدها و العودة الى عملي بعد تقديم شكاوى في كل مكان و حتى الاعلام ...
دون جدوى في نيل حقي ممن فعل بي هذا كانت فضيحة علنية كبيرة ....
هزت أرجاء الجامعة ... لذا نصحوني في الكلية بصورة غير مباشرة بضرورة أخذ أجازة طويلة
و الا أدخل لطلابي بعد تلك الفضيحة طبعا رفضت و صرخت و كنت أنوى المتابعة بكل جنون ... لكن للأسف أصبت بانهيار و احتجت الى علاج طويل بعدها .....)
نظرت الى الرجل خلف شيراز ... ثم قالت مبتسمة بحزن
(أثناء وجودي بالمشفى ..... جاء هو لزيارتي كل يوم ... لم يتركني أبدا ... و كأننا نعرف بعضنا ... صوته لا يزال بأذني و هو يحدثني عن الصبر و دعوة المظلوم ...و أن الله سيأخذ لي حقي ...
استطيع القول أنني عشت على صوته تلك الايام العصيبة و ما أن خرجت حتى عاد الى حياته ..
لكني أتذكر آخر جملة قالها لي ...
"كوني بخير ... أريد سماع الخير عنك دائما " ....)
شعرت شيراز بألم حاد بداخلها ..... يكاد أن يخرقه كخنجر
لم تكن أبدا مرهفة الحس الى تلك الدرجة من قبل لكنها همست باختناق
( و خطيبك ؟!! ........)
نظرت اليها لجين ثم ضحكت عاليا و قالت
(الاستاذ الجامعي؟!! ..... لم يستطع التأقلم مع الوضع بالطبع و هرب بنفس اللطف الذي رفضت أنا به هذا الرجل خلفك ...)
كانت شيراز تنظر اليها طويلا و هي تتنفس بسرعة و تكاد أن تسب بأقذع الألفاظ ....
تريد أن تبصق كلاما دنيئا من بين رذاذ بصقتها ....
لكنها عوضا عن ذلك قالت بصوت يرتجف
(أخبرتني للتو بشيء يخصك .. يخجلك ... بمنتهى البساطة الا تشعرين بالخوف أو الحرج مني ؟!! أو حتى الخزي ؟!!....)
رفعت لجين عينيها اليها ثم قالت بقوة رغم خفوت صوتها
(لماذا الخزي يا بشرى ؟! ... أنا لم أخطىء بشيء كي أشعر بالخزي أو الخوف....
الخزي و الخوف شعوران لمن يختار الخطأ بارادته ....لكن خلاف ذلك فهما يتحولان الى السبب في تجبر أمثال هذا الحيوان ....)
صمتت للحظة و هي تنظر الى البعيد و قالت
(ثم أنه ليس موضوعا خاصا .... أخبرتك أنني جعلت منه فضيحة علنية و لن أسكت الا بنيل حقي و الرجوع الى وظيفتي ... أنا فقط في فترة نقاهة ....)
قالت شيراز بصوت يرتجف خافت بشدة
(و ماذا عن ... وليد ... ماذا كان وضعه ؟؟ .....)
ابتسمت لجين فجأة و هي تقول
( كفانا هذا اليوم .... الكثير من المعلومات أكثر مما يحتمل الهدوء الذي طلبناه .... ثم أنني وعدتك بالا أؤخرك ..... هيا لنخرج ...)
اطرقت شيراز بوجهها و هي تشعر بشيء غريب بداخلها ...
نعم الخزي و الخوف هما لمن يختار الخطا .... و ليس من يجبر عليه
أشارت لجين الى النادل تطلب الحساب .... لكنه جائها بسرعة وهو يقول بتهذيب
( السيد يرفض أن تدفعي الحساب يا آنسة ........)
انتفضت و هي ترفع وجهها اليه فوجدته لا يزال ينظر اليها مبتسما بحنان .. و حاولت الإشارة بعينيها أنها ترفض ذلك ... الا أنه رفع يدا حازمة مفرودة...فلوح بها بحركة واحدة حازمة وهو يرفض الجدال ... فزمت شفتيها بعتب ....
كان بينهما حوارا لطيفا بالإشارات ... و ما أن نهضت هي و شيراز ... كان عليها المرور به ...
فأطرقت بوجهها الأحمر وهي تراه ينهض من مكانه .... و ما أن مرت به حتى همست بخفوت
( السلام عليكم ..... شكرا لك .... )
لم تتوقف كي تحادثه .... بل كانت لحظة وحيدة مرت به و هي تقول عبارتها الخجولة ....
وهو لم يستوقفها .... بل وقف مكانه ليقول بنفس اللحظة
( و عليكم السلام و رحمة الله ...... كوني بخير .... )
.................................................. .................................................. ...............
• لا يعلم كم مر عليه من الوقت وهو يدور بسيارته بكل جنون ....
• سرعته الجنونية كانت تندفع من داخله .... و ليست من تروس محركات سيارته جنون الكلمات التي سمعها كانت تطوف و تتداخل بين اسمين ... بل ثلاث.....
• بشرى .... شيراز .... لجين....
• تداخلت الأحداث و تشابكت فعجز عن التفريق ..
• و كأنه يرى الطفلة الصغيرة المنتهكة .... محاصرة في زاوية ضيقة و ثور هائج يهاجمها ضاغطا عليها
بينما تكبر لتصبح آية في الجمال ... أستاذة جامعية تفرح كل من ينظر اليها فتشبعه فخرا ...
لتسقط في هوة سوداء ...... صارخة تستنجد به ....
ضرب المقود بيده فجأة و هو يصرخ ...
( لماذا أنا ؟!! ..... لماذا أنا ؟! ...... الأنني لا أستطيع التحمل؟!! .... فجائتني الضربتين متتاليتين بكل قسم من قلبي )
داس على المكابح بكل قوته وهو يتفادى الإصطدام بسيارة اخرى بكل قوته ... فدار بسيارته دورة كاملة .. قبل أن تقف تماما
بينما توقفت السياة و نزل قائدها وهو يشتم و يصرخ .... حينها فتح وليد الباب و خرج من سيارته مندفعا كثور هائج وهو يمسك بقميص الرجل دافعا اياه حتى استلقى على مقدمة سيارته مذعورا بينما وليد يرفع قبضته الأخرى وهو يصرخ بجنون
( ماذا تريد ؟؟؟ ...... ماذا تريد ؟؟؟ ...... انطق مجددا بما كنت تقوله .... )
هتف الرجل مذعورا وهو ينظر الى قبضة وليد المرفوعة و الكفيلة بتهشيم فكه
( أنا آسف ...... أنا آسف ...... )
اهتزت حدقتا وليد قليلا وهو ينظر اليه .... بينما كان يلهث بسرعة مهلكة ....و كأنه يعود الى وعيه سريعا ....
فتركه منتفضا وهو يبتعد ... ففر الرجل بسيارته مذعورا من ذلك المجنون الذي وقع بطريقه في هذا اليوم الغير عاطفي اطلاقا .....
مشى وليد حتى وصل الى سيارته .... فاحنى ليجلس أرضا مستندا الى اطارها ..... رافعا ركبتيه ليستند بذراعيه اليهما وهو يشعر بأنه اكثر تعبا من أن يقود حاليا ....
كان لا يزال تحت تأثير الغثيان الذي شعر به مما سمعه من قصة بشرى .....
مئات الفتيات يتعرضن يوميا للتحرش .... و كان عليه أن يكون أقوى من ذلك عند سماعه قصة مشابهة ،،، لكن أن تجد القصة لديه نفس الصدى متمثلا بأخته لجين ؟!!
فقد كان هذا اكثر من احتماله ....
اي صدفة جعلت منه مشاهدا لقصتين تحرش تخصان اثنتين في حياته ؟!!....
اثنتين لا واحدة .....
أخته ......و ..... زوجته...... شاء أم أبى فشيراز زوجته ......
و هذا جعل منه حيوانا وهو يعرف الآن لماذا تئن بالكوابيس كل ليلة بعد أن يتركها....
انها ترى فيه صورة الحيوان الذي كان يستغل جسدها أي تفسير آخر اذن لنفورها منه ؟!!.....
جعله هذا الاحساس يشعر بالقشعرة و القذارة ..... و أن لا شيء قادر على تنظيفه ....
لكن هل من المفترض أن تجعله تلك القصة يتغاضى عن حياتها التي تلت ذلك ؟!!.....
و الأسوأ خداعها له الى أن سقط أسير حبها ......
بداخله حقد كبير لافسادها هذا الحب الذي يكنه لها ......حقد يجعله غير قادرا على الغفران .....
فأي دوامة تلك التي يعيشها ؟!!...
دوامة تجعله غير قادرا على نبذها ... خاصة الآن ....
بعد أن عرف ما تعرضت له في طفولتها هل يطردها خارجا و يتظاهر بأنها تستحق ذلك لخداعها ؟!!!
ترى لو فعل ذلك .... ألن يفكر كل يوم و كل لحظة في مصيرها ؟!! ...
و أي الطريق الذي سلكته ..... و أي حضن تستلقي به الآن ........
.................................................. .................................................. ............................
دخل البيت ليلا ... منهوك القوى ... يجر قدميه بتعب ....
فتسمرت مكانها و هي تسمع صوت خطواته ... كان عليها أن تنتظره أن يأتيها ككل ليلة ....
الا أنها هذه الليلة بادرت و انتظرته و قررت الخروج اليه ....
كانت على استعداد لتحمل كل قسوته الليلة .... لذا خرجت بتوتر و هي تحاول تمهيد نفسها اليه ...
و ما أن رأته حتى وقفت ملتقطة أنفاسها .... قبل أن تقول بخفوت
( مساء الخير ........ )
كان منحني العنق ... ناظرا الى الأرض و ما أن سمع صوتها حتى تسمر مكانه ... ليرفع رأسه ببطىء في اللحظة التالية .... ثم تشنج و كأنه رآى عفريتا أمامه ...
هذا هو الانطباع الذي تلقته شيراز و هي ترى ملامح وجهه المصدومة بنفور !!! ... مما جعلها تتراجع خطوة هي الأخرى للخلف !!
هل هي بشعة الى تلك الدرجة ؟!! ..... لقد تأنقت من اجله ... و أنتظرته و هي مصممة أن تجعله يشعر برغبتها .... فما الذي أصابه ؟!! ....
وقف ينظر اليها ... يرى ما ترتديه ..... أو بمعنى أصح ما لا ترتديه .....
كانت مكشوفة لديه بالكامل .. دون خجل أو حياء .... تقف بدلال و هي تبتسم بإغراء ... ابتسامة طارت ما أن رأت صدمته ...
قال وليد بخفوت ميت مغمضا عينيه
( ماذا تفعلين ؟!!! ........ )
عادت اليها بعضا من روحها على الرغم من توجسها من ردة فعله .... فقالت بعذوبة و هي تتمايل , عساه يفتح عينيه و ينظر اليها مجددا
( انتظرك .......... )
رأت حلقه يتشنج بوضوح على الرغم من الإضاءات الجانبية التي أشعلتها جاعلة للمكان ضوءا خافتا ...
ثم فتح عينيه أخيرا ....وهو ينظر اليها مجددا و كأنه ينظر الى شيء مخيف .. مما جعلها تتوتر بجدية
ماذا به ؟!! ..... لماذا يتصرف على هذا النحو ؟!! ......
هل عرف بخروجها مع لجين ؟!! ..... لكن إن كان قد عرف فهذا من المفترض أن يجعل منه عنيفا .. لا خائفا منها بتلك الطريقة ؟!! ..... هل يظنها ستأكل ذراعه ؟!! .... ماذا به ؟!! ...
قال أخيرا بصوتٍ قاتم أجش
( غطي نفسك ........... )
ارتفع حاجبيها و هي تنظر اليه ... ثم قالت بحيرة
( لماذا ؟!! .......... )
صرخ فجأة بجنون وهو يرفع يديه الى جبهته ثم لوح بهما بعنف
( تبا لذلك ....... غطي نفسك يا شيراز و ابعدي جسدك عن نظري .... )
تراجعت خطوة أخرى و هي تحيط جسدها المرتعش بذراعيها ... لكنها قالت بصوت مرتجف
( وليد ...... لو كان السبب ليلة أمس ..... فأنا آسفة ..... كان هذا خارجا عن ارادتي ... أرجوك سامحني , صدقني أنا لا أفتعل الجنون أمامك ... أنا فقط أحيانا أفقد السيطرة ..... )
صمتت و هي تحرك ذراعيها غير قادرة على تبرير نفسها ... لأنها لا تملك تفسيرا منطقيا ....
لكنها لم تحتاج الى لحظات أكثر وهو يندفع اليها كالمجنون .... اندفاعه و ضخامته جعلها تشهق عاليا و هي ترفع ذراعيها أمام هجومه الضاري ...
الا أنه جذب ذراعيها ليطوح بهما بعيدا ... قبل أن يضمها الى صدره بقوةٍ أوشكت على أن تقسمها نصفين ....
كانت تشهق و ترتجف بعنف ... تحاول أن تسيطر على الرعب الذي نبع بداخلها .... خوف من أن يستخدم عنفه اثناء علاقتهما .... و على الرغم من أنها لم تخشى هذا يوما مع رابح ....
لكن خلال اللحظات التالية .... أدركت أنه لا يزيد عن ضمها ..... يضمها الى صدره و يعتصرها دافنا وجهه في عنقها وهو يرفعها عن الأرض و كأنها لا تزن شيئا ....
فمه فقط هو من كان يقبل النبض المرتعش في عنقها !! .....
أخذت تتنفس بصعوبة و هي تدرك أنه بالفعل لا يقدم على المزيد ....
أرجحت ساقيها قليلا لتتأكد بأنها لا تلامس الأرض بالفعل ...
و بتردد رفعت ذراعيها لتحيط بهما عنقه و هي تلامس شعره .... لا تعرف تلك الحالة الجديدة عليها !!!
هل هو يرغبها أم لا ؟!!! ..... لأول مرة لا تملك الجواب عن تلك الأمور ....
و بعد وقت طويل ... همست بخفوت شديد جدا في أذنه
( ماذا بك ؟! ......... الا تريدني ؟!!....... )
تأوه بصوتٍ أجش .... وصلت ذبذباته عبر عنقها ... بينما رفع وجهه عنها بصعوبة وهو يفلتها لتنزل أرضا على قدميها ....
و أخذ ينظر الى ملامحها .... عينيها الخضراوين الكبيرتين ... تكادان تبتلعان وجهها كله و تجعل منها جنية صغيرة ... و شعرها الذي تحول الى اللون البني الفاتح ....
أطرق برأسه قليلا قبل أن يقول بخفوت
( كيف حال جرحك ؟! ........ )
عقدت حاجبيها قليلا و هي تقول بعدم فهم
( أي جرح ؟!! ........ )
مد يده يمسك بمعصمها ... ليرفع الضمادة عن رسغها بقوةٍ آلمتها قبل أن يرميها أرضا باهمال .... و كل اهتمامه كان موصبا الى الجرح بباطن معصمها .....
قالت شيراز بحيرة
( آآآه هذا الجرح ؟!! ...... كنت قد نسيته ....لم أشعر به أصلا ..... )
صمتت ثم رفعت وجهها اليه و هي تقول بخفوت
( وليد ..... أرجوك اغفر لي جنوني ........ )
نظر الى عينيها طويلا جدا .... نظرة تحمل الكثير مما لم تفهمه .... قبل أن يترك معصمها ليسقط الى جانبها ... ثم قال بجفاء خافت ينبض بالألم
( ليت جنونك كان هو ما يتطلب الغفران ....... لقد كان هو سبب حبي لكِ ...... لكنني أحببت فتاة غير موجودة ..... و أنت السبب في ذلك , هلا أخبرتني الآن أين أجدها ؟!! ...... )
همست و هي ترفع وجهها اليه بتوسل
( ها أنا ذا ..... إنها أنا ........ والله هي أنا ..... الا يمكنك فقط أن تتغاضى عما سبقك من حياتي .... )
أغمض عينيه طويلا .... قبل أن يقول بصوت أجش
( أنظري الى نفسك ........ و ستعرفين بأنني من المستحيل أن أتغاضى عما سبق من حياتك ..... )
ابتعدت عنه خطوة و عيناها تلتمعان بالدموع ثم قالت بصوتٍ مكتوم بينما الغضب يلمع من عينيها تحت غلالة الدموع
( الا أروق لك ؟!! ..........أتحتقرني الى تلك الدرجة ؟!! ...... من اذن كان يجرني الى سريره كل ليلة .... على الرغم من احتقاره و غضبه .... تابعا شهواته كالبهائم !! .....أهو شبح مما سبق من حياتي ؟!! )
رفع يده عاليا ..... و قد ارتسم الغضب على ملامحه ماحيا كل أثر للعطف السابق .... مما جعلها تغمض عينيها منتظرة الصفعة .... رافعة وجهها ...ضامة قبضتيها الى جانبيها دون أن تحاول الهرب ....
الا أن يده ظلت عالية لفترة وهو ينظر اليها ... يلهث من شدة الغضب و الألم .....
لكنه أنزلها فجأة .... ففتحت عينيها بتردد .... و هي تنظر اليه ... فاستدار عنها وهو يهدر بصوتٍ قاسٍ
( ادخلي غرفتك ...... و اغلقي بابها , فمن اليوم ستكون لكِ غرفة مستقلة ..... )
ارتفع حاجبيها و برد غضبها في لحظة ... ثم مدت يدها دمعة خائنة بظاهر يدها و هي تقول بصدمة
( ماذا ؟!! .......... )
استدار اليها وهو يقول ساخرا دون مرح
( ألم يكن هذا هو رجائك ليلة أمس ؟!! ..... حسنا لقد واقفت على طلبك .... و ستكون لك غرفتك ... علك تستطيعين النوم بلا كوابيس ...... )
همست شيراز و هي تقترب منه خطوة
( لست أنت سبب تلك الكوابيس ..... أنا حتى لا أتذكرها ..... )
عاد ليستدير اليها بعنف وهو ينحني اليها ... ليهمس أمام وجهها
( كاذبة ..... تتذكرينها و تتذكرين من كان يشاركك بها .... )
فغرت شفتيها و هي تتراجع خطوة لتقول
( يشاركني .......... من تقصد ؟!! .......... )
تنهد مغمضا عينيه قبل أن يقول بخفوت مجهد
( غطي نفسك يا بشرى ...... و اذهبي الى غرفتك , علك تنعمين ببعض الراحة .... )
همست برجاء و توسل تناقض نفسها
( أريدك بجواري ............. )
نظر اليها بملامح جامدة ... بينما عيناه تتعذبان و قال أخيرا بخفوت
( لأي شيء ؟!! ..... لأمسك بيدك حتى تغمضين عينك ؟!! ..... )
اتسعت عيناها و هي تهتف بقوة
( انظر الي ............ )
دارت حول نفسها فاتحة ذراعيها و هي تقول
( انظر الي و أجب على نفسك ........ أنا ملكك .... و ليلة أمس أنا آسفة عليها صدقني .... )
عاد ليغمض عينيه وحلقه يتشنج بقوة ..... فتوقفت عن الدوران و هي تنظر الى حاله الغريب ... الى أن قال أخيرا بصوت خافت
( أنت تحتاجين للمساعدة ......... )
عقدت حاجبيها بشدة ... ثم لم تلبث أن ضحكت بعصبية و هي تقول بحيرة
( أتظنني مجنونة ؟!! ...... كل هذا لأنني تجرأت على رفض الفتى الرائع مرة من بين الليالي السابقة كلها ؟!! ....... )
رفع عينيه اليها .... ثم هدر بجمود جليدي أرسل الرجفة الى جسدها
( أستطيع رميك خارج هذا الباب حالا و بالشكل الذي أنت عليه ...... و سأكون سعيدا مرددا كل كلمة قذرة تصوبينها ضدي ثم تعودين بعدها للتذلل و طلب السماح ..... الا أنكِ و للأسف بسبب نزوة غضب مررت بها .. جعلت منكِ زوجتي , لذا أنا مجبر على حماية اسمي الذي تحملينه .....
و أول تلك الحماية هي أنني بصراحة لا أثق بكِ ...... لذا ستبقين بهذا البيت الى أن تنالين المساعدة التي تحتاجين .... و هذا ينقلنا لثانيا ... أنت ستنالين المساعدة يا بشرى شئتِ أم أبيتِ ....... )
تراجعت للخلف و الرعب مرتسم على وجهها من أن يرميها خارجا بالفعل بجسدها المكشوف !!
لكنه ضحك بازدراء وهو يلاحظ خوفها الظاهر على وجهها ....
ثم قال بجفاء مخرجا مظروفا أبيضا من جيب سترته .... اقترب منها ليمسك بكفها المرتجف رغم عنها ... ثم وضعه في يدها بالقوة
( لا تخافي ..... أخبرتك أنني سأحافظ على اسمي .... خذي هذا ليطمئنك قليلا , و ليكون حافزا لكِ كي تقبلين البقاء هنا و تقبل المساعدة .... )
قالت بشرى بخوف و أسى
( ما هذا ؟!! .............. )
قال بجمود
( انظري اليه ..... انه خطاب المصرف , افتحيه و انظري الى حسابك الجديد الذي أضفته لكِ ....)
نظرت المظروف بيدها بلا تعبير ... ثم رفعت وجهها لتهمس بصوتٍ واهي
( تلك الخطابات تصل على شقتي ..... هل ذهبت الى هناك ؟!! ...... )
لم يرد عليها وهو ينظر اليها بصمت طويلا ... قبل أن يقول بجفاء
( من اليوم ستصلك هنا ......... الآن اذهبي و احسبي أرباحك .... )
استدار عنها بصعوبة .... بينما سمع وقع قدميها الحافيتين أخيرا و هي تبتعد عنه مكسورة الخاطر ... و ما أن دخلت غرفتها ... حتى استدار ينظر الى بابها الذي لا يزال مفتوحا ... ثم زفر بعنف وهو يغمض عينيه عن جسدها الساكن خلف هذا الباب .... المفتوح .... يحاول اسكات شهوات البهائم كما قالت للتو ...
لكن ان كانت شهوات البهائم .... فماهذا الألم الذي يفترس روحه ؟!! ....
شعر بقوة تجذبه الي الباب المفتوح .... فاقترب منه مسيرا ببطى الى ان نظر منه ....
فوجدها لا تزال على حالها ... جالسة على حافة الفراش دون أن تغطي نفسها ... ممسكة بخطاب المصرف .. تدقق النظر به و هي تخفض وجهها حتى كاد ان يلامس الورقة ....
و اصبعها يلاحق الرقم الأخير !! .........
أغمض عينيه وهو يهمس بداخله بيأس و شعورٍ بصفعة باردة على وجهه
" لا فائدة ..... من اعتاد البيع من المستحيل أن يفهم لغة غيره .... "
رن هاتفه فجأة ... مما جعل شيراز تنتفض مكانها و هي تدرك وجوده ... بينما التقت أعينهما ... قبل أن يرفع هاتفه الى اذنه .... و قال
( كيف حالك يا سمية ...... نعم وصلت للتو ..... كنت قد .... )
صمت قليلا وهو يستمع اليها ... قبل أن يعقد حاجبيه بشدة وهو يهمس ناظرا الى شيراز بشراسة جعلتها تشهق بداخلها و هي تتراجع للخلف على السرير ...
بينما قال بخفوت خطير
( من ؟!! ........ أين ذهبتا ؟!! ..........)
ظل يستمع اليها .. و عيناه يزيد غضبهما .... و هي تتراجع أكثر و أكثر و الخطاب مجعد في يدها .. بينما دخل هو الى الغرفة قائلا
( حسنا ....... أغلقي الخط الآن يا سمية ..... )
و كان هذا هو آخر ما نطق به وهو ينظر الى شيراز بجنون وهو يصفق الباب بقدمه متقدما منها و عيناه تقدحان شررا و هي تنظر اليه مرتجفة ..... تتسائل أين ذهبت شجاعة الصباح ؟!!!
سمعت صوت المفتاح بباب الشقة ... فانتفضت برعشةٍ من السعادة الخفية و هي تشعر بأن البيت قد أشعل اضواءه تلقائيا بعودة صاحبه و مالك قلبها من جديد ....
جرت الى مرآتها تتأكد من ملابسها البسيطة و التي اختارتها بعناية ...
مرتدية بنطالا من الجينز الضيق .. بحمالتين طويلتين على كتفيها .. بدا رائعا مع قميص قطني أبيض .. ضيق كذلك ...
أما شعرها فقد أهتمت به الى أن بدا لامعا و متموجا فوق ظهرها ... راقصا على نغمٍ خاص كما يقول حاتم دائما متغزلا بجماله ....
أخذت نفسا عميقا ... ثم خرجت من غرفتها تتهادى و قد رسمت على وجهها ملامح اللامبالاة الزائفة ....
لكن قلبها فقد إحدى خفقاته ما أن رأته واقفا بمنتصف البيت .... صلب الملامح , يتلاعب بسلسلة مفاتيحه و عيناه تدوران بحثا عن أهل البيت دون أن يبصرها بعد ...
ابتلعت ريقها و هي تتأمل وسامته و شعره اللامع ! .... تبا إنه يكاد أن يفوقها جمالا و هذا ليس عدلا .....
شعره بدا مبللا ... و قد ارتدى ملابسا أخرى غير التي خرج بها ليلة أمس ....
شعرت بالغيظ منه و هو يتصرف بحريةٍ في بيته الآخر .... وودت لو باعته أو حتى منحته بلا مقابل ...
لكنها كانت تشعر في نفس الوقت تشعر بالأسى عليه مما شعر به أمس وهو يكتشف خداعها له ... و تصرفها بنفس الحرية و الحميمة ببيت طليقها ...
تنهدت بداخلها رغما عنها ..... و هي تود لو تهجم عليه قافز تتعلق بعنقه .. تعتذر له بقدر ما يسمح لها المتبقي من عمرها ... تخبره أنها مظلومة النوايا للمرة الأولى بحياتها ....
اخذت نفسا عميقا و رفعت رأسها لتقول بصوتٍ ناعم هادىء
( مساء الخير ......... )
استدار حاتم على عقبيه ينظر لها ... وللحظات خانته عيناه و تكلمت لغة جسده وهو ينظر اليها بمنظرها الغريب عليها نوعا ... و كأنها تبدو فتاة جامعة منتعشة ....
اتسعت ابتسامتها الواثقة ... و عادت اليها روح المتلاعبة المدللة التي ولدت على يديه هو ...
من المستحيل أن يقاوم حاتم تأثيرها عليه ... و هذا هو ما أكتسبته من ثقةٍ خلال زواجهما .... و كانت تتلاعب بعبثٍ على أوتاره طوال الفترة السابقة ...
لكن لحظةٍ مرت , جعلت حاتم يكتسب صلابة ملامحه بسرعة البرق ... ليكسو وجهه بقناعٍ أرجفها وهو يرد تحيتها بجفاء
( مساء الخير .... أين محمد ؟! .... )
أجفلها بروده الذي لم تعتده من قبل ....
اعتادت صراخه و عصبيته .... انفعاله و غيرته , لكن ذلك الجفاء القاسي ضرب قلبها بشدة ...
لكنها رفعت ذقنها و هي ترد بجفاء مماثل
( بغرفته ....... هل أنت ضيف كي تسأل عن مكانه ؟! ..... )
لم يرد عليها حاتم وهو ينظر اليها بنفس الجفاء المتصلب ... بينما قالت كرمة متابعة تستفزه كي يخرج عن صمته
( ضيف أنت أم ضيف ؟!!! .... ها .... ها ؟!! ..... )
وضعت يديها بخصرها و هي تنفض شعرها المتموج بحركةٍ عنيفة من رأسها قائلة بقوة
( طبعا ضيف .... حين تبيت ليلتك خارج بيتك و بعيدا عن زوجتك .. دون أن تتحلى باللياقة اللازمة لتخبرها عن مكان مبيتك , تصبح ضيفا ... يستحق أخذ واجبه في مشروبٍ بارد ... ثم ينصرف سريعا لأن الوقت متأخر و نريد أن ننام ..... )
ارتفع حاجبي حاتم بدهشة قليلا و هو يراقب انفعالها الذي تزايد مع كلماتها الى أن تحول هتافا غاضبا في نهايته .... لكنه لم ينفعل هو الآخر كما كانت تتوقع , بل ظل القناع الصلب على وجهه مما أثار خوفها أكثر ...
فابتلعت ريقها و هي تقول بحدة
( أين بت ليلتك يا حاتم ؟!! ... لقد اتصلت بك عشرات المرات و أنا أنتظر عودتك .... و حين يئست أرسلت لك رسالة أخبرك بعودة محمد للبيت ..... )
ظل حاتم صامتا وهو يراقبها بصمت ... فاقتربت منه بعينين تلتهبان و همست بلوعة
( أين كنت يا حاتم ؟!! .... كدت أموت رعبا حين ذهبت للعمل و صدمت بغيابك ...... لولا ردك بعدها على رسالتي برسالةٍ باردةٍ سخيفة , لكنت انهرت من الرعب ... )
كان ينظر اليها مخفضا رأسه .... و عيناه مظلمتان عميقتي السواد و الغضب ... بينما ظهرت ابتسامة استهجان على شفتيه ... رأتها كرمة بوضوح .. فصرخت وهي تلوح بيديها و قد بدأت سيطرتها على نفسها تنهار ...
( لا تبتسم هذه الإبتسامة .... امحها من على شفتيك .... )
رفع حاتم ذقنه قليلا وهو يقول بصرامة
( ماذا تريدين يا كرمة ؟ ....... )
ارتبكت قليلا أمام سؤاله المباشر .. فتراجع وجهها و هي تضفط اصابع كفيها , ثم قالت بتوتر
( أين بت ليلتك ؟...... )
رد ببساطة دون أن تلين ملامحه
( تعلمين أنني كنت بشقتي القديمة ..... ماذا بعد ؟ ..... )
رمشت بعينيها عدة مرات .. و قد بدأت شفتيها في الإرتجاف ... فاقتربت منه الى أن وصلت اليه و بتردد رفعت كفيها لتريحهما فوق صدره الصلب القوي ... و همست برجاء ملتاع
( لماذا لم تعد يا حاتم ؟!! ... لماذا ؟!! ......هل تتخيل ما شعرت به و ساعات الليل تمر بطيئة و انا أنتظرك الى أن تأكدت بذهول مع شروق الشمس أنك قد نمت بالفعل بعيدا عني !!! ... )
استمرت عيناه في الغوص بعينيها بصلابةٍ و بأس ... فلم تستطع تبين تأثره من عدمه ....
لم تعرف إن كان صدره يتحرك بسرعة تحت كفيها ... متأثرا بها أم من شدة الغضب ...
لكن قلبها أخبرها أن صدره ينتفض مثلها .... تلك المضخة القوية تحت كفيها تهدر بحبها ....
فهمست برجاء ملتهب
( هل تمكنت من النوم بعيدا عني يا حاتم ؟! ........ )
رفع يديه ليطبق بهما على كفيها ... قبل أن يدفعهما عنه بحزم و هو يستدير عنها بقساوة دون أن يرد ...
و على الرغم من أن حركته قد آلمتها , الا أنها لم تتركه فدارت حوله تواجهه من جديد و هي تتشبث بذراعيه
هامسة تتابع
( هل أغمض لك جفن و أنا لست بين ذراعيك يا حاتم ؟! ....... أنا لم أستلق حتى .... بقيت جالسة مكاني أراقب الباب حتى الصباح ...... )
صمتت تلتقط أنفاسها المهتاجة ... ثم قالت بخفوت و ألم
( ألم نتفق الا نبتعد عن بعضنا أبدا ؟! ...... مهما غضبنا و أختلفنا .... نظل بجوار بعضنا الى أن تنهزم كل خلافتنا !! ... اليس هذا ما تربيت عليه و على يديك ؟! ..... )
أخفضت وجهها قليلا على الرغم من اصابعها التي حفرت بقوةٍ في لحم ذراعيه .. ثم همست
( أعلم انك غاضبا .... و لك كل الحق بذلك , لكن على الأقل ....... )
لم تكن مستعدة للقبضة التي اندفعت لتقبض على فكها بقوةٍ مما جعلها تشهق مبتلعة المتبقي من كلماتها و عيناها تتسعان بذعر أمام النظرة المخيفة بعينيه .. بينما قال بخفوت أرسل الرجفة الى أوصالها
( غاضب ؟! ....... هل ترين أن تلك هي الكلمة المناسبة لوصف ما أشعر به حاليا ؟! ... )
ابتلعت كرمة ريقها تحت قبضته القوية المؤلمة ... ثم همست بإختناق تطلب كل ذرة شجاعة بها
( حسنا ..... أكثر من غاضب ...... )
رفع احدى حاجبيه مهددا و عيناه تلمعان بقوةٍ أفظع ... فهمست باختناق أشد
( مجنون ........ أكثر من مجنون بقليل ....... )
ظل ينظر اليها قليلا بنفس الملامح المخيفة قبل أن يقول بصوتٍ ضرب قلبها بعنف
( بل مطعون ........... )
شعرت و كأن الكلمة ما هي الا طعنة نفذت من صدره الى صدرها لينزف قلبها بشراسة .... فأغمضت عينيها على دموعٍ تريد الإنفجار من عينيها .. و همست بألم
( أرجوك لا تقل ذلك ...... ... )
فتحت عينيها النديتين تنظر الى عينيه المغلقتين أمام حبها ... و تابعت بهمسٍ عاشق
( أنا كرمة يا حاتم ...... تلك المدللة التي كنت تتحمل منها الكثير ....... )
أظلمت عيناه بألمٍ قليلا ... و شعرت بأنها قد لمست قلبه أخيرا ... الا أنه قال بجفاء
( و كنت مستعد لبذل عمري كله كي تتدللي به ....... )
فغرت شفتيها بألم و هي تهمس بعدم تصديق و استنكار
( كنت ؟! ......... ماذا تعني تلك الكلمة بالضبط ؟!.......... )
ترك ذقنها ببطىء وهو ينظر الى عينيها نظرة طويلة ... لن تنساها أبدا ... ثم قال أخيرا بخفوت
( تعني أنني لم أعد أتحمل اقحامك لرجلٍ آخر بيننا بعد الآن يا كرمة ....... لن أكون أبدا الطرف الثالث )
فغرت شفتيها باتساع أكبر و هي تهتف بذهول
( اقحامي لرجل آخر ؟!! ..... ...... هل هذا ما تراه ؟! ...... الآن بالذات ؟! ... بعد أن أصبحت حياتي كلها ... عائلتي الوحيدة بكل أفرادها... )
أطرق بوجهه قليلا ثم استدار عنها وهو يقول بخفوت
( لن ينقصكِ شيئ يا كرمة ........ البيت لكِ .... و اسمي سيظل لكِ الى أن تقرري العكس .... )
رفعت حاجبيها بتعجب ساخر بينما الدموع تغرق عينيها و هي تكتف ذراعيها قائلة باستهزاء مرير
( ما هذا الكرم البالغ بالله عليك ؟! ........ )
استدار اليها بصمت ...وهو يضغ قبضتيه في جيبي بنطاله , ناظرا لوجهها بنظرةٍ ساكنة ... صلبة .. مجافية
ثم قال أخيرا بصوتٍ قاس
( و تجرؤين على التهكم ؟! ..... لكن هذا متوقع منكِ , فأنا من دللتك كما تقولين ... و ها أنتِ تقفين أمامي تهزأين بكلامي بكل قلة حياء ... غير عابئة بالنار التي تشتعل بداخلي ..... )
تأوهت كرمة بصوتٍ عالٍ مستسلم فجأة و هي تجري اليه و دون سابق انذار تعلقت بعنقه حتى وقفت على اطراف اصابعها .... و اخذت تقبل كل ذرةٍ من وجهه
عينيه .. و جنتيه ... زاويتي شفتيه .... تطبع شفتيها بقوةٍ دامغةٍ على شفتيه الصلبتين المخاصمتين و هي تتوسل هاتفة بين كلِ قبلةٍ و أخرى
( أنا آسفة ..... أنا آسفة ..... أرجوك سامحني ........ )
أغمض عينيه لعدة لحظات وهو يدرك بأنها تتلاعب به مجددا ... مستغلة كل أسلحتها الفتاكة بضراوة ...
فابتلع ريقه وهو يقف أمامها كجبلٍ من صخرٍ صامت لا ينبض بالحياة ... مخفيا ما يجيش بصدره بمهارة ...
و بعد لحظاتٍ طويلة .... أخرج يديه من جيبي بنطاله ... ليضعهما على خصرها المائل بحدة تحت ملابسها الضيقة الوقحة ....
حينها ... حررت وجهه من أسر شفتيها و هي تنظر اليه مبتسمة من بين دموعها الغزيرة ... بعد أن أحرقت كفاه الساخنتان خصرها .... و ظنت أنه استسلم أخيرا ...
لكن أبعدها عنه برفق .... فماتت ابتسامتها و هي تنظر اليه مجفلة ,. قبل أن يقول بخفوت
( لن يفلح هذا يا كرمة ........ )
نزلت على قدميها و هي تستسلم لكفيه المبعدتين لها .... تهز رأسها نفيا ... و رفضا لما تراه أمامها من جفائه ...
الى أن رفع رأسه و هو ينظر الي نقطةٍ ما خلف كتفها ... ثم قال بصوتٍ خافت ... ساكن ..
( تعال يا محمد ......... )
ابتعدت كرمة بسرعةٍ و هي تستدير مطرقة الرأس ... تمسح الدموع عن وجهها بظاهر يدها ... مبتعدةٍ عنهما , بينما اتجه محمد الى والده ليحيه بصوتٍ واجم خافت ..
اولتهما كرمة ظهرها و هي ترفع وجهها محاولة التقاط نفسها المتعب المتألم ... بينما قال حاتم بهدوء
( اذهب لتعد حقيبة سريعة يا محمد كي نذهب ...... )
هنا .. انتفضت كرمة و هي تستدير اليه بشراسةٍ ... قائلة بصرامة على الرغم من عينيها الحمراوين
( تذهبان الى أين تحديدا ؟! ......... )
قال حاتم بجفاء
( الى شقتنا القديمة .......... )
وضعت كرمة يديها في خصرها و هي تقول بقوة و قد استعادت شخصيتها القوية الحقيقية و نبذت الشخصية المدللة المتلاعبة ...
( محمد لن يغادر بيته مطلقا ....... )
رمقها حاتم بنظرةٍ صارمةٍ ذات مغزى الا تفتح هذا الحوار أمام محمد ... لكنها تحركت بسرعة لتقف أمام محمد و كتفت ذراعيها و هي تقول متجاهلة نظرته الغاضبة
( محمد لن يغادر لأي مكان و يتركني ..... هذا بيته ... وهو عائلتي .... )
ارتفع حاجبي حاتم قليلا ... بينما كانت عيناه تهددانها بصمت ... لكنه فضل تجاهلها وهو يلتفت الى محمد قائلا بهدوء صلب
( هيا يا محمد ...... لقد تأخر الوقت .... )
امتقعت ملامح كرمة و هي تظن أنهما سيتركانها بالفعل .... لكن محمد تحرك من خلف كرمة ... ليقف أمامها و قال بهدوء
( لن أغادر هذا البيت .......... )
تنهد حاتم بنفاذ صبر وهو يغمض عينيه .... رافعا يده الى خصلات شعره ...ثم رفع وجهه بعد عدة لحظات .. مكتسيا بقناعٍ أكثر صرامة و قال بصوتٍ مخيف رغم هدوءه
( لا أمتلك الوقت أو الصبر المناسب الآن يا محمد .. لذا رجاءا و بمنتهى الهدوء , اعد أغراضك لنغادر ... )
رمشت كرمة بعينيها و قلبها بقع بين قدميها ... محمد لن يصمد أمام حاتم كثيرا ...
الا أن محمد رفع ذقنه و بدى شبيها بحاتم كثيرا وهو يقول بهدوء مماثل
( لن أترك كمرة ........ لذا لو أردت أنت المغادرة , فاذهب .... )
امتقع وجه كرمة قليلا .. ثم وضعت يدها على ذراع محمد و هي تقول بخفوت
( لا تكلم والدك بهذه الطريقة يا محمد .... ربما من الأفضل أن .... )
الا أن محمد قاطعها وهو ينظر الى حاتم قائلا
( لن أذهب ........... )
حينها بان الغضب على وجه حاتم و قال بصرامة ..
( اذا لم تتحرك حالا سأحملك على كتفي ..... فهل تخرج بكرامتك أو بدونها ؟! .... )
نظرت كرمة اليه متسعة العينين ... و همست بوجع
( لهذه الدرجة ؟! .......... )
نظر اليها حاتم نظرة صامتة ....وهو يرى جيدا تحطم روحها بأوامره الصارمة ... لكن أولم تحطم قلبه هي أولا ؟! ...
قال محمد بهدوء وهو يشدد على أحرف كلماته
( يمكنك المحاولة .... فقد فعلتها من قبل حين كنت أصغر سنا و أردت البقاء مع أمي وقتا أطول .... فحملتني رغما عني لتغادر و أنا أصرخ و أركلك بقدمي .... لم أنسى هذا الموقف على الرغم من أن سنواتٍ عديدة قد مرت ..... لكن أنا الآن كبرت و أتمرن على الدفاع عن النفس .... لذا سأقاومك بقوة و قد تنتصر ... لكن هذا الانتصار سيكون غير شريف .... )
بهت وجه حاتم .... و ضاقت عيناه ... بينما شعرت كرمة بقلبها يحترق حزنا و لوعة عليه ....
ممن سيحتمل أكثر ؟! .... منها أم من ابنه الوحيد ؟! ....
لكن محمد تابع وقد با الغضب على ملامحه الفتية
( لن أغادر بيتا آخر أريده بسببك ..... ليست مشكلتي ان لم تتوافق مع أمي فتطلقتما دون أخذر رأيي ... و ليست مشكلتي إن كنت تزوجت كمرة و اكتشفت الآن أنك لا تريدها .....
أنا أحببتها و لن أتركها بمفردها .... خاصة و أن هذا هو بيتي .... و بيتها كذلك ....
هل نسيت حين أخبرتني بأننا يجب أن نصبح لها عائلة لأنها لا تمتلك واحدة ؟! .... و لأنها خرجت من دار رعاية فهذا يجعل منها فتاة مميزة و يجعلنا نقدرها اكثر ... )
فغرت كرمة شفتيها باسمه الصغير دون صوت ... و تلألأت الدموع بعينيها و هي ترى ذلك الشبل الصغير يقف أمامها مدافعا عنها ...
و رغما عنها رفعت عينيها الى حاتم الذي كان يستمع لابنه بملامح باهتة .... ممتقعة ..
و حين التقت عيناه بعيني كرمة المغروقتين بدموعها .. لم تمتلك سوى أن تبتسم ....
للحظات التوت زاويتي شفتيه فيما يشبه .... ابتسامة مماثلة ..... ليس لها معنى سوى أنه تأثر بسعادتها على الرغم من كل شيء
على الرغم من ألمه من جفاء ابنه تجاهه ... على الرغم من غضبه منها و شعوره بطعنتها له ....
لكنه لا يزال يتأثر لسعادتها و حزنها ......
نظر الى محمد الذي قد انحنى قليلا متخذا وضعية للدفاع عن النفس ... رافعا قبضتيه ... عاقدا حاجبيه !!
لقد وقع الولد أسير حبها .... و خضع لسلطان جمالها ككل من يعرفها ....
ابتلعت كرمة غصة حادة و هي تقول بصوت مختنق
( أخفض قبضتيك يا محمد ..... عيب ..... أنت تغضب ربك ووالدك .... )
رفع حاتم وجهه وهو يبتسم ابتسامة ساخرة مريرة ... ليقول بهدوء جاف
( و ماذا عنكِ ؟! .... ألم تغضبي ربك و زوجكِ حين خالفتِ ما طلبه منكِ ؟! .... )
اظلمت عيناها بأسى ووجع .. و شعرت و كأنه سؤاله قد لكمها في منتصف قلبها .. الا أنها تمالكت نفسها و رفعت وجهها تقول بهدوء مختنق قليلا
( هل هذا الكلام يصح بيننا الآن .. أمام الولد ؟!! .....)
ابتسم ضاحكا بألم .... ثم قال بهدوء
( يبدو أنني لست موضع ترحيب هنا كما أرى .......... )
أخذ نفسا عميقا تضخم له صدره حتى كادت أزرار قميصه أن تتطاير من مكانها .... بينما همست كرمة رأسها نفيا و هي تهمس بلوعة
( لااااا ... لاااااااا ..... )
لكنه لم يسمعها وهو يقول بعملية جافية ..
( كما ترغبان ... فليبقى محمد معكِ .... و أنتِ المسؤولة أمامي عن سير دروسه و تمريناته .... )
اقترب منها ببطىء و عيناه على عينيها .. بينما قلبها يخفق بعنف الى أن وصل اليها ... فسحبها من ذراعيها بعيدا قليلا عن مسامع محمد ... و انحنى بوجهه اليها .. فرفعت وجهها اليه تلقائيا و هي تتلهف كي يروي القليل من ظمأ شوقها اليه .... لكن شفتيه لامستا أذنها وهو يهمس بصرامة ليست مسموعةٍ لسواها
( تلك الملابس التي ترتدينها ..... تبدلينها حالا ... و لا ترتدين مثلها مجددا أمام محمد ..... مفهوم ؟! ... )
على الرغم من خيبتها أنه لم يمنحها قبلةٍ مجاملة حتى ولو كطابع بريد من باب الشفقة ...
الا أن قلبها انتفض كقلب مراهقة و امالت وجهها حتى وصلت شفتيها الى أذنه و هي تهمس تستعطفه بالسؤال القديم المداعب بينهما
( تحافظ على أخلاقه .... أم تغااااااار ؟؟ ..... )
كان رده دائما قبل أن يسحبها اليه بعنف و امتلاك
" و أغار عليكِ من نفسي ....... "
الا أنه هذه المرة لم يمنحها تلك العبارة التي تروي قلبها دائما .... بل رفع وجهه اليها بتعبير غير مقروء
ثم ابتعد عنها و شعرت و كأنه يقتسم جزءا من قلبها ... ذلك الجزء الذي يمنحها الحياة على حبه ...
بينما نظر الى محمد نظرة طويلة صامتة .... ثم قال أخيرا ..
( اعتني بها ..... طالما أنك وقفت أمامي مدافعا عنها بشراسة ...... )
نظر نظرة أخيرة الى كرمة التي همست باسمه هاتفة برجاء و توسل ... لكنه استدار ليخرج , مغلقا الباب خلفه بهدوء ...
بينما بقى محمد و كرمة وحدهما ينظران في الفراغ ... و قالت كرمة مجددا و هي ترفع يدها الى صدرها
( ياللمصيبة !! ..... لقد غادر والدك للمرة الثانية يا محمد ! ..... )
.................................................. .................................................. .................
وقف محمد مكانه مكتفا ذراعيه و قد اسقط في يده .... ينظر اليها متنهدا بصمت ...
فجائت أمينة و هي تحمل طبق من أطباق الفطور ... لتقف بجواره أمام مائدة الطعام و قالت بطرفِ شفتيها ..
( الا زالت كما هي منذ أتيت الى هنا ؟! ......... )
نظر محمد الى كرمة التي كانت تجلس تحت مائدة الطعام ... رافعة ركبتيها الى صدرها ...
شاردة العينين ... أمامها طبق كبير من الحلوى الجلاتينية موضوع على الأرض ... تأكل منه بملامح ضائعة .. غير مصدقة لما يحدث ...
فتنهد محمد قائلا
( كما هي .... لم تتحرك ..... )
زفرت أمينة بنفاذ صبر و هي تقول ممتعضة
( يا زين من اختار والدك !!...... كل مرةٍ تفاجئنا بل و تبهرنا بالمزيد من ابداعات تصرفاتها ... لو أعلم من يحسد والدك و عمل له عملا شريرا يفسد زيجاته ... لكنت ابطلت العمل ... لكن والدك ليس مقتنعا بذلك ... )
نظر محمد الى أمينة بصمت الى ان انتهت .. ثم قال بهدوء
( تعلمين أنها تسمعك ..... اليس كذلك ؟! ...... )
نظرت أمينة الى كرمة بتشكك ثم قالت بثقة
( أعتقد أنها في عالم آخر .... أنظر الى حدقتيها يسكنهما الجنون المؤقت .... )
هز محمد رأسه قائلا بهدوء
( لا ....بل هو فخ ... و هي تسمعك جيدا و تنتظر اللحظة المناسبة كي تفرغ بكِ كل بؤسها الحالي ... )
مطت أمينة شفتيها و هي تقول
( إن كانت هي البائسة .... فماذا يكون ابني المسكين حاتم و الذي لم يهنأ حتى الآن بيوم زواج طبيعي دون اختلالات ..... )
أغمضت كرمة عينيها للحظة ... ثم قالت بصوتٍ منهزم
( أنا لست مختلة .... و أستطيع سماعك بوضوح .... هلا تركتماني قليلا ؟ّ! .... الا يمكن للمرء أن يحصل على قدرٍ من الخصوصية ببيته ؟! ...... )
نظر محمد الى امينة و هو يقول
( أخبرتك أنها تسمعك ..... لحظة و ستهجم عليكِ من تحت المائدة كأحد ثعابين أفلام الرعب ... )
زفرت كرمة بقوة و هي تهتف بغضب
( هلا تكلمتما عني ..بعيدا عني ؟! ........ )
ضحك محمد وهو ينظر الى أمينة قائلا
( انه يصلح كمطلع لأغنية .....كأغنية من هم مني ليسوا مني !! .... )
ضحكت أمينة و هي تقول
( والله شخصية غريبة جدا ..... لقد فاقت أمك بمراحل .... )
قال محمد ضاحكا ..
( على الأقل لم استيقظ ذات يوم لأجد أمي تجلس تحت المائدة !!! .... الآن عرفت أن أمي سيدة العاقلين .. ذكريني أن أقبل يديها المرة القادمة )
هزت كرمة رأسها يأسها و هي تهتف بنفاذ صبر و يأس بصوتٍ مختنق من الألم
( الا تمتلكان ذرة من الشعور لتراعيان بها مشاعر البشر ؟! ....... أنا أتألم هنا ....... )
اقتربت أمينة من المائدة لتضع الطبق على المائدة فوق رأس كرمة مباشرة ... و قالت بهدوء
( حسنا .... هل يمكنك أن تبتئسي في مكان آخر .... فقد تأخر الفطور جدا الى أن وصلت ..... )
انحنت تنظر اليها ثم قالت ببساطة
( يمكنك الجلوس فوق الدولاب و الإكتئاب هناك براحتك .... أكثر خصوصية و هواءا !!....... )
نظرت كرمة اليها بعينين منتفختين متبلدتين ... ثم قالت بخفوت
( زواجي على وشكِ الإنهيار ..... الا يمكنك التعاطف ولو قليلا و أخذ الأمر بجدية ؟! .... )
رفعت أمينة حاجبيها و هي تقول
( بالنسبة الى زوجة تجلس تحت المائدة ؟! ..... الا ترين أن الجدية تعتبر اختيارا بعيدا قليلا ؟! .. )
استقامت أمينة و هي تضرب كفا بكف ... قائلة بخيبة أمل
( زوجات اليوم .... بدلا من أن تحاربي للحفاظ عليه , تجلسين هنا تحت المائدة كالفئران !! .......... )
مدت كرمة وجهها من تحت المائدة و هي تهتف بقوة
( انصحها أن تتوقف يا محمد .... )
اقترب محمد لينحني اليها .. جالسا القرفصاء أمامها وهو يقول بهدوء
( أمينة محقة يا كمرة .... أنتِ لن تحلي شيئا بجلوسك هنا ... )
نظرت اليه كرمة بعينين حزينتين لتقول بخفوت
( تعال اجلس معي لتتناول بعضا من الحلوى و ترفه عني قليلا ..... )
انحنى محمد ليجثو على ركبتيه داخلا معها تحت المائدة ... بينما صرخت أمينة من المطبخ تقول بغضب
( إياك أن تملأ بطنك بتلك الحلوى يا محمد قبل الفطور..... و الا أخبرت والدك ... )
مطت كرمة شفتيها و هي ترفع عينيها يأسا ... بينما همس محمد وهو يلتقط واحدة
( سآكل معكِ لكن لا تخبريها ..... فتخبر حاتم وهو يتمنى التحجج بأي شيء كي يبطش بكِ..... )
صمت يمضغ واحدة ... بينما قالت كرمة بخفوت
( شكرا لدفاعك عني أمام والدك ...... لم أتخيل أن يتركني كلاكما و أبقى في البيت وحيدة ...لكن أنا آسفة جدا لأنني كنت السبب في حدوث خلاف بينك و بينه )
قال محمد ببساطة
( لا تهتمي .... الخلاف أكبر منكِ ...... )
قالت كرمة بخفوت
( آآه يا محمد .... ليت لي والد مثل والدك ! .... لو تعرف قيمته لما قسوت عليه بتلك الصورة ... )
التقط واحدة أخرى دون أن يرد .... ثم قال أخيرا بجفاء
( انه يريدني نسخة منه ..... و هذا لا أطيقه .... )
قالت كرمة مبتسمة و هي تتأمله بشغف
( أنت بالفعل نسخة منه .... و لذلك تتضاربان )
مط محمد شفتيه وهو يقول بامتعاض
( راااائع ........ اذن سأكون مجرد متسلط آخر .... )
صمت قليلا ثم قال وهو يدقق النظر بها
( كمرة ....... هل ستنفصلين أنتِ و حاتم ؟! ....... هل المشكلة كبيرة فعلا الى تلك الدرجة ؟! .. )
ابتلعت كرمة ريقها بصعوبة ٍ و هي تشعر بخوف يكاد يشل حركة أحشائها ....
ظلت تنظر الى عيني محمد طويلا و هي فعليا ترتجف ... ثم قالت بخفوت
( المشكلة فعلا كبيرة يا محمد ... على الأقل من جهة والدك ... لكن ... )
صمتت تطرق برأسها تتنفس بسرعةٍ قليلا قبل أن ترفعه لتقول بكل تأكيد
( لكنني لن أسمح أبدا بالإنفصال يا محمد ....... أتتذكر تلك المرة التي كنت أنوي السفر بها ؟! .... لكنني تناسيت الفكرة ما أن شعرت بحاجة هذا البيت لي .... و ليست مجرد حاجتي أنا له ... و منذ هذا اليوم , قررت الا أدع لأي شيء أو شخص الفرصة كي يفكك الكيان الجديد الذي نقوم ببنائه .... أنا و أنت ووالدك ... )
مدت يدها تمسك بذقن محمد ثم قالت بإصرار و هي تنظر الى عينيه
( و ها أنا أكررها الآن .... لن أسمح لأي أحد بأن يفكك هذا الكيان ... حتى ولو كان والدك .... )
صمتت قليلا تبتلع غصة مؤلمة هي تهمس بتأكيد
( ليس من حقه الإبتعاد بقرارٍ منه ........ هذا القرار يجب أن يكون مشتركا و ليس فرديا ..... لن أسمح له .... لن أسمح له أبدا .... اتفقنا ؟! ... )
أومأ محمد برأسه بعد تردد .... ثم قال بخفوت
( هل ستذهبين مجددا الى تلك السيدة التي تشاجرتما بسببها ؟! ....... )
بهتت ملامح كرمة و ارتبكت أمام عينيه المتفحصتين ... ثم قالت بخفوت
( كيف عرفت سبب الخلاف ؟! ....... )
هز محمد كتفه وهو يقول
( سمعت بعضا من شجاركما ..... و لم يكن صعبا معرفة أنها نفس السيدة التي جائت الى هنا و ذهبنا معا لرؤية زوجها .... )
ارتبكت كرمة أكثر و أخفضت وجهها .... بينما تابع محمد ببساطة
( و عرفت بأن زوجها هو من كان زوجك سابقا ........ )
انتفضت كرمة ترفع وجهها و هي تنظر الى محمد بعدم تصديق ... و فغرت شفتيها و قد ألجمتها صراحته ...
حين طال صمت كرمة و شحوبها .... قال محمد مجددا
( هل ستذهبين لها اذن ؟‍!! ....... )
ظلت كرمة تنظر اليه طويلا ... و هي تشعر بالتضاؤل أمامه ... ثم قالت أخيرا بتركيز بطيء
( ماذا لو ..... ماذا لو افترضنا بأن غريمك في المبارة .. قد سقط أرضا مصابا و احتاج مساعدتك ذات يوم ؟! ..... هل كنت لتساعده ؟! ..... أم تتركه و أنت تشعر بسعادة غير قادر على تفاديها ؟! .... )
قال محمد بهدوء
( أساعده طبعا .......... )
أومأت كرمة برأسها قليلا ... ثم قالت بخفوت أكبر
( و ماذا لو ..... لو كانت المبارة قد انتهت من الأساس ... و لم يعد هذا الشخص غريمك ... بل مجرد انسان يحتاج لمساعدتك .... و أنت تعلم لو أنك رفضت ,و أصابه مكروه فستظل نادما طوال عمرك على شيء قد لن تعود به xxxxب الساعة من جديد ..... )
قال محمد مجددا
( الإجابة هي أنني سأساعده مجددا ........ لكن ....لكن ماذا لوكانت مساعدته ستضر بي ؟! ..... ليس على الإنسان أن يكون متفانيا ليضر نفسه قبلا .... حين يساعد شخصا ما ....
تلك السيدة لو خسرت جنينها ..... فسيكون هذا قدرا ... حتى لو ظللتِ تخدمينها العمر كله .....لأن ربما كان الله يريد معاقبة زوجها بخسارة هذا الطفل ..... )
فغرت كرمة شفتيها بذهول و صدمة .... لم تصدق هذا الصبي !! ..... انه يتكلم بسلاسة و يسر ... موضحا وجهة نظره بمنتهى البساطة
و حين لاحظ نظرتها شعر بالحرج قليلا وهو يحك رأسه ... و قال
( ربما سمعت أكثر قليلا مما ينبغي .... لكنني كنت أريد معرفة الى أين سينتهي شجاركما ..... )
كانت كرمة لا تزال تحت تأثير الصدمة .. فرفعت حاجبيها و رمشت بعينيها محاولة التعامل مع الوضع دون حرج .... فقال محمد بخفوت
( ليس عيبا أنكِ كنتِ متزوجة من قبل ! ..... أنا معتاد على ذلك ... أمي كانت متزوجة من حاتم و الآن هي متزوجة من رجل آخر .... و حاتم كان متزوج من أمي وهو الآن متزوج منكِ ... الأمر عادي ... )
صمت قليلا وهو يتلاعب بقطع الحلوى الجلاتينية ... ثم قال أخيرا
( لكن المشكلة الحقيقية ..... في ذهابك الى ذاك البيت من جديد .... اعرف أن حاتم ليس عادلا فهو يرى أمي كثيرا ..... لكن على الرغم من ذلك ,ذهابك الى هناك قد يهدم هذا البيت ..... لذا أنا أيضا سأحارب معكِ كي نحافظ عليه ..... و هذه الحرب تبدأ بأنني ...... )
صمت قليلا ... ثم رفع وجهه اليها ليقول بمنتهى البساطة
( بأنني آسف .... لكنني لن أسمح لكِ بالذهاب الى هناك مجددا ....... )
اتسعت عينا كرمة أكثر و أكثر و هي تنظر اليه ... مصدومة الملامح , بينما قال محمد بهدوء
( على الرغم من اختلافي مع حاتم ... لكنه حملني مسؤولية حمايتك , و أنا لن أسمح لك بالذهاب الى بيت الرجل الآخر .... )
رمشت كرمة بعينيها ... تهز برأسها قليلا ... ثم قالت متلجلجة و كأنها تلميذة أصغر منه
( الرجل الآخر غير موجود بالصورة اطلاقا يا محمد ...... فهل تثق بي ؟! ... )
هز كتفه بباسطة و هو يقول
( هذا لا يشكل أي فارق ....... لن تذهبي يا كمرة .......... )
ارتفع حاجبيها حتى كادا أن يلتصقان بمقدمة شعرها .... ثم قالت ببطىء
( الا ترى أنك أصبحت متسلطا أنت الآخر ؟! ....... )
عاد يهز كتفه قائلا
( و إن يكن ........ أنا هنا أمثل مكان حاتم , لذا من الطبيعي أن أكون متسلطا قليلا ..... خاصة و أنني أحارب في سبيل هذا البيت ..... ام أنكِ كنتِ ترفعين شعارات زائفة ؟!! .... )
عقدت حاجبيها و هي تهتف بغضب
( أنا لا أرفع شعارات زائفة ....... أنا سأعيد والدك ولو رغم عنه ..... )
قال محمد بهدوء
( اذن قومي بما عليك فعله ..... و أنا سأقوم بما علي فعله .... )
تنهدت كرمة و هي تربع ساقيها بيأس ..... ثم قالت بقنوط
( انا لا اريد الذهاب الى هناك .... لكن تلك المرأة مريضة و ضعيفة لدرجة أنها مستلقية باستمرار و هي على الارجح لم تاكل شيئا منذ امس ....... كيف يمكنني تركها بتلك الصورة متظاهرة بأنه لا دخل لي ..... )
سمعا فجأة صوت أمينة يقول بامتعاض
( هذا الولد القرد ... احسنت تربيته ,.... الفتى الذي في عمر ابنك عرف و فهم أنه عليكِ طاعة زوجك ..... بينما أنتِ يابسة العقل كشجرة ميتة .... )
نظرت كرمة الى محمد تمط شفتيها بغيظ و هي تهمس له دون صوت
" لقد زهقت منها ........ جدا "
قالت أمينة بصوتٍ عالٍ
( سمعتك ........... )
و سرعان ما انحنت على ركبتيها أرضا و هي تتأوه بصعوبة ممسكة بظهرها ... الى أن استقرت أمامهما قائلة
( تبا لجنونك يا فتاة ...... كي يتمكن المرأ من محادثتك يجب عليه تعلم فنون و مهارة زحف الفئران ... )
صمتت للحظة تتنهد ... ثم قالت بغلظة
( اسمعي يا فتاة ..... منذ أن أتيتِ الى هذا البيت و أنا لا أطيقك ... أشعر و كأنك عبء وضع فوق أكتافنا .. فأنا أكثر ما أكرهه هو الميوعة ... و أنتِ منذ أتيتِ و أنتِ تبكين و تئنين ... و تتأوهين من أوجاعك النفسية مما جعلني أرغب في بعض الأحيان في سد حلقك بجورب من جوارب محمد ..... )
نظرت كل من محمد و كرمة الى بعضهما بصمت ... لكن محمد غمز بعينه كي لا تقاطعها و الا سيكون مصيرها كمصير نملة وقفت في مواجهة ثور هائج ...
لكن امينة رفعت وجهها فجأة تقول
( لكن و بما أنني في لحظة حق .... وجدت أنكِ معدن نادر من البشر ,و خدمتك لتلك المرأة التي تزوجت من طليقك ...كان فعلا نادرا .... يشبه ما قمته به مرة قديما .... لذا أنتِ لا تتصفين بالميوعة اطلاقا .. بل انت صلبة و ذات صبر يتحمل شقاء السنوات ..... )
اتسعت عينا كرمة بعدم تصديق .. ثم لم تلبث أن تأوهت قائلة بامتنان و هي تنحني لتعانقها
( اوووه يا يا أمينة .. كلامك جميل جدا ... هيا لنفتح صفحة جديدة معا .... )
الا أن امينة دفعتها و هي تقول متذمرة بناد
( ابتعدي يا فتاة .... اخبرتك أنني لا أطيق الميوعة ..... )
عادت كرمة الى مكانها و هي تمط شفتيها بغيظ ... لكن أمينة تابعت بفظاظة
( خلاصة القول ..... أنا سأساعدك ..... لأنك تستحقين .... سأذهب أنا لأساعدها ..الى أن نعثر على امرأة متفرغة لهذه المهمة ... )
اتسعت عينا كرمة ... لكنها قالت بقوة و اصرار
( لا ااا لاااا .... لن أسمح بذلك يا أمينة أبدا .... تلك هي مشكلتي و لن أسمح بأن تخدمي أحد من طرفي ... )
قالت أمينة بجدية
( و تحرميني من ثواب تلك المهمة ؟! ....... )
هزت كرمة رأسها بعدم اقتناع و هي تقول
( لا يا أمينة ....... مكانك هنا ... هذا بيتك و نحن اسرتك ....و لا تليق بك خدمة الغير )
قالت امينة بقوة
( لن تذهبي اليها طالما ان زوجك يشعر بالضيق لذلك .... و بنفس الوقت لا يمكنني ان اترك فتاة يتيمة تحتاج الى مساعدة في حملها الى ان نجد من يساعدها ..... لقد فعلتها مرارا و ساعدت اناسا ظلموني قبلها .. لكن لم تمر كل مرة الا و قد انصفني الله بشيء اكبر و اعظم ..... )
همست كرمة بتردد
( لكن حاتم سيغضب .... و لن يسمح لكِ ..... )
انعقد حاجبي امينة بصرامة ... و تخصرت باحدى يديها و هي تقول هاتفة مستنكرة
( حااااتم ؟!! .......أوامر حاتم تسري عليكِ أنتِ فقط .... لا علي !! .... لقد كنت أضربه على رأسه وهو في دراسته الجامعية .... عشنا و سمعنا أن السيد حاتم يأمر و ينهي على أنا !!!! .... )
ضحك محمد وهو يقول
( هلا سجلنا ذلك المقطع و أرسلناه له ... كي لا يتجبر علينا مرة أخرى ؟! .. .... )
الا أن أمينة قالت بتخاذل قليل
( دعونا فقط لا نخبره ..... فنحن لا ينقصنا النكد و الكآبة أكثر من ذلك ... ووالدك حين يقرر أن يكون كئيبا يمكنه أن يحصل على الجائزة الأولى في النكد ..... )
نظرت الى كرمة و هي تقول بهدوء خبيث قليلا
( ما عليكِ سوى اعطائي العنوان ...... و اذهبي انتِ الى عملك , فمديرك لن يقبل بتأخيرك اليوم تحديدا ... و قد يقذفك بأقرب شيء في رأسك أمام باقي العاملين ...... )
برقت عينا كرمة قليلا و هي تفكر تلقائيا في ما سترتديه عند ذهابها للعمل ....
و ما أن استقامت أمينة واقفة ... حتى مدت كرمة رأسها قائلة بسرعة
( أممممم ... أمينة .... هناك أيضا جدا علياء .... أمرأة مسنة , ليس لها سوى علياء .... تحتاج فقط الدواء و تحضير الغذاء ... ليس أكثر ... )
وقفت أمينة مكانها و هي تعض على أسنانها ... هامسة
( صبرني على بعضٍ من عبيدك يا رب .......)
جلس حاتم مكانه يضغط أعلى أنفه بين عينيه بتعب ....
منذ ليلتين كاملتين لم يغمض له جفن ....
تراجع في مقعده بوجوم وهو ينظر الى سقف مكتبه ... ليجد أن وجهها مرتسما أمامه ...
بعينيها اللتين تشبهان اللوز شكلا و البندق لونا ..... و شفتيها العنبتين .... و شعرها المتماوج على صدره بنغمٍ لحنه هو في اذنه ....
لقد دربها على مدى أشهر طويلة كي لا تستطيع النوم بدونه .... و نسي أنه هو نفسه قد خضع لنفس التدريب
بات شريدا بدونها ليلا ... و السرير يبدو و كأنه ساحة مهجورة باردة .... يكاد يجزم أنه يسمع صوت حشرات الليل ذات الصفير بدون وجودها ....
جسده يشتاق الى ضمها ..... فقط ضمها ....
علم على مدى الاشهر الماضية ... ان العلاقة الجسدية كانت آخر نقطة في قائمة ما يجمع بينهما ...
مجرد نومها بجواره ساكنة بين ذراعيه ... في حالات ارهاقها .. تعبها ... ظروفها النسائية الخاصة
كان أجمل لديه من كل المشاعر التي خبرها بحياته ....
و على قدر ما منحته من سعادة .... كان نفس مقدار الألم الذي طعنته به مرة بعد مرة ...
أغمض عينيه للحظة وهو يفكر ... أنه لا يستثني نفسه من الخطأ ....
فبينه و بين نفسه كان يعلم أنه انتزعها بقوةٍ قسرية ... من حبِ الرجل الوحيد بحياتها ... فظل شبحه يطوف بينهما بعدها ....
هو متأكد من أنه نجح في جعلها تحمل له بعض مشاعر الحب ...
لكن حتى تلك الحرب كانت في منتهى القسوة ... كان يمارس عليها كل ما يستطيعه من فنون و قدرات كي تقع في حبه ...
و كانت هي ظمأة للحنان .... متعبة و تحتاج الى الراحة ....
لذا أحبته لمميزاته ...
بينما أحبت زوجها السابق بعيوبه .... فأي حب أعمق ؟!!!
كانت الإجابة مؤلمة بشدة .... جعلته يزفر نفسا و كأنه نزيف الألم من جرحٍ لا يهدأ ....
سمع طرقا على باب مكتبه فاعتدل جالسا وهو يدعو الطارق للدخول وقلبه يخبره أنها هي ...
لقد جائت الى العمل اليوم منذ الصباح ...
ذهل وهو يراها بكامل أناقتها لدرجة تخطف الأنفاس ... لم تكن ترتدي ما هو سافر التأنق كما طلب منها من قبل ...
لكنها خدعته و اهتمت بكل تفصيل صغير في مظهرها حتى بدت و كأنها تتوهج بجمالٍ راقٍ براق
كان عذابا بالنسبة له أن يتجاهلها طوال اليوم و هي تعمل معه في نفس المكان ... خاصة و انها ترميه بنظراتها ذات المغزى و الإغراء .. و ترسل اليه ابتساماتٍ خبيثة غير ظاهرة لغيرهما ..
و كأنها استجمعت قوتها تماما و تناست حزنها سريعا ... و عادت الى شخصيتها المتلاعبة
و بالفعل ما أن فتح باب مكتبه حتى وصله عطرها الذي يحفظه عن ظهر قلب ....
رفع وجها رسم الجمود عليه باتقان .... لكن صدره تضخم برؤيتها تدخل الى مكتبه بجمالها و عيناها المثبتتين في عينيها بتحدي يكاد أن يكون وقاحة ...
و ما أن وصلت الى مكتبه حتى انحنت لتستند الى المكتب بكفيها و هي تقول مبتسمة برقة
( مساء الخير ........ لم نحظى بفرصة منذ الصباح كي نلقي حتى التحية الى بعضنا ! ....)
تحرك حلقه قليلا وهو يتأمل وجهها المتقن الزينة ... و توقفت عيناه لعدة لحظات على شفتيها الورديتين المنتفختين ....
تبا لها حتى أحمر الشفاة يبدو طبيعيا تماما ... و مع ذلك يمنح شفتيها مسحة من جاذبية مهلكة ..
لكنه قال بجمود لا يتوافق مع النار المشتعلة بصدره
( مساء الخير .............)
رمشت بعينيها دون أن تفقد ابتسامتها حلاوتها ...و قالت بغنج
( هكذا من بعيد لبعيد ؟! ............. )
رفع عينيه الجامدتين الى عينيها .... بينما المكتب بينهما يشهد على أيام ذات عشقٍ مجنون ...حيث كان يجلسها حاتم عليه ليشبعها شوقا يجعله يتحمل المتبقي من يوم العمل الطويل
لكنه قال بجفاء محاولا تناسي تلك الصورة
( تأخرتِ اليوم ............. )
اتسعت ابتسامتها و هي تستقيم واقفة ... لتدور حول المكتب ببطىء تحت أنظاره الى أن وصلت اليه ... فاستعد لأن يستدير عنها لو كانت تنوي الجلوس بحجره ...
لكنها أخلفت ظنه فجلست على سطح المكتب أمامه واضعة ساقا فوق أخرى .... مما جعله يخفض نظره تلقائيا الى قدمها الصغيرة في الحذاء الأسود ذو الكعب العالي الرفيع جدا ...
تأفف بداخله و هي تؤرجحهما ... بينما قالت كرمة بكل تهذيب و ابتسام
( أنا آسفة ..... لم أقصد التأخير , لكنني قضيت ليلة صعبة ...... زوجي أغضبني و كنت أحاول أن اراضيه ..... أترى الظلم ؟! ..... )
مالت اليه ووضعت كلتا يديها على ذراعي كرسيه .. فحاصرته تماما بين ذراعيها و هي تميل اليه لتقول بإغراء مقصود
( كيف يمكنني العمل في مثل تلك الظروف النفسية الصعبة ..... )
كان قربها منه يستهلك أعصابه ... و عطرها يملأ خلايا رئتيه .... و هي تعلم ذلك و تستخدمه بكل شراسة ... يكاد أن يرى الخبث بعينينها ....
لذا كان صوته محتدا خشنا وهو يكاد ينهرها أمام وجهها بكل صرامة
( اسمعي يا كرمة .... طوال سنوات عملي كنت أفصل بين عملي و بين حياتي الخاصة ... و لن أقبل الآن بأن يتم التلميح بأنني أميزك في العمل كونك زوجتي ..... لذا ان لم تستطيعي الإنتظام في العمل فستنالين نفس الجزاء ...... )
ارتجفت شفتيها قليلا و أغمضت عينيها للحظةٍ أمام هديره الذي تطايرت بسببه رموش عينيها ....
ثم فتحتهما و هي تبدو كطفلٍ على وشكِ البكاء ... مما جعل جسده جله يصرخ به معترضا .. كل عضلة ذكورية به تئن كي تحضتضنها و تربت عليها و تراضيها ....
لكن كرمة حين تكلمت ... لم يكن صوتها يرتجف كشفتيها ... بل كان هادئا مبتسما و كأنها تراضي طفلا صغيرا
( أنا أحد مدراء الفرع يا حاتم ..... لذا الا ترى أنك تبالغ قليلا بسبب تأخري بعض الوقت ؟! ..... ماذا نترك اذن لحديثي التعيين ؟! ..... )
ابتلع ريقه وهو يود لو يدفعها بقوةٍ كي لا ترى تأثيرها عليه .... لكنها رأته ... و ابتسمت و هي تنظر الى تحرك حلقه ... مما جعل حاتم يقول بصرامة
( هل هذا كلام شخص يحترم عمله ؟!! ....... لولا معرفتي بكِ لكنت .... )
اقتربت منه أكثر حتى كادت شفتيها أن تلامس شفتيه و هي تقول بهمس جميل
( و هل تعرفني جيدا ؟! ....... لو كنت تعرفني لما تركتني أعاني وحيدة طوال الليل ... حتى تأخرت على عملي و هي ظاهرة نادرة ..... )
رفع حاتم عينيه اليها ... ثم قال بهدوء
( لطالما كنت تعانين من ليالٍ طويلة .... بعضها من الوحدة و بعضها من العنف الجسدي و النفسي ... و كنتِ تأتين الى عملك في اليوم التالي و كأن شيئا لم يكن ..... )
بهتت ابتسامتها و اختفت ..... و تراجعت عنه ببطىء دون أن تنهض عن سطح مكتبه ....
بل ظلت جالسة أمامه ساقاها متدليتان دون حركة ...تنظر الى عينيه بوجوم .... و كأنه صفعها للتو...
و كان هو مذهولا من نفسه .... كيف استطاع النطق للتو بما نطق به حالا ؟!! ...
لعن نفسه وهو يرى انكسار عينيها ... و في نفس الوقت كانت النار تحرقه وهو يرى أنها لا تزال متأثرة بالماضي
ضحك بداخله بسخرية مريرة وهو يسأل نفسه
" و هل نست الماضي يوما ؟!! ..... "
كان يراقب ملامحها المضطربة و هي تحاول السيطرة عليها .... ثم قالت أخيرا و هي تمد يدها لتمسك لفة صغيرة كانت قد تركتها على سطح المكتب منذ أن دخلت ...
و مدتها اليه وهي تقول بخفوت ... حاولت جاهدة أن تجعله عاديا
( لقد حضرت لك بعض الشطائر .......... )
تمكنت من الإبتسام له و هي تتابع بحلاوة
( لقد أحكمت الخطة من حولي .... فكنت تشاركني الشطائر التي اشتريها .. و تدريجيا منعتها عني , لذا لم أجد بدا من صنع غيرها في البيت .... تذوق كل منها و قل رأيك بصراحة .... لقد تفننت في مكوناتها و الوانها ..... )
كانت عيناه قاسيتان ... صخريتان .. و على الرغم من ندمه الرهيب على ما نطق به الا ان بساطتها المفتعلة جعلته يقول هادرا
( هل سمعتِ ما قلته للتو ؟!! ..... أتتظاهرين بأنه لم يؤلمك ؟!! ..... )
طار التلاعب و الدلال من ملامحها ... و بقت تنظر اليه هادئة بعض الوقت .... قبل أن تقول برقة
( أتريد أن تؤلمني يا حاتم ؟! .......... )
سؤالها البسيط جعله يشعر بأنه مجرد رجل شرقيا في الجزء السيء منه ... ذلك الجزء الذي يؤذي امرأته لا لشيء سوى بدافع الإمتلاك ... و كم أشعره ذلك بالحقارة ... فقال بعد فترة طويلة
( لا يا كرمة ..... آخر ما أريده هو ايلامك ....... )
كانت تريد الصراخ به بجنون
" اذن عد الي ..... فبعدك عني يؤلمني ... بل يمزقني .... و يزهق روحي بمنتهى القسوة "
الا أنها تماسكت و تابعت خطتها و هي تقول ببشاشة و حلاوة ابتسامتها تسحر قلبه
( جيد .......... فأنت لم تفعل ...... )
و أمام عينيه المتسعتين من بساطة كلامها ... قالت مبتسمة و هي تفرد ظهرها و تضع يديها على ركبتيها متظاهرة بالحرج و عيناها تنطقان بالشقاوة
( أنا لم آتي الى هنا بسلامة نية ..... في الواقع أريد منك طلبين ..... )
ارتفع الآن احدى حاجبيه وهو غير قادر على مجاراة عفويتها ...
و كم ذكرته بأول مرة رآها فيها
تلك المرة التي أهلكت صدره بنفسٍ مهتز ... دون أن يجد وقتها سببا منطقيا لما شعر به .....
قال أخيرا بصوتٍ جامد
( و ما هما ؟!!............ )
قالت بدلال و أنوثة
( أولا أريد طلب الاذن منك في الخروج مع فريدة اليوم ........ )
ظل ينظر اليها بلا أي تعبير .. و كأنه لا يزال يحاول استيعاب برودها الذي يريد ضربها بسببه و كأنها لم تقترف شيئا يسيئ ...
فقال بصوتٍ صلب مزدري قليلا
( الن تذهبي اليوم الى بيت طليقك ؟! ......... )
كانت لهجته شبه مهينة ... لم تعتدها منه بنبرتها المزدرية و الكلام المباشر بها دون مراعاة لمشاعرها
لكن .. هل راعت هي مشاعره قبلا ؟!! ..
لذا امتصت الألم و الإهانة كأسفنجة مرنة ... و ابقت ابتسامتها على شفتيها بمعجزةٍ و قالت ببساطة
( أنت أوضحت بما لا يقبل الشك أنك ترفض ذلك ..... لذا فأنا لن أذهب الى هناك مجددا ... كأي زوجة مطيعة لزوجها و تستحق العطف ... و الرفق.... )
كان صوتها ينخفض شيئا فشيئا و ابتسامتها تزداد اغراءا ... و هي تميل اليه مرة أخرى ... تحاصره بذراعيها مرة ثانية ... ثم همست تتابع أمام شفتيه بصوت لا يكاد يسمعه ... بل يقرأ أحرفه من على شفتيها الهامستين
( و الرضا ....و السماح ..... لأنها اشتاقت اليك جدا ..... جدا .... )
انعقد حاجباه فوق عينيه المخاصمتين .... فتنهدت و هي تبتلع الباقي من همسها الحنون قبل أن تستقيم متنحنحة و هي تقول بعفوية
( لكن لا تقلق ....... فقد تدبرت مساعدة لها تجعلني مرتاحة الضمير ..... )
قال بصوت قاس غريب
( أتظنين أنني قلق على ... بيت زوجك السابق ؟!! ...... )
قالت كرمة بهدوء ... و ثقة
( بل علي أنا ....... فلو تركت ذرة الرحمة و الانسانية الأخيرة المتبقية لدي , حينها ستعرف أنني لازلت مرتبطة بالماضي .....)
تنحنحت مرة أخرى أمام عينيه المدققتين بكلماتها ثم قالت بثقة
( المهم ....... هل يمكنني الخروج اليوم ؟! ...... )
رد عليها بصوتٍ أجش صارم
( الى أين ستذهبان ؟!! ................ )
ابتسمت اكثر و هي تقول معددة على أصابعها
( أولا سنذهب للتسوق بالطبع .... فكريات التسوق بدأت في التناقص من دمي بشكلٍ خطير مؤخرا ... ثانيا سنذهب الى طبيب نغم كي نجري لها بعض الفحوص العادية ... و أنا أحب الذهاب جدا ... ثالثا و أخيرا سنذهب الى وعد في معرضها .... لأن فريدة تريد تفصيل فستان خاص جدا ... لمناسبة مميزة مع زوجها و أنا نصحتها بالذهاب الى وعد .... و ربما لو شعرت بالغيرة حينها فسأفكر في تفصيل فستان خاص لي أنا أيضا كي أفاجىء به زوجي ..... )
كانت تنطق عبارتها الأخيرة بتحبب واضح و تزيد من دلاله ... بينما هو صارم الملامح , لا يلين و لا يضعف تحت ضغط الإغراءات ... فقال بجفاء
( متى ستعودان ؟ .......... )
شعرت بالغيظ من عناده .... لم يسبق أن تطلبت مصالحته كل هذا الوقت , لكنها كتمت غيظها و قالت ببراءة
( كل هذا قد يستغرق منا بضعة ساعات ..... أي أننا سنعود في الثانية عشر ليلا ربما ..... )
اتسعت عيناه و انعقد حاجباه و هو يهدر أمام وجهها قائلا
( تعودين في منتصف الليل وحدك ؟!! .... هل جننتِ ؟!! ..... أم أنكِ بالغتِ في تقدير مقدار تساهلي معكِ ؟! ... )
رمشت بعينيها عدة مرات قبل أن تقول بوداعة
( متى تريدني أن أعود ؟ .......... )
قال حاتم بصوت قاطع لا يقبل الجدل
( آخر موعد لرجوعك هو التاسعة ........ و سأهاتفك من هاتف البيت الأرضي كي أتاكد من رجوعك في الموعد ..... )
ارتجفت ابتسامتها حنانا و همست
( لأنه لا يصح أم لأنك تخاف علي ؟!! ........... )
و كانت تنتظر الرد الآخر المعتاد .. حين يهمس لها بوله
" أخاف عليكِ من النسيم المتخلل شعرك .... "
لكم كانا يلهوان بالكلمات و الأسئلة و كأنهما عاشقان شاعران لا يحملان للدنيا هم أو نكد ....
اظلمت عينا حاتم و قال بخفوت أجش
( لدي عمل يا كرمة ..... و قد أطلتِ البقاء )
هذا الآن آلمها جدا .... أكثر من كل صراخه و عدوانيته .... فابتلعت ريقها و رفعت وجهها بكبرياء قائلة بهدوء
( لم تسألني عن طلبي الثاني قبلا ......... )
تنهد بغضب لكنه قال بنفاذ صبر ...
( ما هو ؟! ...... اطلبي ثم اذهبي سريعا ....... )
عقدت حاجبيها قليلا .. لكنها قالت بصيغة آمرة باردة مختصرة
( أريد مالا ........ )
ارتفع حاجبيه وهو يسمع طلبها لأول مرة .... لكم ضايقته سابقا باستقلاليتها ...
كانت دئما تخبره بكل وقاحة أنها تملك راتبا ضخما ... و ترفض تماما أن تتسوق و تكلفه مالا هي ليست بحاجة له
كانت حساسة جدا ... تريد أن تفهمه في كل لحظة أنها لم تتزوجه من أجل أن يشبعها بالرفاهيات التي تعشقها ..
يكفيها فقط أنه لا يغرمها شيئا في البيت و بالتالي فراتبها كله ملكا لها .... فكيف يشتري لها ما تحبه ايضا ؟!
ستشعر حينها أنها عالة مادية شبيهة بالعلقة ... و هذا الشعور لم تعتده أبدا في حياتها ...
و كم كان هذا الكلام السمج يخنقه و يثير حنقه .... حتى أنهما تشاجرا كثيرا بسبب هذا الأمر ... قبل أن تستلم مرة و ترفض مرة بعزة نفس ...
كان يصرخ بها أنه يريد شراء الاشياء الجميلة لها ... يحب أن يلبسها بنفسه ... لا أن تقتصر مهمته على خلع ملابسها ... يريد أن يكون أباها لو اقتضى الأمر .... يريد أن أن يجعل المال رابطا معنويا بينهما ... لا ماديا ....
و كانت ترضخ بامتعاض ... و تقريبا بعض القرف ....
لكنها الآن تجلس أمامه ... تأمره ببرود أنها تريد مالا !! ....
تمالك نفسه سريعا و قال ببرود مماثل
( اسحبي من البطاقة التي أعطيتها لكِ ........ )
قالت بقنوط
( ليس بها مال ...... و قد قضيت على راتبي كله ...... )
نظر اليها بشك .... و هو يعقد حاجبيه , ثم لم يلبث ان هز رأسه بنفاذ صبر وهو يخرج حافظته من جيبه ... و يفتحها قائلا
( لست أدري .... أن كان معي الآن ما يكفيكِ لكن ..... )
مدت يديها تأخذ الأوراق التي أخرجها و هي تقول
( هات ما معك ...... سيفي بالغرض بينما يمكنني تأخير الدفع لوعد .... هي تحاسبني اخيرا ... )
ارتفع حاجبيها و قد التقطت عيناها صورتها التي تزين محفظته ... فرفعت عينيها اليه و هي تقول بسعادة حقيقية
( جيد أنك لم تتخلص من صورتي كما تخلصت من الأصل ...... )
أغلق حافظته بقوة و قصد أمام عينيها الفضوليتين .... قبل أن يقول بجفاء بارد
( الصورة هي مجرد ذكرى جميلة ... لا تجرح , بينما الأصل يفعل ..... و بقسوة .... )
تجمدت ملامح كرمة و هي تقول بفتور
( هل أصبحت مجرد ذكرى جميلة الآن ؟!! ......... )
رفع حاتم حاجبه وهو يقول ببرود
( أنتِ الأصل حبيبتي ..... الأصل هو من يجرح ... لا الصورة ... )
رفعت كرمة وجهها بملامحه المتألمة و هي تنظر اليه بثبات على الرغم من اهتزاز روحها و قلبها ... ثم قالت بجدية
( جرحتك كثيرا سابقا يا حاتم ... أما هذه المرة لم أفعل .... لكنك ترفض أن تفهم ... و ترفض حتى أن تغفر .... فالى متى ستظل على هذا الحال ؟! .... )
ارجع حاتم ظهره في مقعده و رفع وجهه اليها ... و لم تستطع ان تعبر بحور عينيه الداكنة ثم قال أخيرا بهدوء بدا قاسيا في اذنيها
( تتصرفين بأنانية ثم تطبين الغفران .... الا ترين أنكِ من القسوة بحيث لا تدركين مدى الضرر الذي تسببينه أحيانا لمن حولك ... لمجرد أن تظهري بدور البطلة أحيانا .... و الضحية أحيانا أخرى !! ..... )
فغرت شفتيها بذهول و هي تهمس قبل ان تستطيع منع نفسها
( أنا يا حاتم ؟! ............. )
د عليها بصوتٍ مكبوت أكثر غلظة
( ما تفعلينه يؤكد لي أن حياتك السابقة لا تزال تحتل حيزا كبيرا يا كرمة .... بعقلك ... و قلبك .... لكنك تريدين كل شيء ..... الاستقرار بحياة لطيفة جديدة دون مشاكل , مع بقائك البطلة المتفانية في حياتك السابقة بين الحين و الآخر ...... )
ضرب المكتب بقبضة يده فجأة مما جعلها تنتفض بذعر أمامه كخادم مرتعب ... بينما هو يهدر بقسوة
( كي يعض أصابع الندم كل يومٍ و كل لحظة على غبائه حين اختار غيرك ...... )
صمت يلتقط أنفاسه للحظة ثم هدر بصوت اكثر قسوة و عنف
( و أنا أرفض أن أكون جزئا من تلك المعادلة المريضة............... )
اظلمت عيناها بشدة ... و تشوشت الرؤية أمام ناظريها , فاخفت ملامح وجهه العنيفة .... بينما كان صدرها يتمزق بقوة و هي تشعر بظلم أكبر من طاقتها و من نيتهاالغبية في مساعدة علياء و رد بعض الدين لمحمد
كي تستطيع ان تكون حرة الأثقال و الديون في حياتها الجديدة .....
تراجعت خطوة للخلف و هي تهز رأسها نفيا بينما عيناها تترغرغان بدموعٍ اكثر ... لكنه كان قد استدار قليلا وهو يقول بجفاء
( اخرجي يا كرمة ..... لقد عطلتني بما يكفي .... )
ابتلعت المتبقي من كرامتها ... واستطاعت بمعجزةٍ أن تمنع نفسها من البكاء ... فطرفت بعينيها بأناقة و هي ترفع ذقنها قائلة بتهذيب بارد
( حاضر سيادة المدير ........ آسفة أنني أخذت الكثير من وقتك .. و شكرا على المال ... )
رفعت اللأوراق بيديها قليلا و هي تبتسم بسخرية حزينة .... ثم استدارت لتغادر بأناقة ... لكنه ناداها بجمود
( كرمة ........ )
استدارت اليه بوجهٍ غاضب ... حزين ... مكسور و حانق .... فقال وهو يستدير بكرسيه بعيدا عنها
( خذي الشطائر معكِ ...... فأنا لا آكل أثناء العمل ...... )
عقدت حاجبيها وودت الصراخ بعنف و جنون
" منذ متى يا عيوني ؟!!! ..... رحم الله أياما كنت تشاركني فيها شطائري المسكينة و أظل المتبقي من اليوم جائعة !! ... "
لكنها أمسكت نفسها بصعوبة و ضحكت قليلا بقسوة ثم قالت
( القها لو أحببت ...... لكنني أظنك قد كبرت قليلا على رمي شطائرك ؟.... يا سيادة المدير ... )
انصرفت الى الباب و هي تضرب الارض بأناقة ... لكن و قبل أن تخرج التفتت اليه تملي عينيها المشتاقتين من وسامته و جمال محياه .. و هي تعلم أنه سيبيت بعيدا عنها مجددا هذه الليلة .. ثم تحول صوتها ناعما .. واعدا و هي تقول بحنان
( سأنتظر مكالمتك الليلة ........... )
و حين استدار اليها عاقدا حاجبيه ... تابعت مبتسمة برقة حزينة
( كي تطمئن الى أنني وصلت في الموعد و لم أخالف الأوامر ....... )
ثم خرجت بسرعة مغلقة الباب خلفها بهدوء و دون صوت ... بينما ظل حاتم مكانه ينظر الى الباب المغلق بألم و غضب ... ثم لم يلبث أن تراجع بظهره وهو يلقى رأسه للخلف يزفر بقوة ... ثم همس بخفوت بعد فترة طويلة
( كيف ستمر ساعاتِ ليلة طويلة أخرى ... و أنتِ لستِ بين أحضاني يا مدللة ؟!! .....يا من تتلاعبين بطيش فتصيبين من تصيبين بسهامك ... لتعلو الضحكة ثغرك الشهي بشقاوة ..كيف ؟!!! ... )
.................................................. .................................................. ..................
أخذت وعد تعمل بفن و هي تشعر بنشوى هوايتها تتألق بداخلها ... تلف القماش الحريري حول جسد فريدة الرائع ... .. عدة أقمشة بألوان متناسقة ... قامت بلفهم حول خصرها و كتفيها و تحت ذراعيها .. لتكون منها في النهاية فستانا متكاملا رائعا ... قريبا جدا لما استشعرته حين رأت الشقراء خضراء العينين .. ناعمة الشخصية ... ثم قالت و هي لا تزال تضبط ثنيات القماش كي تحصل على الهيكل المرتسم ببالها ...
( اخبريني عن المناسبة ......... )
كانت فريدة تنظر الى المرآة أمامها و هي مبتسمة مبهورة بالشكل الذي شكله القماش دون تفصيل .. ثم وعت الى أن وعد تكلمها ... فضحكت برقة و قالت بنعومة
( عفوا ........ آآآممم ... هي مناسبة خاصة .... انها المرة الأولى التي رأينا بها بعضنا .... )
ارتجفت أصابع وعد قليلا على القماش ... لكنها أرغمت نفسها على الثبات بينما تابعت فريدة ضاحكة ووجنتيها تحمران خجلا
( أتعرفين تلك اللحظة التي يكتب عنها في الروايات .. " و عرفت وقتها أن حياتها لن تعود كسابق عهدها " ... )
ظلت وعد صامتة قليلا و هي تزيد من سرعة عملها .. كفنان ينحت تمثالا .. بينما تدفق شعرها من حولها .. لا يحجزه سوى نظارتها السوداء المرفوعة أعلى رأسها .... ثم قالت أخيرا بصوتٍ خافت أثاره الحنين
( نعم ..... أعرف تلك اللحظة ..... لحظة دخلت فيها الى مكتب فخم .... اطلب العون ...و كان يجلس خلف المكتب رجل لم أرى بمثل تأثيره رجل ..... يحيط به السكون و الوقار ..الى أن رفع عينيه الى عيناي .... )
كانت قد انتهت من عملها .... فاستقامت تنظر الى فريدة بتأمل , ثم امسكت بكتفيها و أدارتها الى المرآة مجددا ووقفت خلفها و هي تتابع بهدوء بينما شردت عيناها الرماديتان بعيدا
( فعرفت حينها أن حياتي لن تعود كسابق عهدها ........... )
كانت فريدة تستمع اليها بانبهار و هي تنظر الى الفستان الذي اصبح كاملا .... ثم لم تلبث أن ضحكت برقة و هي تقول
( يبدو أنكِ تفهمين جيدا ما أخبرك عنه ........ و أن هناك فارس ينتظرك في مكان ما .... )
ابتسمت وعد بشرود و هي تقول بخفوت
( ربما ......... )
لكنها رفعت ذقنها و هي تتابع بحرفية
( اذن ما رأيك ؟! ...... هل هذا يناسب ما تفكرين به ؟!! .... )
هزت فريدة رأسها قليلا بعدم تصديق و هي تقول منبهرة
( صدقا لقد أعجبني احكامه على جسدي بتلك المهارة و الإلتفاف الجديد .... سيكون رائعا .. و الألوان !!!!! )
صمتت للحظة ثم قالت
( من كان ليظن أن البرتقالي المتوهج ينسجم مع الوردي الداكن !!! .... أنا أبدو .... مشتعلة ... متوهجة .... لم ارتدي يوما سوى الألوان الرقيقة .... السماوي .. الوردي الفاتح .... و غيرها .... لكن تلك الشعلة من الألوان تجعلني مختلفة ... )
قالت وعد مبتسمة ببساطة
( و هذا هو القصد ..... طالما أنك تتحدثين عن تلك اللحظة الخاصة التي كنتِ بها مختلفة ... و كأنه أشعل بكِ شيئا .... فما عليك سوى اختيار ما يجعلك مختلفة عما اعتاد رؤيتك به ..... )
ابتسمت فريدة بجمال و هي تتأمل القماش الجميل المشتعل .... ثم لم تلبث أن قالت بسعادة
( أنت حقا موهوبة ........ أنا موافقة على كل ما ستنفذينه ... )
ابتسمت لها وعد بمودة ... ثم تركتها لتعدل من ملابسها بينما اتجهت الى كرمة التي كانت تلاعب الصغيرة نغم على حجرها و تهدهدها بينما ابتسامتها تبدو أكثر اشراقا من اللحظة التي دخلت فيها بكآبة الى المكان ..
سحبت وعد كرسيا و قلبته لتجلس عليه مستندة بذراعيها الى ظهره امام كرمة ... ثم قالت بخفوت
( اذن هذه هي فريدة !! .... من أين لكِ بمعرفة هذه البشر النظيفة !! ..... الفتاة ستضيء ذاتيا من شدة الرقي و الجمال !! ......لقد تعطرت ثلاث مرات منذ أن دخلت الى هنا !! ... انها تجعلني أشعر بكروموسومات الذكورة في داخلي تتزايد ... )
مطت كرمة شفتيها و هي تهمس بحزن و أسى
( كل قريبات حاتم بهذا الشكل ...... لا عجب اذن أين يكون ذكور العائلة في مثل جماله !... )
مطت وعد شفتيها هي الأخرى ثم همست بغيظ
( لو ستبدأين في تعداد مزايا زوجك و البكاء عليها ... فاخرجي من هنا .... فأنا لست في حال يسمح لي بتحمل المزيد من النكد و الكآبة ....... )
رفعت كرمة وجهها الواجم الملامح و هي تقول بكآبة
( لقد انتهى بنا الحال منفصلتين بلا اطفال يا وعد ........ وحيدتين من العجائز ... نتسلي ببعض بذور البطيخ ... )
رفعت وعد عينيها الى السماء بيأس و هي تهمس
( ها نحن سنبدأ وصلة البكاء على الرجال ...... )
ثم اخفضت وجهها و هي تقول
( اقسم أنني لم ارك خلال السنوات الأخيرة الا و أنتِ تبكين على رجل .....)
زفرت كرمة و هي تقول ببؤس
( على الأقل انتِ أفضل حالا مني ....... تزوجت مرة واحدة .... و لا يزال زوجك هائما بكِ يتمنى اشارة من اصبعك .... بينما استهلكت أنا رجلين و لم احصل على ظفر طفل .... )
تأوهت وعد بصوت طوييل و هي تضغط أعلى أنفها .... تمسك نفسها من ضربها في تلك اللحظة ... ثم قالت بغيظ
( من هذا الذي ينتظر اشارة من اصبعي ؟!! ...... ذلك الذي طلقني ما أن طلبت ؟!! ..... و من لم يرغب في الطفل من البداية ؟!! ...... قولي كلاما منطقيا كي أتمكن من الإكتئاب معك بنفسٍ مفتوحة .... )
أطرقت كرمة برأسها بائسة الملامح... فنظرت اليها وعد بغضب لعدة لحظات , ثم لم تلبث أن أشفقت عليها .. فتنهدت و هي تقول
( اليس هناك من بعض بوادر الأمل ؟! ..... ولو ابتسامة حتى ؟! .... )
مطت كرمة شفتيها و هي تقول بقنوط
( ابتسامة ؟!!! ....أي ابتسامة بالله عليكِ ؟!! لو استطاع أن يبصق بوجهي لفعل ..... أول مرة يكن قاسيا الى هذا الحد .... لقد أسمعني اليوم كلاما كالسم ..... )
قالت وعد بغضب
( والله تستحقين أكثر .... لقد حذرتك المرة السابقة و مع ذلك لم تحترمي نفسك ... فتحملي اذن ما يقع فوق رأسك من بلايا منوعة ..... )
رفعت كرمة وجهها و هي تقول بصلابة
( لن أعيد تبريري مجددا ........ لقد سئمت الشرح ..... هل ماتت الانسانية ؟!!! .... )
صرخت وعد .. لكنها لم تلبث أن أخفضت صوتها و هي تنظر حولها ...
( انساااااانية !! ...... و هل أنتِ المبعوث الرسمي للإنسانية ؟!! ..... والله أن زوجك رجل محترم ....لو أن سيف مكانه لجعل مني بساطٍ يقوم بنفضه مرتين يوميا الى أن أتعلم الأدب .... )
زفرت بغضب و هي تقول بنفاذ صبر
( استغفر الله ........)
قالت كرمة بغضب
( اخفضي حدة توترك ..... أنتِ تضايقين الصغيرة ... )
شتمت وعد بخفوت و هي تنظر بعيدا ... بينما ظلت كرمة تداعب شعرات الصغيرة بين ذراعيها بشرود الى أن قالت بخفوت دون أن ترفع وجهها الى وعد
( أنا أريد لمحمد أن يسعد .... و سعادته لن تكون الا برؤية طفل له ..... حينها سأكون مرتاحة الضمير و أنا أعيش ذلك الحلم الوردي الخيالي مع حاتم ..... )
صفقت وعد بيدها و هي تقول بفظاظة
( و ها قد انقلب الحلم الوردي الى كابوسٍ كحلي يا نابغة زمانك ....... )
زمت كرمة شفتيها كالأطفال و هي تعود للإطراق بوجهها .... ثم قالت بخفوت و يأس
( كيف أصالحه يا وعد ؟! ....... أنصحيني ارجوكِ .... سأموت ... )
تنهدت وعد و هي تقول بوجوم
( ألم تجدي من هي أكثر فشلا كي تسأليها النصيحة ؟! ...... الكثير من الفتيات يتمكن من تحويل ابناء عماتهن الى أزواجهن .... بينما أنا .... اللهم لا حسد ... نجحت في تحويل زوجي الى ابن عمتي .... مقدرة فذة ُأُشكر عليها .......... )
بقت كرمة صامتة و هي تداعب الطفلة بحزن دون أن ترد ... بينما كانت وعد تراقبها بتعاطف ثم قالت أخيرا بصوتٍ خافت رقيق
( هناك شيء وحيد وهو نقطة ضعف سيف تجاهي التي لا تخيب ....... )
رفعت كرمة وجهها بأمل و هي تقول بسرعة
( ما هي ..... أرجوكِ انطقي بها و سأفعلها ولو بحياتي ...... )
ابتسمت وعد بحزن و هي تهمس بعشقٍ يقطر من حروفها
( لن تنجحي للأسف ....... انها مرضي .... مرضي هو الشيء الوحيد الذي يحول سيف من جلف فظ الأخلاق الى طفل مرتعب ..لدرجة أنني أتمنى لحظتها لو ضممته الى صدري و ربتت على شعره الى أن يهدأ ... و لهمست في أذنه أن يهدأ ... فلا أحد يأخذ غير نصيبه .... و أن خوفه هو ما يزيد من احساسي بالمرض ..... )
تأوهت كرمة بخفوت و هي تهمس .... مربتة على ركبة وعد
( حبيبتي ..... انتِ بألف خير .... لقد اكد الطبيب لك ذلك ..... )
ابتسمت وعد و هي تقول ببساطة
( لست خائفة ....... لكنني لا أحب خوف سيف .... من بين كل المشاعر السلبية التي منحتها له , الا هذا الشعور .... لم أرغب يوما أن يشعر به بسببي ...... لأنني ..... )
صمتت قليلا .... ثم تنهدت قائلة
( لأنني أحبه ..... و من يحب لا يفعل ذلك بمن يحبه ...... )
ابتسمت كرمة بحب .... ثم همست بخفوت
( هل تشتاقين اليه يا وعد ؟! ................. )
أومأت وعد برأسها عدة مرات و هي تهمس مع كل مرة
( نعم ..... نعم أشتاق اليه جدا ..... بكل عيوبه و فظاظته و قسوته ..... بكل حبه و تملكه و خوفه علي .... نعم اشتقت اليه جدا .....جدا .. )
همست كرمة بخفوت
( تصنعي حجة و هاتفيه ...........)
رفعت وعد عينيها الى كرمة بصمت ... ثم تنهدت قائلة
( المهم .... دعينا نهتم بمشكلتك ..... ماذا قررتِ ؟!! ...... )
ظلت كرمة صامتة قليلا ... ثم قالت بخفوت
( لو كنت حامل لما تركني و خاصمني ..... الحمل يبدد أي خصام ..... )
رفعت وجهها الى وعد ... ثم قالت بهدوء خافت
( ان لم أستطع أن أمرض كي أحنن قلبه علي ..... فسأحمل ..... )
قالت وعد تلقائيا و هي ترفع حاجبا متوجسا
( ممن ؟!! .......... )
قالت كرمة بغضب
( احترمي نفسك ......... )
تداركت وعد نفسها و هي تقول
( لم أقصد ..... قصدت ..... أليس زوجك غاضبا و قد ترك البيت ؟؟ .....و حسب بعض معلومات الثانوية العامة المترسبة في ذاكرتي .. فإن الحمل يحتاج الى شريكين !!! .. )
رفعت كرمة كتفها و هي تقول بخفوت
( من يدري ؟!! ......... )
تابعت بخفوت
( أي تصرف سيكون أفضل من الجلوس بهذا الشكل كالمطلقات ..... )
رفعت وجهها الى وعد و قالت بخفوت
( عفوا ,...... لم أقصد اهانة .... )
مطت وعد شفتيها و قالت بامتعاض
( خذي راحتك حبيبتي .... أعرفك في حزنك , تتحولين الى رتاج باب صدىء .... )
عقدت كرمة حاجبيها مفكرة و هي تقول
( لقد كان هذا لقبك على ما أظن في الدار .... اليس كذلك ؟! .... )
قالت وعد بفظاظة ...
( بغض النظر ...... آآآه لن تصدقي من رأيت خلال الايام الماضية ...بشرى .... أتتذكرينها .. من الدار .. )
اتسعت عينا كرمة بذهول و هتفت
( بشرى ؟!! ...... أين و كيف وجدتك ؟! .... و كيف حالها ؟ .... )
قالت وعد بصوت جامد
( كانت ملك تعرف طريقها .. كما تواصلنا أنا و أنت منذ ترك الدار ....أما عن حالها ..... فلا أعتقد أنها بخير ... تبدو و كأنها قد مرت بأسوأ مما رأته في الدار و انتهى بها الأمر متزوجة من شاب ضخمة الجثة ... همجي .... كانت مضروبة الوجه حين رأيتها ..... )
تأوهت كرمة و هتفت رافعة يدها الى فمها
( ياللهي !! ... المسكينة حظها قليل منذ بداية حياتها ..... و هل سترينها مجددا ؟!! .... )
رفعت وعد كتفيها و هي تقول بصوت منقبض
( لا أعلم ..... هذا يتوقف عليها , تبدو منساقة خلف زوجها و لا تريد غيره .... لكن لو شاءت و عادت الي سأساعدها قدر استطاعتي ..... لطالما كانت هذه الفتاة تشعرني بانقباض الصدر .... )
عادت فريدة في ذلك الوقت ... فقالت كرمة بخفوت
( نتكلم لاحقا ..... فأنا لا أريد الكلام عن الدار أمامها ..... )
أومأت وعد برأسها ببطىء و هي تلاحظ الابتسامة المشرقة التي رسمتها كرمة غصبا على وجهها ... لطالما استطاعت كرمة التكيف مع كل شيء .... و كل شخص .... لكنها في النهاية تكتشف أن التكيف وحده ليس كافيا .....بل فهم الآخر أولا .... هذه هي مشكلتها مع سيف ... يفهمان بعضهما الى حد الغباء ... مما يجعل تكيفهما مستحيلا ...
.................................................. .................................................. ...................
ضغط سيف جبهته بيده وهو يشعر بصداع يتفاقم .... فارجع رأسه للخلف قليلا وهو يغمض عينيه .. الى أن سمع طرقا على باب مكتبه ... فقال دون أن يفتح عينيه
( تفضل ........ )
دخل الولد المسؤول عن المشروبات يحمل قهوته .... ليضعها على سطح المكتب قائلا
( قهوتك يا سيد سيف ...... )
شبه ابتسامة ارتسمت على شفتي سيف ... لكنها ماتت بسرعة , ثم اعتدل ببطىء و بدون حماس في مقعده وهو يتناول فنجان القهوة و قد كان في حاجة اليه بشدة ... و ارتشف منه رشفة بينما الولد يضع كوب الماء ...
انقبض وجه سيف و انعقد حاجبيه وهو يقول بعدم رضا
( ما هذا يا ابني ؟! ....... اسبوع كامل لك هنا و القهوة تتحول من سيء الى أسوأ كل يوم .. )
قال الولد محاولا التبرير
( انها كما تحبها تماما يا سيد سيف .... قهوتك تحديدا اقف أمامها و اصنعها باهتمام يفوق الحد ... أنا لا أعرف أين الخطأ ؟! .... أنظر الى وجهها !! .... يعلوها بطبقة ممتازة .... )
زفر سيف بغضب وهو يقول
( حسنا كفى كلاما ... اتركها و اذهب الى عملك .... سأتوقف عن شرب القهوة ... سأشتري ماكينة قهوة أمريكية و أكتفي بها .... هيا اذهب .... )
انصرف الولد مكسور الخاطر .... الا أن سيف ناداه وهو يبدو أكثر غضبا من نفسه ... ثم قال بجفاء لطيف
( اجعله شايا منذ الغد ..... أريد شاي كل صباح ... و شكرا لك .... )
ابتسم الولد وهو يقول
( شكرا لك يا سيد سيف .... خشيت أن تصرفني من العمل ... )
زفر سيف مجددا بعد انصراف الولد ... فهمس لنفسه ضاحكا مستاءا
( كنت على وشكِ صرف الفتى من العمل لمجرد أن قهوته ليست كقهوتها .... أو ربما لمجرد أنه ليس هي .....)
أمسك بهاتفه يفتحه بشرود وهو يتطلع الى صورها مجددا ... يبتسم لكل صورة و حلاوتها ...
يكاد يسمع صوتها و هي تضحك مصورة نفسها ....و همس بخفوت بعد أن اختفت ابتسامته
( جميلة أنتِ ....... يا بنت خالي ... )
لكن طرقة على الباب جعلته يجفل ويغلق الصور ليستقيم جالسا ... وهو يرى ميرال تدخل حاملة معها بعض الاوراق قائلة بحبور
( صباح الخير ...... تركت لك الفرصة المناسبة لاحتساء قهوتك , لأنني أريد مناقشة شيء هام معك في العمل .... )
مط سيف شفتيه وهو يقول بصلابة
( فرصة كعدمها ...... القهوة لا تُشرب .... )
كانت عيناها الصقريتين قد لمحتا محاولته اخفاء هاتفه .... لكنها لم تعلق , بل على العكس ضحكت بأناقة و هي تقول
( آآآه منك يا سيف ........ )
اقتربت منه باغراء ودلال و هي تهمس بنعومة
( شديد التطلب أنت ...... و لا يرضيك أي شيء ..... )
عبس قليلا وهو يراها ترتدي كل يوم ملابس أضيق مما تسبقها .... فزم شفتيه مخفضا وجهه ... الا أنها لاحقته و هي تدور حول مكتبه .... فباتت قريبة منه للغاية و هي تنحني لتلتقط فنجان قهوته ... و بكل جرأة رفعته الى شفتيها و ارتشفت منه رشفة و عيناها من فوق حافته تنظران الى عيني سيف بتحدي ...
بينما كان هو يراقبها بصمت ... دون أن يتحرك من مكانه ... متأثرا بأنوثتها , لا ينكر .... لكن بداخله رفض لما يحدث ... لم يكن هذا طبعه ....
تذكر عبارة وعد الغاضبة ذات يوم قبل أن تغلق الهاتف في وجهه
" هنيئا لك الإنحراف المتأخر ...... "
رغم عنه و دون أن يدري .... ارتسمت ابتسامة على وجهه و هو يتذكر صوتها الغاضب بعبارتها الوقحة ...
و كانت تلك الذكرى الصغيرة , كفيلة بطرد الإغراء الذي انتابه تجاه ميرال و حركاتها المكشوفة ...
لكن الى متى يقاوم مشاعر رجولية أثارتها وعد ثم رحلت ؟!! ....
ابعدت ميرال شفتيها عن الفنجان ببطىء متعمد و هي تقول معتقدة أن الإبتسامة كانت لها ...
( القهوة جيدة .... باردة قليلا لكنها جيدة .... )
قال سيف بهدوء وهو يستند بمرفقه الى ذراع كرسيه ...
( لقد اعتزلت القهوة ........... ربما لو اشتريت لي ماكينة قهوة أمريكية فستفي بالغرض ... )
اشرقت ابتسامتها و هي ترفع حاجبها بانتصار قائلة
( من عيوني ............ )
تنهد سيف وهو يستدير ناظرا الى أوراق العمل أمامه ... فقالت ميرال بدلال
( الى أين سنذهب اليوم ؟ ......... )
قال سيف بهدوء دون أن يرفع وجهه اليها
( الي أين تودين الذهاب ؟!.......... )
قالت برقة و هي تحرك اصبعها الى سطح المكتب وصولا الى ذراع سيف
( أمممم ... أيمكننا أن ...... نغير الخطة قليلا اليوم .... )
قال سيف بنفس الهدوء دون أن يرفع وجهه
( اطلبي ما تشائين .........)
جلست على حافة مكتبه فرفع وجهه مصدوما وهو يرى جسدها المتكور بجوار ذراعه مباشرة ... فابتعد سريعا كي لا يلامسها ... لكنها بدت .... بدت ... و كأنها لم تلاحظ ... بينما قالت برقة
( لما لا نجعله عشاءا ..........أريد السهر معك .. )
رفع سيف عينيه الى عينيها ورفع حاجبيه قائلا بعد فترة
( الا اعتراض من أسرتك ؟! .......... )
لم تتمالك نفسها من الضحك متفاجئة ... ثم قالت ببساطة
( نحن نخرج معا منذ اسبوعين ..... فهل يختلف الغذاء عن العشاء ؟!! ... )
أمال سيف رأسه رافعا حاجبه بتعجب وهو يقول
( وجهة نظر ........... )
فقالت برقة
( اذن ........ هل نخرج الليلة ؟!! .... )
رفع وجهه اليها ينظر اليها طويلا وأصابعه تطرق على سطح المكتب بشرود ... قبل أن يقول بهدوء
( نعم ...... لكن سأمر أنا عليك ....و هناك .... أمر أريد أن أعرضه عليكِ حينها.... )
ابتسمت ميرال و هي تميل بوجهها قائلة بكل أنوثة العالم
( أنا تحت أمرك ............. )
.................................................. .................................................. ......................
كانت وعد تسمع لكوثر مهتمة .... والأخير منكبة على ماكينة الخياطة... تودعها همها ....
حتى أن وعد لم تحضر كرسيا ... بل انحنت لتجلس القرفصاء أمامها و هي تشبك ذراعيها على طاولة كوثر .. تومىء برأسها و هي تسمع عن أبنائها الثلاث ...
قالت كوثر بخفوت و هي تتنهد
( طفلين معاقين ...... هما حمل يكاد أن يقسم ظهري في كثير من الأحيان .... لكن والله ما أن أرى ضحكة كل منهما حتى يضيع تعبي بلحظة ...... )
ابتسمت وعد برقة و هي تمسك بمعصم كوثر .... تميل بوجهها مصغية , بينما تابعت كوثر قائلة
( أنا فقط أخشى أن يصيبني مكروه .... فمن لهما بعد الله .... منذ أن طلقنى والد الأطفال و قد رفع يديه عنهم تماما ..... )
قالت وعد برقة
( أنتِ أم مثالية يا كوثر ..... كم أتمنى لو كانت لي ام مثلك .... و أولادك محظوظين بكِ ... )
قالت كوثر بحزن متنهدة و هي تعيد وضع الخيط في ثقب الإبرة
( و ما فائدة المثالية طالما أنني لا أستطيع نفعهما بها ...... الحمد لله على كل حال ... و الحمد لله على الطفل الصحيح بين الثلاث أطفال ... أتمنى فقط من الله أن يبقيني على قيد الحياة الى أن يشتد عوده قليلا فيتمكن من رعاية شقيقيه .... )
قالت وعد بخفوت و رقة
( فليعطكِ الله الصحة ..... نحن هنا عائلة واحدة .... أنا لا أملك عائلة , لذا و منذ فتحت هذا المشروع أشعر و كأن عائلتي تزداد فردا كل يوم ... تكبر و تتفرع .... نحن لن نترك أطفالك ... و أنتِ لن تتركي هذه العائلة ... و ستعيشين عمرا مديدا ان شاء الله ... و سأذكرك بذلك حين نصبح عجوزين ... غير قادرين على ادخال الخيط في هذا الثقب الذي سيستحيل رؤيته حينها ..... )
ضحكت كوثرا قليلا وهي تقول بمحبة
( جازاكِ الله خيرا يا وعد ..... الكلام معكِ يهون الضيق .... )
رفعت عينيها و هي تنوي متابعة الحديث ... الا أنها قالت متفاجئة تنظر الى الباب
( اليس هذا زوجك يا وعد ؟! ....... )
انتفضت وعد و هي تدير وجهها الى الباب ... و انتفض قلبها بعنف حين رأت سيف واقفا ....بطوله الفارع , مستندا بكتفه الى اطار الباب ... يراقبها بصمت , دون أن تستطيع قراءة تعبير وجهه ...
لم تصدق أنه هنا .... كانت منذ ليلة أمس و هي تفكر في حجة تمكنها من مهاتفته .... و ها هو يسبقها و يأتي بنفسه و كأن قلبه قد أحس برغبتها في سماع صوته ...
فكت ذراعيها .. و استندت بكفيها على الطاولة لتستقيم واقفة أمام عينيه المراقبتين لكل حركة تقوم بها ..
فارتبكت و تعثرت خطوة و هي تقترب منه ببطء الى أن قالت بابتسامة جميلة
( ما هذه المفاجأة ؟! ........... )
ظل سيف ناظرا اليها ... يشبع عينيه منها قليلا , فترة العدة قاربت الإنقضاء .... و كم كان ينتهز الفرص كي يرتوي خلالها من رؤيتها بكل تملك ...
حين دخل الى المكان و وجدها جاثية على عقبيها ... مستندة بذراعيها الى الطاولة التي تعمل عليها تلك السيدة كوثر ... فتنه منظرها ... كانت بساطتها تجعله أسيرا لتلك الهالة ....
خاصة بشعرها الحالك السواد و المحتجز بنظارتها فوق رأسها .... و عيناها .... عيناها تمنحان التفهم و العطف لمن يحتاجه ...
الا يخبرها أحد أنه في أشد الحاجة الي بعضٍ من تلك النظرات كما هو في حاجةٍ الى قهوتها؟!! ...
قال أخيرا بهدوء
( مفاجأة سارة أم ........... )
ترك العبارة مفتوحة .... فارتبكت أكثر و لعنت ذلك الوهن الذي أصبح ينتابها منذ طلاقها و يجعلها خائرة القوى و المقاومة لسحره ....
حاولت التقاط أنفاسها .. ثم رفعت وجهها و هي تقول
( تفضل بالجلوس ..........لحظة واحدة )
نظرت حولها بحثا عن كرسي .... ثم اتجهت الى واحد بعيد و حملته , لكنها فوجئت بسيف خلفها يمد يده ليحمله عنها ... وهو يقول بخفوت
( اتركيه ............ )
تركته بالفعل و هي تشعر بخجل أحمق و كأنها مراهقة مسكينة ... و حاولت حمل واحد لها , الا أنه حمله هو الآخر بيده الأخرى وهو يقول
( أين يمكننا الجلوس ؟! ....... )
رفعت وعد وجهها تنظر حولها فوجدت أن العيون كلها مسمرة عليهما بفضولية , فعبست و هي تقول بغلظة
( ماذا ؟! ........ انه سيف ... ألم تروه من قبل ؟! .... )
ابتسم قليلا بينما الجميع يعود الى عمله ... بهمست وعد بخفوت
( تعال عند الباب ..... أو تحب أن نصعد الى شقتي ؟؟ )
قال سيف مباشرة
( لا .... شقتك لا ....... )
شعرت بغصة من رفضه المباشر ... لكنها لم تظهر له اهتمامها بالموضوع و اشارت له بيدها و هي تقول بفتور
( تفضل ......... )
قال سيف قبل أن يجلس ...
( أردت أخبارك أن ملك ستنتقل للسكن في بيتي ما أن نرفع قضية الخلع إن لم يكن لديك مانع ...... )
وقفت أمامه رافعة وجهها اليه .... ثم قالت بشك و هي تضع يديها على وركيها متأرجحة قليلا
( ألم يصلح الهاتف لإخباري بهذه المعلومة ؟!! ........ )
حينها قال بفظاظة
( و هل وجودي أصبح بغيضا على قلبك الى تلك الدرجة ؟!! ..... )
قالت وعد من بين أسنانها ...
( لا تضع كلماتٍ في فمي لم أنطق بها .......... )
انحدرت عيناه الى شفتيها رغم عنه .... لا تزالان نفس الشفتين العريضتين المستقبلتين بسخاء ...
و رأت نظرته مما جعلها ترتعش مجددا فقالت كي تلهيه عن النظر اليها بتلك الصورة المهلكة
( أجلس أرجوك .... عنقي آلمني من النظر اليك ... )
انتظر الى أن جلست وهو ينظر اليها بصمت ... ثم جلس أمامها حتى كادت ركبتاه أن تلمسا ركبتيها .. فضمتهما و هي تبعد شعرها خلف أذنها بتوتر ... حينها ابتسم سيف بسخرية وهو يقول
( هل تخشين أن ألمسك أم أن هناك سببا آخر ؟! ....... )
شعرت بالغضب البارد يفور بداخلها من سخريته ....سخريته كانت الشيء الوحيد القادر على استدعاء دنيا أخلاقها و طباعها ... فرفعت وجهها اليه و قالت ببرود
( نفس السبب الذي جعلك ترفض الصعود الى الشقة ...... )
ظل مكانه ناظرا اليها بملامح قاتمة قبل أن يقول بصوتٍ قاسٍ
( أرى أنكِ لازلتِ وقحة ......... )
قالت بنفس البرود
( عامة ها قد ارتحت من وقاحتي ....... )
زفر وهو يميل بذراعيه ليستند الى ركبتيه ... ناظرا الى الأرض .... و كم بدا متعبا ...
شعرت بقلبها يهفو لوعة اليه .... فقالت بعد عدة لحظات
( تبدو متعبا .......... )
قال بصوتٍ خافت دون أن يرفع وجهه اليها
( أعاني من صداعٍ فظيع .......... )
التوى حلقها ألما ... ثم انتظرت عدة لحظات قبل أن تقول ببشاشة
( دعنا نبدأ من جديد ....... كيف حالك يا سيف ؟! ... إنها مفاجأة سعيدة أن نراك اليوم !! .... )
و فردت ظهرها و هي تمد يدها اليه ببادرة صلح ....
ظل ناظرا الى الأرض للحظة ... قبل أن يرفع وجهه و ينظر الى يدها الممدودة ناحيته نظرة أجفلتها و بعثت بها مشاعر عنيفة .... لكن تلك المشاعر لم توازي قطرة من اللحظة التي تلتها حين استقام ليمسك بيدها بيده اليسرى .... ثم غطاها باليمنى وهو ينظر الى كفها الرقيق الأبيض بين أصابعه السمراء الضخمة ...
و مضت عدة لحظات وهو يربت على ظاهر يدها بشرود ... و هي تموت من حركته البسيطة ....
الى أن رفع وجهه اليها ناظرا الى عينيها ليقول بخفوت و بابتسامة مجهدة
( أنا بخير حال يا وعد ...... و السعادة من المؤكد هي سعادتي برؤياكِ ... )
زفرت نفسا مرتجفا بشدة ... و قلبها يكاد نبضه أن يهز جسده الضخم عبر كفيهما ...
فقالت بصوتٍ مختنق قليلا
( لما لا أحضر لك فنجان من القهوة ....... )
تأوه بصوتٍ عالٍ وهو يقول من أعماق قلبه
( آآه .. أرجووووكِ ........ )
ابتسمت و كأنه قد طلب منها أن تسكن قلبه للأبد .... فقالت بسعادة حقيقية
( دقائق و تكون جاهزة ......... )
و بالفعل خلال دقائق كان يراقبها وهي تقترب منه باحتراس ... حاملة صينية القهوة و كوب الماء.. تنظر اليها بحرص كي لا يضيع وجهها ....
فأخذ وقته في النظر اليها ... و كأن الاشهر لم تمر سريعة بينهما .... و كأنها تدخل مكتبه خافضة رأسها باستسلام و هدوء ظاهري .... بعيدا كل البعد عن روحها الجامحة و كرامتها العالية في السماء ...
عام كامل و قد اقترب عيد زواجهما ... و الذي سيأتي مرافقا لطلاقهما ...
رفعت وجهها اليه كي تلتقي نظراتهما .. فتوقفت مكانها للحظة , ثم تابعت اقترابها الى أن وضعت الصينية أمامه على طاولة صغيرة .... فأخرجت الفنجان له ... و ناولته قرصين من المسكن و هي تقول باهتمام
( تناول هاذين كي يزول صداعك ......... )
تناولهما منها و أصابعه تحفر باطن كفها مرسلة الرعشة جعلتها تنتفض بقوة ... فقال دون أن ينظر الي عينيها
( آسف ...... )
لم تكن واثقة من هوية ذلك الإعتذار ... الا أنها شعرت بالرعب من ان يكون قد شعر بانتفاضتها جراء لمسته العرضية
هل لهذه الدرجة هي مكشوفة أمامه ؟!! ......
أمرها عقلها أن تبعد عينيها عنه ... الا أن عينيها عصيتا الأمر و أخذت تراقبه وهو يرتشف القهوة .. قبل أن يرجع رأسه للخلف قليلا مغمضا عينيه .... وعلى شفتيه شبه ابتسامة ... ثم همس و كأنه يحدث نفسه
( رااااااائعة ....... )
ابتسمت بحنان نادر ..... ثم قالت برقة
( ربما علي أن أغير نشاطي و أفتتح مقهى ... لأقدم به القهوة بنفسي .... )
ضحك قليلا بخفوت و استياء ... ثم قال بخشونة دون أن يفتح عينيه من حالة الإنسجام التي يعيشها حاليا
( و هل تظنين أن الجماهير المتدفقة حينها , ستكون آتية لأجل عيني القهوة ؟!! ........ )
اتسعت عينيها ... و توترت بسذاجة غبية .... و كأنه ابن الجيران الذي يغازلها و يتحرش بها ... و ليس من يجلس أمامها هو من كان زوجها لمدة عام كامل ....
ضحكت بغباء ... ثم ابتلعت منتصف ضحكتها و هي تعقد حاجبيها محاولة السيطرة على جنون تلك اللحظة ..
فقالت بخفوت أحمق
( شكرا ........ )
ضحك سيف بقوة .... و استغرق وقته وهو يفتح عينيه اليها قائلا
( لطالما شعرت بالغيظ و الجنون من كلمتك الباردة تلك .... " شكرا " ... كنتِ تقولينها في أكثر المناسبات من حيث عدم المناسبة .... )
ضحكت قليلا هي الأخرى و هي تخفض وجهها ... تتلاعب بخصلة حائرة من شعرها فتنته ببريقها ....
قالت وعد بخفوت
( كنت أعامل صاحب عملي حينها .... ماذا كنت تريد أكثر منها ؟! .... )
تنهد سيف وهو يتأملها ... ثم قال أخيرا وهو يتأمل المكان محاولا الخروج من تلك الهالة المحيطة بهما ..
( بمناسبة العمل ...... كيف تسير أمورك هنا ؟! ..... )
رفعت وعد وجهها متفاجئة من سؤاله اللطيف ... فنظرت الى المكان هي الأخرى و كأنها تريد الجواب .. فقالت بخفوت .... و بعض الزهو يتسلل الى نبرتها رغم عنها ككل مرة تكلمت بها عن عملها
( العمل يزدهر كل يوم .... بتنا لا نستطيع ادراك كل الطلبات , لذا نقدم اعلانات وظائف لخياطات محترفات .. كل يومين .... المشكلة أنني أريد كفاءة معينة و أصابع موهوبة .... )
نظرت اليه ثم تابعت
( على فكرة ..... ستجد برنامج دعائي يستضيفني لأننا نقوم بالتحضير لعرض جديد خلال أشهر .... )
رفع سيف حاجبه وهو يقول بصوت باهت
( هل سأراكِ على الشاشة أيضا ؟!! ....... )
ارتبكت لصوته الباهت فأخفضت وجهها بتوتر ... ثم قالت بصوت منخفض اكثر و بايجاز
( لو أردت ......... )
ابتلعت ريقها ... ثم قالت
( البرنامج يشجع كل مشروع لشاب نجح سريعا و ينبىء بالمزيد ..... )
أومأ سيف برأسه دون رد ... و نظر بعيدا وهو يشعر بثقل في صدره جعله يحتقر نفسه .... هل لهذه الدرجة يخيفه نجاحها ؟! .... و لماذا بعد أن خسرها و انتهى الأمر ...
قال سيف أخيرا بصوت خافت لكن صادق
( مبارك لكِ يا وعد ...... أنتِ تستحقين كل الخير )
شعرت بألم غريب في صدرها .... لكنها همست بقنوط دون أن ترفع وجهها
( شكرا ....... )
ابتلع غصة في حلقه وهو يتأمل رأسها المحني .... و كم شعر بالرغبة في تقبيل جبهتها , لا يعلم لماذا , لكن جبهتها الناصعة المنخفضة ... مرفوعة الشعر بنظارتها القططية ... كانت تطلب شفتيه لتطبعا عليها طابع الحنان .... لكنه يشك في نفسه الا يتطاير الطابع الي شفتيها ... و هذا هو ما هما في غنى عنه حاليا ....
تنحنح قائلا بخشونة أكبر من المعتادة
( حسنا ..... لقد أتيت لعدة أسباب ...... أولها أن أخبرك بأن ملك سنتنقل الى بيتي ما أن نباشر في قضيتها ... خاصة بعد أمر عدم التعرض الذي حصلت عليه بسبب ما فعله زوجها المجنون معكِ .....)
كانت الذكرى كفيلة بأن تجعل ملامحه تزداد قتامة و تنفسه يتوهج بالغضب .... مما جعل وعد ترتجف قليلا داخليا ... الا أنه تمالك نفسه و أخذ نفسا قويا قبل أن يقول متابعا
( انه يترصدها كالمجنون .... لذا أخشى على بقائها هنا معك وحدكما .... فأنا لا أتوقع أن يستسلم بسهولة ... لذا في بيتي ستكون أكثر أمانا .... خاصة و أن وجودها لدى رائف ليس مناسبا أكثر من ذلك ....)
رفع وجهه اليها ثم قال بهدوء
( فهل لديكِ مانع ؟! ..........)
أرادت الصراخ بجنون .... " نعم لدي مانع ... لدي مانع الوحدة , فما ذنبي أنا ليتركني الجميع ؟! ... "
الا أن لسانها نطق بنبرةٍ فاترة عادية
( ليس دي مانع يا سيف .... أنت قريبها الوحيد و قد اعتربتك أخيها الكبير ... و أنا شاكرة لك على كل مساعدتك لها ...... و أرجو الا يسبب هذا المزيد من المشاكل لك و لأسرتك .... لكن طبعا تعرف أن بقائها لديك للأبد مستحيلا .... يوما ما يجب أن تتجاوز الخوف و تعود الى أختها و بيتها .... سنهزمه معا ... )
قال سيف بخفوت
( أعتقد أن تلك الخطة ممكن أن تتغير قليلا .... فهناك من يريدها ... و طلبها مني ما أن تنتهي عدتها ... )
اتسعت عينا وعد بصدمة و هي تميل اليه قائلة بلهفة
( هل لديك خاطبا لها ؟!! ..... حقا يا سيف ؟! ..... من هو ؟!! ..... )
ترددت قليلا .. ثم تابعت بشك
( سيف ...... اياك أن يكون شخصا دون مستواها بكثير بحثت عنه كي تزوجها !!.. بسبب ما تعرضت له .... لقد عانت الكثير و ليس من العدل أن تتنازل أكثر ..... )
تجمدت ملامح سيف وشحب وجهه للحظة ... ثم قال بخفوت قاس قليلا
( نظرتك لي تتدنى يوما بعد آخر يا وعد ......... )
ارتجفت قليلا و قالت بندم رافعة يدها الى جبهتها ... تهز رأسها بيأس
( أنا آسفة .... آسفة .... أنا أصبحت حساسة جدا فيما يخص ملك .... )
تنهد سيف وهو يقول بجفاء
( ليكن بعلمك ... أنه رجل ذا هيبة ووقار و مستوى عالٍ و رفيع ..... و أنا شخصيا أتمنى أن يوافق ... فهو الشخص الوحيد القادر على تفهم مشكلتها ....... )
اتسعت عينا وعد للحظة ... ثم عقدت حاجبيها ... قبل أن تهتف بذهول
( لا!!! لاااااااالااااا ..... مستحيل .... هل نتخلص منهم لنزوجها واحدا آخر من نفس الفصيلة !!! .... هل جننت يا سيف ؟!! ..... )
ارتفعت بعض الروؤس على مسمع العبارة الأخيرة ... فنظر اليها بصمت طويل قبل أن يقول بجفاء و صرامة
( أتحبين أن أقص لكِ لسانك ؟! ....... )
ابتلعت هتافها و هي تنظر حولها بحرج ... ثم نظرت اليه و هزت رأسها نفيا بوداعة ... فتنهد بغضب وهو يقول
( اذن اتركي الموضوع لوقته ......... )
قالت وعد بخفوت
( اذن ما هو الأمر الآخر الذي تريدني به ؟!! ........ )
لانت ملامحه قليلا .... قبل أن يخرج من جيب سترته مظروفا ورديا نظر اليه برقة .... قبل أن يقول وهو يمده اليها بتردد ... قائلا بهدوء
( تفضلي ....... هذه لكِ ..... )
نظرت وعد الى المظروف المزين الجميل , قبل أن تفتحه بحيرة لتنظر داخله ....ثم لم تلبث ان رفعت وجهها هاتفة بسعادة
( زفاف مهرة !!! ........ أخيرا ؟!! ...... )
ابتسم سيف قليلا وهو يرتوي من جمال ابتسامتها ذات الأسنان النادرة ... كتلك المطابقة للصور على هاتفه ...
بهتت ابتسامته وعقد حاجبيه وهو يهمس بداخله بوجع
" كيف سأتمكن من محوها ؟!! ...... مجبر أنا على ذلك خلال أيام , فأين القوة لفعلها ؟!! ...... )
اخفض وجهه قبل أن يقول بخفوت
( انها دعوة خصيصا لكِ ....... إنها بطاقة الدعوة الأولى التي يتم صنعها .... )
تأوهت وعد و هي تقول برقة
( آآآه يا سيف !! ....... سأحضر بالطبع .. و سأتأنق بكل ما أستطيع ... لو استطعت أن أكون نجمة تلك الليلة فسأفعل حتى تكون فخورا بأن تلك النجمة هي زو....... )
ابتلعت ريقها ...و كلمتها ... ثم تابعت بخفوت
( هي ابنة خالك ........... )
نظر اليها بصمت و قد ضربه كلامها في الصميم .... وهو يستحق .... يستحق ما يناله ... فهل من الممكن أن تكون أجمل مما هي عليه في تلك اللحظة ؟!! .....
الا يمكنه ايقاف تلك اللحظة لبعض الوقت ؟!! ..... للمتبقي من العمر مثلا ؟!! .....
رفعت وعد عينيها اليه و هي تقول بخفوت ساحر ... يكاد أن يكون سحرا
( و ما هو الأمر الثالث ؟!! .......... )
عقد حاجبيه و أظلمت عيناه ..... ثم قال بعد فترة طويلة بصوت أجش خافت
( أرجئي الأمر الثالث ...... ربما تكلنا به في وقت لاحق .... )
اتسعت ابتسامتها و هي تقول بخفوت رقيق
( كما تحب .......... )
ظلا ينظران الى عيني بعضهما و قد ماتت الابتسامات و بقت النظرات مسحورة ... فهمس بصوتٍ لا يسمع
( كيف سأغض البصر عن عينيك ؟!! ....... )
همست متسائلة و هي تقترب منه قليلا
( ماذا تقول ؟!! ............. )
رمش بعينيه وهو ينهض فجأة ... ليعدل من قميصه قائلا بصوت صلب
( أقول ....... أراكِ في حفل الزفاف اذن ........... الى اللقاء ... )
راقبته وهو يبتعد خارجا .... وكأنه كان حلما مقتطعا من الزمن ... و انتهى سريعا ...
ثم أطرقت بوجهها مبتسمة برقة .... ممسكة بأحد أقلام الخياطة و هي تتلاعب به و ترسم على الطاولة ...
و من بين رسومها كتبت
( كيف سأغض البصر عن عينيكِ ؟!! ......... )
لم تراه يوما في أشد حالات غضبه بمثل تلك الشيطانية من قبل !! .....
لم تظن حين خرجت اليوم صباحا بأنها ستواجه هذا المنظر من الغضب .... فلم ينتابها الخوف مهما كانت ردة فعله ...
لكن الآن .... وهو يقترب منها ببطىء ... صافقا الباب خلفه بقدمه ....
لم يفعل شيئا بعد .... بل كان يتحرك ببطىء و كل ما فعله أن عيناه كانتا مثبتتان على عينيها ...
و كانتا أكثر من كافيتان لكي تتراجع للخلف على السرير و هي تزحف زحفا و الرعب يرتسم على وجهها بأقسى صوره ....
لم يعد لها مكانا تتراجع به فوجدت ظهرها يتراجع الى أن استلقت برعب امام اندفاعه اليها جاثيا باحدى ركبتيه على السرير بجوارها ... و يده تطير لتمسك بعنقها , مما جعل عينيها تتسعان بذعر و هي تهمس
( لم أفعل شيء ....... لم أفعل شيء .... أرجوك لا تنظر الي بتلك الطريقة .... )
الا أن أصابعه أطبقت على عنقها وهو يهدر أمام وجهها بجنون
( خرجت اليوم !!!! ........... )
صرخت باختناق و هي تحاول أن تقاوم ضغط أصابعه ...
( وليد تعقل .... بالله عليك انظر الى نفسك ....... أنت تتحول الى مجنون , .... كل هذا من أجل خروج بضعة ساعات ؟!!! ..... لا شيء يدعوك لتلك الغيرة المجنونة !!! .... أرجووووك ... )
الا أنه لم يتمالك نفسه وهو يترك عنقها ليصفعها فجأة بقوة ... وهو يصرخ
( ملعونة الغيرة !! ...... اي غيرة تلك التي تتحدثين عنها مع أمثالك !! ...... ماذا كنت تفعلين مع لجين ؟!!! ..... ألم أحذرك من الإختلاط بها ..... )
كانت قد سكنت تماما و هي في حالة صدمة جعلتها أقرب الى التبلد ... و يدها على وجنتها حيث صفعها ....
مرت عدة لحظات من الصمت لا يقطعه الا تنفسه الهائج ... و تنفسها الشبيه بنهجات الغزال .....
ثم قالت أخيرا بصوتٍ فارغ
( هل سأدنسها لو اقتربت منها ؟!! ......... )
لم يتمالك نفسه وهو يقبض على ذراعيها ليرفعها رفعا على ركبتيها أمامه وهو يهزها بقوة صارخا
( سؤالي واضح ..... ماذا كنت تفعلين معها ؟!! ...... و ما هو هدفك ؟!! .... )
كانت تنظر اليه بتبلد و كأنها تنظر الى مجنون .... فهزت رأسها قليلا و هي تهز رأسها قبل أن تقول بخفوت بينما صدرها يتحرك بسرعة تناقض تبلدها الظاهري
( ما هو هدفي ؟!! ....... ماذا تظن ؟!! ....... )
عاد ليهزها من جديد وهو يصرخ أمام وجهها ...
( نزلت اليها ...... و طلبت منها الخروج على الرغم من أنه ليس هناك أي عامل مشترك .... اصطحبتها الى مكان تعرفه و من الواضح أنكِ تعرفينه جيدا ..... بعد أن جعلتها تدفع لك ثمن ما اشريته !! ..... ياللهي .. الا تكتفين ؟!!! ...... ما أنتِ ....جشعة لا تشبع حتى تنحدرين الى هذا المستوى ؟!! ...... )
كانت تهز رأسها غير مستوعبة لكل ما يصرخ به ...... و ما أن صمت ليلتقط أنفاسه حتى صرخت هي
( انتظر هنا يا سيد المستوى الرفيع ....... أي أغراض تلك التي سأحتاج لأختك كي تدفع ثمنها ؟!!!!! ...... هل تظنني أحتاج لكليكما معا ..... انظر لحسابي في المصرف ...... أنا فقط لم أمتلك سيولة كافية للدفع ... و كنت سأسدد لها ما دفعته ........ )
هدر من بين أسنانه وهو يهزها كدمية قطنية لا قوة لها ....
( حسابك الذي زدته لكِ الضعف ؟!!! ..... و الباقي \تعرفين جيدا كيف حصلتِ عليه .... حتى ملابسك اشتريتها لكِ ..... لكن ما أن شعرت بالنقص حتى جررت اختي خلفك كي تشتري لك المزيد بمبلغ لا يساوي شيئا مما تملكين ..... هو مجرد جشع , يجعلك عمياء فتقتادينها الى مكان عرفتِ عنه .... و عن صاحبه ... كي تخضع لطلباتك ...... )
هزت رأسها بقوة و هي تهتف
( أنت مجنون ...... هي من صعدت الي ...... و ألحت حتى خرجت معها .... و هي من اقتادتني الى هذا المكان , فمن أين لي أن أعرف بمن تقدم لها ؟!!!! ....... )
اتسعت عيناه وهو يقول مبهوتا
( أنت بالفعل جمعتِ معلوماتٍ عنها ؟!! ...........ماذا تريدين منها ؟!! ..... )
صرخت شيراز بقوة و هي تهز رأسها غير مصدقة
( أنت مجنووون ..... هي أخبرتني ... و هي صعدت الى هنا .... و هي التي طلبت الخروج و ذهبت الى هذا المكان .... و هي التي حكت لي عن شخص تقدم لخطبتها ليس أكثر ..... )
زفر بقوة وهو يصرخ قائلا ...
( هل تصدقين نفسك ؟!!!!! ..... الى متى ستظلين كاذبة الى هذا الحد ؟!!! ..... لجين لم تخرج منذ فترة طويلة ... و ليس من عادتها التباسط مع اي كان .... فما بالك أنتِ ..... )
صرخت شيراز بغضب
( توقف عن اهانتي .......... لا يحق لك , أنا أنظف منك و من أختك ..... )
رفع يده عاليا ... فرفعت له وجهها هذه المرة تتحداه أن يضرب .... و ما أن التقت أعينهما و شاهد شراسة القطط خضراء العينين بهما ... حتى تلكأت يده عاليا و اختل تصميمه .....
لكنها هتفت بقوة و حقد
( هيا اضرب ..... ارني بعضا من رجولتك ........ لن تكون الحيوان الأول الذي قابلته بحياتي ... )
التوى فكه بصعوبة ... فسقطت يده دون أن تمسها ... ليدفعها عنه بقرف و كأنها قمامة مهملة ... و استقام واقفا يوليها ظهره .....
بينما بقت هي جاثية على ركبتيها ... تنظر الى ظهره الضخم وهو يضع كفيه على وركيه .....
لم تدرك أن الدموع كانت قد انسابت على وجنتيها بصمت و دون أن تشعر بها .... الى أن قال وليد أخيرا بخفوت صارم
( ماذا تريدين من لجين ؟؟ ....... الى ماذا تسعين ؟!! ........ )
اتسعت عيناها بذهول و ضربت رأسها بكفيها و هي تصرخ ...
( يا رب العالمين !!! ...... ماذا تظن أنني أريد من أختك الغالية ؟!!! ..... أنت مهووس .... )
لم يتحرك من مكانها ... و لم يستدر اليها ....
مهووس ؟!! ........ نعم مهووس .... و هل يمكن لأحد أن يلومه ؟!! ..... لقد اغتالوها حية .... لم يتركوا قذارة الا و دنسوها بها .......
و الآن يرفض أن يصدق كل هذه الصدف التي تجمع بين شيراز و لجين .....
أما في الدور السفلي .... كانت لجين قد وضعت وشاحها على رأسها بشكل عشوائي و هي تندفع الى باب الشقة بغضب و عنف .... الا أن سمية أمسكت بذراعها بصرامة قبل أن تخرج و هتفت بها
( توقفي هنا ...... الى أين تظنين نفسك ذاهبة ؟!! ....... توقفي عن اثارة المشاكل , أنتِ السبب في كل ما حدث ..... )
التفتت اليها لجين و هي تقول بغضب
( أنا السبب ؟!! ...... هل أنا التي جريت اليه لأبلغه بالتقرير اليومي ... و الأدهى تغيير و قلب الحقائق كلها !!! ........... )
قالت سمية بعينين تبرقان غضبا
( أحفظي لسانك و أنت تخاطبينني يا لجين ........... أنت لا تعرفين هذه الفتاة , ... أنا أعرف عنها الكثير ..... )
وقفت لجين مكانها .... و قالت عاقدة حاجبيها
( من أين لكِ بالمعرفة عنها ؟!! ....... هل أخبرك وليد ؟!! ....... )
تنهدت سمية بتقزز و هي تبتعد عن الباب لتقول بغيظ
( أخاك لن يجرؤ على أخبار أي أحد عن زوجته الغالية ....... إنه يتجرع خزي و مرارة اختياره كي لا يفضح نفسه ........ )
عقدت لجين حاجبيهاو هي تقول بحيرة
( لماذا ؟!! .......... ماذا عرفت عنها ؟!! ...... )
مطت سمية لتقول بهدوء
( كنت قد شككت أين رأيتها من قبل ..... و اخذت أعصر تفكيري .... الى أن تذكرت بذهول ... تلك الشابة سرقت زوج أحدى عضوات النادي .... انتشر الأمر الى أن أرتنا ايها عضوة أخرى و قد صورتها على هاتفها الخاص في احدى المرات و هي مع زوج الأولى ......رجل في عمر والدها ... و هي في سن أبنائه ... )
رمشت لجين بعينيها ... و قالت بوجوم
( ربما كانت واحدة تشبهها !! .............. )
عادت سمية لتمط شفتيها قائلة ....
( شكلها مميز .... و غضب أخيك يدل على أنه قد كشف حقيقتها ..... أما ما عرفته أنا فكان أكثر .... )
أظلمت عينا لجين و هي تجلس على احد المقاعد ... تعرف جيدا جلسات النميمة في النادي .... مقرفة لدرجة تثير الغثيان .... و أعضاء تلك الجلسات ... لا يتركن مادة الحديث و بطلتها الا بالبحث عن المزيد من الفضائح ..... كي تصبح الجلسة ناجحة أكثر .... و أكثر نجاحا في أن تكون حديث الساعة ....
و على الرغم من أنها لم تسأل ..... فقد تطوعت سمية لتقول بازدراء
( السيدة المحترمة خريجة دار رعاية ..... و قد تزوجت عدة مرات قبل أخيك المعتوه ..... و الله أعلم إن كانت زيجات فعلا أم ..... )
نهضت لجين من مكانها و هي تقول بصرامة ....
( كفى ...... و لا كلمة أخرى ..... لا تنسين أنها تحمل اسم أخي ... اتقي الله .... )
ثم اندفعت خارجة معمية النظر بغضبٍ حالك ....
صعدت كل درجتين معا الى أن وصلت لمصدر الصراخ المستمر ... فأخذت تطرق الباب و هي تضغط الجرس منادية بغضب
( وليد ....... افتح يا وليد ........ وليد ..... وليد ... )
انتفض وليد مكانه وهو يسمع صوت الطرق الغاضب على الباب .... لكنه عاد لينظر الى شيراز التي كانت لا تزال جاثية على ركبتيها ... و قد غطت وجهها بكفيها و هي تنتحب بصوتٍ خافت بعد أن نال التعب منها ...
بينما هتفت من بين نحيبها
( لم أفعل شيئا من كل ما اتهمتني به .......هذا ظلم ... )
ابتسم بمرارة و هو يقول متجولا في الغرفة بأسى
( أنتِ من تتحدثين عن الظلم ؟!!! ......... )
صمت قليلا وهو يتنفس بقوة ناظرا الى السقف .... يشعر أنه يحمل حملا أكبر منه ....
ثم لم يلبث أن قال من بين أسنانه
( أخبريني بالله عليك ماذا أفعل معكِ الآن ؟!! ..... لقد علقتِ بي ..... لا أنا قادرا على تقبلك ... و لا أنا أستطيع تركك ترحلين بعد الآن ...... )
رفعت وجهها الأحمر اليه و هي تبتلع ريقها بصعوبة ... لتهمس بخفوت
( لماذا لا تستطيع تركي أرحل ؟!! ........... )
ظل صامتا قليلا ... قبل أن يقول بخفوت
( لا أستطيع أن أتحمل ذنبك و أنا أعرف جيدا أي طريق ستسلكين .... ستظلين تبعين سلعتك , الى أن تفقد سعرها .... فستضطرين في النهاية الى بيعها دون ثمن ...... )
فغرت شفتيها و هي تستمع الى تلك الإهانة البالغة ..... بينما نظر اليها صامتا و لم تكن ملامحه تحمل أي أثر للإهانة ... وهو يقول بخفوت أكبر
( هل تفهمين ما أقصد ؟!! ........ )
ابتلعت ريقها بصعوبة و هي تبتسم بمرارٍ ساخر .....
و قد كانت تتوقع كلمة حب حين سألت سؤالها الساذج !!! !!! ......
فقالت مبتسمة بمرارة
( لا تخف .... و لا تثقل ضميرك ..... أنا لا أحب الحرام ..... )
استدار اليها بكليته وهو يهدر
( هذا ما تظنينه ..... لأنكِ لازلت تملكين الجسد الغض ووجه الطفولة .... اي أنكِ تمتلكين بعض المقومات مما يجعلك صاحبة القرار كما تتوهمين .... لكن ما أن تفقدينها ... ستضطرين للتنازل .. و التنازل يبدأ بخطوة واحدة ..... أما أنتِ فقد قفزتِ خطوات ...... )
ارتجفت شفتاها ... و ضاقت عيناها و تشوشتا بغلالة من الدموع فهمست
( كف عن ايلامي ....... كف عن ذلك ...... أرجووك .... )
ظل ينظر اليها طويلا نظرات مختلفة عن أمس ..... و كأنه اليوم شخص مختلف , يصارع شيء ما ...
كانت لجين خارج الباب ....مستمرة في طرقها المزعج , الى أن شتم وليد بقوة وهو يندفع خارجا ...
ليفتح الباب بعنف ... و قبل أن تفتح لجين فمها بكلمة ... كان وليد قد هدر قائلا
( عودي من حيث أتيت يا لجين ........ )
الا أنها هتفت بقوة تماثل قوته ...
( لا ......... لن أعود ...... )
اتسعت عيناه وهو ينظر الى وقاحتها ... لكنه هتف بقوة
( لجين هذا وقت غير مناسب ..... اذهبي الآن .... )
ضربت لجين الأرض بقدمها و هي تقول بعنفوان
( لن اذهب و اترك المسكينة تتحمل نتيجة خطأي .... أنا من طلبت منها الخروج و ألححت عليها ..... و أنا من ذهبت الى هذا المقهى بنفسي ..... )
عبس بشدة وهو يقول
( لا داعي للكذب يا لجين ........ )
لوحت بذراعيها هاتفة بغضب
( أنت الذي لم تعد ترى سوى الكذب ...... بينما القصة أسهل مما يرتسم في خيالك .... احتجت الخروج فوجدتها تماثلني الحاجة .... ففعلت , نهاية القصة ...... )
ظل ينظر اليها بقسوة وهو يرى الصدق في عينيها ... فقال بشك
( لم تخرجي منذ فترة طويلة ..... فلماذا اخترتها هي ؟!! ...... )
ضربت وركيها وهي تقول بنفاذ صبر
( و من غيرها ؟!! ....... أنت أم سمية ؟!! ....... وليد توقف عن الظلم ..... ستندم بداخلك , اقسم بالله ستندم ندما شديدا فيما بعد ..... )
اغمض عينيه وهو يشعر بالثقل يزداد على كتفيه أكثر ....
ثم لم يلبث أن قال بتركيز وهو يضغط كفه المفرودة أمامها ...
( لجين ..... ابتعدي عنها أرجوك ... تلك المرأة تعاني من مشاكل عدة ..... و أنت خرجت للتو من محنة صعبة و أخشى عليك من التأثر بها ..... الإختلاط بها سيؤذيك ...... )
قالت بقوة
( و طالما أن هذا هو ما تظنه .... لماذا أحضرتها الى بيتنا منذ البداية ؟!! ..... أنا أخبرك لماذا .... لأنك أردتنا أن نكون رقباء عليها ..... تكاد تموت رعبا لو تركتها في بيت بمفردها , من أن يمس اسمك اي سوء .... لماذا فعلت هذا بنفسك يا وليد ؟!! ..... طالما أخذت حملا أكبر من طاقتك ... فتتعذب و تعذبها معك ..... )
حركة من الرواق جعلتهما يفطنان الى أن شيراز كانت تقف عند بداية الرواق و هي تستمع اليهما بتركيز ...
لكن لجين احمر وجهها بشدة و استدارت شاهقة .... بينما اتسعت عينا وليد بذهول و غضب وهو يهدر بها
( اذهبي و غطي نفسك ..... هل جننتِ ؟!!! ..... )
أخفضت شيراز وجهها و هي تتلمس جسدها ببطىئ شارد .... لم تكن قد أدركت أنها لا تزال مكشوفة الجسد حين خرجت !!! .....
بينما هتف وليد بلجين وهو يغلق الباب
( انزلي حالا ....... الآن )
استدار الى شيراز التي كانت واقفة مكانها تنظر اليه بلا تعبير ... فاندفع اليها وهو يحملها بقوة بين ذراعيه الى غرفة النوم ... ليلقيها على السرير , قبل أن يستدير الى الدولاب ليخرج منه قميص نوم طويل ....
و عاد اليها ليدسه فوق رأسها ... يلبسها اياه بقوة وهو يهتف آمرا بغضب
( منذ الآن ......... لا أريدك أن تكشفي جسدك مجددا , حتى لي أنا ... فهمت ِ ؟!! .... سأقتلك لو تركتِ أحدا يراك بهذا الشكل بعد اليوم ..... )
بعد أن ألبسها اياه ... أمسك بذقنها يرفع وجهها اليه لينظر لعينيها قائلا دون رأفة
( تعودي على ستر جسدك ........ مفهوم ؟!! .... أو أنا سأفعل رغم عنكِ .... )
.................................................. .................................................. ......................
أتبالغ هي في الإعتناء بهذا البيت الصغير ؟!! ....
حقا لا تعرف ... كل ما تعرفه أنها لم تمتلك بيتا يوما .... و لم تسكن واحدا أبدا ....
شقتها مع وعد لطالما كانت مرحلة انتقالية بسبب الظروف ...
وكل ما حصلت عليه في حياتها من قبل ..هو غرفة أعلى السطح بعد خروجها من الدار ... و كم كانت ممتنة لهذا , فصممت على أن تجعل منها حلما ملونا ....
زينتها بأبسط الاشياء ... و أرخصها ... لكن أجملها أيضا ...
لم تمتلك عائلة ... لكنها سعت الى تكوين علاقات الكترونية عديدة و عاشت صداقات عديدة لم تقابل اي منهم يوما ....
افتقرت الى الحياة ... فعاشتها بين الروايات و الورود ...
كانت مصممة على أن تظهر للقدر امتنانها ... لم تكن واثقة بأنها ستنجو بعد الخروج من الدار ...
لكنها شعرت بالعناية الإلهية تحاوطها دائما...
الى أن غفلت في لحظة عن دورها في العناية بنفسها .... فسقطت ....
لكن ....
و مرة أخرى تجد أنها تنهض من تلك السقطة .... و القدر يرسل من يعتني بها .....
ابتسمت ملك برقة و هي تلمس أوراق الوردة الحمراء المتفتحة التي تقوم بسقيها ....
لقد انتشر الخضار و الورود في العديد من أركان البيت .... بعد أن طلبت من رائف شراء شتلات الورود و الأشجار الصغيرة ....
كانت البيت حين دخلته لأول مرة .. دافئا , مرتبا , و نظيفا ...
الا أنه كان يفتقد للحياة ...
كان ساكنا و كأن شبحا من الماضي يسكنه ....
و شعرت بحزن غير مفسر و هي ترى شتلات أشجارٍ ذابلة و جافة .... لم يسقها أحد
و هذا لأن رائف يرفض أن يدخل اي انسان هذا البيت ... حتى ولو من أجل أن يسقي النباتات ....
الا هي ....
هي الوحيدة التي أدخلها بيته ... و أطلق يدها به ....تفعل ما يحلو لها ...
و كم أشعرها ذلك بالدلال .. و بأنها مميزة و ذات مكانة خاصة ...
فقد غيرت مكان الأثاث دون أن يأذن لها ... و ما أن رآه , وقع قلبها و هي تراه صامتا ... ساكن الملامح ..
و شعرت بالرغبة في البكاء عاليا .... الا أنه عند خروجه , استدار اليها و نظر الى عينيها طويلا قبل أن يبتسم ببطىء حتى تغضنت زاويتي عينيه وهو يقول بخفوت
( أوقفي بعض من جموحك في البيت .... لا أريد العودة المرة القادمة لأراكِ و قد طليتِ الجدران بنقوش الورود .... )
شعرت لحظتها بأن روحها تعلو و تتفتح كتلك الورود ... فأشرقت ابتسامتها و هي ترد قائلة برقة
( قد أفعل ....... فقد سلمتني مفتاح البيت , و لم يكن عليك الوثوق بي .... )
ضحكت برقة و هي تتذكر عينيه اللتين نظرتا الى عينيها طويلا ... و كأنه يريد اضافة تعديل بسيط لعبارتها .. الا أنه قال في النهاية ...
( ربما أردت اضافة بعض الحياة اليه .... لكنني لم أعلم أنني سأثير تلك الزوبعة من الرذاذ الذهبي به ... )
ارتجفت ابتسامتها قليلا .. و همست بخفوت و تطلع
( هل تعتبرني كرذاذ ذهبي ؟!! ......... لم يصفني أحد بهذا الوصف من قبل .... )
نظر اليها لفترة قبل أن يقول بصوتٍ أجش
( من الأفضل لكِ اذن الا يصفك به أحد مستقبلا ......... )
مالت ابتسامتها بعذوبة و شقاوة ..بينما فقد قلبها بعض من دقاته و أختل سير التروس في صدرها و همست ببراءة
( لماذا ؟!! ........ )
عبس وهو يعقد حاجبيه .... الا أنه تنهد أخيرا أمام شقاوة و رقة عينيها العسليتين , ثم قال أخيرا بصوته الوقور
( اعتني بنفسك الى أن أعود......... )

وعت الى نفسها شاردة تماما ...... و هي تتذكر تلك المحادثة القصيرة بينهما ... فتنهدت و هي تعود لملامسة الوردة الحمراء لتنتقل الى غيرها
كانت كالفراشة في البيت .... تنظف و تزين ... تصفر مدندنة على لحنِ صندوق الموسيقى الذي لا تمل من ألحانه أبدا .....
بينما كان حاسبها مفتوحا على الطاولة ....
لقد اشترى لها حاسوبا أيضا ...... و حين رفضت بشدة , قال بصرامة
( حين أرغب في أن أهديكِ شيئا .... عليكِ القبول بلطف , بدلا من القبول به رغما عنك .... )
قالت له بإصرار ....
( لم أخبرك عن حاسوبي القديم كي تحضر لي واحدا جديدا ........ أنا لا أستطيع القبول به .... )
قال بهدوءٍ لا مبالي أغاظها
( بل ستقبلين به لأنني أنوي شراء العديد من الأشياء لكِ ... و لن نفتح هذا الجدل كل مرة ..... )
ارتفع حاجبيها و هي تقول ببلاهة
( لماذا ؟!! .............. )
حينها زم شفتيه وهو يقول و كأنه متعجب منها
(لماذا مجددا !!! ...... حاولي التجديد يا صغيرة , و بالمناسبة , مصروفك أيضا ستتقاضينه مني ... )
فغرت شفتيها و اتسعت عيناها و هي تقول ببلاهة اكبر
( مصرو...!!!! ....... ماذا ؟!! ........ )
رد عليها بهدوء و ثقة
( أنتِ مسؤولة مني ........... )
اتسعت عيناها أكثر ..... و بدت صورة حية لطفلةٍ مشدوهة .... خاصة بضفيرتها الملقاة على كتفها بارتخاء و تشعث حتى خصرها ...
الا أن الطفلة همست بدهشة باهتة .....
( أنا لا زلت على ذمة رجل ........... )
و كأنها أشعلت وقودا تحت سطح ملامحه الهادئة ... فتحولت الى قناعٍ قاسٍ ... تلك المرات النادرة التي يتحول بها حنانه الى قسوة ... فقال بصوتٍ خافت ... صلب بدرجة ضاربة
( تلك العبارة لا أريد سماعها مجددا خلال الأيام القليلة القادمة و التي تفصلك عن الخلاص ...اتفقنا !! ... )
ابتلعت ريقها و قالت بصوت مرتجف
( قد لا تكون قليلة العدد يا رائف ......... )
هدر بصوتٍ خافت لفح أنفاسها
( بل ستكون ..... فلا تنطقي بتلك الصلة بينكما ..... )
صمت للحظة قبل أن ينحني وجهه اليها قليلا .. وهو يتابع هامسا بصوتٍ مشتد
( أنني لن أتحملها مجددا ......... )
رفعت وجهه اليه و هي تراقب شراسة خفية .. يحاول اخفائها تحت ساتر ملامحه الحامية ....
حينها رغبت في التربيت على الألم الذي يشعر به ... على الرغم من جهلها عن مدى قدره تحديدا وهويته ..
فقالت مبتسمة برقة
( حسنا ..... دعني أحاول مجددا ....لا تقلق بشأن حالتي المادية فأنا أمتلك مالا ... و وكما تعرف أشارك بمشروع وعد .... )
ظلت ملامحه داكنة .. رافضة للمرح .... الا أنها رمشت بعينيها تراضيه ... فلم يستطع الصمود طويلا ...
ظل صارما عدة لحظات لم تتعدى الثلاث ....
ثم انهارت صرامته و ابتعدت قتامة ملامحه للداخل منسابة على قلبه .. لتحل الابتسامة الصافية محلها على مضض ... و قال بصرامةٍ لم تخلو من الحنان
( و مع ذلك ...... سأعطيك مصروفا , و ستكونين مسؤولة مني لأنني قررت ذلك.... فهل لديكِ مانع ؟!.... )
ارتجفت شفتيها و هي تتذكر حالها في تلك اللحظة ....
لم تعلم أتضحك على مزحته أم تدعي الجدية ؟!!
أي اشارة يعطيها ؟!! .... أم أنها تتوهم الإشارات و تخادعها النجوم ؟!! .....
همست بابتسامة شاردة و عينين تبرقان برقة
( ماذا يريد يا وردة ؟!! ...... أخبريني بسره ..... )
أستفاقت ملك من شرودها المنصب على كل ما يقول رائف ... ما يفعله رائف ... ما يبتسم له رائف ....
و هي تسمع صوت رنين هاتفها .. فتركت رشاش الماء الذي تسقي به الورود و جرت بسرعة لتلتقطه و ترد عاتبة بصرامة لا تخلو من اللهفة
( لماذا تأخرت بهذا الشكل ؟!!!! ....... )
ساد صمت للحظة قبل أن تسمع صوت سيف يقول
( أممممم .... لو كنت أعلم أن جميلة شقراء الضفيرة ملهوفة علي لتلك الدرجة , لما فكرت بأختك مطلقا سابقا ....)
ضحكت ملك برقة و هي تتنهد بخيبة أمل سرية ... لكنها قالت بخبث
( أشك في ذلك يا سيف ..... فأنا لا أمتلك عينين شتويتين ...... )
عقد سيف حاجبيه للحظة , ثم قال بخفوت
( من أخبرك بهذا الوصف ؟! ........ وعد ؟! .... )
ابتسمت و هي تجلس على ذراع الأريكة لتقول ببراءة
( و من تظن اذن ؟! .... سوى صاحبة الشتاء الرمادي .... )
ساد صمت قليل و هي تبتسم بخبث أكبر ... مدركة أين أطلقت سهمها تحديدا .... و بالفعل قال سيف بصوت خافت دافىء
( و هل أخبرتكِ المزيد ؟! ........... فيما كنتما تتكلمان عادة ... )
اتسعت ابتسامتها حتى شملت وجهها كله ... فقالت بتردد مقصود
( آآآآآ... كل شيء تقريبا , .... لماذا تريد أن تعرف ؟! ...... )
قال سيف بصوتٍ خافت ملح قليلا ... يحاول جاهدا اخفاء الحاحه ..... لكنه كان فاشلا
( هل تتحدث عني ؟! .... كثيرا ؟! ......... )
الآن صارت ابتسامتها أعرض و أكبر .. لكنها تدبرت أن ترد بصوتٍ خافت متآمر
( اممممم .. لا أظن أنه من الصواب أن أفضح أختي يا سيف ...... )
ثم تركته ليتلوى على نار هادئة بعد تصريحها الخبيث .... لم تعلم أنه أرجع رأسه للخلف مغمضا عينيه و صدره ينبض ببطىء رتيب على نغم اسمها ....
و بعد أن تركت له الفرصة قليلا .. قالت ببراءة
( سيف ...... سيف ..... ألازلت معي ؟!! ...... )
سمعت صوت حشرجة حنجرته .... قبل أن يقول بصوته العميق
( نعم يا ملك ...... أنا هنا ........ )
قالت ملك برقة متعاطفة لا تخلو من الخبث
( هل أتصلت بي كي تحدثني عن وعد ؟! ......... )
سمعت صوت نفسه عاليا ... محملا بالكثير من الأثقال .. قبل أن يقول بخفوت
( لا ...... بل اتصلت كي أطمئن عليكِ ....... و أخبرك أنكِ ستأتين بيتنا مجددا ..... )
اتسعت عينا ملك و بهت وجهها قليلا قبل أن تقول بفتور
( بهذه السرعة ؟!! .......... )
قال سيف رافعا حاجبيه
( بهذه السرعة !!! ...... لقد مكثتِ بالفعل أكثر من اللازم و ظننتك تريدين العودة لحياتك !..... )
زاغت عيناها و هي تفكر
" أي حياة تلك !! ...... أكانت تتوهم السعادة من قبل ؟!! ... فالحياة هنا ....و السعادة هنا ..."
رمشت بعينيها و هي تطرق برأسها قبل أن تقول بخفوت محاولة تأجيل الرحيل
( لا أستطيع ....... لا أستطيع المغادرة هكذا دون ابلاغ رائف ... هذا ليس ذوقا .... )
ابتسم سيف دون أن تراه على الجانب المقابل ... و قال بصوتٍ جدي دون أن يظهر عليه ابتسامته
( آآه طبعا ليس من الذوق المغادرة دون أخذ اذن رائف ..... و هل يعقل ذلك ؟!! ... لم أكن لأجرؤ على طلب هذا يا سيدة الذوق و الرقة .... )
لم تلحظ السخرية في صوته .... فقد كانت في عالم آخر ... و هي تقول بشرود كئيب
( لا أعلم لماذا تأخر اليوم ...... كان من المفترض أن يكون هنا الآن لكن ..... )
قاطعها سيف رافعا حاجبه وهو يقول
( هل يأتي رائف يوميا ؟!! ....... و هل يدخل البيت يوميا ؟!! .... )
انتبهت ملك فجأة الى اتجاه سير التحقيق ... فاستقامت جالسة و هي تقول بتهذيب مبالغ فيه كي لا يسيء الظن برائف
( فقط لوضع ما يشتريه لي ..... أول ليلتين ظل مستيقظا خارج البيت .. و بعدها عاد ليبيت مع أخته )
قال سيف متسليا مدعيا الجدية
( آها ... هذا يفسر الأمر اذن .... لكن هل يجلب لكِ مشتروات يوميا ؟!! .... ماذا تحتاجين بهذه الكثافة ؟!! .... )
نظرت ملك الى الحاسوب ... و الورود .... بخلاف الملابس و الحلوى ... فقالت و هي تتلاعب بضفيرتها مؤرجحة ساقها
( امممم ... أنت تعرف , حليب .... خبز ... فأنا لا آكله الا طازجا أولا بأول .... و خلاف ذلك ... )
عاد سيف ليقول بتفهم
( آآآه .... بالطبع الخبز لا يأكل الا طازجا ..... مما يجعل اذن من وجوده أمرا منطقيا .... )
ضغطت ملك شفتيها و هي تطرق بوجهها الأحمر ... بينما قال سيف متابعا برقة
( عامة أمامك بضعة أيام قبل أن أطالب بضمك الى بيتي .... كي أضمن ابتعاد زوجك )
رفعت وجهها و قالت بهدوء خافت ... تحرس وعدا بينها و بين رائف .... حتى بغيابه ...
( ليس زوجي يا سيف ...... ليس زوجي و لن يكون ..... )
ساد صمت قليل قبل أن يقول بهدوء مؤكدا
( ليس زوجك يا ملك ........ )
قالت ملك بخفوت شارد
( هكذا يقول رائف ..........وهو ما أشعر به .... )
لم ترى ابتسامة سيف وهو يقول بهدوء
( طبعا هذا ما يقوله رائف ...... أخبريني , هل تحفظين كل كلامه عن ظهر قلب بهذا الشكل ؟!! ... )
ارتبكت قليلا و هي تقول بخفوت خجول متردد
( فقط ما يتطابق مع شعوري .............. )
قال سيف بجدية
( و كم من كلامه ينطبق مع شعورك ؟؟ ........ )
عضت زاوية شفتها السفلى دون أن تجيب ... فقال سيف يتكلم بطبيعية
( نصفه ..... معظمه ....... كله مثلا ؟!! ..... )
مطت ملك شفتيها كطفلة مذنبة لعقت الشوكولا من على الكعكة .... ثم قالت بتوجس و هي تعدل من كتفيها
( الى ماذا تهدف بالضبط يا سيف ؟!! ....... )
قال بدهشة
( لا أهدف لشيء محدد ...... لكنني أتعجب فقط ... هل تتصلين بي للحديث عن رائف ؟!! ... )
احمر وجهها أكثر و قالت تدافع عن نفسها
( لا طبعا .... الحوار فقط تسلسل بمنطقية ... أنا اتصلت كي ..... )
صمتت للحظة .. ثم اسقطت كتفيها بتهدل و هي تقول بحرج و فظاظة
( أنت المتصل ............ )
سمعت ضحكته الصغيرة و التي اشعلت بداخلها حرجا عنيفا ... و كأنه كشفها ..... لكن ماذا اكتشف ؟!!
هي نفسها لا تعلم الجواب بعد .....
قال سيف بجدية لطيفة بعد فترة
( أصدقيني القول يا ملك ..... ماذا تعتبرين رائف ؟؟؟ ......)
دق قلبها عدة مرات ... و رفعت اصبعها الى فمه تعضه بتوتر ... ثم قالت محاولة الكلام ببساطة و هي تهز كتفها بلامبالاة
( أممممممم عمي مثلا .... لقد طلب مني ذات يومٍ أن أناديه بعمي ....)
كتمت ابتسامة خجل خبيثة و هي تسمع صوت سيف يجلجل ضاحكا بصوتٍ عالٍ أشعل وجهها احمرارا ... و كأنه لم يضحك منذ زمن ... ثم لم يلبث أن قال أخيرا
( والله أفضل جزاء له أن تنفذي طلبه و تناديه بما طلبه ..... و كم أتوق لرؤية ملامحه حينها ..)
عادت لتعض زاوية شفتها السفلى دون أن تفقد ابتسامتها الخجولة و هي تطرق بوجهها ... تشعر بأن سيف يعلم ما لا تعرفه .... و يلاعبها به .....
لكن هذا أشعرها بسعادة مجهولة خفية ............
قال سيف أخيرا بعد فترة .... بخشونة زائفة
( أنا يجب أن أغلق الخط الآن .... لا تسمحي لرائف بإطالة الوقت أثناء وضعه الحليب في الثلاجة .... كوني رجلا محل ثقة ..... )
مزاحه يهلكها و يجعل صدرها يفكر في احتمالاتٍ عدة ... فليس من عادة سيف التفوه بالحماقات دون سبب ....
أغلقت الهاتف و هي تنهض من مكانها مبتسمة ... تدور قليلا مدندنة بلحن صندوق الموسيقى الذي بات محفوظا لأنيها كإسمها تماما .....
الى أن قابلت صورتها في المرآة .... فتوقفت عندها عدة لحظات
كانت هي بنفس ملامحها ... الا أن نظرة ادراك جدت عليها جعلت منها امرأة .... و هذا هو ما تشعر به مؤخرا
أنها امرأة ... بكل مشاعرها من ألم ... وجع ... صدمة تلقتها .... ثم سعادة تنبعث من كل هذا فتجعل منها أهدأ و اكثر نضجا و خبرة ....
ابتسمت ببطىء لهذا الوهج الجديد الذي لون وجهها قليلا .. و همست بداخلها برهبة و هي تتلاعب بطرف ضفيرتها
" سأتجاوز ما حدث لي ...... لقد بدأت بالفعل ..... سأتجاوزه .... فقد وجدت الابتسامة طريقها الى فمي ... و كنت قد أقسمت ذات يوم أنها لن تفعل أبدا ........ "
خرجت من البيت تتهادى ببطىء ... فوجدت " سيد " يسرع اليها ليقول بلهجته الصعيدية المميزة
( تحت أمرك يا سيدة ملك .... أتحتاجين شيئ ما ؟! .... )
علمت مؤخرا أنه يصدق بأنها زوجة رائف !! ....
لكن ما جعلها تشعر بالرهبة , هو أن رائف لم يبادر بتصحيح فهمه ...
و تركه على ظنه بأنه يسعى لتصحيح الحياة بينهما قبل أن تبدأ .... خاصة و هي ترى النظرات المشفقة التي يشيعه بها سيد كلما غادر كل ليلة .....
ابتسمت قليلا و هي تكتف ذراعيها ... ثم قالت بخفوت
( ألم يصل السيد رائف بعد يا سيد ؟؟! ...... )
قال سيد بحذر
( لم يصل بعد يا سيدتي ... و الا لكان دخل اليك مباشرة .... خاصة بعد أن منعته من شرب الأرجيلة .... )
ابتسمت بخجل شارد رغم عنها ....
اذن فقد نفذ طلبها ..... رفعت وجهها و هي تقول برقة عاتبة قبل أن تدخل للبيت تعاود الانتظار البطيء
( حاول أن تمتنع عنها أنت أيضا يا سيد ....... صحتك .... )
حك رأسه وهو يراها تدخل و تغلق الباب خلفها .... قائلا لنفسه
( والله لو كانت أم الأولاد تنطق بكلمة صحتك بهذه الطريقة ..... لكنت سقطت صريعا , ... لك الله يا سيد رائف ...... المسكين يحارب العمر و الأحزان أمام تلك العروس الصغيرة .... )
بينما بقت ملك مستلقية على بطنها فوق الأريكة ... تؤرجح ساقيها بقنوط و هي تضيف بعضا من صورها التي عرضت في المعرض الى موقع التواصل ...
مضت فترة طويلة منذ أن تواصلت مع أصدقائها .... و الآن تشعر بسعادة رقيقة و هي تعود لحياتها التي رسمتها كحلم بسيط ....
لا ينقصه سوى أن يعود رائف الآن ..... فقد نست الوحدة بوجوده ......
سمعت صوت جرس الباب بعد عدة ساعات طويلة .... فقفزت واقفة , لتجري الى الباب و فتحته بسرعة و هي تلهث ....
وقف أمامها بملامح صارمة وهو يمط شفتيه قائلا بجفاء
( دون حتى سؤال "من بالباب" !! .... و أظن أنكِ لم تتكرمي أيضا بالنظر من عين الباب !!.... )
قالت بثقة و هي ترفع ذقنها علها تجاري طوله الفارع ِ
( لو كنت شخصا غريبا .. لما سمح لك سيد بالمرور الا على جثته كما أوصيته .... )
رفع احدى حاجبيه وهو يقول بنفس الجفاء
( و مع ذلك طلبت منكِ الحذر ....... )
قالت برقة و هي تتمسك بالباب لتقول بعتب
( لو كنت أتيت بموعدك لما فتحت الباب بلهفة عند تأخيرك ....... )
اضائت عيناه بوهجٍ مفاجىء.... الا أنه تمكن من السيطرة على نفسه وهو يقول بهدوء
( هل هذا تحقيق ؟!! ........ )
قالت و هي لا تزال متمسكة بالباب ... واقفة خلفه تنظر أرضا بعتاب
( اعتبره كذلك .............. )
مد يده يمسك بحافة الباب ليوقفها عن أرجحته .... فرفعت وجهها اليه , و كالعادة ثبتتها عيناه طويلا ... قبل أن يقول
( اذن هلا منحتني الفرصة كي أدافع عن نفسي ..... )
ابتسمت في الخفاء و هي تطرق برأسها قبل أن تفسح له مجالا كي يمر .... و ما أن دخل أمامها حتى تبعته و قالت بعتبٍ ظاهر رغم عنها
( لماذا تأخرت يا رائف ؟!! ........ ظننتك لن تأتي اليوم ... )
استدار اليها وهو يفحص ملامحها مليا باهتمام ... قبل أن يقول بحذر
( نويت الا آتي اليوم بالفعل ........ )
رفعت وجها متفاجئا باهتا اليه ..... و قالت بصدمة
( لماذا ؟؟.......... هل ضايقتك بشيء ؟!! .... )
شعر بأحشائه تتلوى وهو يسمع تلك الرقة الخالصة ... تكاد أن تذيب المتبقي من سيطرته على قواه .. و جمود السنوات ....
أيملك رجلا عاقلا القوة كي يشعر فتاة مثلها بالصدمة و العتب ؟!! .....
فقال بخفوت
( وجدت أنني آتي الى هنا كل يوم ..... و لم أمنحك الوقت الكافي للتعافي بهدوء و دون صخب ... )
شعرت بأنه يتكلم بلغة غريبة ... فكانت تستمع اليه بملامح بليدة ... قبل أن تقول أخيرا
( و هل تنوي تركي للتعافي وحدي ؟!! ...... متى أخذت هذا القرار الظالم ؟!! .... )
اتسعت عيناه قليلا .. و تسمر مكانه ... ثم قال بصوتٍ غريب مكررا
( ظالم ؟!! ......... )
كانت تقترب منه ببطىء ... لكن بتصميم ... و عيناها على عينيه بإصرر لتقول بهدوء خافت ..
( بالطبع ظالم ....... تعرف أنني أحتاجك .... )
أخذ نفسا طويلا ... غير ثابت , و مع ذلك جعل صدره يتضخم .... لكنه تمكن من القول بجدية خافتة
( و أنا سأكون دائما حولك ........ )
لم تتوقف عن اقترابها .. و لم تخفض عينيها ... و قالت بجدية
( لا أريدك حولي ...... أريدك معي ....... )
اتخذ الخطوة المباشرة لأول مرة وهو يسألها بقوة
( لماذا ؟؟ ......... )
كانت قد وصلت اليه ..... فرفعت رأسها تنظر اليه دون أن تجفل .. ثم قالت بخفوت
( أخبرتك ..... لأنني أحتاجك ....... )
التقت أعينهما في حوار طويل ...... كان هو أول من قطعه وهو يخفض عيناه بعيدا عن عينيها .... لكنها تمكنت من رؤية استراحة زاويتي شفتيه المشدودتين لتتحول تلك الاستراحة الى ابتسامة هادئة .... قبل أن يقول بهدوء
( جيد اذن ...... ربحت بمسابقة أفضل جواب , لذا تستحقين الرواية التي طلبتِ ...... )
انحنى ليخرج الرواية من احدى الأكياس التي كان يحملها ....
بينما هتفت جذلة و هي تهجم عليه ...
( وجدتها ؟!!...... وجدتها ؟!! ......... )
حاولت خطفها منه ... الا أنه رفع ذراعه بعيدا عنها وهو يضحك قائلا بصوته الوقور الهادىء ...
( ليس قبل أن تكرريها .................. )
عبست وهي تقول محاولة الألتفاف من حوله الا أنه كان اسرع منها كل مرة ...
( ما الذي أكرره ؟!! ........ )
قال مشددا بقوة
( احتاجك يا رائف ....... هيا قوليها .... )
عبست أكثر و هي تقول مادة كلتا ذراعيها ي تخطفها دون جدوى
( لقد قلتها قبل حتى أن تطلبها ........ هات الرواية )
ضحك قائلا وهو يدور و هي حوله ....
( و مع ذلك .... طعمها أجمل و هي مثبتة بالفعل و الدليل ..... هيا قوليها .... )
كانت تضحك و كأنها تجري و الأرانب تطاردها بحديقةٍ على مدد البصر ... لا تنتهي .....
فقالت هاتفة من قلبها
( أحتاجك يا رائف ....... تعرف أنني أحتاجك ....... )
تعثرت و هي تدور من حوله , فسارع ليلف ذراعه حول خصرها .. فاستندت الى صدره ...
حينها انتهى الجنون و الضحك ... ليحل محلهما جنون آخر ... اشعل بنفسيهما مشاعر هوجاء , ظهر بريقها في مقلتيهما وهو ينظر اليها .. و تنظر اليه مبهورة ...
حينها خرج اسمها من بين شفتيه همسا .... حفيف أوراق الخريف ....
( ملك ....... جميلة أنتِ ..... )
فغرت شفتيها المرتجفتين و هي تبتسم ابتسامة ضمت الكثير ....و الكثير ..... قفالت بجرأة لم تزيد كثيرا عن الهمس
( كلما أعدتها ..... شعرت أنني جميلة بالفعل ...... )
شعرت بصدره يضربها بشدة .... ذلك الحائط العملاق يضخ دمه الى أضلعها بهدير أثار الرجفة بها ....
فسارع لإبعاد ذراعه عنها .... لتنزل عن خصرها ببطىء شديد... و كأنها ترفض تنفيذ أوامر العقل ...
فتنهد بقوة وهو يرفع ذراعه الأخرى قائلا باحباط خفي ....
( الآن تستحقينها بجدارة ........ خذيها )
كانت قد نست الرواية تماما .... وحين رأتها في يده الممدودة اليها , حاولت بذهنٍ مشتت تذكر بداية الخلاف
الى أن أبعدت كفيها عن صدره ببطىء ... لتكتشف أن أصابعها ترتجف بشدة ...
فأخذت منه الرواية تنظر اليها بذهن ضائع ... بينما استدار هو عنها واضعا يداه بخصره ...
فراقبت ظهره العريض .... وهو يحاول استعادة رباطة جأشه .....
نظرت ملك الى غلاف الرواية اللامع و هي تتلمس غلافه .... و الذي كانت مرتسمة عليه صورة فتاة فاتحة ذراعيها للسماء و تكاد أن تحتضن الكون باتساعه ....
رفعت وجهها الى رائف ... تملأ عينيها من هيبة وجوده قليلا قبل أن تقول بخفوت مرتجف
( الشكر معك يفقد معناه ...... من كثرة تكراره ... )
قال بخفوت دون أن يستدير اليها ...
( اذن توقفي عن تكراره ........ )
ابتسمت و هي تعود لملامسة غلاف الرواية ... قبل أن تقول بصوت منخفض أكثر
( ربما يوما ما .. أتمكن من ايجاد كلمة جديدة تفي بالغرض ..... )
رفعت وجهها تنظر اليه مترقبة .... فرأته يرفع رأسه وهو يأخذ نفسا عميقا .... عاليا ....
فاخفضت وجهها مبتسمة بجنون !! ....... لم تظن نفسها يوما بمثل هذه القسوة .... لكنه يدفعها لذلك .....
قالت أخيرا بهدوء و براءة ... تؤرجح ساقها حول الأخرى
( اذن ...... لم تخبرني بالسبب الذي جعلك تعدل عن قرارك في الإبتعاد ...... )
استدار اليها ووجهه يعلوه العبوس و الغضب قائلا
( لم يكن قرارا بالإبتعاد !!!!! ...... لماذا لا تفهمين ما أحاول أن ..... )
لكنه فجأة صمت .... و اتسعت عيناه وهو يضرب جبهته بقبضة يده قائلا
( يا الهي ! ..... لقد نسيت تماما ...... )
قالت ملك بفضول
( ماذا نسيت ؟!!! ............ )
اتجه الى الباب بسرعة وهو يقول
( هناك شخص كان يتوق الى رؤيتك بشدة ... و أصر علي أن أصحبه اليكِ ... )
على الرغم من أنه رائف ....
لكن ما حدث لها من كريم لم يكن هينا ... لذا انتابتها رجفة مفاجئة .. لم تستغرق أكثر من عدة لحظات و الصور الغير محببة تترائى لها ...
و كانت تلك اللحظات كفيلة له كي يراها متسمرة مكانها بوجهٍ شاحب .....
فتوقف مكانه ... يعلو وجهه العبوس وهو ينظر الى ملامحها الخائفة ...
و بدلا من الإتجاه الى الباب سارع عائدا اليها .... ليمسك بكفها قائلا بقوةٍ كي يجعلها تفيق من رهبتها
( لا تخافي بهذا الشكل و أنت معي ..... مفهوم ؟!! ..... إنه أنا .... رائف ...ظننتك تثقين بي !! ... و أننا قد تخطينا هذه المرحلة !! ... . )
رمشت بعينيها و هي تهز رأسها قليلا ... ثم همست باعياء
( أنا آسفة ... لا أعلم لماذا خفت ........ أنا فقط .... )
صمتت و هي تشعر ببعض الدوار .... فشد على كفها يقول بقوةٍ خافتة ...
( أعلم ....... أعلم , أنت لا تزالين تعانين من ترصده لكِ ..... لكن أنا هنا و لن أسلمكِ له مجددا ... فهمتِ ؟؟ .... )
رفعت وجهها الشاحب اليه ... تنظر الى ملامحه الصارمة و تستمد القوة من كفه الحازمة الحنونة ...
فأومأت برأسها بصمت ... فقال بخفوت دون أن يبتسم
( تعالي ...... فقد تأخرنا عليه ..... )
جرها خلفه و هي مستسمة له .....
مندهشة من نفسها ... كيف يساورها القلق ولو للحظة واحدة وهو بقربها ؟!! .....
شيئ ما كان يخيفها اليوم ... على الرغم من أنها قد نبذت الخوف منذ فترةٍ بقسوة ....
لكنها اليوم و ربما بسبب تأخره عليها ... كانت تشعر بالخوف .... بالقلق .....
خرجت .... تلفح وجهها نسمات المغيب الناعمة ... و تذهب الدوار الذي انتابها للحظات ......
فأخذت نفسا عميقا ... محملا بعطر الياسمين المزروع في الحديقة الصغيرة أمام باب البيت .....
و ما أن فتحت عينيها .... حتى وجدت سيارته واقفة على بعد قليل .. فأمالت وجهها تتبين من يجلس في المقعد الخلفي .... حتى مال الى الأمام قليلا فظهر وجهه من نافذة السيارة .... و ابتسم لها ...
اتسع فم ملك في ابتسامة مفتوحة و هي تهتف بفرحة
( سيد عاطف ........... )
مدت يدها تلوح له بقوةٍ و سعادة .... فرفع يده يلوح بها دون حركة كالعظماء و النبلاء ... و ابتسامته التي يتغضن لها وجهه كانت تحمل سعادة وقورة مقابل سعادتها ...
سحبت ملك يدها من كف رائف و جرت في اتجاه السيارة .... بينما وقف هو مكانه ينظر اليها و هي تركض أمامه و ضفيرتها ترقص يمينا و يسارا ....
و روحه تهمس بصوتٍ لم يسمعه الا أذناه
" جميلة أنتِ !! ........ "
وصلت ملك الى السيارة ففتحت باب المقعد الخلفي دون اذن .... و انحنت اليه لتقول لاهثة بوجه متوهج
( سيد عاطف ....... تأخرت جدا بزيارتي ....... )
اتسعت ابتسامته أكثر و قال بصوته الجميل الوقور
( أخبروني أنكِ شاحبة مريضة .... تعانين صدمة تلو الأخرى , .... فلم أرغب برؤيتك بمثل هذا الضعف ... فانتظرت الفتاة التي أثارت اعجابي ذات يوم ...... )
اتسعت ابتسامة ملك بعمق و هي تنظر اليه برقة .... ثم قالت أخيرا بتأكيد
( و ها هي موجودة الآن ..... أحسنت الإنتظار يا سيد عاطف .... )
سمعت صوت رائف يقول من خلفها
( ربما لو سمحتِ لي بالمرور الى خالي .. لتمكنا من الدخول للبيت قبل حلول الظلام ... )
مالت بوجهها تنظر اليه خلفها تمط شفتيها قليلا ... بينما قال عاطف مبتسما
( أرى أنه لا يزال فظا معك كأول تعارفكما ..... جلف لا يعرف التعامل مع الورود .... )
عادت ملك بوجهها اليه و هي تفكر
" لو تعلم كم يمتلك هذا الجلف من حنان العالم كله !! .... " لكنها عوضا عن ذلك ابتسمت و همست بتآمر
( انه يتحسن ........... )
نظر عاطف من خلف كتفها الى رائف الذي كان يضيق من عينيه محاولا الإستماع الى ما يقولانه ...
لكنه نظر اليها بشك و هي تستقيم لتفسح له الطريق ... تبتسم له ابتسامة خلبت لبه ....
فتأوه بداخله وهو يهز رأسه يائسا ... قبل أن يذهب لإخراج الكرسي ... و يساعد خاله على الجلوس به ...
و ما أن دخلوا الى البيت ....
حتى نظر عاطف الى أرجاء المكان بصمت ... و شردت عيناه في البعيد ...
و على الرغم من أنه لم يفقد ابتسامته تماما .... الا أنه قال بصوتٍ شارد
( لقد تغير المكان عن آخر مرة رأيته بها ........ )
تسمرت ملك مكانها و توقف قلبها عن الخفقان .... تاه عن ذهنها أنه الآن ببيت ابنته ... زوجة رائف
في المحراب الذي يحمل صورها و ذكرياتهما ...
و ها هو والدها الآن ... يجلس شاردا ... محاولا إيجاد أي من آثارها القديمة .....
رفعت يدها الى صدرها و عيناها تتوسعان الما ... قبل أن تطيران الى رائف تسأله العون ...
لكن رائف لم يكن ينظر اليها .... بل كان رائف ينظر الي خاله عابس الوجه ....
بعينين حزينتين .... بعيدتين عنها ..... و كأن المحيطات قد اجتمعت كي تفصل بينهما في تلك اللحظة ...
فسقطت جالسة على الأريكة خلفها و هي تتنهد بصمت .... مطرقة بوجهها .... و كم شعرت بنفسها دخيلة في تلك الحظة ...
لكن عاطف كان أول من تكلم مبددا الصمت الحزين المخيم على ثلاثتهم ... فقال مبتسما ابتسامة وقورة ... لم تخدعها و تخلو من الحزن ..
( اذن يا فتاة الورود .... أنسيتِ أن دورا بيننا لم ينتهي ؟!! ..... مضت أشهرا و أنا غير مرتاح , أتطلع شوقا لإنهائه .... )
رفعت وجهها الشاحب اليه ... ثم قالت بخفوت
( الشطرنج ليس هنا !! ......... )
نظر اليها مبتسما .. ثم قال
( بل هو في السيارة ..... و رائف يحفظ ترتيبه تماما .... جعلته يحفظه كاسمه ... )
اتسعت عيناها بدهشة و هي تنظر الى رائف .... فوجدته يقف بنهاية الغرفة يتطلع اليهما بصمت و يداه في جيبي بنطاله ....
و كم ذكرها بالمرة الأولى التي رأته بها في القصر .... حين كان واقفا خلفها , ينظر اليهما بنفس النظرة ..
مما جعلها تتسائل بلحظة جنون ... الم يتغير احساسه بها , ان كانت النظرة لم تتغير بعد كل تلك الفترة ؟!!
قال عاطف يخرجها من شرودها الحزين
( ما بالك يا ولد تقف هكذا كالعمود المكسور ....اذهب الى السيارة و هات الشطرنج و أعد رص قطعه ... )
كان يبدو و كأنه لا يريد تركهما .... ينظر اليهما عابسا , عاقدا حاجبيه مما أخاف ملك ... لكنه في النهاية تحرك ليخرج على مضض ...
جلست ملك مكانها متسعة العينين .... تتنفس بسرعة و قد تبددت سعادة اللقاء منذ لحظات ...
وجودها مع السيد عاطف .... في هذا المكان بالذات !! .... ماذا لو كلمها بشيء ؟!!
لكنها نهرت نفسها بغباء و هي تتسائل ..
" و هل هناك شيء من الأساس يا غبية كي يكلمك به ؟!! ...... "
وضعت يديها على ركبتيها بتوتر و نظرت اليهما .... و قلبها ينبض بعنف ....
فقال عاطف بهدوء
( تبدين أقوى يا فتاة الورود ....... )
رفعت وجهها بسرعة بعينين واسعتين .... لم تظن أن هذا هو ما سينطق به ....
فابتلعت ريقها و قالت تضحك بعصبية
( لو تدري ما حدث لي ...... لما ظننت ذلك يا سيد عاطف ..... لقد كُسِرت ....... )
ابتسم عاطف وهو يقول بهدوء
( كسرك صديق الطفولة يا صغيرة ...... )
مالت عيناها بحزنٍ و دهشة و همست
( الازلت تتذكر القصة يا سيد عاطف ؟!! ....... )
مال بوجهه وهو يقول بخفوت
( لو كنت نسيتها ... لما تذكرت العودة اليك يا فتاة الورد ..... )
أخفضت وجهها الحزين ... لكنه قال بصوتٍ قوي النبرة ..
( لكن اعلمي أنه لم يكسرك ..... بعض الورود ليس من السهل كسر ساقها بسهولة . و قطفها يكون بالدم ... )
ابتسمت له بحزن و رقة .... لكن حركة عند الباب جعلتها تلتفت لترى رائف قد عاد ووقف يستمع اليهما ...
لم يستغرق عدة ثوانٍ !! ......
ابتسمت رغما عنها , على ما يبدو أنه يود سماع ما يقوله عاطف لها ...
لكنه تحرك ليفتح الشطرنج الجميل ... و اخذ يرص قطعه .. بينما عيناها تلاحقه خلسة ... و ما أن انتهى حتى استقام ليقول بهدوء
( ها قد تحولت لصبي مقهى .... أرص اللعب و ربما تريدان شيئا لتشرباه ... )
قال عاطف دون أن يرفع وجهه اليه ... بل كان ينظر الى الشطرنج أمامه و قد بدأ في التفكير مباشرة ...
( قهوة سادة يا ولد ......... )
اتسعت عينا ملك و هي تنظر الى عاطف الذي جاء خصيصا كي يكمل الدور بالفعل ... و لم يهتم حتى بفتح بعض المواضيع للكلام أولا .... الهذه الدرجة هو وحيد ؟!! .... مثلما كانت !! .....
لكنها سارعت تنهض من مكانها و هي تقول برفض تام
( لا يصح أبدا .... أنا سأعد القهوة يا سيد عاطف .... ارجوك اجلس يا رائ.... يا سيد رائف .... )
التقت اعينهما بقوة و عنف حين تداركت نفسها و نطقت " سيد رائف " ...
كانت الإدانة واضحة عليهما ...... فارتبك قلبها بشدة , بينما ازداد عبوس رائف وهو يلاحظ تغيرها و ارتباكها ....
الا أن عاطف هتف بقوة
( اجلسي يا فتاة ....... من ألاعب أنا ؟!! ..... هو سيحضر القهوة ... )
ظلت واقفة مكانها لا تستطيع السماح بذلك .... الا أن رائف قال بهدوء
( اجلسي يا ملك ..... أنا أحفظ مكان كل شيء بالمطبخ .... فهو بيتي في النهاية ... )
استدار ليغادر ..... بينما وقفت ملك مكانها ... تنظر في أثره بصمت ... تراه يتحرك في بيته براحة ... و ربما كان يتحرك بين ذكرياته ....
ترى أكان يعانق زوجته خلال تحضيرها القهوة ؟!! ...
قاطع أفكارها المريضة صوت عاطف وهو يقول بصرامة
( اجلسي يا فتاة ....... لن يضل طريقه ... )
احمر وجهها بشدة و هي مرتعبة من أن يكون عاطف قد تمكن من قراءة أفكارها ....
فسارعت لتحضر كرسيا و تجلس في مقابلته ... و عقلها مشتت , .... تلاعب دورها .. و تبتسم له بتوتر .. بينما عيناها تختلسان النظر الى باب المطبخ ...
ترى أيقف بأحد زوايه وهو يبتسم لذكراها ... تضحك معه و تجري منه ؟!! ...
وصل أخيرا ... ليضع القهوة أمام خاله وهو ينحني اليه ليقول عابسا
( تفضل يا سيد عاطف ...... نعتذر عن التأخير ... )
قال عاطف بصرامة دون أن ينظر اليه
( اصمت يا ولد .. و جد لك زاوية لترتمي بها ...... أنت تعطل تفكيري .. )
ابتعد رائف ليجلس على الأريكة أمامها و عيناه عليها .... بينما هي تختلس النظر اليه ... عيناها تسرحان على شعراته الفضية.... , و كلما فعلت تصدمها عيناه القويتان ...
فأعادت وجهها لرقعة الشطرنج بسرعة و أحمر وجهها بدرجة أكبر ...
نظر رائف بجواره الى حاسوبها المفتوح على الأريكة .... كانت شاشته سوداء و مع ذلك ظل ينظر اليه طويلا قبل أن يقول بخفوت وهو ينظر الى ملك
( أتسمحين ؟؟........... )
رفعت وجهها اليه متفاجئة ... و نظرت الى طلبه بدهشة , بينما نطق لسانها دون الحاجة للتفكير
( بالطبع ....... تفضل ...... )
كان سؤاله يبدو كتحدي .... من يسمعه يظنه وقح ينقصه التهذيب و هو يسألها أن يفتح حاسوبها !!!
الا أنها تقبلت التحدي بتحدي أكبر منه ..
فهل كانت وقحة حين اطلقت يدها ببيته ؟!! .... و يوم انهارت لم تجد سوى ملابس زوجته لترتديها !!
الوقاحة ليس لها معنى بينهما ..... أو ربما ..... الحواجز هي التي ليس لها معنى بينهما ....
تابعت اللعب و هي لا تعتقه من نظراتها بين الحين و الآخر .... يشغلها الفضول بما ينظر اليه ...
تعلم أن كل ما تركته مفتوحا ... هو رواية عاطفية .... و موقع التواصل ....
اتسعت عيناها فجأة بذهول و هي تستقيم فاردة ظهرها ... الرواية العاطفية !!!!!!!
لقد تركتها مفتوحة على مشهد حميمي بين البطل و البطل !!!! .... حين قامت لفتح الباب جريا من لهفتها للقياه !!!
لم يكن ذنبها ... لم تكن تعرف بوجود هذا المشهد .... و لم تكن فضولية له تقسم بالله ....
لكن من حظها أنه طرق الباب في تلك اللحظة فنستها مفتوحة عليه .....
شعرت أنها تود الموت .... بل ستموت لو قرأ هذا المشهد ..... ستموت ...
أخذت ترقبه برعب و هي تتمنى لو قفزت الى الحاسوب لتغلقه و تختطفه منه بسرعة .....
مالت بوجهها و هي تتأمله بينما العرق يتفصد من جبهتها ...
فرأته يضيق من عينيه ... وهو يدقق النظر , ثم لم يلبث أن عقد حاجبيه ...
ليرتفعا مجددا فجأة بدهشة !!
ثم نظر اليها و هو لا يزال على حال الدهشة التي سرعان ما تحولت الى صرامة وهو يزم شفتيه
بينما هي تود لو دفنت نفسها تحت أول سيارة مسرعة في الطريق ....
فأخفضت وجهها الأحمر كلون الفراولة .... بينما قال عاطف بهدوء
( العبي يا فتاة الورد ...... أنا أنتظرك منذ دقائق ... )
لعبت دورها دون تركيز .... بينما هي تختلس النظر الي رائف وهو يحرك اصبعه ببطىء على لوحة الحاسوب
حسنا .... على الأقل ترك الرواية .. و تقسم أنها ستمسحها ما أن تضع يدها على هذا الحاسوب مجددا ...
لكن هذه المرة ... وجدت ملامحه تختلف ... و هو يعقد حاجبيه ... يقلب مرة بعد مرة ...
بتركيز غريب .. بينما عيناه مسحورتان بشرود ....
تجرأت ملك لتقول بخفوت و هي تنظر اليه بينما تحرك قطعة اللعب
( هل تنظر الى صوري ؟!! ....... )
رفع عينيه اليها بتعبير غير مقروء .... هل هو غاضب ؟!!
لا الغضب ليس الوصف المناسب .... بل كان تدقيقا مصدوما .... خائفا ....
انتظرت رده فلم يصلها ... مما أشعرها بالقلق , فقالت مجددا بخفوت
( انها صوري من المعرض ... تلك التي استخدمت كخلفية للعرض .... وضعتها على موقع التواصل .... )
كان لا يزال مصدوما قليلا .... عاقدا حاجبيه ... ثم قال أخيرا بخفوتٍ لا ينم عن تعبير
( أتذكرها ........ لكن لماذا وضعتها ؟!! ..... )
كان قلقها يتزايد من موقفه الغريب ... لكنها تصنعت البهجة و هي تقول
( ربما كانت البداية في عملٍ ما ..... فقد طلبني صاحب الطلبية الأخيرة مع وعد خصيصا كي أكون العارضة للمجموعة ...... )
ازداد انعقاد حاجبيه اكثر .... و زادت قتامة ملامحه ... و ساد صمت مشحون , قبل أن يقول بصوتٍ صلب
( و هل وافقتِ ؟!! ........ )
هزت كتفها بتوتر ... و قالت
( لم أرد بعد .............. )
قال بصوت خافت ... بعيد
( لكنك تفكرين في الأمر !! ............ )
عادت لتهز كتفها دون أن تجد ردا معينا .... بينما كانت تطلع اليه بقلق يفترسها , مما يخاف ؟!!!
حينها نطق عاطف قائلا بهدوء
( فتاة بجمالك ..... من أجمل منها لتعرض بضعة قطعٍ من الملابس , لا تضاهي سحرها .... فتشتريها النساء و كل منهن تظن أنها تشتري سحر الشقراء ذات الشعر المتطاير ........ )
عبس رائف وهو يقول بصرامة
( خالي .......... أنت تغازلها .... )
احمر وجه ملك و هي تحرك قطعتها دون تركيز , بينما قال عاطف بلا مبالاة
( و ماذا لو كنت أغازلها !! ....... ما دخلك أنت يا ولد ؟!! .... هل ستربيني ؟!! )
حرك قطعته ... ثم رفع وجهه الى ملك وهو يمد يده تحت ذقنها ليقول مبتسما لملامحها الجميلة
( من لا يقدر الجمال .... لا يستحق أن يراه , و أنت يا صغيرة .... نافستِ الورد جمالا ..... )
احمر وجه ملك بشدة و هي تضحك برقة خجولة .... بينما هتف رائف بغضب
( حسنا هذا يكفي ..... أن تزيدها يا خالي ..... )
ضحك عاطف وهو ينظر الى ملك ليقول بلهجةٍ غامضة ...
( يبدو أن قدرك يصر على أن يسرقك كل خالٍ من الآخر ...... )
ضحكت ملك و هي تحرك قطعتها دون تفكير .... لكنها سرعان ما لاحظت المعنى الخفي لما نطق به , فتوقفت ضحكتها بصدمة ...و نظرت الى رائف الذي كان عاقدا حاجبيه هو الآخر و قد التقط نفس المعنى المبطن ...
ارتجف صدرها و هي تنظر الى حزنه الذي لا ينتهي أبدا .... لو فقط يطلعها على بعضا من أفكاره الشاردة !!
قال عاطف وهو يحرك قطعته الأخيرة
( مات الملك .........أخيرا و بعد أشهر .... . )
نظرت ملك مصدومة الى الحركة السهلة التي تحركها .... فقال بهدوء وهو ينظر اليها مبتسما
( لقد شتتِ عن الطريق ..... و ضاع تركيزك ..... )
همست ملك و هي تنظر الى الرقعة بحزن
( هذه أول مرة تحدث لي ........... )
رد عليها عاطف ليقول مبتسما و عيناه تنظران الى رائف
( ربما كان عامل التشتيت أقوى من أي مرة سابقة ......... )
كانت ملامحها حزينة و هي لا تعلم ما ارتكبت من ذنب .... بينما انتفضت على صوت أغلاق الحاسوب بقوة
وهو شارد الفكر و التركيز .....
فقالت بحزن .... و هي تنهض واقفة
( سأعد لكما مشروبا آخر .......... )
ابتعدت تحت عيني رائف الذي أخذ يراقبها صامتا .... لكنه و ما أن ابعد عينيه , حتى وجد عيني خاله تترصدان له كالصقر ..... فأخفض وجهه بصمت المذنب ...
حينها قال عاطف بصوته الهادىء
( أرفع رأسك يا ولد و انظر الي ......... )
رفع رائف وجهه اليه صامتا .... فقال عاطف وهو يتراجع في مقعده
( الى متى تظن نفسك قادرا على التظاهر بغير ما تشعر أمامي ؟!! ....... )
نظر رائف اليه بشعورٍ بالذنب ... الا أنه لم يملك القدرة على الإنكار .... فتابع عاطف بهدوء
( أنا من ربيتك يا ولد ...... أعرفك كما أعرف نفسي .... و كما كنت أعرف ابنتي .... )
أظلمت عينا رائف ... لكنه لم يستطع الرد , الألم كان أقوى منه ... فتابع عاطف وهو يتنهد ناظرا الى السقف متراجعا بكرسيه ..
( منذ سنوات .... حين توهمت بأنني أعرف ابنتي حق المعرفة و أنني أعرف الأصلح لها .... لم أكن أعلم أن الحياة قصيرة بهذا الشكل .... الكانت حياتها بالنسبة لي طريق طويل ممتد ... لا ارى نهايته .....
لم أضع ببالي أن أدفنها بيدي و أبكيها , بدلا من أن تبكيني هي .....
فسلمتها لك و أنا أعرف أنني سلمتها لليد التي سترعاها و تحميها ..... )
أعاد نظره الى رائف الذي كانت عيناه مظلمة بشدة ... و ملامحه تحفر نقوش الوجع , فتابع عاطف بثقة خافتة
( و حتى هذه اللحظة ..... لا يساورني الندم على قراري , و كأن قلبي كان يستشعر قرب النهاية و يرفض الاعتراف بها ... فأبى الا أن تموت تبين ذراعيك , تحت سقف بيتك ....
ربما الآن يتآكلني الألم لأنها كانت تتمنى شيئا و لم أسعى لتحقيقه لها كحياتها كلها ... لن الندم ليس من ضمن ما أشعر به ........ لم يكن ليحتملها غيرك .... أنت كنت الأقرب لها مهما أنكرت و أدعت حبا آخرا .... )
التوى حلق رائف بألم حاد ... بينما ارتجفت أصابع كفيه و هي تتشابك ...
لكن عاطف قال بعد فترة صمت طويلة
( لكن مع ذلك ..... و العجيب في الأمر و بعكسك .... فإن الندم ينتابني تجاهك ..... السنوات مرت سريعا , و هذا الشعر الأبيض تآمر مع الزمن ... فظهر أسرع من المعتاد , ليحملني ذنب رؤيتك تعيش حزنك من بعدها .... )
أخذر رائف نفسا مرتجفا .... عميقا .... وهو يرفع رأسه ناظرا لأعلى بينما الكلام ضل الطريق الى شفتيه , فقال عاطف بهدوء
( الى أن دخلت تلك الصغيرة حياتك ......... )
انتفض رائف ينظر اليه عاقدا حاجبيه .... فابتسم خاله متابعا ....
( لم أرى انبعاث الحياة و الغضب و شعلة الجنون بعينيك الا بظهورها ..... و كأنني أرى ابني الذي ربيته و عرفته يعود ليتنفس من جديد ..... و ربما لو لم يحدث لها ما حدث لما انتبهت لها مهما بل جمالها , بما انك أغلقت على نفسك جرة قديمة يعلوها الغبار ......
و كأن القدر أرسلها طالبة الحماية منك .... كي تشعر بأنك على قيد الحياة , و بأن توازنك الصارم اختل لوجودها ...... )
صمت عاطف وهو يطرق برأسه .... فقال رائف باختناق
( خالي ...... أنا ........)
رفع خاله يده كي يوقفه عن الكلام , و قال هو بصوت منخفض
( دع المتبقي من الحزن لي ...... لكن امنحني بعض الأمل و أنا أرى شعرك الأبيض هذا , ترافقه بعض السعادة أخيرا ....لا تدع المتبقي من سنوات عمرك تمر هباءا , و لا تخجل من الفرح أمامي ..... فما أشد احتياجي لرؤيتك تعيشه ...... )

كانت ملك واقفة مكانها في المطبخ ساهمة .... تحاول سماع ما يتهامسان به ... لكنها لم تستطع , و على الرغم من ذلك , كانت متأكدة بأنها سمعت ما يخصها .,......
تنهدت بتعب و هي تعود لوضع الأكواب على الصينية و كان الليل قد أرخى ستائره و حل الظلام في الخارج ......
لكن فجأة ...... سمعت صوت رنين الجرس !!! ....
رفعت وجهها ببطىء و تسمرت مكانها ..... و بدت ملامحها شاحبة حد الموت ....
من كان ليدق الجرس غير رائف ؟!! ..... حتى سيد لم يفعلها يوما !!! ......
و كأن الإدراك قد وجد طريقه اليها دون أي نسبة للخطأ ....
فشهقت عاليا و جرت الى خارج المطبخ ..... لكنها تسمرت و هي ترى رائف واقفا أمام الباب الذي فتحه للتو ...
و من ملامحه الجامدة و عينيه المتوحشتين .... عرفت هوية الطارق !!! ...
و كانت تعرف أنه كان قد بلغ من الجنون ما سيجعله هذه المرة إما قاتلا أو مقتولا ....
و كأنما تتوقع ما سيحدث .... هتفت بنشيج مرتعب
( رااااائف !!! ......... )
فالتفت وجهه اليها بعنف وهو يهدر بصرامة
( ابقي مكانك يا ملك .........لا تتحركي ... . )
ثم رأته يتراجع بظهره ببطىء .... قبل أن تتسع عيناها بذعر و هي ترى فوهة مسدس .. تدخل من الباب مصوبة الى رأسه .... يتبعها كريم الذي كان ممسكا به !! ...
منظره غريب ... مخيف ... طويل اللحية ... أحمر العينين و تحتهما هالات تزيدهما جنونا !! ....
صرخت بجنون من شدة الرعب
( شادي ..... ماذا تفعل ؟!!!! ..... هل جننت ؟!! ..... )
لم يحاول حتى النظر اليها كي لا تشتت انتباهه ... الا انه كان يبتسم بشراسة و لمعان الجنون ... فقال من بين أسنانه بصوت يثير الرجفة في الأوصال
( آآآآآه .... ما أجمل سماع صوتك بعد فراقٍ.. مليكة )
هدر صوت رائف يقول
( تراجعي يا ملك ...... تراجعي و لا تقتربي ..... )
ضحك كريم عاليا .... ثم قال بصوت كالفحيح
( الازلت تأمر و تنهي يا خالي العزيز ؟!! ........ ربما لم تدرك حتى الآن معنى أن تكون ملك زوجتي .... لكن دعنا نضع حدا أخيرا الآن لهذا الموضوع الذي طال أمره أكثر من اللازم ..... .. )
صمت قليلا و عيناه تلمعان .. وهو ينظر الى رائف و خاله ... متحاشيا النظر الى ملك كي لا يفتنه سحرها ...
ثم قال بلهجة انتصار واضحة
( أيام طويلة و أنا أنتظر مجيئك الى المكان الذي تخفيه عن الجميع ... و أنت تخادعني بمهارة ... الى أن نسيت حذرك اليوم و أنت تصطحب خالك ...... )
ضحك عاليا .. ثم رفع يده الحرة ملوحا الى عاطف الذي كان ينظر اليه صامتا .. عاقدا حاجبيه ... بينما قال كريم بمرح مجنون
( مرحبا جدي !! ........ سعدت بلقائك مجددا , و لو أنني كنت أن يكون اللقاء في ظروفٍ أفضل من هذه ...... )
اقتربت ملك خطوة و هي ترتجف بشدة من شدة الذعر ... و لم تدري أن دموعها كانت تنهمر على وجهها بغزارة ... لكنها قالت بتوسل مرتجف
( شادي ..... اسمعني فقط , أرجوك ..... قبل أن تفعل شيئا تندم عليه ..... )
ضحك عاليا دون أن ينظر اليها ... بينما هو يصوب المسدس المرتجف في يده الى وجه رائف ...
ثم قال بصوت مهتز .. مذبذب
( الندم هو ما شعرت به حين تركتك تفلتين من بين يدي .... مليكتي ..... )
قال رائف ببطىء شديد و عيناه مسمرتان على عيني كريم الحمراوين
( ملك ...... تراجعي ..... الآن ..... )
الا أن ملك لم تستمع الى أوامر رائف كعادتها هذه المرة .... بل اقتربت خطوة أخرى ... و قالت تتوسل برقة و هي تتمكن من الإبتسام
( أرجوك يا شادي ..... اخفض هذا المسدس .... انت ترعبني .... أرجوك , أتحب ارعابي ؟!! .... )
أخذ نفسا مرتجفا .... قبل أن يقول بصوت منخفض وهو لا يزال يتحاشى النظر اليها
( لم تتركي لي الخيار يا مليكة .......... تعالي خلفي , و احذري أي خطوة متهورة ... فالرصاصة حينها ستزين وجه خالي الحبيب ..... )
حينها اندفع اليه رائف وهو يهدر بقوةٍ زلزلت جدران البيت
( على جثتي .......... )
و كل ما تمكن كريم من قوله حينها بصوتٍ يشتعل رغم خفوته
( لم تترك لي خيارا اذن ........ )
و دون قول المزيد .... صوب المسدس الى قدم رائف و اطلق رصاصة أصابتها مباشرة ...
امتزجت صرخة رائف مع صراخ ملك المجنون و هي تراه يسقط على ركبته أرضا ... و الدماء تغطي البساط من تحته ....
فنبذت الخوف و جرت اليه .... تجثو بجواره و هي تتمسك به بعنفٍ و هي تصرخ منتحبة بجنون
( ياللهي !! ...... رااااائف .... )
كان كريم لا يزال ممسكا بالمسدس و قد تحولت ملامحه الى شيطانية بشعة ... وهو يقول بلهجة مخيفة
( تعالي خلفي حالا يا مليكة .... أو ستكون الرصاصة التالية بصدره .... )
نظرت ملك اليه بعنف و عيناها الحمراوان المنتفختان .. تتسعان ذعرا ...
لكنها قالت بلهجة بطيئة ... و هي تومىء برأسها
( سآتي معك ...... سآتي معك ... فقط لا تتهور , أنا زوجتك حبيبي ... )
نطقت الكلمة الأخيرة و هي تنشج بنحيبٍ متوسل منهار .....
حاولت النهوض من مكانها ... الا أن قبضة من حديد أطبقت على ذراعها و صوت رائف يقول لاهثا بلهجة مخيفة
( اذن اتبعها برصاصة بصدري أولا .... لأنها لن تتحرك من هنا و أنا حي .... )
هز كريم كتفه وهو يقول ببرود جليدي و كأنه انسان ميت
( كما تريد ......... )
الا أن ملك صرخت وهي ترمي نفسها على صدر رائف بعنف كاد أن يسقطه أرضا .. و هي تتعلق بعنقه بجنون
( لاااااا .... لاااااا يا كريم أرجوووك ...... أنا آسفة ... أرجوووك أنا آسفة ... )
حاول رائف ابعاد ذراعيها بقوةٍ عن عنقه وهو يصرخ
( ابتعدي يا ملك ..... تعالي خلفي .... )
الا أنها كانت في حالةٍ هيستيرية و هي متعلقة بعنقه كفكي كماشة .... و كريم يصرخ عاليا من خلفها
( ابتعدي عنه أو أطلق الرصاص على رأسه ..... لم أتعلم التصويب هباءا مليكااااا ... )
لف رائف ذراعه حولها ... و مال بوجهه اليها حتى لامست شفتاه صدغها وهو يهمس بكل ما أوتي من رفق
( اهدئي ..... اهدئي و تعالي خلفي .... لن يحدث شيء ... فقط تعالي خلفي .... )
كانت كالمجنونة و هي تصرخ و تهذي مغمضة عينيها بشدة ... ترفض ترك عنقه و كأنه قشة النجاة بالنسبة لها ...
فهدر كريم كالمجنون صارخا
( مليكااااااااااااا ....... )
لكن رائف نهض على ساقه السليمة وهو يكاد يحمل ملك معه بذراعه التي تحيط بخصرها ...
ليدفعها بقوةٍ كي تسقط أرضا بعيدا .... بينما اندفع الى كريم و أمسك بالمسدس قبل أن يتمكن من اطلاق رصاصته و رفع ذراعه عاليا ... و كان الشباك بينهما عنيفا وهما يتصراعان ...
و قال رائف من بين أسنانه ووجهه قريب من وجه كريم ..
( أرجووووك تعقل ..... لا أريد أذيتك .... أرجووووك يا كريم ..... )
لكن كريم بدا في حالة غير طبيعية ... وهو يطلق رصاصة استقرت في السقف ... فصرخت ملك بجنون و هي تطبق يديها على أذنيها .... لا تسمع سوى عبارة واحدة
" رائف سيموت ..... رائف سيموت ..... "
لكن صوت ضربة أخرى .... كان الأقوى ... فشهقت ملك و هي تحاول استيعاب وجود سيد من خلفه و الذي ضرب رأس كريم بعصاه الخشبية الضخمة ....
تركه رائف أخيرا ... فترنح و سيل من الدماء تنساب على وجهه و بين عينيه ....
مما جعل ملك تصرخ عاليا و هي تغطي عينيها بيديها .... بينما هتف رائف لاهثا
( لماذا تأخرت ؟!! ......... )
قال سيد
( كنت خلف البيت .... أثناء تواجدكم , فلم يفطن لوجودي ..... )
ترنح كريم .. الى أن سقط على ركبتيه وهو ينظر الى ملك التي أخذت تتراجع زحفا الى أن التصقت بالحائط و هي تضم ركبتيها الى صدرها .... تنشج برعب و هي تنظر الى الدماء التي غطت وجهه ...
فهمس وهو يمد لها يده قائلا
( مليكاااااا .......... )
كانت ترتجف بشدة .... تنظر الى يده المفرودة اليها , فتنكمش أكثر ملتصقة بالحائط و هي تنتحب بعنف ...
قبل أن يتحرك رائف اليها وهو يعرج متأوها بصعوبة ... فانحنى اليها ليضم خصرها بذراعه يرفعها عن الأرض و يحاوطها بذراعه الأخرى ليضمها الى صدره بقوةٍ وهو يغمض عينيه ...
حينها زاغت نظرات كريم الى أعلى ... قبل أن يسقط أرضا على وجهه ......
هدر عاطف بقوة
( اطلب الإسعاف يا سيد ..... كلاهما يحتاج الى للمشفى ..... )
أسرع سيد يجري خارج البيت ... كي يطلب الإسعاف , بينما كانت ملك تنظر من بين كتف رائف الى كريم الواقع على الأرض و الدماء تنزف من رأسه .....
أسنانها تصطك بشدة ... و شفتيها ترتجفان .... و جسدها ينتفض بعنف , بينما رائف يتحرك بها بصعوبة وهو يغمض عينيه من شدة الألم الى أن ارتمى بها جالسا على أحد الكراسي فسقطت على ركبتيه .....
و مرت عدة لحظات ... قبل أن ترفع وجهها عن صدره ... لتنظر الى وجهه .. بعينين منتفختين مترورمتين من احمرارهما ... و همست بصعوبة و هي تنتحب بشدة
( هل أنت بخير ؟!!! ...... أقسم أن أقتلك لو أصابك مكروها .... )
أرجع رأسه للخلف مغلقا عينيه شاعرا بدوارٍ عنيف ... لكنه ضحك مجهدا وهو يطبق بيده على مؤخرة رأسها كي يسحبها الى عنقه ... تدفن وجهها بتجويفه الدافىء وهو يهمس بتعب و ألم
( يبدو أن سني لا يحتمل الرصاص بالفعل ...... تكفيني الأرجيلة حاليا ... )
أزداد نحيبها بشدةٍ و هي تتعلق بعنقه ....و كأنها لا تصدق أنه لا يزال على قيد الحياة ....
كانت تعلم على فستانها بسرعة كي تسابق الزمن ....
حتى أنها فضلته على باقي عملها .... كونها أصبحت مصممة و صاحبة العمل ... مكنها هذا من الحصول على بعض الأفضلية في ترك ما بيدها لغيرها من الخياطات ...
و يمكنها ترك الخياطة من الأساس ... الا أنها تشكل لها هواية ... تذكرها حين كانت المهرب من جفاء الأيام التي مرت بها ....
الخياطة عندها لغة .... تتكلم بها حين تعجز عن إيجاد من يسمعها ...
أما الآن ... فهي في مهمة إنهاء فستانها ... كي تكون جاهزة ليلة الزفاف و في أبهى حلة ....
لذا تمكنت من سرقت احدى ماكينات الخياطة .... و نقلها الى شقتها .... كما سرقت احدى نماذج العرض كي تثبت القماش من حوله ...
ابتسمت و هي تعمل بحماس ... و شعرت و كأنها سيندريلا ... تعد فستانها استعدادا لحفل الأمير
حتى الآن لا يزال " علي " يناديها بلقب " سيندريلا " .....
حتى على الملأ و أمام باقي السيدات و الفتيات .... و هي تسمح له بذلك , " فعلي " بالذات له مكانة خاصة بقلبها ....
لكن اليوم بالفعل أول مرة تشعر بأنها سيندريلا أو أميرة و متجهة للقاء أميرها .....
رغم عنها كان يتنامى بداخلها شعورا جميلا كل يوم ... أكثر من اليوم الذي يسبقه ....
يوم طلاقها , ظنت أنها ستموت .....كان الألم أفظع من احتمالها , ...
لكن يوما بعد يوم ....بات شيئ آخر يحل محل الألم ... شيء يبدو صحيحا , و كأن كل شيء يعود الى موضعه الصحيح ....
العلاقة بينها و بين سيف تجعلها تشعر بأنها طالبة تقع في الحب من البداية ... بينهما تعارف جديد ...
و هي أهل له .... لا تشعر بالنقص أو التحقير من نفسها ....
حتى هو صار ألطف ... و اكثر احتراما لها ....
و هي غير غافلة عن انتهازه الفرص كي يراها ... أو يسمع صوتها .....
أو على الأقل يرسل لها رسالة موجزة ... ترد عليه , فيرد عليها .... و تتحول الرسائل الى محادثة طويلة و كل منهما مستلقي بفراشه .... الى أن يكتب لها أخيرا ..
" آسف لأنني أخذت من وقتك الكثير و أطلت سهرك ..... "
فتضع الهاتف تحت وسادتها و تستلقي مبتسمة ... تنظر الى السقف هامسة
" أحمق و لا يليق بك التهذيب ..... "
ترى هل قنعت بدور ابنة خاله ؟!!! ..... أم أنها تتطلع الى الرجوع ؟!! ...
رفعت وجهها الى المرآة المقابلة لها و هي تعمل على الفستان أمامها فوق نموذج العرض ....
فابتسمت مرتجفة .... تشعر بالألم ؟!!!
نعم لا يزال الألم موجودا .... لكنه أقل كآبة من يوم الطلاق ... بل تحول الى ألم آخر ...
ألم الشوق ..... تشتاق اليه و مع هذا بداخلها تلك السعادة تتنامى تدريجيا
نعم تحن الى أحضانه .... تشتاق الى قبلاته حد الظمأ ....
و لطالما كانت العلاقة الزوجية الحميمية بينهما مبهرة .... لكن على الرغم من ذلك اكتشفت أنها رغم عذوبتها فهي لا تشكل لها هذا القدر من الأهمية ...
فما ينمو بينها و بين سيف حاليا أكبر ... و أعمق .... ترى أيشعر بنفس الشعور مثلها ؟!! ...
و قبل أن تجد ردا على سؤالها ... سمعت صوت رنين الجرس ...
فعقدت حاجبيها و هي تتسائل من ذا الذي سيأتي لزيارتها الآن ؟!! .....
ذهبت الى الباب كي تفتحه .... ثم ارتفع حاجبيها و هي تقول بخفوت
( عمتي ؟!! ............ )
وقفت منيرة بالباب مبتسمة بحرج... بكل بهائها و جمالها الرقيق رغم تقدم العمر بها ....
ثم قالت بهدوء
( كيف حالك يا وعد ؟؟ ...... أيمكنني الدخول ؟!! ..... )
رمشت وعد بعينيها و هي تبتعد قائلة
( نعم ... نعم بالتأكيد .... تفضلي أرجوكِ ...... )
أغلقت الباب خلفها ثم استدارت اليها و مدت يدها تقول بخفوت ...
( تفضلي يا عمتي ....... إنها مفاجأة ..... )
جلست منيرة على أحد المقاعد الوثيرة بأناقة و هي تقول برقة
( آمل أن تكون مفاجأة سعيدة ........)
قالت وعد بسرعة
( بالطبع ...... طبعا ......)
الا أنها كانت تكذب و هي تعلم ذلك ... فعلى الرغم من أنهما تقريبا اتفقا على شبه مصالحةٍ هادئة قبل سفرها ...
الا أن وعد لا تزال تجفل من زياراتها المفاجئة ... بعد المرة التي اقتحمت عليها العمل كساعية ... و هددتها بأن تبتعد عن ابنها ... و بالغت في اهانتها لدرجة رميها ببعض النقود في وجهها ...
تعلم أنها ذات قلبٍ أسود كونها لا تزال تتذكر هذا الموقف ...
الا ان منظر عيني منيرة المحتقريتن و غضبها ... و خوفها الظاهر على سيف من أن تدنسه مثلا .. لا يذهب عن بالها أبدا ... و يحفر بداخلها جرحا عميقا ....
نظرت منيرة الى أرجاء الشقة الأنيقة ... و قالت بخفوت رقيق لا يخلو من التوتر و الحرج
( شقتك أنيقة جدا ..... و هي تشبهك الى حد كبير ...)
رفعت وعد حاجبيها و ابتسمت تفرك أصابعها الطويلة بتوتر .. قائلة بخفوت
( شكرا يا عمتي .... و لو أنني أشك بمسألة الشبه تلك ..... تمنيت أن تكون أكثر رقيا .... )
ضحكت مازحة ... الا أن منيرة قالت بهدوء
( بل هي تشبهك بذوقها ..... جذابة و بها بعض اللمحات الداكنة القوية ... لكن ذلك لا يلغي الأنوثة بها ...)
نظرت وعد اليها بتوجس رافعة حاجبيها... ثم لم تلبث أن ضحكت بتوتر و هي تقول
( شكرا لكِ يا عمتي ..... لا أظنني أستحق هذا المديح العميق .....)
أخذت منيرة نفسا متوترا ... قبل أن تقول بارتباك
( كيف حال ملك ..... أتيت على أملِ رؤيتها ..... )
لم ترد وعد .... بل ظلت تنظر الى عمتها طويلا بنظرةٍ فارغة .... بينما الغضب القديم يحاول التشعب بداخلها
لماذا تصر على اشعارها بأنها نكرة .... وضيعة ....
بعد كل الكره الذي رأته منها و من ورد ...... تأتي الآن خصيصا لتسأل عن ملك التي لم يزد تعارفهم بها عن بضعة أيام .....
نعم تشعر بالغيرة ..... غيرة سوداء غير محببة ...
لكنها تمكنت من القول بفتور مرغمة
( ملك بخير .... لكن ربما لا تعلمين أنها لا تقيم عندي حاليا .... إنها تسكن بمكان بعيد كي نبعدها عن زوجها الى أن يتم الطلاق ....)
قالت منيرة بألم
( آآه أعرف .... أخبرني سيف ...... مسكينة حبيبتي , ما عاشته ليس هينا .....)
عقدت وعد حاجبيها و هي تفكر ...
" طالما تعرف ... اذن لماذا هي هنا ؟!! ...."
نظرت منيرة حولها قليلا بتوتر .... ثم قالت أخيرا بخفوت
( زفاف مهرة خلال أيام ......... )
شعرت وعد بضربة قاسية ....
هل هذا سبب مجيئها ؟!! ....... هل جائت تطلب منها الا تحضر ؟!!! ....
ابتلعت وعد ريقها و هي تشعر بأنها لن تكون قادرة على تحمل هذه الإهانة .... ستكون أكبر من قدرتها هذه المرة ...
لكنها قالت بصوتٍ خافت مكتوم متردد
( نعم ...... أعرف ... مبارك لها عمتي .... لقد ..... لقد دعاني سيف ... )
و انتظرت الصفعة أن تأتيها .... الا أن منيرة قالت مندهشة
( حقا ؟!!! ...... لم يخبرني هذا الولد !! ....... )
ابتلعت وعد ريقها باختناق .... و هي تفكر ...
" و الفستان ؟!!! .... ماذا عن الفستان الذي قاربت على إنهائه ؟!! ..... هذا ليس عدلا .... "
رفعت منيرة وجهها لتقول مبتسمة بارتباك جعل وجهها يحمر بشدة
( اذن فقد سبقني هذا الولد ..... الحقيقة أنني كنت قد ..... أتيت كي أدعوكِ و خشيت أن ترفضي المجيء بسبب الظروف ..... ففي النهاية أنا عمتك ... و إن كان النصيب بينك و بين سيف قد انقطع .... فهذا لا يمنع أن نحاول .... ان ..... )
كان ارتباك منيرة يتزايد بشدة ... الى أن صمتت مطرقة بوجهها و هي تندم على مجيئها المحرج الى هنا ...
فقالت وعد برقة و هي تنظر الى رأسها المحني ....
( سآتي يا عمتي ...... لقد حضرت نفسي و سآتي ان شاء الله .... مبروك )
رفعت منيرة وجهها الى وعد بأمل .... ثم قالت
( حقا ؟!! ...... ظننتك ستردينني مكسورة الخاطر ... )
قالت وعد بخفوت
( و لماذا يا عمتي ؟!! ..... لقد أكلت ببيتكم ذات يوم و لهذا حق علي ...... )
كان وجه منيرة منخفضا طوال الوقت و هي متمسكة بحقيبتها ... لدرجة أشعرت وعد بالشفقة عليها ...
لكن منيرة قالت بخفوت
( هذا يجعلني .... يشجعني ... أطلب منكِ البدء ,بفتح صفحة جديدة ...... )
رفعت وجهها الى وعد تقول بخفوت
( ربما بعد زواج مهرة ... قد تتمكنين من زيارتي بين الحين و الآخر ... خاصة حين تتزوج ورد هي الأخرى ..... و أنا أعلم أنهما تسببتا في ايلامك ... لذا ربما بعد زواجهما تتمكنين من ... )
الا أنها صمتت .... و اطرقت بوجهها اكثر ... ثم قالت بخفوت
( أنا أيضا آلمتك ..... لكن أتمنى أن ....... )
كان كلامها مبعثرا ... محرجا ..... مما أشعر وعد بالإختناق ,و على الرغم من تأكدها بأن عمتها لم تقم بهذه الخطوة الا بعد اطمئنانها الى طلاقهما ... الا انها قالت بهدوء و تأكيد
( لا بأس يا عمتي .. لنبدأ من جديد ....... )
رفعت منيرة وجهها وهي تقول بأمل
( هل ستأتين لزيارتي بين الحين و الآخر ؟؟ ...... )
أومأت وعد و هي تقول بهدوء
( ان شاء الله ........ )
نهضت منيرة ... و حاولت وعد استبقائها الا أنها أصرت على المغادرة بلطف ... فقد كانت في حالة من الحرج أكثر من احتمالها ...
و حين خرجت من باب الشقة كانت تهمس لنفسها بحزن
" خدعت نفسي على الرغم من أنني ذقت نفس حب سيف من قبل .... فقد ورث قلب والده ... و أنا لن أسمح بأن يدمر قلبه بما يفعله الآن ....مثل سيف ووالده حين يدمر قلبه , قد يفقد نفسه الأخير .. ..و أنا لن أسمح بهذا .... لن أسمح ... "
.................................................. .................................................. ...................
وقف مستندا الى سيارته ... ينظر الى الليل المظلم ... لا تضيئه سوى بعض النجمات البعيدة ..
شرد بها قليلا ... قبل أن يتنهد بنفاذ صبر ليخرج هاتفه من جيبه و يكتب نص رسالة
" ليس معنى أنني صممت على اصطحابك معي أن تؤخريني !!! ... أنا شقيق العروس وولي أمرها الوحيد ... هلا تحليتِ ببعض الدم و نزلتِ من فضلك !! ... "
انزل هاتفه وهو يسمع صوت الليل ... يكاد نفاذ صبره أن يحرقه كي يراها ... لكن صوت رسالة وصلته فرفع هاتفه المضيء ليقرأها
" يمكنك أن تأخذ سيارتك و تذهب على فكرة !!!!!!!!! "
زم شفتيه قبل أن يكتب بعنف
" انزلي قبل أن أصعد اليكِ و أنزلك على صف أسنانك .... "
نظر الى باب الxxxx دون جدوى ... الى أن وصلته رسالة أخرى ... فقرأها
" هل هذا اسلوب يصلح لمعاملة آنسة محترمة مثلي ؟!ّّ!! ...... "
زفر بعمق وهو يضرب الهاتف كاتبا رسالة جدية
؛" آنسة !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!! ..........."
وصله الرد خلال لحظات
" احترم نفسك ........... علامات التعجب تلك قذرة المعنى .... "
اتصل بها أخيرا بغيظ ....
و انتظر الرنين الى أن سمع صوتها المبحوح و هي تقول
( أنت حقا أكثر مرافق عديم الذوق رأيته بحياتي ........ )
الا أن صوتها أثار به جيشان من الحنين ... فقال بهدوء آمر
( انزلي يا وعد ........ رجاءا ... )
أخذت نفسا عميقا ... قبل أن تقول برقة
( أرأيت !! .... الأدب فضلوه على العلم ..... أنا أمام المصعد , لحظات و سأكون عندك )
تنهد وهو يضع هاتفه بجيبه ... ثم أخرج علبه سجائره ليشعل واحدة منها بوجوم شارد ...
لكن و قبل أن يأخذ منها نفسا ... و بينما هي مشتعلة في فمه ... رآها تخرج من بوابة البناية !!!
فغر شفتيه قليلا ... فسقطت السيجارة من بين شفتيه فانتفض يبعدها بحذائها شاتما كي لا تثقب بنطاله ...
و ما أن سحقها بقدمه ... حتى رفع رأسه مجددا كي يتأكد مما يراه بعينيه ....
و هي تتقدم برشاقة كي تقترب منه .... ترتدي فستانا من الحرير الذهبي الشاحب ... محكم حول صدرها وحول ذراعيها ... دون أن يغفل عن إظهار استدارة كتفيها بوقاحة ...
بينما ينهمر كشلال من الأمواج الناعمة حول ساقيها بنعومة حتى الأرض ....
أما شعرها فكانت ترفعه في لفة أنيقة خلف رأسها .... جعلت شكلها يخلتف تماما ....
و و جهها يبرز جماله بزينته الذهبية التي شاركت الفستان لونه ....
بينما تراص صف من النجوم الذهبية الصغيرة حول لفة شعرها مما جعلها تتوهج ببريق سحره
و جعله يتسائل بذهول
• "هكذا تلمع النجمات ؟!! ....... من يجعل الأخر أجمل ؟!! .... أنت أم تلك النجوم الصغيرة التي تزين شعرك ؟!! .....
كان قماش الفستان من النعومة و الخفة بحيث كان يرفل متطايرا بجموح حول ساقيها و كأن الهواء يندفع بينهما و هي تقف على قمة جبل عال..........
مطرقة الرأس .... تتأكد من حقيبتها الصغيرة .... بينما يدها تملس فوق خصر الفستان فيبرز صدرها بهلاك الذكرى ......
خصلة شريدة أمام أذنها تتطاير فوق وجهها ... تتذوق طعم أحمر الشفاه الذهبي المسكر الذي تضعه .....
فتتركه واقفا يتمنى أن يكون محل خصلة شعر ....
يرتفع اصبعها الطويل لتعيد تهذيبها خلف أذنها ... و حينها رفعت وجهها اليه ....
و ابتسمت أجمل ابتسامة تجعل من ابتسامات النساء الأخريات مجرد تشنجا عضليا .....
والأدهى أن عينها الشتوية اختارت تلك اللحظة بالذات كي تغمز غمزتها الوراثية الوقحة و التي لا تملك سيطرة عليها .... و لا تعرف مدى سحرها ......
فهمس بداخله دون صوت
" تبا لغمزاتك تلك !...... لو أملك تدبيس جفنك كي لا يسحر غيري من الرجال لفعلت مسرورا ....."
وقفت أمامه أخيرا و هي تفتح ذراعيها لتقول برقة شجعتها نظرات وجهه الصارمة الجلفة ... و هي تعرف أنه تعبيرعن اعجابه ،،
(مساء الخير سيدي ...... كيف تراني ؟..... هل أليق بمرافقتك الليلة ؟........ )
ظل صامتا قليلا دون أن يبتسم .... الى أن أخذ نفسا عميقا قبل أن يقول بخفوت بعيد
( من أين لك بمثل هذا الجمال يا وعد ؟!!! ,........ )
" حسنا ..... هذا يوم مشهود في التاريخ ..... لقد نطق عبارة اعجاب حقيقية ينقصها سخريته المعتادة و قذائف لسانه الفظ ..... "
احمر و جهها بشدة و غباء ... لكنها رفضت الا أن تجيبه بطبعها السمج كي تستثير أعصابه عن عمد (يبدو أن الطلاق قد عاد علي بالصحة و التورد ...... )
مط شفتيه بامتعاض دون أن تغفل عن النظرة العميقة بعينيه و كأنها بكلمتها قد لمست شيئا في الصميم ......
فمدت قبضتها تدفع كتفه و هي تقول بعفوية
( أمزح ........ أمزح يا سيدي البائس ..... كانت مجرد عبارة أطمئنك فيها على صحتي قبل أن تبادر و تسألني السؤال المقرر في المنهج ...... أنا بخير يا سيف و لم أشعر بأي توعك مؤخرا ...... )
مد يده يقبض على قبضتها الصغيرة .... و استبقاها متكورة في كفه ... في سلام خاص بينهما ...
غير باقي السلام .... و قال بهدوء عميق
( تبدين رائعة ..... لدرجة تجعلني اخشى عليك من العيون الليلة ... ما بين معجبة و حاسدة ..... ) نظرت اليه و قلبها ينبض بعنف ..... هل يدرك فقط معنى ما نطق به للتو على الرغم من بساطته؟!!! ما بين معجبة و حاسدة !!!
أي أنه يغار عليها .... وبنفس الوقت يشعر بالزهو بها .....
هل يدرك ما يقوله أم أنه فقط يزيد من حسرة الفراق ؟!!! ......
و حين طال الجواب ..... تنهدت و هي تميل بوجهها لتقبض على يده بيده الأخرى هامسة بصدق (مبروك يا سيف ...... مبروك ....... أظن أن تلك الصغيرة هي الناجية الوحيدة من كل آلام الماضي .....)
ابتسم لها .... ولسان حاله يقول ...
" محظوظة هي اذن ..... ليتنا كنا من الناجين ...... "
جلست بجواره في السيارة .... تراقب السماء الداكنة و هي تشعر بقلبها ينبض كقلب فتاة صغيرة ....
وقاره الليلة يخطف الأنفاس .....
قال سيف بخفوت قاطعا الصمت بينهما
( كيف حال ملك ؟؟ .......... )
تنهدت وعد و هي تقول بأسى
(منذ الحادثة و هي تحاول التظاهر بالتماسك .... لكنها لا تخدعني لا تكف ليلا عن البكاء و تظنني لا أسمعها ..... لا أعلم ان كانت تشعر بالذنب لاصابة رائف ..... أم عادت الى حبها البائس و تبكي زوجها ..... )
قال سيف وهو يدير المقود بسلاسة .....
( لا أظنها تملك أي مشاعر ايجابية باقية تجاهه ... بعكس رائف... )
نظرت وعد اليه بطرف عينيها .... ثم قالت
( لماذا تحاول أيهامي أنها تكن مشاعر خاصة لرائف هذا ؟!...... انها مجرد ممتنة له ليس الا ..... و أنا أرى أنه من المستحيل أن تقترن بتلك العائلة المجنونة من جديد ... انهم عصابة يا سيف .....)
قال سيف بهدوء
( رائف ابن عائلة عريقة ... لا خلاف على نظافة سمعته ، فلما نحاسبه على ما فعله زوج شقيقته ؟!!... و أيضا ما فعله كريم خاصة ..... و أن ملك هي من كانت تعرفه أولا ...... )
قالت وعد بحدة
(و لما نجازف ؟!! ......... لم أتخيل أن يصل الأمر الى اطلاق رصاص و دم !!!.....
هل تتخيل حالتي يا سيف حين سمعت بالخبر ؟!!.........)
رد عليها بصوت مكتوم
( أتخيل تماما ........ )
أول ما اثار فزعه عين سمع الخبر هو أن ترتعب وعد و تنتكس ،قبل ان تعرف بأن ملك بخير ....
قالت وعد أخيرا و هي تتنهد بيأس .....
( لا أعلم الآن طبيعة سير القضية خاصة و أنه راقد في المشفى بسبب اصابته البالغة ...... )
قال سيف بحزم
(القضية تم رفعها و انتهى الأمر ..... لن يؤثر بها اصابته ... بل على العكس رب ضرة نافعة .... فسيكون هذا اكبر دافع للتخلص منه ..... )
قالت وعد بحزن عميق
( تلك القضايا تستغرق على الأقل عاما كاملا يا سيف .... )
قال سيف بخفوت
( سيمر ..... سيمر يا وعد ..... كل شيء يمر سريعا ....... )
نظرت اليه بصمت ..... و وجدت نفسها تتسائل
" و هل مررت أنا أيضا يا سيف ككل شيء يمر ؟!! .... أم أن جزء مني لا يزال بداخلك ؟؟ ....."
لكنها أطرقت برأسها دون كلام ..... فقال سيف بخشونة
( لا أعلم سر اصراركما على بقاء ملك معك ؟!!............ )
قالت وعد و هي تنظر اليه بطرف عينيها
( الهذه الدرجة تتمنى بقائي وحيدة يا سيف ؟!!.........)
نظر اليها بخشونة قبل أن يقول
( و لماذا لا تأتين معها ؟!!....... الن يسعك بيت عمتك يا وعد ؟!!....... )
لم تملك نفسها الا أن تضحك ضحكة مريرة .....
ان كان البيت لم يسعها و هي زوجته .... فهل يسعها و هي طليقته؟!!......
قال سيف بنبرة عميقة ....
( ما معنى هذه الضحكة تحديدا ؟!!..... ظننتك قد تجاوزت الخلاف !!..... )
تنهدت و هي تعلم أنه لا جدوى من الحوار المرير .... فقالت بهدوء
( تعرف أن هذا لا يليق يا سيف .... من كل عقلك تقترح أنت ؟!!! ..... )
قال سيف بخشونة
( يمكنني المبيت بمكان آخر ..... حتى لو كان شقتك القديمة ..... على الأقل سأكون مطمئنا عليكِ .... )
نظرت اليه رافعة احدى حاجبيها و هي تقول بدهشة
( هذا تقدم مذهل ..... أنت تتجاوز الماضي بصورة تثير الاعجاب .... )
نظرت من نافذتها و هي تقول بهدوء
(لكن هل تتخيل شعور عمتي و ورد حين اتسبب في بقائك خارج البيت ؟!!!......الدفن حية سيكون أسهل ......)
صمت سيف و لم يجد المزيد ليقوله ..... بينما انعقد حاجباه بشدة و زاد من سرعة قيادته ...
فنظرت اليه وعد و هي تقول
( لماذا نتطرق الى مثل هذه المواضيع مجددا ؟!!....... اليوم زفاف أختك الصغيرة ..... ابتسم ... )
نظر اليها .... فابتسمت .....
و دون أن يملك القدرة على منع نفسه مد يده ليمسك بيدها الموضوعة على ركبتها ....
ليقبض عليها و يتابع طريقه بصمت .... ناظرا أمامه .... بينما كانت هي تذوب و تذوي ثم تعود و تتوهج من اصبعه الذي أخذ يلامس ظاهر يدها ... و قلبها الأحمق يتوسل الصفح !.....
حين أوصلها الى القاعة .... استدار اليها أخيرا و قال و كأنه مضطر لا يريد تركها....
( يجب أن اتركك الآن و أعود لأمي و مهرة ....... فأنا من سيسلمها الى زوجها..... )
ابتسمت برقة و هي تطلع الى عينيه ثم قالت ...
( طبعا ..... أذهب هيا .... سأنتظرك بين المدعوين .... )
ظل ينظر اليها بصمت ..... كارها أن يتركها ... لكنه استدار قبل أن يضعف أمامها
و ما أن خطا خطوتين حتى قالت وعد من خلفه ....
( محظوظة أختك بك يا سيف ......)
تسمر مكانه .... و رفع وجهه دون أن يستدير اليها عاقدا حاجبيه بشدة ..... يتنفس بسرعة ... فأغمض عينيه وهو يقول في داخله بغضب و ألم الشوق يقتله......
" الى ماذا تسعين بالله عليك ؟!!!...... هل عدت الى قسوتك و تردين تعذيبي بتلذذ بعد فوات الأوان ؟!!!......"
أسرع الخطا مبتعدا عنها مندفعا .... بينما هي تقف مكانها تنظر الى هيئته الرجولية وهو يندفع بين المدعويين ، يومىء برأسه يمينا ، و يبتسم يسارا .... و هيبته تلجم الجميع ... و هي أولهم ....
جلست بتوتر على أقرب كرسي تنتظر .... تشرب رشفة من كأس الماء أمامها ... بينما الموسيقى الخافتة المنبعثة لم تساهم في تهدئتها .....
مر الوقت طويلا ... طويلا ... و هي تراقب الجميع من الزاوية التي تقبع بها ... و قد بدا الموظفين لدى سيف في التوافد...
.و كانت تعرفهم كلهم و تتذكر كل منهم ...... الا أنها فضلت البقاء في زاويتها تراقب تغير الأحوال ....
و كم اختلفت حياتها بعد أن كان أقصى طموحها هو الحصول على تلك الوظيفة !......
سمعت فجأة قرع الطبول عاليا .... و الموسيقى المهيبة الصاخبة تعلن عن نزول العروس....
فنهضت من مكانها تسوقها قدميها الى رؤية سيف .... و بالفعل ....
وقفت خلف المحتشدين لتنظر اليه وهو يقف أعلى السلم متأبطا ذراع مهرة ......
استندت وعد الى جدار خلفها و هي تقف خلف الجميع .. مرجعة رأسها للخلف......
و هي تتأمل جمال المشهد أمامها ...
تراه أمامها بكامل وسامته و وقاره بينما مهرة تتعلق به بكلتا ذراعيها و هي تبكي و تضحك من تحت خمارها .....
لقد استعاد حياته سريعا ..... و عاد الأب الذي كانه قبل أن يعرفها .... الأب الذي تردد في أن يكونه لطفلهما .....
ابتسمت بحزن و هي تتأمل هيبته ........
ترى هل كان بمثل هذا الجمال و هو يتأبط ذراعها ليلة زفافهما ؟!......
من المؤكد أنه كان ..... لم يكن لديها من يوصلها اليه ليلتها .... فتكفل هو بالأمر .....
رغم كل الأوجاع التي أحاطت بهما و تركت اثارهما على طباعهما الغير مروضة...
الا أنه كان لها الأخ و ولي الأمر و الزوج و الحبيب .....
يوما ما كانت محظوظة كمهرة تماما ..... لكنها كانت أكثر أرهاقا من أن تلاحظ ذلك فلم ترى سوى مساوئه فقط .... تماما كما فعل هو .....
أستمر الزفاف وهو يسلمها الى عريسها ... بينما منيرة تبكي بقوة و ورد واقفة خلفها .....
ليست بنفس الملامح الباردة القديمة و التي كانت تخيفها من قبل بل كانت أكثر جاذبية و أناقة و هي تصفف شعرها في لفة تشبه شعرها ... بينما ترتدي فستانا طويلا انسيابيا على جسدها لونه أزرق داكن من أغمق درجاته ... فكانت جميلة بطريقة تخصها ....
أفاقت وعد على عيني سيف تنظران اليها مباشرة .... عبر هذا الجمع الغفير......
فلم تحاول الاستقامة أو محو ابتسامتها الحزينة ..... بل ظلت مستلقية على الجدار و ذراعيها من خلفها .....
تتأمله بصمت ... بينما عيناه مرتا على جسدها كله في لحظة واحدة بدفء .... فارتجفت و كأنه لامسها بأصابعه عارفا كيف يجعل قلبها العليل يرجف بشدة حد الألم ......
لاحظت أنه يعبر اليها ،، و عيناه مركزتان عليها فحاولت الابتعاد و قلبها ينبض بعنف ... ....
تحتاج بضعة دقائق مع نفسها .....كي تهدىء من خفقات قلبها ... لكن و ما أن خرجت من القاعة حتى سمعته عند الباب من خلفها يقول بصوته الآمر.....
( وعد ............ )
وقفت مكانها تتنفس بسرعة ... قبل أن تستدير اليه مبتسمة بتوتر و خجل ..... اليس هذا مضحكا .....
لكنه قال بخفوت وهو يقترب منها خطوة دون أن يبتسم
( لماذا خرجتِ وحدك ؟!! ........ )
أبتسمت بارتباك و هي تقول ببساطة جاهدت كي تبدو طبيعية ....
( أردت التقاط أنفاسي فقط ...... لا شيء مهم ..... )
عقد حاجبيه وهو يقول بقلق مقتربا منها خطوة أخرى
( هل أصابك دوار ؟!! ...... كنت شاحبة في الداخل .... )
نعم لقد انتابها دوار عنيف من شدة مشاعرها و هي تراقبه متمسك بذراع مهرة .... الا أنها تمكنت من الابتسام كاذبة و هي تقول بهدوء
( لا ....... ابدا ...... أنا بخير , أنا فقط أتوتر من الزحام .... )
ظل يراقبها قليلا عاقدا حاجبيه ... ثم مد يده اليها وهو يقول
( اذن تعالي لأجلسك ....... و ستكونين بعيدة عن الزحام .....لكن لا تخرجي في الظلام بمفردك ... )
نظرت الى يده المفرودة لها .... و حركت يدها كي تضعها في يده و كأنها مكانها الطبيعي ... الا أن صوتا أنثويا مألوفا ...... أثار قشعريرة باردة عبر فقرات عنقها
( سيف ........ بحثت عنك في كل مكان ...... ماذا تفعل هنا و الزفاف في بدايته ؟!! ..... )
تسمر سيف مكانه ..... و أظلمت عيناه بشدة ... بينما كانت وعد تنظر بصمت الى ميرال من خلفه و هي تتقدم اليه .... تنظر اليها و عينيهما تتقابل بقوة ...
قبل أن تتمسك بذراع سيف لترفع نفسها نفسها على أطراف أصابعها .... لتقبل وجنته أمام عيني وعد الذاهلتين !!! .....
أغمض عينيه للحظة ..... قبل أن تقول ميرال برقة و هي تنظر الى وعد مبتسمة
( مرحبا وعد ....... لم نرك منذ فترة , جميل أن تقابل في المناسبات السعيدة دائما .... خاصة و أننا أصبحنا أقارب ...... )
كانت عينا وعد لا تزالان على ذهولهما .... قبل أن تعقد حاجبيها ... لتهمس بعدم فهم ...
( م....... ماذا ؟!! ......... )
عبست ميرال و هي تنظر الى سيف تتأبط ذراعه قائلة بعتاب مدلل
( سيف ....... ألم تخبر وعد حتى ؟!! ...... إنها من العائلة ..... )
نقلت وعد عينيها الغير مستوعبتين لما يحدث ... لكنها همست باستفسار
( سيف !!!! ............ )
ظل صامتا قليلا ... ينظر اليها بوجه جامد كالرخام الداكن .... بينما عيناه تضيقان بألم وهو ينظر الى وجهها الشاحب .... الى أن قال في النهاية بصوت لا حياة فيه ...
( لقد خطبت ميرال يا وعد ......... )
فغرت شفتيها قليلا ... و ارتفع حاجبيها بصورة غير ملحوظة الا لعينيه هو فقط .... بينما تحرك حلقها و هي تبتلع ريقها بصعوبة ....
و ما أن تمكنت من تحريك شفتيها المتيبستين حتى قالت بفتور ...
( مبرووووك ....... مبروك ...... )
لم تستطع قول المزيد خاصة و هي ترى ميرال متمسكة بذراعه و يدها على صدره ....فهمست بخفوت
( بعد اذنكما ........... )
ثم استدارت بسرعة حول نفسها لتندفع نازلة السلالم الرخامية أمام القاعة .... بينما نسيم الليل البارد يضرب جسدها النحيل و يطير فستانها خلفها بجنون ....
لكنها لم تشعر بشيئ .... كانت فقط تريد الرحيل من هنا بأي صورة ......
الا أن صوت سيف كان يتبعها هاتفا بقوة وهو يجري خلفها
( وعد ..... وعد ...... انتظري ..... )
لكنها لم تستطع حتى النظر اليه وقد تحولت خطواتها المسرعة الى جري ....
و كانت يديها تتصارعان لنزع النجوم الذهبية من شعرها بعنف و هي تشهق بغضب ... لترميهم أرضا واحدا تلو الآخر ... غير عابئة بالألم المنتشر برأسها ...... حتى تناثر شعرها بجنون و همجية على ظهرها ......
أسرع سيف خطاه جريا حتى تمكن من الوصول اليها بقوته الجسدية التي لا تقارن بجسدها الضعيف ... فأمسك بذراعها ليديرها اليه بقوة وهو يهدر قائلا
( انتظري يا وعد........ انظري الي )
دفعته في صدره بكلتا قبضتيها و هي تصرخ بجنون
( ابتعد عني ........... )
تسمر مكانه وهو يرى غضبها المجنون .... بينما انساب خطين أسودين على وجنتيها .....
لم يصدق أن يكون هذا هو رد فعلها !!! ....
كان بعض المدعوين الوافدين للتو قد بدأوا في النظر اليهما بذهول .... فزفر سيف بعنف وهو يمسك بذراعها بقسوةٍ يجرها خلفه بعنف و هي تقاومه بشراسة ضاربة ظهره الى أن اتجه بها لزاوية مظلمة ...
فدفعها الى الحائط بقوة وهو يهدر بعنف
( لماذا تفعلين ذلك ؟!!! ....... لم اعد أفهمك ....... لقد تطلقنا بناء على طلبك .... )
نفض ذراعها من يده بقوة وهو يصرخ مرددا من شدة الكبت الذي يشعر به
( تمسكت بك حتى الجنون ..... رفضت طلبك مرة بعد أخرى ..... تقبلت اهاناتك واحدة تلو الأخرى و انت تظهرين لي رفضك في القبول بي مجددا ..... و الآن تتصرفين على هذا النحو !!!!! ... لماذااااااااااااااااااااا ؟!!! ...... لم أعد أفهم ..... )
كانت تلهث بعنف وهي تنظر الى جنونه و عينيه البراقتين في الظلام .... و ما أن انتهى حتى قالت ببرود لا يتناسب مع حالتها الزرية
( هل انتهيت ؟!!! ............ أنا راحلة من هنا .... )
ضربته في صدره أمام ذهوله و تجاوزته كي تبتعد .... الا أنه عاد ليقبض على ذراعها ليديرها اليه وهو يهتف غاضبا بجنون
( آآآآه لااااا..... لن تتحولي مجددا الى وعد القديمة الباردة .... تعالي هنا وأخبريني ...... لماذا تفعلين ذلك ؟!!! ........ )
نظرت اليه بحقد قبل أن تصرخ هي الأخرى
( أنت أخبرني ...... لماذا أحضرتني الى هنا ؟!!! ......... لماذا وضعتني في هذا الموقف أمام الجميع ؟!!! .... ألهذه الدرجة لا تزال حاقدا علي ؟!!! ...... )
اتسعت عيناه قليلا بعدم تصديق ....ثم قال صارخا
( حاقدا عليكِ ؟!! ...... ليكن بمعلومك .... لا يعرف أحد بعد بخطوبتنا سوى أمي وورد فقط ..... و أنا الذي طلبت من ميرال أن نؤخر إعلان الخطوبة و ارتداء الخواتم الى بعد الزفاف ..... أما عن كونك هنا ... فأنتِ هنا لأنكِ ابنة خالي و هذا هو ما يعرفه الجميع ...... لقد دعوتكِ أنتِ بينما طلبت من خطيبتي الا تحضر اكراما لمشاعرك !!!!!!! ..... )
كان كلامه الأخير قد تحول الى صراخا مجنونا .... فوقفت مكانها تنظر اليه بينما الوجع يقسمها نصفين
خطيبتي !!!!!! ..... ارتداء الخواتم !!!!!!!
هل فعلا يقول ذلك ؟!!! ..... هل خطب سيف غيرها فعلا ؟!! .....
ابتلعت ريقها بعذاب صامت و هي تلوح بذراعيها ليسقطا يأسا ... ثم قالت بفتور ميت
( و ها هي قد حضرت رغم طلبك بألا تفعل ....... لأنها خطيبتك ..... )
أطرقت برأسها أمام صدره اللاهث ... و أنفاسه التي كانت تلفح وجهها بقوة ....
ثم قالت فجأة بقوةٍ صادمة و هي ترفع وجهها اليه ....
( عمتي !!!!! ...... كانت تعلم ...... لقد تعمدت دعوتي كي تؤلمني الى هذا الحد ؟!!!!!!! ..... )
صرخت أمام عينيه الذاهلتين من غبائها
( ما بالكم !!!! ....... لماذا تفعلون بي ذلك ؟!!! ...... كيف لها أنت تكون بمثل هذه ال .... )
صرخ سيف بقوة
( اخرسي يا وعد قبل أن أصفعك .......... )
الا أنها صرخت بقوة
( لقد جائت الي تطلب بداية جديدة و أنا صدقتها بكل غباااء ........ )
صرخ سيف وقد احمرت عيناه بجنون
( اخرسي يااااا ............ )
الا أنه لم يستطع حتى نطق اسمها أو السيطرة على الجنون المتنامي بداخله .... ليعلم أنه على وشك القيام بأغبى تصرف ....
فاندفع مائلا اليها ليحيط خصرها بذراعيه القويتين ... يضمها الى صدره بقوةٍ جبارة , و قبل أن تشهق بذهول .... كانت شهقتها قد ضاعت بين حنايا فمه الصلب وهو يطبق على شفتيها المذهولتين الناعمتين تحته ....
لم تصدق بعد ما يحدث لها و هي تغمض عينيها بجنون ... لتستشعر قبلته المجنونة فوق شفتيها سحقا يزيدها عمقا دون أي قواعد ....
كانت تهمس بصدمة باسمه كي يبتعد الا أنه فقد آخر قدرة على سيطرته ... بينما قلبها المسكين يضرب صدره مستغيثا ... فيرفع يده اليه يتحسس دقاته برقة تتناقض مع فمه الملح بقبلته الضارية و المتجولة بين شفتيها ....
و كلما حاولت التراجع ... كان يعيدها الى الجدار من خلفها وهو يقبل عنقها وجنتيها ... فكها و عينيها ... ليعود بعطش الى شفتيها ....
كيف له أن يفعل ذلك ؟!! .......
مدت كلتا يديها الى جانبي وجهه تبعده عنها ... ثم صرخت بقوةٍ و هي تبكي
( كفى يا سيف ....... كفى ..... ستتسبب بكارثة ..... )
الا أنه كان يهمس بين قبلاته اللاهثة
( اشتقت اليك ...... كم اشتقت اليك .... الى ملامستك ... الشعور بك ...... )
أغمضت عينيها عدة لحظات ... و هي تحاول مقاومة تلك القوة التي تجذبهما معا .... الى أن صرخت مجددا و هي تضرب صدره بكلتا قبضتيها ....
( ابتعد عني .......... الآن ..... )
أبعد وجهه عنها بصعوبةٍ وهو يلهث بتعب .... ينظر الى عينيها الحمراوين ..... بينما كانت تبادله النظر بذبول .... و ما أن سقطت يداه عن خصرها ببطىء ... حتى دفعته في صدره مجددا بقوةٍ حتى ابتعد عنها خطوة بالفعل ...
فسارعت لتعديل ملابسها أمام عينيه الذاهلتين دون أن تفتح فمها بكلمة ..... فقال سيف بعد فترة بصوت مجهد وهو يراها تنحنى لتلتقط حقيبتها الملقاة أرضا ...
( لا بأس يا وعد ...... أنت لازلتِ زوجتي ..... )
رفعت وجهها العنيف اليه و هي تقول
( اصمت ........ لا أريد سماع أي شيء تقوله .....اصمت .... )
تراجعت للخلف و هي تحمل طرف فستانها .... لكنها استدارت اليه و قالت بقوة و عزم
( لا أريد أي علاقة بك أو بأسرتك ...... ابتعدوا عني .... )
و امام عيني سيف المصدومتين .... انطلقت تجري حتى الطريق و هي تمسح وجهها فاستقلت أول سيارة توصيل قبل حتى أن يتحرك من مكانه لخطوة ....
فاستند بكفه الى الجدار الذي كانت تستند اليه للتو ... و مد يده يفك رابطة عنقه التي تهدلت و تشعثت ....
فوقف مطرق الرأس .... شاعرا بتعب لم يشعر به من قبل ....
.................................................. .................................................. ..........................
كان صوت كعبها العالي يصدر رنينا عاليا على أرض المشفى ....
مظهرها غريب و يتناقض مع المكان و بياضه .....
تلفت النظر بجرأتها على الرغم من رقي ملابسها ... و هي تتحرك بساقين طويلتين متقاطعتين لم ينل الزمن بعد من جمالهما ... تتحركان في جوربين أسودين .... و تنورة ضيقة تعلو ركبتيها ....
وصلت الى غرفة العناية المشددة ....
فوقفت تنظر من النافذة المخصصة اليه و هو يستلقي بين الأجهزة .....
ابتلعت ريقها بصعوبة و هي تتأمل شحوب وجهه ....
ملامح وجهها باردة كالجليد ... لكن في عمق عينيها الداكنتين ... كان هناك قبس من حياة لا تزال كامنة ...
رأت احدى الممرضات تخرج من الغرفة ... فاقتربت منها خطوة و قالت بفتور
( كيف حاله ؟!! ........ )
نظرت اليها الممرضة بأسف و قالت
( لا يزال في مرحلة الخطر ........ )
نظرت ميساء الى كريم مجددا ... و هي تراه مجرد طفلا مشرد ... شاحب الوجه ... و ليس الشاب مفتول العضلات الذي ظن أنه امتلك العالم بأسره .... فضاقت عيناها قليلا و بانت خطوط الزمن الدقيقة تحتهما و حول زاويتهما ....
لكم فتنتها رجولته الحديثة ..... و كم من مرة شعرت بأحشائها تتلوى من الحرمان وهو يمارس عليها سلطانه الحديث العهد .... ابن البارحة !! ....
أما الآن .... فها هو مسجى الجسد النحيل ... باهت الملامح ... يذكرها باليوم الأول الذي دخل فيه الى القصر ...
رمشت بعينيها و قالت للممرضة
( هل يمكنني الدخول اليه ؟؟ ...... )
قالت الممرضة باعتذار
( لا يسمح الا بدخول الأقارب من الدرجة الأولى ..... )
صمتت ميساء قليلا ... ثم قالت بخفوت
( أنا .......... أمه ........... )
سارعت الممرضة تقول بتهذيب
( طبعا تفضلي ..... لكن لا يسمح بأكثر من خمس دقائق فقط .... )
أومأت ميساء برأسها .... ثم دخلت ببطىء ... و صوت كعبيها يصدر لحنا رتيبا مع صفير الأجهزة المتعلقة به ....
وصلت اليه ووقفت تراقبه بصمت ... ثم همست بخفوت
( كريم ....... كريم ..... هل يمكنك سماعي ؟!! ...... )
صدر عنه صوت تأوه أجش ... و رمشت عيناه .... قبل أن يغيب مجددا ....
فقالت ميساء بخفوت
( أنا هنا ............ هل تعرفني ؟!! ...... )
فتح فمه قليلا .... ثم همس بتأوه
( أمي ........... )
انحنت اليه أكثر و همست بخفوت
( هل أنت واعٍ ؟!! ............ )
رأت مؤشرات جسده تتحرك قليلا بصورةٍ أسرع ... لكنه تمكن من رفع يده ببطىء ....
نظرت الى يده طويلا ... قبل أن تمد يدها لتمسك بها ثم همست بخفوت
( لقد جئت أخبرك بشيء ........ أنا مدينة لك باعتذار واحد .....
اعتذار لأنني لم أتقبلك منذ اليوم الأول عند مجيئك ..... كنت تحبني و كنت أرى ذلك بعينيك ..... كنت أرى كم تتمنى أما ....
لكنني لم أمتلك القدرة على منحك ما تتمناه ...... و أنت لا ذنب لك في هذا كله ....
لقد دخلت المستنقع رغما عنك .... و ليس بارادتك كما تتوهم ..... كنت تريد ما يتمناه أي طفل في مثل سنك .... و نحن قمنا باستغلالك ....
أعرف أنك حاولت طويلا أن تظهر لي بأنك الإبن المثالي .... و أنا أرفض و انفر منك ....
الى أن فات الأوان .... و مضت السنوات بك , فقررت أخذ دورا آخر لم أكن بغافلة عنه و عن أسبابه ....
لقد كنت تفعل أقذر ما يمكنك فعله بحياتك , و لن أمنحك العذر أبدا .....
لكن على الرغم من ذلك , أنا آسفة لدوري في هذا ..... لم يكن بيدي ..... )
صمتت باختناق غير قادرة على المتابعة و هي تنظر اليه ... لا تعلم إن كان قد سمعها أم لا .....
لكن وخز الدموع بعينيها ... نبهها الى أنها أول مرة في حياتها تبكيه هو .... لا ابنها !! ....
استقامت واقفة و هي تنظر اليه ... بينما انحدرت الدمعتان المتثاقلتان ... و ما أن استدارت كي تخرج ... و جدت أكرم واقفا في الباب .... ينظر اليها بوجهٍ شاحب و كأنه كبر سنواتٍ عدة ....
بدا عجوزا جدا ..... هل من المعقول أنها كانت تطلب ود هذا العجوز ؟!!! .... و تئن حرمانا بغيابه ؟!!! ....
استقامت فاردة ظهرها ..... رافعة ذقنها ...... و مرت به بأناقة ... و ما أن وصلت اليه ... مالت بوجهها اليه لتقول برقة
( لولا أننا في غرفة العناية المشددة ..... لبصقت على الأرض كما يفعل الغوغاء و أنا أمر بك .... )
ظل أكرم واقفا مكانه وهو يميل بوجهه الشاحب المتغضن .... يستمع الى وقع كعبي حذائها المتباعدين من خلفه ....
و لم تكن وجهتها حين خرجت من المشفى هي شقتها مع رائف .....
بل خرجت مباشرة عائدة الى القصر .... و ما أن فتحت لها الخادمة الباب ... حتى دخلت بأناقة رافعة وجهها و وقف في منتصف البهو تنادي بصوتٍ عالٍ أرسل صداه في أرجاء القصر الواسع ...
منادية على أسماء الخادمات الأجنبيات .... و ما أن بدأن في التوافد جريا ... حتى صدح صوتها بلغة يفهمنها .....
( كل أغراض السيد أكرم .... توضع بإحدى شراشف السرير ... و تلف جيدا ثم تلقى خارج القصر .... )
صمتت و هي تدخل بثقة .... متابعة بعدها و هي تصعد درجة درجة
( حتى لو تطلب الأمر .... شرشفين ... أو ثلاث .... أو اربع ....... المهم الا أجد أي غرض أو صورة للسيد أكرم هنا ........ )
صعدت بخيلاء ... و هي تفكر باحتقار
" فلو تجرأ على الرفض ..... لقدمت التحليل ممتنة لذلك .....فالقصر ثمن بخس جدا لكل ما اقترفه في حياته ...... "
.................................................. .................................................. ..........................
كانت تبكي طوال الطريق الى بيتها ....
مستندة برأسها الى نافذة السيارة التي تقلها .... غير عابئة بنظرات السائق القلقة ....
و ما أن وصلت الى بيتها الذي غادرته منذ وقتٍ ليس بطويل ... حتى صعدت جريا و هي تبكي و بالكاد تمكنت من فتح الباب بصعوبة بأصابعها المرتجفة ... ثم صفقت الباب خلفها و جرت في الظلام الى غرفتها .... أخذت تنظر حولها و هي تبكي و تشهق بصوتٍ عالٍ ...
الى ان وصلت لطاولة زينتها ... و فعلت ما كانت تتمنى فعله منذ زمن كلما رأته في التلفاز ... فلوحت بذراعيها و طوحت بكل ما عليها أرضا و هي تصرخ و تبكي بصوتٍ عنيف كبكاء الأطفال ...
أخذت ترمي هنا و هناك و هي تبكي عاليا ....
الى أن شعرت بالتعب فاستندت الى طاولة الزينة بكفيها و تساقطت رأسها و هي تلهث بتعب .... و قد بدأ صدرها في ايلامها بقوة ...
فأخذت وقتها في التقاط أنفاسها بصعوبة كي تهدأ .... و بعد فترة طويلة ... من وقفتها متساقطة الرأس كوردة ذابلة ....
ظلت تتنفس ببطىء طويلا و قد هدأت تماما .... فرفعت وجهها الى المرآة أمامها ....
قبل أن تستقيم واقفة .... كانت تنظر الى نفسها بهيئتها المشعثة .... فمدت يدها تلامس شفتيها المرتجفتين
قبل أن تبتسم ببطىء و بعد فترة طويلة ......
ثم همست لصورتها المبتسمة
( تهرب مني يا سيف ؟!! ........ من تخدع ؟!! ..... ربما لو انتظرت قليلا لكنت صدقتك .... لكنك تهرب بأكثر الطرق اثارة للشفقة .... و قبل حتى أن تنتهي العدة ..... من تقنع ؟!! .... من تقنع أيها الأحمق ؟!!! ..... ما أن شممت عطري حتى سقط قناعك المزيف و انهرت أمامي ..... كما انهرت أمامك .... فمن تخدع ؟!!! ........ )
صمتت قليلا و هي ترى الرقة ترتسم على ملامحها بسخرية داكنة .... قبل أن تتابع بثقة
( لنرى كيف ستكون لغيري .........افعلها فقط و سأرفع لك القبعة ..... . )
استدارت و هي تستند الى طاولة الزينة جالسة عليها قبل ان تهمس ضاحكة بأسى
( دعوتني و طلبت منها الا تأتي ؟!!! ....... يالك من أحمق حبيب !! .......... )
رفعت وجهها الشاحب المتعب الى السقف و هي تنظم انفاسها بجهد ..... ثم همست
( لو كنت طلبت العودة مجددا ........... لكنت بادرتك بطلب الصفح ....أقسم لكنت فعلت .... لقد تغيرت ....... تغيرت والله ..... فلماذا تسرعت يا أحمق ؟!! . )
أغمضت عينيها و أخذت نفسا مرتجفا .... قبل أن تهمس
( حسنا ........ حسنا لا بأس ...... لنرى ........ )
لم تكن تعي حتى تلك اللحظة أن ملك ليست في البيت كما تركتها لحظة خروجها ... الى أن رن هاتفها ...
فتنهدت بيأس و هي تخرجه من حقيبتها ... لتعقد حاجبيها ناظرة ببلاهة الى رقم ملك ...
فرفعت وجهها تنظر حولها و هي تعي فعلا بأنها ليست في البيت ...
ردت وعد مسرعة و قد بدا القلق يعصف بها .... لكن ما ان نطقت باسم ملك ... حتى بادرتها هي تقول بنشيج خافت
( وعد ........ لقد مات كريم ...... )
كانت تعلم أنها تبدو غريبة المنظر و هي تعبر طرقات المشفى بثوبها الذهبي المتطاير خلفها كستار شعرها ..
ترتدي سترة قطنية سوداء قصيرة فوق الفستان ....
تبحث يمينا و يسارا الى أن وجدتها جالسة أرضا في أحد الزوايا بآخر الممر...
توقفت وعد مكانها بصدمة و هي ترى ملك جالسة أرضا ... تضم ركبتيها الى صدرها و هي ترتجف بشدة
عيناها متسعتان بذهول لا ترى أمامها ...
لعدة لحظات بقت وعد متسمرة مكانها و كأن ساقيها قد فقدتا القدرة على تنفيذ أوامر عقلها بالتحرك الى ملك ..
لكنها أستجمعت كل قواها الى أن تحركت اليها ببطىء أولا ... ثم أخذت تسرع خطاها و التي تحولت الى ركض حتى وصلت اليها ... فسقطت بجوارها أرضا و الفستان يتطاير من حولهما معا ليضمهما في هالة ذهبية ....
ضمتها الى صدرها و هي تغمض عينيها غير قادرة على الكلام .... بينما استكانت ملك اليها بنفس العينين المتسعتين .. و صدمت وعد بالرجفة التي تعبر جسدها و تجعلها تنتفض من شدة قوتها ....
همست وعد بصوت حازم .. خافت .. و هي تربت على وجنة ملك بقوة
( ملك .... ملك .... أجيبيني ..... )
لم ترد عليها ... بل زادت من انكماشها و ضم ساقيها الى صدرها بقوة ... فأعادت وعد بصرامة أكبر
( ملك ...... ملك ..... أجيبيني ..... لا تفقدي قوتك الآن , أمامك يوم عصيب )
للحظات بدت ملك و كأنها لم تسمعها .... لكنها بعد لحظة رمشت بعينيها المتسعتين .... ثم همست دون أن تنظر الى وعد
( يوم عصيب ؟!! ....... هل حقا مات ؟!! ..... لقد مات شادي !! ..... )
تنهدت وعد و ابتلعت غصة في حلقها ... ثم قالت بخفوت
( نعم لقد مات يا ملك ..... لقد تأكدت من الإستعلامات بالطابق الأرضي ....... اجمدي أرجوك و انهضي معي ..... )
نظرت ملك الى وعد بذهول و صدمة ... ثم قالت بصوت يرتجف
( نعم .... نعم ..... هذا ما أخبروني به أنا أيضا في الهاتف و طلبوا مني الحضور !! ...... لقد مات حقا ... )
ضمتها وعد بقوة اكبر و هي تشعر بأنها على وشكِ أن تنتكس و تصل الى تلك الحالة التي مرت بها و هي طفلة صغيرة ....
لكن شفتي ملك لم تلبثا أن ارتجفتا بشدة و هي تنشج بصوت مختنق
( ياللهي لقد مات حقا !! ............ لم أظن أن هذا قد يحدث بالفعل !! .... لقد تمنيت موته ذات يوم لكنني لم أظن أن يتحقق رجائي بتلك السرعة !! ....... )
قالت وعد بصرامة و هي تشد على كتفيها تهزها قليلا
( ليس لك أي ذنب بموته ...... كان حادث دفاع عن النفس ...... و أنتِ لا دخل لكِ ...... )
نظرت ملك الى عيني وعد القاسيتين ..... ثم همست بارتجاف و عدم تركيز
( رائف ..... أخبروني أنني لن أستطيع أن أراه !! ...... لماذا لا أستطيع رؤيته ؟!! ..... لماذا!!!!!!! ؟؟؟ ........ )
زمت وعد شفتيها و هي تنظر حولها .. قبل أن تقول بتوتر ووجه شاحب
( لا علم لي بأي شيء حاليا ..... المهم أن تنهضي و تقفي على قدميك ..... فمن المؤكد أن اليوم سيكون طويلا جدا .....)
أمسكت بوجهها بين كفيها و نظرت في عينيها المتسعتين و قالت بحزم
( و في نهايته يمكنك الراحة ......... لن يمسك شيء بعد الآن .... )
ارتجفت شفتي ملك و تشوشت الرؤية أمام عينيها .... بينما رفعت أصابعها الى شفتيها المرتجفتين و هي تهمس بعدم تصديق
( لقد مات شادي !! ...... لقد كان صديقي !! ..... كان صديق العمر ..... )
ظلت وعد تنظر اليها طويلا ... و هي تدلك ذراعيها .... ثم قالت بخفوت و هي تهز رأسها
( لا .... ليس هو يا ملك .... صديقك مات وهو طفل ..... أما من مات اليوم فهو الرجل الذي خذلك ......)
أخذت ملك ترتجف بشدة و هي تنظر الى عيني وعد الحازمتين .... و مر وقت طويل , ....
قبل أن تومىء برأسها بسرعة و عدم تركيز ... ثم لم تلبث أن قالت بخفوت
( أريد الوقوف يا وعد ....... ساعديني أرجوكِ ...... )
ساعدتها وعد كي تنهض بينما تشعر بارتجافها واضحا ... الى أن استقرت على قدميها الرخوتين .. ثم سكنت تستجمع قواها عدة لحظات قبل أن تقول و هي تلتفت الى وعد
( أنا أحتاج لرؤية رائف الآن يا وعد .... إنه لا يزال مصابا و يحتاج للراحة ... ماذا يريدون منه ؟!! ..... و لماذا لا أستطيع أن أراه ؟!! ...... )
أمسكت وعد بيدها و هي تقول
( على الأغلب أنهم قد طلبوه مجددا .... فمن المؤكد أن سير التحقيق قد تغير بعد الوفاة .... و تحولت الى قضية كبيرة ..... )
فغرت ملك شفتيها المرتجفتين قليلا ... و هي تهز رأسها بينما الصدمة تشل أطرافها
" وفاة !! ....... وفاة !! .......... شادي مات بالفعل ..... "
أخذت ترمش بعينيها و هي تتراجع الى أن استندت بظهرها الى الجدار من خلفها غير قادرة على الوقوف ...
فأطرقت بوجهها و هي تغمض عينيها ..... و يدها على فمها .... تحاول جاهدة البكاء , لكنها لا تستطيع ... و كأنها فاقدة السيطرة على كل أعضائها .... تراقب نفسها من الخارج , غير قادرة على ذرف الدموع ....
كانت تنتفض بنحيب بلا دموع ..... نحيب صدمة يشل أطرافها ... و يجعلها كانسانة تلفظ أنفاسها الأخيرة ...
بقت وعد بجوارها ... ممسكة بذارعها .... تشد على يدها , ثم قالت بعد فترة طويلة بحزم
( ملك يجب أن تتماسكي الآن ........ لأنهم سيطلبونك للتحقيق مجددا .... بعد أن تحول الأمر الى جناية ... لا تنسي أن رائف اعترف بضربه سابقا ..... )
تسمرت ملك مكانها ... و تشنجت كل أوصالها و هي ترفع وجهها الساحب المتورم العينين و الشفتين الى وعد ... تحدق بها و كأنها لا تسمعها ... بينما بداخلها نشب خوف آخر و قد بدأت تستعيد وعيها الضائع تدريجيا ....
ثم لم تلبث أن همست و هي تحدق في البعيد ..
( لكن رائف ليس هو من .................. ياللهي !!!!!! .... )
جالسا بكرسي مكتبه .. شاردا ... مستديرا به كي لا يرى الباب ...
لا يفكر سوى بها ...
"منذ ليلة أمس وهو لا يعرف كيف استطاع أن يقضي الساعات المتبقية من الحفل الزفاف دون أن يهرع خلفها كما يفعل كل مرة !! ...
ربما لأنه كان في حال من الفوضى و التشوش مما جعله أعمى البصر حتى عن طريقه اليها ....
لا يصدق ما فعله ليلة أمس !!..... لقد ضاع اتزانه في لحظة ... و اختل كيانه أمام انهيارها !!
لن تتوقف وعد عن صدمته أبدا ....
صحيح أنه كان يتوقع أن تزال تحمل له بعض المشاعر التي لن تختفي كلها مرة واحدة ... الا أنه لم يتخيل أبدا أن تنهار بهذا الشكل اليائس أمام خبر خطوبته ....
لماذا اذن بذلت كل ما بوسعها كي تفهمه أنها تريد الخروج من حياته ؟!! .... "

أرجع رأسه للخلف وهو يغمض عينيه ....
جسده لا يزال ينبض بحرارة سيل العواطف التي تشاركاها لدقائق وجيزة ... لتختفي بعدها كبطلة أحدى الأساطير ....
لو كان لحق بها ليلة أمس لفقد الجزء القليل من سيطرته و تحضره ....
هذا الصباح .... انطلق خارجا قبل حتى انبلاج أشعة الشمس .... ليجد نفسه واقفا أمام بيتها ... ممسكا بمقود سيارته وهو يطرق برأسه مترددا .. بعد أن كان مصمما على الكلام معها ... الا أنه ما أن وصل ووقف امام بيتها حتى تراجع تصميمه .. و بات غير واثقا من أي شيء ....
لم يكن قد مضى على فراقهما سوى ساعات قليلة جدا ... و ها هو يجلس عند بيتها كحارسٍ لوعده ....
كم مرة أنقبضت أصابعه ما بين المقود و مقبض الباب ... ليعود و يتراجع عن كل قرار ...
الى أن أرجع ظهره يراقب شعاع الشمس الذهبي وهو يظهر لمن يملك قلبه الأمل بعد .....
و كان أن ابتعد ....
و اتجه الى عمله , كأي يوم عادي ... و بنفس ملامحه الصارمة الوقورة ...
من يراه لن يلاحظ تغييرا قويا ... فقد اعتادو فظاظة ملامحه .... لا يعلم أحدهم أن هذا القناع من الفظاظة يحمل قلبا لا يزال مدلها بحبها ....
كان الهدوء لا يزال مسيطرا على المكان .. فأخذ وقته في الراحة عله يجدها وهو يرجع رأسه مستديرا عن الباب و مغمضا عينيه ...
كان في عالمٍ آخر فلم يسمع صوت الباب يفتح دون طرق ... و صوت خطوات أنثوية تقترب منه بهدوء ....
الى أن تجمد صدره و توقف النفس وهو يشعر بيدين ناعمين تغطيان عينيه برقة !!....
بدا و كأنه كل اشاراته الحيوية قد توقفت فجأة ... لكنها لم تستغرق أكثر من لحظة واحدة .. قبل أن تنفجر متعدية كل المؤشرات وهو يرفع يديه ليمسك بالكفين الأنثويتين وهو يقول بلهفة لم يستطع اخفائها
( وعد !!!........... )
استدار حول نفسه وهو لا يزال ممسكا بكفيها ... و قلبه ينادي باسمها , الا أن النداء مات على شفتيه وهو ينظر الى المرأة الواقفة أمامه ... تبادله النظر ببرود قاسٍ و يديها بين يديه ....
فهمس بصوتٍ مرتبك و كأنها قد أخذته على حين غرة ..
( ميرال !! ........ )
كانت عيناها ثاقبتان .. كفيلتان بأن تجمدا قارة كاملة .. الا أنها سرعان ما ارتدت قناع اللباقة و قالت مبتسمة باغراء
( و هل تتوقع أحد غيري ليظلل عينيك ؟!! ..... )
هذا السؤال جعله يتسائل على نطق باسم وعد فعلا أم أنه يتخيل ذلك ؟!! ... لكنه تمكن من القول بخفوت
( لم أتوقع مجيئك مبكرا قبل معظم العاملين .... خاصة و قد سهرتِ في حفل الزفاف أمس .... )
رفعت احدى حاجبيها بهدوء .... مما أربكه أكثر , الا أنها جلست على سطح مكتبه بأناقة و هي تقول بدلال متمسكة بيديه اكثر كي لا يتركها
( يمكنني قول نفس الشيء عنك .. خاصة و انك شقيق العروس !! ... لكن عامة أنا لم أنم من الأساس ... و هذه ليست المرة الأولى بالنسبة لي ... الحياة أقصر من أن نضيعها في النوم , خاصة في المناسبات الهامة ..)
أطرق سيف برأسه .... و بقى صامتا , و ظلت ميرال تراقبه بعينيها الصقريتين .. قبل أن ترفع ذقنها لتقول بنعومة و هي تبتسم
( أرى أنك لازلت غاضبا مني .... فليلة أمس لم تجد الوقت الكافي كي تصب كامل غضبك علي ... )
رفع سيف وجهه اليها ... مكتسيا قناعا يمنع العالم الخارجي من قراءة مشاعره ... و قال بهدوء وهو يسحب يديه بلطف من يديها .. لينقر بأصابعه على سطح المكتب دون صوت
( بما أنكِ فتحت الموضوع ..... هل يمكنني معرفة سبب ما حدث ؟!! ... لقد وثقت بتقديرك و مراعاتك !! .... لماذا فعلتِ ذلك ؟!!! .... )
ظلت تنظر اليه قليلا دون أن تظهر ملاحمها انفعالا معينا .... ثم قالت أخيرا بهدوء
( هل تتذكر عرضك للزواج مني يا سيف ؟! ........ )
أطرق بوجهه بملامح قاتمة .... مد يده يفك الزر الأول و الثاني من قميصه بتوتر , ثم قال بخشونة دون أن ينظر اليها
( نعم أذكر .......... )
رفعت ميرال ذقنها و هي تقول بترفع
( و مع ذلك اسمح لي بأن أعيده عليك ..... يوم أن عرضت علي الزواج , لم يكن العرض الذي تتمناه أي فتاة .. و بالأحرى فتاة بمثل مميزاتي ... لا تفهمني خطأ فهذا ليس غرور انما أمر واقع و سيكون من السذاجة انكاره ... يومها تقبلت منك عرضا مختلفا كل الاختلاف عن اي عرض زواج متوقع ...
فقد كان كلامك تحديدا ... " ميرال ..... ما سأقوله سيبدو غريبا , لكنني لا اريد أن أبدأ معكِ بذرة من خداع ..أتقبلين برجل خرج للتو من قصة زواج فاشلة ... و لا يزال يحب زوجته ؟!! ... لأنني أحتاجك .... " )
ظل سيف مطرقا بوجهه ... و ملامحه تزداد قتامة ... و قد انعقد حاجبيه ....
بينما تابعت ميرال بكل هدوء
( هذا البداية كانت كفيلة بأن تجعلني أقلب الطاولة و أغادر للأبد .... لكن كلمة واحدة جعلتني أبقى ... و استمع اليك ... هي كلمة " أحتاجك " ....
كلمة من الرجل الذي أريده كفيلة بأن تجعلني أحاول و بجدية ..... معترفة بأنك بالفعل خرجت للتو من تلك التجربة ... و سأكون حمقاء لو توقعت نسيانك لها بهذه السرعة ....
و ربما ثقة بنفسي .... أنه من الصعب الدخول في مقارنة غير متكافئة بيني و بين اختيار خاطىء من كل النواحي .... )
رفع وجهه الغاضب اليها منتفضا ... الا أنها رفعت يدها تقول بمنتهى الهدوء
( مع احترامي لصلة القرابة بينكما .... لكن الواقع لا يمكن اغفاله , فتلك الزيجة كان محكوما عليها بالفشل من البداية .... ووقوفي بجوارها في محل مقارنة ليس منصفا لها ..... )
قال سيف بصوت أجش صارم
( ميرال .......... )
الا أنها قاطعته بكل تحدي
( و لكنني قبلت ...... قبلت التحدي و قبلت بخطبتك .... لأنني أثق بنفسي و أثق بأنني قادرة على محو أي مرأة تسبقني ..... واثقة بأني لو لم أحرك الرجل بداخلك .... و العقل و المنطق ., لما فكرت بي ولو للحظة .....و لما اخترتني أنا بالذات كي أملأ وجودها الهش بحياتك و كان هذا كافيا فاعتبرتها البداية ... )
صمتت و هي تقابل عيني سيف بكل وضوح و جرأة .... ثم قالت ببرود قاسٍ
( و ما أن قررت أنها البداية .... اذن فهذا معناه أنك سلمتني مسؤوليتها .... لأبدأ تلك العلاقة كما ينبغي لها أن تبدأ ...... اذا كنت تريد نسيانها بالفعل , فما عليك سوى ترك الأمر لي ..... )
مال سيف بوجهه المكفهر جانبا وهو غير قادرا على مواجهة عينيها الباردتين ... ثم قال بصوتٍ أجش غاضب
( و أنا كنت صادقا معك .... و أريد حياة جديدة تجعلني أكثر قدرة للعودة الى تركيزي و اتزاني
لكن ليلة أمس كانت وضعا مختلفا .
وضعا استثنائيا توجب حضورها و هي لم تعرف بعد بخطوبتنا ...و آخر ما أريده هو الحاق الأذى بها .. )
صمت للحظة وهو يتنفس بسرعة و غضب ... ثم رفع وجهه القاتم اليها ليقول بصوتٍ حاد منخفض
( أعرف أن ما طلبته منكِ كان يفتقر الذوق و الأدب و يعد تضحية تؤذي مشاعرك ...... لكنك أظهرتِ تفهما سمرني مكاني ..كان عليكِ اخباري بقرارك هذا حينها ..... لا أن توهميني بالتفهم والموافقة )
ظلت ميرال صامتة قليلا و هي تواجه غضبه الصامت ... و كأنه بركان خامد تحت واجهته الصلبة .... مستعد لأن ينفجر بأي لحظة ....
لكنها قالت بثبات
( كنت لتتصرف من المؤكد .... بطريقةٍ تجعل أي منا تختفي من زفاف مهرة ..... لكني أردتك أن تراني أمامها .... )
عقد حاجبيه بشدة وهو يرفع وجهه اليها ... قبل أن يقول ساخرا بقسوة
( ظننتك تنكرين مجرد امكانية المقارنة بينكما !!! ...... )
ابتسمت باستهزاء أنيق و هي تتلاعب بذقنها يمينا و يسارا دون أن يرف لها جفن .... ثم قالت بهدوء غريب
( اطلاقا ........ ليست مقارنة , بل تحديد مواقع .... )
شعر سيف بشيء يقبض صدره .. لم تكن تلك هي الراحة التي تمناها عله يطيب روحه المستنزفة لمدة عام كامل بعد ثبات السنوات الماضية ....
لكنه قال بجفاء و خشونة صارمة
( وعد ستظل موجودة ..... رغبنا في ذلك أو رفضناه ...... )
ابتسمت باستفزاز أكبر .. ثم قالت ببساطة
( لا مانع لدي من وجود ابنة خالك في الصورة .... فهي لن تنقصني شيئا , .... لكن بمعرفة كل منا لموقعها تحديدا و التقبل به سريعا .... دون اللف في دائرة تأذي المشاعر تلك طويلا .... )
شعر سيف بالجدران تطبق على صدره ... و المكان يضيق به .... يتمنى لو يحطم شيئا و يصرخ بغضبٍ عاليا ....
و استمر الصمت المشحون الخطير بينهما عدة لحظات .... قبل أن تقول ميرال بأنوثة و هدوء
( لا أطلب منك حاليا يا سيف سوى الإحترام ....... و منحي الثقة في تسليمي دفة البداية .... فهل أطلب الكثير ؟!!! .... )
ابتلع سيف ريقه وهو يشعر بالتواء خانق بحلقه .... لم يكن مدركا اي حماقة ارتكبها في اللجوء الى امرأة اخرى بكل مغرياتها علها تمنح جسده الراحة ... و تشغل عقله عن شوق قلبه ...
الا ليلة أمس حين طار صوابة ليلة أمس ما أن وقعت بين ذراعيه ... و علم كم هو ضعيف السيطرة أمامها ...
أغمض عينيه يتنهد بتعب ... ثم فتحهما لينظر الى ميرال الجالسة أمامه تبتسم برقة طويلا , قبل أن يقول بهدوء خافت
( لا يا ميرال ....... لا تطلبين الكثير , لقد حملتك من الأساس أكثر مما ينبغي لأي شابة أن تتحمله في بداية خطوبتها ... عوضا عن أن تكوني سعيدة و مبتهجة .... أنا .... آسف .... )
ضيق عينيه وهو يحدق في أرض المكتب بصمت للحظة واحدة ... و قد أوشك على أن يكون هذا الإعتذار اعتذارا عن الخطبة بأسرها ...
فهو سيظلمها معه بالفعل ... و لكن تكون مجرد نسخة شباب محفوظة كي يتهرب منها ...
لكن و قبل أن ينطق بما ينتويه ... كانت قد مالت اليه لتعقد ذراعيها حول عنقه ... حتى لامست أنفه بأنفها الطويل ... فتشنج مكانه متصلبا , الا أنها ابتسمت لإرتباكه وهو يحاول جاهدا الإبتعاد عنها قليلا لولا ذراعاها الملتفتان على عنقه ... فهمست برقة
( و من أخبرك أنني لست سعيدة ؟!! ...... لم أجد يوما الرجل الذي يملأ عيني و عقلي و قلبي فجأة هكذا دون مقدمات الا بعدما رأيتك ..... و مع أول ضيق تمر به تفكر بي أنا دون غيري لأصبح شريكة حياتك المستقبيلة ... المسؤولة عن تطبيب جراحك ..... فكيف لا أكون سعيدة ؟!! .... )
كان ينظر الى عينيها و الشعور بالذنب يخنقه .... فقال بصوت خافت وهو يمس ذراعيها برفق
( أخاف أن أظلمك يا ميرال .... أنت تستحقين الأفضل ...... )
رفعت احدى حاجبيها دون أن تفقد ابتسامتها و هي تقول بإغراء
( هل هذه خطة هروب تقليدية ؟!!! ......... لأنك غير ناجح بها بالمرة ... )
ابتسم ابتسامة حزينة واهية .. الا أنه قال بجدية وهو ينظر الى عينيها
( أنا لا أمزح يا ميرال .... لا أريد أن أكون بهذه الأنانية و أستغل حبك الذي عرضته علي ..... بخلاف تفوقك و ذكائك ... فأنت جميلة لدرجة تسرق عيني و تثير الزهو بنفسي كرجل ... الاأن آخر ما تستحقينه هو أن تكوني مخدرا للآلام ..... )
ظلت تنظر الى عينيه لفترة .. قبل أن تقول هامسة
( مخدرا ؟!! ....... لا حبيبي .... أنا لست مخدرا , بل أنا علاج ..... و أنت حبيبي مرضت بداء مستعصيا ..... و تحتاجني .... هي الداء و أنا الدواء ..... لا المخدر .... و أقتلعها من جذورها المريضة التي مدتها بداخلك ......)
أظلمت عيناه وهو يشعر بكلامها ينخر عظامه بقسوة .... لكنها لم تترك له الفرصة كي يفكر طويلا ....
بل اقتربت منه أكثر و هي تكاد أن تلمس شفتيه هامسة
( هل تعلم بأنك لم تحييني تحية تليق بخطيبتك بعد ؟؟!! ........ )
أبعد سيف وجهه بقوة عنها وهو يقول بخشونة
( ميرال ......هذا ليس طبعي ....أنا لا أميل لتجاوز الحدود ... . )
همست دون أن تبتعد عنه بمنتهى الهدوء
( و هل كنت تتجاوز حدودك مع وعد ؟!! ........)
اتسعت عيناه للحظة ... قبل أن يعقد حاجبيه وهو يتلجأ في الرد الصارم ....
تذكر أن وعد كانت بالنسبة له مختلفة كالخطيئة التي لم يرتكبها يوما ... لم يشعر يوما بالرغبة في تجاوز الحدود مع أي مرأة رآها بحياته ... الا وعد !!
و رغما عنه تذكر ما كان يسترقه من لمسة يده ليدها ... لعينيها ....
قبلة اقتطفها ذات يوم من وجنتها ....
لغة خاصة بينهما حين يكونا وحيدين ....
تلك الذكريات التي لا تقارن بما تلمح اليه ميرال ... الا أنه كان في حد ذاته تعديا سافرا عليها كفتاة لم تعتد سوى الدفاع عن نفسها طوال عمرها ... و كرجل لم يضعف امام امرأة قبلها !!
" لن أكون حبيبتك السرية ... "
ظِلُ الابتسامة المشفقة شق شفتيه وهو يتذكر هتافها الغاضب الشرس ... و كان يعلم حينها انه يجتاح القوانين الصارمة بكل همسة .. و لمسة حائرة بينهما لا تزيد عن ملمس ورق الورد ....
رفع وجهه الى ميرال ينظر اليها طويلا قبل أن يقول بخفوت
( شيئا واحدا لن اقبل به ... وهو الحديث عن حياتي الخاصة معها , ......أما فيما يخصنا فأنا لا أنكر أنكِ تغرينني بكل الطرق , .... أنت جميلة جدا و مكتملة الأنوثة بدرجة تجعل منكِ حلم أي رجل ..... لكن لي رجاء عندك .....)
رفع وجهه ومد يده ليغطي بها وجنتها وهو ينظر الى عينيها طويلا قبل أن يقول
( أنا مشوشا جدا الآن ..... و أنا .........)
قاطعه فجأة صوت طرقة على الباب .. و قبل أن يجيب كانت علا قد دخلت مبتسمة و هي تقول ببشاشة
( صباح الخير سيد سيف ..... لم اتوقع أن ت ...... أوووووه ..)
شهقت عاليا و اتسعت عيناها بذهول و هي ترى سيف جالسا على كرسي مكتبه , بينما ميرال تجلس أمامه على سطح المكتب أمامه مائلة عليه و محيطة عنقه بذراعيها بينما يده على وجنتها !!!
و من الواضح أنهما كانا في جو حميمي قبل دخولها مباشرة !! ....
احمر وجهها بشدة و أطرقت بوجهها و هي تقول بتلعثم
( أنا آسفة ... لم أعرف بأنكما .... أنتما ..... أنا آسفة جدا ..... )
كانت تعلم بحكم وظيفتها بأنهما كانا يخرجان سويا منذ فترة ... الا انها لم تظن بأن الأمر من الممكن أن يتطور الى هذا الحد .!!....
استقامت ميرال بهدوء و هي تبتسم قائلة ببساطة
( صباح الخير يا علا ..... لا عليك , لم تقاطعي شيئا ....)
ثم نظرت الى سيف الجالس مكانه وهو يتنهد بيأس و قد أطرق برأسه .... بينما هي تنتظره الى ان يعلن خطبتهما .... و بالفعل بعد عدة لحظات , كان يرفع رأسه ليقول بصوت خالي الشعور و قد أسقط في يده
( صباح الخير يا علا ...... هذه على الأرجح مناسبة كي أخبرك بأنني و ميرال قد ...... )
شعر بحكة في حلقه .. مما جعل ميرال تتطوع متخذة دفة الكلام و هي تقول بسعادة
( سيف قرأ الفاتحة مع أسرتي ... و سنعلن خطبتنا اليوم للجميع .... )
اتسعت عينا علا و هي تضع يدها على بطنها المنتفخة و قد تدلى فكها بذهول ...
بينما أطرق سيف برأسه وهو يعلم بأن النصيب لا مهرب منه ... فكل الطرق تبعده عنها قسرا .....
.................................................. .................................................. ................
بعد أيام قليلة ......
يجلس بسيارته أمام بنايتها مجددا ... و قد اتخذ قراره بأنه لن يتمكن من الإنتظار أكثر للكلام معها ...
فمنذ يوم وفاة كريم الذي تلا زفاف مهرة .... لم يرها حتى هذه اللحظة ....
و بعد أن انتهت الكثير من الإجراءات ....
كان يقف خلالها بجوارهما ... لكن من بعيد .... بقدر ما سمحت به وعد ... بتحفظها الجليدي ...

منذ اليوم الأول الذي تلقى به اتصالا من رائف يخبره بما حدث و يطلب منه البقاء بجوار ملك خلال كل الأيام المقبلة لو تخلف هو رغما عنه ....
اندفع حينها الى المشفى و لن يخدع نفسه حين أن اهتمامه الأول كان وعد ....
و تحملها صدمة تلو أخرى ...
على الرغم من أنها الكبرى ... الا أنه لطالما رأى بملك قوة تنقص وعد على الرغم من قسوتها الظاهرة ..
لا يعلم لماذا كان يخالجه هذا الشعور دائما ....
ربما بسبب جسدها الهش النحيل ... على قدر عشقه له .. الا أنه كلما ضمها و استشعر هشاشة عظامها ود لو يكسوها ببعضٍ من عضلاته القوية ....
و حين وجدها في المشفى من بعيد .... مع ملك تمسك بذراعها ...
وقف مكانه ... و رفعت هي وجهها اليه و كأنها شعرت بوجوده .....
كنفس اليوم الذي أتى اليها مسرعا حين مرض والدها و كانت تجلس وحيدة في الرواق ....
مرت الأيام ... و ها هو نفس الموقف يتكرر ....
لكنها كانت و كأنها شخصا مختلفا .... تبدو كنجمة من نجمات شعرها التي انتزعتها بقسوة أمام عينيه ...
لا تزال بفستانها الذهبي المهيب ... يعلوه سترة قطنية سوداء أقرب للرياضية ...
بينما شعرها مسافر على ظهرها متحررا ...
نجمة أو ملكة ..... في أحلك المواقف و أشدها بؤسا .... لكم اختلفت عن الفتاة الساكنة مشدودة الشعر التي عرفها منذ البداية ....
حتى عيناها القاسيتان .... جمدتاه مكانه ... تمنعانه من التقدم اليها بكبرياء ...
الا أنه تلقى اشارتها رافعا ذقنه بتحدي ... فمن هي حتى تجمده مكانه و كأنها تعاقبه !! ... كيف تجرؤ ؟!!
انه موجود في حياتها و حياة ملك رغما عن أنفها المتعالي .... و لن يبارح موقعه الموروث بالنسبة لهما ...
لذا حين اقترب منهما رافعا رأسه ... متحديا عينيها أن تمنعانه من التقدم ....
الا أنه ما أن اقترب منها حتى وصله عطرها المتبقي عليها ....
كانت لمشاعرهما رأي آخر وهما يتشاركان ذكرى افتراقهما منذ بضعة ساعات أثناء حفل الزفاف ...
لكن الذكرى لم تستغرق عدة لحظات ... تاها فيها عما حولهما .... قبل أن تسرقهما أحداث اليوم بكل ما تحمله من حزنٍ خانق ... منعه حتى من النطق باسمها ...
لم يتبادلا كلمة !! .....
كلمة واحدة لم يتبادلاها !!....
افترقا يومها دون حتى أن يجد الفرصة كي يكلمها .... يشرح لها .... يبرر موقفه ... يلومها .....
و ربما يصرخ بها ......
لكنه كان يحتاج أن يكلمها ...
و قد تطلب الأمر عدة أيام ... كي يترك لها فرصة تجاوز ما حدث لملك ....
و ها هو الآن يجلس بسيارته مجددا أمام بنايتها ... بكل تصميم على أن يقابلها ...
و بالفعل خرج من السيارة بعنفوان وهو يصفق الباب بتهور ... و متجها الى المدخل بملامح حديدية كلها بكل عزم و اصرار ...
لكنه لم يكد يتجاوز حارس الأمن ... حتى قام من مكانه مسرعا و هو يهرول خلف سيف قبل أن يصل الى المصعد مناديا
( سيد سيف ..... سيد سيف ..... )
توقف سيف مكانه ليستدير اليه عاقدا حاجبيه قائلا بهدوء
( نعم ............ )
توقف حارس الأمن مكانه مرتبكا و محرجا .... ثم قال بتلجلج ....
( أنا آسف سيد سيف .... لكن .... لدي أوامر مشددة من السيدة .... من السيدة وعد .... بمنعك من الصعود اليها ..... )
تسمر سيف مكانه كتمثالٍ هائل الحجم ... متصلب الوجه .... متوهج العينين ما بين الغضب و الذهول ... قبل أن يقول بخفوت خطير ... محاولا الإستفسار رغم فظاعة الإدراك
( أوامر من السيدة ؟!! ..... تقصد السيدة وعد ؟!! ..... زوجتي ؟!! ....... )
ارتبك حارس الأمن أكثر و تراجع خطوة أمام التعبير المخيف المرتسم على ملامح سيف رغم هدوءه الظاهري .... فقال بتوتر أكبر
( آآآ ..... أعتقد أنها قالت ..... زوجي .... السابق .... لذا شددت على منعك من الصعود اليها .... )
نطق العبارة الأخيرة بسرعة مرة واحدة وهو يتوقع عاصفة همجية من هذا الكائن الضخم أمامه ...
اتسعت عينا سيف قليلا ... وهو يراقب ملامح حارس الأمن المرتبك ...
و مضت عدة لحظات يحاول فيها استيعاب الموقف ... قبل أن يقول بصوت خفيض جدا ... مشددا على كل حرف ... وهو يمر بعينيه على جسده الضئيل النحيف
( أتظن أنه يمكنك منعي ؟!! ..... حقا ؟!!! ...... هل ظنت السيدة المبجلة أنك تستطيع منعي من الصعود ؟!! .... )
ارتبك الحارس المسكين أكثر ... و تراجع خطوة أخرى ... لكنه قال بخفوت متحرجا
( إنه ليس شجار طريق, سيد سيف ....... أنت طليقها .... و أنا حارس هذه البناية ... و أنا أنفذ الأوامر ليس الا ..... )
ظل سيف واقفا مكانه دون حركة ... و دون أن تهتز عضلة بوجهه ... باستثناء فكه السفلي المبتعد قليلا عن العلوي ... و كأنه يستعد لطحن أحدهم تحت ضرسه ....
و مضت عدة لحظات في صمت مشحون ... قبل أن يطرق برأسه يهزها قليلا وهو يضع يديه في خصره ... ضاحكا بلا مرح ضحكة عدم تصديق .... قبل ان يقول بخفوت شرس
( هكذا اذن !! .......... )
ابتلع حارس الأمن ريقه وهو يقول بخفوت
( أنا آسف سيد سيف .......... إنها الأوامر ..... )
رفع سيف رأسه ..... رافعا يديه كذلك باستسلام وهو يقول بهدوء مزيف .. و لا مبالاة كاذبة
( لا بأس ...... لا بأس ...... انسى الأمر و باشر عملك ..... )
ثم استدار ليخرج وهو يقول بنفس اللهجة اللامبالية
( على الأقل اطمئننت عليها من حيث حراسة المكان ....... )
لكن صدره كان يغلي ... و يفور به الدم ... فأخذ يعلو أسرع و أسرع ...
و ما أن خرج من البوابة حتى فقد السيطرة على غضبه .... فانحنى يلتقط أول حصاة يجدها ... ثم استقام مندفعا و مستديرا ليقذفها غاضبا بكل قوته ....
فاصطدمت بالباب الزجاجي بعنف محدثة شرخا صغيرا به !! ......
و كانت هناك سيدة تهم بالدخول حين فعل فعلته ... فصرخت رعبا و انطلقت تجري الى المصعد و هي تظلل رأسها بذراعيها !! ...
بينما هتف حارس الأمن بهلع
( سيد سيف !!! ..... ماذا تفعل ؟!!! ........ أنت تعرض نفسك للمسؤولية ..... )
الا أن سيف رفع يديه مجددا باستسلام وهو يقول بهدوء لاهث من شدة الغضب و تدافع أنفاسه
( لا بأس ..... آسف ..... ضربة خاطئة ...... عد الى عملك .... )
ثم استدار مندفعا وهو يرى الغضب بلون السواد أمام عينيه يفوق تفاهة الموقف ... فلقد اعتاد على وقاحات وعد منذ زمن .... لكن الغضب بداخله كان يفوق ما حدث بمراحل عدة ....
أن يشعر بغضبها .... بانكسارها .... بألمها .....
فمن كان السبب في كل هذا ؟!!! .... أتجرؤ على التألم الآن ؟!! ......
و حين شعر بأنه على وشك التهور مرة أخرى ... أخرج هاتفه كمحاولة يائسة منه على الرغم من ثقته أنها لن ترد ....
وضع الهاتف على أذنه ... بينما يده الأخرى في خصره وهو لا يزال يلهث غضبا .... و الرنين يزيد من تعصيبه ....
مضت عدة لحظات وهو غير متقبل لعدم ردها .... متأكدا منه ... الى أن صدم بسماع انقطاع الرنين أخيرا و سماع صوتها .....
صوتها الذي جائه هادئا ... ثابتا .... دون مقدمات و هي تقول
( ماذا تريد يا سيف ؟!! ...... )
لم يصدق أنه سمع صوتها أخيرا ... لم يسمعه منذ أيامٍ عدة .. فظل مصدوما عدة لحظات .. قبل أن يبدأ الإنفعال يجيش مجددا في صدره .... و ضوء النهار يزداد قتامة أمام عينيه ...
يتنفس بسرعة محاولا التماسك و الحفاظ على هدوءٍ لا يملكه .... الى أن أغمض عينيه للحظة وهو يهمس بصوتٍ لا يكاد أن يسمع
( من تظنين نفسك ؟!! ........ )
وقفت خلف الستارة البيضاء الخفيفة ... تراقبه من نافذتها بوجهٍ صامت .... و ملامح ساكنة ...
تراه يدور حول نفسه أمام سيارته و الهاتف على أذنه ... مدت يدها تتلمس الستارة تزيحها قليلا ... و هي تراقبه بعينيها الواسعتين ... بتعبيرٍ أبلغ من الكلام رسم حدقتيهما ...
وظنت في البداية أنها لم تسمع همسته الخفيضة .... لكن و قبل أن تسأله , كان قد فتح عينيه ليصرخ فجأة بقوة شقت سكون الطريق الهادىء
( من تظنين نفسك ؟!! ...... بالله عليكِ من تظنين نفسك ؟!! .... )
صدمها السؤال الصارخ . .. بل طعنها و هي تبعد الهاتف عن أذنها قليلا ... شعرت و كأنه ركلها في معدتها ... و أوشكت على أن تغلق الهاتف من شدة ألمها ...
الا أنها و في اللحظة الأخيرة ... أعادت الهاتف الى أذنها و قالت بهدوء رافضة اظهار الألم به ...
ما أن صمتت صرخته
( لا تقل ما قد تندم عليه فيما بعد يا سيف ...... لا داعي للتجريح .... دعنا على الأقل أن ..... )
الا أنها كانت كمن يخاطب حجرا أصما .... فقد صرخ وهو يدور حول نفسه أمام عينيها ليقاطعها صارخا بقوة
( من تظنين نفسك كي تدعين الألم بكل وقاحة ؟!! ........ أوتجرؤين ؟!!! .... )
تعمق لون عينيها الرماديتين و بدا بلون عمق البحر الشتوي الداكن .... بينما فغرت شفتيها المرتجفتين قليلا ...
أما هو فتابع هاتفا بغضب
( من تظنين نفسك كي تمثلين دور المظلومة .... المصدومة بخبر ارتباطي بأخرى ؟!! ..... من أين أتيتِ بمثل هذه الوقاحة ؟!!!! ...... )
دار مجددا بعنف ... و دون مقدمات رفع رأسه اليها مباشرة و كأنها يراها ... حتى أن قبضتها قد ارتجفت على الستار الشفاف ... بينما تابع هو هادرا
( و ماذا عن ألمي أنا ؟!! ..... ماذا عن احساسي بالغدر منك مرة بعد أخرى ؟!! ..... ماذا عن قسوتك في الإصرار على الرحيل ؟!! ...... ماذا عن خيانتك ؟!!!!!!! ..... )
نطق الكلمة الأخيرة هادرا بقوة .... حتى أنها كانت تنتفض ارتجافا ... هلعا .... لكنها همست بذهول
( خيانتي ؟!! .......... )
صرخ بكل عنف يقاطع همستها الضعيفة ....
( نعم خيانتك ...... خيانتك لقلبي الذي احتاجك يوما ..... خيانتك لحبٍ لم أمنحه لغيرك , و هربك من كل مساوئي و طباعي اللعينة و أحقادي القديمة ..... )
صمت قليلا وهو يلهث بشدة .... تراه واقفا بشموخ في عرض الطريق .... يبدو من تلك المسافة ساكنا ... صامدا .....
الا أن هدير أنفاسه و الذي بدا في تلك اللحظة كمدخنة مصنع حجرٍ عملاق .... جعلها تشعر بالخوف عليه بحق ...
أطرق برأسه من بعيد ... أمام عينيها المتشوشتي الرؤية بغلالةٍ من الدموع الحبيسة ... رفضت النزول كعادة قديمة ...
بينما رفع سيف وجهه أخيرا ليقول بخفوت مجهد ... متعب
( أتدرين ماذا يا وعد !! ....... كانت لكِ نفس المساوىء و العيوب .... و نفس ندوب الماضي .... لكن الفرق بيننا أنني تمسكت بكِ بكل عيوبك .... مهما جرحتك و هذا ما لست فخورا به .... الا أنني تمسكت بكِ بكل قوةٍ امتلكتها يوما ....... )
صمت قليلا وهو يتنفس تعبا .... ثم قال بخفوت منهزم
( لكنك خنتِني ........... )
ظل الصمت عبر الأمواج بينهما يحمل هسيس أنفاسهما لأذن كل منهما .... بينما أعلنت دمعتيها تحررهما , فانسابتا على وجنتيها بنعومة و صمت ....
قال سيف أخيرا وهو يلوح ذراعه بيأسٍ و تعب
( لذا لا تلومينني الآن لو بحثت عما يحتاجه أي رجل , مع غيرك ..... لأنكِ لا تملكين هذا الحق ..... )
شعرت بغصة مضنية كادت أن تشطر حلقها بعنف ... بينما دموعها تستمر في الانسياب بصمت ...
و قلبها يصرخ بعنف .....
و هي تراه يبتعد في اتجاه سيارته ببطىء .... لكن و قبل أن يخفض هاتفه قالت بنبرة خافتة ... فاترة .. لا تماثل الإختناق بحلقها ...
( و هل كان ما تشركناه ليلة الزفاف هو نوع ما مما يحتاجه الرجل ؟!! ...... ماذا عن خيانتك أنت ..... لخطيبتك ؟!! ..... )
شعرت بنفسها تتجرع سما زعاف و هي تنطق الكلمة مجددا ... و كم كان ارتجافها عنيفا حين أبصرته يتسمر مكانه ..... ظهره الى البناية .... و الهاتف على أذنه ...
فكأن الوقت توقف بينهما ... لا يقطع الصمت سوى صوت أنفاسهما المرتجفة بالذكرى ...
الى أن قال في النهاية بصوتٍ لا تعبير له
( لا تقلقي عليها ...... أخبرتها أنني أعاني من حبٍ يائس ... و طلبت منها أن تخلصني منه , فوافقت .... لكن المريض معرض أحيانا لبعض الإنتكاسات خلال العلاج ..... )
أغمضت وعد عينيها على دمعتين ثقيلتين ... فانسابتا من تحت جفنيها المطبقين بشدة ...
بينما سمعت صوت صرير سيارة منطلقة بشدة و عنف .... لم تحتاج لفتح عينيها كي تتأكد من أنه صوت سيارته .... فكأنما كان له صريرا خاصا في الغضب ...
بينما بقت هي واقفة مغمضة العينين أمام نافذتها ... قبضتها متشبثة بالستار الشفاف تكاد تقتلعه ...
و الدموع الصامتة تتوالى في الإنحدار على وجنتيها تصاحبهم غصة حلقها المحتقن .... ثم همست بألم مبحوح
( واهم أنت ... مغيب , لو ظننت أن امرأة غيري ستكون الدواء لدائي .... )
لكن صوت رنين الهاتف وهو لا يزال على أذنها جعلها تنتفض شاهقة ... لتفتح عينيها بلهفة و هي تهمس بتضرع
( أقسم أنك لو طلبت عودتي الآن .... لركضت اليك طالبة السماح .... أخبرك أن وعد الماضي لم تعد وعد الحاضر .... و لمنحتك كل الوعود التي تطلبها .... فقط كن أنت ... كن أنت .... )
ضغطت زر الهاتف دون أن تلمح الإسم و هي تهتف بلهفة مبتسمة من بين دموعها
( سيف !! ............ )
ساد صمت قصير ... قبل أن يأتيها الصوت الهادىء المتلجلج
( آممممم .... لا ... بل أمه ..... لو كانت تفي بالغرض , لكن من نبرة صوتك أظن أنني قد اتصلت في الوقت الغير ملائم .... )
أسقطت وعد يدها بهاتفها الى وركها بقوةٍ و هي ترفع عينيها المغروقتين بالدموع الوردية الى السماء يأسا ..... تزفر بكل نبضة ألم في جسدها في تلك اللحظة ...
ثم عادت لترفع الهاتف الى أذنها و هي تمسح دموعها بظاهر يدها لتقول بحزم و كأنها لم تكن تعتصر ألما منذ لحظة واحدة ...
( مرحبا يا عمتي ......... لا تقلقي , تعودت أن وجودي كله غير ملائم .... )
ساد الصمت مجددا , قبل أن تقول منيرة بشجاعة دفعة واحدة
( اسمعيني يا وعد .....لم يصح لي الحديث معكِ من قبل نظرا للظروف التي تمر بها ملك ..... لكن الآن و قبل أن تغلقي الخط , أريد فقط أن أخبرك شيئا واحدا ..... ربما لو أقسمت لكِ بأنني كنت متأكدة تمام التأكيد أنها لن تحضر الزفاف فلن تصدقيني ... و لكِ كل العذر بذلك .....
لكن من حقك علي أن اقسم بالله أمامك بأنني لم أكن أنوي جرحك .... كنت صافية النية و أنا أدعوكِ و قد اخبرني سيف أنه خطيبته ..... أقصد .... ميرال لن تحضر .... )
استدارت وعد عن النافذة و هي تقول بصوتٍ بارد .. قاسٍ
( كنت تعلمين أنه ارتبط بفتاة أخرى يا عمتي ...... و أن وجودي ليس له معنى ..... حتى بكل مسميات القربى بيننا ..... لم يكن من العدل أن أعرف بتلك الطريقة اكراما للعشرة .... )
ساد صمت طويل هذه المرة .... ثم قالت منيرة أخيرا بصوتٍ خافت مهتز
( و كنت أتمنى لو فلح سعيي .. قبل أن تعرفي من الأساس .... )
وقفت وعد مكانها و هي تقول بفتور
( و ما هو سعيك بالضبط عمتي ؟؟ ........ )
ابتلعت منيرة ريقها و هي تقول بتوتر يكاد يكون منفعلا .... بعد أن استجمعت كل شجاعتها
( انظري اليه ..... إنه واهم ..... لقد خطبها قبل حتى أن تنتهي أشهر العدة !! ....... كيف لي أن أتركه بتلك الحالة ليظلم ثلاثة أفراد ؟!! ..... )
صمتت وعد و عيناها تشردان في البعيد ...
" انه واهم !!! ..... "
لقد نطقت بالكلمة منذ لحظات ..... و دون أن تدري افترت شفتيها عن ابتسامة شاردة ....
الا أن صوت عمتها جعلها تفيق و هي تقول بقلق
( وعد ..... ألازلتِ معي ؟!! ...... )
رفعت وعد وجهها و محت ابتسامتها الشاردة ... ثم قالت بكبرياء وهدوء
( معك يا عمتي ....... لكن ما لم أعرفه , ماذا كان المطلوب مني ؟!! ...... )
شعرت بارتباك عمتها أكثر .... ثم قالت أخيرا بصوتٍ خفيض محرج
( كنت واثقة ...... أنه بتقوية العلاقات من جديد .... سيتبدد أي خلاف بينكما .... )
ظلت وعد صامتة .... جامدة الوجه و الملامح .... ثم قالت أخيرا بخفوت , مشددة على كل حرف
( بالله عليكِ يا عمتي !! ..... في البداية كنت مرفوضة ... منبوذة .... أقل من المستوى و أبنة العدو ...... لكن بعد أن اكتشفتِ أن سيف موجوع القلب في رحيلي , اذن لا مانع من استعادتي كي يشفى !!! .....
بالله عليكِ يا عمتي !!!!! ....... هل أنا دمية اشتريتموها ؟!! ..... )
كانت تهتف من شدة الغضب و الألم اللذان تشعر بهما في تلك اللحظة .....
الا أن بعد فترة صمت مشحونة بالغضب و المرار .... سمعت صوت ضحكة خافتة من عمتها و هي تقول
( لن أنسى تلك العبارة من فم سيف نفسه ... وهو يردد بخشونة قبل أن أعرفك ..." وعد ليست دمية يا أمي , أحضرها لكِ كي تلعبين بها !! " ..... )
في لحظة خاطفة .. تبدد معظم غضبها و هي تسمع تلك العبارة البسيطة ... و دون أن تتمالك نفسها , أفلتت منها ضحكة خافتة , مترافقة مع شهقة بكاء ناعمة خائنة ....
فقالت منيرة برجاء
( أنا آسفة يا وعد ...... آسفة جدا ..... لقد دفعتِ وحدك ثمن الماضي كله ..... و الآن أحاول بكل أنانية أن أساعد ابني دون أن أفكر بكِ ..... لكن والله لولا ثقتي أنكِ تتألمين نفس الألم ... لما حاولت ..... )
صمتت قليلا و هي تغص باختناقة بكاء كبتتها على فعلتها القديمة تجاه وعد و هي لا تزال طفلة ....
لكنها همست من بين بكائها المختنق
( سامحيني يا وعد ... كنت في غاية الحقارة و لا زلت .... أرجوكِ سامحيني , فليس في العمر أكثر مما مضى .... )
تنهدت وعد بتعب و هي ترفع عينيها الى السماء مجددا ... ثم لم تلبث أن قالت بهدوء خافت
( لا تقولي ذلك يا عمتي ..... سبق و آذيتك بنفس الدرجة ... و لست فخورة بما فعلت ..... )
همست منيرة باختناق من بين دموعها
( ما فعلته أنت لا يقارن حتى بنصف ظلمي لكِ ........ )
مطت وعد شفتيها و هي تقول بصلابة
( أرجوكِ يا عمتى ..... إن كان هناك ما أكرهه في حياتي , فهو كسب التعاطف بالبكاء ..... لم أعش ما تعرضتِ له من ظلم و خراب على يد أبي .... لذا لا أستطيع محاكمتك ..... )
أخذت منيرة تكفكف دموعها و هي تشهق و تسعل .... بينما وعد ترفع عينيها منتظرة لهذه الفقرة العاطفية أن تنتهي ... الى أن قالت منيرة في النهاية بصوتٍ شبيه بصوت الأطفال الغضبى ...
( اذن .... هل تغفرين لي محاولتي في الجمع بينك و بين سيف مجددا ؟!! .......و هل تصدقين أنني لم أقصد ايلامك من جديد ؟!! ... . )
زفرت وعد بقوة .... ثم نظرت عن بعد الى النافذة الخالية .و قالت بخفوت
( لا بأس يا عمتي ......... لا بأس , فلقد حدث ما حدث ..... )
الا أن منيرة استغلت طفولتها و دلال والد سيف لها و الذي لم يفسده الزمن بعد
( اذن .... أتأتين لرؤيتي بين الحين و الآخر ؟!! ...... لقد تزوجت مهرة .... و ستلحقها ورد و سيف ..... و أنا سأبقى وحيدة ..... )
شعرت وعد بوجعٍ يفوق قدرتها على التحمل و هي تتخيل زواج سيف الوشيك ....
الا أنها رفعت وجهها بكل اصرار و قوة .... بينما قالت منيرة ببراءة
( و لا داعي لتأتي في وجود سيف لو كان هذا ما يضايقك ...... تعالي أثناء خروجه .... و في غيابه ... )
لم تعلم منيرة أن وعد كانت تبتسم بشفتين مائلتين جانبا .... ثم قالت بخفوت بنفس البراءة
( نعم لا بأس إن كان الأمر كذلك ..... قد أستطيع المرور بكِ يا عمتي من حين الى آخر .... طبعا في غياب سيف ..... ففي النهاية , لقد منعته من الصعود الى شقتي .... من يعلم !! ... ربما تمكن من نسياني يوما حين يطول الفراق ...شهر ... اثنين ... ثلاثة ... )
.................................................. .................................................. ....................

بداية النهاية ....
بعد مرور ثلاث أشهر !!
جالسة في أحد الأركان المشمسة .... أمام طاولتها المفضلة التي قامت تزيينها كما اعتادت مع كل مكان تتجه اليه ...
طاولة بسيطة ... مزينة ببعض الورود و الكرات الزجاجية الكريستالية التي تعكس أشعة الشمس من خلفها فتنثر من حولها أقواس قزحٍ تلون بشرتها الشفافة ...
بينما الشمس تنساب على أمواج ضفيرتها الذهبية فتجعل منها حلما لفتاة صغيرة ....
كل ما بها يحمل آيات الجمال ... حتى عينيها , و التي ظللها شعاع من حزنٍ خفي ... حتى باتت تشبه عيني أختها وعد ....
تمسك بقلمها تهرب من حياتها بين أوراق دفتر وجدت به الملاذ ... فترتاح قليلا من أوجاع قلبها ككل يوم
" حين أنظر الى حياتي قبل بضعة أشهر قاربت العام .... أتسائل !!
هل كانت تلك هي أنا ؟!! ..... أم أنني كنت أمثل دورا مؤقتا لتعود بي الحياة لدوري الحقيقي ....
عام مر ....
و كبرت خلاله تلك الفتاة ذات الضفيرة , فحلت ضفيرتها و رأت العالم من بين خصلاتها المتناثرة ....
لتفاجأ بنفسها و قد وجدت أختها ... ووجدها صديقها ...
تزوجت و خدعت و كسر قلبها فانتهكت روحا قبل جسدا ......
و يوما ما .... استيقظت لتجد نفسها و قد أصبحت أرملة ترتدي ملابس الحداد ....
حداد على طفولتها الضائعة .... حداد على صديق الطفولة الذي رحل قبل سنواتٍ طويلة ... و الآن فقط بدأت مراسم الحداد له .....
أشهر طويلة تضربها صفعة تلو أخرى الا أنها كانت تحاول النهوض يوما بعد يوم , و الكسر يجبرها على السقوط ... .... تحاول و تحاول ...
و كلما حاولت وجدت يدا رجولية تمتد اليها ... تتشبث بها , فتطبق على يدها كي تسحبها حتى تقف على قدميها ...
يد الغريب .... لن تعرفه أبدا سوى بالغريب ...
غريب القلب و الروح .... غريب الوجود ......
اشتقت اليك أيها الغريب ..... و اشتاقت اليك الطفلة التي تغزلت بضفيرتها الطويلة ...... "

رفعت ملك وجهها الشاحب الجميل عن دفترها .... و نظرت من نافذتها بعينيها الحزينتين .... بينما لم تفقد شفتيها ابتسامة رقيقة ... تبدد القليل من حزن قلبها ...
رفعت يدها تستند بذقنها الى قبضتها و هي تتأمل السماء من خلف الزجاج ... لتهمس بآخر ما كتبت بشرود
؛( اشتقت اليك أيها الغريب .........)
ثلاثة أشهر لم تره و لم تسمع صوته ....أشهر عدتها و لا يزال شهرا متبقيا ... فقد اختفى عنها تماما احتراما للأصول .... بينما كانت هي تتقفى الأخبار عنه و تعرف أن الحال لا يسر ....
اصابته لا تزال تحت العلاج و التمرين ... و ما بين تحقيقاتٍ عدة ....
كانت مرة تلك التي أدلت بأقوالها في التحقيق كما أمرها ..... أن تذكر اسمه هو .... لا سيد ....
و كم استلزمها ذلك من مرارٍ و عذاب و هي تستجمع كل قواها كي تنطق اسمه أمام المحقق .....
و منذ هذا اليوم عادت الى بيتها مع وعد .... تمضي به الأيام و الأشهر بصمت .....
ما بين أسطر الكتابة .... و ما بين مناجاة العصافير بالقرب من النافذة التي ثبتت على حوافها ... جرات صغيرة من ماء و حبٍ ... علها تحصل على بعض الرفقة الصامتة ....
دخلت وعد الى الغرفة و هي تتأمل ملك بشرودها الملازم لها مؤخرا .... و نظرات الحزن المظللة لعينيها ...
فتنهدت بصمت و هي تمنحها بضعة لحظات ... قبل أن تتنحنح قائلة بهدوء
( مظروفك الشهري وصل يا ملك ...... لكنك على ما يبدو لستِ في حالٍ يسمح باستقباله !! ..... )
انتفضت ملك من مكانها و هي تنظر الى وعد بلهفة .. بدتت بعضا من غلاف الصمت المحيط بها ...
فقفزت من مكانها فتطايرت أوراق الدفتر ما بين اشهرٍ عديدة مضت على صفحاته .. و سقط القلم ...
الا أنها لم تهتم ... بل جرت الى وعد , متلهفة و بعضا من الحياة تشعل الشوق بعينيها ... الى أن وقفت أمامها و عيناها تستطيلان النظر خلف ظهر وعد حيث تخفي المظروف الخاص بها ...
ثم قالت محاولة اخفاء بعضا من تلك اللهفة الحمقاء ...
( أنا بخير ..... هلا أخذته يا وعد من فضلك ....... )
حاربت وعد كي تمحو ابتسامة تقاتل كي تظهر على شفتيها ... ثم قالت بحزم زائف
( أخشى أن تكون تلك الخطابات سببا في استمرار حزنك ... أنت تحتاجين لبعض العزلة الآن ....)
الا أن ملك لم تجد القدرة على الثبات أكثر فاحتضنت وعد بشدة و يداها تعبثان خلف ظهرها حتى اختطفت المظروف منها .... ثم قفزت عائدة جريا الى نافذتها و هي تقول بشوق
( إنها المُسكِن الذي أحيا عليه ...... أرجوك اغلقي الباب خلفك يا وعد .... )
زمت وعد شفتيها و هي تنظر المظروف المرتعش بين أصابع ملك المرتجفة ... بينما عيناها تتيهان عليه برقة متشوقة و كأنها تحاول قراءة ما بداخله قبل حتى أن تفتحه ....
فقالت وعد بجفاء
؛( هنيئا لكِ بمظروف الخيبة يا ملك ......... والله لولا حزنك لكان لي تصرف آخر معك ... فأنتِ تنهضين من وقعة ... كي تنكبي على وجهك بأخرى تليها .... )
همست ملك دون أن تستدير الى وعد
( اتجهي الى المرآة في آخر الممر و كرري نفس الكلام لنفسك حبيبتي .... و الآن أغلقي الباب رجاءا ... )
زمت وعد شفتيها أكثر و قد التمعت عيناها بالضربة الغير مباشرة ... الا انها قالت من بين أسنانها
( حسنا يا ملك ......... أنت لا تحاربين بشرف , لكنني سأتركك كي لا تطيلي لسانك أكثر .... انعمي به ... غبية ..... )
أغمضت ملك عينيها و هي تسمع صوت اغلاق الباب ... معلنا خلوتها معه أخيرا ....
فطرفت بجفنيها قليلا ... و أخذت نفسا عميقا محاولة تهدئة نبضها المجنون و الذي كان ميتا لثلاثين يوما منذ الخطاب الأخير ... ينبض أحيانا لذكرى الغريب ... ثم يعود و يخبو أمام الحزن المخيم حولها ...
فتحت عينيها و هي تتلمس المظروف بأصابعها ... تدخر فتحه قليلا , كطفلةٍ تدخر فتح هدية العيد ....
ثم فتحته أخيرا برفق .... لتجد حفنة الأوراق المالية بداخله ككل شهر !! ...
افترت شفتيها عن ابتسامة رقيقة حزينة .. و هي تفر الأوراق المالية باصابعها الشاردة .... ثم لم تلبث أن تحولت ابتسامتها الى ضحكة صغيرة ... قبل أن تلتقط الخطاب الذي كانت تنتظره بلهفة ..
ففتحته و عيناها تطيران لتسابقان الأسطر ...
" كيف حالك صغيرتي : ......
آمل أن تكوني بخير حال و أن يكون الحزن قد خفف القليل من أحماله على قلبك الرقيق .....
أستطيع الشعور بحزنك و كأنني ألامس دموعك في هذه اللحظة تحديدا .... و ربما كنتِ كالعادة تحملين العتاب بداخلك لتغيبي عنكِ ..... و بداخلي دافع يحثني على المجيء اليكِ ...
أتذكرين مرة اخبرتك بها بأنكِ تربكين الصواب بداخلي !! ......
ساعديني كي أصمد للنهاية ..... و كوني أقوى مما عهدتك ....
هذا سيكون آخر خطاب بيني و بينك .... فبعد شهرٍ لن يكون بيننا أسطر مخطوطة , بل سيكون موعد عقدناه للقاء منذ فترة طويلة ..... أتذكرين ؟!! .....
أما الآن فافعلي شيئا من أجلي ..... ترفقي بعينيكِ من البكاء و لا تحاولي الإنكار ....
و إياكِ و الشعور بالذنب .... كتبتها في كل خطاب و أعرف أنكِ لن تمتثلي ... لكنني لن أمل ترديدها ...
إياكِ و الشعور بالذنب .... اتركي الماضي يرحل مع مركبٍ ورقية , سلميها لأمواجِ بحرٍ بعيد .....
انتهى موعدك مع الحزن رددي هذا الى أن أراكِ قريبا .....
ملحوظة : مرفق مصروفك يا صغيرة ..... اشتري لكِ رواية ... ورودا أو حلوى .... اسعدي نفسك بما تحبين .... كوني مكاني الى أن ألقاكِ ......
الى لقاءٍ قريب بيننا .... بات يعد بالأيام .... لا الأشهر ....
رائف "
أنهت ملك قراءة الخطاب دون أن تدري بهاذين المجريين من الدموع الناعمة و قد شقا طريقهما على وجنتيها .,..... بينما الابتسامة تحفر لها طريقا على شفتيها ...
فأخرجت الأوراق المالية بيدها و هي تنظر اليها مذهولة مبتسمة ....
لم ييأس من ارسال مصروفها السري بينهما على الرغم من كونها وريثة كريم القاضي ... بعد أن حصلت على ميراثها من أمها قبلا !!! ... و لا يزال يرسل لها مصروفا يشعره بالملكية الحصرية تجاهها ....
ضحكت فجأة ضحكة مهيبة لم تضحكها منذ أشهر و هي تضم المظروف و المال الى صدرها ... مغمضة عينيها بشدة ... لتشهق ما بين ضحكةٍ و بكاء .... لتهمس من قلبها
( سامحني أيها الغريب على وعدٍ لم أستطع تنفيذه .... فمن ذا الذي لا يبكي أمام كلماتك ؟!! ....و سأبكي على صدرك حتى الموت .... حين يحين موعد لقائنا ... قريبا .... قريبا جدا أيها الغريب .. )
ابتسمت بجمال و هي تدور بالخطاب .... قبل أن تعود و كأنها تمس الأرض بأطراف أصابعها ...
تعود الى أوراقها ....واضعة المظروف على الطاولة و الأوراقة المالية ظاهرة منه ...
بينما الخطاب مفتوحا أمامها .. يغازلها بكلماته .... فأمسكت القلم و خطت به أحرفا جديدة و هي تتنهد بابتسامةٍ أقسمت على الا تغادرها اليوم .....
" خلال هذا العام .... مرت بي أناس أثروا بحياتي ..... و كان لكل منهم بصمة ...
بعضهم كان الحياة ... و بعضهم لم يمكثو سوى بضعة ساعات و عبروا حياتي سريعا , تاركين أعمق الأثر .....
وعد ..
شادي ..
بشرى ..
كرمة ..
ورد ...
سيف ...
السيد عاطف ...
ميساء ....
صبا ... آآه محاميتي و التي تتولى قضية رائف الآن ... تلك المرأة التي لا أعرف عنها سوى أنها تمدني بالقوة من بعيد .... كلما نظرت اليها و بادلتني النظر بعزم شبيهٍ بعزمِ موكلها ... رائف ..
لكن اسمحي لي الآن يا أوراقي بأن أتجاوز كل من عبروا حياتي خلال هذا العام ....
و أبدأ بالغريب !! ...... "
رفعت ملك وجهها لتبتسم ابتسامة تحلق في عالمٍ آخر ... عالم بعيد عن دنيا الأحزان ...
ثم لم تلبث أن أخفضت وجهها مجددا و هي تخط اسمه بقلمه الذهبي الذي كان احدى هداياه لها ...
هامسة برقة و هي تخط الأحرف
" رائف ...... "

.................................................. .................................................. .....................
ثلاثة أشهر !! .....
ثلاثة أشهر و هي تعمل بجد و تعب .... من إنجازٍ للآخر ....
يملأها الزهو ... ينعشها الفخر .... و ينحر قلبها العشق !! .........
ثلاثة أشهر و هي تعمد الى تلك الخطة المعروفة لدى الجميع ... .....
أذا أردت شيئا بشدة فاطلق سراحه .... فإن عاد اليك فهو ملك لك ... و إن لم يعد , فهو لم يكن لك من البداية .....
و كانت تلك نفس الخطة التي اتبعها سيف على ما يبدو بعد أن خسر معها كل الطرق بسبب غبائها ...
حتى الآن و بعد مرور ثلاثة أشهر .... لم تره أو تسمع صوته بعد آخر اتصالٍ بينهما ...
كم استلزمها ذلك من قوة و مقاومة ؟!! .....
قوةٍ على تحمل الفراق .... و مقاومة لكل صورة تضرب خيالها لسيف و هو يتعامل مع خطيبته .. يدللها ... يملأها شغفا ....
فعلى الرغم من ثقتها حتى هذه اللحظة في حبه لها و الذي لن تستطيع ميرال أن تمسه ....
الا أنها كانت تعرف سيف كرجل .... من المؤكد أنه سيضعف أمام فتاة مثل ميرال .... و لذلك تسرع و خطبها ... كي يضع الأمور في نصابها الصحيح
و كم قتلها ذلك أياما و ليالٍ ....
كانت متأكدة أن سيف تأثر بميرال بطريقة ما .... و هذا هو الواقع الذي عليها أن تتعايش معه فيما بعد ... حين تستعيده .....
أما الآن فكانت تنفذ خطتها بكل مهارة و تحمل ... و لذلك كانت أعصابها تنهار من حينٍ لآخر ...
غير قادرة على مواجهة الألم المتنامي بداخلها مع الأيام .....
و ها هي اليوم تواجه انهيارا حادا ...
وقفت كوثر ... و راوية ... و بينهما علي .... ينظرون اليها بتوجس ..
بينما الباقين جالسين أماكنهم معتادين على حالات الجنون التي تنتاب مرؤستهم من حينٍ لآخر مثل هذه اللحظة ...
و هي واقفة تصرخ بغضب ... و تضرب سطح الطاولة بقبضتيها ... بينما ينهار شعرها الحريري الأسود على جانبي وجهها بفوضى
( لماذا لا يوجد صابونة في تلك الباقة ؟!!! ..... لماذا ؟!!! ..... كم من مرة نبهت الى أهمية الصابون ؟!!! )
لم تلقى جوابا و الكل ينظر اليها بصبر علها تهدأ ككل نوبة ...
الا أن صمتهم أثار حفيظتها و صرخت أكثر
( أين هي الصابونة ؟!!!!!!!! ....... )
تقدم يوسف من خلفها وهو يبتسم بفم ضاحك من الأذن للأذن .... غير قادرا على منع نفسه ...
الا أنه تكلم بكل جدية و هو يقول صارما
( هذا الإهمال سنبحث جيدا عن المتسبب به ..... كيف لا نجد صابونة في الباقة ؟!!! .... ماذا يقول عنا العملاء ؟!!! ..... لا نستطيع تحمل ثمن الصابون في موجة الغلاء الأخيرة ؟!! ..... )
هتفت وعد بجنون دون أن تستدير اليه و هي تضرب الطاولة مجددا
( أخبرهم بالله عليك ......... نبهت ألف مرة .... أن باقة العروس من معرض وعد تحتوي على : ستة أقمصة نوم حريرية مطبقة بعناية و الملابس الداخلية المرافقة ... في العلبة الوردية ... يعلوها ثلاث شمعات معطرة ... و صابونة ملونة على شكل وردة .... و بعض أوراق الورد المجفف .... و ملفوفة بقماش التل و الشريط يكون وردي ... )
صمتت تلتقط أنفاسها ثم ضربت الطاولة مجددا عدة مرات و هي تصرخ مشددة
( الشريط .... يكون ...... وردي ....... )
نفخت بشدة فتطايرت غرتها من على جانب وجهها و هي تسحب الباقة أمامها و تقول و كأنها تمسك بجسم الجريمة ... ثم صرخت
( هل يمكن لأحد أن يخبرني ما هذه تحديدا ؟!!!!!! ..... الشريط أصفر !!!! .... أصفر كصفار بيضة !!!! ... و كأنها باقة جنائزية ...... و لا توجد صابوناااااااا ..... )
وضع "علي" يده على منتصف وجهه وهو يحاول جاهدا الا يضحك .... حتى أنه أصيب بالفواق من شدة ما كتم ضحكه .....
فصرخت وعد بجنون
( لا تضحك يا علي ....... )
حينها لم يستطع أن يمسك نفسه وهو ينثني على نفسه لينفجر بضحكة مكتومة ... و عيناه تدمعان .,... فصاحبه عاصفة ضحك من باقي المتواجدين ....
و هذا ما جعلها تصرخ أكثر كالمجنونة .... فتدخل يوسف وهو يقول صارما بينما عيناه تلمعان ضحكا
( كفى منك لها ... لها ... لها ...... الا يكفي المظهر المتدني الذي تسببتم به ؟!! ...... نسيتم الصابونة يا خونة ؟!!! ..... بماذا أغراكم المنافس لنا ؟!! ..... كم دفع لكم كي تقدمون على تلك الفعلة ؟!! .... )
كانت وعد تلهث بشدة و هي تنظر اليهم غاضبة .... لكنها رفعت حاجبا شريرا فجأة و هي تستدير الى يوسف بعينين شرستين ... لتقول بخفوت خطير
( هل تسخر مني ؟!!! ......... )
ادعى الصدمة و رسم الإنكار على وجهه وهو يقول هاتفا
( أنا أسخر منكِ ؟!!! ...... من في هذا العالم بأسره لديه مرؤوسة تصرخ مدافعة عن حق العروس في الحصول على صابونة معطرة ؟!!! .... )
ضيقت وعد عينيها و هي تهمس بشراسة أكبر
( أنت تسخر مني .......... )
ضحك يوسف وهو يمسك بمرفقها ليجرها خارج المكان علها تهدأ .... الا أن الجميع انفجروا ضاحكين ما أن خطت خارجا ...
فتسمرت مكانها و هي تنوي العودة اليهم هاتفة بحنق
( انهم يضحكون علي ..... اتركني يا يوسف ...... اتركني ... )
الا أنه جذبها ليجلسها على أقرب مقعد خارجا وهو يضحك عاليا ... قبل أن يسحب واحدا آخر و يجلس عليه محتجزا اياها ... لينظر الى عينيها بتمعن ...
كانت تتميز من شدة الغيظ ... و تلهث حنقا .... الا أنها و ما أن لاحظت نظرات يوسف المتمعنة حتى توترت قليلا .... و بادلته النظر بارتباك و عدم راحة .... الى أن احمر وجهها بشدة أمام ابتسامته الهادئة و عينيه الصريحتين ....
لكنه لم يهتم بارتباكها ... بل قال بحنو
( اذن ...... ماذا بك حقا ؟!! .... على الرغم من ان فعلة الصابونة تعد جريمة ... الا أنها لا تستحق كل هذا القدر من تدمير أعصابك ....... ماذا بك يا وعد ؟!! .... )
أرتبكت أكثر و طرفت بعينيها .... فأخفضت وجهها و هي تضم ركبتيها .. تتلاعب بهما بأصابعها دون رد ...
بينما كانت تشعر به يراقبها بتدقيق دون المزيد من الكلام ... فردت بخفوت عله يتوقف عن التحديق بها بهذه الطريقة خوفا من القادم ....
( أنا بخير يا يوسف ....... أنا بأفضل حال ... صدقني ..... )
لم يرد عليها على الفور ... لكنه استمر بتحديقه بها طويلا .... قبل أن يقول بهدوء مستفز و كأنه لا يصدقها
( جيد ..... هذا يجعلني أكلمك فيما أريد اذن ..... )
أغمضت وعد عينيها دون أن ترفع رأسها و همست دون صوت بيأس
" أرجوك لا تفعل ..... "
لكنه فعل ... و قال بهدوء واثق
( لقد انتهت أشعر العدة يا وعد .... و نلتِ الوقت الكافي لتخرجي من تجربة زواجك ..... لذا لدي سؤال مؤجلا منذ فترة طويلة جدا ..... أتقبلين الزواج مني ؟؟ ..... )
تنهدت وعد بقوة .... و هي تسمع السؤال الذي عمدت الى تأخيره طويلا ....
ظل الصمت بينهما عدة لحظات و هي تحاول ترتيب أفكارها ... الى أن قالت في النهاية بهدوء دون أن ترفع وجهها اليه
( يوسف ...... أتعلم مكانتك عندي ؟!! ....... )
ظل صامتا دون أن يرد عليها ... فرفعت وجهها اليه , تبتسم برفق ... و كان هو أيضا يبتسم لها دون مرح .. بل كانت عيناه عميقتان .... فتنهدت وعد و قالت بخفوت أكثر
( أنت أكثر شخص مميز قابلته بحياتي ...... لم أصدق بعد بوجود أي انسان مثلك يحافظ على الحقوق بل و يعمل على المساعدة بكل طاقته لمن يحتاج ...... )
رفع يوسف احدى حاجبيه وهو يظهر حرجا ليقول بهدوء
( حسنا لست ذلك البطل الخير في الواقع ..... ربما لو كان صاحب الميراث مثلا فتى ذو بثور تعلو وجهه عوضا عن جميلة رمادية العينين ... لما كنت اهتممت بالنزول معه و مرافقته في مشاريعه ....)
ضحكت وعد برقة و احمر وجهها ... بينما أبعدت شعرها خلف أذنها و هي تنظر الى البعيد متنهدة ...
ثم قالت بخفوت بعد فترة
( أنت رجل مميز فوق العادة ..... وسيم وقور .... و تعتبر طفرة بين كل من عرفت من رجال ... )
نظرت اليه مبتسمة بمرح و هي تقول برقة
( يكفي صوتك الرخيم ..... لم أسمع مثله من قبل ...... كان من الفترض أن تكون اذاعيا ...لكن اهتم بحرف العين قبلا ... )
ضحك يوسف برقة .. الا أن الضحكة لم تصل الى عينيه ... فبهتت ابتسامة وعد و هي تهمس بحزن
( ليتني قابلتك من قبل ...... لكنت وفرت الألم على كثير من الأشخاص .... )
أطرقت بوجهها أمام عينيه .... قبل أن تقول بخفوت أكبر
( أما الآن ...... فأنا لا أستطيع أن أتسبب في أي أذى لقلبك الرائع , ...... لأنني لو قبلت بعرضك , فستكون روحي و قلبي مع رجل آخر ...... )
رفعت وجهها الى وجهه الصامت ... و همست بأسى
( لن أكون يوما لرجلٍ غير سيف ......... حتى بعد طلاقنا .... لم يتغير رأيي ... لا أستطيع و صدقني لست فخورة بذلك ....تمنيت أن أمضي قدما بحياتي ... و أنسى تلك المرحلة الا أنني لم أستطع ... بيني و بينه الكثير من الخبايا لم نستطع التعامل معها ... الا أن الرباط لا يزال موجودا داخلنا و سيكون من الظلم أن نشرك آخرين في هذا الألم .... .)
صمتت أخيرا و هي تسبل جفنيها بحزن ... فقال يوسف بخفوت بعد فترة طويلة
( يجب أن أسافر الى مصالحي في الخارج قريبا يا وعد ...... )
رفعت وجهها اليه مصدومة ... فقالت بفتور
( بهذه السرعة ؟!! ........ )
رد عليها بصوته الرخيم الخافت
( هناك عملي ...... و كلبي ........ )
ارتفع حاجبيها بتأثر و همست
( آآآه كلبك المسكين اللطيف ...... لقد تركته و على الأغلب أنه يعاني الآن ...)
قال يوسف بهدوء
( إنه بالفعل مريض ........ )
تأوهت وعد برقة لم تعهدها في نفسها من قبل .... لم تتخيل يأن يأتي اليوم الذي تشفق فيه على كلبٍ مرفه .. عرف من الرفاهية أكثر مما عرفته هي في بداية حياتها .... بل قالت بجمود شارد
( لأنه أوفى من الكثير من البشر ....... )
عقد يوسف حاجبيه وهو يقول متألما
( أوتشششش ........ )
نظرت اليه مبتسمة و هي تقول برقة
( لم أقصدك صدقا ......, لو أنك بالفعل تركته في أول فرصة من أجل جميلة رمادية العينين بلا فخر .... )
مال يوسف اليها وهو يقول بجدية
( وددت لو آخذك معي ......... و أنتِ زوجتي ... على الرغم من معرفتي بكل ما قلتهِ الآن دون الحاجة للنطق به .... فأنا لست ممن يقفون عند انسان من الماضي , و أمتلك من الثقة ما يجعلني راغبا في مساعدتك على نسيان هذا الرجل ..... )
رفعت وجهها اليه و هي تهمس بحزن
( ليتني أستطيع ....... ليتني أستطيع صدقني لكنت هربت معك لآخر العالم .... )
جائت كوثر فجأة لتقاطعهما و هي تتنحنح .... قائلة
( وعد ..... آسفة على المقاطعة , لكن هناك عروس .... تريد مقابلتك , دون حجز مسبق ... )
نظرت اليها وعد بقنوط .... فقال يوسف يحثها
( هيا اذهبي الى عملك ...... و سنكمل حديثنا فيما بعد .... )
نظرت اليه بحزن .... و على الرغم من ترحيبها بالمقاطعة , الا أنها كانت تشعر بالأسى من فقدان شخصا مثله في حياتها .... الا أنه قال بصرامة
( هيا اذهبي ...... العمل عمل ... )
دخلت وعد مجهدة الى المكان الأنيق المخصص باستقبال العميلات .... فتوقفت عند الباب و هي تدقق النظر بتلك الشابة فارعة الطول ذات الشعر الأشقر الطويل و التي توليها ظهرها ....
تتأمل المكان و تلامس قماشٍ حريري فاقع اللون ملتف على نموذج للعرض أبيض مما يجعله زينة للمكان المتسم بالبياض في كل أرجائه ....
و على الرغم من أنها لم تستدير الى وعد بعد .... الا أن وعد تصلبت مكانها و قالت بجمود
( ميرال !! ...... يا لها من مفاجأة ! ..... )
بقت واقفة مكانها للحظة ... قبل أن تستدير بأناقة و بوجهٍ مبتسم بعناية ... لتقول بهدوء و هي تشمل وعد من أولها لآخرها بنظرة واحدة قبل أن تقول
( مرحبا يا وعد ......... عادة أنا لا أذهب لأي مكان دون احترام الحجز و القوانين , لكن في هذه الحالة تحديدا غامرت نظرا لصلة القرابة بيننا ..... )

" صلة القرابة !! ..... "
بقت وعد واقفة مكانها صلبة المشاعر .... جامدة التعابير , الا أنها تدبرت ابتسامة بسيطة و هي تقترب قائلة بهدوء
( بالطبع لا تحتاجين لحجز .....مرحبا ميرال ,... تفضلي أرجوكِ .... )
جلست ميرال بأناقة على المقعد الوثير و هي تضع ساقا فوق أخرى ... بينما جلست وعد أمامها ببطىء ...
و تبادلا النظر طويلا .. الى أن قالت ميرالمبتسمة في النهاية ...
( بصراحة استقبالك اذهلني .... بناءا على آخر لقاء بيننا , توقعت أن تطرديني ..... )
رفعت وعد ذقنها لتقول بوجه متعجب
( ذلك التصرف لا يصدر مني ........... ثم لماذا أفعل ذلك ؟!! ..... )
ضيقت ميرال عينيها و هي تنظر اليها بخبث رافعة احدى حاجبيها ... لتقول بهدوء
( ظننتك تضايقت لمعرفة خبر خطبتي من سيف ....... )
أمالت وعد وجهها و هي تقول بهدوء حتى أنها تمكنت من رسم ابتسامة دبلوماسية على وجهها
( لو كان خبر ارتباط سيف يضايقني فلماذا كنت أصر على الإنفصال من البداية ؟! ..... تضايقت فقط لطريقة معرفتي ليس الا ...... )
كانت ابتسامة ميرال تظهر بوضوح أنها لا تصدقها ولو للحظة .... لكنها قالت براحة
( آآه عظيم ... هذا يشجعني لإخبرك بما اتيت من أجله بكل صراحة و دون مقدمات .... اسمعي يا وعد , ما عرفته حاليا هو أنكِ واقع ملموس في حياة سيف .... لأنكِ اولا ابنة خاله ... و ثانيا اعذريني بسبب رعايتك صحيا .... )
فغرت وعد شفتيها و اتسعت عينيها بذهول ... و ما أن همت بالكلام بغضب بدأ في الظروف
( رعايتي صحيا ؟!!!!! ......أنا لست مريضة .... أنا بأتم صحة و حال !! .... )
ابتسمت ميرال و قالت بثقة تقاطعها
( و هذا ما أراه بعيني و اثق به ..... و بأن ما عانيت منه مجرد حالة شائعة , بالرعاية و الحرص المناسب لا يظهر لها أي أثر ...... )
صمتت قليلا و هي تدقق النظر الى عيني وعد الغاضبتين .. ثم قالت بهدوء
( أرجوكِ لا تستائي مما أقول .... لست هنا كي أهينك أبدا ..... لكن و كما أخبرتك , بحكم العشرة بينك و بين سيف فإنه سيظل متواجدا من حولك .... ضميره يأبى أن يخرجك من حياة عائلته .... لذا وجب علينا تصفية أي خلافات .... و أنا شخصيا أرحب بكِ في اسرتي المستقبلية بكل صدق ..... )
كانت وعد تستمع اليها بذهول بينما ملامحها جامدة .... هادئة ... لا تنم عن شيء ...
تراقب و تسمع ..... قبل أن تقول بصوت جامد راقي
( كم هو كرم منكِ يا ميرال !!.....ترحيبك بي في أسرتك !! ..... و في المقابل أنا سأكون أكثر من سعيدة بمبادلتك نفس الترحيب ..... نحن عائلة واحدة الآن و سيبقى سيف هو ابن عمتى الذي سألجأ اليه دائما ..... )
لم تستطع قراءة ملامح ميرال الهادئة أبدا ... الا أنها كانت واثقة بأن الندم يتآكلها في تلك اللحظة ... بسبب الخطوة التي خطتها اليوم ...
أنزلت ميرال ساقها بنعومة و هي تقول مبتسمة ابتسامة عريضة بشفتيها القرمزيتين
( ممتاز ...... اذن دعينا نبدأ في عربون صلح بهذه المناسبة .... )
رفعت وعد وجهها متوقعة سماع الأسوأ ... و بالفعل قالت ميرال ببشاشة
( أريد تفصيل فستان زفافي هنا بمعرضك ........ )
ساد صمت طويل .... و كلاهما تنظر الى الأخرى بهدوء دون ان تفقد ابتسامتها ... بينما وعد تموت ... تموت ... تموت بداخلها و قلبها الذي صرخت للتو بصحته يبدو و كأنه قد شاخ فجأة و أصبح يحتضر ...
بينما تابعت ميرال قائلة
( بصراحة ... كل فتيات عائلتي أرسلن في طلب فساتين زفافهن من الخارج ... و كنت على وشك القيام بذلك ... لكن الرغبة الصادقة بداخلي ... جعلتني أمد يدي بهذه البادرة و التي ستظل ذكرى عائلية بيننا تدوم العمر كله .... و سأحكي عنها لأولادي ... و انتى كذلك ... )
كانت وعد تجلس كتمثال رخامي ... مبتسمة الوجه بعينين في لون الرماد المتخلف فجرا عن شعلةٍ ميتة ...
ثم قالت في النهاية بصوتٍ جميل ... جمال الوداع موتا ..
( لا أعلم ..... هل اقترب زفافكما ؟!! .... , فستان الزفاف يستغرق حوالي شهرين .. أو أكثر قليلا .... )
ابتسمت ميرال بعذوبة و هي تقول سعيدة
( و هذا بالضبط المتبقي من فترة خطبتنا .... تعرفين لم نعد شبابا صغارا كي نطيل فترة الخطبة ... )
ثم مالت الى الأمام و هي تهمس بشكل متآمر
( سيف لا يريد الإطالة ..... يقول أنه لا يحب التجاوز .... )
ثم رجعت الى ظهر مقعدها و هي تطلق ضحكة عالية ... بينما ابتسمت وعد ابتسامة واهية ....
لا تعلم أن أصابع يدها قد بدأت في الإرتعاش بشكل لا ارادي فوق ركبتها ....
و أخيرا حين تمكنت من ايجاد صوتها همست بهدوء و ابتسامة تماثل شتاء عينيها ...
( اذن ....... اتفقنا .... , فستانك سيكون هديتي لكما .....و سيكون الأروع بين كل ما فصلت من قبل .. )
ابتسمت ميرال بجمال ... ثم قالت بهدوء
( و تلك هي ثقتي بكِ ...... لقد سلمتك نفسي دون أي شك ...... اليس هذا أفضل من جفاء لا داعٍ له خاصة و أن الإنفصال كان بالمعروف و التراضي ؟!! ..... أنا لست نادمة أبدا على تلك الخطوة .... )
اتسعت ابتسامة وعد الباهتة دون أن تصل الى عينيها قبل أن تقول بتأكيد
( و أنا أكثر من ممتنة لقيامك بهذه الخطوة ......... )
.................................................. .................................................. ......................
جرت وعد الى الحمام و انحنت على الحوض لتفتح الماء البارد بأقصى قوته .... و أخذت تضرب وجهها بموجات كبيرة بكلتا يديها علها تهدىء من غضبها و انكسار روحها....
لكن دون جدوى .... استمر الوقت و توالت ضربات الماء البارد تصفع وجهها دون أن تبرد من نار قلبها ....
توقفت أخيرا و الماء يقطر من وجهها و شعرها ......
ثم رفعت عينيها أخيرا الى صورتها في المرآة المقابلة .... ترى كم من المرات عليها أن تكسر شيئا أو تغرق نفسها قبل أن تطالع عينيها في مرآة لتخبرها بأنكِ السبب .... أنتِ من أضعتهِ من يديكِ ...
كانت كوثر تقف عند باب الحمام بقلق ... بينما علي واقفا في آخر الممر ينتظر خروجها وهو مكتفا ذراعيه ... و على وجهه علامات شاردة .... غير مدرك لرواية الواقفة بجواره تتأمله هي الأخرى بصمت كئيب
طرقت كوثر الباب و هي تقول بخفوت
( وعد ..... وعد ...... هل أنتِ بخير ؟!! ..... على الأقل ردي .... )
مضت عدة لحظات دون صوت ازداد قلقهم بها .... حينها تقدم " علي " .. وهو يقول بحزم
(ابتعدي يا كوثر .... سأكسر الباب على مسؤوليتي ............)
أمسك يوسف بذراعه وهو يقول بصوت خافت
( إنها بخير .... ليست مصابة بالإغماء أو أي شيء آخر .... فقط دعوها قليلا , بضعة دقائق من الخصوصية .... )
و قبل أن تطرق كوثر الباب مجددا ... سمعت صوت رتاج الباب ... فالتفت الجميع الى وعد التي خرجت مرفوعة الوجه ..... مصففة الشعر و قد بدا نديا براقا ...
ثم نظرت اليهم و هي تقول بقوة
؛( ما بال الجميع يقفون هنا ؟!! ....... الا يحق للمواطن العادي دخول الحمام دون رفقة ملصقة آذانها بالباب ؟!!! ..... عيب عليكم !! .... )
تحركت تتجاوز الجميع أمام أعينهم المتشككة ... قبل أن تستدير اليهم لتضع يديها في خصرها و تقول بكل قوة
( اسمعوني جيدا .... فستان زفاف عروس سيف , سيكون في أول قائمة أعمالنا جميعا ... سنخصص له وقتا خاصا من كل يوم ... أريد الجميع يتشارك به ... و سأشرف بنفسي على تنفيذه .... فستان عروس سيف الدين رضوان أريده أن يكون لوحة راقية من الجمال يتحاكى عنها الجميع ..... اتفقنا ؟!! .... )
نظر الجميع الى بعضهم بتوتر ... بينما قالت قالت بصوت أكبر قوة
( باقة العروس أنا سألفها بنفسي ...... أقمصة النوم الحريرية ستكون اثنتي عشر و ليست ستة ....و أريد انتقائها بنفسي قبل التفصيل ... )
لم تسمع " علي " وهو يهمس مكتفا ذراعيه
( أعرف ما تشعرين به ......... )
لكن راوية سمعته ... تلك القطة خضراء العينين و التي تربط شعرها دائما بوشاحٍ معقود خلف عنقها كحجاب يظهر عنقها و يثير سخريته دائما
فقالت بصوت خفيض
( و بماذا تشعر أيها الأحمق بأذني تيس ؟!! ...... )
لم تظن أنه قد سمعها طالما أنه ينظر الى وعد ... كثيرا ما شتمته وهو ينظر الى السيدة المديرة و لم يسمعها الغبي الأحمق
الا أنه هذه المرة سمعها .... فأخفض وجهها وهو ينظر الي قامتها التي تكاد تصل الى مرفقه وهو يقول
( هل شتمتِني للتو ؟!!!!!!! ....... )
ارتبكت و اتسعت عيناها قليلا .... و قالت بارتباك
( لا لم اشتمك ..... و لماذا أشتمك ؟!!! ..... خطيبي ؟!! .... زوجي لا قدر الله ؟!!! .... )
ازداد انعقاد حاجبي " علي " وهو يفك ذراعيه لينحني اليها قائلا بتهديد
( بلى شتمتني و قلتي شيئا عن تيس بأذنين !!! ..... )
تراجعت خطوة و قد بدأت تشعر بالخوف .. ثم قالت بسرعة
( كونك تشعر بأنك تيس فهذا لا يخصني .... لا ترمي بلائك علي ... )
ثم هربت مسرعة مبتعدة عنه و هي ترى الشرر يتقد في عينيه ....
بينما بالعودة الى وعد التي استدارت لتبتعد بكل رشاقة فاردة ظهرها الى أن دفعت الباب و دخلت مكانٍ خال و يوسف يتبعها ....
فوقف خلفها وهو يراها تستند بكفيها الى الطاولة .... فقال بخفوت
؛( وعد ......... )
الا أنها لم ترفع وجهها ... بل قالت بعد فترة طويلة بهدوء عادي جدا
( أنا أتألم ...... بشدة ..... )
رد بهدوء خافت
( أعرف ............ )
ظلت مكانها مطرقة الرأس و هي تتنفس ببطىء محاولة التهدئة من انفعالها لحظات طويلة ...
قبل أن تستدير اليه و هي تجلس على حافة الطاولة ناظرة اليه بملامحها التي تجمع ما بين الإباء و الحزن و القوة ... ثم قالت أخيرا بفتور
( لو طلبت يدي منه و أستطعت اقناعه .... لوافقت ..... )
ساد صمت طويل بينهما ..... وكلاهما ينظر لعيني الآخر ... ثم قال يوسف أخيرا بصوتٍ غريب
( هل أنتِ واثقة ؟!! ......... )
رفعت وعد يديها تلوح بهما باستسلام ثم اسقطتهما و هي تهمس بخفوت حزين
( لو استطعت اقناعه فهذا يعني النهاية .... لم تكن المشكلة أبدا في عودتنا لبعضنا من عدمها ... لكن لو استطعت اقناعه فحينها سأعلم بأنني كنت أحرس وفاءا أعمى البصيرة ..... و عندئذ سأعمل على المضي بحياتي و أنت .... أنت أكثر شخص مميزا غاليا عندي بدرجةٍ لا أستطيع وصفها ... )
ظل يوسف ينظ اليها صامتا ... لا ترافق البسمة نظراته , لكن يظللها الرفق .... و الخيبة ...
لكنه قال بخفوت مبتسم ابتسامة باهتة
( لا بأس ..... سأقوم بذلك من أجلك ...... علكِ تجدين الراحة في أي نتيجة كانت ... فأنا لا أتمنى لكِ سوى الخير...... )
عاد الى البيت مساءا مجهدا ....
لقد استطاع التخلص من موعد العشاء مع ميرال بأعجوبة دون أن يجرحها ....
لكنه اليوم و على غير العادة ... شعر بنفسه منهكا و غير متقبل للسماع الغير منتهي عن تفاصيل الأثاث الجديد ... و شعر العسل الأسطوري ... و حفل الزفاف و الذي تعمل جاهدة على ان يكون أكبر و أضخم من حفل زفافه على وعد
لم يظن أن امرأة بمثل عقلية ميرال و عملها و دراستها طويلا في الخارج من الممكن أن تهتم بمثل تلك المظاهر و المقارنات ... الا أنه عاد و اعطاها كل العذر
فهو السبب ... أي رجلٍ ذلك الذي يخطب امرأة و يحذرها أنه لا يزال يحب طليقته ؟!! ....
لم يشأ أبدأ أن يجرحها .... لكنه لم يستطع أن يخدعها على الأقل الى أن يتمكنا من بناء أسرة علها تبعد عن خياله العشق الذي كان ... ففي الحياة أولويات مهما بلغ ألم الفراق ....
بقى في سيارته قليلا دون أن يدخل الى بيت مباشرة ...
ثم رفع هاتفه ينظر اليه مثقل الصدر .....
ثلاث أشهر لم يسمع صوتها ؟!!!
لم يتخيل أن يمتلك مثل تلك القوة و الإصرار تجاه وعد ؟!! ... كنزع المخدر من أوردتي عله يشفى من ذلك الإدمان ! ...
تنهد بعمق و تعب .... قبل أن يكتب رسالة مختصرة في عدد الأحرف ... لكنها تحمل الكثير و الكثير من الأسئلة عن حالها و حياتها ...
" لا تنسي موعد الفحص الدوري الخاص بكِ اليوم ..... لقد حجزت لكِ مسبقا , و سأتأكد بنفسي من ذهابك لو حاولتِ التهرب بأي طريقة ....... اعتني بنفسك "
أرسل الرسالة المختصرة و التي بدت من السوء في عينيه لدرجة أنه أراد لو أرفقها بكل وجوه الإمتعاض المتاحة بالرسائل ....
زفر بشدة وهو يتطلع أمامه بكبت .... من المؤكد أنها تراه الآن مجرد نذل ....
يعرف وعد و يعرف تفكيرها المصاب بسوس الخشب ... من المؤكد أنها ستفكر به يمضي بدونها لاهيا مفكرا في حفل زفافه ... بينما هي تجلس في قاعة الإنتظار وحيدة منتظرة دورها للفحص ... وهو يعلم أنه مرهقا بالنسبة لها
عاد ليزفر بشدة و غضب ... شاتما وهو يتخيل خروجها مرهقة ... لكن ما الحل و هي تبعده عنها بكل السلطات الممكنة ....
وجد أن مكوثه هنا ليس له معنى أكثر من ذلك .... لذا جر ساقيه وهو يمني نفسه بالأكل من يد والدته أخيرا بعد أيام طويلة من تناول أكل المطاعم .... ثم النوم ..... النوم هو ما يحتاجه , على الرغم من ان لجسده أوامر أخرى تجعله يحلم بها كل ليلة و صدره يخفق بعنف و كأنه كان في سباق ركض و ليس مجرد حلما ...
فتح الباب و دخل ... بملامح غير مهتمة بشيء و كأن لا شيء يعد يهم ....
لكن ما أن خطا الى الداخل عدة خطوات ...
حتى شاهد شابة منحنية تقول بلف البساط !! .... مرتدية بنطالا من الجينزالأسود الضيق مما يرهق النظر ... خاصة نظره هو ...
كان في حالة ذهول وهو يراها منكبة على البساط ... و شعرها الأسود مجموع برباط مطاطي بسيط في ذيل حصان يداعب وجهها المحمر المحني ...
فقد القدرة على الكلام الى أن وجدها تقوم برفع البساط الملفوف بجهد و هي تلهث ....
كان هذا المنظر كفيلا كي يفك لسانه المعقود فصرخ عاليا
( وعد !!!!! ......... )
شهقت وعد منتفضة مفزوعة من تلك الصرخة التي زلزلت المكان .... فتركت البساط الذي يزيد عن طولها فسقط أرضا مصدرا دويا عنيفا ...
تراجعت خطوة و هي تغمض عينيها مرتعبة من تلك الصرخة ... ثم رفعت يدها الى صدرها لتنفخ به عدة مرات بكل براءة !! ...
خرجت منيرة من المطبخ مهرولة ... و هي تقول بهلع
( ماذا ؟!!! ..... ماذا حدث ؟!! ..... هل وقعتِ أرضا ؟!! ...... )
الا أن سيف كان ينظر الى أمه كأنها تكمل دائرة الذهول التي يمر بها .. ثم هتف بقوة
( هل يمكنني فهم لماذا دخلت الى البيت لأجد وعد تحمل هذا البساط يا أمي ؟!! ..... )
نظرت منيرة الى وعد بعتاب و هتفت
( ألم أطلب منكِ ترك تلك الأفعال ؟!! ....... و الإقتصار على مسح اللوحات و التحف من الأتربة ؟!! ...)
ارتفع حاجبي سيف أكثر هو يصرخ بغضبٍ يغلي
( أمي !!! .... لماذا وعد تنظف البيت ؟!!! ....... )
تدخلت وعد لتقول بهدوء و هي تنفض ذيل حصانها عن كتفها الى خلف ظهرها
( لا تصرخ بأمك ..... أنا أصريت على المساعدة , أنت لم تستطع تدبير أي مرأة لتساعدها منذ ما يقرب من شهر .... و هي ظهرها تأذى مجددا الأسبوع الماضي ... فهل أتركها ؟!! .... )
رمش سيف بعينيه وهو ينقل عينيه بينهما ... ثم قال بصوتٍ غريب
( كيف لكِ معرفة كل تلك المعلومات ؟!! ..... )
أطرقت وعد بوجهها و شبكت أصابعها ... ثم تنهدت قائلة
( أنا آتي لزيارة عمتي بين الحين و الآخر .... في غيابك ..... لو أعلم أن هذا سيغضبك الى هذا الحد لما كنت اتيت , و اليوم أكدت لي عمتي أنك ستعود متأخرا ..... عامة أنا آسفة جدا ... سأذهب لأرتدي سترتي و اغادر ...... )
رفعت ذقنها بإباء و سارت كي تتجاوزه .... الا أنها ما كادت أن تمر بمحاذاته , حتى انطلقت يده تقبض على ذراعها بقوة حفرت به ....
انتفض قلبها بشدة و هي تشعربملمس أصابعه على بشرتها ... و تمنت لو أنها لم تخلع سترتها ...
قال سيف بهدوء صارم
( اتركينا وحدنا قليلا يا أمي رجاءا .......... )
ازدادت خفقات قلب وعد و هي ترفع ذقنها للخلف ناظرة الى منيرة التي كانت تنظر اليهما بدورها مرتبكة ... لكنها مدت يديها اليها علامة العجز ... ثم قالت بخفوت
( أنا في المطبخ ...... اسمع يا ولد , لو آذيتها و سمعت صوتها فلن تكون قد كبرت على ضربي القديم بعد .... )
اغمض سيف عينيه وهو يحاول تهدئة غضبه ... قبل أن يقول بصلابة
( اذهبي يا أمي رجاءا و جدي شيئا تفعليه ...... و لا تسترقي السمع )
هتف بعبارته الأخيرة صارما و هي تغادر ... فهمست من بين اسنانها بغيظ
( قليل الحياء .......... )
ابتلعت وعد ريقها و هي تشعر بتوتر أحمق .... و كأنها مراهقة تترصد ابن الجيران ...
جذبها سيف بذراعها الى أن وقفت أمامه تماما ثم ترك ذراعها كأنها تلسعه ... فأخفضت وجهها و رغما عنها .. و من حيث لا تدري شقت ابتسامة طريقها الى شفتيها ....
و قد رآها سيف وهو ينظر الي راسها المحني ... واضعا يديه في خصره .... فقال بجفاء
( تضحكين ؟!!! .......... )
ياللهي لن تتحمل المزيد من سرعة خفقات القلب و التي بدت كأرنب مذعور ....
رفعت وجهها المحمر اليه و حاولت جاهدة محو تلك الإبتسامة بصرامة ... لتقول بهدوء
( دعني أمر من فضلك ...... آنا آسفة أنني ضايقتك و اقتحمت بيتك ..... )
حاولت التحرك ..... الا أنه تحرك مع حركتها ليقف أمامها يمينا و يسارا .... فوقفت تدعي نفاذ الصبر و هي تبعد وجهها لتزفر بقوة ....
الا أن سيف قال بهدوء جليدي
( اذن تأتين لزيارة أمي في غيابي ..... و أعود الى البيت لاجدك تحملين بساطنا !! .... )
نظرت الى عاقدة حاجبيها لتقول بحدة
( هل كنت سأسرقه لأبيعه مثلا ؟!! ..... كنت سأنظفه لكم من باب الشفقة ... بعد أن انهار بكم الحال الى تلك الدرجة ... وورد تبدو وكأنها فوق مستوى التنظيف ..... )
ظلت ملامح سيف جامدة ... صارمة وهو يغوص في عينيها بجفاء ... يرفض الخروج منهما . ثم قال بنفس الصرامة
( من طلب منكِ !! ......... أنسيت ما فعلته آخر مرة ؟!! ..... من المفترض أن أعاملك بالمثل الآن و اطردك خارجا ...... )
رفعت وجهها مهتاجة الملامح ثم هتفت
( لست بحاجة لذلك ..... أعرف طريق الخروج بنفسي ..... )
حاولت تجاوزه الا أنه قبض على ذراعها يعيدها مكانها مجددا بفظاظة ... ثم تركه , فأخذت تفرك ذراعها و هي تهتف بعنف
( لا تمسكني بتلك الطريقة مجددا ..... ستلوي ذراعي .... )
مال سيف بوجهه وهو يقول صارما
( و كيف تريديني أن أمسكك اذن ؟!! ....... )
كان صوته قد تحول خافتا مثيرا .... فاحمر وجهها بشدة و عضت على شفتها قبل أن تحررها بحزم و هي تقول ببرود مزيف
( هل من المفترض أن تكون تلك عبارة خارجة ؟!! ..... لأنك كبرت على مثل تلك المحاولات قليلا !! )
رفع سيف احدى حاجبيه وهو ينظر اليها بتبلد ... و يديه لا تزالان بخصره .. ليقول بنفس برودها
( صدقيني ... عندي استعداد على مغازلة فأر ..و سأكون متأثر به أكثر منكِ في تلك اللحظة بالذات .. )
"كاذب ..... "
رمت الكلمة لعينيه ... بعينيها .... دون حتى أن تفتح شفتيها ....
و قد التقطها بكل وضوح .... فأطرق بوجهه , حينها عرفت بأنها سجلت هدفا تجاه قلبه .....
و لم تكن تريد أكثر من ذلك في الوقت الحالي ... فقالت برقة خافتة
( سيف .... من حقك أن تعاملني بالمثل بعد آخر مرة كانت بيننا .... لكني لا أريد قطع صلتي بعمتي ... لم يعد لي أحد )
شعر بحلقه يتشنج مع تلك العبارة البسيطة و التي أفقدته توازنه ... و ضاق صدره بشدة , فقال بجفاء شديد لا يقبل الجدال
( هذا بيتك .... ضعي ذلك في رأسك جيدا ... مهما بلغ حجم قلة أدبك و انعدام تربيتك .... سيظل هذا بيتك الذي تصالحتِ معه أخيرا .... و لن يقتلعك أحد منه , طالما أنا على قيد الحياة ... )
أخذت نفسا عميقا و هي تبعد وجهها الأحمر بعيدا ... بينما كانت عيناه تلتقطان كل خطوطها الخارجية بسرعة
الى أن همست أخيرا بارتباك ... غير قادرة على التحمل أكثر ....
( أنا ....... سأغادر الآن ......... )
الا أنها ما كادت أن تتحرك .... حتى قال سيف بهدوء
( ماذا كنتِ تودين فعله بهذا البساط ؟!! ....... )
رمشت بعينيها عدة مرات ..... غير مستوعبة للسؤال المفاجىء .. الا أنها قالت بخفوت
( لقد كنسته بالمكنسة الكهربائية .. لكن هذا لا يكفي ... أريد فرشه على سور الشرفة .. كي أقوم بنفضه ... )
ارتفع حاجبيه بشدة و التمعت عيناه غضبا ... ثم قال بهدوء شرس
( بهذه البساطة ؟!! ........ )
رفعت كتفيها بلامبالاة و هي تقول بارتباك
( عادي ....... هكذا يتم الأمر ..... )
زفر سيف بقوة ... ثم قام بخلع سترته أمام عينيها المتسعتين ... ليقوم بتشمير كميه ... نازعا ساعة معصمه ليضعها على أقرب طاولة ....
ثم انحنى ليرفع البساط على كتفه بمنتهى البساطة و كأنه لا يزن شيئا ... شهقت وعد و هي تقول بسرعة
( هذا لا يصح يا سيف ....... أتركه أرجوك ... )
مط شفتيه وهو يقول
( الأدب غريب عليك يا وعد ..... تقدميني و دليني على أي شرفة تنوين فرشه ..... و توقفي عن الثرثرة رجاءا )
ابتلعت ريقها و هي تقف مكانها كالصنم .... لكنها قالت في النهاية بارتباك
( في الشرفة الكبيرة العلوية ...... )
قال سيف بهدوء
( اصعدي أمامي اذن ....... )
صعدت أمامه بارتباك ... و هي تدرك أن بنطالها شديد الضيق و كم تمنت مجددا لو ارتدت سترتها ...
و بدا أن السلم لا ينتهي أبدا ... لكنها استدارت فجأة و كما توقعت وجدته ينظر اليها نظرة ألجمتها و اشعلت وجنتيها ...
فهتفت بغضب
( توقف عن النظر الي بتلك الطريقة ....... )
رفع رأسه اليها ... ثم قال بجفاء
( حين ترتدين شيئا كهذا لا يمكنك فرض قوانين على البشر بعدم النظر ..... )
هتفت وعد بغضب
( لكنني ابنة خالك ....... احترم نفسك ..... )
ثم صعدت جريا أمام عينيه الغاضبتين ... فتبعها وهو يقسم أغلظ الايمان أن يحرق بنطالها هذا قبل أن تخرج به من البيت .... من تظنه ؟!! .... فاقد الدم و النخوة ؟!! ....

رمى سيف البساط على سور الشرفة بقوة .... ثم نظر اليها يتأملها طويلا و هي تتجه الى الركن لتجلب المنفضة ...
الى أن وقفت بجواره و قالت بجفاء دون أن ترفع وجهها اليه
( ابتعد من هنا كي لا يلوثك الغبار ........ )
الا أنه لم يرد عليها .... بل سحب منها المنفضة بنفس الجفاء و استدار الى البساط ... رافعا المنفضة لأعلى ... أمام عينيها المذهولتين ... و بدأ بنفض البساط أمامها بقوةٍ جبارة ... مما جعل تنظيفها السابق يوما ما يبدو كدغدغته ...
و بينما هي تتأمله ... وقعت عيناها على الخاتم باصبعه ....
و كأن أحدهم قد سكب عليها دلوا من الماء البارد .... فقالت بخفوت
( الا يجب أن تخلع خاتمك كي لا يخدش ؟!! ..... إنه لا يزال ناعما براقا ... جديدا .... )
توقفت يد سيف عاليا ... و التفت اليها متسمرا بمكانه ....
كيف نسي أمر الخاتم ؟!! .....
كيف تسبب في وقوفها بهذا الشكل البائس مجددا مطرقة الوجه ..... داكنة العينين ....
زفر سيف بقوة وهو يخفض المنفضة ... ليرميها أرضا , ثم خلع الخاتم من اصبعه ليدسه في جيبه قائلا بصوتٍ بلا تعبير
( معك حق ........ )
تقدم الى حاجز الشرفة كي ينحنى اليه ... مستندا بذراعيه ناظرا الى البعيد ...
بينما وعد تتأمله و قلبها يغلي نارا .... و لسانها يهتف بعذاب
" اطلب مني العودة الآن .... أرجوك .... "
لكنها عوضا عن ذلك قالت بصوت فاتر خافت من خلفه ...
( هل أقمتم حفل خطبة ؟!! ........ )
لم ينظر سيف اليها ... و بدت عضلات ظهره و كأنما تشنجت ... لكنه قال بجفاء
( مطلقا ......... كانت مجرد جلسة ..... )
ابتلعت وعد غصة مسننة في حلقها و هي تهمس
( لكنك ستعوض ذلك بحفل زفاف كبير .... اليس كذلك ؟!.... )
طال الصمت بهما و لم يرد .... فأطرقت بوجهها ثم استدارت هامسة
( لما لا تذهب و تأخذ حماما من هذا الغبار ....... و أنا سأعد لك القهوة ... )
و دون أن تسمع رده كانت قد انطلقت مبتعدة مهرولة .... بينما بقى هو مستندا الى حاجز الشرفة ...
ناظرا الى السماء التي بدأ المغيب يلونها بألوانٍ عدة .... و الطيور تعود في أسراب الى أعشاشها ...
قبل أن يتنهد ليستقيم متجها الى الحمام .... وهو يشتم نفسه ألف مرة على التهرب من عشاء ميرال الليلة !!

بعد دقائق طويلة ... كان خارجا من الحمام و شعره و صدره مبللين بماءٍ بارد كالصقيع عله يهدىء من فوضى المشاعر التي تنتابه ...
و بينما هو يجتاز الباب اصطدم بوعد .. التي تراجعت بسرعة محمرة الوجه و هي تبتلع ريقها , لتهمس بصوت متقطع محتضنة منشفة بين ذراعيها ...
فهمست بخفوت
( لقد نظفت الحمام و نسيت أن أضع المناشف الجديدة ..... )
كان يريد الصراخ بها الا تنظف هذا البيت ... و أن تبتعد عن الحمام و البساط اللعين ....
لكنه انشغل عن ذلك الصراخ بالنظر اليها .... هي و ذيل حصانها البسيط .... و قميصها القطني الأبيض قصير الاكمام .... ووجهها الخالي تماما من الزينة ...
مما جعلها أقرب الى المراهقة ... خاصة بجسدها الهش النحيف ...
ابتسم ابتسامة رجولية ... ابتسامة رجل يعرف تلك المرأة حق المعرفة ....
فقال بهدوء
( هاتي المنشفة ....... )
مدت يدها بالمنشفة اليه .... فأخذها منها ليجفف صدره و شعره , واقفا في مكانه بكل أريحية ...
كان من المفترض أن تطلق ساقيها للريح ... الا ان قوة خارجية سمرت قدميها في الأرض ....
و رغما عنها رفعت وجهها و هي تختلس النظر اليه بوجه باهت ....
بقى الصمت بينهما طويلا وهو ينظر اليها مبتسما .... مدركا ما تشعر به في تلك اللحظة
ابتسامة لا علاقة لها بالمستقبل .... لا يعنيه سوى تلك اللحظة التي يعيشها و التي تختلس فيها ابنة خاله النظر اليه و فمها ... فاغر قليلا !! ....
و ما أن انتهى .... حتى دفع المنشفة الى حضنها برفق وهو يقول مبتسما برفق
( أعيديها الى سلة الغسيل .... ثم تعالي لنشرب القهوة على السلم الأمامي .... )
و دون أن ينتظر ردها ... كانت قد ابتسم لعينيها الذاهلتين و تحرك بهدوء مبتعدا ....
تأففت وعد من شدة المشاعر التي تكاد أن تخنقها ... لكنها خرجت من البيت , حاملة صينية القهوة ..بيد و باليد الأخرى تحمل سترتها مكومة و حقيبتها الصغيرة ....
وقفت قليلا تراقبه يجلس على درجات السلم الخارجي ... شاردا في السماء الرمادية الداكنة ...
فتنهدت بقوة و هي تتقدم لتجلس بجواره .. بعد أن أخذ منها الصينية بحذر و دون كلام ....
جلس كلاهما ينظران الى البعيد يراقبان آخر الطيور المبتعدة .... يغمرهما الهدوء ... و الألم ...
قال سيف أخيرا بصوتٍ أجش مقاطعا الصمت الثقيل
( لقد أسعدتِ أمي بالعودة الى هنا ........ )
أطرقت وعد بوجهها ... لا تريد أن تخبره بأن والدته همها الأساسي هو سعادته ... و راحة قلبه ..
الا أنها قالت بصدق
( و أنا أيضا سعيدة بالصلح معها و العودة الى هنا ...... سنظل عائلة ... و هذا ما سأتأكد منه .. )
رفع وجهه ينظر الى عينيها بصمت , فأخفضت وجهها بسرعة و هي تتجنب عينيه المتهمتين ...
ثم قالت مازحة محاولة تبديد سحر تلك اللحظة
( لكن على ما أعتقد أن ورد لا تزال ضد هذه المصالحة .... كلما أتيت الى هنا , حبست نفسها بغرفتها .. )
قال سيف بخفوت
( إنها ليست سعيدة مع خطيبها ....... و أنا أحاول جاهدا تأجيل الخطوة الرسمية الى أن أرى الرضا بعينيها ... )
نظرت اليه وعد و قالت باهتمام
( حقا ؟!! ...... كيف هو ؟!! ...... لم أره من قبل ... )
تنهد سيف بقوة ... وهو يحرك فنجان قهوته ليقول بضيق بعد فترة
( شخص مربع ......... )
ارتفع حاجبي وعد .... و اتسعت عينيها لتضحك فجأة بحيرة و هي تقول
( و كيف ذلك ؟!!! ........ )
مط سيف شفتيه وهو يقول باستياء
( شخص مربع الشكل و الشخصية .... لو رسمتِ مربعا منتظما من حوله لملأ زواياه بانتظام ... في أواخر الأربعينات .... و لا يزال مترددا حتى الآن .... ينتقد شكلها و ملابسها .... حتى أنه بدأ يسألها عن المشروع الذي سأضمن به مستقبلها ... و يمكننا أن نستغل به المهر ليكون شريكا معنا .... )
عقدت وعد حاجبيها و هي تهتف
( ياللهي ! ..... و ما الذي يجبرها على ذلك ؟!! ...... )
هز سيف كتفيه وهو يقول
( تظن أن العمر قد تقدم بها ....... و عليها التنازل , ...... )
نظرت وعد أمامها و هي تهمس
( مسكينة ورد ....... إنها شابة جميلة و من عائلة محترمة ... و تستحق رجلا يريدها و يعاملها بلطف ... هذا أبسط حقوقها ... صحيح أنها عنيفة الطباع ... سليطة اللسان ... سوداء القلب .. لكن في النهاية تظل امرأة مسكينة و تستحق رجلا طيبا ...... )
لم يرد عليها سيف .... بل بقى صامتا و كأنها تقصده بكلامها الحزين ...النوع السيء طبعا ...
مما جعل صدره يضيق و يصمت عن الكلام ....
بينما أطرقت وعد بوجهها و هي تتنهد لتضع فنجانها على درجة السلم .... و أمسكت بحقيبتها الصغيرة تقول
( يجب أن أعود الآن .... لا أريد ترك ملك وحدها أكثر من ذلك .... ربما كانت قد اتصلت بي ... آآه , هناك رسالة ... )
لكن و ما أن فتحتها و قرأتها بصمت ... حتى فغرت شفتيها و ارتعشتا قليلا ...
فرفعت وجهها الى سيف الذي كان ينظر اليها صامتا ... بتعبير كئيب أوجع قلبها ....
غامت عيناها بسحابةٍ من الدموع لم تتحرر خارج مقلتيها ... فعضت على شفتيها المرتجفتين و همست بعد فترة طويلة
( شكرا ........... )
ابتسم ابتسامة جميلة .... قوية التعبير , يبتسمها كلما همست بتلك ال شكرا البسيطة الباردة حرفا ... و العنيفة عمقا ....
ابتلعت وعد ريقها و هي تطرق بوجهها ... ثم همست
( لا أحب الذهاب وحدي ........ )
انتفض وجه سيف و هو ينظر اليها فهمس بصوتٍ أجش
( ماذا ؟!! ........ )
قالت وعد بخفوت
( لا أحب الذهاب وحدي ..... أخاف المشفيات و تلك الأسلاك ... تشعرني بالإنقباض ... )
قال سيف بخفوت شديد أجش ... صارما
( سأذهب معك ......... )
ابتسمت رغما عنها ... ثم رفعت وجهها اليه لتقول برقة أذابت قلبه
( أخجل .......... )
عقد حاجبيه بشدة وهو يحني رأسه اليها كي يسمعها جيدا.. فهمس بصوته الأجش
( تخجلين .... مني ؟!! ... )
ابتسمت أكثر و أحمر وجهها احمرارا ساحرا أمام عينيه الصائمتين ... ثم همست بحياء
( تعرف الوضع تغير ........ )
أظلمت ملامح سيف ... و تألمت عيناه ... فنظر بعيدا عنها ليقول بخشونة خافتة
( أخذتك من قبل ..... و لم تكوني زوجتي بعد ... )
زفرت نفسا مرتجفا .... ثم تنهدت و صمتت .... فقال سيف بخفوت بائس
( سأنتظرك في الخارج اذن .........أو سأدير ظهري )
لم تتمالك وعد نفسها من الضحك عاليا و هي تنظر اليه لتقول من بين ضحكها تضرب ذراعه بقبضتها
( سيرمونك خارج المشفى ........ تدير ظهرك ؟!!! ....أنت تكبر في السن و تزداد حماقة )
ابتسم برفق وهو يطرق برأسه ... مستندا بذراعيه الى ركبتيه ... مثقل الكتفين ...
عادت وعد لتتنهد و هي تلتفت لترتدي سترتها بصمت كئيب ...
حينها التفت لها سيف بوجهه فقط ... يراقبها و هي تدخل ذراعيها في سترة كلاسيكية حمراء قانية ..
فوق القميص القطنى الأبيض البسيط ..
ثم أخرجت من حقيبتها مرآة غيرة و أحمر شفاة قاني يماثل السترة تماما ... فعلا رأسه سيف أكثر وعيناه تلمعان ... ينظر الى قلم الشفاة يمر ببطىء على شفتيها المكتنزتين ليصبغهما بلون الدم ....
فغر شفتيه دون علم منه وهو يراقبها تطلع شفتيها عدة مرات أمام المرآة ... حتى تناقض اللون الدموي بشدة مع شحوب بشرتها البيضاء ....
ثم فكت الرباط المطاطي .... لينزلق شعرها على كتفيها و هي تنفضه و تحركه برأسها مرسلة عبيره الى رئتي سيف الذي يراقبها مبهورا ....
لتخرج نظارتها المثلثة ذات الإطار الأسود و تضعها فوق عينيها فزادتها أناقة ....
أما حقيبتها الصغيرة ذات السلسلة الذهبية الطويلة ... وضعتها على كتفها بخلاف فارتاحت على جانبها الآخر ....
و ما أن نظرت اليه ... كانت النتيجة مبهرة و الإختلاف يكاد يجعل منه مشدوها ...
خلال الساعة الماضية ... تلك المرأة أحضرت له وعد الماضي ووعد الحاضر ....
و كأنها ساحر يظهر مهاراته !!! ... و يتلاعب بكيانه ! ....
نهضت وعد و نزلت الدرجات المتبقية أمام عينيه وهي تقول بخفوت مبتسمة
( من يعرف ..... قد أبدأ حياة جديدة ذات يوم , و أجد من أتكىء عليه و يصحبني الى المشفى .... لا أحد يعلم ماذا تخبىء له الحياة .... )
استدارت و هي تتحرك عدة خطوات الا أن صوت جاء خافتا .. قاطعا من خلفها
( وعد ......... )
استدارت اليه لتجده لا يزال جالسا مكانه على درجة السلم ... مستندا بذراعيه الى ركبتيه .. رافعا وجها غامضا قاتما اليها .... ثم قال بمنتهى الهدوء
( لا أعتقد أنني سأسمح بذلك ..... وجب علي انذارك قبلا .... )
عقدت حاجبيها بعدم فهم ... فقالت بحيرة
( لن تسمح بماذا ؟!! ..... لم أفهم ؟!! ....... )
لم تتحرك عضلة به وهو يقول بهدوء بسيط
( لن تكوني لرجلٍ آخر ..... أنا آسف , .... الأمر خارج عن ارادتي .... )
ارتفع حاجبيها بذهول .. و اتسعت عينيها و رغم أن ذلك هو ما كانت تنشده الا أن بساطته جعلتها مذهولة و هي تقول
( هل تمنعني من الزواج ؟!!!!! .... على الرغم من أنك ستتزوج ؟!! .... )
رفع يديه وهو يقول بخفوت
(الأمر خارج عن ارادتي ...... آسف ..... )
فغرت شفتيها حتى بدت كالبلهاء .... غير مصدقة , ثم قالت بخفوت مشدوه
( سيف ... هل أنت معتوه ؟!! ...... هل قررت ايقاف حياتي من بعدك ؟!! .... )
قال سيف باسلوب منطقي
( أولا قد يبدو لكِ الأمر ساديا مجنونا .... لكن بمعرفتي لكِ , أؤكد لكِ أنكِ لن تستطيعي أن تكوني بقرب رجل آخر غيري ... و لو فعلت العكس فستكونين تعذبين نفسك لمجرد التحدي ..... أنت لن تقدري على قرب رجل آخر ..... لكن كبريائك يمنعك من الإعتراف بذلك .... فحتى أنا و بالرغم من حبك لي , فقد أصريت على الإنفصال ..... لذا لن أسمح لكِ بمجرد تجربة للتحدي ليس الا .....
ثانيا ... هذا الطبع ليس بيدي ... لقد ورثته عن والدي , فحين نال غيره امرأته مات بعدها ... فهل تريدين موتي ؟!! ...... )
كانت وعد تنظر اليه بذهول ووجهها يكاد يكون مبهوتا ... ثم قالت ضاحكة بعصبية و هي تشير اليه
( لكنك ستتزوج ؟!!! .......... )
رفع سيف كتفيه ليقول ببساطة
( لم أقرر الزواج الا بعد أن تأكد لي بما لا يقبل الشك بأنك لن تعودي الي ..... فلماذا تفكرين في الزواج مجددا ؟!! ... ألمجرد العناد ؟!! ...... آسف , لن أسمح بذلك ... لن أسمح بقتلنا معا لمجرد نزوة عناد عابرة .... )
كان منظرها الآن يبدو مضحكا .... و هي تنظر اليه فاغرة الفم .. ملامحها مابين الضحك ذهولا و الغضب العارم .... لكنها تمكنت من القول بمعجزة
( و كيف ستنجح في منعي ؟!! ........ )
رد سيف بهدوء
( سأفشل لكِ كل مشروع قبل أن تبدأي به ...... المسألة ليست صعبة ... )
ابتلعت ريقها بجنون و هي تنظر اليه مشدوهة ....
فقام من مكانه بهدوء يتمطى ... قبل أن يقترب منها حتى وصل اليها , فقرص ذقنها المتدلي وهو يقول برفق
( هوني عليك يا وعد .. ... و فكري في الأمر بعقلانية ... الآن هيا بنا فقد حان موعد الفحص ... و سأنتظرك خارجا حفاظا على خجلك الغالي .... )
.................................................. .................................................. .....................
مشت ورد الى الباب متثاقلة و هي تهمس بغضب و استياء
( من ذلك السمج القادم في مثل هذا الوقت ؟! ...... و طبعا ليس هناك سوى ورد لتفتح الباب , بينما عريس الغفلة قابعا في غرفته منذ أن أوصل ست الحسن و الجمال الى بيتها .... )
فتحت الباب على مصرعيه و هي تتأفف بكل قوتها علها ترسل شحنة مركزة من ثاني أكسيد الكربون الى وجه القادم فتريده قتيلا مسموما ....
لكن و ما أن نظرت الى وجه الواقف أمامها حتى فغرت شفتيها بذهول و هي تراه مبتسما .. متأنقا ...
وسيما شكلٍ غبي ... يرتدي حلة سوداء أنيقة ... دون ربطة عنق لتمنحه مظهرا من العفوية ...
ممسكا معه باقة كبيرة من الورد ...
كان يوسف أول من تكلم وهو يقول سعيدا مبتسما
( آآآآه .... صديقتي ذات اللسان الطويل , مر زمن لم أركِ به ..... كيف حالك ؟!! ....... أرى أنكِ بخير ... )
عقد حاجبيه قليلا وهو يراها ترتدي جلباب رياضي قطني بخطين على الجانبين وذو غطاء للرأس ... و الأسوأ أنها كانت تضعه على رأسها بالفعل ....
رفع يوسف حاجبيه ليقول بحيرة
( جلباب أممممم .... أنيق ..... )
أفاقت ورد من شرودها و هي تخفض نظرها الى نفسها بهلع و هي تدرك ما ترتديه ... فنزعت غطاء الرأس عن شعرها بعنف مما أدى الى تشعثه من لفته البسيطة ... لكنها لم تهتم بل هتفت بجنون
( ماذا تفعل هنا أيها المجنون ؟!! .... هل ضللت الطريق أم أنك مخمور ؟!!! .... )
قال يهز رأسه بعتب
( عيييييب وردات عيييييب ..... أنا ضيف لديكم و لا أزال واقفا على الباب .. )
صرخت بجنون و هي تضرب الباب بقبضتها
( اسمي ورد ........ ارحل من هنا حالا قبل أن أطلب لك الشرطة .... سيف هنا و قد تحث مذبحة ... )
قال يوسف بهدوء
( و هل ظننتِ أنني قد آتي الى بيتِ و رجله غير متواجد ؟!! ...... لقد أتيت لمقابلة أخاك .... فهلا سمحتِ لي بالدخول و ذهبت لإخباره ..... )
فغرت ورد شفتيها و هي تنظر اليه شاعرة بشيء غريب قبل أن تقول بتوجس
( لماذا تريد رؤية سيف ؟!! ......... )
عبس يوسف وهو يقول
( أنت فعلا فضولية ........ لكن عامة أنا سأريحك .... لقد أتيت الى هذا البيت الأصيل خاطبا .... )
فغرت ورد شفتيها و هي تقول بصوتٍ مشدوه
( ليلتك لن تمر الا و أنت بقبرك ..... هل ما أظنه صحيحا ؟!!! ..... )
رفع ذقنه وهو ينفض شيئا وهميا عن سترته الأنيقة ليقول ببشاشة
( أتيت كي أخطب وعد من ابن عمتها ..... بناء على طلبها .... )
كانت ورد تنظر اليه غائمة العينين .... فاغرة الفم , ثم التقطت أنفاسها قليلا و عدت الى العشر قبل أن تقول بهدوء خطير
( اسمع أيها الإنسان الذي لا يعرف حجم المصيبة التي هو فيها .... استدر كما أنت تماما و أرني عرض كتفيك قبل أن يحدث ما لا يحمد عقباه .... )
ثم دفعت الباب كي تغلقه بقوة .. الا أنه حجزه بكتفه و صدها بسهولة وهو يضع قدمه كي لا تغلقه وهو يقول من بين أسنانه
( أنتِ يا عديمة الذوق .... اذهبي و نادي أخاك كي ننتهي من تلك الجلسة البائسة كملامحكما .... )
دفع الباب بقوة فتراجعت للخلف .. بينما وقف مكانه يزفر باستياء و هو يعدل من سترته و قميصه ...
و يعدل الباقة التي تساقط معظمها على الأرض ...
ثم قال بصوتٍ آمر
( اذهي و نادي أخاكِ وردات ..... لن أمكث هنا طويلا .... )
رفعت وعد يدها الى وجهها و هي تهمس بذهول
( بل لن تغادر هذا المكان من الأساس ........ )
سمعت صوت سيف يقول فجأة من خلفها بهدوء
( مع من تتكلمين عند الباب يا ورد ؟!! .......... )
أغمضت ورد عينيها بصدمة و هي تقف متسمرة مكانها ... غير قادرة على الرد ... منتظرة المصير الحالك ...
و بالفعل ساد الصمت عدة لحظات قبل أن يهدر سيف صارخا بذهول
( أنت ؟!!! ...... كيف تتجرأ على المجيء الى هنا ؟!! .... )
مط يوسف شفتيه وهو يقول
( كرم الضيافة لديكم فاض و استفحل ...... عامة , و اختصارا لمقدمات لا لزوم لها .... لم آتي الى هنا بنية الشر ... لقد عرفت أن الله قد أكرمك و خطبت زميلتك في العمل ... لذا و بما أنك المسؤول هنا و بما أن الحزازات قد اختفت من النفوس اسمح لي أن أتقدم لأصاهرك ..... )
تأوهت ورد بشدة و هي ترفع يدها الى صدرها ... بينما سمعت صوت خطوات سيف يقترب ...
و قدماه تدقان الأرض الرخامية مرسلة الذبذبات العنيفة اليها .... قبل أن يهدر بصوتٍ جعلها تنتفض شاهقة
( لقد جئت لموتك ......... )
لكنها تشبثت به فجأة بدافع الأدرينالين وهو يمر بها .... لتهتف بقوة
( أنتظر يا سيف .... اسمعه فقط للنهاية , أنه يريد أن يصاهرك لسمعتك الطيبة ليس الا .... )
و دون وعي منها نظرت الى يوسف المبتسم ... ثم نظرت الى سيف و قالت
( لقد جاء ليتقدم لخطبتي ..... و قد فاتحني في الامر منذ عدة أيام .... )
انقلبت ابتسامة يوسف و سقطت يده بالباقة وهو يقول مصدوما
( ماذا ؟!! ...... من ؟!!! ....... )
لكن صوته ضاع في هدير صوت سيف وهو ينظر الى ورد مذهولا
( يخطبك ؟!!! ...... منذ متى تعرفينه ؟!!! .... ما صلتك به ؟!!! ..... )
صرخت ورد بهلع
( ليست صلة .... لقد أوصلني فقط للبيت عدة مرات ليس الا .... )
ازداد وجه سيف قتامة و ذهول وهو يهزها بقوة صرخا
( أوصلك ؟!! ..... بسيارته ؟!! ... من أين و الى أين ؟!! .... كيف تعرفينه أصلا ؟!!! ... )
صرخت ورد بغضب
( ما الكارثة في الأمر يا سيف ... انه مجرد عريس تقدم لخطبتي , و أنت لست موافقا ... لم تحدث كارثة .... )
انتزعت ذراعها و تقدمت الى يوسف و هي تدفعه في كتفه قائلة
( طلبك مرفوض .... هيا مع السلامة )
تنفس يوسف الصعداء و استدار قائلا
( السلام عليكم ........... )
الا ان صرخة سيف اطلقت هادرة ...
( انتظر هنا ......... هل تتلاعبان بي أنتما الإثنان ؟!!! ..... أريد أن أعرف صلتكما ببعضكما حالا و الا والله لن أكون مسؤولا عما سيحدث .... أغلقي الباب و تعالي الى هنا حالا .... )
نظرت ورد الى يوسف بصمت و أسى .. بينما كان هو يبادلها النظر رافعا حاجبيه ... ثم همس لها بوجوم
( منك لله وردات ..... اسأل الله أن يريني بكِ يوما يماثل نيتك .... )

تعليقات